صفحة رقم 451
ولما كانوا بعبادتهم لهم قد أحلوهم محل العلماء ، قال تعاى : ( عليهم ) أي على عبادتهم إياهم ، وحققوا ما أرادوا من الاستعلاء بقولهم : ( بسلطان ) أي دليل قاهر ) بين ( مثل ما نأتي نحن على تفرد معبودنا بالأدلة الظاهرة ، والبراهين الباهرة ، فإن مثل هذا الأمر لا يقنع فيه بدون ذلك ، وقد جمعنا الأدلة كلها في الاستدلال على تفرد الله باستحقاقه للعبادة بأنه تفرد بخلق الوجودن فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين لافتعالهم الكذب عن ملك الملوك ومالك الملك ، فلذلك قالوا : ( فمن أظلم ممن افترى ) أي تعمد ) على الله ) أي الملك الأعظم ) كذباً ( فالآية دالة على فساد التقليد في الوحدانية .
الكهف : ( 16 - 17 ) وإذ اعتزلتموهم وما. .. . .
) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ( ( )
ولما استدلوا على معتقدهم ، وعلموا سفه من خالفهم ، وهم قوم لا يدان لهم بمقاومتهم ، لكثرتهم وقلتهم ، تسبب عن ذلك هجرتهم ليسلم لهم دينهم ، فقال تعالى شارحاً لما بقي من أمرهم ، عاطفاً على ما تقديره : وقالوا أو من شاء الله منهم حين خلصوا من قومه نجياً : لا ترجعوا إلى قومكم أبداً ما داموا على ما هم عليه ، هذا إن كان المراد قيامهم بين يدي دقيانوس ، وإن كان المراد من القيام الانبعاث بالعزم الصادق لم يحتج إلى هذا التقدير : ( وإذ ) أي حين ) اعتزلتموهم ) أي قومكم ) وما ) أي واعتزلتم ما ) يعبدون إلا الله ) أي الذي له صفات الكمال ، وهذا دليل على أنهم كانوا يشركون ، ويجوز أن يكونوا سموا الانقياد كرهاً لمشيئته والخضوع بزعمهم لاقضيته عبادة ) فأوا ) أي بسبب هذا الاعتزال ، وهذا دليل العامل في ) إذ ( ) إلى الكهف ) أي الغار الذي في الجبل ) ينشر ) أي يحيي ويبعث ) لكم وربكم ( الذي لم يزل يحسن إليكم ) من رحمته ( ما يكفيكم به من المهم من أمركم ) ويهيئ لكم من أمركم ( الذي من شأنه أن يهمكم ) مرفقاً ( ترتفقون به ، وهو بكسر الميم وفتح الفاء في قراءة الجماعة ، وبفتحها وكسر الفاء للنافع وابن عامر ، وهذا الجزم من آثار الربط على قلوبهم بما علموا من قدرته على كل شيء ، وحماتيه من لاذ به لجأ إليه وعبده وتوكل عليه ، ففعلوا ذلك ففعل الله ما رجوه فيه ، فجعل لهم أحسن مرفق بأن أنامهم ثم أقامهم بعد مضي قرون ومرور دهور ، وهدى بهم ذلك الجيل الذي أقامهم فيه ) وترى ( لو رأيت كهفهم ) الشمس إذا طلعت ( .(4/451)
صفحة رقم 452
ولما كان حالهم خفياً ، وكذا حال انتقال الشمس عند من لم يراقبه ، أدغم تاء التفاعل نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وأسقطها عاصم وحمزة والكسائي ، فقال تعالى : ( تزور ) أي تتمايل وتتحرف ، ولعل قراءة ابن عامر ويعقوب تزور بوزن تحمر ناظرة إلى الحال عند نهاية الميل ) عن كهفهم ( بتقليص شعاعها بارتفاعها إلى أن تزول ) ذات اليمين ( إذا كنت مستقبلاً القبلة وأنت متوجه إليه أو مستقبلاً الشمس فيصيبهم من حرها ما يمنع عنهم التعفن ويمنع سقف الكهف شدة الحرارة المفسدة في بقية النهار ) وإذا غربت ) أي أخذت في الميل إلى الغروب ) تقرضهم ) أي تعدل في مسيرها عنهم ) ذات الشمال ( كذلك ، لئلا يضرهم شدة الحرارة ، ويصيبهم من منافعها مثل ما كان عند الطلوع ، فلا يزال كهفهم رطباً ، ويأتيه من الهواء الطيب والنسيم الملائم ما يصونهم عن التعفن والفسادن فتحرر بذلك أن باب الغار مقابل لبنات نعش ، وأن الجبل الذي هم في شمالي مكة المشرفة ، ويجوز أن يكون المراد يمين من يخرج من الكهف وشماله ، فلا يلزم ذلك ، وقال الأصبهاني : قيل : إن باب ذلك كان مفتوحاً إلى جانب الشمال إذا طلعت الشمس عن يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله .
ومادة ( قرض ) وليس لها إلا هذا التركيب - تدور على القطع ، ويلزمه الميل عن الشيء والعدول والازورار عنه ، قر ضت الشيء ، - بالفتح - أقرضه - بالكسر : قطعته بالمقراض أو بغيره - لأنك إذا وصلت إليه فقد حاذيته فإذا قطعته تجاوزته فانحرفت عنه ، والرقض : قول الشعر خاصة - لأنه لا شيء من الكلام يشبهه فهو مقطوع منه مائل عنه بما خص به من الميزان ، وهل مررت بمكان كذا ؟ فتقول : قرضته ذات اليمين ليلاً ، أي كان عن يميني ، والقرض : ما تعطيه من المال لتقضاه - لأنك قطعته من مالك ، والقرض - بالكسر : لغة فيه عن الكسائي ، والقرض : ما سلفت من إحسان أو إساءة - على التشبيه ، والتقريض : المدح والذم - لأنه يميز الكلام فيه تمييزاً ظاهراً ، وهما يتقارضان كذا - كأن كلاًّ منهما مقرض لصاحبه وموف له على ما أقرضه ، والمقارضة : المضاربة - لأن صاحب المال قطع من ماله ، والعامل قطع من عمله حصة لهذا المالن قرض فلان الرباط - إذا مات ، لأنه إذا انقطعت حياته انقطع كل رباط له في الدنيا ، وجاء فلان وقد قرض رباطه - إذا جاء مجهوداً قد أشرف على الموت - كأنه أطلق عليه ذلك للمقاربة ، والمقارضة : المشاتمة - لقطعها العرض وما بين المتشاتمين ، والاقتراض : الاغتياب - من ذلك ومن القرض أيضاً ، لأن من اغتاب اغتيب ، وقرض - بالكسر - إذا زال من شيء إلى شيء - لأنه بوصل الثاني قطع الأول ، وقرض - إذا مات ، والمقارض : الزرع القليل - إما للإزالة على الضد من الكثير ، أو تشبيه بمواضع الاستقاء في البئر القليلة الماء ، فإن المقارض أيضاً المواضع التي يحتاج المستقي إلى أن يقرض منها الماء ، أي يميح ، أي(4/452)
صفحة رقم 453
يدخل الدلو في البئر فيملأها لقلة الماء - لأنها مواضع قطع الماء برفعه عن البئر والمقارض أيضاَ : الجرار الكبار - كأنها لكبرها وقطعها كثيراً من الماء هي التي قطعت دون الصغار ، وما عليع قراض ، أي ما يقرض عنه العيون فيستره لتعدل عنه العيون - لعدم نفوذها إلى جلده ، والقرض في السير هو أن تعدل عن الشيء في مسيرك ، فإذا عدلت عنه فقد قرضته ، والمصدر القرض وأصله من القطع ، وابن مقرض - كمنبر : ويبة تقتل الحمام - كأنها سميت لقطعها حياة الحمام ، وقرض البعير جرته : مضغها فهي قريض - لتقطيعها بالمضع ولقطعها من بطنه بردها إلى حنكه للمضغ .
ولما بين تعالى أنه حفظهم من حر الشمس ، بين أنه أنعشهم بروح الهواء ، وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال : ( وهم في فجوة منه ) أي في وسط الكهف ومتسعه .
ولما شرح هذا الأمر الغريب ، والنبأ العجيب ، وصل به نتيجة فقال تعالى : ( ذلك ) أي المذكور العظيم من هدايتهم ، وما دبروا لأنفسهم ، وما دبر لهم من هذا الغار المستقبل للنسيم الطيب المصون عن كل مؤذ ، وما حقق به رجاءهم مما لا يقدر عليه سواه ) من ءايات الله ) أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء علماً وقدرة ، وإن كان إذا قيس إلى هذا القرآن القيم وغيره مما خطت به هذه الأمة كان يسيراً .
ولما كان انفرادهم بالهدى عن أهل ذلك القرن كلهم عجباً ، وصل به ما إذا تؤمل زال عجبه فقال تعالى : ( من يهد ( ولو أيسر هداية - بما دل عليه حذف الياء في الرسم ) الله ) أي الذي له الأمر كله بخلق الهداية في قلبه للنظر في آياته التي لا تعد والانتفاع بها ) فهو ( خاصة ) المهتد ( في أي زمان كان ، فلن تجد له مضلاً مغوياً ) ومن يضلل ( إضلالاً ظاهرياً بما دل عليه الإظهار بإعمائه عن طريق الهدى ، فهو لا غيره الضال ) فلن تجد له ( أصلاً من دونه ، لأجل أن الله الذي له الأمر كله ولا لأمر أحد معه أضله ) ولياً مرشداً ( فتجده يرى الآيات بعينه ، ويسمعها بأذنه ، ويحسها بجميع حواسه ، ولا يعلم أنها آيات فضلاً عن أن يتدبرها وينتفع بها ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاهتداء أولاً دليلاً على حذف الضلال ثايناً ، والمرشد ثانياً دليلاً على حذف المضل أولاً .
الكهف : ( 18 - 19 ) وتحسبهم أيقاظا وهم. .. . .
) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ( ( )(4/453)
صفحة رقم 454
ولما نبه سبحانه هذا التنبيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتثبيتاً أن يبخع نفسه ، عطف على ما مضى بقية أمرهم فقال : ( وتحسبهم أيقاظاً ( لانفتاح أعينهم للهواء ليكون أبقى لها ، ولكثرة حركاتهم ) وهم رقود ونقلبهم ( بعظمتنا في حال نومهم تقليباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم ) ذات ) أي في الجهة التي هي صاحبة ) اليمين ( منهم ) وذات الشمال ( لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث ) وكلبهم باسط ( وأعمل اسم الفالع هذا ، لأنه ليس بمعنى الماضي بل هو حكاية حال ماضية فقال : ( ذراعيه بالوصيد ) أي بباب الكهف وفنائه كما هي عادة الكلاب ، وذكر هذا الكلب على طول الآباد بجميل هذا الرقاد من بركة صحبة الأمجاد .
ولما كان هذا مشوقاً إلى رؤيتهم ، وصل به ما يكف عنه بقوله تعالى : ( لو اطلعت عليهم ( وهم على تلك الحال ) لوليت منهم فراراً ) أي حال وقوع بصرك عليهم ) ولملئت ( في أقل وقت بأيسر أمر ) منهم رعباً ( لما ألبسهم الله من الهيبة ، وجعل لهم من الجلالة ، وتدبيراً منه لما أراد منهم ) وكذلك ( بما لنا من العظمة ) ليتساءلوا ( وأظهر بالافتعال إشارة إلى أنه في غاية الظهور .
ولما كان المراد تساؤلا عن إخبار لا تعدوهم قال تعالى : ( بينهم ) أي عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيزدادوا إيماناً ، وثباتاً وإيقاناً ، بما ينكشف لهم من الأمور العجيبة ، والأحوال الغريبة فيعلم أنه لا علم لأحد غيرنا ، ولا قدرة لأحد سوانا ، وأن قدرتنا تامة ، وعلمنا شامل ، فليعلم ذلك من أنكر قدرتنا على البعث وسأل اليهود البعداء البغضاء عن نبيه الحبيب الذي أتاهم بالآيات ، وأراهم البينات ، فإن كانوا يستنحصون اليهود فليسألوهم عما قصصنا من هذه القصة ، فإن اعترفوا به لزمهم جميعاً الإيمان والرجوع عن الغي والعدوان ، وإن لم يؤمنوا علم قطعاً أنه لا يؤمن من أردنا هدايته بالآيات البينات كأهل الكهف وغيرهم ، لا بإنزال الآيات المقترحات .
ولما كان المقام مقتضياً لأن يقال : ما كان تساؤلهم ؟ أجيب بقوله تعالى : ( قال قائل منهم ( مستفهماً من إخوانه : ( كم لبثتم ( نائمين في هذا الكهف من ليلة أو يوم ، وهذا يدل على أن هذا القائل استشعر طول لبثهم بما رأى من هيئتهم أو لغير ذلك من(4/454)
صفحة رقم 455
الأمارات ؛ ثم وصل به الأسلوب أيضاً قوله تعالى : ( قالوا لبثنا يوماً ( ودل على أن هذا الجواب مبني على الظن بقوله دالاً حيث أقرهم عليه سبحانه على جواز الاجتهاد والقول بالظن المخطئ ، وأنه لا يسمى كذباً وإن كان مخالفاً للواقع ) أو بعض يوم ( كما تظنون أنتم عند قيامكم من القبور إن لبثتم إلا قليلاً ، لأنه فرق بين صديق وزنديق في الجهل بما غيبه الله تعالى : فكأنه قيل : على أي شيء استقر أمرهم في ذلك ؟ فأجيب بأنهم ردوا الأمر إلى الله بقوله : ( قالوا ) أي قال بعضهم إنكاراً على أنفسهم ووافق الباقون بما عندهم من التحاب في الله والتوافق فيه في الحقيقة إخوان الصفا وخلان الألفة والوفا ) ربكم ( المحسن إليكم ) أعلم ) أي من كل أحد ) بما لبثتم فابعثوا ) أي فتسبب عن إسناد العلم إلى الله تعالى أن يقال : اتركوا الخوض في هذا واشتغلوا بما ينفعكم بأن تبعثوا ) أحدكم بورقكم ) أي فضتكم ) هذه ( التي جمعتموها لمثل هذا ) إلى المدينة ( التي خرجتم منها وهي طرطوس ليأتينا بطعان فإنا جياع ) فلينظر أيها ) أي أي أهلها ) أزكى ) أي أطهر وأطيب ) طعاماً فليأتكم ( ذلك الأحد ) برزق منه ( لنأكل ) وليتلطف ( في التخفي بأمره حتى لا يتفطنوا له ) ولا يشعرون ) أي هذا المبعوث منكم في هذا الأمر ) بكم أحداً ( أن فطنوا له فقبضوا عليه ، وإن المعنى : لا يقولن ولا يفعلن ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بكم فيكون قد أشعر بما كان منه من السبب ، وفي قصتهم دليل على أن حمل المسافر ما يصلحه من المنفعة رأى المتوكلين لا المتآكلين المتكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات ، وفيها صحة الوكالة ؛ ومادة ( ورق ) بجميع تراكيبها الخمسة عشر قد تقدم في سورة سبحان وغيرها أنها تدور على الجمع ، فالورق مثلثة وككتف وجبل : الدراهم المضروبة - تشبيهاً بالورق في الشكل وفي الجمال ، وبها جمع حال الإنسان ، وحالها مقتض للجمع ، والورّاق : الكثير الدراهم وهو أيضاً مورّق الكتب ، وحرفته الوراقة ، وما زلت منك موارقاً ، أي قريباً مدانياً - أي كالذي يساجلك في قطاف الورق من شجرة واحدة فهو يأخذ من ناحية وأنت من أخرى ، والمداناة : أول الجمع والورق - محركة : جمال الدنيا وبهجتها - لأنها تجمع ألواناً وأنواعاً ، ولعل منه الورقة ، قال في مختصر العين : إنها سواد ف غبرة .
وحمامة ورقاء - أي منه ، وفي القاموس : والأورق من الإبل : ما في لونه بياض إلى سواد ، ورأى رجل الغول كسويد في أسود ، والأصل وريق فقلبت واوه همزة ، والأورق أيضاً من الكتاب والشجر معروف - لأنك لا تكاد(4/455)
صفحة رقم 456
تحد واحدة منه على لون واحد ، ولأنه يجمع الواحدة منه إلى الأخرى ويجمع معنى ما يحمله ، قال في مختصر العين : والورق : أدم رقاق منه ورق المصحف ، والورق أيضاً : الخبط - لأنه لما كانت الإبل تعلفه كان كأنه هو الورق لا غيره ، والورق : الحي من كل حيوان - لأن الحياة هي الجمال ، وبها جماع الأمور ، ولأن الورق دليل على حياة الحي من الشجر ، فهو من إطلاق اسم الدال على المدلول ، والورق أيضاً : ما استدر من الدم على الأرض ، أو ما سقط اسم من الجراحة - لأن الاستدارة أجمع الأشكال ، وهو تشبيه بورق الشجر في الشكل ، والورق : المال من إبل ودارهم وغيرها - لأن جماع حياة الإنسان وكمالها بذلك كما أن كمال حياة الشجر بالورق ، ولرعي المال من الحيوان الورق والورق : حسن القوم وجمالهم - من ذلك ، لأنه يجمع أمرهم ويجمع إليهم غيرهم ، والورق من القوم : أحداثهم أو الضعاف من الفتيان - تشبيه بالورق لأنه لا يقيم غالباً أكثر من عام ، ولأنه ضعيف في نفسه ، وضعيف النفع بالنسبة إلى الثمر ، والورقة - بهاء : الخسيس والكريم ، ضد - للنظر تارة إلى كونه نافعاً للمرعى ودالاً على الحياة ، وإلى كونه غير مقصود بالذات أخرى ، ورجل ورق وامرأة ورقة : خسيسان أي لا ثمرة لهما ، ومن ذلك أورق الصائد - إذا رمى فأخطأ أي لم يقع على غير الورق ، أي لم تحصل له ثمرةن بل وقع على شجرة غير مثمرة ، وكذا أوراق القوم : أخفقوا في حاجتهم ، أي رجعوا بلا ثمرة ، ومن ذلك أيضاً أورقوا : كثرمالهم ودراهمهم - ضد ، هذا بالنظر إلى أن في الورق جمال الشجر وحياته ، والتجارة مؤرقة للمال كمجلبة أي مكثرة ؛ ومنه قول القزاز في ديوانه : هذا رجل مؤرق له دراهمن والمؤرق : الذي لا شيء له - ضد أو أنه تارة يكون للإيجاب والصيرورة نحو أغدّ البعير ، وتارة للسلب نحو أشكيته ، والوراق ككتاب : وقت خروج الورق من الشجر ، وشجرة وريقة وورقة : كثيرة الورق ، والوراقة : الشجرة الخضراء الورق الحسنته ، والوراق - كسحاب : خضرة الأرض من الحشيش ، وليس من الورق في شيء ، وذلك أن تلك الخضرة لا تخلو عن لون آخر ، والرقة - كعدة : أول نبات النصي والصليان وهما نباتان أفضل مراعي الإبل ، لأنهما سبب لجمع المال للرعي ، والرقة : الأرض التي يصيبها المطر في الصفرية - أي أول الخريف - أو في القيظ فتنبت فتكون خضراء - كأن ذلك النبات يكون أقل خضرة من نبات الربيع ، ويكون اختلاطه لغيره من الألوان أكثر مما في الربيع ، وفي القوس ورقة - بالفتح : عيب ، والورقاء : الذئبة - من أجل أن الورق الخالي عن الثمر تقل الرغبة في شجره وهو دون المثمر ، ولأن الورق مختلط اللون ، والاختلاط في كل شيء عيب بالنسبة إلى الخالص ، وتورقت الناقة : أكلت الورق .
وقار الرجل يقور : مشى على(4/456)
صفحة رقم 457
أطراف قدميه لئلا يسمع صوتهما - لأن فاعل ذلك جدير بالوصول إلى ما أراد مما يجمع شمله ، ومنه قار الصيد : ختله - لأن أهل الخداع أولى بالظفر ، ألا ترى الأسود تصاد به ، ولو غولبت عز أخذها ، وقار الشيء : قطعه من وسطه خرقاً مستديراً كقوّره - لأن الثوب يصير بذلك الخرق يجمع ما يراد منه ، والاستدارة أجمع الأشكال كما سلف ، والقارة - كثمامة : ما قور الثوب وغيره ، أو يخص بالأديم ، وما قطعت من جوانب الشيء ، والشيء الذي قطع من جوانبه - ضد ، وهو من تسميه موضع الشيء باسمه ، والقارة : الجبل الصغير الصلب المنقطع عن الجبال - لشدة اجتماع أجزائه بالصلابة واجتماعه في نفسه بانقطاعه عن غيره مما لو خالطه لفرقه ، ولم يعرف حد على ما هو ، والقارة : الصخرة العظيمة ، والأرض ذات الحجارة السود - لاجتماعها في نفسها بتميزها عن غيرها بتلك الحجارة ، ودار قوراء : واسعة - تشبيهاً بقوارة الثواب ، ولأنها كلما اتسعت كانت أجمع ، والقار : الإبل أو القطيع الضخم منها ، والاقوار : تشنج الجلد وانحناء الصلب هزالاً وكبراً - لأن كلاًّ من التشنج والانحناء اجتماع ، والاقوار : الضمر - لأن الضامر اجتمعت أجزاؤه ، والاقوار : السمن - ضد ، لأن السمين جمع اللحم والشحم ، والاقوارك ذهاب نبات الأرض - لأنها تصير بذلك قوراء فتصير أجدر بأن تسع الجموع ، ويمكن أن يكون الأقوار كله من السلب إلا ما للسمن ، والقور : القطن الحديث أو ما رزع من عامة لأنه يلبس فيجمع البدن ، ولقيت منه الأقورين - بكسر الراء ، والأقوريات أي الدواهي القاطعة - تشبيهاً بما قور من الثوب ، فهي للسلب ، والقور - محركة : العين - لأن محلها يشبه القوارة ، والمقور - كمعظم : المطلي بالقطران - لاجتماع أجزائه بذلكن واقتار : احتاج ، أي صار أهلاً لأن يجمع ، وتقور الليل : تهور ، أي مضى ، من القطع ، وتقورت الحية : تثنت أي تجمعت ، والقار : شجر مر - كأنه الذي تطلى به السفنن وهذا أقير من هذا : أشد مرارة - لأن المرارة تجمع اللهوات عند الذوق ، والقارة قبيلة - لأن ابن الشداخ أراد أن يفرقهم فقال شاعرهم :
دعونا قارة لا تذعرونا فنجفل مثل إجفال الظليم
فسموا القارة بهذا وكانوا رماة ، وفي المثل : قد أنصف القارة من رماها .
والرقوة : فويق الدعص من الرمل ، ويقال رقو ، بلا هاء - كأنه لجمعه الكثير من الرمل ، أو لجمعه من يطلب الإشراف على الأماكن البعيدة بالعلو عليه لترويح النفس - والله الموفق .
الكهف : ( 20 - 21 ) إنهم إن يظهروا. .. . .
) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذاً(4/457)
صفحة رقم 458
أَبَداً وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً ) 73
( ) 71
ولما نهوا رسلهم عن الإشعار بهم عللوا ذلك فقالوا : ( إنهم ) أي أهل المدينة ) إن يظهروا ) أي يطلعوا عالين ) عليكم يرجموكم ) أي يقتلوكم أخبث قتله إن استمسكنم بدينكم ) أو يعيدوكم ( قهراً ) في ملتهم ( إن لنتم لهم ) ولن تفلحوا إذاً ) أي إذا عدتم فيها مطمئنين بها ، لأنكم وإن أكرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة ) أبداً ) أي فبعثوا أحدهم فنظر الأزكى وتلطف في الأمر ، فاسترابوا منه لأنهم أنكروا ورقة لكونها من ضرب ملك لا يعرفونه فجهدوا به فلم يشعر بهم أحداً من المخالفين ، وإنما أشعر بهم الملك لما رآه موافقاً لهم في الدين لأنه لم يقع النهي عنه ) وكذلك ) أي فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم ، والستر لأخبارهم والحماية من الظالمين والحفظ لأجسامهم على مر الزمان ، وتعاقب الحدثان ، ومثل ما فعلنا بهم ذلك ) أعثرنا ) أي أظهرنا إظهار أضرارياً ، أهل البلد وأطلعناهم ، وأصله أن الغافل عن الشيء ينظر إليه إذا عثر به نظر إليه فيعرفهن فكان العثار سبباً لعلمه به فأطلق اسم السبب على المسبب ) عليهم ليعلموا ) أي أهل البلد بعد أن كان حصل لبعضهم شك في حشر الأجساد لأن اعتقاد اليهود والنصارى أن البعث إنما هو للروح فقط ) أن وعد الله ( الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجسد معاً ) حق ( لأن قيامهم بعد نومهم نيفاً وثلاثمائة سنة مع خرق العادة بحفظ أبدانهم عن الفناء من غير أكل ولا شرب مثل قيام من مات بجسمه الذي كان سواء على أن مطلق النوم دال على ذلك كما قال بعض العارفين ( علمك باليقظة بعد النوم علم بالبعث بعد الموت ، والبرزخ واحد غير أن للروح بالجسم في النوم تعلقاً لا يكون بالموت وتستيقظ على ما نمت عليه كذلك تبعث على ما مت عليه ) ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى : ( وأن ) أي وليعلموا أن ) الساعة لا ريب فيها ( مبيناً أنها ليست موضع شك أصلاً لما قام علهيا من أدلة العقل ، المؤيد في كل عصر بقواطع النقل ، ومن طالع تفسير ( الزيتون ) من كتابي هذا حصل له هذا ذوقاً ؛ ثم بين أن هذا الإعثار أتاهم بعلم نافع حال تجاذب وتنازع فقال : ( إذ ) أي ليعلموا ذلك ، وأعثرنا حين ) يتنازعون ) أي أهل المدينة .
ولما كان التنازع في الغالب إنما يكون ما بين الأجانب ، وكان تنازع هؤلاء مقصوراً عليهم كان الأهم بيان محله فقدمه فقال تعالى : ( بينهم أمرهم ) أي أمر أنفسهم في(4/458)
صفحة رقم 459
الحشر فقائل يقول : تحشر الأرواح مجردة : وقائل يقول : بأجسادها ، أو أمر الفتية فقائل يقول : ناس صالحون ، وناس يقولون : لا ندري من أمرهم غير أن الله تعالى أراد هدايتنا بهم ) فقالوا ) أي فتسبب عن هذا الإعثار أو التنازع أن قال أكثرهم : ( ابنوا عليهم ( على كل حال ) بنياناً ( يحفظهم ، واتركوا التنازع فيهم ، ثم عللوا ذلك بقولهمك ) ربهم ) أي المحسن إليهم بهدايتهم وحفظهم وهداية الناس بهم ) أعلم بهم ( أن كانوا صالحين أو لا ، وأما أنتم فلا طريق لكم إلى علم ذلك ؛ ثم استأنف على طريق الجواب لمن كأنه قال : ماذا فعلوا ؟ فقال : ( قال الذين غلبوا على ) أي وقع أن كانوا غالبين على ) أمرهم ) أي ظهروا عليه و علموا أنهم ناس صالحون فروا بدينهم من الكفار وضعف من ينازعهم ؛ ويجوز - وهو أحسن - أن يكون الضمير لأهل البلد أو للغالبين أنفسهم ، إشارة إلى أن الرؤساء منهم وأهل القوة كانوا أصلحهم إيماء إلى أن الله تعالى أصلح بهم أهل ذلك الزمان ) لنتخذن عليهم ( ذلك البيان الذي اتفقنا عليه ) مسجداً ( وهذا دليل على أنهم حين ظهروا عليهم وكلموهم أماتهم الله بعد أن علموا أن لهم مدة طويلة لا يعيش مثلها أحد في ذلك الزمان ، وقبل أن يستقصوا جميع أمرهم ، وفي قصتهم ترغيب في الهجرة .
الكهف : ( 22 - 24 ) سيقولون ثلاثة رابعهم. .. . .
) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ( ( )
ولما ذكر تعالى تنازع أولئك الذين هداهم الله بهم ، ذكر ما يأتي من إفاضة من علم قريشاً أن تسأل صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم في الفضول الذي ليس لهم إليه سبيل ، ولا يظفرون فيه بدليل علماً من أعلام النبوة فقال تعالى : ( سيقولون ) أي أهل الكتاب ومن وافقهم في الخوض في ذلك بعد اعترافهم بما قصصت عليك من بنأهم بوعد لا خلف فيه : هم ) ثلاثة ( أشخاص ) رابعهم كلبهم ( ولا علم لهم بذلك ، ولذلك أعراه عن الواو فدل إسقاطها على أنها ليسوا ثلاثة وليس الكلب رابعاً ) ويقولون ) أي وسيقولون أيضاً : ( خمسة سادسهم كلبهم ( .
ولما تغير قولهم حسن جداً قوله تعالى : ( رجماً بالغيب ) أي رمياً بالأمر الغائب عنهم الذي لا اطلاع لهم عليه بوجه ) ويقولون ( أيضاً دليلاً على أنه لا علم لهم بذلك :(4/459)
صفحة رقم 460
) سبعة وثامنهم كلبهم ( وتأخير هذا عن الرجم - وإن كان ظناً - مشعر بأنه حق ، ويؤيده هذه الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل الواو حالاً عن المعرفة في نحو
77 ( ) إلا ولها كتاب معلوم ( ) 7
[ الحجر : 4 ] فإن فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على اتصاف الموصوف بالصفة أمر ثابت مستقر ، فدلت هذه الواو على أن أهل هذا القول قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ، ولم يرجموا بالظن ، وفي براءة ، كلام نفيس عن اتباع الوصف تارة بواو وتارة مجرداً عنها .
فلما ظهر كالشمس أنه لا علم لهم بذلك كان كأنه قيل : ماذا يقال لهم ؟ فقيل : ( قل ربي ) أي المحسن إليّ بإعلامي بأمرهم وغيره ) أعلم بعدتهم ) أي التي لا زيادة فيها ولا نقص ، فكان كأنه قيل : قد فهم من صيغة ( أعلم ) أم من الخلق من يعلم أمرهم فقيل : ( ما يعلمهم إلا قليل ) أي من الخلق وهو مؤيد لأنهم أصحاب القول الغالب ، وهو ، قول ابن عباس رضي الله عنهمان وكان يقول : أنا من ذلك القليل .
) فلا ) أي فتسبب عن ذلك أن يقول لك على سبيل البت الداخل تحت النهي عن قفو ما ليس لك به علم : لا ) تمار ) أي تجادل وتراجع ) فيهم ( أحداً ممن يتكلم بغير ما أخبرتك به ) إلا مرآء ظاهراً ( أدلته ، وهو ما أوحيت إليك به ولا تفعل فلعلهم من الرجمب بالغيب ) ولا تستفت ) أي تسأل سؤال مستفيد ) فيهم ) أي أهل الكهف ) منهم ) أي من الذين يدعون العلم من بني إسرائيل أو غيرهم ) أحداً ( .
ولما كان نهيه عن استفتائهم موجباً لقصر همته على ربه سبحانه فكان من المعلوم أنه إذا سئل عن شيء ، التفتت نفسه إلى تعرفه من قبله ، فربما قال لما يعلم من إحاطة علم الله سبحانه وكرمه لديه : سأخبركم به غداً ، كما وقع من هذه القصص ، علمه الله ما يقول في كل أمر مستقبل يعزم عليه بقوله تعالى : ( ولا تقولون لشيءٍ ) أي لأجل شيء من الأشياء التي يعزم عليها جليها وحقيرها ، عزمت على فعله : عزماً صادقاً من غير تردد وإن كنت عند نفسك في غاية القدرة عليه : ( إني فاعل لشيءٍ ) أي الشيء وإن كان مهماً ) غداً ) أي فيما يستقبل في حال من الأحوال ) إلا ( قولاً كائناً معه ) أن يشاء ( في المستقبل ذلك الشيء ) الله ) أي مقروناً بمشيئة الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه سبحانه تعظيماً لله أن يقطع شيء دونه واعترافاً بأنه لا حول ولا قوة إلا به ، وأنه إن قيل ذلك دون استثناء فات قبل الفعل أو عاقه عنه عائق كان كذباً منفراً عن القائل .
ولما كان النسيان من شأن الإنسان وهو غير مؤاخذ به قال تعالى : ( واذكر ربك ) أي المحسن إليك برفع المؤاخذة حال النسيان ) إذا نسيت ( الاستثناء بالاستعانة والتوكل عليه وتفويض الأمر كله بأن تقول : إن شاء الله ، ونحوها في أيّ وقت تذكرت ؛(4/460)
صفحة رقم 461
وأخرج الطبراني في معجمه الأوسط في ترجمة محمد بن الحارث الجبيلي - بضم الجيم وفتح الموحدة - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا بصلة اليمين .
ثم عطف على ما أفهمه الكلام وهو : فقل إذا نسيت : إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله - ونحو ذلك من التعليق بالمشيئة المؤذن بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ولا مشيئة لأحد معه قوله : ( وقل عسى أن يهدين ربي ) أي المحسن إليّ ) لأقرب ) أي إلى أشد قرباً ) من هذا ) أي الذي عزمت على فعله ونسيت الاستثناء فيه فقضاه الله ولم يؤاخذني ، أو فاتني أو تعسر عليّ لكوني لم أقرن العزم عليه بذكر الله ) رشداً ) أي من جهة الرشد بأن يوفقني للاستثناء فيه عند العزم عليه مع كونه أجود أثراً وأجل عنصراً فأكون كل يوم في ترق بالأفعال الصالحة في معارج القدس ، و ( اقرب ) أفعل تفضيل من قرب - بضم الراء - من الشيء ، لازم ، لا من المكسور الراء المتعدي نحو ) ) ولا تقربوا الزنى ( ) [ الإسراء : 32 ] ) ) ولا تقربوا مال اليتيم ( ) [ الإسراء : 34 ] الآية ، والأقرب من رشد الاستدلال بقصة أهل الكهف التي الحديث عنها على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ونحو ذلك الاستدلال على وحدانية الصانع وقدرته على البعث وغيره بالأمور الكلية أو الجزيئات القريبة المتكررة ، ولا بهذا الأمر الجزئي النادر المتعب ونحو هذا من المعارف الإلهية .
الكهف : ( 25 - 28 ) ولبثوا في كهفهم. .. . .
) وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ( ( )
ولما فرغ من هذه التربية في أثناء القصة وختمها بالترجمة في الهداية للأرشد ، وكان علم مدة لبثهم أدق وأخفى من علم عددهم ، شرع في إكمالها مبيناً لهذا الأخفى ، عاطفاً على قوله ) ) قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ( ) [ الكهف : 19 ] أو على ( فأووا إليه ) الذي أرشد إلى تقديره قولهم : ( فأووا إلى الكهف ( كما مضى ، المختوم بنشر الرحمة وتهيئة(4/461)
صفحة رقم 462
المرفق بعد قوله ) إذ أوى الفتية ( المختوم بقولهم ) وهيئ لنا من أمرنا رشداً ( فقال بياناً لإجمال ) سنين عدداً ( محققاً لقوله تعالى : ( قل الله أعلم بما لبثوا ( : ( ولبثوا في كهفهم ( نياماً ) ثلاث ) أي مدة ثلاث ) مائة سنين ( شمسية بحساب اليهود الآمرين بهذا السؤال ، وعبر بلفظ السنة إشارة إلى ذمها وقع فيها من علو أهل الكفر وطغيانهم بما أوجب خوف الصديقين وهجرتهم وإن كان وقع فيها خصب في النبات وسعة في الرزق ، وذلك يدل على استغراق الكفر لمدة نومهم .
ولما كان المباشرون للسؤال هم العرب قال : ( وازدادو تسعاً ) أي من السنين القمرية إذا حسب الكل بحساب القمر ، لأن تفاوت ما بين السنة الشمسية والقمرية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة كما تقدم في النسيء من براءة ، فإذا حسبت زيادة السني القمرية على الثلاتمائة الشمسية باعتبار نقص أيامها عنها كانت تسع سنين ، وكأن مدة لبثتم كانت عند اليهود أقل من ذلك أو أكثر ، فقال على طريق الجواب لسؤال من يقول : فإن قال أحد غير هذا فما يقال له ؟ ) قل الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) أعلم ( منكم ) بما لبثوا ( ثم علل ذلك بقوله تعالى : ( له ) أي وحده ) غيب السماوات والأرض ( يعلمه كله على ما هو عليه ، ولا ينسى شيئاً من الماضي ولا يعزب عنه شيء من الحاضر ، ولا يعجز عن شيء من الآتي ، فلا ريب فيما يخبر به .
ولما كان السمع والبصر مناطي العلم ، وكان متصفاً منهما بما لا يعلمه حق علمه غيره ، عجب من ذلك بقوله تعالى : ( أبصر به وأسمع ( ولما كان القائم بشيء قد يقوم غيره مقامه إما بقهر أو شرك ، نفى ذلك فانسد باب العلم عن غيره إلا جهته فقال تعالى : ( ما لهم ) أي لهؤلاء السائلين ولا المسؤولين الراجمين بالغيب من أصحاب الكهف ) من دونه ( وأعرق بقوله تعالى : ( من ولي ( يجيرهم منه أو بغير ما أخبر به ) ولا يشرك ) أي الله ) في حكمه أحداً ( فيفعل شيئاً بغير أمره أو يخبر بشيء من غير طريقة .
ولما تقرر أنه لا شك في قوله : ولا يقدر أحد أن يأتي بما يماثله فكيف بما ينافيه مع كونه مختصاً بتمام العلم وشمول القدرة ، حسن تعقيبه بقوله عطفاً على ) قل لله أعلم ( : ( واتل ) أي اقرأ على وجه الملازمة ) ما أوحي إليك ( وبنى الفعل للمجهول لأن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على القطع بأن الموحى إليه هو الله سبحانه وتعالى ) من كتاب ربك ( الذي أحسن تربيتك ف يقصة أهل الكهف وغيرها ، على من رغب فيه غير ملتفت إلى غيره واتبعوا ما فيه واثقين بوعده ووعيده وإثباته ونفيه وعلى غيرهم .(4/462)
صفحة رقم 463
ولما كان الحامل على الكف عن إبلاغ رسالة المرسل وجدان من يتقضها أو عمي على المرسل ، قال تعالى : ( لا مبدل لكلماته ( فلا شك في وقوعها فلا عذر في التقصير في إبلاغها ، والنسخ ليس بتبديل بهذا المعنى بل هو غاية لما كان ) ولن تجد ) أي بوجه من الوجوه ) من دونه ) أي أدنى منزلة من رتبته الشماء إلى آخر المنازل ) ملتحداً ) أي ملجأ ومتحيزاً إليه فيمنعك منه إن قصرت في ذلك .
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شديد الحرص على إيمانهم كثيرالأسف على توليهم عنه يكاد يبخع نفسه حسرة عليهم وكانوا يقولون له إذا رأوا مثل هذا الحق الذي لا يجدون له مدفعاً : لو طردت هؤلاء الفقراء وأبعدتهم عنك مثل عمار وصهيب وبلال فإنه يؤذينا ريح جبابهم ونأنف من مجالستهم جلسنا إليك وسمعنا منك ورجونا أن نتبعك ، قال يرغبه في أتباعه مزهداً فيمن عداهم كائناً من كان ، معلماً أنه ليس فيهم ملجأ لمن خالف أمر الله وأنهم لا يريدون إلا تبديل كلمات الله فسيذلهم عن قريب ولا يجدون لهم ملتحداً : ( واصبر نفسك ) أي احبسها وثبتها في تلاوته وتبيين معانيه ) مع الذين يدعون ربهم ( شكراً لإحسانه ، واعترافاً بامتنانه ، وكنى عن المداومة بما يدل على البعث الذي كانت قصة أهل الكهف دليلاً عليه فقال تعالى : ( بالغداوة ) أي التي الانتقال فيها من النوم إلى اليقظة كالانتقال من الموت إلى الحياة ) والعشي ) أي التي الانتقال فيها من اليقظة إلى النوم كالانتقال من الحياة إلى الموت ؛ ثم مدحهم بقوله تعالى معللاً لدعائهم : ( يريدون ) أي بذلك ) وجهه ( لا غير ذلك في رجاء ثواب أو خوف عقاب وإن كانوا في غاية الرثاثة ، وأكد ذلك بالنهي عن ضده فقال مؤكداً للمعنى لقصر الفعل وتضمينه فعلاً آخر : ( ولا تعد عيناك ( علواً ونبوءاً وتجاوزاً ) عنهم ( إلى غيرهم ، أي لا تعرض عنهم ، حال كونك ) تريد زينة الحياة الدنيا ( التي قدمنا في هذه السورة أنا زينا بها الأرض لنبلوهم بذلكن فإنهم وإن كانوا اليوم عند هؤلاء مؤخرين فهم عند الملك الأعلى مقدمون ، وليكونن عن قريب - إذا بعثنا من نريد من العباد بالحياة من برزخ الجهل - في الطبقة العليا من أهل العز ، وأما بعد البعث الحقيقي فلتكونن لهم مواكب يهاب الدنو منها كما كان لأهل العز ، وأما بعد البعث من نريد من العباد بالحياة من في حياتهم قبلها هاربين مستخفين في غاية الخوف والذل ، وأما إن عدّت العينان أحداً لما غفل عنه من الذكر ، وأحل به من الشكر ، فلييس ذلك من النهي في شيء لأنه لم يرد به الإ الآخرة .(4/463)
صفحة رقم 464
ولما بلغ في أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمجالسة المسلمين ، نهاه عن الالتفات إلى الغافلين ، وأكد الإعراض عن الناكبين فقال تعالى : ( ولا تطع من أغفلنا ( بعظمتنا ) قبله ) أي جعلناه غافلاً ، لأن الفعل فيه لنا لا له ) عن ذكرنا ( بتلك الزينة .
ولما كان التقدير : فغفل ، لأن عظمتنا لا يغلبها شيء فلا يكون إلا ما نريد ، عطف على فعل المطاوعة قوله تعالى : ( واتبع هوه ( بالميل إلى ما استدرجناه به منها والأنفة من مجالسة أوليائنا الذين أكرمناهم بالحماية منها لأن ذكر الله مطلع الأنوار ، فإذا أفلت الأنوار تراكمت الظلمة فجاء الهوى فأقبل على الخلق ) وكان أمره فرطاً ) أي متجاوزاً للحد مسرفاً فيه متقدماً على الحق ، فيكون الحق منبوذاً به وراء الظهر مفرطاً فيه بالتقصير فإن ربك سبحانه سينجي أتباعك على ضعفهم منهم كما أنجى أصحاب الكهف ، ويزيدك بأن يعليهم عليهم ويدفع الجبابرة في أيديهم لأنهم مقبلون على الله معرضون عما سواه ، وغيرهم مقبل على غيره معرض عنه .
الكهف : ( 29 - 31 ) وقل الحق من. .. . .
) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ( ( )
ولما رغبه في أوليائه ، وزهده في أعدائه ، ترضية بقدره بعد أن قص الحق من قصة أهل الكهف للمتعنيتن ، علمه ما يقول لهم على وجه يعمهم ويعم غيرهم ويعم القصة وغيرها فقال تعالى مهدداً ومتوعداً - كما نقل عن علي رضي الله عنه وكذا عن غيره : ( وقل ) أي لهم ولغيرهم : هذا الذي جئتكم به من هذا الوحي العربي العري عن العوج ، الظاهر الإعجاز ، الباهر الحجج ) الحق ( كائناً ) من ربكم ( المحسن إلأيكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين ، والإعراض عمن سواهم وغير ذلك ، لا ما قلتموه في أمرهم ، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ ) فمن شاء ) أي منكم ومن غيركم ) فليؤمن ( بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم ، فهو مقبول مرغوب فيه وإن(4/464)
صفحة رقم 465
كان فقيراً زريّ الهيئة ولم ينفع إلا نفسه ) ومن شاء ( منكم ومن غيركم ) فليكفر ( فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفتت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة ، وإن تعاظمت هيبته لما اشتد من أذاه ، وأفرط من ظلمه ، وسنشفي قلوب المؤمنين في الدارين بالانتقام منه ، والآية دالة على أن كلاًّ من الكفر والإيمان موقوف على المشيئة بخلق الل تعالى ، لأن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وذلك القصد إن كان بقصد آخر يتقدمه لزم أن يكون كل قصد مسبوقاً بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال ، فوجب أن تنتهي تلك القصود إلى قصد يخلقه الله في العبد على سبيل الضرورة يجب به الفعل ، فإلإنسان مضطر في صورة مختار ، فلا دليل للمعتزلة في هذه الآية .
ولما هدد السامعين بما حاصله : ليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله تعالى ، اتبع هذا التهديد تفصيلاً لما أعد للفريقين من الوعد والوعيد لفاً ونشراً مشوشاً - بما يليق بهذا الأسلوب المشير إلى أنه لا كفوء له من نون العظمة فقال تعالى : ( إنا اعتدنا ) أي هيأنا بما لنا من العظمة تهيئة قريبة جداً ، وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير ) للظالمين ) أي لمن لم يؤمن ، ولكنه وصف إشارة إلى تعليق الحكم به ) ناراً ( جعلناها معدة لهم ) أحاط بهم ( كلهم ) سرادقها ) أي حائطها الذي يدار حولها كما يدار الحظير حول الخيمة من جميع الجوانب .
ولما كان المحرور شديد الطلب للماء قال تعالى : ( وإن يستغيثوا ( من حر النار فيطلبوا الغيث - وهو ماء المطر - والغوث بإحضاره لهم ؛ وشاكل استغاثتهم تهكماً بهم فقال تعالى : ( يغاثوا بماء ( ليس كالماء الذي قدمنا الإشارة إلى أنا نحيي به الأرض بعد صيرورتها صعيداً جزراً ، بل ) كالمهل ( وهو القطران الرقيق وما ذاب في صفر أو حديد والزيت أو درديّه - قاله في القاموس .
وشبهه به من أجل تناهي الحر مع كونه ثخيناً ، وبين وجه الشبه بقوله تعالى : ( يشوي الوجوه ) أي إذا قرب إلى الفم فكيف بالفم والجوف ثم وصل بذلك ذمه فقال تعالى : ( بئس الشراب ) أي هو ، فإنه أسود منتن غليظ حار ، وعطف عليه ذم النار المعدة لهم فقال تعالى : ( وساءت مرتفقا ) أي منزلاً يعد للارتفاق ، فكأنه قيل : فما لمن آمن ؟ فقال تعالى : ( إن الذين ءامنوا ( ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر ، عطف عليه ما يحقق ذلك فقال تعالى : ( وعملوا الصالحات ( ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى : ( إنا لا نضيع ) أي بوجه من الوجوه لما يقتضيه عظمتنا ) أجر من أحسن عملاً ( مشيراً بإظهار إلى أنهم استحقوا بذلك الوصف بالإحسان ، فكأنه قيل : فما لهم ؟ فقال مفصلاً لما أجمل من وعدهم : ( أولئك ) أي العالو الرتبة ) لهم جنات عدن ) أي إقامة ، فكأنه قيل : ما لهم فيها ؟(4/465)
صفحة رقم 466
فقيل : ( تجري من تحتهم ) أي تحت منازلهم ) الأنهار ( فكأنه قيلك ثم ماذا ؟ فقيل : ( يحلون فيها ( وبنى الفعل للمجهول لأن القصد وجود التحلية ، وهي لعزتها إنما يؤتي بها من الغيب فضلاً من الله تعالى .
ولما كان الله أعظم من كل شيء ، فكانت نعمه لا يحصى نوع منها ، قال تعالى مبعضاً : ( من أساور ( جمع أسورة جمع سوار ، كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس .
ولماكان لمقصودها نظر إلى التفضيل والفعل بالاختيار على الإطلاق ، وقع الترغيب في طاعته بما هو أعلى من الفضة فقال مبعضاً أيضاً : ( من ذهب ) أي ذهب هو في غاية العظمة .
ولما كان اللباس جزاء العمل وكان موجوداً عندهم ، أسند الفعل إليهم فقال تعالى : ( ويلبسون ثياباً خضراً ( ثم وصفها بقوله تعالى : ( من سندس ( وهو ما رقّ من الديباج ) وإستبرق ( وهو ما غلظ منه ؛ ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى : ( متكئين فيها ) أي لأنهم في غاية الراحة ) على الأرائك ) أي الأسرع عليها الحجل ، ثم مدح هذا فقال تعالى : ( نعم الثواب ) أي هو لو لم لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى وإلى ذلك أشار بقوله تعالى : ( وحسنت ) أي الجنة كلها ، وميز ذلك بقوله تعالى : ( مرتفقاً ( .
الكهف : ( 32 - 37 ) واضرب لهم مثلا. .. . .
) وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ( ( )
ولما كان إنما محط حال المشركين العاجل ، وكان قد تقدم قولهم ) ) أو يكون لك جنة من نخيل وعنب ( ) [ الإسراء : 91 ] الآية ، وقوله تعالى : ( ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ( ) [ الكهف : 7 ] الآية ، وقوله تعالى : في حق لافقراء المؤمنين الذين تقذروهم ) ) ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ( ) [ الكهف : 28 ] الآية واستمر إلى أن ختم بأن جنات المؤمنين عظيم حسنها من جهة الارتفاق ، عطف على قوله تعالى ) ) وقل الحق من ربكم ( ) [ الكهف : 29 ] قوله تعالى كاشفاً بضرب المثل أن ما فيه الكفار من الارتفاق العاجل ليس أهلاً لأن يفتخر به لأنه إلى زوال : ( وضرب لهم ) أي لهؤلاء الضعفاء(4/466)
صفحة رقم 467
والمتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين ، ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم : ( مثلاً ( لما آتاهم الله من زينة الحياة الدنيا ، فاعتمدوا عليهم وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه ، بل أداهم إلى الافتقار والتكبير على من زوى ذلك عنه إكراماً له وصيانة عنه ) رجلين ( فكأنه قيل : فما مثلها ؟ فقيل : ( جعلنا ) أي بما لنا من العظمة ) لأحدهما ( وهو المجعول مثلاً لهم ) جنتين ) أي بساتين يستر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما على أي وضع من الأوضاع كانتا ، ومن جملة الأوضاع أن تكون إحداهما من السهل والأخرى في الجبل ، ليبعد عموم عاهة لهما لأنهما إما من برد أو حر ) من أعناب ( لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر ، وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها ) وحففناهما ) أي حططناهما بعظمتنا ) بنخل ( لأنها من أشجار البلاد الحارة ، وتصبر على البرد ، وربما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات ، وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخل فكأن النخل كالإكليل من وراء العنب ، وهو مما يؤثره الدهاقين لأنه في غاية البهجة والمنفعة ) وجعلنا بينهما ) أي أرضي الجنتين ) زرعاً ( لبعد شمول الآفة للكل ، لأن زمان الزرع ومكانه غير زمان أثمار الشجر المقدم وأفضل الأقوات ، وعمارتهما متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها ، مع سعة الأطراف ، وتباعد الأكناف ، وحسن الهيئات والأوصاف .
ولما كان الشجر قد يكون فاسداً من جهة أرضه ، نفى ذلك بقوله تعالى ؛ جواباً لمن كأنه قال : ما حال أرضهما المنتج لزكاء ثمرها ؟ : ( كلتا ) أي كل واحدة من ) الجنتين ( المذكورتين ) ءاتت أكلها ) أي ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب ، كاملاً غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة ، وهو معنى : ( ولم تظلم ) أي تنقص حساً ولا معنى كمن يضع الشيء في غير موضعه ) منه شيئاً ( .
ولما كان الشجر ربما أضر بدوامه قلة السقي قال تعالى : ( وفجرنا ) أي تفجيراً يناسب عظمتنا ) خلالهما نهراً ) أي يمتد فيتشعب فيكون كالأنهار لتدوم طراوة الأرض ويستغني عن المطر عند القحط ؛ ثم زاد في ضخامة هذا الرجل فبين أن له غير هاتين الجنتين والزرع بقوله تعالى : ( وكان له ) أي صاحب الجنتين ) ثمر ) أي مال مثمر غير ما تقدم كثير ، ذو أنواع ليكون متمكناً من العمارة بالأعوان والآلات وجميع ما يريد ) فقال ) أي هذا الكافر ) لصاحبه ) أي المسلم المجعول مثلاً لفقراء المؤمنين ) وهو ((4/467)
صفحة رقم 468
أي صاحب الجنان ) يحاوره ) أي يراجعه الكلام ، من حار يحور - إذا رجع افتخاراً عليه وتقبيحاً لحاله بالنسبة إليه ، والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا : ( أنا أكثر منك مالاً ( لما ترى من جناني وثماري ) وأعز نفراً ) أي ناساً يقومون معي في المهمات ، وينفرون عند الضرورات ، لأن ذلك لازم لكثرة المال ) ودخل جنته ( وحد لإرادة الجنس ودلالة على ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة ، وإشارة إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لاحظ له في الآخرة ) وهو ) أي والحال أنه ) ظالم لنفسه ( بالاعتماد على ماله والإعراض عن ربه ؛ ثم استأنف بيان ظلمه بقوله : ( قال ( لما استولى عليه من طول أمله وشدة حرصه وتمادي غفلته واطراحه للنظر في العواقب بطول المهلة وسبوغ النعمة : ( ما أظن أن تبيد ) أي تهلك هلاكاً ظاهراً مستولياً ) هذه أبداً ( ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فقال : ( وما أظن الساعة قائمة ( استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه .
ولما كان الإنسان مجبولاً على غلبة الرجاء عليه ، فإذا حصل له من دواعي الغنى وطول الراحة وبلوغ المأمول والاستدراج بالظفر بالسؤال ما يربيه ، ويثبت أصوله ويقويه ، اضمحل الخوف فلم يزل يتضاءل حتى لا يتلاشى فكان عدماً ، فقال تعالى حاكياً عن هذا الكافر ما أثمر له الرجاء من أمانه من سوء ما يأتي به القدر مقسماً : ( ولئن رددت ) أي ردني راد ) إلى ربي ( المحسن إلي في هذه الدار ، في السعة على تقدير قيامها الذي يستعمل في فرضه أداة الشك ) لأجدن خيراً منها ) أي هذه الجنة ؛ وقرأ ابن كثير وابن عامر بالتثنية للجنتين ) منقلباً ) أي من جهة الانقلاب وزمانه ومكانه ، لأنه ما أعطاني ذلك إلا باستحقاقي ، وهو وصف لي غير منفك في الدارين ، وإن لم يقولوا نحو هذا بألسنة مقالهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به ، فكأنه قيل : إن هذا لفي عداد البهائم حيث قصر النظر على الجزيئات ، ولم يجوز أن يكون التمويل استدراجاً ، فما قال له الآخر ؟ فقل : ( قال له صاحبه وهو ) أي والحال إن ذلك الصاحب ) يحاوره ( منكراً عليه : ( أكفرت ( .
ولما كان كفره بإنكار البعث ، دل عليه بقوله تعالى : ( بالذي خلقك من تراب ( بخلق أصلك ) ثم من نطفة ( متولدة من أغذية أصلها تراب ) ثم سواك ( بعد أن أولدك وطورك تكذيباً للرسل واستقصاراً للقدرة ، ولم تثبت لها في الإعادة ما ثبت لها بعلمك في الابتداء ، ثم لم تجوزها بعد القطع بالنفي إلا على سبيل الفرض بأداة الشك ، وهي من دعائم أصول الدين الذي لا يقتنع فيه إلا بالقطع ، ونسبته إلى البعث الذي لا يرضاه(4/468)
صفحة رقم 469
عاقل إذ جعلت غاية هذا الخلق البديع في هذا التطوير العظيم الموت الذي لو كان غاية كما زعمت - لفوّت على المطيع الثواب ، وعلى العاصي العقاب .
الكهف : ( 38 - 41 ) لكن هو الله. .. . .
) لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ( ( )
ولما أنكر على صاحبه ، أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه ، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه : ( لكنا ( لكن أنا .
ولما كان سبحانه لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه ، أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال تعالى : ( هو ) أي الظاهر أتم ظهور فلا يخفية أصلاً ، ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك ) الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) ربي ( وحده ، لم يحسن إليّ في عبادتي ) أحداً ( كما لم يشاركه في إحسانه إليّ أحد ، فإن الكل خلقه وعبيده ، وأنى يكون العبد شريكاً للرب فإني لا أرى الغنى والفقر إلا منه ، وأنت - لما اعتمدت على مالك - كنت مشركاً به .
ولما كان المؤمنون على طريق الأنبياء في إرادة الخير والإرشاد إلى سبيل النجاة وعدم الحقد على أحد بشر أسلفه وجهل قدمه ، قال له مصرحاً بالتعليم بعد أن لوح له به فيما ذكره عن نفسه مما يجب عليه : ( ولولا إذ ) أي وهلا حين ) دخلت جنتك قلت ( ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى كما تقدم الإرشاد إليه في آية ) ) ولا تقولن لشي ( ) [ الكهف : 23 ] تاركاً للافتخار بها ، ومستحضراً لأن الذي وهبكها قادر على سلبك إياها ليقودك ذلك إلى التوحيد وعدم الشرك ، فلا تفرح بها ولا بغيرها مما يفنى لأنه لا ينبغي الفرح إلا بما يؤمن عليه بالزوال ) ما شاء الله ) أي الذي له الأمر كله ، كان ، سواء كان حاضراً أو مستقبلاً ، ولذلك أعراها عن الجواب ، لا ما يشاؤه غيره ولا يشاؤه هو سبحانه ؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى : ( لا قوة ) أي لأحد على بستان وغيره ) إلا بالله ) أي التوحيد بالكمال ، فلا شريك له ، وأفادت هذه الكلمة إثبات القوة لله وبراءة العبد منها ، والتنبيه على أنه لا قدرة لأحد من الخلق إلا بتقديره ، فلا يخاف من غيره ، والتنبيه على فساد قول الفلاسفة في الطبائع من أنها مؤثرة بنفسها .(4/469)
صفحة رقم 470
ولما قدم ما يجب عليه من نفسه منبهاً به لصاحبه ، ثم ما يجب عليه من التصريح بالإرشاد في أسلوب مقرر أن الأمر كله لله ، لأحد غيره ، أنتج قوله تعالى : ( إن ترن ) أي أيها المفتخر بما له عليّ ) أنا ( ولما ذكر مفعول ( ترى ) الثاني فقال : ( أقل منك ( وميز القليل بقوله : ( مالاً وولداً ) أي من جهة المال والولد الذي هو أعز نفر الإنسان .
ولما أقر المؤمن بالعجز والافتقار ، في نظير ما أبدى الكافر من التقوى والافتخار ، سبب عن ذلك ما جرت به العادة في كل جزاء ، داعياً بصورة التوقع فقال تعالى : ( فعسى ربي ( المحسن إليّ ) أن يؤتين ( من خزائن رزقه ) خيراً من جنتك ( فيحسن إليّ بالغنى كما أحسن إليّ بالفقر المقترن بالتوحيد ، المنتج للسعادة ) ويرسل عليها ) أي جنتك ) حسباناً ) أي مرامي من الصواعق والبرد الشديد ) من السماء ( .
ولما كانت المصابحة بالمصيبة أنكى ما يكون ، قال تعالى : ( فتصبح ( بعد كونها قرة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع ) صعيداً زلقاً ) أي أرضاً يزلق عليها لملاستها باستئصال نباتها ، فلا ينبت فيها نبات ، ولا يثبت فيها قدم ) أو يصبح ماؤها غوراً ( وصف بالمصدر لأنه أبلغ ) فلن تستطيع ( أنت ) له طلباً ( .
الكهف : ( 42 - 44 ) وأحيط بثمره فأصبح. .. . .
) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ( ( )
ولما كان من المعلوم أن هذا المؤمن المخلص بعين الرضى ، كان من المعلوم ان التقدير : فاستجيب لهذا الرجل المؤمن ، أو : فحقق له ما توقعه فخيب ظن المشرك ، فعطف عليه قوله : ( وأحيط ) أي أوقعت الإحاطة بالهلاك ، بني للمفعول لأن الفكر حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص ، وللدلالة على سهولته ) بثمرة ) أي الرجل المشرك ، كله فاستؤصل هلاكاً ما في السهل منه وما في الجبل ، وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر ) فأصبح يقلب كفيه ( ندماً ، ويضرب إحداهما على الأخرى تحسراً ) على ما أنفق فيها ( لعمارتها ونمائها ) وهي خاوية ) أي ساقطة مع الخلو ) على عروشها ) أي دعائمها التي كانت تحملها فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها ) ويقول ( تمنياً لرد ما فات لحيرته وذهول عقله ودهشته : ( يا ليتني ( تمنياً لاعتماده على الله من غير إشراك بالاعتماد على الفاني ) لم أشرك بربي أحداً ( كما قاله له صاحبه ، فندم حيث لم ينفعه الندم على ما فرط في الماضي لأجل ما فاته من الدنيا ، لا حرصاً على الإيمان لحصول الفوز في العقبى ، لقصور عقله ووقوفه مع(4/470)
صفحة رقم 471
المحسوسات المشاهدات ) ولم تكن له فئة ) أي جماعة لا من نفره الذين اعتز بهم ولا من غيرهم ) ينصرونه ( مما وقع فيه ) من دون الله ) أي بغير عون من الملك الأعظم ) وما كان ( هو ) منتصراً ( بنفسه ، بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده .
ولما أنتج هذا المثل قطعاً أنه لا لغير الله المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم ، ولإغنائهم بعد فقرهم ، ولإذلال أعدائه بعد عزهم وكبرهمن وإفقارهم بعد إغنائهم وجبرهم ، وأن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له ، صرح بذلك في قوله تعالى : ( هنالك ) أي في مثل هذه الشدائد العظيمة ) الولاية ) أي النصرة - على قراءة الفتح ، والسلطان - على الكسر ، وهي قراءة حمزة والكسائي ، والفتح لغيرهما ، وهما بمعنى واحد ، وهو المصدر كما صدر به في القاموس .
) لله ) أي الذي له الكمال كله ) الحق ) أي الثابت الذي لا يحول يوماً ولا يزول ، ولا يغفل ساعة ولا ينام ، ولا ولاية لغيره بوجه - هذا على قراءة الجماعة بالجر على الوصف وهو في قراءة أبي عمرو والكسائي بالرفع على الاستئناف والقطع تقليلاً ، تنبيهاً على أن فزعهم في مثل هذه الأزمات إليه دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل ، وأن الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل ، وأن المؤمنين لا يعيبهم فقرهم ولا يسوغ طردهم لأجله ، وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوة .
ولما علم من ذلك من أنه آخذ بأيدي عبيدة الأبرار وعلى أيدي عصاته الأشرار ، قال تعالى : ( هو خير ثواباً ( لمن أثابه ) وخير عقباً ) أي عاقبة عظيمة ، فإن فعلا - بضمه وبضمتين - من صيغ جموع الكثرة فيفيده ذلك مبالغة وإن لم يكن جمعاً ، والمعنى أنه أي ثوابه لأوليائه خير ثواب وعقباه خير عقبى .
الكهف : ( 45 - 47 ) واضرب لهم مثل. .. . .
) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ( ( )
ولما أتم المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أبطرتهم ، فكانت سبب إشقائهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامة لجميع الناس في قلة بقائها وسرعة فنائها ، وأن من تكبر بها كان أخس منها فقال تعالى : ( واضرب لهم ) أي لهؤلاء الكفار امغتربين بالعرض الفاني ، المفتخرين بكثرة الأموال والأولاد وعزة النفر ) مثل الحياة الدنيا ) أي التي صفتها - التي هم بها ناطقون - تدل على أن ضدها الأخرى ، في ينوعها(4/471)
صفحة رقم 472
ونضرتها ، واختلابها للنفوس ببهجتها ، واستيلائها على الأهواء بزهرتها ، واختداعها لذوي الشهوات بزينتها ، ثم اضمحلالها وسرعة زوالها ، أفرح ما كانوا بها ، وأرغب ما كانوا فيها مرة بعد أخرى ، على مر الأيام وكر الشهور ، وتوالي الأعوام وتعاقب الدهور ، بحيث نادت على نفسها بالتحذير منها والتنفير عنها للعاقل اللقن ، والكيس الفطن ، رغبة إلى الباقي الذي يدوم سروره ، ويبقى نعيمه وحبوره ، وذلك المثل ) كماء أنزلناه ( بعظمتنا واقتدارنا بعد يبس الأرض وجفاف ما فيها وزواله ، وبقلعه كما تشاهدونه واستئصاله ، وقال : ( من السماء ( تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة على الوجه النافع ) فاختلط ) أي فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط ) به نبات الأرض ) أي التراب الذي كان نباتاً ارفت بطول العهد في بطنها ، فاجتمع بالماء والتفّ وتكاثف ، فهيأنا بالتخمير والصنع الذي لا يقدر عليه سوانا حتى أخرجناه من الأرض أخضر يهتز على ألوان مختلفة ومقادير متفاوتة ثم أيبسناه ) فأصبح هشيماً ) أي يابساً مكسراًمفتتاً ) تذروه ) أي تثيره وتفرقه وتذهب به ) الرياح ( حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن ) وكان الله ) أي المختص بصفات الكمال ) على كل شيء ( من ذلك وغيره إنشاء وإفناء وإعادة ) مقتدراً ( أزلاً وأبداً ، فلا تظنوا أن ما تشاهدونه من قدرته حادث .
ولما تبين بهذين المثلين وغيرهما أن الدينا - التي أوردت أهلها الموارد وأحلتهم أودية المعاطب - سريعة الزوال ، وشيكة الارتحال ، مع كثرة الأنكاد ، ودوام الأكدار ، من الكد والتعب ، والخوف والنصب كالزرع سواءن تقبل أولاً في غاية النضرة والبهجة ، تتزايد نضرتها وبهجتها شيئاً فشيئاً ، ثم تأخذ في الانتقاض والانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء ، فهي جديرة لذلك بالزهد فيها والرغبة عنها ، وأن لا يفتخر بها عاقل فضلاً عن أن يكاثر بها غيره ، قال تعالى : ( المال والبنون ( الفانيان الفاسدان وهما أجلّ ما في هذه الدار من متاعها ) زينة الحياة الدنيا ( التي لو عاش الإنسان جميع أيامها لكان حقيقاً لصيرورة ما هو في منها إلى زوال بالإعراض عنها والبغض لها ، وأنتم تعلمون ما في تحصيلهما من التعب ، وما لهما بعد الحصول من سرعة العطب ، وهما مع ذلك قد يكونان خيراً إن عمل فيهمابما يرضي الله ، وقد يكونان شراً ويخيب الأمل فيهما ، وقد يكون كل منهما سبب هلاك صاحبه وكدره ، وسوء حياته وضرره ) والباقيات الصالحات ( وهي أعمال الخير المجردة التي يقصد بها وجه الله تعالى التي رغبنا فيها بقولنا
77 ( ) لنبلوهم(4/472)
صفحة رقم 473
أيهم أحسن عملاً ( ) [ الكهف : 7 ] وما بعده ) خير ) أي من الزينة الفانية .
ولما كان أهم ما إلى من حصل النفائس لكفايته من يحفظها له الوقت حاجته قال : ( عند ربك ) أي الجليل المواهب ، العالم بالعواقب ، وخير من المال والبنين في العاجل والآجل ) ثواباً وخير ( من ذلك كله ) أملاً ) أي من جهة ما يرجو فيها من الثواب ويرجو فيها من الأمل ، لأن ثوابها إلى بقاء ، وأملها كل ساعة في تحقيق وعلو وارتقاء ، وأمل المال والبنين يختان أحوج ما يكون إليهما .
ولما ذكر المبدأ وبنه على زواله ، وختم بأن المقصود منه الاختيار للرفعة بالثواب أو الضعة بالعقاب ، وكان الخزي والصغار ، أعظم شيء ترهبه النفوس الكبار ، لاسيما إذا عظم الجمع واشتد الأمر ، فكيف إذا انضم إليه الفقر فيكف إذا صاحبهما الحبس وكان يوم الحشر يوماً يجمع فيه الخلائق ، فهو بالحقيقة المشهود ، وتظهر فيه العظمة فهو وحده المرهوب ، عقب ذكر الجزاء ذكره ، لأنه أعظم يوم يظهر فيه ، فقال تعالى عاطفاً على ) واضرب ( : ( يوم ) أي واذكر لهم يوم ) نسير الجبال ( عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما يسير نبات الأرض - بعد ان صار هشمياً - بالرياح ) ) فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ( ) [ النحل : 88 ] ) وترى الأرض ( بكمالها ) بارزة ( لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل ) و ( الحال أنا قد ) حشرناهم ) أي الخلائق بعظمتنا قبل التسيير بتلك الصيحة ، قهراً إلى الموقف الذي ينكشف فيه المخبآت ، وتظهر الفضائح والمغيبات ، ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير ، والنافذ فيه بصير ، فينظرون ويسمعون زلازل الجبال عند زوالها ، وقعاقع الأبنية والأشجار في هدها وتباين أوصالها ، وفنائها بعد عظيم مرآها واضمحلالها ) فلم نغادر ) أي نترك بما لنا من العظمة ) منهم ) أي الأولين والآخرين ) أحداً ( لأنه لا ذهول ولا عجز .
الكهف : ( 48 - 50 ) وعرضوا على ربك. .. . .
) وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ( ( )
ولما ذكر سبحانه حشرهم ، وكان من المعلوم أنه للعرضن ذكر كيفية ذلك العرض ، فقال بانياً الفعل للمفعول عل طريقة كلام القادرين ، ولأن المخوف العرض لا(4/473)
صفحة رقم 474
كونه من معين : ( وعرضوا على ربك ) أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك ) صفا ( لاتساع والمسايقة إلى داره ، لعرض أذل شيء وأصغره ، وأطوعه وأحقره ، يقال لهم تنبيهاً على مقام العظمة : ( لقد جئتمونا ( أحياء سويين حفاة عراة غرلا ) كما خلقناكم ( بتلك العظمة ) أول مرة ( منعزلين من كل شيء كنتم تجمعونه وتفاخرون به منقادين مذعنين فتقولون
77 ( ) هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ( ) 7
[ يس : 52 ] فيقال لكم : ( بل زعمتم ) أي ادعيتم جهلاً بعظمتنا ) أن ) أي أنا ) لن نجعل لكم ( على ما لنا من العظمة ) موعداً ) أي مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز ما وعدناكم به على ألسنة الرسل ) ووضع ( بأيسر أمر بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة ) الكتاب ( المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيِّن لا يخفي على قارئ ولا غيره شيء منه ) فترى المجرمين ( لتقر عينك منهم بشماتة لا خير بعدها ) مشفقين مما فيه ( من قبائح أعمالهم ، وسيئ أفعالهم وأقوالهم أي خائفين دائماً خوفاً عظيماً من عقاب الحق والفضيحة عند الخلق ) ويقولون ) أي يجددون ويكررون قولهم : ( ياويلتنا ( كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك ) مال هذا الكتاب ) أي أي شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا ، ورسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكتب ، وفسروا حال الكتاب التي أفظعتهم وسألوا عنهم بقولهم : ( لا يغادر ) أي يترك أي يقع منه غدر ، أي عدم الوفاء وهو من غادر الشيء : تركه كأن كلاًّ منهما يريد غدر الآخر ، أي عدم الوفاء به ، من الغدير - لقطعه من الماء يتركها السيل كأنه لم يوف لهما بأخذ ما معه ، وكذا الغديرة لناقة تركها الراعي ) صغيرة ) أي من أعمالنا .
ولما هالهم إثبات جميع الصغائر ، بدؤوا بها ، وصرحوا بالكبائر - وإن كان إثبات الصغائر يفهمها - تأكيداً لأن المقام للتهويل وتعظيم التفجع ، وإشارة إلى أن الذي جرهم إليها هو الصغائر - كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه - فقالوا : ( ولا كبيرة إلا أحصاها ( ولما كان الإحصاء قد لا يستلزم اطلاع صاحب الكتاب وجزاءه عليه ، نفى ذلك بقوله تعالى : ( ووجدوا ما علموا حاضراً ( كتابة وجزاء من غير أن يظلمهم سبحانه أو يظلم من عادوهم فيه ) ولا يظلم ربك ( الذي رباك بخلق القرآن ) أحداً ( منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب ، بل يجازى الأعداء بما يستحقون ، تعذيباً لهم وتنعيماً لأوليائه الذين عادوهم فيه للعدل بينهم ؛ روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه مسيرة شهر فاستأذن عليه قال : فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته ، قلت : حديث بلغني عنك(4/474)
صفحة رقم 475
أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه ، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ( يحشر الله عز وجل الناس - أو قال : العباد - حفاة عراة بهما ) قلت : وما بهما ؟ قال : ( ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحدمن أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة ، ) قال : قلنا : كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة بهما ؟ قال : ( بالحسنات والسيئات ) .
ولما ذكر العبث وختمه بإحسانه بالعدل المثمر لإعطاء كل أحد ما يستحقه ، أتبعه - بما له من الفضل - بابتداء الخلق الذي هو دليله ، في سياق مذكر بولايته الموجبة للإقبال عليه ، وعداوة الشيطان الموجبة للإدبار عنه ، مبين لما قابلوا به عدله فيهم وفي عدوهم من الظلم بفعلهم كما فعل من التكبر على آدم عليه السلام بأصله ، فتكبروا على فقراء المؤمنين بأصلهم وأموالهم وعشائرهم ، فكان فعلهم فعله سواء ، فكان قدوتهم وهو عدوهم ، ولم يقتدوا بخير خلقه وهو وليهم وهو أعرف الناس به ، فقال تعالى عاطفاً على ) واضرب ( : ( وإذ ) أي واذكر لهم إذ ) قلنا ( بما لنا من العظمة ) للملائكة ( الذين هم أطوع شيء لأوامرنا وإبليس فيهم ، قال ابن كثير : وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك ، ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة ) اسجدوا لآدم ( أبيهم نعمة منا عليه يجب عليهم شكرنا فيها ) فسجدوا ( كلهم ) إلا إبليس ( فكأنه قيل : ما له لم يسجد ؟ فقيل : ( كان ) أي لأنه كان ) من الجن ( المخلوقين من نار ، ولعل النار لما كانت نيرة وإن كانت نورانيتها مشوبة بكدورة وإحراق ، عد من الملائكة لاجتماع العنصرين في مطلق النور ، مع ما كان غلب عليه من العبادة ، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان - ) وفي رواية : ( إبليس - من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم ) وفي مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن كانت قبيلة من الملائكة .(4/475)
صفحة رقم 476
ولما كان أكثر الجن مفسداً ، رجوعاً إلى الأصل الذي هو النار المحرقة لما لاصقها ، المفسدة له ، سبب فسقه عن كونه منهم فقال تعالى : ( ففسق ) أي خرج ، يقال : فسقت الفأرة من حجرها - إذا خرجت للعيث والفساد .
) عن أمر ربه ) أي سيده ومالكه المحسن إليه بإبداعه ، وغير ذلك من اصطناعه ، في شأن أبيكم ، إذ تكبر عليه فطرده ربه من أجلكم ، فلا تستنوا به في الافتخار والتكبر على الضعفاء ، فإن من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجواً ، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجواً ، ثم سبب عن هذا ما هو جدير بالإنكار فقال تعالى في أسلوب الخطاب لأنه أدل على تناهي الغضب وأوجع في التبكيت ، والتكلم لأنه أنص على المقصود من التوحيد : ( أفتتخذونه ) أي أيفسق باستحقاركم فيطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه ) وذريته ( شركاء لي ) أولياء ( لكم ) من دوني ) أي اتخاذ مبتدئاً من غيري أو من أدنى رتبة من رتبتي ، ليعم الاتخاذ استقلالاً وشركة ، ولو كان المعنى : من دون - أي غير - اتخاذي ، لأفاد الاستقلال فقط ، ولو كان الاتخاذ مبتدئاً منه بأن كان هو الآمر به لم يكن ممنوعاً ، وأنا وليكم المفضل عليكم ) وهم لكم ( ولما كان بناء فعول للمبالغة ولا سيما وهو شبيه بالمغالاة في نحو القول ، أغنى عن صيغة الجمع فقال : ( عدو ( إشارة إلى أنهم في شدة العداوة على قلب واحد .
ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم ، وصل به قوله تعالى : ( بئس ( وكان الأصل : لكم ، ولكنه أبرز هذا الضمير لتعليق الفعل بالوصف والتعميم فقال تعالى : ( للظالمين بدلاً ( إذا استبدلوا من ليس لهم شيء من الأمر وهم لهم عدو بمن له الأمر كله وهو لهم ولي .
الكهف : ( 51 - 52 ) ما أشهدتهم خلق. .. . .
) مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ( ( )
ولما كان الشريك لا يستأثر بفعل أمر عظيم في المشترك فيه من غير علم لشريكه به ، قال معللاً للذم على هذا الظلم بما يدل عل حقارتهم عن هذه الرتبة ، عادلاً في أسلوب التكلم إلى التجريد عن مظهر العظمة لئلا يتعنت من أهل الإشراك متعنت كما عدل في ) دوني ( لذلك : ( ما أشهدتهم ) أي إبليس وذريته ) خلق السماوات والأرض ( نوعاً من أنواه الإشهاد ) ولا خلق أنفسهم ( إشارة إلى أنهم مخلوقون وأنه لا يصح في عقل عاقل أن يكون مخلوق شريكاً لخالقه أصلاً ) وما كنت ) أي أزلاً وأبداً متخذهم ، هكذا الأصل ولكنه أبرز إرشاداً إلى أن المضل لا يستعان به ، لأنه مع عدم نفعه يضر ، فقال تعالى : ( متخذ المضلين عضداً ( إشارة إلى أنه لا يؤسف على فوات إسلام(4/476)
صفحة رقم 477
أحد ، فإن من علم فيه خيراً أسمعه ، ومن لم يسمعه فهو مضل ليس أهلاً لنصرة الدين .
ولما أقام البرهان القاطع على بعد رتبتهم عن المنزلة التي أحلوهم بها من الشرك ، أتبعه التعريف بأنهم مع عدم نفعهم لهم في الدنيا يتخلون عنهم في الآخرة أحوج ما يكونون إليهم تخييباً لظنهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، فقال تعالى عاطفاً على ) إذ قلنا ( عادلاً إلى مقام الغيبة ، إشارة إلى بعدهم عن حضرته الشماء وتعاليه عما قد يتوهم من قوله تعالى
77 ( ) وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا ( ) 7
[ الكهف : 48 ] في حجب الجلال والكبرياء ، وجرى حمزة في قراءته بالنون على أسلوب التكلم الذي كان فيه مع زيادة العظمة : ( ويوم ) أي واذكر يوم ) يقول ( الله لهم تهكماً بهم : ( نادوا شركاءي ( وبين أن الإضافة ليست على حقيقتها ، بل هي توبيخ لهم فقال تعالى : ( الذين زعمتم ( أنهم شركاء ) فدعوهم ( تمادياً في الجهل والضلال ) فلم يستجيبوا لهم ) أي لم يطلبوا ويريدوا أن يجيبوهم إعراضاً عنهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم .
ولما كانوا في غاية الاستبعاد لأن يحال بينهم وبين معبوداتهم ، قال في مظهر العظمة : ( وجعلنا بينهم ) أي المشركين والشركاء ) موبقاً ) أي هلاكاً أو موضع هلاك ، فاصلاً حائلاً بينهم ، مهلكاً قوياً ثابتاً حفيظاً ، لا يشذ عنه منهم أحد ، وإنما فسرته بذلك لأنه مثل قوله تعالى
77 ( ) فزيلنا بينهم ( ) 7
[ يونس : 28 ] أي بالقلوب أي جعلنا ما كان بينهم من الوصلة عداوة ، ومثل قوله تعالى
77 ( ) ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار ( ) 7
[ الأعراف : 38 ]
77 ( ) هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك ( ) 7
[ النحل : 86 ] ونحوه ، لأن معنى ذلك كله أنه يبدل ما كان بينهم من الود في الدنيا والوصلة ببغض وقطيعة كما قال تعالى
77 ( ) ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ( ) 7
[ العنكبوت : 25 ] وأن كل فريق يطلب للآخر الهلاك ، فاقتضى ذلك اجتماع الكل فيه ، هذا ما يرشد إلى المعنى من آيات الكتاب ، ونقل ابن كثير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، وقال الحسن البصري : عداوة .
وأما أخذه من اللفظ فلأن مادة وبق - يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة ، ولها أحد عشر تركيباً : واحد يائي : بقي ، وستة واوية : قبو ، قوب ، بقو ، بوق ، وقب ، وبق ، وأربعة مهموزة : قبأ ، قأب ، بأق ، أبق - كلها تدور على الجمع ، وخصوصاً ترتيب وبق يدور على الحائل بين شيئينن ويلزمه القوة والثبات والحفظ والهلاك قوة أو فعلاً ، لأن من حيل بينه وبين شيء فقد هلك بفقد ذلك الشيء بالفعل إن كان الحائل موتاً ، وبالقوة(4/477)
صفحة رقم 478
إن كان غيره ، يقال : قبل الشيء : جمعه بأصابعه ، والبناء : رفعه ، والزعفران : جناه ، والقبا - بالقصر : نبت - لأنه سبب الاجتماع لرعيه والانتفاع به وهو يجمع أيضاً ، والقبا : تقويس الشيء - لأنه أقرب إلى اجتماع بعض أجزائه ببعض ، والقبوة : انضمام ما بين الشفتين ، ومنه القباء من الثياب ، وقباه تقبية : عباه ، أي جمعه حتى صار كأنه في مكان مقبو ، وقبى عليه تقبية : عدا عليه في أمره - لأنه كان كأنه أوقعه في حفرة ، والثوب : جعل منه قباء ، وتقبى القباء : لبسه ، وزيداً : أتاه من قفاه - لأن من يريد رمي أحد في حفرة كذلك يأتيه مخاتلة ، وتقبى الشيء : صار كالقبة ، وامرأة قابية : تلقط العصفر وتجمعه ، والقابياء : اللئيم - لأنه بناء مبالغة ، فيدل على كثرة الجمع والحرص اللازمين للؤم ، وبنو قابياء : المجتمعون لشرب الخمر - لأنها حالة تظهر لؤم اللئام ، وقباء - بالضم ويذكر ويقصر - موضع قرب المدينة الشريفة ، وموضع بين مكة والبصرة ، وانقبى : استخفى ، وقبى قوسين وقباء قوسين - ككساء : قاب قوسين ، والمقبي : الكثير الشحم - كأنه جمع لنفسه منه بالراحة ما صار كالبناء ، والقباية : المفازة - لأنها تجمع ما فيها كما تجمع القبة والقباء والوقبة ما فيها .
ومن مهموزة : قبأ الطعام - كجمع : أكله ، ومن الشراب : امتلأ ، والقباءة : حشيشة ترعى - لأن يجتمع على رعيها .
ومن الواوي : قاب الأرض يقوبها وقوّبها : حفر فيها شبه التقوير - لأن الدائرة أجمع ما يكون لغيرها وفي نفسها ، لأنه لا زوايا فيها فاصلة ، وقوبت الأرض : آثرت فيها ، والقوبة : ما يظهر في الجسد ويخرج عليه - لأنه يكون غالباً على هيئة الدائرة ، وتقوب جلده : تقلع عنه الجرب ، وانحلق عنه الشعر - إما من الإزالة ، وإما لأن آثاره تكون كالدوائر ، وقوب الشيء : قلعه من أصله - لأن أثره إذا انقلع يكون حفراً مستديراً ، وتقوب هو : تقلع ، والقائبة والقابة : البيضة - لأنها لتدويرها تشبه ذلك الحفر ، والقوب - بالفتح : فلق الطير بيضه ، وبالضم : الفرخ - لأنه منها ، وفي المثل : تخلصت قائبة من قوب - يضرب لمن انفصل من صاحبهن والقوبيّ : المولع بأكل الأقواب أي الفراخ ، والقوب - كصرد : قشور البيض ، وتقوبت البيضه : انقابت أي انحفرت ، وأم قوب : الداهية - لجمعها ما تأتي عليه كأنهه ابتلعه حفر ، وقاب : قرب - لأن القرب مبدأ الجمع ، وقاب : هرب ، أي سلب القرب - ضد ، وقاب : فلق ، أي شق الجمع فهو من الإزالة أيضاً ، وقاب قوس وقيبه ، أي قدره - لأن القوس شبه نصف دائرة من ذلك الحفر ، والقاب : ما بين المقبض والسية - لأنه بعض ذلك ، ولك قوس قابان ، والأسود المتقوب : الذي انسلخ جلده من الحيات - لتدوّر ذلك الجلد وشبهه بالحفرة ، واقتاب الشيء : اختاره ، أي جمعه إليه ، ورجل مليء قوبة - كهمزة : ثابت الدار مقيم - من(4/478)
صفحة رقم 479
الثبات هو لازم الجمع ، وقوب من الغبار : اغبر - إما لأن من يحفر ذلك بغير ، وإما لأن الغبار كثر عليه حتى غطاه فصار له مثل تلك الحفرة .
ومن مهموزة : قأب الطعام - كمنع أكله ، والماء : شربه كقبئه - كفرح ، أو شرب كل ما في الإناء ، وقئب من الشراب : تملأ ، وهو مقأب - كمنبر : كثير الشرب للماء ، وإناء قَوأب : كثير الأخذ للماء - فهو كما ترى جمع مخصوص بالأكل والشرب ، أو أنه جمعه في وقبة بطنه .
ومن الواوي : بقاه بعينه : نظر إليه - فهو من الحفظ اللازم للجمع ، وابقُه بَقْوَتَك مالّك ، وبقاوتك مالك أي احفظه حفظك مالك ، وبقوته : انتظرته - وهو يرجع إلى الثبات والمراقبة التي ترجع إلى الحفظ ، ويلزم الحفظ الثبات .
ومن اليائي : بقي الشيء بقاء : ثبت ودوام ضد فني ، والاسم البقوي - كدعوى ، ويضم ، والبقيا - بالضم والبقية ، وقد توضع الباقية موضع المصدر .
ومن واويّه : البوقة : الجمع والدفعة من المطر الشديد أو المنكرة تنباق - أنها نزلت من وقبة لشدتها ، والبوائق : العوائد - لأنها جامعة لمن اعتادها ، والبوائق : الشر - لأنه معلك ، فكأنه موقع في المهالك ، والبوق - بالضم : شبه منقاب ينفخ فيه الطحان ، أو الذي ينفخ فيه مطلقاً ويرمز - لأنه لتجويفه يشبه الوقبة ، والوبق أيضاً : الباطل والزور - لأن صوته أشبع شيء بذلك ، والمبوق - كمعظم : الكلام الباطل ، والبوق - بالفتح : من لا يكتم السر - لأن البوق متى نفخ فيه صوّت ، والبوقة : شجرة دقيقة - لأنها لدقتها يسرع إليها الهلاك كمن وقع فيه وقبه ، والبائقة : الداهية - كأنها تدفع من أتته في الوقبة ، وانباقت عليه بائقة : انفتقت ، وباق : جاء بالشر والخصومات - من ذلك ، وكذا باق ، أي تعدى على إنسان ، وانباق به : ظلمه ، والبائقةُ القومَ : أصابتهم ، كانباقت عليهم ، أي خرجت لشدتها من وقبة ، والباقة : الحزمة من بقل - لاجتماعها ، وباق بك : طلع عليك من غيبة - كأنه كان في حفرة فخرج ، ومنه باق فلان : هجم على قوم بغير إذنهم ، وباق القوم عليه : اجتمعوا فقتلوه ظلماً ، وباق المال : فسد وبار - كحال من وقع في حفرة ، ومنه متاع بائق : لا ثمن له ، وتبوّق في الماشية : وقع فيها الموت وفشا ، والحاق باق : صوت الفرج عند الجماع - لأنه من الجمع ، ولأن الفرج وقبة ، ومن مهموزة : بأقتهم الداهية بؤوقاً : أصابتهم ، وانبأق عليهم الدهر : هجم عليهم بالداهية .
ومن الواوي ، والوقبة : كوة عظيمة فيها ظل ، والوقب والوقبة : نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء ، وقيل : هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء ، وكل نقر في الجسد وقب كنقر العين والكتف ، والوقبان من الفرس : هزمتان(4/479)
صفحة رقم 480
فوق عينيه ، ووقب المحالة : الثقب الذي يدخل فيه المحور ، ووقبة الدهن : أنقوعته ، وكذا وقبة الثريد ، ووقب الشيء : دخل في الوقب ، وأوقب الشيء : أدخله فيه ، وركية وقباء : غامرة الماء ، وامرأة ميقاب : واسعة الفرج وبنو الميقاب نسبوا إلى أمهم ، يريدون سبهم بذلك ، والميقاب : الرجل الكثير الشرب للماء ، والحمقاء أوالمحمقة ، وسير الميقاب : أن تواصل سير يوم وليلة - كأن ذلك سير الأحمق الذي لا يبقى على ظهره ، ووقب القمر وقوباً : دخل في الظل الذي يكسفه - كأنه حفرة ابتلعته ، ووقبت الشمس وقوباً : غابت كذلك ، وقيل : كل ما غاب فقد وقب ، ووقب الظلام ، أقبل .
أي فصار كالوقبة ، فابتلع ما في الكون فحجبه عن الضياء ، ورجل وقب : أحمق - كأنه وعاء لكل ما يسمع ، لا أهلية له في تمييز جيده من رديئه ، والأنثى : وقبة ، وقال ثعلب : الوقب : الدنيء ، أي لأنه يتبع هواها فيصير كأنه الوقبة لا ترد شيئاً مما يلقي فيها ، ووقب الفرس وقباً وهو صوت قنبه ، أي وعاء قضيبه ، وقيل : صوت تقلقل جردان الفرس في قنبه - لأن وعاء جردانه كالوقبة ، فهو من اطلاق اسم المحل على ما فيه ، والقبة - كعدة : الإنفحة إذا عظمت من الشاة ، قال ابن الأعرابي : ولا يكون ذلك في غير الشاء - لأن شبه الإنفحة بالوقبة الظاهر ، والوقباء : موضع يمد ويقصر ، والوقبى : ماء لبني مازن - لأنه يجمعهم كما تجمع الوقبة ما فيها ، والأوقاب : قماش البيت كالبرمة والرحيين والعمد - لأن البيت لها كالوقبة لجمعها أو لأنها جامعة لشمل من فيه ، والمقيب : الودهة ، وأوقب القوم : جاعوا ، أي تهيؤوا لإدخال الطعام في وقبة الجوف ، وذكر أوقب : ولاّج في الهنات - لأنها كالأوقاب أي الحفر ، والوقب : الأقبال والمجيء ، وهو سبب الجمع .
ووبق - كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً : هلك ، أي وقع فيه وقبة ، أي حفرة كاستوبق ، وكمجلس : المهلك والمجلس ، وواد في جهنم ، وكل شيء حال بين شيئين - لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره .
ومنه قيل للموعد : موبق ، وأوبقة : حبسه أو أهلكه .
ومن مهموزة : أبق العبد - كسمع وضرب ومنع - أبقاً ويحرك - وإباقاً - ككتاب : ذهب بلا خوف ولا كد عمل ، أو استخفى ثم ذهب - كل ذلك يوجع إلى جعله كأنه نزل في وقبة ، ومن شأنه حينئذ أن يخفى ، ومنه تأبق : استتر أو احتبس ، وتأبق الشيء : أنكره - لأن سبب الإنكار الخفاء ، وتأبق : تأثم ، أي جانب الإثم ، فهو لسلب الجمع أو لسلب الهلاك في الوقبة ، والأبق - محركة : القنب - لشبهه لتجويفه بالوقبة ، ولأبق : قشره - لقوته اللازمة للجمع أو لأنه خيوط مجمتعة .(4/480)
صفحة رقم 481
الكهف : ( 53 - 56 ) ورأى المجرمون النار. .. . .
) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً ( ( )
ولما قرر سبحانه ما لهم مع شركائهمن ذكر حالهم في استمرار جهلهم ، فقال تعالى : ( وراء الجرمون ) أي العريقون في الإجرام ) النار ) أي ورأوا ، ولكنه أظهر للدلالة على تعليق الحكم بالوصف ) فظنوا ( ظناً ) أنهم مواقعوها ولم ) أي والحال أنهم لم ) يجدوا عنها مصرفاً ( اي مكاناً ينصرفون إليه ، فالموضع موضع التحقق ، ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا ) ) اتخذ الله ولداً ( ) [ الكهف : 4 ] بغير علم ) ) وما أظن أن تبيد هذه أبداً ( ) [ الكهف : 35 ] ، ) ) وما أظن الساعة قائمة ( ( الكهف : 36 ] ، ) ) إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين ( ) [ الجاثية : 32 ] مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها .
ولما كان الكلام في قوة أن يقال : صرفنا هذه الأخبار بما أشارت إليه من الأسرار الكبار ، فقامت دلائل الشريعة الجلائل ، وأضاءت بها جواهر المعاني الزواهر ، عطف على ذلك : ( ولقد صرفنا ) أي لما لنا من العظمة .
ولما كانت هذه السورة في وصف الكتاب ، اقتضى الاهتمام به تقديمه في قوله تعالى : ( في هذا القرءان ) أي القيم الذي لا عوج فيه ، مع جمعه للمعاني ونشره الفارق بين الملبسات ) للناس ) أي المزلزلين فضلاً عن الثابتين ) من كل مثل ) أي حوّلنا الكلام وطرقناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة ، والأساليب المتناسقة ، ما سار بها في غرابته كالمثل ، يقبله كل من يسمعه ، وتضرب به آباط الإبل في سائر البلاد ، بين العباد ، فتبشير به قلوبهم ، وتلهج به ألسنتهم ، فلم يتقبلوه وجادلوا فيه ؛ ثم نبه على الوصف المقتضي لذلك بقوله تعالى : ( وكان الإنسان ( الذي جعل خصيماً وهو آنس بنفسه جبلة وطبعاً ) أكثر شيء ( وميز الأكثرية بقوله تعالى : ( جدلاً ( لأنه لم ينته عن الجدل بعد هذا البيان ، الذي أضاء جميع الأكوان .
ولما بين إعراضهم ، بين موجبه عندهم فقال : ( وما منع ( ولما كان الناس تبعاً لقريش قال : ( الناس ) أي الذين جادلوا بالباطل ، الإيمان - هكذا كان الأصلن ولكنه عبرعن هذا المفعول الثاني بقوله تعالى : ( أن يؤمنوا ( ليفيد التجديد وذمهم على الترك(4/481)
صفحة رقم 482
) إذ ) أي حين ) جاءهم الهدى ( بالكتاب على لسان الرسول ، وعطف على المفعول الثاني - معبراً بمثل ما مضى لما مضى - قولَه تعالى : ( ويستغفروا ربهم ) أي المحسن إليهم .
ولما كان الاستثناء مفرغاً ، أتى بالفاعل فقال تعالى : ( إلا أن ) أي طلب أن ) تأتيهم سنة الأولين ( في إجابتهم إلى ما اقترحوه على رسلهم ، المقتضي للاستئصال لمن استمر على الضلال ، ومن ذلك طلبهم أن يكون النبي ملكاً ، وذلك نقمة في صورة نعمة وإتيان بالعذاب دبراً ، أي مستوراً ) أو ( طلب أن ) يأتيهم العذاب قبلاً ) أي مواجهة ومعاينة ومشاهدة من غير ستر له ، هو في قراءة من كسر القاف وفتح الباء واضح ، من قولهم : لقيت فلاناً قبلاً ، أي معاينة ، وكذا في قراءة من ضمهما ، من قولهم : أنا آيتك قبلاً لا دبراً ، أي مواجهة من جهة وجهك لا من جهة قفاك ، قال تعالى :
77 ( ) إن كان قميصه قدَّ من قبل ( ) 7
[ يوسف : 26 ] ، ويصح أن يراد بهذه القراءة الجماعة ، لأن المراد بالعذاب الجنس أي يأتيهم أصنافاً مصنفة صنفاً ونوعاً نوعاً ، وقد مضى في الأنعام بيانه ، وهذا الشق قسيم الإتيان بسنة الأولين ، فمعناه : من غير أن يجابوا إلى ما اقترحوا كما تقدم في التي قبلها
77 ( ) فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك ( ) 7
- إلى قوله تعالى :
77 ( ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ( ) 7
[ الإسراء : 92 ] الآية وهذه الآية من الاحتباك : ذكر ) سنة الأولين ( أولاً يدل على ضدها ثانياً ، وذكر المكاشفة ثانياً يدل على المساواة أولاً .
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول ، إنما هو إلى الإله ، بينه بقوله تعالى : ( وما نرسل ( على ما لنا من العظمة التي لا أمر لأحد معنا فيها ) المرسلين إلا مبشرين ( بالخير على أفعال الطاعة ) ومنذرين ( بالشر على أفعال المعصية ، فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم من فصل الأمر ) ويجادل الذين كفروا ) أي يجددون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا ) بالباطل ( من قولهم : لو كنتم صادقين لأتيتم بما نكلب منكم ، مع أن ليس كذلك لأنه ليس لأحد غير الله من الأمر شيء ) ليدحضوا ) أي ليزلقوا فيزيلوا ويبطلوا ) به الحق ( الثابت من المعجزات المثبتة لصدقهم .
ولما كان لكل مقام مقال ، ولكل مقال حد وحال ، فأتى في الجدال بصيغة الاستقبال ، وكان اتخاذ الاستهزاء أمراً واحداً ، أتى به ماضياً فقال تعالى : ( واتخذوا ) أي كلفوا أنفسهم أن أخذوا ) ءاياتي ( بالبشارات التي هي المقصودة بالذات لكل ذي روح ) وما أنذروا ( من آياتي ، بني للمفعول لأن الفاعل معروف والمخيف الإنذار ) هزواً ( مع بعدهما جداً عن ذلك ، فلا بالرغبة أطاعوا ، ولا للرهبة ارتاعوا ، فكانوا شراً من البهائم .(4/482)
صفحة رقم 483
الكهف : ( 57 - 58 ) ومن أظلم ممن. .. . .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ ( ( )
ولما حكي عنهم هذا الجدال ، والاستهزاء والضلال ، وصفهم بما يموجب الخزي فقال - عاطفاً على ما تقديره : فكانوا بذلك اظلم الظالمين : ( ومن أظلم ( منهم - استفهاماً على سبيل التقريرن ولكنه أظهر للتنبيه على الوصف الموجب للإنكار على من شك في أنهم أظلم .
فقال تعالى : ( ممن ذكر ) أي من أيّ مذكر كان ) بأيات ) أي علامات ) ربه ( المحسن إليه بهاح قال الأصفهاني : وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الرجل على ما لاجواب فيه إلا الذي يريد خصمه .
ولما كان التذكير سبباً للإقبال فعكسوا فيه قال تعالى : ( فأعرض عنها ( تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجبه ذلك الإحسان من الشكر ) ونسي ما قدمت يداه ( من الفساد الذي هو عارف - لو صرف عقله إلى الفكر فيما ينفعه - أن الحكمة تقتضي جزاءه عليه ، وأفرد الضمير في جميع هذا على لفظ ) من ( إشارة إلى أن من فعل مثل هذا - ولو أنه واحد - كان هكذا ، والأحسن أن يقال : إنهم لما كانوا قد سألوا اليهود عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما أشير إليه عند ) ) ويسألونك عن الروح ( ) [ الإسراء : 85 ] فأمروهم بسؤاله عما جعلوه أمارة على صدقه ، فلم يؤثر ذلك فيهم ، واستمروا بعد إخباره بالحق على التكذيب ، شرح حالهم بالتعقيب بالفاء ، فكان المعنى : من أظلم منهم ، لأنهم ذكروا فأعرضوا ونسوا ما اعتقدوا أنه دليل الصدق ، وأنه لا جدال بعده ، وسيأتي لموقع الفاء في آخر السجدة مزيد بيان ، وإسناد الفعل في الإعراض وما بعده إليهم حقيقة مما لهم من الكسب كما أن إسناد الجعل وما بعده إلى الله حقيقة بما له من الخلق .
ولما كان كأنه قيل : ما لهم فعلوا ذلك ؟ أيجهل قبح هذا أحد ؟ قيل : ( إنا جعلنا ( بما لنا من القدرة على إعماء البصائر والأبصار ) على قلوبهم ( فجمع رجوعاً إلى أسلوب ) واتخذوا ءاياتي ( لأنه أنص على ذم كل واحد ) أكنة ) أي أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الحيز يصل إليها ، فهي لا تعي شيئاً من آياتنا ، ودل بتذكير الضمير على أن المراد بالآيات القرآن فقال تعالى : ( أن ) أي كراهة أن ) يفقهوه ) أي يفهموه ) وفي ءاذانهم وقراً ) أي ثقلاً فهم لا يسمعون حق السمع ، ولا يعون حق الوعي ) وإن تدعهم ) أي تكرر دعاءهم كل وقت ) إلى الهدى ((4/483)
صفحة رقم 484
لتنجيهم بما عندك من الحرص على ذلك والجد ) فلن يهتدوا ) أي كلهم بسبب دعائك ) إذاً ) أي إذا دعوتهم ) أبداً ( لأن من له العظمة التامة - وهو الذي إذا عبر عن نفسه بنونها كانت على حقيقتها - حكم عليها بالضلال ، أي أنه لا يكون الدعاء وحده هادياً لأكثرهم ، بل لا بد معه من السيف كما سنأمرك به فتقطع الرؤوس فيذل غيرهم ، وقد يكون المراد أن من كان هكذا معانداً على هذا الوجه مؤبد الشقاء ، وقد نفى آخر هذه الآية الفعل عن العباد وأثبته لهم أولها ، وقلما نجد في القرآن آية تسند الفعل إليهم إلا قارنتها أخرى تثبيته لله وتنفيه عنهم ، ابتلاء من الله لعباده ليتميز الراسخ - الذي ينسب للمكلفين الكسب المفيد لأثر التكليف ، ولله الخلق المفيد لأنه سبحانه لا شريك له في خلق ولا غيره - من الطائش الذي يقول بالجبر أو التفويض .
ولما كان هذا مقتضياً لأخذهم ، عطف على ما اقتضاه السياق مما ذكرته من العلة قولَه تعالى : ( وربك ( مشيراً بهذا الاسم إلى ما اقتضاه الوصف من االإحسان بأخذ من يأخذ منهم وإمهال غيره لحكم دبرها ؛ ثم أخبر عنه بما ناسب ذلك من أوصافه فقال : ( الغفور ) أي هو وحده الذي يستر الذنوب إما بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت ) ذو الرحمة ) أي الذي يعامل - وهو قادر - مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام ؛ ثم استشهد على ذلك بقوله تعالى : ( لو يؤاخذهم ) أي هؤلاء الذين عادوك وآذوك ، وهو عالم بأنهم لا يؤمنون لو يعاملهم معاملة المؤاخذ ) بما كسبوا ( حين كسبهم ) لعجل لهم العذاب ( واحداً بعد واحد ، ولكنه لا يعجل لهم ذلك ) بل لهم موعد ( يحله بهم فيه ، ودل على أن موعده ليس كموعد غيره من العاجزين بقوله دالاً على كمال قدرته : ( لن تجدوا من دونه ) أي الموعد ) موئلاً ) أي ملجأ ينجيهم منه ، فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأول ظلمهم وآخره .
الكهف : ( 59 - 63 ) وتلك القرى أهلكناهم. .. . .
) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ( ( )
ولما كانت هذه سنته في القرون الماضية والأمم الخالية ، قال تعالى عاطفاً على قوله ( لهم موعد ) مروعاً لهم بالإشارة إلى ديارهم المصورة لدمارهم : ( وتلك القرى ) أي الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم ) أهلكناهم ) أي حكمنا(4/484)
صفحة رقم 485
بإهلاكهم بما لنا من العظمة ) لما ظلموا ) أي اول ما ظلموا ، أو أهلكناهم بالفعل حين ظلمهم لكن لا في أوله ، بل امهلناهم إلى حين تناهيخ وبلوغه الغاية ، فليحذر هؤلاء مثل ذلك ) وجعلنا ) أي بما لنا من العظمة ) لمهلكهم ) أي إهلاكهم بالفعل ) موعداً ) أي وقتاً نحله بهم فيه ومكاناً لم نخلفه ، كما أنا جعلنا لهؤلاء موعداً في الدنيا بيوم بدر والفتح وحنين ونحو ذلك ، وفي الآخرة لن نخلفه ، وكذا كل أمر يقوله نبي من الأنبياء عنا لا يقع فيه خلف وإن كان يجوز لنا ذلك ، بخلاف ما يقوله من نفسه غير مسند إلينا فإنه يمكن وقوع الخلف فيه ، كما وقع في الوعد بالإخبار عن هذه المسائل التخلف أربعين ليلة أو ما دونها على حسب فهمهم أن ) غدا ( على حقيقته .
ولما قدم الكلام على البعث ، واستدل عليه بابتداء الخلق ، ثم ذكر بعض أحواله ، ثم عقبه بما ضرب لذلك وغيره من الأمثالن وصرف من وجوه الاستدلال ، وختم ذلك بأنه يمهل عند المساءة عقب ذلك بأنه كذلك يفعل عند المسرة ، فلكل شيء عنده كتاب ، وكل قضاء بقدر حسابن فذكر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وما اتفق له في طلبهن وجعله سبحانه له الحوت آية وموعداً للقائهن ولو أراد سبحانه لقرب المدى ولم يحوج إلى عناء ، مع ما فيها من الخارق الدال على البعث ، ومن الدليل على أن من ثبت فضله وعلمه لا يجوز أن يعترض عليه إلا من كان على ثفة مما يقوله من ربه ولا أن يمتحن ، ومن الإرشاد إلى ذم الجدل بغير علم ، ووجوب الانقياد للحق عند بيانه ، وظهور برهانه ، ومن إرشاد من استنكف ان يجالس فقراء المؤمنين بما اتفق لموسى عليه السلام من أنه - وهو كليم الله - أتبع الخضر عليه السلام ليقتبس من علمه ، ومن تبكيت اليهود بقولهم لقريش لما أمروهم بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( إن لم يخبركم فليس بنبي ) الموهم للعرب الذين لا يعلمون شيئاً أن من شرط النبي أن لا يخفى عليه شيء ، مع ما يعلمون من أن موسى عليه السلام خفي عليه جمع ما فعله الخضر عليه السلام ، وإلى نحو هذا أشار الخضر عليه السلام بقوله إذ وقع العصفور على حرف السفينة ونقر من البحر نقرة أونقرتين ( ما نقص علمي وعلمك يا موسى من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر ) وبإعلامهم بما يعلمونه من أن موسى عليه السلام جعل نفسه تابعاً للخضر عليه السلام ، تكذيباً لهم في ادعائهم أنه ليس أحدأعلى من موسى عليه السلام في وصف من الأوصاف ، وأنه لا ينبغي لأحد اتباع غيره ، (4/485)
صفحة رقم 486
ومن جوابهم عما لعلهم يقولون للعرب بهتاً وحسداً ( لو كان نبياً ما قال : أخبركم غداً وتأخر عن ذلك ) بما اتفق لموسى في وعده الخضر عليهما السلام بالصبر ، وبما خفي عليه مما اطلع عليه الخضر عليهما السلام ، فقال تعالى عاطفاً على قوله سبحانه ) وإذ قلنا للملائكة ( : ( وإذ ) أي واذكر لهم حين ) قال موسى ) أي ابن عمران المرسل إلى بني إسرائيل ، أي قوله الذي كان في ذلك الحين ) لفتاه ( يوشع بن نون عليهما السلام : ( لا أبرح ) أي لا أزال سائراً في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله - كما دل عليه ما يأتي ) حتى أبلغ مجمع البحرين ) أي ملتقاهما وموضع اختلاطهما الذي سبق إليه فهمي ، فتعينت البداءة به فألقاه ثَمّ ) أو أمضي حقباً ( إن لم أظفر بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعداً لي في لقائه ؛ والحقب - قال في القاموس - ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة أو السنون - انتهى .
وما أنسب التوقيت بمجمع بحري الماء بمجمع بحري العلم وتزودهما بالنون الذي قرنه الله بالقلم وما يسطرون ، وعين الحياة لأن العلم حياة القلوب ، فسارا وتزودا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به ، فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع ) فلما بلغا مجمع بينهما ) أي البحرين ، فلم يكن هناك بين أصلاً لصيرورتهما شيئاً واحداً ) نسيا حوتهما ( فلم يعلم موسى عليه السلام فنسي شيئاً من حاله ونسي أن يسأل عنه ، وعلم يوشع عليه السلام بعض حاله فنسي أن يذكر ذلك له ) فاتخذ ) أي الحوت معجزة في معجزة ) سبيله ) أي طريقه الواسع الواضح ) في البحر سرباً ) أي خرقاً في الماء غير ملتئم ، من السرب الذي هو جحر الوحشين والحفير تحت الأرض ، والقناة يدخل منها الماء الحائطز وقد ورد في حديثه في الصحيح أن الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء ، فصار طاقاً لا يلتئم .
ويوشع عليه السلام ينظر ذلك ، وكأن المجمع كان ممتداً ، فظن موسى عليه السلام أن المطلوب أمامه أو ظن أن المراد مجمع آخر فسار ) فلما جاوزا ) أي موسى وفتاه عليهما السلام ذلك الموضع من المجمع تعب ، ولم يتعب حتى جاوز المكان الذي أمربه معجزةً أخرة ، فلما جاع وتعب ) قال لفتاه ءاتنا ) أي أحضرلنا ) غداءنا ) أي لنتقوى به على ما حصل لنا من الإعياء ، ولذلك وصل به قوله تعالى : ( لقد لقينا من سفرنا ) أي الذي سافرناه في هذا اليوم خاصة ، ولذلك أشار إليه بأداة القرب فقال تعالى : ( هذا نصباً ( وكان الحوت زادهم فلم يكن معه ، فكأنه قيل : فما كان عن أمره ؟ فقيل : ( قال ( لموسى عليه السلام معجباً له : ( أرءيت ( ما دهاني ؟ ) إذ أوينا إلى الصخرة ( التي بمجمع البحرين ) فإني ) أي بسبب أني ) نسيت الحوت ) أي نسيت أن أذكر لك أمره الذي كان هناك ؛ ثم زاد(4/486)
صفحة رقم 487
التعجيب من هذا النسيان بالاعتراض بين الإخبار به مجملاً وبين تفصيل أمره وبإيقاع النسيان عليه ثم على ذكره فقال تعالى : ( وما أنسانيه ( مع كونه عجيباً ) إلا الشيطان ( بوساوسه .
ولما كان المقام للتدريب في عظيم تصرف الله تعالى في القلوب بإثبات العلم ونفيه وإن كان ضرورياً ، ذكر نسيانه ، ثم أبدل من ضميره قوله تعالى : ( أن أذكره ( لك فإنه عاش فانساب من المكتمل في البحر ) واتخذ سبيله ) أي طريقه الذي ذهب فيه ) في البحر عجباً ( وذكه له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا الإنساء ليس مفوتاً لطاعة ، بل فيه ترقية لهما في معارج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية ، وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من آيات الإيقانن وقوله تعالى ) إنما سلطانه على الذين يتولونه ) [ النحل : 100 ] مبين أن السلطان الحمل على المعاصي ، وقد كان في هذه القصة خوارق حياة الحوت وإيجاد ما كان أكل منه ، وإمساك الماء عن مدخله ، وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه أو أتباعه ببركته مثل ذلك .
أما إعادة ما أكل من الحوت المشوي - وهو جنبه - فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء - فذكر قصة المرأة التي أبرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولدها من الجنون إلى أن قال : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجته انصرف حتى إذا نزل ببطن الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها ، فأمر بأخذ تلك الشاة منها ثم قال : ( يا أسيم - ) وكان إذا دعاه رخمه ( ناولني ذراعاً ، ) وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدمها ، ثم قال : ( يا أسيم ناولني ذراعاً ) فناولته ، ثم قال : ( يا أسيم ناولني ذراعاً ) فقلت : يا رسول الله إنما هما ذراعان وقد ناولتك ، فقال : ( والذي نفسي بيده لو سكتَّ ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك : ناولني ذراعاً ) فقد أخبر ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لو سكت أوجد الله لها ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا ، وقوله الحق الذي لا فرق بينه وهو في عالم الغيب وبين ما وجد في عالم الشهادة .(4/487)
صفحة رقم 488
وأما حياة الحوت المشوي فقد مضى عند
77 ( ) والله يعصمك من الناس ( ) 7
[ المائدة : 67 ] ما هو أكبر من ذلك في قصة الشاة المشوية المسمومة ، وهو أن ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مسموم فهو أعظم من عود الحياة من غير نطق ، وكذا حنين الجذع ، وسلام الحجر ، وتسبيح الحصا ، وتأمين أسكفة الباب وحوائط البيت ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً ، فقد روى البيهقي في الدلائل عن عمرو بن سواد قال : قال لي الشافعي : ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقلتك أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى ؟ فقال : أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجذع - الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيئ له المنبر ، فلما هيئ له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته - فهذا أكبر من ذاك - انتهى .
على أنه قد تقدم في آل عمران وفي آخر البقرة في قصة إبراهيم عليه السلام أشياء من إحياء الموتى له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولبعض أمته .
وأما آية الماء فمرجعها إلى صلابته ، ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق ، وقد روى البيهقي في ذلك ما فيه آية من الإحياء بسند منقطع عن أنس رضي الله عنه قال : كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا ، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بجهازه ، فلما أردنا ان نغسله(4/488)
صفحة رقم 489
قال : ائت أمه فأعلمها ، فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ، ثم قالت : اللهم إني أسلمت لك طوعاً ، وخلعت الأوثان زهداً ، وهاجرت إليك رغبة ، اللهم لا تشمت بي عبده الأوثان ، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها ، قال : فوالله ما تقضي كلامها حتى حرك قدميه ، وألقى الثوب عن وجهه ، وعاش حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى هلكت أمه ؛ ثم جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه - يعني جيشاً ، واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي ، قال : وكنت في غزاته ، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد تدروا بنا ، فعفوا آثار الماء ، قال : وكان حر شديد ، فجهدنا العطش ودوانبا ، وذلك يوم الجمعه فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ، ثم مد يده وما نرى في السماء شيئاً ، فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب ، فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة ، فوقف على الخليج وقال : يا علي يا عظيم يا حيلم يا كريم ثم قال : أجيزوا باسم الله فجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا ، فأصبنا العدو غيلة فقلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا .
وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنا إسماعيل الصفار نا الحسن بن علي بن عفان أنبأنا انب نمير عن الأعمش عن بعض أصحابه ، قال : انتهينا إلى دجلة وهي مادة ، والأعاجم خلفها ، فقال رجل من المسلمين : بسم الله ، ثم أقحم فرسه فاندفع على الماء ، فقال الناس : بسم الله بسم الله ، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء ، فلما نظر إليهم الأعاجم قالوا : ديوان ديوان ، ثم ذهبوا على وجوههم ، فما فقدوا إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج ، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها .
أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أنا أبو محمد عبد الله بن محمد السمذي ثنا أبو العباس السراج ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا : ثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى الدجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ، فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال : هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعوا الله - قال البيهقي : هذا إسناد صحيح .
الكهف : ( 64 - 67 ) قال ذلك ما. .. . .
) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ( } )(4/489)
صفحة رقم 490
وفي هذا الأمر من هذه القصة قاصمة للسائلين والآمرين لهم بالسؤال ، لأن المراد - والله أعلم - أن هذا الأمر وقع لنبي هؤلاء المضلين ، فمر قريشاً أن يسألوهم عن هذه القصة ، فإن أخبروهم عنها بمثل ما أخبرتهم فصدقوهم ، لزمهم أن يؤمنوا بالبعث لأمر هذا الحوت الذي أحياه الله بعد أن كان مشوياً وصار كثير منه في البطون ، وإن مل يصدقوهم في هذا وصدقوهم في غيره مما يتعنتون به عليك فهو تحكم ، وإن كانوا يتهمونهم في كل أمر كان سؤالهم لهم عبثاً ، ليس من أفعال من يعقل ، فكأنه قيل : فما قال موسى حينئذ ؟ فقيل : ( قال ( منبهاً على أن ذلك ليس من الشيطان ، وإنما هو إغفال من الله تعالى بغير واسطة ليجدا العلامة التي أخبره الله بها كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إنى لأنسى - أي ينسيني الله تعالى - لأسن ) : ( ذلك ) أي الأمر العظيم من فقد الحوت ) ما كنا نبغ ) أي نريد من هذا الأمر المغيب عنا ، فإن الله تعالى جعله موعداً لي في لقاء الخضر ) فارتدا على ءاثارهما ( يقصانها ) قصصاً ( وهذا يدل على أن الأرض كانت رملاًن لا علم فيها ، فالظاهر - والله أعلم - أنه مجمع النيل والملح الذي عند دمياط ، أو رشيد من بلاد مصر ، ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركبا في سفينته للتغذية - كما في الحديث ، فإن الطير لا يشرب من الملح ، ومن المشهور في بلاد رشيد أن الأمر كان عندهم ، وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون : أنه من نسل تلك السمكة - والله أعلم .
فاستمرا يقصان حتى انتها إلى موضع فقد الحوت ) فوجدوا عبداً من عبادنا ( مضافاً إلى حضرة عظمتنا وهو الخضر عليه السلام ) ءاتيناه ( عظمتنا ) رحمة ) أي وحياً وبنوة ، وكونه نبياً قول الجمهور ) من عندنا ) أي مما لم يجر على الأمور المستبطنة المستغربة التي عندنا مما لم يحدث عن الأسباب المعتادات ، فهو مستغرب عند أهل الاصطفاء ) علماً ( قذفناه في قلبه بغير واسطة ؛ وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي : ( عند ) في لسان العرب لما ظهر ، و ( لدن ) لما بطن ، فيكون المراد بالرحمة ما ظهر من كراماته ، وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعاً أنه خاص بحضرته سبحانه ، فأهل التصوف سموا العلم بطريق المكاشفة العلم اللدني ، فإذا سعى العبد في الرياضيات يتزين الظاهر بالعبادةن وتتخلى النفس عن الأخلاق الرذيلة ، وتتحلى بالأخلاق الجميلة ، وتصير القوى الحسية والخيالية والوهمية في غاية القوة ، وحينئذ تصير القوة العقلية قوية صافية ، وربما كانت النفس بحسب أصل الفطرة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالحوادث البدنية ، شديدة الاستعداد لقبول الأمور الإلهية ، فتشرق فيها الأنوار(4/490)
صفحة رقم 491
الإلهية وتفيض عليها من عالم القدس على وجه الكمال فتحصل المعارف والعلوم من غير تفكر وتأمل ، فهذا هو العلم اللداني .
ثم أورد سبحانه وتعالى القصة على طريق الاستئناف على تقدير سؤال سائل عن كل كلام يرشد إليه ما قبله ، وذلك أنه من المعلوم أن الطالب للشخص إذا لقيه كله ، لكن لا يعرف عين ذلك الكلام فقال لمن كأنه سأل عن ذلك : ( قال له موسى ( طالباً منه على سبيل التأدب والتلطف بإظهار ذلك في قالب الاستئذان : ( هل أتبعك ) أي اتباعاً بليغاً حيث توجهت ؛ والاتباع : الإتيان لمثل فعل الغير لمجرد كونه آتياً به ؛ وبين أنه لا يطلب منه غير العلم بقوله : ( على أن تعلمن ( وزاد في التلطف بالإشارة إلى أنه لا يطلب جميع ما عنده ليطول عليه الزمان بل جوامع منه بسترشد بها إلى باقية فقال : ( مما علمت ( وبناه للمفعول لعلم المخاطبين - لكونهم من الخلص - بأن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ، وللإشارة إلى سهولة كل أمر على الله عز وجل ) رشداً ) أي علماً يرشدني إلى الصواب فيما أقصده ، ولا نقص في تعلم نبي من نبي حتى يدعى أن موسى هذا ليس موسى بن عمران عليه السلام فإنه قد ثبت كونه ابن عمران في الصحيح ، وأتى صلى الله عليه من الرسوخ في العلم ، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر ، كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، فكان طلبه لها أشد ، فكان تعظيمه لأرباب العلوم أكمل .
ولما أتم العبارة عن السؤال ، استأنف جوابه له بقوله تعالى : ( قال ) أي الخضر عليه السلام : ( إنك لن تستطيع ( يا موسى ) معي صبراً ) أي هو من العظمة على ما أريد لما يحثك على عدم الصبر من ظاهر الشرع الذي أمرت به ، فالتنوين للتعظيم بما تؤذن به تاء الاستفعال ، وأكد لما في سؤال موسى عليه السلام من التلطف المؤذن بأنه يصبر عليه ولا يخالفه في شيء أصلاً ، ويؤخذ منه أن العالم إن رأى في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير كان عليه ذكره ، فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة ، وذلك يمنعه من التعلم .
الكهف : ( 68 - 74 ) وكيف تصبر على. .. . .
) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ( ( )(4/491)
صفحة رقم 492
ولما كان المقام صعباً جداً لأنه بالنسبة إلى أوامر الله تعالى ، بينه على وجه أبلغ من نفي الأخص ، وهو الصبر البليغ ، بالتعجب من مطلق الصبر معتذراً عن موسى في الإنكارن وعن نفسه في الفعل ، بأن ذلك بالنسبة إلى الظاهر والباطن ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فكيف تتبعني الاتباع البليغ : ( وكيف تصبر ( يا موسى ) على ما لم تحط به خبراً ) أي من جهة العلم به ظاهراً وباطناً ، فأشار بالإحاطة إلى أنه كان يجوز أن يكون على صواب ، ولكن تجويزاً لا يسقط عنه وجوب الأمر ، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً لما قبله ، فيكون الصبر الثاني هو الأولن والمعنى أنك لا تستطيع الصبر الذي أريده لأنك لا تعرف فعلي على ما هو عليه فتراه فاسداً ) قال ) أي موسى عليه السلام ، آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه ، إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل الله له والنفع به : ( ستجدني ( فأكد الوعد بالسنين ؛ ثم أخبر عنه سبحانه أنه قوى تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدم الحث عليه في هذه السورة في قوله تعالى ) ولا تقولن لشيء إني فاعل ( الآية ليعلم أنه منهاج الأنبياء وسبيل الرسل ، فقال تعالى : ( إن شاء الله ) أي الذي له صفات الكمال ) صابراً ( على ما يجوز الصبر عليه ؛ ثم زاد التأكيد بقوله عطفاً بالواو على ( صابراً ) لبيان التمكن في كل من الوصفين : ( ولا أعصي ) أي وغير عاص ) لك أمراً ( تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله ) قال ) أي الخضر عليه السلام : ( فإن اتبعني ( يا موسى اتباعاً بليغاً ) فلا تسألني عن شيء ( أقوله أو أفعله ) حتى أحدث لك ( خاصة ) منه ذكراً ( يبين لك وجه صوابه ، فإني لا أقدم على شيء إلا هو صواب جائز في نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك .
ولما تشارطا زتراضيا على الشرط سبب قوله تعالى : ( فانطلقا ) أي موسى والخضر عليهما السلام على الساحل ، يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرا ) حتى إذا ركبا في السفينة ( وأجاب الشرط بقوله تعالى : ( خرقها ( وعرفها لإرشاد السياق بذكر مجمع البحرين إلى أن انطلاقهما كان لطلب سفينة ، فكانت لذلك كأنها مستحضرة في الذهن ، ولم يقرن ( خرق ) بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب ولا كان في أول أحيانه ؛ ثم استأنق قوله تعالى : ( قال ) أي موسى عليه السلام ، منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس ، ناسياً لما عقد على نفسه لما دهمه مما عنده من الله - وهو الإله العظيم - من العهد الوثيق المكرر في جميع أسفار التوراة بعد إثباته في لوحي الشهادة في العشر كلمات التي نسبتها من التوراة كنسبة الفاتحة من القرآن بالأمر القطعي أنه لا يقر على منكر ، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور ، على أنه لا يقر على منكر ، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور ، على(4/492)
صفحة رقم 493
أنه لو لم ينس لم يترك الإنكار ، كما فعل عند قتل الغلام ، لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد ، لأن المستثنى وضعاً ، ففي الأولى نسي الشرط ، وفي الثانية نسي - لما دهمه من فظاعة القتل الذي لم يعلم فيه من الله أمراً - أنه ينبغي تقليده لثناء الله تعالى عليه : ( أخرقتها ( وبين عذره في الإنكار بما في غاية الخرق من الفظاعة فقال : ( لتغرق أهلها ( والله ) لقد جئت شيئاً إمراً ) أي عظيماً منكراً عجيباً شديداً ) قال ) أي الخضر عليه السلام : ( ألم أقل ذلك ( يا موسى ) لن تستطيع معي صبراً ( فذكره بما قال له عند الشرط ) قال ( موسى : ( لا تؤاخذني ( يا خضر ) بما نسيت ( من ذلك الاشتراط ) ولا ترهقني ) أي تلحقني بما لا أطيقه وتعجلني عن مرادي بابتاعك على وجه القهر ناسباً لي إلى السفه والخفة وركوب الشر ) من أمري عسراً ( بالمؤاخذة على النسيان ، فكل منهما صادق فيما قال ، موف بحسب ماعنده ، أما موسى عليه على السلام فلأنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى عما يعتقده منكراً ، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر لأنه لا يقدم على منكر ، ومع ذلك فما نفي إلا الصبر البليغ الذي دل عليه بزيادة تاء الاستفعال ، وقد حصل ما يطلق عليه صبر .
لأنه لما ذكره كف عنه لما تذكر بثناء الله عليه أنه لا يفعل باطلاً ، ولم يحصل الصبر البليغ الذي في نفس الخضر بالكسوت في أول الأمر وآخره ) فانطلقا ( بعد نزولهما من السفينة وسلامتها من الغرق والغصب ) حتى إذا لقيا غلاماً ( لم يبلغ الحلم وهو في غاية القوة ) فقتله ( حين لقيه - كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط .
ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع : ( قال ) أي موسى عليه السلام : ( أقتلت ( يا خضر ) نفساً زكية ( بكونها على الفطرة الأولى من غير أن تدنس بخطيئة توجب القتل ) بغير نفس ( قتلتها ليكون قتلك لها قوداً ؛ وهذا يدل على أنه كان بالغاً حتى إذا قيل قتيلاً أمكن أمكن قتله به إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ ؛ ثم استأنف قوله : ( لقد جئت ( في قتلك إياها ) شيئاً ( وصرح بالإنكار في قوله : ( نكراً ( لأنه مباشرة .
والخرق تسبب لا يلزم منه الغرق .
الكهف : ( 75 - 79 ) قال ألم أقل. .. . .
) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ( ( )(4/493)
صفحة رقم 494
ولما كانت هذه ثانية ) قال ( الخضر عليه السلام : ( ألم أقل ( وزاد قوله : ( لك إنك ( يا موسى ) لن تستطيع معي ) أي خاصة ) صبراً قال ( موسى عليه السلام حياء منه لما أفاق بتذكر مما حصل من فرط الوجد لأمر الله فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر الله : ( إن سألتك عن شيء بعدها ( يا أخي وأعلم بشدة ندمه على الإنكار بقوله : ( فلا تصاحبني ( بل فارقتني ؛ ثم علل ذلك بقوله ) قد بلغت ( وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال : ( من لدني عذراً ( باعتراضي مرتين واحتمالك لي فيهما .
وقد أخبرني الله بحسن حالك في غزارة علمك ) فانطلقا ( بعد قتله ) حتى إذا أتيا أهل قرية ( عبر عنها هنا بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذم ، لأن مادة قرا تدور على الجمع الذي يلزمه الإمساك كما تقدم في آخر سورة يوسف عليه السلام ؛ ثم وصفها ليبين أن لها مدخلاً في لؤم أهلها بقوله تعالى : ( استطعما ( وأظهر ولم يضمر في قوله : ( أهلها ( لأن الاستطعام لبعض من أتوه ، أوكل من الإتيان والاستطعام لبعض ولكنه غير متحد ، وهذا هو الظاهر ، لأنه هو الموافق للعادة .
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل : ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان سنين الأفهام في القرآن : اعلم أن لوقوع الإظهار والإضمار في بيان القرآن وجهين : أحدهما يتقدم فيه الإظهار وهو خطاب المؤمنين بآيات الآفاق وعلى نحوه هو خطاب الخلق بعضهم لبعض لا يضمرون إلا بعد أن يظهروا ، والثاني يتقدم فيه الإضمار وهو خطاب الموقنين بآية الأنفس ، ولم يصل إليه تخاطب الخلق .
فإذا كان البيان عن إحاطة ، تقدم الإضمار ) قل هو الله أحد ( وإذا كان عن اختصاصن تقدم الإظهار ) الله الصمد ( وإذا رد عليه بيان على حدة أضمر ) لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) أي هذا الذي عم بأحديته وخص يصمديته ، أو بجمع المضمر والمظهر
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ( ) 7
[ الحجرات : 1 ]
77 ( ) إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد ( ) 7
[ البروج : 12 ]
77 ( ) هو الله لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ( ) 7
[ الحشر : 22 ] والتفطن لما اختص به بيان القرآن عن بيان الإنسان من هذا النحو من مفاتيح أبواب الفهم ، ومن نحوه ) أتيا أهل قرية استطعما أهلها ( استأنف للمستطعمين إظهاراً غير إظهار المأيين - انتهى .
وجعل السبكي الإتيان للبعض ، والاستطعام للكل ، لأنه أشد ذماً وأدل على شر طبعها ، ومن قال بالأول مؤيد بقول(4/494)
صفحة رقم 495
الشافعي في كتاب الرسالة في باب ما نزل من الكتاب عاماً يراد به العام ويدخلها الخصوص وهو بعد البيان الخامس في قول عز وجل ) حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها ( : وفي هذه الآية أدل دلالة على أنه لم يستطعما كل أهل القرية وفيها خصوص - انتهى ، وبيان ذلك أن نكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى ، وإذا أعيدت معرفة كانت عيناً في الأغلب .
ولما أسند الإتيان إلى أهل القرية كان ظاهره تناول الجميع ، فلو قيل : استطعماهم لكان المراد بالضمير عين المأتين ، فلما عدل عنه - مع أنه أخصر - إلى الظاهر ولا سيما إن جعلناه نكرة كان غير الأولى وإلا لم يكن للعدول فائدة ، وقد كان الظاهر أن الأول للجميع فكان الثاني للبعض ، وإلا لم يكن غيره ولا كان للعدول فائدة .
) فأبوا ) أي فتسبب عن استطهامهما أن أبى المستطعمون من أهل القرية ) أن يضيفوهما ) أي ينزلوهما ويطعموهما فانصرفا عنهم ) فوجدوا فيها ) أي القرية ، ولم يقل : فيهم ، إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع ) جداراً ( مشرفاً على السقوط ، وكذا قال مستعيراً لما لا يعقل صفة ما يعقل : ( يريد أن ينقض ) أي يسقط سريعاً فمسحه الخضر بيده ) فأقامه ( .
ولما انقضى وصف القريى وما تسبب عنه أجاب ( إذا ) بقوله : ( قال ) أي له موسى عليه السلام : ( لو شئت لتخذت ( لكوننا لم يصل إلينا منهم شيء ) عليه ) أي على إقامة الجدار ) أجراً ( نأكل به ، فلم يعترض عليه في هذه المرة لعدم ما ينكر فيها ، وإنما ساق ما يترتب عليها من ثمرتها مساق العرض والمشورة غيرأنه يتضمن السؤال ) قال ( الخضر عليه السلام : ( هذا ) أي الوقت أو السؤال .
ولما كان ذلك سبب الفراق أو محله ، سماه به مبالغة فقال : ( فراق بيني وبينك ( يا موسى بعد أن كان البينان بيناً واحداً لاتصالهما فلا بين ، فهو في الحقيقة فوق ما كان متصلاً من بينهما ، أو فراق التقاول الذي كان بيننا ، أي الفراق الذي سببه السؤال ، وإذا نزل على الاحتباك ازداد ظهوراً ، تقديره : فراق بيني وبينك كما أخبرت ، وفراق بينك من بيني كما شرطت ، وقد أثبتت هذه العبارة الفراق على أبلغ وجه ، وذلك أنه إذا وقع فراق بيني من بينك بحائل يحول بينهما فقد وضع منك بطريق الأولى ، وحقيقته أن البين هو الفراغ المنبسط الفاصل بين الشيئين وهو موزع بينهما ، فبين كل منهما من منتصف ذلك الفراغ إليه ، فإذا دخل في ذلك إلى كل منهما من البينين ، وحينئذ يكون بينهما مباينة ، أي أن بين كل منهما غير بين الآخر ومن قال : إن معنى ( هذا فراق بيننا ) زوال الفصل ووجود الوصل ، كذبه أن معنى ( هذا اتصال بيننا ) المواصلة ، فلو كان هذا معنى ذاك أيضاً لاتحد معنى ما يدل(4/495)
صفحة رقم 496
على الوصل بمعنى ما يدل على الفصل ، وقد نبه الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام - كما في تفسير الأصبهاني وغيره - بما فعل الخضر عليه السلام على ما وقع له هو من مثله سواء بسواء ، فنبهه - بخرق السفينة الذي ظاهره هلك وباطنه نجاة من يد الغاصب - على التابوت الذي أطبق عليه وألقي في اليم خوفاً عليه من فرعون الغاصب فكان ظاهره هلكاً وباطنه نجاة ، وبقتل الغلام على أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر في قتله القبطي وإن لم يكن إذ ذاك يعلمه لكونه لم ينبأ ، وبأقامة الجدار من غير أجر على سقيه لبنات شعيب عليهم السلام من غير أجر مع احتياجه لذلك .
ولما كان من المعلوم شدة استشراف موسى عليه السلام إلى الوقوف في باطن هذه الأمور ، قال مجيباً له عن هذا السؤال : ( سأنبئك ( يا موسى بوعد لا خلف فيه إنباء عظيماً ) بتأويل ) أي بترجيع ) ما لم تستطع عليه صبراً ( لمخالفته عندك الحكمة إلى الحكمة وهو أن عند تعارض الضررين يجب ارتكاب الأدنى لدفع الأقوى بشرط التحقق ، وأثبت إلى صعوبة ما حمل موسى من ذلك ، لا مطلق القدرة على الصبر ) أما السفينة ( التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها ) فكانت لمساكين ( وهو دليل للشافعي على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين ، لأن هؤلاء يملكون سفينة ) يعلمون في البحر ( ليستعينوا بذلك على معاشهم .
ولما كان التعييب من فعله ، أسنده إليه خاصة ، تأدباً مع الله تعالى فقال : ( فأردت أن أعيبها ( فإن تفويت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكليف أهلها لوحاً يسدونها به أخف ضرراً من تفويتهم منفعتها أخذاً وأساً بأخذ الملك لها ، ولم أرد إغراق أهلها كما هو المتبادر إلى الفهم ؛ ثم عطف على ذلك علة فعله فقال : ( وكان وراءهم ) أي أمامهم ، ولعله عبر بلفظ ( وراء ) كناية عن الإحاطة بنفوذ الأمر في كل وجهة وراتهم و واروها ، وفسره الحرالي في سورة البقرة بأنه وراءهم في غيبته عن علمهم وإن كان أمامهم في وجهتهم ، لأنه فسر الوراء بما لا يناله الحس ولا العلم حيثما كان من المكان ، قال : فربما اجتمع أن يكون الشيء ، وراء من حيث إنه لا يعلم ، ويكون أماماً في المكان .
) ملك يأخذ ( في ذلك الوقت ) كل سفينة ( ليس فيها عيب ) غصباً ( من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به .
الكهف : ( 80 - 82 ) وأما الغلام فكان. .. . .
) وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ(4/496)
صفحة رقم 497
وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) 73
( ) 71
ولما كان كل من الغصب والمسكنة سبباً لفعله ، قدمها على الغصب ، إشارة إلى أن أقوى السببين الحاملين على فعله الرأفة بالمساكين ) وأما الغلام ) أي الذي قتلته ) فكان أبواه مؤمنين ( وكان هو مطبوعاً على الكفر - كما يأتي في حديث أبيّ رضي الله عنه .
ولما كان يحتمل عند الخضر عليه السلام أن يكون هذا الغلام مع كفره في نفسه سبباً لكفر أبويه إن كبر ، وكان أمر الله له بقتله مثل فعل من يخشى ذلك ، أسند الفعل إليهما في قوله : ( فخشينا أن يرهقهما ) أي يغشيهما ويلحقهما إن كبر بمحبتهما له أو بجراءته وقساوته ) طغياناً ) أي تجاوزاً في الظلم وإفراطاً فيه ) وكفراً ( لنعمتها فيفسد دنياهما أو يحملهما حبهما له على الطغيان والكفر بالله طاعة فيفسد دينهما ، روى مسلم في القدر وأبو داود في السنة والترمذي في التفسير عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً ، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً ) وهذا حديث : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) يدل على أن العذاب - على ما لو وجد شرطه لوقع - إنما يكون على ما كان جبلة وطبعاً ، لا ما كان عارضاً ، وإلا لعذب الأبوان على تقدير أن يكون المعلوم من الكفر منهما .
ولما ذكر ما يلزم علي تقدير بقائه من الفساد سبب عنه قوله : ( فأردنا ) أي بقتله وإراحتهما من شره ، ولما كان التعويض عن هذا الولد لله وحده ، أسند الفعل إليه في قوله : ( أن يبدلهما ربهما ) أي المحسن إليهما بإعطائه وأخذه ) خيراً منه زكاة ( طهارة وبركة ، أي من جهة كونه كان ظاهر الزكاء في الحال ، وأما في المآل فلو عاش كان فيه خبيثاً ظاهر الخبث ، وهذا البدل يمكن أن يكون الصبر ، ويمكن أن يكون ولداً آخر ، وهو المنقول وأنها كانت بنتاً ) وأقرب رحماً ( براً بهما وعطفاً عليهما ورحمة لهما فكان الضرر اللاحق لهما بالتأسف عليه أدنى من الضرر اللاحق لهما عند كبره بإفساد دينهما أو دنياهما ) وأما الجدار ( الذي أشرت بأخذ الأجر عليه ) فكان لغلامين ( ودل على كونهما دون البلوغ بقوله ) يتيمين ( .(4/497)
صفحة رقم 498
ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة ، وكان التعبير أولاً أليق ، لأنها مستقة من معنى الجمع ، فكان ألقيق بالذم في ترك الضيافة لإشعاره ببخلهم حالة الاجتماع وبمحبتهم للجمع والإمساك ، وكانت المدينة بمعنى الإقامة ، فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يقيمون فيها ، فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز ، قال : ( في المدينة ( فلذلك أقمته احتساباً ) وكان تحته كنز ) أي مال مدخور ) لهما ( لو وقع لكان أقرب إلى ضياعه ) وكان أبوهما صالحاً ( ينبغي مراعاته وخلفه في ذريته بخير .
ولما كان الإبلاغ إلى حد البلوغ والاستخراج فعل الله وحده ، أسند إليه خاصة فقال : ( فأراد ربك ) أي المحسن إليك بهذه التربية ، إشارة إلى ما فعل بك من مثلها قبل النبوة كما بين ) أن يبلغا ) أي الغلامان ) أشدهما ) أي رشدهما وقوتهما ) ويستخرجا كنزهما ( لينتفعا به وينفعا الصالحين ) رحمة ( بهما ) من ربك ) أي الذي أحسن تربيتك وأنت في حكم اليتيم فكان التعب في إقامة الجدار مجاناً أدنى من الضرر اللازم من سقوطه لضياع الكنز وفساد الجدار ، وقد دل هذا على أن صلاح الآباء داعٍ إلى العناية بالأنباء ، روي عن الحسن بن علي رضي الله عهنما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ الله كنز الغلامين ؟ قال : بصلاح أبيهما ، قال فأبي وجدي خير منه ، قال أنبأنا الله أنكم قوم خصمون .
) وما فعلته ) أي شيئاً من ذلك ) عن أمري ( بل عن أمر من له الأمر ، وهو الله .
ولما بان سر تلك القضايا ، قال مقدراً للأمر : ( ذلك ) أي لشرح العظيم ) تأويل ما لم يسطع ( يا موسى ) عليه صبراً ( وحذف تاء الاستطاعه هنا لصيرورة ذلك - بعد كشف الغطاء - في حيز ما يحمل فكان منكره غير صابر أصلاً لو كان عنده مكشوفاً من أول الأمر ، وسقط - ولله الحمد - بما قررته في هذه القصة ما يقال من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر في قول سليمان عليه السلام المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تلد فارساً يجاهد في سبيل الله ، فلم تلد منهن إلا واحدة جاءت بشق آدمي أنه لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا فرساناً أجمعون ) فأفهم ذلك أن لك نبي استثنى في خبره صدقة الله تعالى كما وقع للذبيح أنه قال :
77 ( ) ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ) 7
[ الصافات : 102 ] فوفى ، فما لموسى عليه السلام - وهو من أولي العزم - فعل مع الاستثناء ما فعل ؟ فإن(4/498)
صفحة رقم 499
الذبيح صبر على ما هو قاطع بأنه بعينه أمر الله ، بخلاف موسى عليه السلام فإنه كان ينكر ما ظاهره منكر العلم بأنه من أمر الله ، فإذا نبه صبر ، وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( يرحم الله أخي موسى وددنا لو أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما ) فمعناه : صبر عن الإذن للخضر عليه السلام في مفارقته في قوله ) فلا تصاحبني ( ويدل عليه أن في رواية لمسلم ( رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ) ) قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ( .
فتحرر أنه وفي بمقام الشرع الذي أقامه الله فيه فلم يخل بمقام الصبر الذي ليس فيه ما يخالف ما يعرف ويستحضر من الشرع ، وكيف لا وهو من أكابر أولي العزم الذين قال الله تعالى لأشرف خلقه في التسليك بسيرهم
77 ( ) فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ( ) 7
[ الأحقاف : 35 ] وقال تعالى :
77 ( ) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ( ) 7
[ الأنعام : 90 ] وقال عليه السلام فيما خرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوذي من بعض من كان معه في حنين فتلوّن وجهه وقال : ( يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) وعلم أن في قصته هذه حثاً كثيراً على المجاهرة بالمبادرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرو المصابرة عليه ، وأن لا يراعي فيه كبير ولا صغير إذا كان الإمراء على ثقة من أمره في الظاهر بما عنده في ذلك من العلم عن الله ورسوله وأئمة دينه ، وتنبيهاً على أنه لا يلزم من العلم اللدني - سواء كان صاحبه نبياً أو ولياً - معرفة كل شيء كما يدعيه أتباع بعض الصوفية ، لأن الخضر سأل موسى عليهما السلام : من أنت ؟ وهل هو موسى نبي بني إسرائيل - كما سيأتي .
روى البخاري في التفسير من روايات نختلفة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبي بن كعب رضي الله عنه حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( موسى رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - ذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولّى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك ؟ قال : لا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى إليه : بلى عبد من عبادي بمجمع البحرين ، قال : أي رب كيف السبيل إليه ؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث ما فقدته فاتبعه - وفي رواية : خذ نوناً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح - فخرج ومعه فتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى الصخرة ، فوضع موسى رأسه فنام في ظل الصخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت -(4/499)
صفحة رقم 500
وفي رواية : وفي أصل تلك الصخرة عين يقال له الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيى ، فأصاب الحوت من ماء العين فانسل من المكتل فدخل البحر - فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر ، فقال فتاه : لا أوقظه ، حتى إذا نسي أن يخبره ، فذكر سفرهما وقول موسى عليه السلام ) لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ( قال : قد قطع الله عنك النصب ، فرجعا فوجدا خضراً على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال : هل بأرضي من سلام ؟ من أنت ؟ قال : أنا موسى قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم قال : فما شأنك ؟ قال : جئت لتعلمني ، قال : أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك ؟ يا موسى إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه ، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه - أي لا ينبغي لك أن تعمل بالباطن ولا ينبغي لي أنا أن أقف مع الظاهر ، أطلق العلم على العمل لأنه سببه - فانطلقا يمشيان على الساحل ، فوجدوا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر ، فعرف الخضر فقالوا : عبد الله الصالح لا تحمله بأجر ، فحملوهم في سفينتهم بغير نول : بغير أجر - فركبا السفينة ، ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر ؛ وفي رواية : فأخذ بمنقاره من البحر ، وفي رواية : فنقر أو نقرتين فقال : والله ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا البحر ، فلم يفجأ موسى إلا الخضر الأولى عمد إلى قدوم فخرق السفينة ووتد فيها وتداً فذكر إنكاره وجوابه ثم قال : وكانت الأولى من موسى نسياناً ، والوسطى شرطاً ، والثالثة عمداً - فذكر القصة ، وقال في آخرها : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما .
الكهف : ( 83 - 90 ) ويسألونك عن ذي. .. . .
) وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً ( ( )(4/500)
صفحة رقم 501
ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم ، عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد ، وقدم الأولى إشارة إلى علو درجة العلم لأنه أساس كل سعادة ، وقوام كل أمر ، فقال عاطفاً على
77 ( ) ويجادل الذين كفروا بالباطل ( ) 7
[ الكهف : 56 ] ) ويسألونك عن ( الرجل الصالح المجاهد ) ذي القرنين ( سمي لشجاعته أو لبلوغه قرني مغرب الشمس ومشرقها ، أو الانقراض قرنين من الناس في زمانه ، أو لأنه كان له ضفيرتان من الشعر أو لتاجه قرنان ، وهو الإسكندر الأول - نقل ابن كثير عن الأزرقي أنه كان على زمن الخليل عليه السلام ، وطاف معه بالبيت ، ومن المناسبات الصورية أن في قصة كل منهما ثلاثة أشياء آخرها بناء جدار لا سقف له ، وإنما هو لأجل حفظ ما يهتم به خوف المفسدن وصدّرها بالإخبار عن سؤالهم إشارة إلى أنهم لم يسألوا عن التي قبلها على ما فيها من العجائب وللطائف ، والأسرار والمعارف ، تبكيتاً لليهود في إغفال الأمر بالسؤال عنها إن كان مقصودهم الحق ، وإن لم يكن مقصوداً لهم كانوا بالتبكيت أجدر ، أو تكون معطوفة على مسألتهم الأولى وهي الروح ، وصدرها بالإخبار بالسؤال تنبيهاً على ذلك لطول الفصل ، إشارة إلى أن ذلك كله مرتبط بجوابهم ارتباط الدر بالسلك .
ولما كان من المعلوم أنه يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : فبماذا أجيبهم ؟ قال : ( قل ) أي لهم : ( سأتلوا ) أي أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان إن أعلمني الله به ) عليكم ( أيها المشركون وأهل الكتاب المعلمون لهم مقيداً بأن شاء الله كما سلف لك الأمر به ) منه ذكراً ( كافياً لكم في تعرف أمره ، جامعاً لمجامع ذكره .
ولما كانت قصته من أدل دليل على عظمة الله ، جلاها في ذلك المظهر فقال : ( إنا ( مؤكداً لأن المخاطبين بصدد التعنت والإنكار ) مكنا ) أي بما لنا من العظمة ، قيل : بالملك وحده ، وقيل مع النبوة ، لأن ما ينسب إلى الله تعالى على سبيل الامتنان والإحسان جدير بأن يحمل على النهاية لا سيما إذا عبر عنه بمظهر العظمة ) له في الأرض ( مكنة يصل بها إلى جميع مسلوكها ، ويظهر بها على سائر ملوكها ) وءاتيناه ( بعظمتنا ) من كل شيء ( يحتاج إليه في ذلك ) سبباً ( قال أبو حيان : وأصل السبب الحبل ، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود .
فأراد بلوغ المغرب ، ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه ) فأتبع ) أي بغاية جهده - هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو بالتشديد ، والمعنى على قراءة الباقين بقطع الهمزة وإسكان الفوقانية : ألحق بعض الأسباب ببعض ، وذلك تفسير لقراءة التشديد ) سبباً ( يوصله(4/501)
صفحة رقم 502
إليه ، واستمر متبعاً له ) حتى إذا بلغ ( في ذلك المسير ) مغرب الشمس ) أي الحد الذي لا يتجاوزه آدمي في جهة الغرب ) وجدها ( فيما يحس بحاسة لمسه ) تغرب ( كما أحسه بحاسة بصره من حيث إنه متصل بما وصل إليه بيده ، لا حائل بينه وبينه ) في عين حمئة ) أي ذات حمأة أي طين أسود ، وهي مع ذلك حارة كما ينظر من في وسط البحر أنها تغرب فيه وتطلع منه وعنده القطع بأن الأمر ليس كذلك ) ووجد عندها ) أي على الساحل المتصل بتلك العين ) قوماً ( كفاراً لهم قوة على ما يحاولونه ومنعة ، فكأنه قيل : ماذا أمر فيهم ؟ فأجيب بقوله : ( قلنا ( بمظهر العظمة : ( يا ذا القرنين ( إعلاماً بقربه من الله وأنه لا يفعل إلا ما أمره به ، إما بواسطة الملك إن كان نبياً وهو أظهر الاحتمالات ، أو بواسطة نبي زمانه ، أو باجتهاده في شريعته الاجتهاد المصيب ، ) إما أن تعذب ) أي هؤلاء القوم ببذل السيف فيهم بكفرهم ) وإما أن تتخذ ) أي بغاية جهدك ) فيهم حسناً ( أمراً له حسن عظيم ، وذلك هو البداءة بالدعاء ، إشارة إلى أن القتل وإن كان جائزاً فالأولى أن لا يفعل إلا بعد اليأس من الرجوع عن موجبه ) قال أما من ظلم ( باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله ، وإلى ذلك أشار بقوله : ( فيعذبه عذاباً نكراً ( شديداً جداً لم يعهد مثله لكفره لنعمته ، وبذل خيره في عبادة غيره ، وفي ذلك إشارة بالتهديد الشديد لليهود الغارين لقريش ، وإرشاد لقريش إلى أن يسألوهم عن قوله هذا ، ليكون قائداً لهم إلى الإقرار بالبعث ) وأما من ءامن وعمل صالحاً ( تصديقاً لما أخبر به من تصديقه ) فله ( في الدارين ) جزاء ( طريقته ) الحسنى ( منا ومن الله بأحسن منها ) وسنقول ( بوعد لا لخف فيه بعد اختباره بالأعمال الصالحة ) له ) أي لأجله ) من أمرنا ( الذي نأمر به فيه ) يسراً ) أي قولاً غير شاق من الصلاة والزكاة والخراج والجهاد وغيرها ، وهو ما يطيقه ولا يشق عليه مشقة كبيرة ) ثم أتبع ( لإرادته بلوغ مشرق الشمس ) سبباً ( من جهة الجنوب يوصله إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مر عليها ) حتى إذا بلغ ( في مسيره ذلك ) مطلع الشمس ) أي الموضع الذي تطلع عليه أولاً من المعمور من الأرض ) وجدها تطلع على قوم ( على ساحل البحر لهم قوة شديدة ) لم نجعل لهم ( ولما كان المراد التعميم ، أثبت الجار فقال : ( من دونها ) أي من أدنى الأماكن إليهم أول ما تطلع ) ستراً ( يحلة بينهم وبين المحل الذي يرى طلوعها منه من البحر من جبل ولا أبنية ولا شجر ولا غيرها .(4/502)
صفحة رقم 503
الكهف : ( 91 - 102 ) كذلك وقد أحطنا. .. . .
) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ يذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ( ( )
ولما كان أمره مستغرباً في نفسه وفي الاطلاع عليه لا سيما عند القرب ، قال تعالى : ( كذلك ) أي أمره كما ذكرنا لكم على سبيل الاقتصار ) وقد أحطنا ( بما لنا من العظمة ، ) بما لديه ) أي كله من الأمور التي هي أغرب المستغرب ) خبراً ) أي من جهة بواطن أموره فضلاً عن ظواهرها ، فلا تستغرب إخبارنا عن ذلك ولا عن أمر أصحاب الكهف ، ولا يظن أن تفضيل أمر الوح خفي عنا ، لأنا مطلعون على خفايا الأمور وظواهرها ، شواهدها وغوائبها ، وكيف لا ونحن أوجدنا ولكنا لا نذكر من ذلك إلا ما نريد على ما تدعو إليه الحكمة ، فلو شئنا لبسطنا هذه القصة وقصة أهل الكهف وفصلنا أمر الروح تفصيلاً يعجز عن حفظه الألباء ) ثم أتبع ( في إرادته ناحية السد مخرج يأجوج ومأجوج ) سبباً ( من جهة الشمال ، واستمر أخذاً فيه ) حتى إذا بلغ ( في مسيره ذلك ) بين السدين ) أي الجبلين المانعين من وراءهما من الوصول منهما إلى من أمامهما وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي بلاد أرمينية وآذربيجان ، أملسان يزلق عليهما كل شيء ؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عم عاصم بفتح السين ، والباقون بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وقيل : المضموم من فعل الله ، والمفتوح من فعل الناس .
) وجد من دونهما ) أي بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين ) قوماً ) أي أقوياء لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم من بقية البلاد ، فهم لذلك ) لا يكادون يفقهون قولاً ) أي لا يقربون من أن يفهموه ممن ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم ، ودل وصفهم بما يأتي على أنهم يفهمزن فهماً ما بعد بُعد ومحاولة طويلة ، لعدم ماهر بلسانهم ممن مع ذي القرنين ، وعدم ماهر منهم بلسان أحد ممن معه ، وهذا يدل على أن بينهم وبين(4/503)
صفحة رقم 504
بقية سكان الأرض غير يأجوج ومأجوج براري شاسعة ، وفيافي واسعة ، منعت من اختلاطهم بهم ، وأن تطيعهم بلسان غيرهم بعيد جداً لقلة حفظهم لخروج بلادهم عن حد الاعتدال ، أو لغير ذلك أنهم لا يكادون يفهمون غيرهم شيئاً من كلامهم ، وذلك معنى قراءة حمزة والكسائي بضم التحتانية وكسر القاف ، ودل على أن عدم فهمهم وأفهامهم مقيد بما مضى قوله : ( قالوا ) أي مترجموهم أو جيرانهم - الذين من دونهم - كما في مصحف ابن مسعود ممن يعرف بعض كلامهم ، أو بالإشارة كما يخاطب إليكم : ( يا ذا القرنين ( مسنا الضر ) إن يأجوج ومأجوج ( وهما قبيلتان من الناس من أولاد يافث ، لا يطاق أمرهم ، ولا يطفأ جمرهم ، وقد ثبت في الصحيح في حديث بعث النار أنهم من ذرية آدم عليه السلام ) مفسدون في الأرض ( بأنواع الفساد ) فهل نجعل لك خرجاً ( نخرجه لك من أموالنا - هذا على قراءة الجماعة ، وزاد حمزة والكسائي ألفاًن فقيل : هما بمعنى واحد ، وقيل : بل الخرج ما تبرعت به ، والخراج بالألف ما لزمك .
) على أن تجعل ( في جميع ما ) بيننا وبينهم ( من الأرض التي يمكن توصلهم إلينا منها بما آتاك الله من المكنة ) سداً ( يصل بين هذين الجبلين ) قال ( بعفة وديانة وقصد للخير : ( ما مكني ( .
ولما كان لمكنته حالتان : إحداهما ظاهرة ، وهي ما شوهد من فعله بعد وقوعه ، وباطنه ولا يقع أحد عليها بحدس ولا توهم ، لأنها مما لم يؤلف مثله ، فلا يقع المتوسم عليه ، قرأ ابن كثير بإظهار النون في ) مكنني ( وغيره بالإدغام ، إشارة إليهما .
ولما كان النظر إلى ما يقع المكنة فيه أكثر ، قدم ضميره فقال : ( فيه ربي ) أي المحسن إليّ بما ترون من الأموال والرجال ، والفهم في إتقان الأمور ، والتوصل إلى جميع المكن للمخلوق ) خير ) أي من خرجكم الذي تريدون بذله لمكنتي كما قال سليمان عليه السلام
77 ( ) فما آتانيَ الله خيرمما آتاكم ( ) 7
[ النمل : 36 ] ) فأعينوني بقوة ) أي آلات وعمال أتقوى بها في فعل ذلكن فإن أهل البلاد أخبر بما يصلح في هذا العمل من بلادهم وما معي إنما هو للقتال وما يكون من أسبابه ، لا لمثل هذا ) أجعل بينكم ) أي بين ما تختصون به ) وبينهم ردماً ) أي حاجزاً حصيناً موثقاً بعضه فوق بعض ، مع التلاصق المتلاحم الموجب لأن لا يميز بعضه من بعض وهو أعظم من السد ؛ قال البغوي : فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الضخر وطينه النحاس يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض .
) ءاتوني ( بفتح الهمزة بعدها(4/504)
صفحة رقم 505
ساكنة ، ومدها على قراءة أي أعطوني وبهمزة وصل ، وهمزة بعدها ساكنة أي جيئوني وتعالوا إليّ فقد أجبتكم إلى سؤالكم ، ثم ابتدأ مغرياً على هذه القراءة فقال : ( زبر الحديد ) أي عليكم به فأحضروا إليّ قطعة ، فأتوه بذلك فردم ما فوق الأساس بعضه على بعض صفاً من الحديد وصفاً من الحطب ، قال البغوي : فلم يزل يجعل قطع الحديد على الحطب والحطب على الحديد .
) حتى إذا ساوى ) أي بذلك البناء ) بين الصدفين ) أي أعلى منقطع الجبلين الموصوفين ، سميا لتصادفهما - أي تقابلهما وتقاربهما - بالبناء على تلك الحالة عرضاً وطولاً ، وقراءة من فتح الصاد والدال - وهم نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم - دالة على أن تقابلهما في غاية الاستقامة ، فكأنهما جدار فتح فيه باب ، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر بضمهما دالة على أنه مع ذلك في غاية القوة حتى أن أعلاه واسفله سواء ، وقراءة شعبة عن عاصم بالضم وإسكان الدال على أشد ثبات وأتقنه في كل منهما ، فلا ينتخر شيء منهما على طول الزمان بريح ولا غيرها من فساد في أحد الجانبين برخاوة من سياخ أو غيره ) قال ) أي للصناع : ( انفخوا ( في الأكوار فنفخوا فأضرم فيه النار ، واستمر كذلك ) حتى إذا جعله ) أي كله ) ناراً قال ( للقوم : ( ءاتوني ( بالنحاس ) أفرغ عليه ) أي الحديد المحمى ) قطراً ( منه بعد إذابته ، فإن القطر : النحاس الذائب ، هذا في قراءة حمزة وأبي بكر عن عاصم بإسكان الهمزة ، وقراءة الباقين بفتح الهمزة ومدها بمعنى أعطوني النحاس .
ففعلوا ذلك فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً ، ثم قال الله تعالى : ( فما ) أي فتسبب عن ذلك أنه لما أكمل عمله وأحكمه ما ) اسطاعوا ) أي يأجوج ومأجوج وغيرهم ) أن يظهروه ) أي يعلو ظهره لعلوه وملاسته ) وما استطاعوا له نقباً ( لثخنه وصلابته ، وزيادة التاء هنا تدل على أن العلو عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علو الجبل ، وقد حكى ابن خرداذبه عن سلام الترجمان الذي أرسله أمير المؤمنين الواثق إليه حتى رآه أن ارتفاعه مد البصر ، ولأنهم لو احتالوا ببناء درج من جانبهم أو وضع تراب حتى ظهروا عليه لم ينفعهم ذلك لأنه لا حيلة لهم على النزول من الجانب الآخر ، ويؤيده أنهم يخرجون في آخر الزمان بنقبه لا بظهورهن ولا ينافي نفي الاستطاعة لنقبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي في التفسير وابن ماجه في الفتن عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( إن يأجوج ومأجوج ليحفرن السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً ، فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد(4/505)
صفحة رقم 506
الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله فيستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين توكوه فيحفرونه ويخرجون على الناس ) - الحديث .
وفي حديث الصحيحين عن زينب بنت جحش رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ، وحلق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) وروياه عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه : ( مثل هذا وعقد تسعين ) فكأنه قيل : فما قال حين أفرغه ؟ قيل : ( قال هذا ) أي السد ) رحمة من ربي ( المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع الفساد به ) فإذا جاء وعد ربي ( بقرب قيام الساعة ) جعله دكاء ( بإقدراهم على نقبه وهدمه وتسهيل ذلك عليهم ، والتعبير بالمصدر المنون في قراءة الجماعة بمبالغة في دكه هو الذي أشارت إليه قراءة الكوفيين بالمد ممنوعاً من الصرف .
ولما كان هذا أمراً مستعظماً خارقاً للعادة ، علله بقوله : ( وكان وعد ربي ( الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج واختراقهم الأرض وإفسادهم لها ثم قيام الساعة ) حقاً ( كائناً لا محالة ، فلذلك أعان على هدمه ، وعن قتادة قال : ( ذكر لنا أن رجلاً - وفي رواية : عن رجل من أهل المدينة قال : يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج ، قال انعته لي ، قال : كالبرد المحبر : طريقة سوداء وطريقة حمراء ، وفي وراية : طريقة حمراء من حديد وطريقة سوداء من نحاس ، وفي رواية أنه قال : انتهيت إلى أرض ليس لهم إلا الحديد يعلمونه ) - رواه الطبري وابن أبي عمر والطبراني في مسند الشاميين وابن مردويه عنه والبزار من وجه آخر من طريق أبي بكرة رضي الله عنه - ذكر ذلك شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ، وفي حديث فتح الباب من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي وشيخه ابن جيش - وكان أمير تلك الجيوش التي بها عبد الرحمن بن ربيعة في أيام عمر رضي الله عنه - ما نصه : وحدث مطر بن ثلج التميمي قال : دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهربراز عنده - يعني : وكان ملك الباب من جهة آل كسرى فأقبل رجل عليه شحوبة حتى جلس إلى شهربراز(4/506)
صفحة رقم 507
فتساءلا ، ثم إن شهربراز قال لعبد الرحمن : أيها الأمير أتدري من أين جاء هذا الرجل ؟ إني بعثته منذ سنين نحو السد لينظر لي ما حاله ومن دونه ، وزودته مالاً عظيماً ، وكتبت له إلى من يليني وأهديت له وسألته أن يكتب إلى من وراءه ، وزودته لكل ملك هدية ، ففعل ذلك بكل ملك بيني وبينه حتى انتهى إلى الملك الذي السد في ظهر أرضه ، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد ، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه ، فذكر أنه أحسن إلى البازيار ، قالك فتشكر لي البازيار فلما انتهينا إذا جبلان بينهما سد مسدود حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما ، وإذا دون السد خندق أشد سواداً من الليل لبعده ، فنظرت إلى ذلك وتفرست فيه ، ثم ذهبت لأنصرف فقال لي البازيار : على رسلك أكافيك أنه لا يلي ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله تعالى بأفضل ما عنده من الدنيا فيرمي به في اللهب ، فشرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء وانقضت عليها العقاب وقال : إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء ، وإن لم تدركها حتى تفع فذلك شيء ، فخرجت علينا باللحم في مخالبها وإذا فيه ياقوتة فأعطانيها ، وهي هذه ، فتناولها منه شهرابراز وهي حمراء فناولها عبد الرحمن فنظر إليها ثم ردها إليه فقال شهرابراز : هذه خير من هذه البلدة - يعني الباب - وايم الله لأنتم أحب إليّ من آل كسرى ، ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني ، وايم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم أو وفى ملككم الأكبر ، فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال : ما حال الردم وما شبهه ؟ فقال : هذا الثوب الذي على هذا الرجل ، وأشار إلى مطر بن ثلج وكان عليه قباء برود يمينه أرضه حمراء ووشية أسود ، أو وشية أحمر وأرضه سوداء ، فقال مطر : صدق والله الرجل لقد نفذ ورأى ، قال عبد الرحمن : أجل ووصف صفة الحديد والصفر وقرأ ) آتوني زبر الحديد ( إلى آخر الآية ، وقال عبد الرحمن لشهرابراز : كم كانت هديتك ؟ قال : قيمة مائة ألف في بلادي هذه ، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان - انتهى .
وقد ظهر أن ما تعنتوا به من قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين وما أدرج بينهما تبكيتاً لليهود الآمرين بذلك - دال من قصة موسى عليه السلام على قيام الساعة فصار كله أعظم ملزم لهم أن قبلوه ، وأوضح فاضح لعنادهم إن تركوه .
ولما انقضى ما سألوا عنه على أحسن وجه في أبلغ سياق وأبدع تناسب ، وأدرج في خلاله ما أدرج من التذكير والوعظ ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والتبكيت للكاتمين لما عندهم من العلم ، الناكبين عما استان لهم من الطريق اللاحب والمنهج الواضح صنع القادر الحكيم الذي لا يستخفه ضجر فيستعجل ، ولا يعيبه أمر فيستمهل ، وختمه بما هو علم عظيم للساعة ، ذكر ما يكون إذإ ذاك وما(4/507)
صفحة رقم 508
يكون بعده إلى حصول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره ؛ ولما كان ذلك أمراً عظيماً ، دل عليه بالنون فقال عاطفاً على تقديره : فقد بان أمر ذي القرنين أي بيان ، وصدق في قوله ) فإذا جاء وعد ربي ( فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاء فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال : ( وتركنا بعضهم ) أي بعض من خلف السد ومن أمامه ) يومئذ ) أي إذ جعلنا السد دكاء وخرجوا مقدمتهم بالشام وساقتطهم بخراسان ، وهم - كما قال الله تعالى - ) من كل حدب ينسلون ( .
) يموج ) أي يضطرب ) في بعض ( كما يموج البحر ، فأهلكوا ما مروا عليه من شيء إلا ما اراد الله ، ثم أبادهم الذي خلقهم وبقرب ذلك أفنى الخلائق أجمعين ) ونفخ في الصور ) أي النفخة الثانية لقوله : ( فجمعناهم ( ويجوز أن تكون هذه الفاء الفصيحة فيكون المراد النفخة الأولى ، أو وانفخ في الصور فمات الخلائق كلهم ، فبليت أجسامهم ، وتفتت عظامهم ، كما كان من تقدمهم ، ثم نفخ فيه النفخة الثانية فجمعناهم من التراب بعد تمزقهم فيه ، وتفرقهم في اقطار الأرض بالسيول والرياح وغير ذلك ) جمعاً ( فأقمناهم دفعة واحدة كلمح البصر ، وحشرناهم إلى الموقف للحساب ثم العقاب أو الثواب ) وعرضنا ) أي أظهرنا ) جهنم يومئذ ) أي إذ جمعناهم لذلك ) للكافرين عرضاً ( ظاهراً لهم كل ما فيها من الأهوال وهم لا يجدون عنها مصرفاً ؛ ثم وصفهم بما أوجب سجنهم فيها وتجهمها لهم فقال : ( الذين كانت ( كوناً كأنه جبلة لهم ) أعينهم ( الوجهية و القلبية ) في غطاء عن ذكري ( بعدم النظر فيما جعلنا على الأرض من زينة دليلاً على الساعة بإفنائه إثر إحيائه وإعادته بعد إبدائه ) وكانوا ( بما جبلناهم عليه ) لا يستطعون ) أي استطاعة عظيمة تسعدهم ، لضعف عقولهم ، وغرق استبصارهم في فضولهم ) سمعاً ( لآياتي التي تسمع الصم وتبصر الكمه ، وهو أبلغ في التبكيت بالغباوة والتقريع بالبلادة من مجرد نفي البصر والسمع ، لأن ذلك لا ينفي الاستطاعة ؛ ثم عطف على ما أفهمه ذلك قوله موبخاً لهم ومبكتاً : ( أفحسب ) أي أغطوا أعينهم عن آياتي وأصموا أسماعهم عن كلماتين وعبدوا عبادي فحسبوا لضعف عقولهم ، وإنما قال : ( الذين كفروا ( دلالة على الوصف الذي أوجب لهم ذلك ) أن يتخذوا ) أي ولو بذلوا الجهد ) عبادي ( من الأحياء كالملائكة وعزير والمسيح ، والأموات كالأصنام .
ولما كان كل شيء دونه سبحانه ، وكان لا يستغرق شيء من الأشياء جميع ما دون رتبته من المراتب ، أثبت الجار فقال : ( من دوني أولياء ) أي مبتدئين اتخاذهم من دون إذني ، والمفعول الثاني ل ) حسب ( محذوف تقديرهك ينصرونهم ويدفعون عنهم(4/508)
صفحة رقم 509
ويجعلون بعضهم ولداً ولا أعذبهم .
ولما كانت غاية اتخاذ الولي أن يفعل ما يفعل القريب من النصر والحماية من كل مؤذ ، جاز كون هذا ساداً مسد مفعولي ) حسب ( لأن معناه : أحسبوا اتخاذهم مانعهم مني ؟ ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري : ليس الأمر كذلك ، بل أصلد زندهم : ( إنا اعتدنا جهنم ( التي تقدم أنا عرضناها لهم ) للكافرين نزلاً ( نقدمها ما يحتقر بالنسبة إليه كماهو شأن ما بعد النزل بالنسبة إليه .
الكهف : ( 103 - 110 ) قل هل ننبئكم. .. . .
) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ( ( )
ولما تبين بذلك الذي لا مرية فيه أنهم خسروا خسارة لا ربح معها ، وخاب ما كانوا يؤملون ، أمره أن ينبههم على ذلك فقال : ( قل هل ننبئكم ) أي نخبركم أنا وكل عبد الله ليست عينه في غطاء عن الذكر ، ولا في سمعه عجز عن الوعي ، إخباراً عظيماً أيها التاركون من لا خالق ولا رازق لهم سواه ، والمقلبون على من ليس بيده شيء من خلق ولا رزق ولا غيره ) بالأخسرين ( ولما كانت أعمالهم مختلفة ، فمنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد النجوم ، ومنهم من يعبد الأنبياء ، ومنهم من يعبد الأوثان ، ومنهم من يكفر بغير ذلك ، جمع المميز فقال : ( أعمالاً ( ثم وصفهم بضد ما يدعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال : ( الذين ضل سعيهم ) أي حاد عن القصد فبطل ) في الحياة الدنيا ( بالإعراض عمن لا ينفعهم ولا يضرهم إلا هو ، والإقبال على ما لا نفع فيه ولا ضر ) وهم ) أي والحال أنهم مع ظهور ذلك كالشمس ) يحسبون ( لضعف عقولهم ) أنهم يحسنون صنعاً ) أي فعلاً هو في غاية الإحكام وهم في غاية الدربة به ؛ وروى البخاري في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن الأخسرين اليهود والنصارى ، قال : أما اليهود فكفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما(4/509)
صفحة رقم 510
النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شرب - انتهى .
قلت : وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني .
ولما كانوا ينكرون أنهم على ذلك ، لملازمتهم لكثير من محاسن الأعمال ، البعيدة عن الضلال ، بين لهم السبب في بطلان سعيهم بقوله : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) الذين كفروا ) أي أوقعوا الستر والتغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر ، مستهينين ) بأيات ربهم ( من كلامه وأفعاله ، وبين سبب هذا الكفر بقوله : ( ولقائه ) أي فصاروا لا يخافون فلا يردهم شيء عن أهوائهم ) فحبطت ) أي سقطت وبطلت وفسدت بسبب جحدهم للدلائل ) أعمالهم ( لعدم بنائها على أساس الإيمان ) فلا ) أي فتسبب عن سقوطها أنا لا ) نقيم لهم ( ما لنا من الكبرياء والعظمة المانعين من اعتراض أحد علينا أو شفاعته بغير إذننا لدينا ) يوم القيامة وزناً ) أي لا نعتبرهم لكونهم جهلوا أمرنا الذي لا شيء أظهر منه ، وآمنوا مكرنا ولا شيء أخطر منه .
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أن لهم جهنم أوضح من الشمس قال : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الذي بيناه من وعيدهم ) جزاؤهم ( لكن لما كان حاكماً بضلالهم وغباوتهم ، بين الجزاء بقوله : ( جهنم ( وصرح بالسببية بقوله : ( بما كفروا ) أي وقعوا التغطية للدلائل ) واتخذوا ءاياتي ( التي هي مع إنارتها أجد الجد وأبعد شيء عن الهزل ) ورسلي ( المؤيدين بباهر أفعالي مع ما لهم من الشهامة والفضل ) هزواً ( فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزء الذي هو أعظم احتقار .
ولما بين ما لأحد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم ، بين ما للآخر على تقدير الجواب لسؤال تقتضيه الحال ترغيباً والاقتداء بهم ، فقال : ( إن الذين ءامنوا ) أي باشروا الإيمان ) وعملوا ( تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ( من الخصال ) كانت لهم ( لبناء أعمالهم على الأساس ) جنات ) أي بساتين ) الفردوس ) أي أعلى الجنة ، وأصله البستان الذي هو الجنة بالحقيقة لانخفاض ما دونه عنه ، وستر من يدخله بكثرة أشجاره ) نزلاً ( كما كان السعير والأغلال لأولئك أنزلاً ، بعد لهم حين الدخول ) خالدين فيها ( بعد دخولهم ) لايبغون ) أي يريدون أدنى إرادة ) عنها حولاً ) أي تحولاً لأنه مزيد عليها ، دفعاً لما قد يتوهم من أن الأمر كما في الدنيا من أن كل أحد في أيّ نعيم كان يشتهي ما هو أعلى منه لأن طول الإقامة قد يورث السآمة ، بل هم في(4/510)
صفحة رقم 511
غاية الرضى بها ، لما فيها من أنواع الملاذ التي لا حصر لها ولا انقضاء ، لايشتهي أحد منهم غير ما عنده سواء كان في الفردوس أو فيما دونه ، وهو تعويض بالكفرة في أنهم يصطرخون في النار
77 ( ) ربنا أخرجنا منها ( ) 7
[ المؤمنون : 107 ] وذلك عكس ما كان في الدنيا من ركون الكفار إليها ، ومحبتهم في طول البقاء فيها ، وعزوف المؤمنين عنها ، وشوقهم إلى ربهم بمفارقتها .
ولما تم الجواب عن أسئلتهم على أحسن الوجوه مخللاً بما تراه من الحجج البينة والنفائس الملزمة لهم بفصل النزاع ، وأتبع ذلك بقص الأمر الذي بإغفاله تجرؤوا على الكفر ، وهو أمر البعث إلى أن ختمه بمل يقتضي أن معلوماته لا تحد ، لأن مقدوراته في تنعيم أهل الجنة لا آخر لها فلا تعد ، وكان اليهود قد اعترضوا على قوله في أولها
77 ( ) وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ( ) 7
[ الإسراء : 85 ] بأنهم أوتوا التوراة ، وكان لكل ما سألوا عنه من الفصول الطويلة الذيول أمور تهول ، وكان ربما قال قائل : ما له لا يزيد ذلك شرحاً ؟ قال تعالى آمراً بالجواب عن ذلك كله ، معلماً لهم بأنهم لا يمكنهم الوقوف على تمام شرح شيء من معلوماته ، وآخر استفصال شيء من مقدوراته ، قطعاً لهم عن السؤال ، وتقريباً إلى أفهامهم بضرب من المثال : ( قل ) أي يا أشرف الخلق لهم : ( لو كان البحر ) أي ماؤه على عظمته عندكم ) مداداً ( وهو اسم لما يمد به الدواة من الحبر ) لكلمات ) أي لكتب كلمات ) ربي ) أي المحسن إليّ في وصف ذكر وغيره مما تعنتموه في السؤال عما سألتم عنه أو غير ذلك ) لنفد ) أي فني مع الضعف فناء لا تدارك له ) البحر ( لأنه جسم متناه .
ولما كانت المخلوقات - لكونها ممكنة - ليس لها من ذاتها إلا العدم ، وكانت الكلمات من صفات الله ، وصفات اله واجبة الوجود ، فكان نفادها محالاً ، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقاً للأزمنة كلها ، جرد الظرف من حرف الجر فقال : ( قبل أن تنفد ) أي تفنى وتفرغ ) كلمات ربي ( لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى ، وكل منها له شرح طويل ، وخطب جليل ؛ ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال : ( ولو جئنا ) أي بما لنا من العظمة التي لا تكون لغيرنا ) بمثله مدداً ) أي له يكتب منه لنفد أيضاً ، هذا كله كناية عن عدم النفاد ، لأنه تعليق على محال عادة كقولهم : لا تزال على كذا ما بل بحر صوفه وما دجى الليل ، ونحو هذا ، ولعله عبر بجمع السلامة إشارة إلى أن قليلها بهذه الكثرة فكيف بما هو أكثر منه ، وذلك أمر لا يدخل تحت وصف ، وعبر بالقبل دون أن يقال ( ولم تنفد ) ونحوه ، لأن ذلك كاف في قطعهم عن الاستقصاء في السؤال ولأن التعبير بمثل ذلك ربما فتح باباً من(4/511)
صفحة رقم 512
التعنت وهو أن يجعلوا الواو للحال فيجعلوا النفاد مقيداً بذلك ، وأما سورة لقمان فاقتضى سياقها في تأسيس ما فيها على
77 ( ) الغني الحميد ( ) 7
[ لقمان : 26 ] ومقصودها يكون التعبير فيها بغير ما ههنا ، فما في كل سورة أبلغ بالنسبة إلى سياقه ، مع أنه ليس في إفصاح واحدة منهما ما يدل على نفاد الكلمات ولا عدمه ، وفي إفهام كل منهما بتدبر القرائن في السياق وغيره ما يقطع بعدم نفاذها ، ولاتخالف بين الآيتين وإن كان التعبير في هذه السورة أدخل في التشابه ، ويجاب عنه بما قالوا في مثل قول الشاعر ( على لاحب لا يهتدي بمناره ) من أن ما في حيز السلب لا يقتضي الوجود ، ولعل التعبير بمثل ذلك من الفتن المميزة بين من في قلبه مرض وبين الراسخ الذي يرد المتشابه إلى المحكم ، وهو ما دل عليه البرهان القاطع من أن الله تعالى لا نهاية لذاته ، ولا لشيء من صفاته ، بل هو الأول والآخر الباقي بلا زوال - والله أعلم .
ولما كانوا ربما قالوا : ما لك لا تحدثنا من هذه الكلمات بكل ما نسألك عنه حيثما سألناك ؟ وكانوا قد استنكروا كون النبي بشراً ، وجوزوا كون الإله حجراً ، وغيوا إيمانهم به بأمور سألوه في الإتيان بها كما تقدم بعد أول مسائلهم ، وهي الروح آخر سبحان ، وكان قد ثبت بإجابتهم عن المسائل على هذا الوجه أنه رسول ، أمره سبحانه أن يجيبهم عن ذلك بما يرد عليهم غلطهم ، ويفضح شبههم ، إرشاداً لهم إلى أهم ما يعينهم من الحرف الذي النزاع كله دائر عليه وهو التوحيد فقال : ( قل إنما أنا ) أي في الاستمداد بالقدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالمغيب ) بشر مثلكم ) أي لا أمر لي ولا قدرة إلا على ما يقدرني عليه ربي ، ولا استبعاد لرسالتي من الله فإن ذلك سنته فيمن قبلي ) يوحى إليّ ) أي من الله الذي خصني بالرسالة كما أوحى إلى الرسل قبلي ما لا غنى لأحد عن علمه واعتقاده ) أنما إلهكم ( وأشار إلى أن إلهيته بالإطلاق لا بالنظر إلى جعل جاعل ولا غير ذلك فقال : ( إله واحد ) أي لاينقسم بمجانسة ولا غيرها ، قادر على ما يريد ، لا منازع له ، لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا جهل ولاهوان بي عليه - هذا هو الذي يعني كلَ أحد علمه ، وأما ما سألتم عنه من أمر الروح والقصتين تعنتاً فأمر لو جهلتموه ما ضركم جهله ، وإن اتبعتموني علمتموه الآن وما دل عليه من أمر الساعة إيماناً بالغيب علم اليقين ، وعلمتموه بعد الموت بالمشاهدة عين اليقين ، وبالمباشرة حق اليقين ، وإن لم تتبعوني لم ينفعكم علمه ) فمن ) أي فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من ) كان يرجوا ) أي يؤمن بمجازاته له على أعماله في(4/512)
صفحة رقم 513
الآخرة برؤيته وغيرها ، وإنما قال : ( لقاء ربه ( تنبيهاً على أنه هو المحسن إلى كل أحد بالتفرد بخلقه ورزقه ، ولا شريك له في شيء من ذلك على قياس ما نعلمه من أنه لا مالك إلا هو قاهر لمملوكه على لقائه ، مصرف له في أوامره في صباحه ومسائه .
ولما كان الجزاء من جنس العمل ، كان الواجب على العبد الإخلاص في عمله ، كما كان عمل ربه في تربيته بالإيجاد وما بعده ، فقال : ( فليعمل ( وأكده للإعلام بأنه لا يد مع التصديق من الإقرار فقال : ( عملاً ) أي ولوكان قليلاً ) صالحاً ( وهو ما يأمره به من أصول الدين وفروعه من التوحيد وغيره من أعمال القلب والبدن والمال ليسلم من عذابه ) ولا يشرك ) أي وليكن ذلك العمل مبيناً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء ) بعبادة ربه أحداً ( فإذا عمل ذلك فاز فحاز علوم الدنيا والآخرة ، وقد انطبق آخر السورة على أولها بوصف كلمات الله ثم ما يوحى إليه ، وكل منهما أعم من الكتاب بالأقومية للدعاء إلى الحال الأسلم ، في الطريق الأقوم ، وهو التوحيد عن الشريك الأعم من الولد وغيره ، والإحسان في العمل ، مع البشارة لمن آمن ، والنذارة لمن أعرض عن الآيات والذكر ، فبان بذلك أن لله تعالى - بوحدانيته وتمام علمه وشمول قدرته صفات - الكمال ، فصح أنه المستحق لجميع الحمد - والله الموفق ، والحمد لله على إتمام سورة الكهف من كتاب نظم الدرر من تناسب الآي والسور .
.. . .(4/513)
صفحة رقم 514
( سورة مريم )
بسم الله الرحمن الرحيم سورة مريم مكية - آياتها ثمان وتسعون
مقصودها بيان اتصافه سبحانه بشمول الرحمة بإفاضة النعم علىجميع خلقه ، المستلزم للدلالة على اتصافه لجميع صفات الكمال ، المستلزم لشمول القدرة على إبداع المستغرب ، المستلزم لتمام القدرة الموجب للقدرة على البعث والتنزه عن الولد لأنه لا يكون إلا لمحتاج ، ولا يكون إلا مثل الوالد ، ولا سمي له سبحانه فضلا عن مثيل ، وعلى هذا دلت تسميتها بمريم ، لأن قصتها أدل ما فيها على تمام القدرة وشمول العلم ، لأن أغرب ما في المخلوقات وأجمعه خلقا الآدمي ، وأعجب أقسام توليده الأربعة - بعد كونه آدميا - ما كان من أنثى بلا توسط ذكر ، لأن أضعف الأقسام ، وأغرب ذلك أن يتولد منها على ضعفها أقوى النوع وهو الذكر ، ولا سيما إن أوتي قوة الكلام والعلم والكتاب في حال الطفولية ، وأن يخبر بسلامته الكاملة فيكون الأمر كذلك ، لم يقدر أحد - مع كثرة الأعداء - على أن يسمه بشيء من أذى ، هذا إذا جمعته من إخراج الرطب في غير حينه من يابس الحطب ، ومن إنباع الماء في غير موضعه ، وعلى مثل ذلك أيضا دلت تسميتها بما في أولها من الحروف ، بيان ذلك أن مخرج الكاف من أقصى اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من أسفل الحنك ، وهي أدنى من مخرج القاف قليلا إلى مقدم الفم ر ، ولها من الصفات الهمس والشدة والانفتاح والاستفال والخفاء ، ومخرج الياء من وسط اللسان والحنك الأعلى ، ولها من الصفات الجهر والرخاوة والانفتاح والاستفال ، وه أغلب صفاتها ، ومخرج العين وسط الحلق ، ولها من صفات الجهر وبين أصول الثنيتين السفليين ، وله من الصفات الهمس والرخاوة والإطباق والاستعلاء والصفير ، فالافتتاح بهذه الأحرف هنا إشارة - والله أعلم - إلى أن أهل الله عامة - من ذكر منهم في هذه السورة وغيرهم - يكون(4/514)
صفحة رقم 515
أمرهم عند المخالفين أولا - كما تشير إليه الكاف - ضعيفا مع شدة انفتاح كما كان حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أول ما دعا ، فإنه اشتهر أمره ولكنه كان ضعيفا بإنكار قومه إلا أنهم لم يبالغوا في الإنكار ، ثم يصير الأمر فيا ، ائل العراك - كما تشير إلأيه الهاء - إلى استقال ، ثم يزداد بتمالؤ المستكبرين عليهم ضعفا وخفاء ، وإلى هذا تشير قراءتها بالإمالة ، ولا بد مع ذلك من نوع ظهور - كما يشبر إليه انفتاح الهاء وإليه تشير قراءة الفتح ، وهذا كما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين صرح بسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وتضليل آبائهم فقاموا عليه إلبا واحدا ، فهاجر أكثر الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة ، وخاف أبو طالب دهماء العرب فقال قصيدته اللامية يفي ذلك ، وتمادى الحال حتى ألجاتهم قريش إلأى الشعب ، وتكون في وسط أمرهم - كما تشير إليه الياءوقراءتها بالفتح ، لهم قوة مع رخاوة واشتهار واستفال ، وهو الأغلب عليهم ظاهرا كما تشير إليه قراءة الإمالة ، فيكون ذلهم من وراء عز وعزهم في ثوب ذل ، يعرف ذلك من عاناه ، ونظر إليه بعين الحقيقة واجتلاء ، وهذا كما كان عند قيام من قام من قريش يفي نقض الصحيفة الظالمة وإخراجهم من الشعب ، ثم عند موت خديجة رضي الله عنها وأبي طالب ، وخرج ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الطائف فردوه - بأبي هو وأمي ونفسي وودلدي وعيني ، فلما قرب من مكة المشرفة لم يستطع دخولها بغير جوار ، فاختفى في غار حراء وأرسل إلى من يجيره ، ثم أرسل حتى أجاره المطعم بن عدي ، ولبس السلاح هو من أطاعةى وأدخله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى طاف بالبيت ، ثم قضى سبحانه أن قتل المطعم في بدر كافرا ، بعد اجتهاد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في سلامته والإيصاء به أن لا يقتل - ليعلم أنه سبحانه مختار في عموم رحمته وخصوصها ، لئلا ييأس عاص أو يأمن طائع ، ثم إذا علا أمرهم عن الوسط صاعدا قوي - كما تشير إليه العين ، فصار بين الشدة والرخاوة ، وفيه انفتاح بشهرة مع استفال في بعض الأمر كما كان حاله ( صلى الله عليه وسلم ) عند مبايعة الأنصار رضوان الله عليهم ، وأما آخر أمرهم فهو وإن كالن فيه نوع من الضعف ، وضرب من الرخاوة واللين كما كان في غزوة حنين والطائف ، فإنه تعقبه قوة عظيمة بالإطباق ، واستعلاء واشتهار يملأ الآفاق ، كما يشير إليه الصغير - هذا في أهل الله عامة المذكورين في هذه السورة وغيرهم ، وأما ما يخص عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو صورة سورتها ومطمح إشارتها وسيرتها فجعل الحروف اللسانية من هذه الحروف أغلبها ثلاثة أحرف منها إشارة إللا أن إبراهيم عليه السلام بما أعطى في نفسه وفي ذريته ولسان الصدق المذكور به هو لسان هذا الوجود ، وأن دولة آله الذين عيسى عليه السلام من أعيانهم هي وسط هذا الوجود حقيقة وخيارا ، فموسى عليه السلام أو أصحاب شرائعهم بمنزلة القاف التي هي من أقصى اللسان وله حظ كبير(4/515)
صفحة رقم 516
منها ، فإنه من أجله قتل أبناء بني إسرائيل وولد في سنةالقتل ، وكان سبب هجرته وابتداء سيره إلى الله تعالى قتله القبطي ، وقرب نجيا ، ومن صفاتها الجهر والشدة والانفتاح ، والاستعالاء والقلقلة ، وهو عريق يفي كل من خيرات ذلك ، وداود عليه السلام ثاني ذوي كتبهم بمنزلة الهمزة التي هي أبعد من مخرج الهاء إحدى هذه الحروف ، وهو أول من جمع من بني إسرائيل بين الملك والنبوة ، وله حظ من صفاتها : الجهر والشدة والانفتاح ، بما كان فيه من الملك والظهور ، والنصر على الأعداء وعجائب المقدور ، وله حظ من وصفها بالاستفال في أول أمره وفي آخره بما كان من بكائه وتواضعه وإخباته لربه وصلاحه ، فالكاف هنا إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام هو ثاني الشارعين يفي الوجود ، والهاء عبارة عن أنه من عقب داود عليه السلام ، وكل منهما له حظ من صفات الحرف المشير إليه الدال عليه ، والصاد التي هي من طرف اللسان وهي خاتمة هذه الحروف إشارة مما فيها من الإطباق المشير إلى تطبيق الرسالة لجميع الوجوه ، ومن الاستعلاء المشير إلى نهاية العطمة ، والصفير المشير إلى غاية الانتشار بما فيها من الصفات إلى أن أول أمر عيسى عليه السلام يكون فيه مع الشدة ضعف ، ثم تشير أيضا الهاء - التي هي من أقصى الحلق - إلى أن أمره يبطن بعد ذلك الظهور ويخفى بارتفاعه إلى السماء ، ويدل الاستفال على أنها قريبة إلى السفلى ، وهو كذلك فإنه في الثانية بدلالة رتبة الكاف والهاء في مخرجيهما ، وتشير الياء بجهرها إلى ظهوره بنزوله ، وتدل بكونها من وسط اللسان على تمكنه في أموره ، وباعتلائها على شيء في ذلك وهو ضعف الاتباع وحصرهم في ذلك الوقت ، وتدل بانفتاحها ورخاوتها على ظهوره على الدجال في أولئك القوم الذين قد جهدهم البلاء عند نزوله ، ومسهم الضر قبل حلوله ، وتليح غلبة الاستفال عليها إلى أمر يأجوج ومأجوج لما يوحيه الله إليه " إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بهم ، فجرز عبادي إلى الطور " وتدل العين بكونها من وسط الحق على انحصارهم ، ويجهرها على أنه لا سبيل للعدو عليهم ولا وصول بوجه إليهم ، وبما فيها من البينية والاستفال على جهدهم مع حسن العاقبة ، وتبشر - بما فيها من الانفتاح - بحصول الفتح الذي ليس وراءه 9 فتح ، وتدل الصاد بمخرجها على القوة الزائدة ، وبالهمس والرخاوة على أنها قوة لا بطش فيها ، وبالإطباق والاستعلاء على عموم الذين جميع الناس ، وبالصفير على أنه ليس وراء ذلك إلا النفخ في الصور لعموم الهلاك لكل موجود مفطور ، ثم لبعثرة القبور ، وتحصيل ما في الصدور ، وكل هذا من(4/516)
صفحة رقم 517
ترتيب سنته سبحانه في المصطفين من عباده على هذا النحو البديع ، وترتيب هذه الحروف على هذا النظم الدال عليه دائر على القدرة التامة والعلم الشامل والحكمة الباهرة ، رحمهم سبحانه بأن نكبهم طريق الجبارين التي أوصلتهم إلى القسوة ، وجنبهم سنن المستكبرين التي تلجئ ولا بد إلأى الشقوة ، فجعل نصرهم في لوامع انكسار ، وكسرهم في جوامع انتصار ، وحماهم من فخامة دائمة تجر إلى بذح وعلو واستكبار ، ومن رقة ثابتة تحمل على ذل وسفول وصغار ، فلقد انطبق الاسمان على المسمى ، واتضحا غاية الاتضاح في أمره ونما ، وهذا معنى ما قال الكلبي : هو ثناء أثنى الله به على نفسه. ) بسم الله ( المنزه عن كل شائبة نقص ، القادر على كل ما يريد ) الرحمن ( الذي عم نواله سائر مخلوقاته ) الرحيم ( الذي اختص الصالحين من عباده ، بما يسعد من مراده .
ولما كان مقصود التي قبلها الدلالة على أنم القرآن قيم لا عوج فيه ، وبه تمام الانتظام في نعمة الإبقاء الأول ، ودل على ذلك بأنه ساق المؤول عنه من القصص أحسن سوق ، وكشف عن مخبأته القناع أبدع كشف - إلى غير ذلك مما خلله به من بدائع الحكم وغرائب المعاني فاضحة لمن ادعى الله سبحانه ولدا ، وختمها بمثل ذلك وصف الكتاب والتوحيد - النافي لقبول التعدد بولد أوغيره بكل اعتبار - والعمل الصالح ، ابتدأ هذه بالكشف عن أغرب من تلك القصص ، تحقيقا لآية ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) [ الكهف : 9 ] بسياق غير ما تقدم فيما مضى عن السور ، وجزئيات لم تذكر إلا فيها مع عدم المخالفة لما مضى ، تأييدا لأن كلماته لا تنفذ ، وعجائبه لا تعد ولا تحد ، وأنه لو كان من عند غيره لاختلف ، مع أن أهلها سادة الموحدين ، وقادة المصلحين المتقين الذين عملوا الصالحاتن ، ونفوا الشرك وشرعوا ذلك للناس ، فرحمهم ربهم سبحانه ، وكلهم ممن يعتقده اليهود الآمرون لقريش بالسؤال عن أصحاب الكهف وذي القرنين تعنتا ، أمت من عدا عيسى عليه الصلاة والسلام فواضح ، وأما عيسى عليه السلام فيعتقدون أنه ما اتى لأأنه سيأتي ، ويكون الناس في أيامه على دين واحد تصديقا لوعد التوارة الآتي بيانه ، وذلك على وجه مستلزم في أكثرها تنزهه تعالاى عن الوالد ، وقدرته على البعث ، وبدأها بقصة من خرق له العادة في الولد على وجه مبين أنه لا يحتاجه إلا فإن حسا أو معنى يريد أن يخلفه فيما تعسر عليه فعله أو تعذر ، وكان تقديم قصته أولى لأن التبكيت به أعظم لمباشرتهم لقتله وقتل ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام ، وإشارة إلى أن العمل الصالح المؤسس على التوحيد ضامن لإجابة الدعاء وإن كان فيه خرق العادة ، وثنى بأمر من نسبوء إليه وافتروه عليه(4/517)
صفحة رقم 518
وقصدوا قتله على وجه معرب عن شأنه غاية الإعراب ، مبين فيه وجه الصواب ، متمما لتبكيت اليهود الآمرين لقريش بالتعنت بالسؤال بالإشارة إلى قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام وإعاء صلب المسيح الذي بشرت به التوراة ، وهم الآن ينتظرونه ويدعون أنهم أخص الناس به ، وقذف أمه - وحاشاها - دالا بذلك على القدرة على البعث ، قال في التوراة في آخر السفر الأول : إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخب ربقرب وفاته وقال لبنيه : اجتمعوا إلى فأبين لكم ما هو كائن من أمركم في آخر الأيام ، اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب انصتوا لإسرائيل أبيكم ثن قال : يا يهوذا لك يعترف إخوتك بتعالى يدك على رقاب أعدائك ، وليسجد لك بنو أبيك ، شبل الليث ، من ذا يقيمه عن فريسته ، لا يزول القضيب من آل يهوذا ، لا يعدم سبط يهوذا ملكا مسلطا وأفخاده نبيا مرسلا حتى يأتي الذي له الملك - وفي نسخة : الكل - وإياه تنتظر الشعوب ، يربط بالحبلة جحشه عيناه أشد شهولة من الخمر ، وأسنانه أشد بياضا من اللبن - هذا نصه ، وعند اليهود أنه المسيح ، ويسمونه مع ذلك المنتظر والمهدي ، وعندهم أنه ينصرهم ويخلصهم مما هم فيه من الذل ، فقلت لبعضهم : أشهد أنه المسيح ابم مريم الذي أتى وتبعه النصارى وعاديتموه حتى رفعه الله تعالى ، فقال الذي في التوارة أنه يكون له الكل ، وعيسىة مل كان كذلك ، فقلت : إنه يكون له الكل حين ينزل تابعا لديننا من حيث إنه لا يقبل إلا الإسلام ، قيطبق أهل الأرض على إتباعهخ عليه ، ويسعد به منكم من يتبعه ، ويزول عنه الذل ، هذا لا يناف كلام التوراة فإنه لم يقيد ذلك بساعة إتيانه. فلم يقبل ذلك ، ثم إنه أتى إلي يوما بكتاب من كتبهم في شرح سفر الأنبياء فقال في الكلام على البشائر المتعلقة بالمسيح " ولا يبعد أن يبدو لإسرائيل ثم يختقي ثم يظهر فيكون له الكل " فقلت له : انظر وتبصر هذا عين ما ذكرته لك من قبل فبهت لذلك فقلت : أطعني وأسلم ففكر ثم قال : حتى يريد الله تعالى .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما قال تعالى ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ( ثم أورد خبرهم وخبر الرجلين وموسى والخضر عليهما السلام وقصة ذي القرنين ، أتبع سبحانه ذلك بقصص تضمنت من العجائب ما هو أشد عجبا وأخفى سببا ، فافتتح سورة مريم بيحيى بن زكريا وبشارة زكريا به بعد الشيخوخة وقطع الرجاء وعقر الزوج حتى سأل زكريا مستفهما ومتعجبا ) أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ) [ مريم : 8 ] فأجابه تعالى بأن ذلك عليه هين ، وأنه يجعل ذلك آية للناس ، وأمر هذا أعجب من القصص المتقدمة ، فكان(4/518)
صفحة رقم 519
قد قيل : أم حسبت يا محمد أنم أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجيا ، نحن نخبرك بخبرهم ونخبرك بما هو أعجب وأغرب وأوضح آية ، وهو قصة زكريا في ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام ، وقصة عيسى في كيونته بغير أب ، ليعلم أن الأسباب في الحقيقة لا يتوقف عليها شيء من مسبباتها إلا بحسب سنة الله ، وإنما الفعل له سبحانه لا بسبب ، وإلى هذا أشار قوله تعالى لزكريا عليه والسلام ) وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( ثم أتبع سبحانه بشارة زكريا بيحيى بإتيانه الحكم صبيا ، ثم بذكر وابنها عليهما الصلاة والسلام ، وتعلقت الآي بعد إلى انقضاء السورة انتهى .
مريم : ( 1 - 15 ) كهيعص
) كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً يزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ييَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ( ( )
ولما كانت هذه السورة تالية للسورة الواصفة للكتاب - الذي به نعكة الإبقاء الأول - بالاستقامة البالغة ، افتتحها بالأحرف المقطعة ، كما افتتح السورة التي تلي أم الكتاب ، الداعيةَ إلى الصراط المستقيم ، الواصفةَ الكتابَ بالهدى الضامن للاستقامة ، والتي تلي واصفته ، والتي تلي الأنعام المشيرة إلى نعمة الإيجاد الأول ، فقال : ( كهيعص ( وهي خمسة أحرف على عددها مع تلك السور ، وهي جامعة النعم ، وواصفة الكتاب ، وذات النعمة الأولى ، وذات النعمة الثانية ، كما افتتحت الأعراف التالية لذات النعمة الأولى باربعة على عددها مع قبلها من الأمم الجامعة والواصفة وذات النعمة الأولى ، وكما افتتحت آل عمران التالية للواصفة بثلاثة على عددها مع الأم والواصفة ) ذكر ) أي هذا الذي أتلوه عليكم ذكر ) رحمت ربك ) أي المحسن إليك بالتأييد بكشف الغوامض(4/519)
صفحة رقم 520
وإظهار الخبء ) عبده ( منصوب برحمة ، لأنها مصدر بني على التاء ، لا أنها دالة على الوحدة ) زكريا ) أي ابن ماثان ، جزاء له على توحيده وعمله الصالح الذي حمله عليه الرجاء للقاء ربه ، والرحمة منه سبحانه المعونة والإجابة والإيصال إلى المراد ونحو ذلك من ثمرات الرحمة المتصف بها العباد ) إذ نادى ( ظرف الرحمة ) ربه ( .
ولما قدم تشريفه بالذكر والرحمة والاختصاص بالإضافة إليه فدل ذلك على كمال القرب ، قال : ( نداء خفياً ) أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السر الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة ، فأطلع سبحانه عليه لأنه يعلم السر وأخفى ، فكأنه قيل : كما ذلك الندا ؟ فقيل : ( قال رب ( بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب ) إني وهن ) أي ضعف جداً ) العظم مني ) أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني ، وهو أصل بنائه ، فكيف بغيره ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها ) واشتعل الرأس ) أي شعره مني ) شيباً ولم أكن ( فيما مضى قط مع صغر السن ) بدعائك ) أي بدعائي إياك ) رب شقياً ( فأجرِني في هذه المرة أيضاً على عوائد فضلك ، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة ، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله ، فهو دعاء شكر واستعطاف ؛ ثم عطف على ( إني وهن ) قوله : ( وإني خفت الموالي ) أي فعل الأقارب أن يسيئوا الخلافة ) من وراءي ) أي في بعض الزمان الذي بعد موتي ) وكانت امرأتي عاقراً ( لا تلد أصلاً - بما دل عليه فعل الكون ) فهب لي ) أي فتسبب - عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة ، وخوفي من سوء خلافة أقاربي ، ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي ، وبلوغي من الكبر حداً لاحراك بي معه - إني أقول لك يا قادراً على كل شيء : هب لي ) من لدنك ) أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك ، لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات ، لا من جهة سبب أعرفه ، فإن أسباب ذلك عندي معدومة .
وقد تقدم في آل عمران لذلك مزيد بيان ) ولياً ) أي من صلبي بدلالة ) ذرية ( في السورة الأخرى ) يرثني ( في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوة والعمل ) ويرث ( زيادة على ذلك ) من ءال يعقوب ( جدنا مما خصصتهم به من المنح ، وفضلتهم به من النعم ، من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم ، وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليهما الصلاة والسلام
77 ( ) ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب ( ) 7
[ يوسف : 6 ] ولأن إسرائيل صار علماً على الأسباط كلهم ، وكانت قد غلبت عليهم الأحداث ؛ وقد استشكل القاضي العضد في ( الفوائد الغياثية ) كونَ ) يرث ( على قراءة الرفع صفة بأنه يلزم عليه عدم إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام لأن يحيى عليه السلام(4/520)
صفحة رقم 521
قتل في حياته ، ولا يكون وارثاً إلا إذا تخلف بعده ، وقد قال تعالى
77 ( ) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ( ) 7
[ الأنبياء : 90 ] قال : فتجعل استئنافية ، ولا يلزم حينئذ إلا خلف ظنه عليه السلام - هكذا نقل لي عنه ، وأنا أجلّه عن ذلك ، لأنه لا يلزم تخلف دعائه ولا يتجرأ على عليّ مقامه بإخلاف ظنه ، لأن الإخبار عن قتله قبله إن كان عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصح السند ، كان تسمية العلم الذي أخذه عنه في حياته إرثاً مجازاً مرسلاً باعتبار ما يؤول إليه في الجملة ، لا سيما مع جواز أن يكون يحيى عليه السلام علَّمه لمن عاش بعد أبيه عليهما الصلاة والسام ، وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمى العلم إرثاً على وجه الاستعارة التبعية بقوله عليه الصلاة والسلام ( العلماء ورثة الأنبياء ) ولا شك أن من ضرورة تعلم العلم حياة المأخوذ عنه ، ولم يرد منع من تسميته إرثاً حال الأخذ ، هذا إذا صح أن يحيى عليه السلام مات قبل زكريا عليه السلام ، وحينئذ يؤول ) من وراءي ( بما غاب عنه ، أي عجزت عن تتبع أفعال الموالي بنفسي في حال الكبر ، وخفت سوء فعلهم إذا خرجوا من عندي وغابوا عني ، فهب لي ولداً يكون متصفاً بصفاتي ، فكان ما سأله ، وإن لم يصح موته قبله بالطريق المذكور لم يصح أصلاً ، وينتفي الاعتراض رأساً ، فإن التواريخ القديمة إنما هي عن اليهود فهي لا شيء ، مع أن البغوي نقل في أول تفسير سورة بني إسرائيل ما يقتضي موت زكريا قبل يحيى عليهما الصلاة والسلام ، فإنه قال : آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام فمات زكريا عليه السلام ، وقيل : قتل ، فلما رفع الله عيسى عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش فسارإليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام ، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى بيوزردان صاحب الفيل فقال : إني كنت قد حلفت بإلهي : لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد أحداً أقتله ، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم ، وأن بيوزردان دخل بيت المقدس فقام في البقعة اليت كانوا يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دماً يغلي فقال : يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي ؟ قالوا : هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا ، فقال : ما صدقتموني ، قالوا : لو كان تأول زماننا لتقبل منا ، ولكن قد انقطع منا الملك والوحي فلذلك لم يقبل منا ، فذبح منهم بيوزردان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً(4/521)
صفحة رقم 522
من رؤوسهم فلم يهدأ ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم يهدأ ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد ، فلما رأى بيوزردان أن الدم لا يهدأ قال لهم : يا بني إسرائيل ويلكم أصدقوني واصبروا على أمر ربكم ، فقد طال ما ملكتم الأرض تفعلون فيما ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته ، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا : إن هذا دم بني كانوا ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله عز وجل ، فلو أطعناه فيها لكان أرشد منا ، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه ، فقال لهم بيوزردان : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكريا ، قال : الآن صدقتموني ، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم ، فلما رأي بيوزردان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله : أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوش ، وخلا في بني إسرائيل ، ثم قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحداً ، فهدأ الدم بإذن الله تعالى ، ورفع بيوزردان عنهم القتل وقال : آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره ، وقال لبني إسرائيل : إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، وإني لست أستطيع أن أعصيه ، قالوا له : افعل ما أمرت به ، فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنمن فذبحها حتى سال الدم في العسكر ، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم ، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل ، فلما بلغ الدم عسكره أرسل بيوزردان أن ارفع عنهم القتل ، ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد .
فهذا كما ترى ظاهر في أن يحيى تخلف بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام وكذا ما تقدم في آل عمران عن الإنجيل في قصة ولادته .
ولما ختم دعاءه بقوله : ( واجعله رب ) أي أيها المحسن إلي ) رضياً ) أي بعين الرضا منك دائماً حتى يلقاك على ذلك ، قيل في جواب من كأنه قال : ماذا قال له ربه الضي أحسن الظن به ؟ : ( يا زكريا إنا ) أي على ما لنا من العظمة ) نبشرك ( إجابة لدعائك ؛ وقراءة الجماعة غير حمزة بالتشديد أوفق من قراءة حمزة للتأكيد الذي جيء به ، لأن المبشر به لغرابته جدير بالإنكار ) بغلام اسمه يحيى ( ثم وصفه بما عرف به أن مما شرفه به أن ادخر له هذا اتلاسم فقال : ( لم نجعل له ( فيما مضى ، ولعله أتى بالجار الدال على التبعيض تخصيصاً لزمان بني إسرائيل قومه فقال : ( من قبل سمياً ( فكأنه قيل : ما قال في جواب هذه البشارة العظمى ؟ فقيل : ( قال ( عالماً بصدقها طالباً(4/522)
صفحة رقم 523
لتأكيدها ، والتلذيذ بترديدها ، وهل ذلك من امرأته أو غيرها ؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل ) رب ) أي المحسن إليّ بإجابة دعائي دائماً ) أنّى ) أي من أين وكيف وعلى أيّ حال ) يكون لي غلام ( يولد لي على غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة ) وكانت ) أي والحال أنه كانت ) امرأتي ( كانت شابة ) عاقراً ( غير قابلة للولد عادة وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيبن فكيف بها وقد أسنت ) وقد بلغت ( أنا ) من الكبر عتياً ) أي أمراً في اليبس مجاوزاً للحد هو غاية في الكبر ما بعدها غاية ، وقد حصل من ذلك من الضعف ويبس الأعضاء وقحلها ما يمنع في العادة من حصول الولد مطلقاً لاختلال السببين معاً فضلاً عن أن يصلح لأن يعبر عنه بغلام ؛ قال البغوي في آل عمران : وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ؛ وقال الرازي في اللوامع : إن هذا على الاستخبار أيعطيه الله الولد بتلك الحال أم يقلبه شاباً ؟ ولله تعالى في كل صنع تدبيران : أحدهما المعروف الذي يسلكه الناس من توجيه الأسباب إلى المسببات ، والآخر يتعلق بالقدرة المحضة ، ولا يعرفه إلا أهل الاستبصار - انتهى .
) قال كذلك ) أي الأمر ؛ ثم علله بقوله : ( قال ربك ) أي الذي عودك بالإحسان ، وذكر مقول القول فقال : ( هو ) أي خلق يحيى منكما على هذه الحالة ) عليَّ ) أي خاصة ) هين ( لافرق عندي بينه وبين غيره ) وقد خلقتك ) أي قدرتك وصورتك وأوجدتك .
ولما كان القصد تشبيه حاله بالإتيان منه بولد على ضعف السبب بتقديره من النطفة على ضعف سبيتها لكونها تارة تثمر وتارة لا ، وهو الأغلب ، أتى بالجار إشارة إلى ذلك فقال : ( من قبل ) أي قبل هذا الزمان ) ولم ) أي والحال أنك لم : ولما كان عليه السلام شديد التشوف لما يلقى عليه من المعنى في هذه البشرى ، أوجز له حتى بحذف النون وليثبت أنه ليس له من ذاته إلا العدم المحض ، وينفي أن يكون له من ذاته وجود ولوعلى أقل درجات الكون لاقتضاء حاله في هذا التعجب لتذكيره في ذلك فقال : ( تلك شيئاً ) أي يعتد به ، ثم أبرزتك على ما أنت عليه حين أردت ، فتحقق بهذا أنه من امرأته هذه العاقر في حال كونهما شيخين ، ثم قيل جواباً لمن كأنه قال : ما قال بعد علمه بذلك ؟ : ( قال رب ) أي أيها المحسن إليّ بالتقريب ) اجعل لي ( على ذلك ) ءاية ) أي علامة تدلني على وقوعه ) قال ) أي الله : ( ءايتك ( على وقوع ذلك ) ألا تلكم الناس ) أي لا تقدر على كلامهم .
ولما بدئت السور بالرحمة ، وكان الليل محل تنزلها ( ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء(4/523)
صفحة رقم 524
الدنيا فيقول ) - الحديث ، قال : ( ثلاث ليال ) أي بأيامها - كما ذلك عليه التعبير بالأيام في آل عمران حال كونك ) سوياً ( من غير خرس ولا مرض ولا حبسة عن مطلق الكلام ، بل تناجي ربك فيها بتسبيحه وتحميده وتلاوة كتابه وكل ما أردت من مثل ذلك وكذا من عدا الناس من الملائكة وغيرهم من صالح عباد الله ، وجعلت الآية الدالة عليه سكوتاً عن غير ذكر الله دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله دون غيره ) فخرج ( عقب إعلام الله له بهذا ) على قومه ) أي عالياً على العلية منهم ) من المحراب ( الذي كان فيه وهو صدر الهيكل وأشرف ما فيه ، وهو منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس ) فأوحى إليهم ) أي أشار بشفتيه من غير نطق : قال الإمام أبو الحسن الرماني في آل عمران : والرمز : الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ، والأول أغلب ؛ قال : وأصله الحركة .
وسبقه إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فقال : وأما الرمز فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحياناً ، وذلك غير كثير فيهم ، وقدي قال للخفي من الكلام الذي مثل الهمس بخفض الصوت الرمز .
ثم نقل أن المراد به هنا تحرك الشفتين عن مجاهد - انتهى .
وهو ظاهر أيضاً في الوحي لأنه مطلق الإشارة والكناية والكلام الخفي ، فيجوز أن يكون وحيه بكل منهما ، لا يقدر على غير ذلك في مخاطبته للناس ، فإذا توجه إلى مناجاة ربه سبحانه انطلق أحسن انطلاق ) أن سبحوا ) أي أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها ) بكرةوعشياً ( فحملت امرأته كما قلنا فولدت ولداً فسماه يحيى كما بشرناه به فكبر حتى ميز فقلنا : ( يا يحيى خذ الكتاب ) أي التوراة ) بقوة ( .
ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد ، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان ، دل عليه النون في قوله : ( وءاتيناه ( بما لنا من العظمة ) الحكم ) أي البنوة والفهم للتوراة ) صبياً ( لغلبة الروح عليه ، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة ، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض ، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت له تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له .
وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له ) و ( آتيناه ) حناناً ) أي رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة ) من لدنا ( من(4/524)
صفحة رقم 525
مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة ) وزكاة ) أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله ) وكان ) أي جبلة وطبعاً ) تقياً ( خوافاً لله تعالى ) وبراً ) أي واسع الأخلاق محسناً ) بوالديه ولم يكن ( جبلة وطبعاً ) جباراً ( عليهما ولا على غيرهما ؛ ثم قيده بقوله : ( عصياً ( إشارة إلى أن يفعل فعل الجبارين من الغلظة والقتل والبطش بمن يستحق ذلك كما قال تعالى لخاتم النبيين ( صلى الله عليه وسلم )
77 ( ) جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ( ) 7
[ التحريم : 9 ] فكان مطيعاً لله قائماً بحقوقه وحقوق عباده على ما ينبغي ، فهنيئاً له ما أعطاه من هذه الخلال القاضية بالكمال ، والتعبير بصيغة المبالغة يفهم أن المنفي الجبل عليها ، وما دونها يذهبه الله بغسل القلب أو غيره ) وسلام ) أي أيّ سلام ) عليه ( منا ) يوم يولد ( من كل سوء يلحق بالولادة وما بعدها في شيء من أمر الدين ) ويوم يموت ( من كرب الموت وما بعدهن ولعله نكر السلام لأنه قتل فما سلم بدنه بخلاف ما يأتي في عيسى عليه الصلاة والسلام ) ويوم يبعث ( من كل ما يخاف بعد ذلك ) حياً ( حياة هي الحياة للانتفاع بها ، إجابة لدعوة أبيه في أن يكون رضياً ، وخص هذه الأوقات لأن من سلم فيها سلم في غيرها لأنها أصعب منه ؛ أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ، ) وأهوى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : ( ذكره مثل هذه القذاة ) قال الهيثمي : وفيه حجاج ابن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره ، وبقية رجاله ثقات ، وأخرجه أيضاً عن عبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم ، لكن ليس فيه ذكر الذكر ، ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما : كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء - فذكره حتى قال : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما ينبغي أن يكون أحد خيراً من يحيى بن زكريا ، ) قلنا : يا رسول الله وكيف ذاك ؟ قال : ( ألم تسمعوا الله كيف نعته في القرآن ؟ ) يا يحيى خذ الكتاب ( - إلى قوله : ( حياً ( ، مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعمل سيئة ولم يهم بهم ) ورواه أيضاً البزار وفيه على بن زيد بن جدعان ضعفه الجمهور - وقد وثق ، وبقية رجاله ثقات .
وأشار سبحانه بالتنقل في هذه الأطوار إلى موضع الرد على من(4/525)
صفحة رقم 526
ادعى لله ولداً من حيث إن ذلك قاضٍ على الولد نفسه وعلى أبيه بالحاجة ، وذلك مانع لكل من الولد والوالد من الصلاحية لمرتبة الإلهية المنزهة عن الحاجة ، وقد مضى في آل عمران ما تجب مراجعته .
مريم : ( 16 - 25 ) واذكر في الكتاب. .. . .
) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ( ( )
ولما كان حاصل القصة أنه ولد أخرجه الله تعالى عن سبب هو في ضعفه قريب من العدم ، أما من جهته فبلوغه إلى حد من السن وحال في المزاج لا يقبل حركة الجماع عادة ، أما من جهة زوجته فلزيادتها مع يأسها ببلوغها إلى نحو ذلك السن بكونها عاقراً لم تقبل حبلاً قط ، أتبعه بقصة هي أغرب من قصته بكونها ليس فيها إلا سبب واحد وهو المرأة ، وعدم فيها سبب الذكورية أصلاً ، إشارة إلى أنه تعالى يخلق ما يشاء تارة بسبب قوي ، وتارة بسبب ضعف ، وتارة بلا سبب ، ومن كان كذلك كان مستغنياً عن الولد ؛ ولما كان على اليهود الآمرين بالسؤال تعنتاً عن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين أني ينصحوا العرب بالإعلام بأن دينهم باطل لشركهم ، فلم يفعلوا فكانوا جديرين بالتبكيت ، وكانمت قصة زكريا أعظم في تبكيتهم بمباشرتهم لقتله وقتل ولده يحيى عليهما السلام ، قدمها في الذكر ، وتوطئة لأمر عيسى عليه السلام كما مضى بيانه في آل عمران إلزاماً لهم بالاعتراف به ، وللنصارى بالاعتراف بأنه عبد ، كما اعترف كل منهما بأمر يحيى عيه السلام ، وذلك بما جمع بينهما من خرق العادة ، وكانت قصة يحيى أولى من قصة إسحاق عليهما السلام لما تقدم ، ولمشاهدة الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من الفريقين لأمره وأمر يحيى عليهم الصلاة والسلام لما لهما من الاتحاد في الزمن مع ما لهما من قرب النسب ، ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب ، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره : اذكر هذا الهم : ( واذكر ( - بلفظ الأمر ) في الكتاب مريم ( ابنة عمران خالة يحيى - كما في الصحيح من(4/526)
صفحة رقم 527
حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله عنهما في حديث الإسراء : ( فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة ) ثم أبدل من ) مريم ( بدل اشتمال قوله : ( إذ ) أي اذكر ما اتفق لها حين ) انتبذت ) أي كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت ) من أهلها ( حالة ) مكاناَ شرقياً ( عن مكانهم ، فكان انفرادها في جهة مطالع الأنوار إشارة إلى ما يأتيها من الروح الإلهي ) فاتخذت ) أي أخذت بقصد وتكلف ، ودل على قرب المكان بالإتيان بالجار فقال : ( من دونهم ) أي أدنى مكان في مكانهم لانفرادها للا غتسال أو غيره ) حجاباً ( يسترها ) فأرسلنا ( لأمر يدل على عظمتنا ) إليها روحنا ( جبرائيل عليه السلام ليعلمها بما يريد الله بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب ، لئلا يشتبه عليها الأمر ، ويتشعب بها الفكر ، فتقتل نفسها غماً ) فتمثل لها ) أي تشبح وهو روحاني بصورة الجسماني ) بشراً سوياً ( في خلقه حسن الشكل لئلا تشتد نفرتها وروعها منه ؛ ثم أخرج القصة مخرج الاستئناف فقال دالاً على حزمها وخلوص تعبدها لله والتجائها إليه وشهودها له بحيث لا تركن إلى سواه : ( قالت ( .
ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال ، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت : ( إني أعوذ بالرحمن ( ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة ، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة ) منك ( ولما تفرست فيه - بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها - التقوى ، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها : ( إن كنت تقياً قال ( جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه : إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً ، مؤكداً لأجل استعاذتها ، ) إنما أنا رسول ربك ) أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً ، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية ، وعبر باسم الرب المتقضي للإحسان لطفاً بها ، ولأن هذه السورة مصدره بالرحمة ، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده ) لأهب ( بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى ) لك ( وقدم المتعلق تشويقاً إلأى المفعول ليكون أوقع في النفس ؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله : ( غلاماً ) أي ولداً ذكراً في غايىة القوة والرجولية ) زكياً ( طاهراً من كل ما يدنس البش : نامياً على الخير والبركة ) قالت ( مريم : ( أنّى ) أي من أين وكيف ) يكون لي غلام ( ألده ) ولم يمسسني بشر ( بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها .(4/527)
صفحة رقم 528
ولما هالها هذا الأمر ، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته ، فضاق عليها المقام ، فأوجزت حتى بحذف النون من ( كان ) ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت ) ولم أك ( .
ولما كان المولود سر من يلده ، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت : ( بغياً ) أي ليكون دأبي الفجور ، ولم يأت ( بغية ) لغلبة إيقاعه على النساء ، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية ، لا يقال إلا للمتلبسة به ) قال ) أي جبريل عليه السلام ) كذلك ( القول الذي قلت لك يكون .
ولما كان لسان الحال قلائلاً : كيف يكون بغير سبب ؟ أجاب بقوله : ( قال ( ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن ، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال : ( ربك هو ) أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة ) عليّ ) أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري ) هين ) أي خصصناط به ليكون شرفاً به لك .
ولما كان ذلك أعظم الخوارق ، نبه عليه بالنون في قوله ، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق : ( ولنجعله ( بما لنا من العظمة ) ءاية للناس ) أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام ، وبه تمام القسمة الراعية في خلق البشر ، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر ، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى ، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً ) ورحمة منا ( لمن آمن به في أول زمانه ، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه ، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال ) وكان ( ذلك كله ) أمراً مقضياً ) أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً ، ونبه على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة : فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها ) فحملته ( وعقب بالحمل قوله : ( فانتبذت به ) أي فاعتزلت - وهو في بطنها - حالة ) مكاناً قصياً ) أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي ، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله : ( فأجاءها ) أي فأتى بها وألجأها ) المخاض ( وهو تحرك الولد في بطنها للولادة ) إلى جذع النخلة ( وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان ، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها ، فكانت كالعلم لما فيها من العجب ، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة(4/528)
صفحة رقم 529
لها ، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل ، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والدن فكيف إذا كان ذلك في غير وقته فكيف إذا كانت يابسة مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها ، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك .
ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً ، كان كأنه قيل : يا ليت شعري ما كان حالها ؟ فقيل : ( قالت ( لما حصل عندها من خوف العار : ( ياليتني مت ( ولما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار : ( قبل هذا ) أي الأمر العظيم ) وكنت نسياً ) أي شيئاً من شأنه أن ينسى ) منسياً ) أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال ، فولدته ) فناداها من تحتها ( وهو عيسى عليه السلام ) ألا تحزني ( قال الرازي في اللوامع : والأصح أن مدة حملها له وولادته ساعة لأنه كان مبدعاً ، ولم يكن من نطفة تدور في أدوار الخلقة - انتهى .
ونقله ابن كثير وقال : ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم أنكروا عليها زمن الحمل ، ولو علموا به لأنكروه ولو أنكروه لنقل كما نقل إنكار الولادة .
ولما أنكروا الولادة فكأنها قالت : لم لا أحزن ؟ وتوقعت ما يعلل به ؟ قال : ( قد جعل ربك ) أي المحسن إليك ) تحتك ( في هذه الأرض التي لا ماء جارياً بها ) سرياً ( جدولاً من الماء جليلاً آية لك تطيب نفسك ) وهزي إليك ) أي أوقعي الهز وهو جذب بتحريك .
ولما كان المقصود التهويل لصرف فكرها عما دهمها من الهم جعله قاصراً فكأنها قالت : ما أهز ؟ إذ لم يكن في الجذع ما يتوقع نفعه بهزه ، فقال مصرحاً بالمهموز : ( بجدع النخلة ( التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها فكأنها قالت : ولم ذاك ؛ فقال : ( تساقط عليك ( من أعلاها ) رطباً جنياً ( طرياً آية أخرى عظيمة تطيب النفس وتذهب بالحزن ، وتدل على البراءة ، والتعبير بصيغة التفاعل في قراءة لاجماعة وحمزة للدلالة علىأن التمر يسقط منها ، ومن حقه أن يكون منتفياً لأنها غير متأهلة لذلك ، فهو ظاهر في أنه على وجه خارق للعادة ، وقراءة الجماعة بالإدغام تشير مع ذلك إلى أنه مع شدته يكاد أن يخفي كونه منها ليبسها وعدم إقنائها ، وقراءة حمزة بالفتح والتخفيف تشير إلى سهولة تساقطه وكثرته ، وقراءة حفص عن عاصم بالضم وكسر القاف من فاعل ، تدل على الكثرة وأنه ظاهر في كونهه من فعلها .(4/529)
صفحة رقم 530
مريم : ( 26 - 33 ) فكلي واشربي وقري. .. . .
) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ( ( )
ولما كان من المعلوم أنها هزت فتساقط الرطب ، سبب عنه قوله : ( فكلي ) أي فتسبب عن الإنعام عليك بالماء والرطب أن يقال لك تمكيناً من كل منهما كلي من الرطب ) واشربي ( من ماء السرى ) وقري ) أي استقري ) عيناً ( بالنوم ، فإن المهموم لاينام ، والعين لا تستقر ما دامت يقظي ، وعن الأصمعي أن المعنى : ولتبرد دمعتك ، لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة ، واشتقاق ( قري ) من القرور ، وهو الماء البارد - انتهى .
وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : وحكى الفراء أن قريشاً ومن حولهم يقولون : قررت به عيناً - أي بكسر العين - أقر ، وأن أسداً وقيساً وتميماً يقولون : قررت به عيناً - أي بالفتح - أقر ، قال - يعني الفراء : فمن قال : قررت - أي بالكسر - قرأ ، وقرى عيناً - أي بالفتح ، وهي القراءة المعروفة ، ومن قال : قررت ، - أي بالفتح قراً وقري عيناً - بكسر القاف أي وهي الشاذة ، قال - أي القزاز : هي لغة كل من لقيت من أهل نجد ، والمصدر قرة وقرور .
وسيأتي في القصص ما ينفع هنا ، وهو على كل حال كناية عن طيب النفس وتأهلها لأن تنام بالكفاية في الدنيا بطعام البدن وغذاء الروح بكونه آية باهرة ، والآخرة بالكرامة وذلك على أنفع الوجوه ، قيل : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل ؛ ثم سبب عن ذلك قوله مؤكداً إيذاناً بأن أكثر رؤيتها في تلك الأوقات الملائكة عليهم السلام ) فإما ترين ) أي يا مريم ) من البشر أحداً ( لا تشكين أنه من البشر ينكر عليك ) فقولي ( لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على لابراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه : ( إني نذرت للرحمن ) أي الذي عمت رحمته فأدخلني فيها على ضعفي وخصني بما رأيت من الخوارق ) صوماً ) أي صمتاً ينجي من كل وصمة وإمساكاً عن الكلام ) فلن ) أي فتسبب عن النذر أني لن ) أكلم اليوم إنسياً ( فإن كلامه يقبل الرد والمجادلة ولكن يتكلم عني المولود الذي(4/530)
صفحة رقم 531
كلامه لا يقبل الدفع ، وأما أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر ، قالوا : ومن أذل الناس سفيهاً لم يجد مسافهاً ، ومن الدلالة عليه بالصمت عن كلام الناس مع ما تقدم الإشارة إلى أنه ردع مجرد ) فأتت ) أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها ، وزال حزنها ، وأتت ) به ) أي بعيسى ) قومها ( وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه ) تحمله ( غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل : فما قالوا لها ؟ فقيل : ( قالوا يا مريم ( ما هذا ؟ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم ) لقد جئت ( بما نراه ) شيئاً فرياً ( قطعياً منكراً ) يأخت هارون ( في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام ) ما كان أبوك ) أي عمران ساعة من الدهر ) امرأ سوء ( لنقول : نزعك عرق منه ) وما كانت أمك ( في وقت من الأوقات ) بغياً ) أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها ) فأشارت ( امتثالاً لما أمرت به ) إليه ) أي عيسى ليكلموه فيجيب عنها ) قالوا كيف نكلم ( يا مريم ) من كان في المهد ) أي قبيل إشارتك ) صبياً ( لم يبلغ سن هذا الكلام ، الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير ب ( كان ) يدل على أنه حين الإشارة إليه لم يحوجهم إلى أن يكلموه ، بل حين سمع المحاورة وتمت الإشارة بدا منه قوله خارق لعادة الرضعاء والصبيان ، ويمكن أن تكون تامة مشيرة إلى تمكنه في حال ما دون سن الكلام ، ونصب ) صبياً ( على الحال ، فلما كانت هذه العبارة مؤذنة بذلك استأنف قوله : ( قال ) أي وصفاً نفسه بما ينافي أوصاف الأخابث ، مؤكداً لإنكارهم أمره فقال : ( إني عبد الله ) أي الملك الأعظم الذي له صفات اكمال لا أتعبد لغيره ، إشارة إلى الإعتقاد الصحيح فيه ، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى ) ءاتاني الكتب ) أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني ) وجعلني ) أي في علمه ) نبياً ( ينبئ بما يريد في الوقت الذي يريد ، وقيل في ذلك : فانبئكم به ) وجعلني مباركاً ( بأنواع البركات ) أين ما ( في أي مكان ) كنت ( فيه .
ولما سبق علمه سبحانه أنه يدعي في عيسى الإلهية أمره أن يقول : ( وأوصاني بالصلاة ( له طهرة للنفس ) والزكاة ( طهره للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري ) ما دمت حياً ( ليكون ذلك حجة على من أطره لأنه لا شبهة في أن من يصلي لإله ليس بإله ) وبراً ) أي وجعلني براً ، أي واسع الخلق طاهره .
ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه ، صرح ببراءتها فقال : ( بوالدتي ) أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر ، فلا والد لي غيرها ) ولم(4/531)
صفحة رقم 532
يجعلني جباراً ( بأن أفعل الجبارين بغير استحقاق ، إنما أفعل ذلك بمن يستحق وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا ، وذلك أنه يستشعر ما عنده مكن النقص فيريد أن يجبره بتجبره ، ثم أخبر بما له من الله من الكرامة الدائمة مشيراً إلى أنه لا يضره عدو ، وإلى أنه عبد لا يصلح أن يكون إلهاً وإلى البعث فقال : ( والسلام ) أي جنسه ) عليَّ ( فلا يقدر أحد على ضرري ) يوم ولدت ( فلم يضرني الشيطان ومن يولد لا يكون إلهاً ) ويوم أموت ( كذلك أموت كامل البدن والدين ، لا يقدر أحد على انتقاصهما مني كائناً من كان ) ويوم أبعث حياً ( يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام ، إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر ، وإذا كان جنس السلام عليه كان اللعن على أعدائه ، فهو بشارة لمن صدقة فإنه منه ، ونذارة لمن كذبه ، ولم يكن لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل هذه الخارقة لئلا يلتبس حاله بالكهان ، لأن قومه لا عهد لهم بالخوارق إلا عندهم ، وإذا تقرر ذلك إنطاق الرضعاء كمبارك اليمامة وغيره ، وإنطاق الحيوانات العجم ، بل والجمادات كالحجارة وذراع الشاة المسمومة والجذع اليابس وغيرها .
مريم : ( 34 - 37 ) ذلك عيسى ابن. .. . .
) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ( )
ولما كان في ذلك من أقوال عيسى وأحواله - المنادية بالحاجة للتنقل في أطوار غيره من البشر والكرامة من الله - أعظم البيان عن بعده عما ادعى فيه النصارى من الإليهية واليهود من أنه لغير رشده ، نبه على ذلك مشيراً إليه بأداة البعد فقال مبتدئاً : ( ذلك ) أي الولد العظيم الشأن ، العلي الرتبة ، الذي هذه أحواله وأقوالخ البعيدة عن صفة الإله وصفة من ارتاب في أمره ؛ ثم بين اسم الإشارة أو أخبر فقال : ( عيسى ابن مريم ) أي وحدها ليس لغيرها فيه بنوة أصلاً ، وهي من أولاد آدم ، فهوكذلك ؛ ثم عظم هذا البيان تعظيماً آخر فقال : ( قول ) أي هو - أي نسبته إلى مريم فقط - قول ) الحق ) أي الذي يطابقه الواقع ، أويكون القول عيسى نفسه كما أطلق عليه في غير هذا الموضع ( كلمة ) من تسمية المسبب باسم السبب وهو على هذه القراءة خبر بعد خبر أو بدل أو خبر مبتدأ محذوف ، وعلى قراءة عاصم وابن عامر بالنصب ، هو اغراء ، أي الزموا ذلك وهو نسبته إلى مريم عليهما السلام وحدها ثم عجب من ضلالهم فيه بقوله : ( الذي فيه يمترون ) أي يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلونه به مع أن أمره في غاية الوضوح ، ليس موضعاً(4/532)
صفحة رقم 533
للشك أصلاً ؛ ثم دل على كونه ابن مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضل : ( ما كان ) أي ما صح ولا تأتي ولا تصور في العقول ولا يصح ولا يتأتيى لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة ) لله ( الغني عن كل شيء ) إن يتخذ ( ولما كان المقام يقتضي النفي العام ، أكده ب ( من ) فقال : ( من ولد ( .
ولما كان اتخاذ الولد من النقائص ، أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله : ( سبحانه ) أي تنزه عن كل نقص من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله : ( إذا قضى أمراً ) أي أمر كان ) فإنما يقول له كن ) أي يريده ويعلق قدرته به ) فيكون ( من غير حاجة إلى شيء أصلاً ، فكيف ينسب إلى الاحتياج إلى الإحبال والإيلاد والتربية شيئاً فشيئاً كما أشار إليه الاتخاذ .
ولما كان لسان الحال ناطقاً عن عيسى عليه الصلاة والسلام بأن يقول : وقد قضاني الله فكنت كما أراد ، فأنا عبد الله وروسوله فاعتقدوا ذلك ولا تعتقدوا سواه من الأباطيل ، عطف عليه في قراءة الحرميين وأبي عمرو قوله : ( وإن الله ) أي الذي له ذلك ) فاعبدوه ( وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده ، وقراءة الباقين بالكسر على أنه مقول عيسى عليه السلام الماضي ، ويكون اعتراض ما تقدم من كلام الله بينهما للتأكيد والاهتمام .
ولما كان اشتراك الخلائق في عبادة الخالق بعمل القلب والجوارح علماً وعملاً أعدل الأشياء ، أشارإلى ذلك بقوله : ( هذا ) أي الذي أمرتكم به ) صراط مستقيم ( لأنا بذلنا الحق لأهله بالاعتقاد الحق والعمل الصالح ، ولم يتفضل أحد منا فيه على صاحبه .
ولما كان المنهج القويم بحيث يكون سبباً للاجتماع عند كل صحيح المزاج ، عجب منهم في استثمارغير ذلك منه فقال : ( فاختلف ) أي فتسبب عن هذا السبب للاجتماع أنه اختلف ) الأحزاب ( الكثيرون .
ولما كان الاختلاف لم يعم جميع المسائل التي في شرعهم قال : ( من بينهم ) أي بني إسرائيل المخاطبين بذلك خاصة لم تكن فيهم فرقة من غيرهم في هذه المقالة القويمة التي لا تنبغي لمن له أدنى مسكة أن يتوقف في قبولها ، فمنهم من أعلم أنها الحق فاتبعها ولم يحد عن صوابها ، ومنهم من أبعد في الضلال عنها بشبه لا شيءأو هي منها ؛ روي عن قتادة أنه اجتمع من أحبار بني إسرائيل أربعة : يعقوب ونسطوروملكا وإسرائيل ، فقال يعقوب : عيسى هو الله نزل إلى الأرض فكذبه الثلاثة واتبعه اليعقوبية ، وقال نسطور : عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعه(4/533)
صفحة رقم 534
النسطورية ، وقال ملكاً : عيسى أحد ثلاثة : الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله ، فكذبه الرابع واتبعه طائفة ، وقال إسرائيل : عيسى عبد الله كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فاتبعه فريق من بني إسرائيل ، ثم اقتتل الأربعة فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع - ذكر معناه أبو حيان وابن كثير ورواه عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ) فويل ) أي فتسبب عن اختلافهم أنا نقول : ويل ) للذين كفروا ( منهم ومن غيرهم ) من مشهد يوم عظيم ( في جمعه لجميع الخلائق ، وما فيه من الأهوال والقوارع .
مريم : ( 38 - 41 ) أسمع بهم وأبصر. .. . .
) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً ( ( )
ولما كان ذلك المشهد عظيم الجمع ، شديد الزحام مستوي الأرض ، بعيد الأرجاء ، كان حاله مقتضياً لئلا يطلعوا على غير ما يليهم من أهواله ، فقال في جواب من يقول : وما عسى أن يسمعوا أو يبصروا فيه ، معلماً بأن حالهم في شدة السمع والبصر جديرة بأن يعجب منها : ( أسمع بهم وأبصر ) أي ما أشد سمعهم وما أنفذ بصرهم ) يوم يأتوننا ( سامعين لكل أهواله ، مبصرين لسائرأحواله ، فيطلعون بذلك على جميع ما أدى عمله في الدنيا إلى ضرهم في ذلك اليوم ، وجميع ما كانم ينفعهم لو عملوه ، فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ، ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ونحوه ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك ، بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم ، فيكونون بسلوك ذلك - وهم يعلمون ضرره عمياً وبكماً وصمّاً ، لأنهم لا ينتفعون بمداركهم كما كانوا في الدنيا كذلك ، لكنهم - هكذا كان الأصل ، وإنما ظهر فقال : ( لكن الظالمون ( تنبيهاً على الوصف الذي أحلهم ذلك المحل ) اليوم في ضلال مبين ( لايسمعون ولايبصرون .
لوما كان هذا الذي تقدم إنذاراً بذلك المشهد ، كان التقدير : أنذر قومك ذلك المشهد وما يسمعونه فيه ويبصرونه ) وأنذرهم يوم الحسرة ( نفسه في ذلك المشهد العظيم ، يوم تزل القدم ، ولا ينفع الندم ، للمسيء على إساءته ، وللمحسن على عدم ازدياده من الإحسان .
ولما كان ) يوم ( مفعولاً ، لا ظرفاً ، أبدل منه ، أو علل الإنذار فقال : ( إذ ) أي حين ، أو لأنه ، وعبر عن المستقبل بالماضي ، إيذاناً بأنه أمر حتم لا بد منه فقال : ( قضي الأمر ) أي أمره وفرغ منه بأيسر شأن وأهون أمر ، وقطعنا أنه لا بد من كونه(4/534)
صفحة رقم 535
) وهم ( حال من ) أنذرهم ) أي والحال أنهم الآن ) في غفلة ( عما قضينا أن يكون في ذلك الوقت من أمره ، لا شعور لهم بشيء منه ، بل يظنون أن الدهر هكذا حياة وموت بلا آخر ) وهو لا يؤمنون ( بأنه لا بد من كونه ؛ وفي الصحيح ما يدل على أن يوم الحسرة حين يذبح الموت فقد روى مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ، فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، ويقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ) ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي وراية : فذلك قوله ) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ( ( الآية .
وأما الغفلة ففي الدنيا ، روى ابن حبان في صحيحه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذ قضي الأمر وهم في غفلة ( قال ( في الدنيا .
) قال المنذري : وهو في مسلم بمعناه في آخر حديث .
ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله ، وكان سبحانه قد قضى بموت الخلائق أجمعين ، وأنه يبقى وحده ، عبر عن ذلك بالإرث مقرراً به مضمون الكلام السابق ، فقال مؤكدا تكذيباً لقولهم : إن الدهر لا يزال هكذا ، حياة لقوم وموت لآخرين ) إنا نحن ( بعظمتنا التي اقتضت ذلك ولا بد ، وأفاد الأصبهاني أن تأكيد اسم ) إن ( أفاد أن الإسناد إليه سبحانه لا إلى أحد من جنده ) نرث الأرض ( فلا ندع بها عامراً من عاقل ولا غيره .
ولما كان العاقل أقوى من غيره ، صرح به بعد دخوله فقال : ( ومن عليها ) أي من العقلاء ، بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم ) وإلينا ( لا إلى غيرنا من الدنيا وجبابرتها إلى غير ذلك ) يرجعون ( معنى في الدنيا وحساً بعد الموت .
ولما ذم الضالين في أمر المسيح ، وعلق تهديدهم بوصف دخل فيه مشركو العرب ، فأنذرهم بصريح تكذيبهم بالبعث ، وغيرهم بأنهم لسوء أعمالهم كالمكذبين به ، وختم ذلك بأنه الوارث وأن الرجوع إليه ، ودخل في ذلك الإرث بغلبة أنبيائه وأتباعهم على أكثر أهل الأرض برجوع أهل الأديان الباطلة إليهم حتى يعم ذلك جميع أهل الأرض في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام ، وكان إبراهيم عليه السلام لكثرة أولاده من العرب والروم وأهل الكتابين وراثاً لأكثر الأرض ، وكان مثل زكريا في هبة الولد على(4/535)
صفحة رقم 536
كبر سنه وعقم زوجه ، أتبع ذلك قوله : ( إبراهيم ( أعظم آبائكم الذي نهى أباه عن المشرك يا من يكفرون تقليداً للآباء ثم علل تشريفه بذكر له على سبيل التأكيد المعنوي بالاعتراض بين البدل والمبدل منه ، واللفظي ب ( إن ) بقوله منبهاً على أن مخالفتهم له بالشرك والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك تكذيب بأوصافه الحسنة : ( إنه كان ) أي جبلة وطبعاً ) صديقاً ) أي بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله ، والتصديق بكل ما يأتيه مما هو أهل لأنه مجبول على ذلك ولا يكون كذلك إلا وهو عامل به حق العمل فهو أبلغ من المخلص ) نبياً ) أي يخبره الله بالأخبار العظيمة جداً التي يرتفع بها في الدارين وهو أعظم الأنبياء بعد محمد - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام كما رواه الحافظ أبو البزار ببسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه وأكده وكذا أكد فيما بعده من الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا مقرين بنبواتهم تنزيلاً لهم منزلة المنكر ، لجريهم في إنكارهم نبوة البشر على غير مقتضى عليهم .
مريم : ( 42 - 50 ) إذ قال لأبيه. .. . .
) إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً يأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهٍّمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ( ( )
ولما تكفل ما تقدم من هذه السورة بنفي الشريك بقيد كونه ولداً ، أتبع ذلك من قصته ما ينفي الشريك ليفتدي به أولاده في ذلك إذ كانوا يقلدون الآباء وليس في آبائهم مثله ، فقال مبدلاً من ) إبراهيم ( ) إذ قال ) أي اذكر وقت قوله ) لأبيه ( هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله : ( يا أبت ( .
ولما كان العاقل لا يفعل فعلاً إلا لثمر ، نبهه على عقم فعله بقوله : ( لم تعبد ( مريداً بالاستفهام المجاملة ، واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله : ( ما لا يسمع ولا يبصر ) أي ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً .
ولما كان(4/536)
صفحة رقم 537
الأعمى الأصم قد ينفع بكلام أو غيره ، قال : ( ولا يغني عنك شيئاً ( من الإغناء .
ولما نبه على أن ما يعبده لا يستحق العبادة ، بل لا تجوز عبادته ، لنقصه مطلقاً ثم نقصه عن عابده ، ولن يكون المعبود دون العابد أصلاً ، وكان أقل ما يصل إليه بذلك مقام الحيرة ، نبهه على أنه أهل للهداية ، فقال مكرراً لوصفه المذكور بالعطف والود : ( يأبت ( وأكد علماً منه أنه ينكر أن يكون ابنه أعرف منه بشيء فقال : ( إني قد جاءني ( من المعبود الحق ) مت العلم ما لم يأتك ( منه ) فاتبعني ) أي فتسبب عن ذلك أني أقول لك وجوباً على النهي عن المنكر ونصيحة لما لك علي من الحق : اجتهد في تبعي ) أهدك صراطاً سوياً ( لا عوج فيه ، كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أن أمامنا مهالك لا ينجو منها أحد ، وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك ، لأطعتني ، لو عصيتني فيه عدك كل أحد غاوياً .
ولما بين أنه لا نفع فيما بعده ، ونبهه على الوصف المقتضي لوجوب الاقتداء به ، بين له ما في عبادة معبوده من الضر فقال : ( يا أبت لا تعبد الشيطان ( فإن الأصنام ليس لها دعوة أصلاً ، والله تعالى قد حرم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل ولي له ، فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان ، فكان هو المعبود بعبادتها في الحقيقة ؛ ثم علل هذا النهي فقال : ( إن الشيطان ( البعيد من كل خير المحترق باللعنة ، وذكر الوصف الموجب للإملاء للعاصي فقال : ( كان للرحمن ( المنعم بجنيع النعم القادر على سلبها ، ولم يقل : للجبار - لئلا يتوهم أنه ما أملى لعاصيه مع جبروته إلا للعجز عنه ) عصياً ( بالقوة من حين خلق ، وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم فأبى فهو عدو لله وله ، والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء ، لأن صديق العدو عدو .
فلما بين له أنه بذلك عاص للمنعم ، خوفه من إزالته لنعمته فقال : ( يا أبت إني أخاف ( لمحبتي لك وغيرتي عليك ) أن يمسك عذاب ) أي عذاب كائن ) من الرحمن ) أي الذي هو ولي كل من يتولاه لعصيانك إياه ) فتكون ) أي فتسبب عن ذلك أن تكون ) للشيطان ( وحده وهو عدوك المعروف العداوة ) ولياً ( فلا يكون لك نصرة أصلاً ، مع ما يوصف به من السخافة باتباع العدو الدني ، واجتناب الولي العلي .
فلما وصل إلى هذا الحد من البيان ، كان كأنه قيل : ماذا كان جوابه ؟ فقيل : ( قال ( مقابلاً لذلك الأدب العظيم والحكمة البالغة الناشئة عن لطافة العلم بغاية الفظاظة الباعث كثافة الجهل ، منكراً عليه في جميع ما قال بإنكار ما بعثه عليه من تحقير آلهته : ( أراغب ( قدم الخبر لشدة عنايته والتعجب من تلك الرغبة والإنكار لها ، إشارة إلى أنه لا يفعلها أحد ؛ ثم صرح له بالمواجهة بالغلظة فقال : ( أنت ( وقال : ( عن ءالهتي ((4/537)
صفحة رقم 538
بإضافتها إلى نفسه فقط ، إشارة إلى مبالغته في تعظيمها ؛ والرغبة عن الشيء : تركه عمداً .
ثم ناداه باسمه لا بلفظ النبوة المذكر بالشفقة والعطف زيادة في الإشارة إلى المقاطعة وتوابعها فقال : ( يا إبراهيم ( ثم استأنف قوله مقسماً : ( لئن لم تنته ( عما أنت عليه ) لأرجمنك ) أي لأقتلنك ، فإن ذلك جزاء المخالفة في الدين ، فاحذرني ولا تتعرض لذلك مني وانته ) واهجرني ) أي ابعد عني ) ملياً ) أي زماناً طويلاً لأجل ما صدر منك هذا الكلام ، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ، ويقاسي من قومه من العناء ، ومن عمه أبي لهب من الشدائد والبلايا - بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً ) قال ) أي إبراهيم عليه السلام مقابلاً لما كان من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العلم : ( سلام عليك ) أي أنت سالم مني ما لم أومر فيك بشيء ؛ ثم استأنف قوله : ( سأستغفر ( بوعد لا خلف فيه ) لك ربي ) أي المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للاسلام الجابّ لما قبله ، لأن هذا كان قبل أن يعلم أنه عدو لله محتوم بشقاوته بدليل عدم جزمه بعذابه في قوله : ( إني أخاف أن يمسك ( .
ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال : ( إنه كان بي ) أي في جميع أحوالي ) حفيّاً ) أي مبالغاً في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة ، ثم عطف على عدوه بالإحسان وعده بما سأل فيه الهجرة فقال : ( وأعتزلكم ) أي جميعاً بترك بلادكم ؛ وأشار إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله : ( وما تدعون ) أي تعبدون ) من دون الله ( الذي له الكمال كله ، فمن أقبل عليه وحده أصاب ، ومن أقبل على غيره فقد خاب ولم يقيد الاعتزال بزمن ، بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ) وأدعوا ) أي أعبد ) ربي ( وحده لا ستحقاقه ذلك مني بتفرده بالإحسان إليّ ، ثم دعا لنفسه بما نبههم به على خيبة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه : ( عسى ألاّ أكون ) أي كوناً ثابتاً كأنه احترز بذلك عما لا بد للأولياء منه في الدنيا من البلاء ) بدعاء ربي ( المتفرد بالإحسان إلي ) شقياً ( كما كنتم أنتم أشقياء بعبادة ما عبدتموه ، لأنه لا يجيب دعاءكم ولا ينفعكم ولا يضركم .
ولما رأى من أبيه ومعاشريه ما رأى ، عزم على نشر شقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد ، فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمة الله :
وما غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بست وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي(4/538)
صفحة رقم 539
وحقق ما عزم عليه ؛ ثم بين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال : ( فلما اعتزلهم ) أي بالهجرة إلى الأرض المقدسة ) وما يعبدون ) أي على الاستمرار ) من دون الله ( الجامع لجميع معاني العظمة التي لا ينبغي العبادة لغيره ) وهبنا ) أي على ما لنا من العظمة ) له ( كما هو الشأن في كل كن ترك شيئاً لله ) إسحاق ( ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سن اليأس وأخذه هو في السن إلى حد لا يولد لمثله ) ويعقوب ( ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأما إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإيحائه به تلك المشاعر العظام فأجروه بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه ؛ ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته فقال : ( وكلاًّ ) أي منهما ) جعلنا نبياً ( عالي المقدار ، ويخبر بالأخبار كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً ) ووهبنا لهم ( كلهم ) من رحمتنا ) أي شيئاً عظيماً جداً ، بالبركة في الأموال والأولاد وإجابة الدعاء ، واللطف في القضاء وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة ) وجعلنا لهم ( بما لنا من العظمة ) لسان صدق عليّاً ) أي ذكراً صادقاً رفيع القدر جداً يحمدون به ويثنى عليهم من جميع أهل الملل على كر الأعصار ، ومر الليل والنهار ، وعبر باللسان عما يوجد به ، وفي ذلك ترغيب في الهجرة ثانياً بعد ما رغب فيها بقصة أهل الكهف أولاً ، وأشار إليها بقوله في ) سبحان ( ) ) وقل رب أدخلني مدخل صدق ( ) [ الإسراء : 80 ] الآية .
مريم : ( 51 - 55 ) واذكر في الكتاب. .. . .
) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ( ( )
ولما كان موسى أول من نوه الله بأسمائهم ، على لسانه في التوارة ، وأظهر محامدهم ، وشهر مناقبهم ، وتوارث ذلك أبناؤهم منه حتى شاع أمرهم وذاع ، وملأ الأسماع ، وطار في الأقطار ، حتى عم البراري والبحار ، عقب ذكرهم بذكره فقال : ( واذكر في الكتاب ) أي الذي لا كتاب مثله في الكمال ) موسى ) أي الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من العبودية والذل ختى تمكنوا من آثار آبائهم ، وكان موافقاً لأبيه إبراهيم عليهم السلام في أن كلاً منهما أراد ملك زمانه الذي ادعى الربوبية قتله خوفاً على ملكه منه ، فأنجاه الله منه ، وأمر موسى أعجب لأنه سبحانه أنجاه من الذبح بالذباح ، ثم علل ذركه له بقوله : ( إنه كان ) أي كوناً عريقاً فيه ) مخلصاً ( لله تعالى في توحيده وجميع(4/539)
صفحة رقم 540
أعماله كما أشارت إليه قراءة الجمهور - من غير كلفة في شيء ، في ذلك لأن الله أخلصه له كما في قراءة الكوفيين بالفتح ) وكان رسولاً ( إلى بني إسرائيل والقبط ) نبياً ( ينبئه الله بما يريد من وحيه لينبئ به المرسل إليهم ، فيرفع بذلك قدره ، فصار الإخبار بالنبوة عنه مرتين : إحداهما في ضمن ) رسولاً ( والأخرى صريحاً مع إفهام العلو باشتقاقه من النبوة ، وبكون النبأ لا يطلق عليه غالباً إلا على خبر عظيم ، فصار المراد : رسولاً عالياً مقداره ويخبر بالأخبار الجليلة ، وفيه دفع لما يتوهم من أنه رسول عن بعض رسله كما في أصحاب يس ؛ وعطف على ذلك دليله الدال على ما صدرت به السورة من الرحمة ، فرحمة بتأنيس وحشته وتأهيل غربته بتلذيذه بالخطاب وإعطائه الكتاب فقال : ( وناديناه ) أي بما لنا من العظمة ) من جانب الطور ) أي الجانب ) الأيمن ( فأنبأه هنالك - حين كان متوجهاً إلى مصر - بأنه رسولنا ، ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون ، فكان لنبي إسرائيل به من العجائب في رحمتهم بإنزال الكتاب ، والإلذاذ بالخطاب ، من جوف السحاب ، وفي إماتتهم لما طلبوا الرؤية ، ثم إحيائهم وغير ذلك ما يجل عن الوصف على ما هو مذكور في التوراة ، وتقدم كثير منه في هذا الكتاب ) وقربناه ( بما لنا من العظمة تقريب تشريف حال كونه ) نجيّاً ( نخبره من أمرنا بلا واسطة من النجوى وهي السر والكلام بين الاثنين كالسر ، والتشاور كما في يوسف ويأتي في المجادلة ) ووهبنا له ) أي هبة تليق بعظمتنا ) من رحمتنا ( له لما سألنا ) أخاه ) أي معاضدة أخيه وبينه بقوله : ( هارون ( حال كونه ) نبياً ( أو هو بدل أي نبوته شددنا به أزره ، وقوينا به أمره ، وكان يخلفه من قومه عند ذهابه إلى ساحة المماجاة ، ومع ذلك فأشركوا بي صورة عجل ، فلا تعجب من غرورهم للعرب مع مباشرتهم لهذه العظائم .
ولما كان إسماعيل عليه الصلاة والسلام هو الذي ساعد أباه إبراهيم عليه السلام في بناء البيت الذي كان من الأفعال التي أبقى الله بها ذكره ، وشهر أمره وكان موافقاً لموسى عليه السلام في ظهور آية الماء الذي به حياة كل شيء وإن كانت آية موسى عليه السلام بانقضائه ، وآيته هو باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهي التي كانت سبب حياته وماؤها ببركته أفضل مياه الأرض ، وجعل سبحانه آية الماء التي أظهرها له سبب حفظه من الجن والإنس والوحش وسائر المفسدين ، إشارة إلى أنه سبحانه يحيي بولده محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي غذاه بذلك الماء ورباه عند ذلك البيت إلى أن اصطفاه برسالته ، فحسدته اليهود وأمرت بالتعنت عليه - ما لم يحي بغيره ، ويجعله قطب الوجود كما خصه - من بين آل إبراهيم عليه السلام - بالبيت الذي هو كذلك قطب الوجود ، ويشفي به من داء الجهلن ويغني به من مرير الفقر ، كما جعل ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) آخر من شيد قدرهم ، وأعظم من أعلى ذكرهم ، عقب(4/540)
صفحة رقم 541
ذكره بذلك فقال : ( واذكر في الكتاب ( أباك الأقرب ) إسماعيل ( ابن إبراهيم عليهما السلام الذي هم معترفون بنبوته ، ومفتخرون برسالته وأبوته ، فلزم بذلك فساد تعليلهم إنكار نبوتك بأنك من البشر ، ثم علل ذكره والتنويه بقدره بقوله معلماً بصعوبة الوفاء بالتأكيد : ( إنه كان ( جبلة وطبعاً ) صادق الوعد ( في حق الله وغيره لمعونة الله له على ذلك ، بسبب أنه لا يعد وعداً إلا مقروناً بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبرهم بأمر ذبحه ) ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( فكن أبي كذلك ولا تقولن لشي إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ، وخصه بالمدح به - وإن كان الأنبياء كلهم كذلك - لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله ) وكان رسولاً نبياً ( بنأه الله بأخباره ، وأرسله إلى قومه جرهم قاله الأصبهاني .
وأتى أهل البراري بدين أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فأحياها الله بنور الإيمان الناشئ عن روح العلم ووصفه بالرسالة زيادة على وصف أخيه إسحاق عليهما السلام وتقدم في أمر موسى عليه السلام سر الجمع بين الوصفين ؛ وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي - عن عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن الله ( اصطفى كنانة من ولد إسماعيل عليه السلام ) .
وفي رواية الترمذيأن الله اصطفى من ولد إبرايهم إسماعيل .
) وكان يأمر أهله بالصلاة ( التي هي طهرة البدن وقرة العين وخير العون على جميع المآرب ) والزكاة ( التي هي طهرة المال ، كما أوصى الله بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وتقدم في هذه السورة أنه سبحانه وتعالى أوصى بذلك عيسى عليه السلام ) وكان عند ربه ( لعبادته على حسب ما أقامته ربوبيته ) مرضياً ( فاقتد أنت به فإنه من أجل آبائك ، لتجمع بين طهارة القول والبدن والمالل ، فتنال رتبة الرضا .
مريم : ( 56 - 59 ) واذكر في الكتاب. .. . .
) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ( ( )
ولما كان إسماعيل عليه السلام قد رفع بالسكنى حياً إلى أعلى مكان في الأرض رتبة ، وكان أول نبي رمى بالسهامن وكان إدريس عليه السلام - مع رفعته إلى المكان العلي - أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار ، وأول من نظر في علم النجوم والحساب ، وخط بالقلم ، وخاط الثياب ولبس الجبة وكان أغربهم قصة ، وأعجبهم أمراً ، وأقدمهم زمناً ، ختم به هذه القصص تأييداً لهذا النبي الكريمن بما بين له من القصص التي هي(4/541)
صفحة رقم 542
أغرب مما أمر اليهود بالتعنت فيه ، وإشارة إلى أن الله تعالى يؤتي أتباعه من علوم إدريس الأرضية والسماوية مما يستحق أن يحفظ بالخط ويودع بطون الكتب لضيق الصدور عن حفظه ما لم يؤته أمة من الأمم ، وأنه يجمع شملهم ، وترهيباً للمتعنتين بأنهم إن لم ينتهوا وضع فيهم السلاح كما فعل إدريس عليه السلام بكفار زمانه فقال : ( واذكر في الكتاب ) أي الجامع لكل ما يحتاج إليه من القصص المتقدمين والمتأخرين ) إدريس ) أي الذي هو أبعد ممن تعنت بهم اليهود زماناً ، وأخفى منهم شأناً ، وهو جد أبي نوح عليه السلام واسمه حنوخ بمهملة ونون وآخره معجمة ) إنه كان صديقاً ) أي صادقاً في أقواله وأفعاله ، ومصدقاً بما أتاه عن الله من آياته على ألسنة الملائكة ) نبياً ( ينبئه الله تعالى بما يوحيه إليه من الأمر العظيم ، رفعة لقدره ، فينبئ به الناس الذين أرسل إليهم ) ورفعناه ( جزاء منا له على تقواه وإحسانه ، رفعة تليق بعظمتنا ، فأحللناه ) مكاناً علياً ) أي الجنة أو السماء الرابعة ، وهي التي رآه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بها ليلة الإسراء ؛ قال ابن قتيبة في المعارف : وفي التوراة أن أخنوخ أحسن قدام الله فرفعه إليه - انتهى .
وفي نسخة ترجمه التوراة وهي قديمة جداً وقابلتها مع بعض فضلاء الربانيين من اليهود وعلى ترجمة سعيد الفيومي بالمعنى وكان هو القارئ ما نصه : وكانت جميع حياة حنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة ، فأرضى حنوخ الله ففقد لأن الله غيبه ، وفي نسخة أخرى : لأن الله قبله ، وفي أخرى : لأن الله أخذه .
وهو قريب مما قال ابن قتيبة ، لأن أصل الكلام عبراني ، وإنما نقله إلى العربي المترجمون ، فكل ترجم على قدر فهمه من ذلك اللسان ، ويؤيد أن المراد الجنة ما في مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي عن معجمي الطبراني - الأوسط والأصغر إن لم يكن موضوعاً : حدثنا محمد بن واسط ثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي ثنا حجاج بن محمد بن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد ابن أسلم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن إدريس عليه السلام كان صديقاً لملك الموت فسأله أن يريه الجنة والنار ، فصعد بإدريس فأراه النار ففزع منها ، وكاد يغشى عليه فالتف عليه ملك الموت بجناحه ، فقال ملك الموت : أليس قد رأيتها ؟ قال : بلى ولم أر كاليوم قط ، ثم انطلق به حتى أراه الجنة فدخلها فقال له ملك الموت : انطلق قد رأيتها ، قال : إلى أين ؟ قال ملك الموت : حيث كنت ، قال إدريس : لا والله لا أخرج منها بعد إذ دخلتهان فقيل لملك الموت : أليس أنت أدخلته إياها وأنه ليس لأحد دخلها أن يخرج منها .
)(4/542)
صفحة رقم 543
وقال : لا يروى عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد ، وقال الحافظ نور الدين : إبراهيم المصيصي متروك .
قلت وفي لسان الميزان لتلميذه شيخنا حافظ العصر ابن حجر عن الذهبي أنه كذاب ، وعن ابن حبان أنه كان يسوي الحديث ، أي يدلس تدليس التسوية .
وفي تفسير البغوي عن وهب قريب من هذا ، وفيه أنه سأل ملك الموت أن يقبض روحه ويردها إليه بعد ساعة ، فأوحى الله إليه أن يفعل ، وفيه أنه احتج في امتناعه من الخروج بأن كل نفس ذائقة الموت وقد ذاقه ، وأنه لا بد من ورود النار وقد وردها ، وأنه ليس أحد يخرج من الجنة ، فأوحى الله إلى ملك الموت : بإذني دخل الجنة - يعني : فخلِّ سبيله - فهو حي هناك .
وفي تفسير البغوي أيضاً عن كعب وغيره أن إدريس عليه السلام مشى ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال : يا رب فكيف بمن يحملها ؟ اللهم خفف عنه من ثقلها ، فخفف عنه فسأل ربه عن السبب فأخبره فسأل أن يكون بينهما خلة ، فأتاه فسأله إدريس عليه السلام أن يسأل ملك الموت أن يؤخر أجله ، فقال : لا يوخر الله نفساً إذا جاء أجلها ، وأنا مكمله ، فرفع إدريس عليه السلام فوضعه عند مطلع الشمس ، ثم أتى ملك الموت وكلمه فقال : ليس ذلك إليّن ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيتقدم في نفسه ، قال : نعم فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس ، قال : فإني أتيتك وتركته هناك ، قال : انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات ، فوالله ما بقي من أجل إدريس - عليه السلام - شيء ، فرجع الملك فوجده ميتاً .
ومن جيد المناسبات أن إسماعيل وإدرس عليهما الصلاة والسلام اشتركا في البيان بالعلم واللسان ، فإسماعيل عليه السلام أول من أجاد البيان باللسان ، وإدريس عليه السلام أول من أعرب الخطاب بالكتاب ، فقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أول من فتق لسانه بهذه العربية إسماعيل عليه السلام ) .
ولأ حمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام ) .
ولما انقضى كشف هذه الأخبار ، العلية المقدار ، الجليلة الأسرار ، شرع سبحانه ينسب أهلها بأشرف نسبهم ، ويذكر أمتن سببهم هزاً لمن وافقهم في النسب إلى الموافقة في السبب فقال : ( أولئك ) أي العالو الرتب ، الشرفاء النسب ) الذين أنعم الله ( بما له من صفات الكمال التي بها أقام آدم عليه السلام وهمم في ظهره ، مع طبعه عليه من الأمور المتضادة حتى نجاه من مكر إبليس ، ونجى بها نوحاً عليه السلام وهم في صلبه(4/543)
صفحة رقم 544
من ذلك الكرب العظيم ، وإبراهيم عليه السلام وهم في قواه مع اضطرام النار وإطفاء السن وإصلاد العظم ، وأعلى بها إسرائيل عليه السلام وبنيه في سوط الفراق وامتهان العبودية وانتهاك الاتهام حتى كان أبناؤه معدن الملوك والأنبياء ، ومحل الأتقياء والأصفياء ، إلى غير ذلك من جليل الأنبياء وعظيم الأصطفاء والاجتباء ) عليهم ( بما خصهم به من مزيد القرب إليه ، وعظيم المنزلة لديه ؛ وبين الموصول بقوله : ( من النبيين ) أي المصطفين للنبوة الذين أبنأهم الله بدقائق الحكم ، ورفع محالهم بين الأمم ، وأنبؤوا الناس بجلائل الكلم ، وأمروهم بطاهر الشيم .
ولما كانوا بعض بني آدم الذين تقدم أنا كرمناهم ، قال إشارة إلى ما في ذلك من النعمة عليهم وهم يرونها : ( من ذرية ءادم ( صفينا أبي البشر الذي خلقه الله من التراب بيده ، وأسجد له ملائكته ، وإدريس أحقهم بذلك .
ولما كان في إنجاء نوح عليه السلام وإغراق قومه من القدرة الباهرة ما لا يخفى ، نبه عليه بنون العظمة في قوله مشيراً إلى أعظم النعمة عليهم بالتبعيض ، وإلى أن نبيهم من ذريته كما كان هو من ذرية إدريس عليه السلام الذي هو من ذرية آدم ، فكما كان كل منهم رسولاً فكذلك هو إبراهيم أقربهم إلى ذلك : ( وممن حملنا مع نوح ( صفينا أول رسول أرسلناه بعد افتراق أهل الأرض وإشراكهم ، من خلص العباد ، وأهل الرشاد ، وجعلناه شكوراً ، وإبراهيم أقربهم إلى ذلك ) ومن ذرية إبراهيم ( خليلنا الذي كان له في إعدام الأنداد ما اشتهر به من فضله بين العباد ، وإسماعيل وإسحاق أولاهم بذلك ، ثم يعقوب ) وإسراءيل ( صفينا ، وهم الباقون : موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم بنت داود - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام - فكما كان هؤلاء رسلاً وهم من ذرية إبراهيم الذي هو من ذرية نوح فكذا نبيكم الذي هو من ذرية إسماعيل الذي هو من إبراهيم لصلبه وهو أول أولاده كما كان إسرائيل من ذريته ، فالإرسال من ذرية من هو ابنه لصلبه أولى من الإرسال من ذرية من بينه وبينه واسطة ، وإلا كان بنو إسرائيل أشرف منكم وأبوهم أشرف من أبيكم ، فلا تردوا الكرامة ، يا من يتنافسون في المفاخرة والزعامة ) وممن هدينا ( إلى أقوم الطرق ) واجتبينا ) أي فعلنا بهم فعل من يتخير الشيء وينتقيه بأن أسبغنا عليهم من النعم ما يجل عن الوصف ؛ وعطف الأوصاف بالواو إشارة إلى التمكن فيها .
ولما ذكر ما حباهم به ، ذكر ما تسبب عن ذلك فقال مستأنفاً ) إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن ( العام النعمة ، فكيف بهم إذا أعلاهم جلال أو خصتهم رحمة من جلائل النعم ، من فيض الجود والكرم ، فسمعوا خصوص هذا القرآن ) خروا سجداً ( للمنعم عليهم تقرباً إليه ، لما لهم من البصائر المنيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم(4/544)
صفحة رقم 545
) وبكياً ( خوفاً منه وشوقاً إليه ، فوضعهم بسرعة الخشوع من ذكر الله الناشئ عن دوام الخضوع والناشئ عنه بالإسراع بالسجود في حالة البكاء ، وجعلهما حالتين بالعطف بالواو لعراقة المتحلي بهما في كل منهما عل انفراده ، وعبر بالاسم في كل من السجود والبكاء ، إشارة إلى أن خوفهم دائم كما أن خضوعهم دائم لعظمة الكبير الجليل ، لأن تلك الحضرة لا تغيب عنهم أصلاً ، وإن حصل غير البكاء فللتأنيس لمن أرسلوا إليه ليوصلوه إلى قريب من رتبتهم بحسن عشرتهم على تفاوت المراتب ، وتباين المطالب ، وحذف ذكر الأذقان لدلالتها - كما تقدم في سبحان - على نوع دهشة ، فهي - وإن أعلت صاحبها عمن لم يبلغها - حالة دون مقام الراسخين في حضرة الجلال ، لأنهم - مع كونهم ف الذروة من مقام الخوف - في أعلى درجات الكمال من حضور الفكر وانشراح الصدر - لتلقي واردات الحق وإلقائها إلى الخلق ، انظر إلى ثبات الصديق رضي الله عنه - لعلو مقامه عن غيره - عند وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه أوفاهم من المحبة مشرباً ، وأصفاهم مورداً ، وأوفرهم حزناً ، وأكثرهم غماً وهماً ، حتى أنه اعتراه لذلك مرض السل حتى مات به وجداً وأسفاً ومن هنا تعلم السر في إرسال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الأنبجانية التي ألهت في الصلاة بأعلامها في الصلاة إلى أبي جهم لأنه رضي الله عنه ربما كان من أهل الجمع في الصلاة فلا يرى غيره سبحانه فناء عن كل فان بخلاف النبي فإنه لكماله متمكن في كل من مقامي الجمع والفرق في كل حالة ولهذا يرى من خلفه في الصلاة ولا يخفى عليه خشوعهم .
ولما كان من المقاصد العظيمة تبكيت اليهود ، لأنهم أهل الكتاب وعندهم من علوم الأنبياء ما ليس عند العرب وقد استرشدوهم واستنصحوهم ، فقد كان أوجب الواجبات عليهم محض النصح لهم ، فأبدى سبحانه من تبكيتهم ما تقدم إلى أن ختمه بأن جميع الأنبياء كانوا لله سجداً ولأمره خضعاً ، عقب ذلك بتوبيخ هو أعظم داخل فيه وهو أشد مما تقدم لمن خاف الله ورسله فقال : ( فخلف من بعدهم ) أي في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً ) خلف ( هم في غاية الرداءة ) أضاعوا الصلاة ( الناهية عن الفحشاء والمنكر التي هي طهرة الأبدان ، وعصمة الأديان ، وأعظم الأعمال ، بتركها أو تأخيرها عن وقتها والإخلال بحدودها ، فكانوا لما سواها أضيع ، فأظلمت قلوبهم فأعرضوا عن داعي العقل ) واتبعوا ) أي بغاية جهدهم ) الشهوات ( التي توجب العار في الدنيا والنار في الآخرة ، فلا يقربها من يستحق أن يعد بين الرجال ، من تغيير أحكام الكتاب وتبديل ما فيه مما تخالف الأهواء كالرجم في الزنا ، وتحريم الرشى والربا ، ونحو ذلك ، وأعظمه كتم البشارة بالنبي العربي الذي هو من ولد إسماعيل(4/545)
صفحة رقم 546
) فسوف يلقون ) أي يلابسون - وعدا لا خلف فيه بعد طول المهلة - جزاء فعلهم هذا ) غيّاً ) أي شراً يتعقب ضلالاً عظيماً ، فلا يزالون في عمى عن طريق الرشاد لا يستطيعون إليه سبيلاً ، وهم على بصيرة من أنهم على خطأ وضلال ، ولكنهم مقهورون على ذلك بما زين لهم منه حتى صارت لهم فيه أتم رغبة ، وذلك أعظم الشر ، ولم يزل سبحانه يستدرجهم بالنعم إلى أن قطعوا بالظفر والغلبة حتى أناخت بهم سطوات العزة ، فأخذوا على غرة ، ولا أنكأ من الأخذ على هذه الصفة بعد توطين النفس على الفوز ، وهو من وادي قوله ) ) ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ( ) [ الإسراء : 97 ] مع قوله ) أسمع بهم وأبصر ( وجزاء من كان هذا ديدنه في الدنيا والآخرة معروف لكل من له أدنى بصيرة أنه العار ثم النار ، وأيضاً فإن من ضل أخطأ طريق الفلاح من الجنة وغيرها فخاب ، ومن خاب فقد هلك ؛ قال أبو علي الجبائي : والغي هو الخيبة في اللعنة - انتهى .
ويجوز أن يراد بالغي الهلاك ، إما من قولهم - أغوية - وزن أثفية - أي مهلكة ، وإما من تسمية الشيء باسم ما يلزمه .
مريم : ( 60 - 65 ) إلا من تاب. .. . .
) إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( ( )
ولما أخبر تعالى عنهم بالخيبة ، فتح لهم باب التوبة ، وحداهم إلى غسل هذه الحوبة ، بقوله : ( إلا من تاب ) أي مما هو عليه من الضلال ، بإيثار سفساف الأعمال ، على أوصاف الكمال ، فحافظ على الصلاة ، وكف نفسه عن الشهوات ) وءامن ( بما أخذ عليه به العهد ) وعمل ( بعد إيمانه تصديقاً له ) صالحاً ( من الصلوات والزكاة وغيرها ، ولم يؤكدهما لما أفهمته التوبة من إظهار عمل الصلاة التي هي أم العبادات ) فأولئك ( العالو الهمم ، الطاهر والشيم ) يدخلون الجنة ( التي وعد المتقون ) ولا يظلمون ( من ظالم ما ) شيئاً ( من أعمالهم ؛ ثم بينها بقوله : ( جنات عدن ) أي إقامة لا ظعن عنها بوجه من الوجوه ) التي وعد الرحمن ( الشامل النعم ) عباده ( الذين هو أرحم بهم من الوالدة ولدها ؛ وعبر عنهم بوصف العبودية للإشعار بالتحنن ، وعداً كائناً ) بالغيب ( الذي لا اطلاع لهم عليه أصلاً إلا من قبلنا ، فآمنوا به فاستحقوا ذلك بفضله سبحانه على إيمانهم بالغيب .(4/546)
صفحة رقم 547
ولما كان من شأن الوعود الغائبة - على ما يتعارفه الناس بينهم - احتمال عدم الوقوع ، بين أن وعده ليس كذلك بقوله : ( إنه كان ) أي كوناً هو سنة ماضية ) وعده مأتيّاً ) أي مقصوداً بالفعل ، فلا بد من وقوعه ، فهو كقوله تعالى
77 ( ) إن كان وعد ربنا لمفعولاً ( ) 7
[ الإسراء : 108 ] .
ولما كانت الجنة دار الحق ، وكان أنكأ شيء لذوي الأقدار الباطل ، وكان أقل ما ينكأ منه سماعه ، نفى ذلك عنها أبلغ وجه فقال : ( لا يسمعون فيها لغواً ) أي شيئاً ما من الباطل الذي لا ثمرة له .
ولما كانت السلامة ضد الباطل من كل وجه ، قال : ( إلا ) أي لكن ) سلاماً ( لا عطب معه ولا عيب ولا نقص أصلاً فيه ، وأورد على صورة الاستثناء من باب قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ويحسن أن يراد باللغو مطلق الكلام ؛ قال في القاموس : لغا لغواًك تكلم .
أي لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة ، ولا يسمعون شيئاً يدل على عطب أحد منهم ولا عطب شيء فيها .
ولما كان الرزق من أسباب السلامة قال : ( ولهم رزقهم ) أي على قدر ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بد من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا يمن عليهم به ) فيها بكرة وعشياً ) أي دواماً ، لا يحتاجون إلى طلبه في وقت من الأوقات ، وفي تفسير عبد الرزاق عن مجاهد : وليس فيها بكرة ولا عشي ، لكنهم يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا .
أي أنهم خوطبوا بما يعرفون كما أشار إليه تأخير الظرف إذ لو قدم لأوهم بعدهم عن ذلك بالجنة .
ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل ، أشار إلى علو رتبتها وما هو سببها بقوله : ( تلك الجنة ( بأداة البعد لعلو قدرها ، وعظم أمرها ) التي نورث ) أي نعطي عطاء الإرث الذي لا نكد فيه من حين التأهل له بالموت ولا كد ولا استرجاع ) من عبادنا ( الذين أخلصناهم لنا ، فخلصوا عن الشرك نية وعملاً ) من كان ) أي جبلة وطبعاً ) تقياً ) أي مبالغاً في التقوى ، فهو في غاية الخوف منا لاستحضاره أنه عبد ؛ قال الرازي في اللوامع : وما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار ، والعبد يكون ذليلاً بأوصافه ، عزيزاً بأوصاف الحق تعالى - انتهى .
وذلك إشارة إلى سبب إيراثها التقوى .
ولما كرر سبحانه الوصف بالتقى في هذه السورة ثلاث مرات ، وختمه بأنه سبب(4/547)
صفحة رقم 548
للمقصود بالذات ، وهو الراحة الدائمة بالوراثة لدار الخلد على وجه الإقامة المستمرة ، وصفة الملك الذي لا كدر فيه بوجه وال تخلف عن مراد ، أتبعه ما بعده إشارة إلى ما تنال به التقوى ، وهو الوقوف مع الأمر مراقبة للأمر على
77 ( ) وبالحق أنزلناه ( ) 7
[ الإسراء : 105 ] لأنه لما كان العلم واقعاً بأن جميع سورة الكهف شارحة لمسألتين من مسائل قريش ، وبعض سورة سبحان شارح للثالثة ، ولطول الفصل صدرت قصة ذي القرنين بقوله ) ويسألونك ( إعلاماً بعطفها على مسألة الروح المصدرة بمثل ذلك ، وجاءت سورة مريم كاشفة - تبكيتاً لأهل الكتاب الكاتمين للحق - عن أغرب من تلك القصص زأقدم زماناً وأعظم شأناً من أخبار الأنبياء المذكورين ومن أسرع التبديل بعدهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات ، فثبت بذلك أن هذا كله مرتب لإجابة سؤالهم وأنه كلام الله قطعاً ، إذ لو كان من عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما وعدهم الإجابة في الغد إلا وهو قادر عليها ، لما هو معلوم قطعاً من رزانة عقله ، وغزارة فطنته ، ومتانة رأيه ، ولو قدر على ذلك ما تركهم يتكلمون في عرضه بما الموت أسهل منه ، لما علم منه من الشهامة والأنفة والبعد عما يقارب الشين ، وبان بذلك أن الله سبحانه وعز شأنه ما أجمل أمر الروح ولا أخر الإجابة خمس عشرة ليلة أو أقل أو أكثر من عجز ولا جهل ، وثبت بذلك كله وبما بين من صنعه لأهل الكهف ولذي القرنين وفي ولادة عيسى وإسحاق عليهم الصلاة والسلام تمام قدرته المستلزم لكمال علمه ، وكان الإخبار عن ذلك مطابقاً للواقع الذي ثبت بعضه بالنقل الصحيح وبعضه بأدلة العقل القاطعة ، ثبت مضمون قوله تعالى ) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ( وأن هذا الكتاب قيم لا عوج فيه ، فعطف عليه الجواب عن قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لجبرئيل عليه الصلاة والسلام ( لقد أبطات عليّ يا جبرئيل حتى سؤت ظناً ) ونحوه مما ذكر في أسباب النزول ، فقال على لسان جبرئيل عليه الصلاة والسلام : ( وما نتنزل ) أي أنا ولا أحد من الملائكة بإنزال الكتاب ولا غيره ) إلا بأمر ربك ( المحسن إليك في جميع الأمر في التقديم والتأخير لئلا يقع في بعض الأوهام أنه حق في نفسه ، ولكنه نزل بغير أمره سبحانه ، ووقع الخطاب مقترناً بالوصف المفهم لمزيد الإكرام تطييباً لقلبه ( صلى الله عليه وسلم ) وإشارة إلى أنه محسن إليه ، ولفظ التنزل مشير إلى الإكرام ، وهو التردد مرة بعد مرة ووقتاً غب وقت ، ولا يكون إلا لذلك لأن النزول للعذاب يقتضي به الأمر في مثل لمح البصر ، وكان هذا عقب ذكر القيامة بذكر الجنة كما كان المعطوف عليه عقب
77 ( ) فإذا جاء وعد الآخرة ( ) 7
[ الإسراء : 7 ] وكما كان ختام مسائلهم بذكر الآخرة في قوله
77 ( ) فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ( ) 7
[ الكهف : 98 ] - إلى(4/548)
صفحة رقم 549
آخر السورة ليكون ذلك أشد تثبيتاً للبعث وأعظم تأكيداً ، وإن استطلت هذا العطف مع بعد ما بين المعطوف والمعطوف عليه واستعظمته واستنكرته لذلك واستعبدته فقل : لما كشفت هذه السورة عن هذه القصص الغريبة ، وكان المتعنتون ربما قالوا : نريد أن يخبرنا هذا الذي ينزل عليك بجميع أنباء الأقدمين وأخبار الماضين ، قال جواباً عن ذلك أن قيل : ما أنزلنا عليك بأخبار هؤلاء إلا بأمر ربك ، وما نتنزل فيما يأتي أيضاً إلا بأمر ربك ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( له ما بين أيدينا ) أي من المكان والزمان وما فيهما ) وما خلفنا ( من ذلك ) وما بين ذلك ( وهو نحن والمكان والزمان اللذان نحن بهما وما فوقه وتحته ، ونحن نعلم ذلك ونعمل على حسب ما نعلم ، فلا نتصرف في ملكه إلا بأمره ) وما كان ( على تقدير من التقادير ) ربك نسياً ) أي ذا نسيان لشيء من الأشياء فيترك تفصيل أمر الروح ، ويؤخر الجواب عن الوقت الذي وعدتهم فيه لخفاء شيء من ذلك عليه ، ولا ينسى ما يصلحك فيحتاج إلى مذكر به ، ولا ينسى أحداً منا فينزل في وقت نسيانه له بل هو دائم الاطلاع على حركتنا وسكناتنا ، فنحن له في غاية المراقبة ، وهو سبحانه يصرفنا بحسب الحكمة في كل وقت تقتضيه حكمته ، لا يكون شيء من ذلك إلا في الوقت الذي حده له وأراده فيه ، ولا يخرج شيء من الأشياء وإن دق عن مراده .
ويجوز أن يقال في التعبير بصيغة فعيل أنه لا يتمكن العبد من الغيبة عن السيد بغير إذنه إلا أن كان بحيث يمكن أن يغفل وأن تطول غفلته وتعظم لكونه مجبولاً عليها ، أو أنه لما استلبث الوحي في أمر الأسئلة التي سألوا عنها من الروح وما معها خمس عشرة ليلة أو أكثر أو أقل - على اختلاف الروايات ، فكان ذلك موهماً للأغبياء أنه نسيان ، وكان مثل ذلك لا يفعله إلا كثير النسيان ، نفى هذا الوهم بما اقتضاه من الصيغة ونفى قليل ذلك وكثيرة في السورة التي بعدها ضماً لدليل العقل بقوله
77 ( ) ا يضل ربي ولا ينسى ( ) 7
[ طه : 52 ] لما اقتضاه السياقن فأتى في كل أسلوب بما يناسبه مع الوفاء بما يجب من حق الإعتقاد ، وهذه الآية مع ) وبالحق أنزلناه ( و
77 ( ) قل لئن اجتمعت الإنس والجن ( ) 7
[ الإسراء : 88 ] مثل
77 ( ) قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( ) 7
[ هود : 3 ] - الآيتين في سورة هود عليه السلام ، على ما قدمت في بيانه غير أن ما جمع هناك فصل هنا في أول الجواب على أسئلتهم بآية ) قل لئن اجتمعت ( وأثنائه بآية ) وبالحق أنزلناه ( وآخره بهذه الآية ، لتكون الآيات رابطة على هذه الأجوبة وتوابعها وضابطة لها كالشهب والحرس الشديد بالنسبة إلى السماء ، فلا يبغيها متعنت من جهة من جهاتها كيداً إلا رد خاسئاً ، ولا يرميها بقادح ألا كان رميه خاطئاً .
ولما وصف سبحانه وتعالى بنفوذ الأمر واتساع العلم على وجه ثبت به ما أخبر به(4/549)
صفحة رقم 550
عن الجنة ، فثبت أمر البعث ، أتبع ذلك ما يقرره على وجه أصرح منه وأعم فقال مبدلاً من ) ربك ( : ( رب السماوات والأرض ( اللتين نحن من جملة ما فيهما من عبادة ) وما بينهما ( منا ومن غيرنا من الأحياء وغيرها ) فاعبدوه ( بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي له من مثلك ) واصطبر ) أي اصبر صبراً عظيماً بغاية جهدك على كل ما ينبغي الاصطبار عليه كذلك ) لعبادته ) أي لأجلها فإنها لا تكون إلا عن مجاهدة شديدة ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( هل تعلم له سمياً ) أي متصفاً بوصف من أوصافه اتصافاً حقيقياً ، أو مسمى باسمه ، العلمَ الواقع موقع لأنه لا مماثل له حتى ولا في مجرد الاسم ، وإيراده بصورة الاستفهام كالدعوى بدليلها .
مريم : ( 66 - 71 ) ويقول الإنسان أئذا. .. . .
) وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ( ( )
ن بذلك وبما ذكر في هاتين السورتين مما سألوا عنه ومن غيره شمولُ علمه وتمام قدرته لاسيما في إيجاد البشر تارة من الترابن وتارة من ذكر وأنثى في حكم العدم ، وتارة من أنثى بلا ذكرن وثبت ذلك كله ، فانكشفت الشبه ، وتضاءلت موجبات المراء ، وانقمعت مخيلات الفتن ، عجب منها في إنكارهم البعث وهم يشاهدون ما ذكر من قدرته وعلمه ، عاطفاً على التعجب في قولهم ) وقالوا ءاذا كنا ( تعجيباً أشد من ذلك فقال : ( ويقول ( بلفظ المضارع المؤذن بالتجدد بعد هذا البيان المقتضي حتماً لاعتقاده البعث فضلاً عن إنكار مرة من المرات ، ليخبر عنها بصيغة الماضي ، فكيف بالمداومة على ذلك المشار إليها بصيغة المضارع ؛ وعبر بالمفرد وإن كان للجنس لأن الإنكار على الواحد يستلزم الإنكار على المتعدد فقال : ( الإنسان ) أي الذي خلقناه ولم يك شيئاً ، مع ما فضلناه به من العقلن ونصبا له من الدلائلن فشغله الإنس بنفسه عن التأمل في كمال ربه منكراً مستبعداً : ( ءذا ما مت ( ثم دل على شدة استبعاده لذلك بقوله مخلصاً للاستقبال : ( لسوف أخرج ) أي يخرجني مخرج ) حياً ) أي بعد طول الرقاد ، وتفتت الأجزاء والمواد ، وجاء بهذه التأكيدات لأن ما بعد الموت وقت كون الحياة منكرة على زعمه ، والعامل في ) إذا ( فعل من معنى ) أخرج ( لا هو ، لمنع لام الابتداء لعمله فيما قبله ؛ ثم قابل إنكاره الباطل بإنكار هو الحق فقال عطفاً على يقول أو على ما تقديره : ألا يذكر ما لنا من تمام القدرة بخلق ما(4/550)
صفحة رقم 551
هو أكبر من ذلك من جميع الأكوان : ( أو لا يذكر ( بإسكال الذال على قراءة نافع وابن عامر وعاصم إشارة إلى أنه أدنى ذكر من هذا يرشده إلى الحق ، وقراءة الباقين بفتح الذال والكاف وتشديدهما إلى أنه - لا ستغراقه في الغفلة - يحتاج إلى تأمل شديد ) الإنسان ) أي الآنس بنفسه ، المجترئ بهذا الإنكار على ربه وقوفاً مع نفسه ) أنا خلقناه ( وأشار الجار إلى سبقه بالعدم فقال : ( من قبل ) أي من قبل جدله هذا أي بما لنا من القدرة والعظمة .
ولما كان المقام لتحقيره بكونه عدماً ، أعدم من التعبير عن ذلك ما أمكن إعدامه ، وهو النون ، لتناسب العبارة المعتبر فقال : ( ولم يك شيئاً ( أصلاً ، وإنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك .
ولما كان كلام الكافر صورته صورة الاستفهام ، وهو جحد في الحقيقة وأنكار ، وكان إنكار المهدَّد لشيء يقتدر عليه المهدد سبباً لأن يحققه لما مقسماً عليه ، قال تعالى مجيباً عن إنكاره مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عنهم مخاطباً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره : ( فوربك ( المحسن إليك بالانتقام منهم .
ولما كان الإنكار للبعث يلزم منه الاحتقار ، أتى بنون العظمة ، استمر في هذا التحلي بهذا المظهر إلى آخر وصف هذا اليوم فقال : ( لنحشرنهم ( بعد البعث ) والشياطين ( الذين يضلونهم بجعل كل واحد منهم مع قرينه الذي أضله ، في سلسلة ) ثم لنحضرنهم ( بعد طول الوقوف ) حول جهنم ( التي هم بها مكذبون ، يحيطون بها لضيق رأسها وبعد قعرها ، حال كونهم ) جثياً ( على الركب من هول المطلع وشدة الذل ، مستوقرين تهيؤوا للمبادرة إلى امتثال الأوامر ) ثم لننزعن ) أي لنأخذن أخذاً بشدة وعنف ) من كل شيعة ) أي فرقة مرتبطة بمذهب واحد .
ولما كان التقدير : لننزعن أغناهم ، وهم الذين إذا نظرت إلى كل واحد منهم بخصوصه حكمت بأنه أغنى الناس ، علم أنهم بحيث يحتاج إلى السؤال عنهم لإشكال أمرهم فقال : ( أيهم أشد على الرحمن ( الذي غمرهم بالإحسان ) عتياً ) أي تكبراً متجاوزاً للحد ، انتزاعاً يعلم به أهل الموقف أنه أقل من القليل ، وأوهى أمراً من القتيل ، وأن له سبحانه - مع صفة الرحمة التي غمرهم إحسانها وبرها - صفات أخرى من الجلال والكبرياء والجبروت والانتقام .
ولما تقدم ما هو في صورة الاستفهام ، أتبعه ما يزيل ما قد يقع بسببه من بعض الأوهام ، فقال : ( ثم ( وعزتنا ) لنحن ( لشمول علمنا وكمال قدرتنا وعظمتنا ) أعلم ((4/551)
صفحة رقم 552
من كل عالم ) بالذين هم ( لظواهرهم وبواطنهم ) أولى بها ) أي جهنم ) صلياً ( وبالذين هم أولى بكل طبقة من دركاتها من جميع الخلق من المنتزعين وغيرهم ، فلا يظن بنا أنا نضع أحداً في غير دركته أو غير طبقته من دركته ؛ وعطف هذه الجمل بأداة البعد مقرونة بنون العظمة لبعد مرابتها وتصاعدها في ذرى العليا وترقيها ، تهويلاً للمقام وتعظيماً للأمر لاستبعادهم له ، على أنه يمكن أن تكون الحروف الثلاثة للترتيب الزماني ، وهو في الأولين واضح ، وأما في الثالث فلأن العلم كناية عن الإصلاء ، لأن من علم ذنب عدوه - وهو قادر - عذبه ، فكأنه قيل : لنصلين كلاًّ منهم النار على حسب استحقاقه لأنا أعلم بأولويته لذلك .
ولما كانوا بهذا الإعلام ، المؤكد بالإقسام ، من ذي الجلال والإكرام ، جديرين بإصغاء الأفهام ، إلى ما يوجه إليها من الكلام ، التفت إلى مقام الخطاب ، إفهاماً للعموم فقال : ( وإن ) أي وما ) منكم ( أيها الناس أحد ) إلا واردها ) أي داخل جهنم ؛ ثم استأنف قوله : ( كان ( هذا الورود ؛ ولما كان المعنى أنه لا بد من من إيقاعه ، أكده غاية التأكيد فأتى بأداة الوجوب فقال : ( على ربك ( الموجد لك المحسن إليك بإنجاء أمتك لأجلك ) حتماً ) أي واجباً مقطوعاً به ) مقتضياً ( لا بد من إيقاعه ؛ قال الرازي في اللوامع : ما من مؤمن - إلا الأنبياء - إلا وقد تلطخ بخلق سوء ولا ينال السعادة الحقيقية إلا بعد تنقيته ، وتخليصه من ذلك إنما يكون بالنار .
مريم : ( 72 - 76 ) ثم ننجي الذين. .. . .
) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ( ( )
ولما كان الخلاص منها بعد ذلك مستبعداً ، قال مشيراً إليه بأداة البعد : ( ثم ننجي ) أي تنجية عظيمة على قراءة الجماعة ، ومطلق إنجاء على قراءة الكسائي ، وكأن ذلك باختلاف أحوال الناس مع أن المطلق لا ينافي المقيد ) الذين اتقوا ) أي كانوا متقين منها بأن تكون عليهم حال الورود برداً وسلاماً ) ونذر الظالمين ) أي نترك على أخبث الأحوال الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها واستمروا في على ذلك فكانوا في أفعالهم خابطين كالأعمى ) فيها جثياً ( كما كانوا حولها لا يهتدون إلى وجه يخلصون به منها .(4/552)
صفحة رقم 553
ولما كان هذا جديراً بالقبول لقيام الأدلة على كمال قدرة قائله ، وتنزهه عن إخلاف القول ، لبراءته من صفات النقص ، قال معجباً من منكره عاطفاً على قوله ) ويقول الإنسان ( : ( وإذا تتلى عليهم ) أي الناس ، من أيّ تال كان ) ءاياتنا ( حال كونها ) بينات ( لا مرية فيها ، بأن تكون محكمات ، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو ببيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهي حال مؤكدة أو كاشفة ) قال الذين كفروا ( بآيات ربهم البينة ، جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم ) للذين ءامنوا ) أي لأجلهم أو مواجهة لهم ، إعراضاً عن الاستدلال بالآيات ، ووجوه دلالتها البينات ، بالإقبال على هذه الشبهة الواهية - وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا - من قولهم : ( أي الفريقين ( نحن - بما لنا من الاتساع ، أم أنتم - بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال ) خير مقاماً ) أي موضع قيام أو إقامة - على قراءة ابن كثير بضم الميم والجماعة بفتحها : ( وأحسن ندياً ( مجمعاً ومتحدثاً باعتبار ما في كل من الرجال ، وما لهم من الزي والأموال ، ويجعلون ذلك الامتحان بالإلغام والإحسان دليلاً على رضى الرحمن ، مع التكذيب والكفران ، ويغفلون عن أن في ذلك - مع التكذيب بالبعث - تكذيباً مما يشاهدونه منا من القدرة على العذاب بإحلال النقم ، وسلب النعم ، ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به ) وكم أهلكنا ( بما لنا من العظمة .
ولما كان المراد استغراق الزمان ، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال : ( قبلهم من قرن ) أي شاهدوا ديارهم ، ورأوا آثارهم ؛ ثم وصف كم بقوله : ( هم ) أي أهل تلك القرون ) أحسن ( من هؤلاء ) أثاثاً ) أي أمتعة ) ورئياً ) أي منظراً ، فكأنه قيل : فما يقال لهم ؟ فقال : ( قل ) أي لهم رداً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم : هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة ، بل على عكس ذلك ، فقد جرت عادته سبحانه أنه ) من كان في الضلالة ( مثلكم كوناً راسخاً بسط له في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها ، ونعم بأنواع الملاذ ، وعبر عن أن ذلك لا يكاد يتخلف عن غير من حكم بإلزامه المسكنة من اليهود بلام الأمر ، إيذاناً بوجوده وجود المأمور به الممتثل في قوله : ( فليمدد ( وأشار إلى التحلي لهم بصفة الإحسان بقوله : ( له الرحمن ) أي العام الامتنان ) مداً ( في العاجلة بالبسط في الآثار ، والسعة في الديار ، والطول في الأعمار ، وإنفاقها فيما يستلذ من الأوزار الكبار ، فيزيده العزيز الجبار بذلك ضلالة ، فيا له من خسار ، وتباب وتبار ، لمن له استبصار ، ولا نزال نمد هل استدراجاً ) حتى ( وحقق أخذهم بأداة التحقيق فقال : ( إذا رأوا ) أي كل من كفر بالله بأعينهم وإن ادعوا أنهم يتعاضدون ويتناصرون ، ولذلك(4/553)
صفحة رقم 554
جمع باعتبار المعنى ) ما يوعدون ( من قبل الله ) إما العذاب ( في الدنيا بأيدي المؤمنين أو غيرهم ، أو في البرزخ ) وإما الساعة ( التي هي بها مكذبون ، وعن الاستعداد لها معرضون ، ولا شيء يشبه أهوالها ، وخزيها ونكالها .
ولما كان الجواب : علموا أن مكانهم شر الأماكن ، وأن جندهم أضعف الجنود ، عبر عنه بقوله تهديداً : ( فسيعلمون ( إذا رأوا ذلك ) من هو شر مكاناً ) أي من جهة المكان الذي قوبل به المقام ) وأضعف جنداً ( هم أو المؤمنون ، أي أضعف من جهة الجند الذي أشير به إلى النديّ ، لأن القصد من فيه ، وكأنه عبر بالجند لأن قصدهم المغالبة وما كل من في النديّ يكون مقاتلاً .
ولما كان هذا لكونه استدراجاً زيادة في الضلال ، قابله بقوله ، عطفاً على ما تقدم تقديره تسبيباً عن قوله ) فليمدد ( وهو : فيزيده ضلالاً ، أو على موضع ) فليمدد ( : ( ويزيد الله ( وعبر بالاسم العلم إشارة إلى التجلي لهم بجميع الصفات العلى ليعرفوه حق معرفته ) الذين اهتدوا هدى ( عوض ما زوى عنهم ومنعهم من الدنيا لكرامتهم عنده مما بسطه للضلال لهوانه عليه ؛ فالآية من الاحتباك : ذكر السعة بالمد للضال أولاً دليلاً على حذف الضيق بالمنع للمهتدي ثانياً ، وزيادة الهداية ثانياً دليلاً على حذف زيادة الضلال أولاً ، وأشار إلى أنه مثل ما خذل أولئك بالنوال ، وفق هؤلاء لمحاسن الأعمال ، بإقلال الأموال فقال : ( والباقيات ( ثم وصفها احترازاً من أفعال أهل الضلال بقوله : ( الصالحات ) أي من الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور ، فأنارت بها القلوب ، وسلمت من إحباط الذنوب ، فأوصلت إلى علام الغيوب ) خير عند ربك ( مما متع به الكفرة ومدوا به - على تقدير التنزل إلى تسميته خيراً ، وإضافة الرب إليه ( صلى الله عليه وسلم ) إشارة إلى أنه يربيها تربية تبلغ أقصى ما يرضيه في كل تابعيه ؛ ثم بين جهة خيرية هذا بقوله : ( ثواباً ) أي من جهة الثواب ) وخير مرداً ) أي من جهة العاقبة يوم الحسرة وهو كالذي قبله ، أو على قولهم : الصيف أحر من الشتاء بمعنى أنه في حره أبلغ منه في برده .
فالكفرة يردون إلى خسارة وفناء ، والمؤمنون إلى ربح وبقاء .
مريم : ( 77 - 84 ) أفرأيت الذي كفر. .. . .
) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ( ( )(4/554)
صفحة رقم 555
ولما تضمن هذا من التهديد بذلك اليوم ما يقطع القلوب ، فيوجب الإقبال على ما ينجي منه ، عجب من حال من كفر به ، موبخاً له ، منكراً عليه ، عاطفاً على ما أرشد إليه السياق فقال معبراً عن طلب الخير بالرؤية التي هي الطريق إلى الإحاطة بالأشياء علماً وخبرة ، وإلى صحة الخبر عنها : ( أفرءيت ) أي أرأيت الذي يعرض عن هذا اليوم فرأيت ) الذي ( زاد على ذلك بأن ) كفر بآياتنا ( الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات ) وقال ( جراءة منه وجهلاً ؛ أو يقال : إنه لما هول أمر ذلك اليوم .
وهتك أستار مقالاتهم ، وبين وهيها ، تسبب عن ذلك التعجيبُ ممن يقول : ( لأوتين ) أي والله في الساعة على تقدير قيامها ممن له الإيتاء هنالك ) مالاً وولداً ) أي عظيمين ، فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز .
ولما كان ما ادعاه لا علم له به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما ، أنكر عليه قوله ذلك بقوله : ( أطلع الغيب ( الذي هو غائب عن كل مخلوق ، فهو في بعده عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع عليه ، وتفرد به الواحد القهار ) أم اتخذ ) أي بغاية جهده ) عند الرحمن ( العام الرحمة بالإنعام على الطائع والانتقام من العاصي ثواباً للطائع ) عهداً ( عاهده عليه بأنه يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها له على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله .
ولما كان كل من الأمرين : إطلاع الغيب واتخاذ العهد ، وكذا ما ادعاه لنفسه ، وما يلزم عن اتخاذ العهد من القرب ، منتفياً قال : ( كلاًّ ) أي لم يقع شيء من هذين الأمرين ، ولا يكون ما ا دعاه فليرتفع عنه صاغراً .
ولما كان النفي هنا عن الواحد مفهماً للنفي عما فوقه اكتفى به ، ولما رد ذلك استأنف الجواب لسؤال من كأنه قال : فماذا يكون له ؟ بقوله مثبتاً السين للتوكيد في هذا التهديد : ( سنكتب ما يقول ) أي نحفظه عليه حفظ من يكتبه لنوبخه به ونعذبه عليه بعد الموت فيظهر له بعد طول الزمان أن ما كان فيه ضلال يؤدي إلى الهلاك لا محالة ، ويجوز أن تكون السين على بابها من المهلة ، وكذا الكتابة ، والإعلام بذلك للحث على التوبة قبل الكتابة ، وذلك من عموم الرحمة ) ونمد له من العذاب مداً ( باستدراجه بأسبابه من كثرة النعم من الأموال والأولاد المحببة له في الدنيا ، المعذبة له فيها ، بالكدح في جمعها والمخاصمة عليها الموجبة له التمادي في الكفر الموجب لعذاب الآخرة ، وإتيان بعضه في إثر بعض
77 ( ) إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ( ) 7
[ التوبة : 85 ] ) ونرثه ( بموته عن جميع ذلك ؛ ثم أبدل من ضميره قوله : ( ما يقول ) أي من المال والولد فنحول بينه وبينهم بعد البعث كما فعلنا(4/555)
صفحة رقم 556
بالموت كحيلولة الوارث بين الموروث وبين الموروث عنه ) ويأتينا ( في القيامة ) فرداً ( مسكيناً منعزلاً عن كل شيء لا قدرة له على مال ولا ولد ، قلا عز له ، ولا قوة بشيء منهما ؛ روى البخاري في التفسير عن خباب رضي الله عنه قال : كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفاً ، فجئت أتقاضاه فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد ، قلت : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يحييك ، وفي رواية : حتى تموت ثم تبعث ، قال : وإني لمبعوث من بعد الموت ؟ قلت : نعم قال : فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالاً وولداً فأقضيك ، فنزلت هذه الآية ) أفرأيت الذي - إلى قوله : فرداً ( .
ولما أخبر تعالى بالبعث ، وذكر أن هذا الكافر يأتيه على صفة الذل ، أتبعه حال المشركين مه معبوداتهم ، فقال معجباً منهم عاطفاً على قوله ويقول الإنسان : ( واتخذوا ) أي الكفار ، وجمع لأن نفي العز عن الواحد قد لا يقتضي نفيه عما زاد ) من دون الله ( وقد تبين لهم أنه الملك الأعلى الذي لا كفوء له ) ءالهة ليكونوا لهم ) أي الكافرين ) عزاً ( لينقذوهم من العذاب .
ولما بين أنه لا يعزه مال ولا ولد ، وكان نفع الأوثان دون ذلك بلا شك ، نفاه بقوله : ( كلاًّ ( بأداة الردع ، لأن ذلك طلب للعز من معدن الذل من العبيد الذين من اعتز لهم ذلن فإنهم مجبولون على الحاجة ، ومن طلب العز للدنيا طلبه من العبيد لا محالةن فاضطر قطعاً - لبنائهم على النقص - إلى ترك الحق واتباع الباطل ، فكانت عاقبة أمره الذل وإن طال المدى ، فإن الله تعالى ربما أمهل المخذول إلى أن ينتهي في خذلانه إلى أن يستحق لباس الذل ؛ ثم بين سبحانه ذلك بما يكون منهم يوم البعث فقال : ( سيكفرون ) أي الآلهة بوعد لا خلف فيه وإن طال الزمان ) بعبادتهم ) أي المشركين ، فيقولون لهم
77 ( ) ما كنتم إياناً تعبدون ( ) 7
[ يونس : 28 ]
77 ( ) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ( ) 7
[ البقرة : 116 ] ) ويكونون عليهم ) أي الكفار ؛ ووحد إشارة إلى اتفاق الكلمة بحيث إنهم لفرط تضامنهم كشيء واحد فقال : ( ضداً ) أي أعداء فيكسبونهم الذل ، وكذا يفعل الكفار مع شركائهم ويقولون ) والله ربنا ما كنا مشركين ( فيقع بينهم العداوة كما قال تعالى
77 ( ) ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ( ) 7
[ العنكبوت : 25 ] .
ولما كان من المستبعد عندهم جواز رجوعهم عنهم فضلاً عن كفرهم بهم ، دل(4/556)
صفحة رقم 557
على وقوعه بما يشاهد منهم من الأفعال المنافية لرزانة الحلم الناشئة عن وقار العلم ، فقال : ( ألم تر أنا ( لما لنا من العظمة ) أرسلنا الشياطين ( الذين خلقناهم من النار ، إرسالاً مستعلياً بالإبعاد والإحراق ) على الكافرين ) أي العريقين في الكفر ) تؤزهم أزاً ) أي تحركهم تحريكاً شديداً ، وتزعجهم في المعاصي والدنايا التي لا يشكون في قباحتها وعظيم شناعتها وهم الناس عيباً لفاعليها وذماً لمرتكبيها إرعاجاً عظيماً بحيث يكونون في تقلبهم ذلك مثل الماء الذي يغلي في القدر ، ومثل الشرر المتطاير الذي هو أشد شيء عما اتصفوا به من خفة السفه وطيش الجهل فقال : ( فلا تعجل عليهم ( بشيء مما تريد به الراحة منهم .
ولما كانت مراقبة ناصر الإنسان لعدوه في الحركات والسكنات أكبر شاف للولي ومفرح ، وأعظم غائط للعدو ومزعج ومخيف ومقلق ، علل ذلك بقوله دالاًّ على أن زمنهم قصير جداً بذكر العد : ( إنما نعد لهم ( بإمهالنا لهم وإدرارنا النعم عليهم ) عداً ( لأنفاسهم فما فوقها لا نغفل عنهم بوجه ، فإذا جاء أجلهم الذي ضربناه لهم ، محونا آثارهم ، وأخلينا منهم ديارهم ، لا يمكنهم أن يفوتونا ، فاصبر فما أردنا بإملائنا لهم إلا إشقاءهم وإراءهم لا تنعيمهم وإعلاءهم ، فهو من قصر الموصوف على صفته إفراداً .
مريم : ( 85 - 93 ) يوم نحشر المتقين. .. . .
) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ( ( )
ولما بين مآل حال الكافرين في آلهتهم ودليله ، أتبعه بوقته فقال : ( يوم ) أي يكفرون بعبادتهم يوم ) نحشر المتقين ) أي العريقين في هذا الوصف ؛ ولما تقدمت سورة النعم العامة النحل ، وأتبعت سورة النعم الخاصة بالمؤمنين وبعض العامة ، مثل ) ) ولقد كرمنا بني آدم ( ) [ الإسراء : 70 ] ، ثم سورتي الخاصة بالصالحين الكهف وهذه ، قال : ( إلى الرحمن ( فيدخلهم دار الرضوان ، فذكر الاسم الدال على عموم الرحمة ، وكرره في هذه تكريراً دل على ما فهمته ، وربما أيد ذلك افتتاح النحل بنعمة البيان على هذا الإنسان التي عبر عنها بالخصيم ، وختام هذه بالقوم اللد من حيث رد(4/557)
صفحة رقم 558
مقطع هذه التي كانت بالنظر إلى النعم شيئاً واحداً على مطلعها ) وفداً ) أي القادمين في إسراع ورفعة وعلى ، كما تقدم الوفود على الملوك ، فيكونون في الضيافة والكرامة .
ولما ذكر ما يدل على كرامة أوليائه ، أتبعه ما يدل على إهانة أعدائه فقال : ( ونسوق المجرمين ) أي بالكفر وغيره من المعصية ، كالبهائم سوقاً عنيفاً مزعجاً حثيثاً ) إلى جهنم ( بسطوة المنتقم الجبار ) ورداً ) أي عطاشاً ) لا يملكون الشفاعة ) أي لا يملك أحد من القسمين أن يَشفَع ولا أن يشفَّع فيه ) إلا من اتخذ ) أي كلف نفسه واجتهد في أن أخذ ) عند الرحمن عهداً ( بما وفقه له من الإيمان والطاعة التي وعده عليها أن يشفع أو أن يشفع فيه ؛ فالآية من الاحتباك : ذكر الرحمن أولاً دليلاً على المنتقم ثانياً ، وجهنم ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً .
ولما أبطل مطلق الشفعاء ، وكان الولد أقرب شفيع ، وكانوا قد ادعوا له ولداً ، أبطل دعواهم فيه لينتفي كل شفيع خاص وعام ، فينتفي كل عز راموه بشفاعة آلهتهم وغيرها .
فقال عاطفاً على قوله : ( واتخذوا من دون الله آلهة ( موجباً منهم : ( وقالوا ) أي الكفرة ) اتخذ الرحمن ) أي الذي لا منعم غيره ، فكل أحد محتاج إليه وهو غني عن كل أحد ) ولداً ( قالت اليهود : عزير ، والنصارى : المسيح ، والمشركون : الملائكة ، مع قيام الأدلة على استحالته عليه سبحانه ؛ ثم استأنف الالتفات إلى خطابهم بأشد الإنكار ، إيماء إلى تناهي الغضب فقال : ( لقد ) أي وعزتي لقد ) جئتم شيئاً إدّاً ) أي عظيماً ثقيلاً منكراً ؛ ثم بين ثقله بقوله : ( تكاد السماوات ( على إحكامها ، مع بعدها من أصحاب هذا القول ) يتفطرون ) أي يأخذن في الانشقاق ) منه ( اي من هذا الشيء الإدّ ) وتنشق الأرض ( على تحتها شقاً نافذاً واسعاً ) وتخر ) أي تسقط سريعاً ) الجبال ( على صلابتها ) هداّ ( كما ينفسخ السقف تحت ما لا يحتمله من الجسم الثقيل ، لأجل ) أن ادعوا ) أي سموا ) للرحمن ( الذي كل ما سواه نعمة منه ) ولداً ( هذا المفعول الثاني ، وحذف الأول لإرادة العموم ) وما ينبغي ) أي ما يصح ولا يتصور ) للرحمن أن يتخذ ولداً ( لأنه غير محتاج إلى الولد بوجه ، ومع ذلك فهو محال ، لأن الولد لا يكون إلا مجانساً للوالد ، ولا شيء من النعم بمجانس للمنعم المطلق الموجد لكل ما سواه ، فمن دعا له ولداً قد جعله كبعض خلقه ، وأخرجه عن استحقاق هذا الاسم ، ثم أقام الدليل على غناه عن ذلك واستحالته عليه ، تحقيقاً لوحدانيته ، وبياناً لرحمانيته ، فهدم بذلك الكفر بمطلق الشريك بعد أن هدم الكفر بخصوص الولد فقال : ( إن ) أي ما ) في السماوات والأرض ( الذين ادعوا أنهم ولد وغيرهم ) إلا ( .
ولما(4/558)
صفحة رقم 559
كان من العبد من يعصي على سيده ، عبر بالإتيان فقال : ( ءاتي الرحمن ( العام بالإحسان ، أي منقاد له طوعاً أو كرهاً في كل حالة وكل وقت ) عبداً ( مسخراً مقهوراً خائفاً راجياً ، فكيف يكون العبد ابناً أو شريكاً ؟ فدلت الآية على التنافي بين العبودية والولدية ، فهي من الدليل على عتق الولد والوالد إذا اشتريا .
مريم : ( 94 - 98 ) لقد أحصاهم وعدهم. .. . .
) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ( ( )
ولما كان من المستبعد معرفة الخلائق كلهم ، أتبعه بقوله : ( لقد ) أي والله لقد ) أحصاهم ( كلهم إحاطة بهم ) وعدهم ( ولما كان ذلك لا يكاد يصدق ، أكده بالمصدر فقال : ( عداً ( قبل خلقهم من جميع جهات العبد ولوازمها ، فلم يوجد ولم يولد ، ولم يعد أو يصب أحد منهم إلا في حينه الذي عده له ، وقد يكون الإحصاء قبل الوجود في عالم الغيب والعد بعد الوجود ) وكلهم ) أي وكل واحد منهم ) ءاتيه يوم القيامة ( بعد بعثه من الموت ) فرداً ( على صفة الذل ، موروثاً ماله وولده الذي كنا أعطيناه في الدنيا قوة له وعزاً ، لأنه لا موجود غيره يقدر على حراسة نفسه من الفناء ، فهو لا شك في قبضته ، فكيف يتصور في بال أو يقع في خيال أن يكون شيء من ذلك له ولداً أو معه شريكاً .
ولما عم بهذا الحكم الطائع والعاصي ، وكان ذلك محزناً لأهل الطاعة باستشعار الذل في الدارين ، تحركت النفس إلى معرفة ما أفادتهم الطاعة ، واستأنف الجواب لذلك مبشراً لهم بقوله : ( إن الذين آمنوا وعملوا ( تصديقاً لادعائهم الإيمان ، الأعمال ) الصالحات سيجعل ( تحقيقاً عما قليل عند بيعة العقبة ) لهم الرحمن ( الذي خصهم بالرضا بعد أن عمهم بالنعمة ، جزاء على انقيادهم له ، لأنه كان إما باختيارهم وإما برضاهم ) وداً ) أي حباً عظيماً في قلوب العباد ، دالاً على ما لهم عندهم من الود ؛ قال الأصبهاني : من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي تكسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صدقة أو اصطناع غيره أو غير ذلك ، وإنما هو اختراع ابتدأ اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم - انتهى .
والمراد - والله أعلم - أنه لا يجعل سبحانه في قلب أحد من عباده الصالحين عليهم إجنة ، لأن الود - كما قال الإمام أبو الحسن الحرالي : خلو(4/559)
صفحة رقم 560
عن إرادة المركوه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يزيد ذلك وضوحاً ؛ روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله إذا أحب عبداً دعا جبرئيل فقال : يا جبرئيل إني أحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبرئيل فقال : يا جبرئيل إني أبغض فلاناً فأبغضه ، فيبغضه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه ، فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في الأرض .
( ولما كان إنزال هذا القول الثقيل ثم تيسيره حفظاً وعملاً سبباً لما جعل لأهل الطاعة في الدنيا من الود بما لهم من التحلي والتزين بالصالحات ، والتخلي والتصون من السيئات ، الدال على ما لهم عند مولاهم من عظيم العز والقرب ، وكان التقدير : والذين كفروا ليكسبنهم الجبار بغضاً وذلاًّ ، فأخبر كلاًّ من الفريقين لما له بشارة ونذارة ، قال مسبباً عن إفصاح ذلك وإفهامه : ( فإنما يسرناه ) أي هذا القرآن ، الذي عجز عن معارضته الإنس والجان ، والكتاب القيم والوحي الذي لا مبدل له بسبب إنزالنا إياه ) بلسانك ( هذا العربي المبين ، العذب الرصين ) لتبشر به المتقين ( وهم الذين يجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية ، فلا يبطلون حقاً ولا يحقون باطلاً ، ومتى حصلت لهم هفوة بادروا الرجوع عنها بالمتابن بما لهم عندنا من العز الذي هو ثمرة العز المدلول عليه بما لهم منه في الدنيا ، لا لتحزنهم بأن ينزل فيه ما يوهم تسويتهم بأهل المعصية في كلتا الدارين ) وتنذر به قوماً لدّاً ( أشد في الخصومة ، يريدون العز بذلك ، لما لهم عندنا من الذل والهوان الناشئ عن المقت المسبب عن مساوئ الأعمال ، وأنا نهلكهم إن لم يرجعوا عن لددهم هو الذي يتمادى في غيه ولا يرجع لدليل ، ويركب في عناد الحق ما يقدر عليه من الشر ، ولا يكون هذا إلا ممن يحتقر من يخاصمه ويريد أن يجعل الحق باطلاً ، تكبراً عن قبوله ، فينطبق عليه ما رواه مسلم في الإيمان عن صحيحه ، وأبو داود في اللباس من سننه ، والترمذي في البر من جامعه ، وابن ماجه في السنة من سننه ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط - ( وفي رواية : ( وغمص - الناس .
( وكلاهما بمعنى الاحتقار ، ومن كان سبيله مرن على ذلك ومرد عليه ، (4/560)
صفحة رقم 561
فكان جديراً بأن يركبه الله أبطل الباطل : الكفر عند الموتن فتحرم عليه الجنة ، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه
77 ( ) سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ( ) 7
[ الأعراف : 49 ] فيا ذل من تكبر على الحق ويا عز من تشرف بالذل للحق والعز على الباطل ولعمري لقد أجرى الله عادته - ولن تجد لسنة الله تحويلاً أن من تعود الجراءة بالباطل كان ذليلاً في الحق ، وإليه يشير قوله تعالى في وصف أحبابه
77 ( ) أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ( ) 7
[ المائدة : 54 ] .
ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول ) ينذر ( : فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم ، عطف عليه قوله : ( وكم أهلكنا ( بما لنا من العظمة ، ولما كان المراد التعميم ، أثبت الظرف عرياً عن الجار ، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال : ( قبلهم من قرن ( كانوا أشد منهم شدة ، وأكثر عدة ، وأوثق عدة ، فلم يبق إلا سماع أخبارهم ، ومشاهدة آثارهم ؛ ثم قال تصويراً لحالهم ، وتقريراً لمضمون ما مضى من مآلهم : ( هل تحس منهم من أحد ( ببصر أو لمس ) أو تسمع لهم ركزاً ) أي صوتاً خفياً فضلاً عن أن يكون جلياً ، فقد ختمت السورة بما بدئت به من الرحمة لأوليائه ، والود لأصفيائه ، والنعمة للذين خلفوا بعدهم من أعدائه ، بعد الرحمة للفريقين بهذا الكتاب بشارة ونذارة فحلت الرحمة على أوليائه ، وزلت عن أعدائه والله الموفق .
.. .. .(4/561)
صفحة رقم 3
سورة طه
طه : ( 1 - 6 ) طه
) طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ( } )
مقصودها الإعلام بإمهال المدعوين والحلم عنهم والترفق بهم إلى أن يكونوا أكثر الأمم ، زيادة في الشرف داعيهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعلى هذا المقصد الشريف دل اسمها بطريق الرمز والإشارة ، لتبيين أهل الفطنة والبصارة ، وذلك بما في أولها من الحروف المقطعة ، وذلك أنه لما كان ختام سورة مريم حاملاً على الخوف من أن تهلك أمته ( صلى الله عليه وسلم ) قبل ظهور أمره الذي أمر الله به ةاشتهار دعوته ، لقلة من آمن به منهم ، ابتدأه سبحانه بالطاء إشارة بمخرجها الذي هو من رأس اللسان وأصول الثنيتين العليين إلى قوة أمر وانتشاره ، وعلوه وكثرة أتباعه ، لأن هذا المخرج أكثر المخارج حروفاً ، وأشدها حركة وأوسعها انتشاراً ، وبما فيها من صفات الجهر والإطباق و الاستعلاء والقلقلة إلى انقلاب ما هو فيه من الإسرار جهراً ، وما هو فيه من الرقة فخامة ، لأنها من حروف التفخيم ، وأنه يستعلي أمره ، وينتشر ذكره ، حتى يطبق جميع الوجود ويقلقل سائر الأمم ، ولكن يكون ذلك .
بما تشير إليه الهاء بمخرجها من أقصى الحلق .
على حد بعده من طرف اللسان مع طول كبير وتماد كثير ، وبما فيها من صفات الهمس والرخاوة والانفتاح والاستفال والخفاء مع مخافته وضعف كبير ، وهدوء وخفاء عظيم ، ومقاساة شدائد كبار ، مع نوع فخامة واشتهار ، وهو وإن كان اشتهاراً يسيراً يغلب هذا الضعف كله وإن كان قوياً شديداً ، وقراءة الإمالة للهاء تشير إلى شدة الضعف ، وقراءة التفخيم .
وهي الأكثر القراء .
مشيرة إلى فخامة القدر وقوة الأمر ، بما لهما من الانتفاخ ، وإن رئي أنه ليس كذلك ( إنه ليخافه(5/3)
صفحة رقم 4
ملك بني الأصفر ) وإن كان معنى الحرفين : يا رجل ، فهو إشارة إلى قوته وعلو قدره ، وفخامة ذكره ، وانتشار أتباعه وعموم أمره ، وإن كانا إشارة إلى وطء الأرض فهو إلاحة إلى قوة التمكن وعظيم القدرة وبعدد الصيت حتى تصير كلها ملكاً له ولأتباعه ، وملكاً لأمرائه واشياعه .
والله أعلم .
وذكر ابن الفرات في تأريخه أن هحر الحبشة كانت قي السنة الثامنة من المبعث فالظاهر .
على ما يأتي في إسلام عمر رضي الله عنه أن نزول هذه السورة أو أولها كان قرب هجرة الحبشة ، فيكون سبحانه قد رمز له ( صلى الله عليه وسلم ) على ما هو ألذ في محادثة الأحباب ، من صريح الخطاب ، بعدد مسمى الطاء إلى أن وهن الكفار الوهن الشديد .
يقع في السنة التاسعة من نزولها ، وذلك في غزوة بدر الموعد في سنة أربع من الهجرة ، وبعدد اسمها إلى أن الفتح الأول يكون في السنة الحاية عشر من نزولها ، وذلك في عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة عند نزول سورة الفتح ، ورمز له بعدد مسمى الهاء إلى أن مبدأ النصرة بالهجرة في السنة الخامسة من نزولها ، وبعدد اسمها إلى أن نصرة بالفعل يعق في السنة السابعة من نزولها ، وذلك في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة ، وبعدد حرفي اسمها لا بعدد اسميها إلى أنه في السنة الثالثة عشر من نزولها يكون بفتح الأكبر بالاستعلاء على مكة المشرفة التي كان سبباً قريباً للاستعلاء على جميع الأرض ، وذلك في أواخرها في رمضان سنة ثمان من الهجرة ، وكان تمتمه بفتح الطائف بإرسال وفدهم وإسلامهم وهدم طاغيتهم في سنة تسع ، وهي السنة الرابعة عشرة ، وبعدد اسميهما إلى أن تطبيق أكثر الأرض بالإسلام يكون في السنة الثامنة عشرة من نزولها ، وذلك بخلافة عمر رضي الله عنه في السنة الثالثة عشر من الهجرة .
والله أعلم .
) بسم ( الواسع الحلم التام القدرة ) الله ( الملك الأعظم ) الرحمن ( الذي استوى في أصل نعمته جميع خلقه ) الرحيم ( الذي أتم النعمة على أهل توفيقه ولطفه ) طه ) أي تخلص بالغ من كل ما يخشى وظهر عظيم وطيب منتشر في كل قطر إلى نهاية الوطن الذي هو التاسع ، ممن له الإحاطة التامة بكل غيب ، وإليه يرجع الأمر كله ، كما اجتمعت أسماؤه كلها في غيب هو الذي جعل العزة للمهتدين والهدى للمتقين .
هذه السورة والتي قبلها من أقدم السور المكية ، قال هشام في تهذيب السيرة : قال ابن اسحاق : حدثني محمد بن مسلم الوهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أم أمية بن المغيرة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : قالت : لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا وعبدنا الله تبارك وتعالى ال نؤذى ولا نسمع شيءاً نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم .
فذكر(5/4)
صفحة رقم 5
إرسالهم إليه بهدايا ليردهم إليه ، وأن بطارقته كلموه في ذلك ، وأنه أبى حتى يسمع كلامهم ، وأمه طلبهم فأجمع أمرهم على أن يقولوا الحق كائناً فيه ما كان ، فدخلوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فقال لهم : ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا به في دين أحد من هذه الملل .
قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله غلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم و حسن الجوار ، الكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم .
وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .
قالت : فعدد عليه أمور الإسلام .
فصدقناه وآمنا به ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان .
فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بالدك ، واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ فقال له جعفر : نعم فقال له النجاشي : فاقرأه عليّ فقرأ عليه صدراً من كهيعص ، فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ؛ ثم قال النجاشي : إن هذا ةالذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، ثم ذكر تأمينه لهم ورد هدايا قريش ورسلهم خائبين .
وقال ابن هشام : وقال ابن اسحاق : فحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبدالله بنت أبي حثمة رضي الله عنها قالت : والله إنا لنترحل إلى ارض الحبشة وقد ذهب عامر رضي الله عنه في بعض حاجاتنا غذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليّ وهو على شركه ، وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا ، فقال : إنه الانطلاق يا أم عبد الله ؟ قلت : نعم والله لنخرجن في أرض الله ، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً ، فقال : صحبكم الله ، ورأيت له رقة لم أكن أراها ، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا ، فجاء عامر رضي الله عنه بحاجته تلك فقلت له : يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا قال : أطمعت في إسالمه ؟ قلت : نعم قال : لايسيلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب .
يأساً منه .
لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام ، قال ابن إسحاق : وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب ، وكانت عند سعيد(5/5)
صفحة رقم 6
بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم ، وكانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر ، وكان نعيم بن عبد الله بن النحام .
رجل من قومه بني عدي بن كعب .
قد أسلم رضي الله عنه ، وكان أيضاً يستخفي بإسلامه فرقاً من قومه ، وكان خباب بن الأرت رضي الله عنه يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها يقرئها القرآن ، فخرج عمر يوماً متوحشاً بسيفه يريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورهطاً من أصحابه رضي الله عنهم قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ممن كان أقم مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ، فلقيه نعيم بن عبد الله رضي الله عنه فقال : أين تريد يا عمر ؟ قال أريد محمداً هذا الصابىء الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله فقال له نعيم رضي الله عنه : والله لقد غرتك نفسك من نفسك ياعمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ قال : وأيّ أهل بيتي ؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه فعليك بهما فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت رضي الله عنه وعنهما ، وعه صفيحة فيها طه يقرئها إياها ، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب بن الأرت رضي الله عنه في مخدع لهم أو في بعض البيت ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال : ما هذه الهينمة التي سمعت ؟ قالا له : ما سمعت شيئاً ؟ قال : بلى والله لقد أ برت أنكما تابعتما محمداً على دينه ، وبطش بختنه سعيد بن زيد رضي الله عنه فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها ، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه رضي الله عنهما : نعم قد أسلمنا وآن آمنا بالله ورسوله ، فاصنع ما بدا لك فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته : أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ؟ وكان عمر كاتباً ، فلما قال ذلك قالت له أخته : إنا نخشاك عليها ، قال : لاتخافي ، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها ، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت : يا أخي إنك نجس على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر ، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها ، فلما قرأ منها صدراً قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه فلما سمع ذلك خباب(5/6)
صفحة رقم 7
رضي الله عنه خرج إليه فقال له : يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فإني سمعته أمس وهو يقول : اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر فقال له عمر عند ذلك : فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلمن فقال له خباب : هو في بيت عند الصفا ، معه فيه نفر من أصحابه ، فأخذ عمر سيفه فتوحشه ثم عمد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فضرب عليهم الباب ، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنظر من خلال الباب فرآه متوحشاً السيف فرحع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو فزع فقال : يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوحشاً السيف فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه : فأذن له ، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ائذن له ، فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال : ما جاء بك يا ابن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة ، فقال عمر : يارسول الله جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله ، فكبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن عمر قد أسلم ، فتفرق أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من مكانهم ، وقد عزّوا في أنفسهم حين اسلم عمر بن الخطاب مع إسلام حمزة رضي الله عنهما ، وعلرفوا أنهما سيمنعان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وينصتون بهما من عدوهم ، فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن أسلام عمر رضي الله عنه حين أسلم .
وكان إسلام عمر بعد إسلام حمزة رضي الله عنهما بثلاثة أيام ، كما ثبت ذلك في حاشية شرح العقائد عن فوائد تمام الرازي ، وصفوة الصفوة لابن الجوزي ؛ قال ابن هشام : قال ابن اسحاق : وحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : لما أسلم عمر قال : أي قريش أنقل للحديث ؟ قال : قيل له : جميل بن معمر الجمحي ، فغدا عليه ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له : أعلمت يا جميل أني اسلمت ودخلت في دين محمد ؟ قال فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه .
واتبعه عمر رضي الله عنه واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة .
ألا إن ابن الخطاب قد صبأ قال : يقول عمر رضي الله عنه من خلفه : كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على روؤسهم قال : وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم ، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها أو تركتموها لنا ، قال : فبينما(5/7)
صفحة رقم 8
هو على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : صبأ عمر ، قال : فمه رجل اختار لنفسه أمراٍ فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم ؟ هكذا عن الرجل قال : فوالله لكأنكما كانوا ثوباً كشط عنه .
وفي الروض الأنف للامام أبي القاسم السهيلي أن يونس روى عن ابن اسحاق أن عمر قال حين أسلم رضي الله عنه :
الحمد لله ذي المن الذي وجبت له علينا أياد ما لها غير وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا صدق الحديث نبي عنده الخبر وقد ظلمت ابنة ا لخطاب ثم هدى ربي عشية قالوا قد صبا عمر وقد ندمت على ما كان من زلل بظلمها حبث تتلى عندها السور لما دعت ربها ذا العرش جاهدة والدمع من عينها عجلان يبتدر أيقنت أن الذي تدعوه خالقها فكاد يسبقني من عبرة درر فقلت أشهد أن الله خالقنا وأن أحمد فينا اليوم مشتهر نبي صدق أتى بالحق من ثقة وافى الأمانة ما في اليوم مشتهر
إذا تقرر هذا ، علم أن المقصود من السورة - كما تقدم - تشريف هذا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) بإعلامه بالرفق بأمته ، والإقبال بقلوبهم حتى يملؤوا الأرض كثرة ، كما أنزل عليهم السكينة وهم في غاية الضعف والقلة ، وحماهم ممن يريد قتلهم ، ولين قلب عمر رضي الله عنه بعد ما كان فيه من الغلظة وجعله وزيراً ، ثم حماه بعدوه ، وتأمينه ( صلى الله عليه وسلم ) من أن يستأصلوا بعذاب ، وبأنه يموت نبيهم قبلهم لا كما وقع للمهلكين منن قوم نوح وهود عليهما السلام ومن بعدهم - بما دل عليه افتتاح هذه بنفي الشقاء وختم تلك بجعل الود وغير ذلك ، والداعي إلى هذا التأمين أنه سبحانه لما ختم تلك بإهلاك القرون وإبادة الأمم بعد إنذار القوم اللد ، ولم يختم سورة من السور الماضية بمثل ذلك ، كان ربما أفهم أنه قد انقضت مدتهم ، وحل بوارهم ، وأتى دمارهم ، وأنه لا يؤمن منهم - لما هم فيه من اللد - إلا من قد آمن ، فحصل بذلك من الغم والحزن ما لا يعلم قدره إلا الله ، لأن الأمر كان في ابتدائه ، ولم يسلم منهم إلا نفر يسير جداً ، فسكن سبحانه الروع بقوله : ( ما أنزلنا ( بعظمتنا ) عليك ) أي وأنت أعلم الخلق ) القرآن ) أي أعظم الكتب ، الجامع لكل خير ، والدافع لكل ضير ، الذي يسرناه بلسانك ) لتشقى ) أي بتعب قلبك بكونك من أقل المرسلين تابعاً بعد استئصال قومك وشقائهم بإنذارك ) إلا ) أي لكن أنزلناه ) تذكرة ( اي تذكيراً عظيماً ) لمن يخشى ( ممن أشرنا في آخر التي قبلها إلى بشارته إيماء إلى أنه سيكون فيهم من المتقين من تناسب كثرته إعجاز هذا(5/8)
صفحة رقم 9
القرآن ودوامه ، وما فيه من الجمع المشار إليه بالتعبير بالقرآن لجميع ما في الكتب السالفة من الأحكام أصولاً وفروعاً ، والمواعظ والرقائق ، والمعارف والآداب ، وأخبار الأولين والآخرين ، ومصالح الدارين ، وزيادته عليها بما شاء الله ، لأن كثرة الأمة على قدر جلالة الكتاب ، والتعبير عن ( لكن ) بالإشارة إلى أنه يمكن أن يمون من باب :
ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وأشار بالمصدر الجاري على غير الفعل في قوله ) تنزيلا ( إلى أنه يتمهل عليهم ترفقا بهم ، ولا ينزل هذا القرآن إلا تدريجا ، إزالة لشبههم ، وشرحا لصدورهم ، وتسكينا لنفوسهم ، ومدا لمدة البركة فيهم بتردد الملائكة الكرام إليهم ، كما أنه لم يهلكهم بمعاصيهم اكتفاء ببينة ما في الصحف الأولى ، بلبل أرسل إليهم رسولا لئلا يقولوا : ربنا لولا - كما اقتضته حكمته وتمت به كلمته ، ولما كان رجوعههم إلأى الدين على ما يشاهد منهم من الشدة والأنفة والسماخة التي سماهم الله به قوما لدا في غاية البعد ، شرع سبحانه بقدرته إشارة إلى أن القلوب بيده يقلبها كيف شاء كما صورها كيف شاء ، وأن شأنه الرفق والأناة ، فقال ملتفتا من التكلم إلأى الغيبة ليدل على ما افتضته النون من العظمة مقدما ما اقتضى الحال تقديمه من سكن المدعوين المعتنى بتذكرتهم وهداية من أريد منهم ) ممن خلق الأرض ( المنخفضة .
ولما قدم الأرض إعلاما بالاعتناء برحمها بالترفق بسكانها ليملأها بالإيمان منهم تحقيقا لمقصود السورة تشريفا للمنزل عليه ، أتبعها محل الإنزال على سبيل الترقي من بيت العزة إلى ما كنزة في خزانة العرش فقال ) السموات العلى ( في ستى أيام ، ولو شاء كانتا في لحظة .
ولما كان القادر قد لا يكون ملكا ، قال دالا على ملكه مادحا له بالقطع خبرا لمبتدأ محذوف : ( الرحمن ( مفتتحا بالوصف المفيض للنعم العامة للطائع والعاصي ، ثم ذكر خبرا ثانيا دالا على عموم الرحمة فقال : ( على العرش ( الحاوي لذلك كله ) استوى ) أي أخذ في تدبير ذلك منفردا ، فخاطب العباد بما يفهمونه من قولهم فلان استوى ، أي جلس معتدلا على سرير الملك ، فانفرد بتدبيره وإن لم يكن هناك سرير ولا كون عليه أصلا ، هذا روح هذه العبارة ، كما أن روح قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما " القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء " أنه سبحانه وتعالى عظيم القدرة على ذلك ، وهو عليه(5/9)
صفحة رقم 10
يسير خفيف كخفته على من هذا حاله ، وليس المراد أن هناك إصبعا أصلا ، نبه على ذلك حجة الإسلام الغزالي ومنه أخذ الزمخشري أن يد فلان مبسوطة كناية عن جواد وإن لم يكن هناك يد ولا بسط أصلا .
ولما ك 0 ان الملك قد لا يكون مالكا ، قال مقدما الأشرف على العادة ) له ما في السمواوات ) أي كله من عاقل وغيره ) وما في الأرض ( جميعه ) وبينهما ) أي السماوات والأرض ) وما تحت الثرى ( وهو التراب الندي ، سواء قلنا : إنه آخر العالم فما تحته العدم المحض أم لا ؟ فيكون تحته النور أو الحوت أو غيرهما
طه : ( 7 - 15 ) وإن تجهر بالقول. .. . .
) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يمُوسَى إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( ( )
ولما كان الملك لا ينتظم غاية الانتظام إلا بإحاطة العلم ، وكان الملك من الآدميين قد لا يعلم أحوال أقصى ملكه كما يعلم أحوال أدناه لا سيما إذا كان واسعاً ولذلك يختل بعض امره ، اعلم أنه سبحانه بخلاف ذلك ، فقال حثاً على مراقبته والإخلاص له : ( وأن تجهر بالقول ) أي بهذا القرآن للبشارة والنذارة أو لغير ذلك أو بغيره ، فإنه علام به وغير محتاج إلى الجهر ، فلا يتكلف ذلك في غير ما أمرت بالجهر به لغرض غير الإسماع ) فإنه يعلم السر ( وهو ما يناجي به الثنان مخافته ) وأخفى ( من ذلك ، وهو ما في الضمائر مما تخيلته الأفكار ولم يبرز إلى الخارج وغيره من الغيب الذي لم يعلمه غيره تعالى بوجه من الوجوه ، ومنه ما سيكون من الضمائر .
ولما كان من هو بهذه الأوصاف من تمام العلم والقدرة ربما ظن أن له منازعاً ، نفى ذلك بقوله معلماً أن هذا ظن باطل قطعاً لا شبهة له وأن ما مضى ينتج قطعاً : ( الله ( مفتتحاً بالاسم الأعظم الحاوي لصفات الكبر وغيرها ) لا إلى إلا هو ( ثم علل ذلك بقوله : ( له ) أي وحده ) الأسماء الحسنى ) أي صفات الكمال التي لا يصح ولا يتصور أن يشوبها نقص ما ، بل هو متصف بها دائماً اتصافاً حقيقياً لا يمكن انفكاكه ، كما يكون لغيره من الاتصاف ببعض المحاسن في بعض الأحايين ثم يعجز عنه في وقت آخر أو بالنسبة إلى زمان آخر .(5/10)
صفحة رقم 11
ولما اتبع ذلك قصة موسى عليه الشلام مصدرة باستفهام مقترن بواو عطف ، وأرشد ذلك إلى أن المعنى : هل تعلم له سمياً ، أي متصفاً بأوصافه أو بشيء منها له بذلك الوصف مثل فعله ، ولما كان الجواب قطعاً : لا ، ثبت أن لا متصف بشيء من أوصافه ، فعطف على هذا المقدار قصة موسى عليه السلام ، ويمون التقدير : هل علمت بما ذكرناك به في هذه الآيات أنا نريد ما هو علينا يسير بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل من إسعادك في الدارين تكثير أجرك ، وتفخيم أمرك ، بتكثير أتباعك ، وعطف عليه القصة شاهداً محسوساً على ما له من التصاف بما انتفى عن غيره من الأسماء الحسنى ، ولاسيما ما ذكر هنا من الاتصاف بتمام القدرة والتفرد بالعظمة ، وأهنه يعلي هذا المصطفى بإنزال هذا الذكر عليه وإيصاله منه إليه النصرة على الملوك وسائر الأضداد ، والتمكين في أقطار البلاد ، وكثرة الأتباع ، وإعزاز الأنصار والوزراء والأشياع ، وغير ذلك بمقدار ما بين ابتداء أمرهما من التفاوت ، فإن ابتداء أمر موسى عليه السلام أنه أتى النار ليُقبس أهله منها ناراً أو يجد عندها هدى .
فنح بذلك من هدى الدارين والنصرة على الأعداء كما سيقص هنا ما منح ، وهذا النبي الكريم كان ابتداء أمره أنه يذهب إلى غار حراء فيتعبد الليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك اجتذاباً من الحق له قبل النبوة بمدد ، تدريباً له وتقوية لقلبه ، فأتته النبوة وهو في مضمارها سائر ، وإلى أوجها بعزمه صائر بل طائر ، وموسى عليه السلام راى حين أتته النبوة آية العصا و اليد ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان قبل النبوة لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه ، كما أسنده ابن اسحاق في السيرة .
وروى مسلم وغيره عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث ) فقال تعالى مقرراً تنبيهاً على أنه يذكر أه منه ما يكفي في تسليته وتقوية قلبه ، وتبكيت اليهود الذين توقفوا في أمره ( صلى الله عليه وسلم ) وغشوا قريشاً حين تكلفوا طيّ شقة البين إليهم ورضوا بقولهم لهم وعليهم ليكون فائدة الاستفهام أن يفرغ أذنه الشريفة للسماع وقلبه للوعي العظيم : ( وهل أتاك ) أي يا أشرف الخلق ) حديث موسى ( نادباً إلى التأسي بموسى عليه السلام في تحمل أعباء النبوة وتكليف الرسالة والصبر على مقامات الشدائد ، وشارحاً بذكر ما في هذه السورة من سياق قصة ما أجمل منها في سورة مريم ، ومقرراً بما نظمه في أساليبها ما تقدم أنه مقصد السورة من أنه يسعده ولا يشقيه ، ويعزه على جميع شانئيه بإعزازه على أهل بلده بعد إخراجهم له ، كما أعز موسى عليه السلام من خرج من بلادهم خائفاً يترقب ، ترغيباً في(5/11)
صفحة رقم 12
الهجرة ثالثاً بعد ما رغب فيها أولاً بقصة أصحاب الكهف وثانياً بقصة أبيه إبراهيم عليه السلام ، وأنه يعلي قومه على جميع أهل الأرض ، وينقذهم به بعد ضعفهم من كل شدة ويغني فقرهم ويجعلهم ملوك الأرض ، يذل بهم الجبابرة ، ويهلك من علم شقاوته منهم كما فعل بقوم موسى ، وأشار بإنحناء موسى عليه السلام على يد عدوه وإلقاءه المحبة عليه وهداية السحرة دون فرعون وقومه ، وعبادة بني إسرائيل العجل بعد ما رأوا من الآيات والنعم والنقم ، ثم رجوعهم عنها إلى عظيم قدرته على التصرف في القلوب لمن كان يبخع نفسه لكفرهم بهذا الحديث أسفاً ، وكذا ما في قصة آدم عليه السلام من قوله
77 ( ) فنسي ولم نجد له عزماً ( ) 7
[ طه : 115 ] وقوله
77 ( ) ثم اجتباه ربه فتاب عليهه وهدى ( ) 7
طه : 122 ] ولعله أشار بقوله
77 ( ) واحلل عقدة من لساني ( ) 7
[ طه : 27 ] إلى ما أنعم الله به عليه من تسير هذا الذكر بلسانه ، وأرشد بدعاء موسى عليه السلام بشرح الصدر وتيسير الأمر وطلب وزيراً من أهله إلى الدعاء بمثل ذلك حتى دعا المنزل عليه هذا القرآن بأن يؤيد الله الدين بأحد الرجلين ، فأيده بأعظم ويزير : عمر بن الخطاب رضي الله عنه - كما مضى هذا إلى تمام ما اشتمل عليه سياق قصة موسى عليه السلام هنا ، إتماماً لتبكيت اليهود على تعليمهم قريشاً أن يسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الروح ، وما ذكر معها من دقائق ، من أمر قصة نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، لا يعلمها أحد منهم أو إلا حذّاقهم ، منها أن الموعد كان يوم الزينة ، ومنها إيمان السحرة إيماناً كاملاً ، ومنها التهديد بتصليبهم في جذوع النخل ، ومنها إلقاء السامري لأثر الرسول ، فإني لم أر أحداً من اليهود يعرف ذلك ، وأخبرني بعض فضلائهم أنه لا ذكر لذلك عندهم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في بر هانه : لما ذكر سبحانه قصة إبراهيم عليه السلام وما منحه وأعطاه ، وقصص الأنبياء بعده بما خصهم به ، وأعقب ذلك بقوله تعالى
77 ( ) أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبين من ذرية أدم ( ) 7
[ مريم : 58 ] وكان ظاهر الكلام تخصيص هؤلاء بهذه المناصب العلية ، والدرجات المنفية الجليلة لاسيما وقد اتبع ذلك بقوله
77 ( ) فخلف من بعدهم أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ( ) 7
[ مريم : 59 ] كان هذا مظنه إشفاق وخوف فاتبعه تعالى بملاطفة نبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ملاطفة المحبوب المقرب المجتبى فقال
77 ( ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( ) 7
وأيضاً فقد ختمت سورة مريم يقوله
77 ( ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ( ) 7
بعد قوله
77 ( ) وتنذر به قوماً لداً ( ) 7
وقد رأى عليه الصلاة والسلام من تأخر قريش عن الإسالم ولددها ما أوجب إشفاقه وخوفه عليهم .
ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام يحزنه تأخير إيمانهم ، ولذلك قيل له
77 ( ) فلا تحزن عليهم ( ) 7
كأنه عليه الصلاة والسلام(5/12)
صفحة رقم 13
ظن أنه يستصعب المقصود من استجابتهم ، أو ينقطع الرجاء من إنابتهم فيطول العناء والمشقة ، فبشره سبحانه وتعالى بقوله :
77 ( ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( ) 7
فلا عليك من لدد هؤلاء وتوقفهمن فيستجيب من انطوى على الخشية إذا ذكر وحرك إلى النظر في آيات الله كما قيل له في موضع آخر
77 ( ) فلا يحزنك قولهم ( ) 7
[ يونس : 65 ] ثم تبع ذلك سبحانه تعريفاً وتأنيساً بقوله
77 ( ) الرحمن على العرش استوى ( ) 7
إلى أول قصص موسى عليه السلام ، فأعلم سبحانه أن الكل خلقه ملكه ، وتحت قهره وقبضته لا يشذ شيء عن ملكه .
فإذا شاهد آية من وفقه لم يصعب أمره ، ثم اتبع ذلك بقصة موسى عليه السلام ، وما كان منه في إلقائه صغيراً في اليم ، وما جرى بعد ذلك من عجيب الصنع والهلاك فرعون وظهور بني إسرائيل ، وكل هذا مما يؤكد القصد المتقدم ، وهذا الوجه الثاني أولى من الأول - والله أعلم ، انتهى .
) إذ ) أي حديثه حين ) رءا ناراً ( وهو راجع من بلاد مدين ) فقال لأهله امكثوا ) أي مكانكم واتركوا ما أنتم عليه من السير ؛ ثم علل أمره بقوله : ( إني ءانست ناراً ) أي أبصرت في هذا الظلام إبصاراً بيناً لا شبهة فيه نت إنسان العين الذي تبين به الأشياء ، وهو مع ذلك مما يسر من الإنس الذين هم ظاهرون ما ترك بهم ) ناراً ( فكأنه يل ، فكان ماذا ؟ فقال معبراً بأداة الترجي لتخصيصه الخبر الذي عبر به في النمل بالهدى : ( لعلي ءاتيكم ) أي أترجى أن أجيئكم ) منها بقبس ) أي بشعلة من النار في رأس حطبة فيها جمرة تعين على برد هذه الليلة ) أوأجد على ( مكان ) النار هدى ) أي ما أهتدي به لأن الطريق كانت قد خفيت عليهم ) فلما أتها ( .
ولما كان في الإبهام ثم تعيين تشويق ثم تعظيم ، بنى للمفعول قوله : ( نودي ( من الهدى الذي لا هدى غيره ؛ ثم بين النداء بقوله : ( ياموسى ( ولما كان المقام للتعريف بالأيادي تلطفاً ، قال مؤكداً ، تنبيهاً له على تعرف أنه كلامه سبحانه من جهة أنه يسمعه من غير جهة معينة وعلى غير الهيئة التي عهدها في مكالمة المخلوقين ، مسقطاً الجار في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي حفص بالفتح ، وحاكياً بقول مقدر عند الباقين : ( إني أنا ربك ) أي المحسن إليك بالخلق والرزق وغيرهما من مصالح الدارين ) فاخلع نعليك ( كما يفعل بحضرات الملوك أدباً ، ولتنالك بركتها ولتكون مهيأً للإقامة غير ملتفت إلى ما وراءك من الأهل والولد ، ولهذا قال أهل العبارة : النعل يدل على الولد .
ثم علل بما يرشد إلى أنه تعالى لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان فقال : ( إنك بالواد المقدس ) أي المطهر عن كل ما لا يليق بأفنية الملوك ؛ ثم فسره بقوله : ( طوى ( ولما كان المعنى : فإني اخترته تشريفاً له من بين البقاع لمناجاتك ، عطف(5/13)
صفحة رقم 14
عليه قوله : ( وأنا اخترتك ) أي للنبوة ) فاستمع ( اي أنصت ملقياً سمعك معملاً قلبك للسماع ) لما ) أي اخترتك للذي ، وقدم استمع اهتماماً به ) يوحى ) أي يقال لك مني سراً مستوراً عن غيرك سماعه وإن كان في غاية الجهر ، كما يفعل الحبيب مع حبيبه من صيانة حديثهما عن ثالث بما يجعل له من الخلوة إعلاماً بعلو قدره وفخامة أمره ؛ ثم فسر الموحى بأول الواجبات وهو معرفة الله تعالى ؛ فقال مؤكداً لعظم الخبر وخروجه عن العادات : ( إنني أنا الله ( فذكر الاسم العلم لأن هذا مقامه إذ الأنسب للملطوف به - بعد التعرف إليه بالإكرام - الإقامة في مقام الجلال والجمال .
ولما كان هذا الاسم العلم جامعاً لجميع معاني الأسماء الحسنى التي علت عن أن يتصف بها أو بشيء منها حق الاتصاف غيره تعالى ، حسن تعقيبه بقوله : ( لا إله إلا أنا ( ولما تسبب عن ذلك وجوب غفراده بالعبادة ، قال : ( فاعبدني ) أي وحدي : ثم خص من بين العبادات معدن الأنس والخلوة ، زآية الخضوع والمراقبة وروح الدين فقال : ( وأقم الصلاة ) أي التي أضاعها خلوف السوء ، إشارة إلى أنها المقصود بالذات من الدين ، لأنها أعلى شرائعه لأنها حاملة على المراقبة ، بما فيها من دوام الذكر والإعراض عن كل سوء ، وذلك معنى ) لذكري ( وذلك أنسب الأشياء لمقام الجلال ، بل هي الجامعة لمظهري الجمال والجلال ؛ ثم علل الأمر بالعبادة بأنه لم يخلق الخلق سدى ، بل لا بد من إماتتهم ، ثم بعثهم لإظهار العظمة ونصب موازين العدل ، فقال مؤكداً لإنكارهم معبراً بما يدل على سهولة ذلك عليه جداً : ( إن الساعة ءاتية ) أي لاريب في إتيانها ، فهي أعظم باعث على الطاعة .
ولما كان بيان حقيقة الشيء مع إخفاء شخصه ووقته وجميع أحواله موجباً في الغالب لنسيانه والإعراض عنه ، فكان غير بعيد من إخفائه أصلاً ورأساً ، قال مشيراٍ إلى هذا المعنى : ( أكاد أخفيها ) أي أقرب من أن أجدد إخفاءها ، فلذا يكذب بها الكافر بلسانه والعاصي بعصيانه فالكافر لا يصدق بكونها والمؤمن لا يستعد غفلة عنها ، فراقبني فإن الأمر يكون بغتة ، ما من لحظة إلا وهي صالحة للترقب ؛ ثم بين سبب الإتيان بها بقوله : ( لتجزى ) أي بأيسر أمر وأنفذه ) كل نفس ( كائنة من كانت ) بما تسعى ) أي توجد من السعي في كل وقت كما يفعل من أمر ناساً بعمل من النظر في أعمالهم ومجازاة كل بما يستحق .
طه : ( 16 - 32 ) فلا يصدنك عنها. .. . .
) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يمُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(5/14)
صفحة رقم 15
قَالَ أَلْقِهَا يمُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأُولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) 73
( ) 71
ولما كانت - لما تقدم - في حكم المنسي عند أغلب الناس قال : ( فلا يصدنك عنها ) أي إدامة ذكرها ليثمر التشمير في الاستعداد لها ) من لا يؤمن بها ( بإعراضه عنها وحمله غيره على ذلك بتزيينه بما أوتي من المتاع الموجب للمكاثرة المثمرة لامتلاء القلب بالمباهاة والمفاخرة ، فإن من انصد عن ذلك غير بعيد الحال ممن كذب بها ، والمقصود من العبارة نهي موسى عليه السلام عن التكذيب ، فعبر عنه بنهي من لا يؤمن عن الصد إجلالاً لموسى عليه السلام ، ولأن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب ، ولأن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب ، فمأنه قيل : كن شديد الشكيمة صليب المعجم ، لءلا يطمع أحد في صدرك وإن كان الصاد هم الجم الغفير ، فإن كثرتهم تصل إلى الهوى لا إلى البرهان ، وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليلن وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله نبه عليه الكشاف .
ثم بين العلة في التكذيب بها والكسل عن التشمير لها بقوله : ( واتبع ) أي بغاية جهده ) هواه ( فكان حاله حال البهائم التي لا عقل لها ، تنفيراً عن مثل حاله ؛ ثم أعظم التحذير بقوله مسبباً : ( فتردى ( اي فتهلك ، إشارة إلى أن من ترك المراقبة لحظة حاد عن الدليل ، ومن حاد عن الدليل هلك .
ولما كان المقام مرشداً إلى أن يقال : ما جوابك يا موسى عما سمعت ؟ وكان تعالى عالماً بأنه يبادر إلى الجواب بالطاعة في كا ما تقدم ، طوى هذا المقال مومئاً إليه بأن عطف عليه قوله : ( وما تلك ( اي العالية المقدار ) بيمينك ياموسى ( مريداً - بعد تأنيسه بسؤاله عما هو أعلم به منه - إقامة البينة لديه بما يكون دليلاً على الساعة من سرعة القدرة على إيجاد ما لم يكن ، بقلب العصا حية بعد تحقق أنها عصاه يقرب النظر إليها عند السؤال عنها ليزداد بذلك ثباتاً ويثبت من يرسل إليهم ) قال هي ) أي ظاهراً وباطناً ) عصاي ( ثم وصل به مستأنساً بلذيذ المخاطبة قوله بياناً لمنافعها خوفاً من الأمر بإلقائها كالنعل : ( أتوكؤا ) أي أعتمد وأرتفق وأتمكن ) عليها ) أي إذا أعييت أو أعرض لي ما يحوجني إلى ذلك من زلق أو هبوط أو صعود أو طفرة أو ظلام ونحو ذلك ؛ ثم(5/15)
صفحة رقم 16
ثنى بعد مصلحة نفسه بأمر رعيته فقال : ( وأهشُّ ) أي أخبط الورق ، قال ابن كثير : قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك : والهش أن يضع الرجب المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ولا يخبط فهذا الهش ، قال : وكذا قال ميمون بن مهران ، وقال أبو حيان : والأصل في هذه المادة الرخاوة .
يقال : رجل هش .
) بها على غنمي ( .
ولما كان أكمل أهل ذلك الزمان ، خاف التطويل على الملك فقطع على نفسه ما هو فيه من لذة المخاطبة كما قيل : اجلس على البساط وإياك والانبساط ، وطمعاً في سماع كلامه سبحانه وتعالى ، فقال مجملاً : ( ولي فيها مآرب ) أي حوائج ومنافع يفهمها الألبّاء .
ولما كان المحدث عنه لايعقل ، وأخبر عنه بحمع كثرة ، كان الأنسب معاملته معاملة الواحدة المؤنثة فقال : ( أخرى ( تاركاً للتفصيل ، فكأنه قيل : فماذا قيل له ؟ فقيل : ( قال القها ) أي العصا ، وأنسه بقوله سبحانه وتعالى : ( ياموسى فألقاها ) أي فتسبب عن هذا الأمر المطاع أنه ألقاها وام يتلعثم ل ) فإذا هي ) أي في الحال ظاهراً وباطناً ) حية ( عظيمة جداً يطلق عليها لعظمعا بنهاية أمرها اسم الثعبان ، والحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير ) تسعى ( سعياً خفيفاً يطلق عليها لأجله في أول أمرها اسم الجانن فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس ، وجعلت تتورم حتى صارت ثعباناً - انتهى .
فهي في عظم الثعبان وسرعة الجان .
ولما كان ذلك أمراً مخيفاً ، استشرف السامع إلى ما يمون من حاله عند مثل هذا بعد ذلك ، فاستأنف إخباره بقوله : ( قال ( اي الله تبارك وتعالى على ما يكون منها عند فرعون لأجل التدريب : ( خذها ولا تخف ( مشيراً إلى أنه هخاف منها على عادة الطبع البشريّ ؛ ثم علل له النهي عنالخوف بقوله ) سنعيدها ) أي بعظمتنا عند أخذك لها بوعد لا خلف فيه ) سيرتها ) أي طريقتها ) الأولى ( من كونها عصا ، فهذه آية بينة على أن الذي يخاطبك هو ربك الذي له الأسماء الحسنى ، فنزلت عليه السكينة ، وبلغ من طمأنينته أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ، فإذا هي عصاه ، ويده بين شعبيتها .
ولما أراه آية في بعض اآفاق ، أراد أن يريه آية في نفسه فقال : ( واضمم يدك ( من جيبك الذي يخرج منه عنقك ) إلى جناحك ) أي جنبك تحت العضد تنضم على ما هي عليه من لونها وما بها من الحريق ، وأخرجها ) تخرج ( فالآية من باب الاحتباك ، والجناح : اليد ، والعضد ، والأبط ، والجانب - قاله في القاموس ، فلا يعارض هذا ما في القصص لأنه أطلق الجناح هناك على اليد وهي أحق به ، وهنا على الجنب الذي هو موضعها تسمية للمحل باسم الحال ) بيضاء ( بياضاً كالشمس تتعجب منه .(5/16)
صفحة رقم 17
ولما كان البرص أبغض شيء إلى العرب ، نافياٍ له ولغيره ، ولم يسمه باسمه أن أسماعهم له مجاجة ، ولأن نفي الأعم من الشيء أبلغ من نفيه بخصوصه : ( من غير سوء ) أي مرض لا برص ولا غيره ، حال كونها ) ءاية أخرى ( افعل ما أمرتك به من إلقاء العصا وضم اليد ، أو فعلنا ذلك من إحالة العصا واون اليد من مناداتك لناجاتك ) لنرينك ( في جميع أيام نبوتك ) من ءايتنا الكبرى ( ليثبت بذلك حنانك ، ويزداد إتقانك ، فكأنه قيل : لماذا يفعل بي هذا ؟ فقيل : لنرسلك إلى بعض المهمات ) اذهب إلى فرعون ) أي لترده عن عتوه : ثم علل الإرسال إلية بقوله مؤكداً لأن طغيان أحد بالنسبة إلى شيء مما للملك الأعلى مما يستبعد : ( إنه طغى ) أي تجاوز حده من العبودية فادعى الربوبية ، وأشار إلى ما حصل له من الضيق من ذلك بما عرف من أنه أمر عظيم ، وخطب جسيم ، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح قلب ضابط كما صرح به في سورة الشعراء - بقوله ) قال رب اشرح ) أي وسع ) لي ( ولما أبهم المشروح ليكون الكلام أوكد بتكرير المعنى في طريقي الإجمال والتفصيل ، قال رافعاً لذلك الإبهام : ( صدري ( للإقدام على ذلك ، وإلى استصعابه بقوله : ( ويسر لي ( ثم بين ذلك الإبهام بقوله : ( أمري ( وإلى اتعجازه نفسه عن الإبانة لهم عن المراد بقوله : ( واحلل ( ولما كان المعنى هنا ما لا يحتمل غيره إذ إنه لم يسأل بقاءه في غير حال الدعوة ، عدل عن طريق الكالم الماضي فقال : ( عقدة من لساني ) أي مما فيه من الحبسة عن الإتيان بجميع المقاصد من الجمرة التي وضعها في فيه وهو عند فرعون ، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولما كان سؤاله هذا إنما هو الله ، ولذلك اقتصر على قدر الحاجة فلم يطلب زوال الحبسة كلها ، أجابه بقوله : ( يفقهوا قولي ( وإلى اعتقاد صعوبة المقام مع ذلك كله بطلب التأييد بنصير يهمه أمره بقوله : ( واجعل لي ) أي مما تخصني به ؛ وبين اهتمامه بالإعانة كما يقتضيه الحال فقدم قوله : ( وزيراً ) أي ملجأ يحمل عني بعض الثقل ويعاونني ) من أهلي ( أني به أوثق لكونه عليّ أشفق ، ثم أبدل منه قوله : ( هرون ( وبينه بقوله : ( أخي ) أي لأنه أجدر أهلي بتمام مناصرتي ؛ وأجاب الدعاء في قراءة ابن عامر فقال : ( اشدد ( بقطع الهمزة مفتوحة ) به أزري ) أي قوتي وظهري ) وأشركه ( بضم الهمزة مسنداً الفعلين إلى ضميره على أنهما مضارعان ، وقراءة الباقين بوصل الأول وفتح الثاني على أنهما أمران مسندين إلى الله تعالى على الدعاء ) في أمري ) أي النبوة .
طه : ( 33 - 44 ) كي نسبحك كثيرا
) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يمُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ(5/17)
صفحة رقم 18
فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يمُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) 73
( ) 71
ولما فهم سؤاله هذا أن له فيه أغراضاً ، أشار إلى أنها ليست مقصودة له لأمر يعود على نفسه بذكر العلة الحقيقية ، فقال : ( كي نسبحك ) أي بالقول والفعل بالصلاة وغيرها ) كثيراً ( فأفصح عن المراد بالمعاضدة إنما هو لتمهيد الطريق إليه سبحانه .
ولما كان التسبيح ذكراً خاصاً لكونه بالتنزيه الذي أعلاه التوحيد ، أتبعه العم فقال : ( ونذكرك ) أي بالتسبيح والتحميد ) كثيراً ( فإن التعاون والتظاهر أعون على تزايد العبادة أنه مهيج للرغبات ؛ ثم علل طلبه لأخيه لأجل هذا الغرض بقوله : ( إنك كنت بنا بصيراً ( قبل الإقامة في هذا الأمر في أنك حبلتنا على ما يلائم ذكرك وشكرك ، وأن التعاضد مما يصلحنا ، وكل ذلك تدريب لمن أنزل عليه الذكر على مثله وتذكير بنعمة تيسيره بلسانه ليزداد ذكراً وشكراً .
ولما تم ذلك ، كان موضع توقع الجواب ، فأتبعه قوله : ( قال ) أي الله : ( قد أوتيت ( بأسهل أمر ) سؤلك ) أي ما سألته ) ياموسى ( من حل عقدة لسانك وغير ذلك ولو شئت لم أفعل ذلك ولكني فعلته منة مني عليك .
ولما كان إنجاؤه من فرعون يث ولد في السنة التي يذبح فيها الأبناء - قالوا : وهي الرابعة من ولادة هارون عليه السلام - بيد فرعون وفي بيته أمراً عظيماً ، التفت إلى مقام العظمة مذكراً له بذلك تنويراً لبصيرته وتقوية لقلبه ، إعلاماً بأنه ينجيه منه الآن ، كما أنجاه في ذلك الزمان ، ويزيده بزيادة السن والنبوة خيراً ، فيجعل عزه في هلاكه كما جعل إذ ذاك عزه في وجوده فقال : ( ولقد مننا ) أي أنعما إنعاماً مقطوعاً به على ما يليق بعظمتنا ) عليك ( فضلاً منا ) مرة أخرى ( غير هذه ؛ ثم ذكر وقت المنة فقال : ( إذ ) أي حين ) أوحينا ) أي بما لنا من العظمة ) إلى أمك ) أي بالالهام ) ما ( يستحق لعظمته أن ) يوحى ( به ، ولا يعلمه إلا نبي أو من هو قريب من درجة النبوة ؛ ثم فسره بقوله : ( ن اقذفيه ) أي ألقي ابنك ) في التابوت ( وهو صندوق ، فعلوت من التوب الذي معناه تفاؤلاً بهن وقال الحرالي : هو وعاء ما يعز قدره ، والقذف مجاز عن(5/18)
صفحة رقم 19
المسارعة إلى وضعه من غير تمهل لشيء أصلاً ، إشارة إلى أنه فعل مضمون السلامة كيف ما كان ، والتعريف لأنه نوع من الصناديق أشد الناس معرفة به بنو إسرائيل ) فاقذفيه ) أي موسى عليه السلام عقب ذلك بتابوته ، أو التابوت الذي فيه موسى عليه السلام ) في اليم ) أي البحر وهو النيل .
ولما كانت سلامته في البحر من العجائب ، لتعرضه للغرق بقلب الريح للتابوت ، أو بكسره في بعض الجدر أو غيرها ، أوبجرية مستقيماً مع أقوى جرية من الماء إلى البحر الملح وغير ذلك من الآفات ، أشار إلى تحتم تنجيته بلام الأمر عبارة عن معنى الخبر في قوله ، عاجلاً البحر كأنه ذو تمييز ليطيع الأمر : ( فليلقه ) أي التابوت الذي فيه موسى عليه السلام أو موسى بتابوته ) اليم بالساحل ) أي شاطىء النيل ، سمي ذلك لأن الماء يسحله ، أي ينشره إلى جانب البيت الذي الفعل كله هرباً من شر صاحبه ، وهو فرعون ، وهو المراد بقوله : ( يأخذه ( جواباً للأمر ، أي موسى ) عدو لي ( ونبه على محل العجب بإعادة لفظ العدو في قوله : ( وعدو له ( فإنه ما عادى بني إسرائيل بالتذبيح إلا من أجله ) وألقيت عليك محبة ) أي عظيمة ؛ ثم زاد الأمر في تعظيمها إيضاحاً بقوله : ( مني ) أي ليحبك كل من رآك لما جبلتك عليه من الخلال الحميدة ، والشيم السديدة ، لتكون أهلاً لما أريدك له ) ولتصنع ) أي تربى بأيسر أمر تربية بمن هو ملازم ك لا ينفك عن الاعتناء بمصالحك عناية شديدة ) على عيني ) أي مستعلياً على حافظيك غبير مستخفي في تربيتك من أحد ولا مخوف عليك منه ، وأنا حافظ لك حفظ من يلاحظ الشيء بعينه لا يغيب عنها ، فكان كل ما أردته ، فلما رآك هذا العدو أحبك وطلب لك المراضع ، فلما لم تقبل واحدة منهن بالغ في الطلب ، كل ذلك إمضاء لأمري وإيقافاً لأمره به نفسه لا بغيره ليزداد العجب من إحكام السبب ، ثم ثم ذكر ظرف الصنع فقال : ( إذ ) أي تحين ) تمشي أختك ) أي في الموضع الذي وضعوك به لينظروا لك مرضعة ) فتقول ( بعد إذ رأتك ، لال فرعون : ( هل أدلكم على من يكفله ) أي يقوم بمصالحه من الرضاع والخدمة ، ناصحاً له ، فقالوا : نعم فجاءت بأمك فقبلت ثديها ) فرجعناك ) أي فتسبب عن قولها هذا أن رجعناك ) إلى أمك ( حين دلتهم عليها ) كي تقر ) أي تبرد وتسكن ) عينها ( وتربيك آمنة عليك غير خائفة ، ظاهرة غير مستخفية ) ولا تحزن ( بفراقك أو بعدم تربيتها لك وبذلها اجهد في نفعك ) وقتلت نفساً ) أي بعد أن صرت رجلاً من القبط دفعاً عن رجل من قومك فطلبت بها وأرادوا قتلك ) فنجيناك ( بما لنا من العظمة ) من الغم ( الذي كان قد نالك بقتاه خوفاً من جريرته ، بأن أخرجناك مهاجراً لديارهم نحو مدين ) وفتناك فتوناً ) أي خلصناك من محنة بعد نحنة مرة بعد(5/19)
صفحة رقم 20
مرة ، على أنه جمع فتن أو فتنة ، على ترك الاعتداء بالتاء ، ويجوز أن يكون مصدراً كالشكور ، إذن الفتون ولادته عام الذبح وإبقاؤه في البحر ثم منعه الرضاع من غير ثدي أمه ثم جره لحية فرعون ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، ثم قتله القبطي ، ثم خروجه إلى مدين في الطريق الهيع خائفاً يترقب ، ثم إيجار نفسه عشر سنين ، ثم إضلاله الطريق ، ثم تفرق غنمه في ليلة مظلمة ) فلبثت سنين ) أي كثيرة ) في أهل مدين ( مقيماً عند نبينا شعيب عليه السلام يربيك بآدابه ، وصاهرته على ابنته ) ثم جئت ) أي الآن ) على قدر ) أي وقت قدّرته في الأزل لتكليمي لك ، وهو بلوغ الأشد والاستواء ، وإرسالك إلى فرعون لأمضي فيه قدري الذي ذبح أبناء بني اسرائيل خوفاً منه ، فجئت غير مستقدم ولا مستأخر ) ياموسى واصتنعتك ) أي ربيتك بصنائع المعروف تربية من يتكلف تكوين المربى على طريقة من الطرائق ) لنفسي ) أي لتفعل من مرضاتي في تمهيد شرائعي وإنفاذ أوامري ما يفعله من يصنع للنفس من غير مشارك ، فهو تمثيل لما حوله من منزلة التقريب والتكريم .
فلما تمهد 1 لك كله بعد علم نتيجته ، أعادها في قوله : ( اذهب أنت ( كما تقدم أمري لك به ) اخوك ( كما سألت ) بلآيتي ( التي أريتك وغيرها مما أظهره على يديك ) ولا تنيا ) أي تفترا وتضعفا ) في ذكري ( الذي تقدم أنك جعلته غاية دعائك ، بل لتكن - مع كونه ظرفاً محيطياً بجميع أمرك - في غاية الاجتهاد فبه وإحضار القلب له ، فإن ذلك أعون شيء على المراد ، ثم بين المذهوب إليه بقوله ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; مؤكداً لنفس الذهاب لأنه لشدة الخطر لا يكاد طبع البشر يتحقق جزم الأمر به فقال : ( اذهبا إلى فرعون ( ثم علل الإرسال إليه بقوله ، مؤكداً لما مضى ، ولزيادة التعجيب من قلة عقله ، فكيف بمن تبعه ) إنه طغى ( ثم أمرهما بما ينبغي لكل آمر بالمعروف من الأخذ بالأحسن فالأحسن والأسهل فالأسهلن فقال مسبباً عن الانتهاء إليه ومعقباً : ( فقولا له قولاً ليناً ( لئلا يبقى له حجة ، ولا يقبل له معذرة ) لعله يتذكر ( ما مر له من تطوير الله له في أطوار مختلفة ، وحمله فيما يكره على ما لم يقدر على الخلاص منه بحيلة ، فيعلم بذلك أن الله ربه ، وأنه قادر علر ما يريد منه ، فيرجع عن غيّه فيؤمن ) أو يخشى ) أي أو يصل غلى حال من يخاف عاقبة قولكما لتوهم الصدق فيكون قولكما تذكرة له فيرسل معكما بني إسرائيل ، ومعنى الترجي أن يكون حاله حال من يرجى منه ذلك ، لأنها من ثمرة اللين في الدعاء ، جرى الكلام في هذا وأمثاله على ما يتعارفه العباد في محاورتهم ، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون ، فالمراد : اذهبا أنتما على رجائكما(5/20)
صفحة رقم 21
وطمعكما ومبلغكما من العلم ، وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما ، وأما علمه تعالى فقد أتى من وراء ما يكون - قاله سيبويه في باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء .
طه : ( 45 - 54 ) قالا ربنا إننا. .. . .
) قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يمُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى ( ( )
ولما كان فرعون في غاية الجبروت ، وكان حلاه حال من يهلكهما إلا أن يمنعهما الله ، وأراد علم ما يكون من ذلك ) قالا ربنا ) أي ايها المحسن إلينا .
ولما كان مضمون إخبارهما بالخوف مع كونهما من جهة الله - من شأنه أن لا يكون وأن ينكر ، أكد فقالا مبالغين فيه بإظهار النونالثالثة إبلاغاً في إظهار الشكوى ليأتي الجبر على قدر ما يظهر من الكسر : ( إننا نخاف ( لما هو فيه من المكنة ) أن يفرط ) أي يجعل ) علينا ( بالعقوبة قبل إتمام البلاغ عجلة من يطفر ويثب إلى الشيء ) ون يطغى ( فيتجاوز إلى أعظم مما هو فيه من الاستكبار ) قال لا تخافا ( ثم علل ذلك بما هو مناط النصرة والحيطة للولي والإهلاك للعدو ، فقال مؤكداً إشارة إلى عظم الخبر ، وتنبيهاً لمضمونه لأنه خارج عن العوائد ، وأثبت النون الثالثة على وزان تأكيدهما : ( إنني معكما ( لا أغيب كما تغيب الملوك إذا أرسلو رسلهم ) سمع و أرى ) أي لي هاتان الصفتان ، لا يخفى عليّ شيء من حال رسولي ولا حال عدوه ، وأنتما تعلمان ما لا يعلمه غيركما .
ولما تمهد ذلك ، تسبب عنه تعليمهما ما يقولان ، فقا لمؤكداً للذهاب أيضاً لما مضى : ( فأتياه فقولا ) أي له ؛ ولما : ان فرعون ينكر ما تضمنه قولهما ، أكد سبحانه فقال : ( إنا ( ولما كان التنبيه على معنى المؤازرة هنا - كما تقدم مطلوباً ، ثنى فقال : ( رسولا ربك ( الذي رباك فأحسن تربيتك بعدج أن أوجدك من العدم ، إشارة إلى تحقيره بأنه من جملة عبيد مرسلها تكذيباً له في ادعائه الربوبية ، ثم سبب عن إرسالكما إليه قولكما : ( فأرسل معنا ( عبيده ) بني إسرائيل ( ليعبدوه ، فإنه لا يستحق العبادة غيره ) ولا تعذبهم ( بما تعذبهم به من الاستخدام والتذبيح ؛ ثم علل دعوى الرسالة بما(5/21)
صفحة رقم 22
يثبتها ، فقال مفتتحاً بالحرف التوقع لأن حال السامع لادعاء الرسالة أن يتوقع دلالة على الإرسال : ( قد حئناك بآية ) أي علامة عظيمة وحجة وبرهان ) من ربك ( الذي لا إحسان عليك إلا منه ، موجبة لقبول ما ادعيناه من العصا واليد وغيرهما ، فأسلم تسلم ، وفي تكرير مخاطبته بذلك تأكيد لتبكيته في ادعاء الربوبية ، ونسبته إلى كفرا الإحسان ، فسلام عليك خاصة إن قبلت هدى الله ) والسلام ) أي جنسه ) على ( جنيع ) من اتبع ( بغاية جهده ) الهدى ( عامة ، وإذا كان هذا الجنس عليهم كان من المعلوم أن العطب على غيرهم ، فالمعنى : وإن أبيت عذبت ) إنا ) أي لأنا ) قد أوحي إلينا ( من ربنا ) أن العذاب ) أي كله ، لأن اللام للاستغراق أو الماهية ، وعلى التقديرين يقتضي قدر ثبوت هذا الجنس ودوامه لما تفهمه الاسمية ) على ( كل ) من كذب وتولى ) أي أوقع التكذيب والإعراض ، وذلك يقتضي أنه إن كان منه شيئ على مصدق منقضياً ، وإذا انقضى كان كأن لم يوجد ، وفي صرف الكلام عنه تنبيه على أنه ضال مكذب وتعليم للأدب .
ولما كان التقدير : فأتياه فقولا : إنا رسولا ربك - غلى آخر ما أمر به ، وتضمن قولهما أن لمرسلمها القدرة التامة والعلم الشامل ، فتسبب عنه سؤاله عن تعينه / أستأنف الإخبار عن جوابه بقوله : ( قال ) أي فرعون مدافعاً لهما بالمناظرة لا بالبطش ، لئلا ينسب إلى السفه والجهل : ( فمن ) أي تسبب عن كلامكما هذا الذي لا يجترىء على مواجهتي به أحد من أهل الأرض أن أسألكما : من ) ربكما ( الذي أرسلكما ، ولم يقل : ربي ، حيدة عن سواء النظر وصرفاً للكالم على الوجه الموضح لخزيه .
ولما كان موسى عليه السلام هو الأصل في ذلك ، وكان طمع فرعون بمكره وسوء طريقه في حبسه تحصل في لسانه ، أفرده بقوله : ( يا موسى قال ( له موسى على الفور : ( ربنا ) أي موجدنا ومربينا ومولانا ) الذي أعطى كل شيء ( مما تراه في الوجود ) خلقه ) أي ما هو عليه مما هو به أليق في المنافع المنوطة به ، والآثار التي تتأثر عنه من الصورة و الشكل والمقدار واللون والطبع وغير ذلك مما يفوت الحصر ، ويجل عن الوصف .
ولما كان في إفاضة الروح من الجلالة والعظم ما يضمحل عنده غيره من المفاوتة ، أشار إلى ذلك بحرف التراخي فقال : ( ثم هدى ) أي كل حيوان منه مع أن فيها العاقل وغيه إلى جميع منافعه فيسعى لها ، ومضاره فيحذرها ، فثبت بهذه المفاوتة والمفاضلة مع اتحاد نسبة الكل إلى الفاعل أنه واحد مختار ، وأن ذلك لو كان بالطبيعة المستندة إلى إلى النجوم أو غيرها كما كان يعتقده فرعون وغيره لم يكن هذا التفاوت .(5/22)
صفحة رقم 23
ولما لم يكن لأحد بالطعن في هذا الجواب قبل لأنه لا زلل فيه ولا خلل مع رشاقته واختصاره وسبقه بالجمع مضماره - صرف الكلام بسرعة خوف من الاتضاح ، بزيادة موسى عليه السلام في الإيضاح ، فيظهر الفساد من الصلاح ، إلى شيء يتسع فيه المجال ، ولا يقوم عليه دليل ، فيمكن فيه الرد ، فأخبر عنه سبحانه على طريق الاستئناف بقوله : ( قال فما ) أي تسبب عما تضمن هذا من نسبة ربك غلى العلم بكل موجود أني أقول لك : فما ) بال ) أي خبر ) القرون الأولى ( الذي هو في العظمة بحيث إنه ما خالط أحداً إلى أحاله وأماله ، وهو وأن كان حيدة ، هو من أمارات الانقطاع ، غير أنه فعل راسخ القدم في المكر والخداع .
ولما فهم عنه موسى عليه السلام ما أراد أن ترتب على الخوض في ذلك مما لا طائل تحته من الرد والمطاولة ، ولم تكن التوراة نزلت عليه إذ ذاك ، وإنما نزلت بعد هلاك فرعون لم يمش معه في ذلك ) قال ( قاطعاً له عنه : ( علمها عمد ربي ) أي المحسن إليّ بإرسالي وتلقيني الحجاج .
ولما كانت عادة المخلوقين إثبات الأخبار في الكتب ، وكان تعالى قد وكل بعباده من ملائكته من يضبط ذلك ، قال مخاطباً له بما يعرفون من أحوالهم : ( في كتاب ) أي اللوح المحفوظ .
ولما كان ربما وقع في وهم واهم أن الكتاب لا يكون إلاخوفاً من نسيان الشيء أو الجهل بالتوصل إليه مع ذكر عينه ، نفى ذلك بقوله : ( لا يضل ربي ) أي الذي رباني كما علمت ونجاتي من جميع ما قصدتموه لي من الهلاك ولم يضل عن وجه من وجوهه ، ولا نسي وجهاً يدخل منه شيء من خلل ) ولا ينسى ) أي لا يقع منه نسيان لشيء أصلاً من أخباره ولا لغيرهم ، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت اليهود بأن ثبوت النبوة إن كان يتوقف على أن يخبر النبي عن كل ما يسال عنه لزم أن يتوقفوا في نبوة نبيهم عليه السلام لأنه لم يخبر فرعون عما سأله عنه من أمر القرون ؛ ثم وصل بذلك ما كان فيه قبل من الدليل العقلي على وحدة الصانع واختياره فقال : ( الذي جعل لكم ( أيها الخلائق ) الأرض ) أي أكثرها ) مهداً ( تفترشونها ، وجعل بعضها جبالاً لا يمكن القرار عليها ، وبعضها رخواً تسرح فيه الأقدام وبعضها جلداً - إلى غير ذلك مما تشاهدون فيها من الاختلاف ) وسلك لكم فيها سبلاً ) أي سهّل طرقاً تسلكونها في أراضي سهلة وحزنة وسطها بين الجبال والأودية والرمال ، وهيأ لكم فيها من المنافع من المياه والمراعي ما يسهل ذلك ، وجعل فيها ما لا يمكن استطراقه أصلاً ، من أن نسبة الكل إلى الطبيعة واحدة ، فلولا أن الفاعل واحد مختار لم يكن هذا التفاوت وعلى هذا النظام البديع ) وأنزل من السماء ماء ( تشاهدونه في اللون والطعم .(5/23)
صفحة رقم 24
ولما كان ما ينشأ عنه أدل على العظمة وأجلى للناظر وأظهر للعقول .
استغرق ( صلى الله عليه وسلم ) في بحار الجلال ، فاستحضر أن الآمر له بهذا الكالم هم المتكلم به في الحقيقة فانياً عن نفسه وعن جميع الأكوان ، فعبر عن ذلك ، عادلاً عن الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع بما له من العظمة بقوله : ( فأخرجنا ) أي بما لنا من العظمة التي تنقاد لها الأشياء المختلفة ) به أزواجاً ) أي أصنافاً متشاكلة ليس فيها شيء يكون واحداً لا شيبه له ) من نبات شتى ) أي مختلفة جداً في الألوان والمقادير والمنافع والطبائع والطعوم ؛ ثم أشار إلى تفصيل ما فيها من الحكمة بقوله حالاً من فاعل ) أخرجنا ( : ( كلوا ) أي ما دبره لكم بحكته منها ) وارعوا ) أي سرحوا في المراعي ) أنعامكم ( ما أحكمه لها ولا يصلح لكم ، فكان من متقن تدبيره أن جعل أرزاق العباد بعملها تنعيماً لهم ، وجعل علفها مما يفضل عن حاجتهم ، ولا يقدرون على أكله ، وقد دلت هذه الأوصاف على تحققه سبحانه قطعاً بأنه لا يضل ولا ينسى من حيث إنه تعالى أبدع هذا العالم شاملاً لكل ما يحتاجه من فيه لما خلقهم له من السفر إليه والعرض عليه في جميع تقلباتهم على اختلافها ، وتباين أصنافها ، وتباعد أوصافها ، وعلى كثرتهم ، وتنائي أمزجتهم ، ولم يدعه ناقصاً من شيء من ذلك بخلاف غيره ، فإنه لو عمل شيئاً واجتهد كل الاجتهاد في تكميله فلا لد أن يظهر له فيه نقث ويصير يسعى في إزالته وقتاً بعد وقت .
ولما كمل هذا البرهان القويم ، دالاً على العليم الحكيم ، قال منبهاً على انتشار أنواره ، وجلالة مقداره ، مؤكداً لأجل إنكار المنكرين : ( أن في ذلك ) أي الإنشاء هذه الوجوه المختلفة ) لآيات ( على منشئه ) لأولي النهى ( العقول التي من شأنها أن تنهى صاحبها عن الغيّ ، ومن عمي عن ذلك فلا عقل له أصلاً لأن عقله لم ينفعه ، وما لا ينفع في حكم العدم ، وذكر ابن كثير هنا ما عزاه ابن اسحاق في السيرة لزيد بن عمرو بن نفيل ، وابن هشام لأمية بن أبي الصلت :
وأنت الذي من فضل منّ ورحمة بعثت إلى موسى رسولاً منادياً فقلت الا يا اذهب وهارون فادعوا ألى الله فرعون الذي كان باغياً فقولا له آأنت سويت هذه بلا وتد حتى استقلت كما هيا وقولا له آأنت رفعت هذه بلا عمد أرفق إذن بك بانيا وقولا له آأنت سويت وسطها منيراً إذا ما حنه الليل هادياً وقولاله من يخرج الشمس بكرة فيصبح ما مست من الزرع ضاحياً وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيخرج منه البقل يهتز رابياً ويخرج منه حبه في رؤوسه وفي ذاك ىيات لمن كان واعياً(5/24)
صفحة رقم 25
طه : ( 55 - 60 ) منها خلقناكم وفيها. .. . .
) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يمُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ( ( )
ولما أخبر سبحاه وتعالى عما خلق في الأرض من المنافع الدالة على تمام علمه وباهر قدرته ، على وجه دالّ على خصوص القدرة على البعث ، وكان من الفلاسفة تناسخيتهم وغيرهم من يقر الله بالوحدانية ولا يقر بقول أهل الإسالام : إن الروح جسم لطيف سار في الجسم سريان النار في الفحم ، بل يقول : إنها ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة لجسم وليست متصلة به اتصال انطباع ولا حلول فيه ، بل اتصال تدبير وتصرف ، وأنها إذا فارقت البدن اتصلت بالوحانيين من العالم العقلي الذي هو عالم المجردات وانخرطت في سلك الملائكة المقربين ، أو اتصلت ببعض الأجرام السماوية من كوكب أو غيره كاتصلها بالبدن الأول وانقطع تعلقها به فلم تعد إليه حتى ولا يوم البعث عند من يقول منهم بالحشر ، وصل بذلك قوله تعالى ، يرد عليهم ، معبراً بالضمير الذي يعبر به الهيكل المجتمع من البدن والنفس : ( منها ) أي الأرض لا من غيرها ) خلقناكم ( إذ أخراجناكم منها بالعظمة الباهرة في النشأة الأولى بخلق أبيكم آدم عليه السلام ) وفيها ( لا في غيرها منا أنت كذلك تشاهدون ) نعيدكم ( بالموت كذلك أجساماً وأرواحاً ، فتصيرون ترابا كما كنتم ، وللروح مع ذلك وأن كانت في عليين تعلق ببدنها بوجه ما ، يدرك البدن به اللذة بالتذاذها والألم بتألهما ، وقد صح أن الميت يقعد في قبره ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام ، لا يقدر أحد منكم أن يخلص من تلك العظمة المحيطة بجليل عظمته ولا بدقيق حكمته ) ومنها ( لا من غيرها ) نخرجكم ( يوم البعث بتلك العظمة بعينها ) تارة أخرى ( كما بدأناكم أول مرة مثل ما فعنا في النبات سواء ، فقد علم أن هذا فعل الواحد المختار ، لا فعل الطبائع ، فمرة جعلكم أحياء من شيء ليس له أصل في الحيوانية أصلاً ، وكرة ردكم إلى ما كنتم عليه قبل الحياة تراباً لا روح فيه ولا ما يشبهها ، فلا ريب أن فاعل ذلك قادر على أن يخرجكم منها أحياء كما ابتدأ ذلك ، بل الإعادة أهون في مجاري العادة .
ولما كان ما ذكر مما علق بالأرض من المرافق وغيره على غاية من الوضوح ، ليس وراءها مطمح ، فكان المعنى : أرينا فرعون هذا الذي ذكرنا لكم من آياتنا وغيره ، وكان المقام لتعظيم القدرة ، عطف عليه قوله : ( ولقد أريناه ) أي بالعصا واليد وغيرهما مما تقدم من مقتضى عظمتنا ) ءاياتنا ) أي التي عظمتها من عظمتنا ) كلها ( بالعين(5/25)
صفحة رقم 26
والقلب لأن من قدر على مثل ذلك فهو قادر على غيره من أمثاله من خوارق العادات ، لأن الممكنات بالنسبة إلى قدرته على حد سواء ، لا سيما والذي ذكر أمهات الآيات كما سيومأ إليه إن شاء الله تعالى في سورة الانبياء ) فكذب ) أي بها ) وأبى ) أي أن يرسل بني إسرائيل ؛ وهذا ابلغ من تعديد ما ذكر في الأعراف ، فكأنه قيل : كيف صنع في تكذيبه وإبائه ؟ فقيل : ( قال ( حين لم يجد مطعناً مخيلاً للقبط بما يثيرهم حمية لأنفسهم أنه علم حقية ما جاء به موسى وظهوره ، وتقبل العقول له ، فخاف أن يتبعه الناس ويتركوه ، ووهن في نفسه وهناً عظيماً بتأمل كلماته مفردة ومركبةة يعرف مقداره : ( أجئتنا لتخرجنا من أرضننا ( هذه التي نحن مالكوها ) بسحرك يا موسى ( فخيل إلى أتباعه أن ذلك سحر ، فكاتن ذلك - مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال - صارفاً لهم عن اتباع ما رأوا من البيان ، ثم وصل بالفاء السببية قوله مؤكداً إيذاناً بعلمه أن ما أتى به موسى ينكر كل من يراه أن يقدر غيره على معارضته : ( فلنأتينك ) أي وإلإله الأعظم بوعد لا خلف فيه ) بسحر مثله ( تأكيدأ لما خيل به ؛ ثم أظهر النصفة والعدل إيثاقاً لربط قومه فقال : ( فاجعل بيننا وبينك موعداً ) أي من الزما والمكان ) لا نخلفه ) أي لا نحعله خلفنا ) نحن ولا أنت ( بأن تقعد عن إتيانه .
ولما كان من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال : ( مكاناً ( وآثر ذكر المكان لأجل وصفه بقوله : ( سوى ) أي عدلاً بيننا ، لا حرج على واحد منا في قصده ازيد من حرج الآخر ، فانظر هذا الكلام الذي زوفه وصنعه ونمقه فأوقف به قومه عن السعادة واستمر يقودهم بأمثاله حتى أوردهم البحر فأغرقهم ، ثم في غمرات النار أحرقهم ، فعلى الكيس الفطن أن ينقد الأقوال والأفعال ، والخواطر والأحول ، ويعرضها على محك الشرع : الكتاب والسنة ، فما وافق لزمه وما لا تركه .
ولما كان مجنمع سرورهو الذي اعتادوه حاوياً لهذه الأغراض زماناً ومكاناً وغيرهما ، اختاره عليه السلام لذلك ، فاستؤنف الخبر عنه في قوله تعالى : ( قال موعدكم ) أي الموصوف ) يوم الزينة ) أي عيدكم الذي اعدتم الجتماع فيه في المكان الذي اعتدتموه ، فآثر هنا ذكر الزمان وإن كان يتضمن المكان لما فيه من عادة الجمع كما آثر فيما تقدم المكان لوصفه بالعدل ) وأن يحشر ( بناه للمفعول لأن القصد الجمع ، لا كونه من معين ) الناس ) أي إغراء ولو بكره ) ضحى ( ليستقبل النهار من أوله ، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى ، ولا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر ، وعرف المحق من المبطل ، وأنتم أجمع ما تكونون وأفرغ ، فيكل حد المبطلين وأشياعهم ، والمتكبرين على الحق وأتباعهم ، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في(5/26)
صفحة رقم 27
جميع أهل الوبر والمدر ) فتولى فرعون ( عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله ) فجمع كيده ) أي مكره وحيلته وخداعه ، الذي دبره على موسى بجمع من يحصل بهم الكيد ، وهم السحرة ، حشرهم من كل أوب ، وكان أهل مصرأسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً ، وكانوا في ذلك الزمان اشد اعتناء بالسحر وأمهر ما كانوا وأكثر ) ثم أتى ( للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة ةالجنود ومن تبعهم من الناس ، مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد ، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها .
طه : ( 61 - 67 ) قال لهم موسى. .. . .
) قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى قَالُواْ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ( ( )
ولما تشوف السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك ، استأنف سبحانه الخبر عنه بقوله : ( قال لهم ) أي لأهل الكيد وهم السحرة وغيرهم ) موسى ( حين راى اجتماعهم ناصحاً لهم : ( ويلكم ( يا أيها الناس الذين خلقهم الله لعبادته ) لا تفتروا ) أي لا تتعمدوا أن تصنعوا استعلاء ) على الله كذباً ( بحعلكم آياته العظام الثابتة سحراً لا حقيقة له ، وادعائكم أن ما تخيلون به حق وليس بخيال ، وإشراككم به ؛ وسبب عنه قوله : ( فيسحتكم ) أي يهلككم ؛ قال الرازي .
وأصله الاستئصال ) بعذاب ) أي عظيم تظهر به خيبتكم ) وقد خاب ( كل ) من افترى ( اي تعمد كذباً على الله أو على غيره ) فتنازعوا ) أي تجاذب السحرة ) أمرهم بينهم ( لما سمعوا هذا الكلام ، علماً منهم بأنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جميع جنوده وأتباعه لم يسلم منه غلا من اللله معه ) وأسروا النجوى ) أي كلامهم الذي تناجوا به وبالغوا في إخفائه ، فإن النجوى الإسرار ، لئلا يظهر فرعون وأتباعه على عوراهم في اختلافهم الذي اقتضاه لفظ التنازع ، فكأنه قيل : ما قالوا حين انتهى تنازعهم ؟ فقيل : ( قالوا ) أي السحرة بعد النظر وإجالة الرأي ما خيلهم به فرعون تلقناً منه وتقرباً إليه بما ينفر الناس عن موسى وهارون عليهما السلام ويثبطهم عن اتباعمها وإن غلبا ، أنه لا ينكر غلبة ساحر على ساحر آخر : ( إن هاذان ) أي موسى وهارون وقرىء : هاذان - بالألف ، على لغة من يجعل ألف المثنى(5/27)
صفحة رقم 28
لازمةفي كل حال ؛ قال أبو حيان : وهي لغة لطوائف من العرب لبني الحارث بن كعب وبعض كنانة خثعم وزبيد وبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذره .
) لساحران ( لاشك في ذلك منهما ) يريدان ) أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها ) أن يخرجاكم ( أيها الناس ) من أرضكم ( هذه التي ألفتموها ، وهي وطنكم خلفاً عن سلف ) بسحرهما ( الذي أظهراه لكم وغيره .
ولما كان كل حزب بما لديهم فرحون قالوا : ( ويذهبا بطريقتكم ( هذه السحرية التي تعبتم في تمهيدها ، وأفنى فيها أسلافكم أعمارهم ، حتى بلغ أمرها الغايةن وبدينكم الذي به قوامكم ) المثلى ) أي التي هي أمثل الطرق ، فيكونا آثر بما يظهرانه منها عند الناس منكم ، ويصرفان وجوه الناس إليها عنكمن ويبطل ما لكم بذلك من الارزاق والعظمة عند الخاص والعام وغير ذلك من الأغراض ) فاجمعوا كيدكم ) أي لا تدعوا منه شيئاً إلا جئتم به ولا تختلفوا تضعفوا ) ثم ائتوا ( غلى لقاء موسى وهاروون لمباراتهما ) صفاً ) أي متسابقين متساوين في السباق ليستعلي أمركم عليهما فتفلحوا ، والصطفاف أهيب في صدور الرائين .
ولما كان التقدير : فمن أتى كذلك فقد استعلى ، عطف عليه قولهم محققاً : ( وقد أفلح اليوم ( في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط ) من استعلى ( اي غلب ووجد علوه ، أي ففعلوا ما تقدم وأتوا صفاً ، فلما أوا وكانوا خبيرين بأن يقولوا ما ينفعهم في مناصبة موسى عليه السلام ، استؤنف الإخبار عنه بقوله تعلاى : ( قالوا ) أي السحرة منادين ، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر : ( ياموسى إما أن تلقي ( ما معك مما تناظرنا به أولاً ) وإما أن نكون ) أي نحن ) أول من ألقى ( ما معه ) قال ) أي موسى مقابلاً لأدبهم بأحسنن منه ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء ، وليكون هو الآخر فيكون العاقبة بتسليط معجرته على سحرهم فلا يكون بعدها شك : لا ألقي أنا أولاً ) بل ألقوا ( أنتم أولاً ، فانتهزوا الفرصة ، لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تعبير السياق والتصريح بالأول ، فألقوا ) فإذا حبالهم وعصيهم ( التي ألقوها ) يخيل إليه ( وهو صفينا تخييلاً مبتدئاً ) من سحرهم ( الذي كانوا قد فاقوا به أهل الأرض ) أنها ( لشدة اضطربها ) تسعى ( سعياً ، وإذا كان هذا حاله مع أنه أثبت الناس بصراً وأنفذهم بصيرة فما ظنك بغيرة ) فأوجس ) أي اضمر بسبب ذلك ، وحقيقته : أوقع واجساً اي خاطراً وضميراً .
ولما كان المقام لإظهار الخوارق على يديه ، فكان ربما فهم أنه أوقعه في نفس أحد غيره ، كان المقام للاهتمام بتقديم المتعلق ، فقال لذلك لا لمراعاة الفواصل : ( في(5/28)
صفحة رقم 29
نفسه ) أي خاصة وقدم ما المقام له والاهتمام به فقال : ( خيفة موسى ( مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك على ما هو طبع البشر ، وللنظر إلى الطبع عبر بالنفس لا القلب مثلاً .
طه : ( 68 - 71 ) قلنا لا تخف. .. . .
) قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ( ( )
ولما كان ذلك ، وكان المعلوم أم الله معه ، وأنه جدير بإبطال سحرهم ، استأنف الخبر عنه بقوله : ( قلنا ( بما لنا من العظمة : ( لا تخف ( من شيء من أمرهم ولا غيره ، ثم علل ذلك بقوله ، وأكده أنواعاً من التأطيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه : ( إنك أنت ) أي خاصة ) الأعلى ) أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها ) وألق ( وأشار إلى يمن العصا وبركتها بقوله : ( ما في يمينك ) أي من هذه العصا التي قلنا لك أول ما شرفناك بالمناجاة ) وما تلك بيمينك يا موسى ( ثم أريناك منها ما أريناك ) تلقف ( بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك - بما أشار غليه حذف التاء ) ما صنعوا ) أي فعلوه بعد تدرب كبير عليه وممارسة طويلة ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إنما ) أي أن الذي ) صنعوا ) أي أن صنعهم مما رأيته وهالنا أمُره .
ولما كان المقصود تحقير هذا الجيش أفدر ونكر لتنكير المضاف وتحقيره فقال : ( كيد ساحر ( اي كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات ، سواء كان واحداً أو جمعاً ، ولو جمع لخيل أن المقصود العدد ، ولما كان التقدير : فهم لا يفلحون ، عطف عليه قوله : ( ولا يفلح السحر ) أي هذا الجنس ) حيث أتى ) أي كيف ما سار وأيّه ) سلك ( فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له ، فامتثل ما أمره به ربه من " لقاء عصاه ، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً ، فعلم كل من رأى ذلك حقيته وبطلان ما فعل السحرة ، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق الصلاة والسلام وحذف ذكر الإلقاء وما سببه من التلقف لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية : ( فألقى السحرة ) أي فألقاهم ما رأوا من أمر الله بغاية السرعة وبأيسر أمر ) سجداً ( على وجوههم ؛ قال الأصبهاني : سبحان الله ما أعظم شأنهم(5/29)
صفحة رقم 30
القوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة ساعة الشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين .
فكأن قائلاً قال : هذا فعلهم فما قالوا ؟ فقيل : ( قالوا آمنا ) أي صدقنا .
ولما كان سياق هذه السورة مقتضياً لتقديم هارون عليه السلام قال : ( برب هارون وموسى ( بشارة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه سبحانه لا يشقيه بهذا القرآن بل يهدي الناس به ويذلهم له ، فيحعل العرب على شماختها أذل شيء لوزرائه وأنصاره وخلفائه وإن كانوا أضعف الناس ادعائهم بتقديم الوزيرالمترجم ترقياً في درج المعرفة ممن أوصل ذلك إليهم إلى من أمره بذلك ثم إلى من أرسله شكراً للمنعمين بالتدريج ( لا يشكر الله من لم يشكر الناس ) وهذا لما أوجب تقديمه هنا لا لهذا فقط ، وذكروا اسم الرب إشارة إلى أنه سبحانه أحسن إليهما بإعلاء شأنهما على السحرة ، وعلى من كانوا يقرون بالربوبية ، وهو فرعون الذي لم يغن عنهم شيئاً ، فكانوا أول النهار سحرة ، وآخر شهداء بررة ، وهذه الآية في امثالها من أي هذه السور وغيرها مما قدم فيه ما يتبادر أن حقه التأخير وبالعكس لأنحاء من المعاني دقيقة ، هي التي حملت بعض من لم يرسخ إلى أن يقول : إن القرآن يراعي الفواصل كما يتكلف بلغاء العرب السجع ، وتبعه جمع من المتأخرين تقليداً ، وقد عاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك حين قال : ( سجع كسجع الجاهلية أو قال : الكهان ) وقد علم مما ذكرته أن المعنى الذي بنيت عليه السورة ما كان ينتظم إلا بتقديم هارون ، ويؤيد ذلك أنه قال هنا ) إنا رسولا ( وفي الشعراء ) رسول ( ، وقد قال الإمام فخر الدين الرازي كما حكاه عنه الشيخ أبو حيانت في سورة فاطر من النهر : لا يقال في شيء من القرآن : أنه قدم أو أخر لأجل السجع ، لأن معجزة القرآن ليست في مجر اللفظ ، بل فيه وفي المعنى ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن : ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن وذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه ، ثم رد على المخالف بأن قال : والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم ، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً لأن السجع يتبع المعنى فيه الافظ الذي يؤدي السجع .
وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن ، لأن اللفظ يقع فيه تابعأ للمعنىن وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ .
ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان(5/30)
صفحة رقم 31
إفادة السجع كإفادة غيره .
ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى ، ثم استدل على ذلك بأشياء نفيسة أطال فيها وأجاد - رحمه الله ، وقد تقدم في آخر سورة التوبة ما ينفع جداً في هذا المرام .
ولما كان موسى عليه السلام هو المقصود بالإرسال إلى فرعون ، استأنف تعالى الإخبار عن فرعون عندما فجءه ذلك فقال : ( قال ) أي فرعون للسحرة منكراً عليهم ، وأضمر اسمه هنا ولم يظهره كما في الأعراف لأن مقصود السورة ارفق بالمدعوين والحلم عنهم ، وهو غير متأهل لذكر اسمه في هذا المقام : ( ءامنتم ) أي بالله ) له ) أي مصدقين أو متبعين لموسى ) قبل أن ءاذن لكم ( في ذلك ، إبهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن ؛ ثم استأنف قوله معللاً مخيلاً لأتباعه صداً لهم عن الاقتداء بهم : ( إنه لكبيركم ) أي في العلم ) الذي علمكم السحر ( فلم تتبعوه لظهور الحق ، بل لإرادتكم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن ، وهذا على عادته في تخييل أتباعه فيما يوقفهم عن اتباع الحق .
ولما خيلهم ، شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة فقال : ( فلأقطعن ) أي سبب ما فعلتم ) أيديكم ( على سبيل التوزيع ) وأرجلكم ) أي من كلَّ يداً ورجلاً ) من خلاف ( فإذا قطعت اليد اليمنى قطعت الرجل اليسرى ) ولأصلبنكم ( وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم من المصلوب فيه تمكين المظروف في ظرفه فقال : ( في جذوع النخل ( تبشيعاً لقتلكم ردعاً لأمثالكم ) ولتعلمن أينا ( أنا أورب موسى الذي قال : إنه أوحى إليه أن العذاب على من كذب وتولى ) أشد عذاباً وأبقى ) أي من جهة العذاب ، أي أينا عذابه اشد وأطول زماناً .
طه : ( 72 - 76 ) قالوا لن نؤثرك. .. . .
) قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى ( ( )
ولما علمو ما خيل به على عقول الضعفاء ، نبهوهم فأخبر تعالى عن ذلك بوله مستأنفاً : ( قالوا لن نؤثرك ) أي نقدم أثرك بالاتباع لك لنسلم من عذابك الزائل ) على ما جاءنا ( به موسى عليه السلام ) من البينات ( التي عايناها وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضاهاتها .
ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل الخارق ، ترقوا إلى ذكره بعد(5/31)
صفحة رقم 32
معرفته بفعله ، إشارة إلى عليّ قدره فقالوا : ( والذي ) أي ولا نؤثرك بالاتباع على الذي ) فطرنا ) أي ابتدأ خلقنا ، إشارة إلى شمول ربوبيته سبحانه وتعالى لهم وله ولجميع الناس ، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استحقه ، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم .
ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به ، علماً بأن ما فعله فهو بإذن الله ، قالوا : ( فاقض ما ) أي فاصنع في حكمك الذي ) أنت قاض ( ثم عللوا ذلك بقولهم : ( إنما تقضي ) أي تصنع بنا ما تريد أن قدرك الله عليه ) هذه الحياة الدنيا ) أي إنما حكمك في مدتها على الجسد خاصة ، فهي ساعة تعقب راحة ، ةنحن لانخاف إلاممن يحكم على الروح وإن فني الجسدن فذاك هو الشديد العذاب ، الداءم الجزاء بالثواب أو العقاب ، ولعلمه أسقطوا الجار تنزلاً إلى أن حكمه لو فرض أنه يمتد إلى آخر الدنيا لكان أهلاً لأن لا يخشى لأنه زائل وعذاب الله باق .
ثم عللوا تعظيمهم لله واستهانتهم بفرعون بقولهم : ( إنا ءامنا بربنا ) أي المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره ) ليغفر لنا ( من غير نفع يلحقه بالفعل أو ضرر يدركه بالترك ) خطايانا ( التي قابلنا بها إحسانه : ثم خضوا بعد العموم فقالوا : ( وما أكرهنتنا عليه ( وبينوا ذلك بقولهم : ( من السحر ( لتعارض به المعجزة ، فإن كان الأكمل لنا عصيانك فيه لأن الله أحق بأن يتقى .
روي أم الذي كان من القبط من السحرة اثنان فقط ، والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر ، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره ، فهذا لا يقدر على معارضته ، فأبى عليهم وأكرههم على المعارضة .
ولما كان التقدير : فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة ، عطفوا عليه مستحضرين لكماله : ( واله أي الجامع لصفات الكمال ) خير ( جزاء منك فيما وعدتنا به ) وأبقى ( ثواباً وعقاباً ، والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون ، ويؤيده قوله تعالى
77 ( ) أنتما ومن اتبعكما الغالبون ( ) 7
[ القصص : 35 ] - قاله أبو حيان .
وسيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم ؛ ثم عللو هذا الختم بقولهم : ( إنه من يأت ربه ) أي الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه ) مجرماً ) أي قاطعاً ما أمره به أن يوصل ) فإن له جهنم ( دار الإهانة ) لا يموت فيها ( أبداً مع شدة عذابها .
بخلاف عذابك الذي إن اشتد أمات فزال سريعاً ، وإن خف لم يُخِفْ وكان آخره الموت وأن طال ) ولا يحيى ( فيها حياة ينتفع بها ) ومن يأته ( اي ربه الذي أوجده ورباه ) مؤمناً ) أي مصدقاً به .(5/32)
صفحة رقم 33
ولما قدم أن مجرد الكفر يوجب العذاب .
كان هذا محلاَّ يتوقع فيه الإخبار عن الإيمان بمثل ذلك فقال : ( قد ( اي ضم إلى ذلك تصديقاً لإيمانه أنه ) عمل ) أي في الدنيا ) الصالحات ( التي أمر بها فكأن صادق الإيمان مستلزم لصالح الأعمال ) فأولئك ) أي العالو الرتبة ) لهم ) أي لتداعي ذواتهم بمقتضى الجبلة ) الدرجات العلى ( التي لا نسبة لدرجاتك التي وعدتنا بها منها ؛ ثم بينوها بقولهم : ( جنات عدن ) أي أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها ) تجري من تحتها الأنهار ) أي من تحت غرفها وأسرتها وأرضها ؛ فلا يراد موضع منها لأن يجري فيه نهر إلا جرى ؛ ثم بين بقوله : ( خلدين فيها ( أن أهلها هيئوا أيضاً للإقامة .
ولما أرشد السياق والعطف على غير معطوفٍ عليه ظاهر إلى أن التقدير : ذلك الجزاء العظيم والنعيم المقيم جزاء الموصوفين ، لتزكيتهم أنفسهم ، عطف عليه قوله : ( وذلك جزاؤا ( كل ) من تزكى ) أي طهر نفسه بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة ، وفي هذا تسلية للصحابة رضوان الله عليهم فيما كان يفعل بهم عند نزول هذه السورة إذ كانوا مستضعفين .
طه : ( 77 - 81 ) ولقد أوحينا إلى. .. . .
) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى يبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ( ( )
ولما بين سبحانه استكبار فرعون المدعى في قوله ) فكذب وأبى ( وختمه سبحانه بأنه يهلك العاصي كائناً من كان ، وينجي الطائع ، أتبع ذلك شاهداً محسوساً عليه كفيلاً ببيان أنه لم يغن عن فرعون شيء من قته ولا استكباره ، فقال عاطفاً على ( ولقد أريناه آيتنا ) : ( ولقد أوحينا ) أي بعظمتنا لتسهيل ما يأتي من الأمور الكبار ) إلى موسى ( غير مكترثين لشيء من أقوال فرعون ولا أفعاله ، وهذا الإيحاء بعد ما تقدم من أمر السحرة بمدة مديدة جرت فيها خطوب طوال كانت بسببها الأيات الكبار ، وكأنها جذفت لما تدل عليه من قساوة القلوب ، والمراد هنا الانتهاء لما تقدم من مقصود السورة ) أن أسر ) أي ليلاً ، لأن السري سير الليل ؛ وشرفهم بالإضافة إليه فقال : ( بعبادي ) أي بني إسرائيل الذين لفت قلب فرعون حتى أذن في مسيرهم بعد أن كانا قد أبى أن يطلقهم أو يكف عنهم العذاب ، فاقصد بهم ناحية بحر القلزم ) فاضرب لهم ) أي اعمل بضرب البحر بعصاك ، ولذلك سماه ضرباً .(5/33)
صفحة رقم 34
ولما كان ضرب البحر بالعصا سبباً لوجود الطريق الموصوفة ، أوقع الفعل عليها فقال : ( طريقاً في البحر ( ووصفها بالمصدر مبالغة فقال : ( يبساً ( حال كونها أو كونك ) لا تخف ( والمراد بها الجنس ، فإنه كان لكل سبط طريقاً ) دركاً ) أي أن يدركك شيء من طغيان البحر أو بأس العدو أو غير ذلك .
ولما كان الدرك مشتركاً بين اللحاق والتبعة ، أتبعه بقوله : ( ولا تخشى ) أي شيئاً غير ذلك أصلاً إنفاذاً لأمري وإنقاذاً لمن أرسلتك لاستنقادهم ، وسوقه على هذا الوجه من إظهار القدرة والاستهانة بالمعاند مع كبريائه ومكنته استلالاً شهودياً على ما قرر أول السورة من شمول القدرة وإحاطة العلم للبشارة بإظهار هذا الدين بكثرة الأتباع وإبارة الخصوم والإسعاد برد الأضداد وجعل بغضهم وداًن وإن كانوا قوماً لداً ؛ ثم أتبع ذلك قوله عطفاً على ما تقديره : فبادر امتثال الأمر في الإسراء وغيره : ( فأتبعهم ) أي أوجد التبع والمسير وراء بني إسرائيل على ذلهم وضعفهم ) فرعون بجنوده ( على كثرتهم وقوتهم وعلوهم وعوتهم ، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه ) فغشيهم ) أي فرعون وقومه ) من اليم ) أي البحر الذي من شأنه أن يؤم ؛ وأوجز فهول فقال : ( ما غشيهم ( اب أمر لا تحتمل العقول وصفه حق وصفه ، فأهلك أولهم وآخرهم ؛ وقطع دابرهمن لم يبق منهم أحداً ، وما شاكت أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة ) وأضل فرعون ( على تحذلقه ) قومه ( مع ما لهم من قوة الأجساد معانيها .
ولما كان إثبات الفعل لا يفيد العموم ، نفى ضده ليفيده مع كونه أوكد وأوقع في النفس وأروع لها فقال : ( وما هدى ) أي ما وقع منه شيء من الهداية ، لا لنفسه ولا لأحد من قومه ، فتم الدليل الشهودي على تمام القدرة على إنجاء الطائع وإهلاك العاصي .
ولما كان هذا موجباً للتشوف إلى ما وقعع لبني إسرائيل بعده ، قال تعالى شافياً لهذا الغليل ، أقبلنا على بني إسرائيل ممتنين بما مضى وما يأتي قائلين : ( يابني إسرائيل ( معترفين لهم أنا نظرنا إلى السوابق فأكرمناهم لأجل أبيهم .
ولما كان درء المفاسد وإزالة الموانع قبل جلب المصالح واستدرار المنافع قال : ( قد أنجيناكم ( بقدرتنا الباهرة ) من عدوكم ( الذي كنتم أحقر شيء عنده .
ولما تفرغوا لإنفاذ ما يراد منهم من الطاعة قال : ( ووعدناكم ) أي كلكم - كما مضى في البقرة عن نص التوراة - للمثول بحضرتنا والاعتزاز بمواطن رحمتنا ) جانب الطور الأيمن ) أي الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت ابيكم إبراهيم عليه السلام ، وهو جانبه الذي يلي البحر وناحية مكة واليمن .(5/34)
صفحة رقم 35
ولما بدأ بالمنفعة الدينية ، ثنى بالمنفعة الدنيوية فقال : ( ونزلنا عليكم ( بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم ) المن السلوى ( لإبقاء أشباحكم ، فبدأ بالإنجاء الممكن من العبادة ، ثم أتبعه بنعمة الكتاب الدال عليها ، ثم بالرزق المقوي ، ودل على نعمة الإذن فيه بقوله : ( كلوا ( ودل على سعته بقوله : ( من طيبات ما ( ودل على عظمته بقوله : ( رزقناكم ( من ذلك ومن غيره .
ولما كان الغنى والراحة سبب السماحة ، قال : ( ولا تطغوا فيه ( بالادخار إلى غد في غير يوم الجمعة ولا بغير ذلك من البطر وإغفال الشكر بصرفه في غير الطاعة ) فيحل ( اي ينزل ويجب في حينه الذي هو أولى الأوقات به - على قراءة الجماعة بالكسر ، ونزولاً عظيماً وبروكاً شديداً - على قراءة الكسائي بالضم ) عليكم غضبي ( فتهلكوا لذلك ) و ( كل ) من يحلل عليه غضبي ( منكم ومن غيركم ) فقد هوى ) أي كان حاله حال من سقط من علو .
طه : ( 82 - 86 ) وإني لغفار لمن. .. . .
) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يمُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي ( ( )
ولما كان الانسان محل الزلل وإن اجتهد ، رجاه واستعطفه بقوله : ( وإني لغفار ) أي ستار بإسبال ذيل العفو ) لمن تاب ) أي رجع عن ذنوبه من الشرك وما يقاربه ) وءامن ( بكل ما يجب الإيمان به ) وعمل صالحاً ( تصديقاً لأيمانه .
ولما كانت رتبة الاستمرار على الاستقامة في غاية العلو ، عبر عنها بأداة التراخي فقال : ( ثم اهتدى ) أي استمر على العمل الصالح متحرياً به إيقاعه على حسب أمرنا وعلى أقرب الوجوه المرضية لنا ، له إلى ذلك غاية التوجه كما يدل عليه صيغة افتعل ، وكأنه لما رتب الله سبحانه منازل قوم موسى عليه السلام عامة والسبعين المختارين منهم خاصة في الجبل - كما مضى عن نص التوراة في سورة البقرة ، وواعده الكلام بعد ثلاثين ليلة ولم يعين له أولها ، وكأنه لاشتياقه إلى ما رأى من التعرف إليه بمقام الجمال لم يتوقف على خصوص إذن من الله تعالى في أول وقت الإتيان اكتفاء بمطلق الأمر السابق في الميعاد ، فتعجل بعشرة أيام عن الوقت الذي علم الله أ ، الكلام يقع فيه بعد الثلاثين التي ضربها لذلك ، وأكر موسى عليه السلام قومه عند نهوضه ، وتقدم إليهم في(5/35)
صفحة رقم 36
اتباعه والطكون في أثره للحلول في الأماكن التي حدها الله لهم وأمر السبعين المختارة بمثل ذلك ، وكأنهم لما مضى تلبثوا لما رأوا من مقام الجلال ، فلما مضت الثلاثون بعد ذهاب موسى لم يكن أتى الوقت الذي أراد الله أن تكون المناجاة فيه ، فزاده عشراً فظن بنو اسرائيل الظنون في تلك العشرة ، ووقع لهم ما وقع من اتخاذ العجل .
ولما كان ذلك - والله أعلم بما كان ، وكان أعظم ما مضى في آية الامتنان عليهم والتعرف بالنعم إليهم المواعدة لهدايتهم بالآيات المرئية والمسموعة ، وختم ذلك بالإشارة إلى الاجتهاد في الإقبال على الهدى ، أتبع ذلك ذكر ضلالهم بعد رؤية ما يبعد معه كل البعد إلمام من رآه بشيء من الضلال ، كل ذلك لإظهار القدرة التامة على التصرف في القلوب بضد ما يظن بها ، وكان تنجز المواعيد إلذ شيء للقلوب وأشهاه إلى النفوس ، وكان السياق مرشداً حتماً إلى أن التقدير : فأتوا إلى الطور لميعادنا ، وتيمموا جانبه الأيمن بأمرنا ومرادنا ، وتعجل مويى صفبنا الصعود فيه مبادراً لما عنده من الشوق إلى ذلك المقام الشريف وتأخر مجيء قومه عن الإتيان معه ، فقلنا : ما أخر قومك عن الأتيان معك ؟ فعطف عليه قوله : ( وما أعجلك ) أي أيّ شيء أوجب لك العجلة في المجيء ) عن قومك ( وإن كنت مبادرة المبالغ في الاسترضاء ، أما علمت أن حدود الملوك لا ينبغي تجاوزها بتقدم أو تأخر ؟ ) ياموسى ( فهلا تيتم جمله وانتظرتم أمراً أمراً جديداً بخصوص الوقت الذي استحضركم فيه ) قال ( موسى ظناً منه أنهم أسرعوا وراءه : ( هم ( وأتى باسم الإشارةواسقط منه هاء التنبيه لأنه لا يليق بخطاب الله ، قال ابن هبيرة : ولم أر أحداً من الأصفيء خاطب ربه بذلك ، وإنما خاطب به الكفار لغباوتهم
77 ( ) قالوا ربنا هؤالء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك ( ) 7
[ النحل : 76 ] في أمثالها وأما آخر الزخرف فقد ذكر التعبير بها في موضعه ) أولاء ) أي هم في القرب بحيث يسار إليهم ، كائنين ) على أثري ) أي ماشين على آثار مشييي قبل أن ينطمس لم أسبقهم إلا بشيء جرت العادةفي السبق بمثله بين الرفاق ، هذا ناء منه على ما كان عهد إليهم ، وأكد فيه عليهم : ثم اعتذر عن فعله فقال : ( وعجلت ( أنا بالمبادرة ) إليك ( وجرى على عادة أهل القرب كما يحق له فقال : ( رب ) أي ايها المسارع في إصلاح شأني والإصلاح إليّ ) لترضى ( عني رضى أعظم مما كان ) قال ( الرب سبحانه : ( فأنا ) أي قد تسبب عن عجلتك عنهم أنا ) قد فتنا ) أي خالطنا بعظمتنا مخالطة مميلة محيلة ) قومك ( بتعجلك .
ولما كانت الفتنة لم تستغرق جميع الزمن الذي كان بعده ، وإنما كانت في بعضه ، (5/36)
صفحة رقم 37
أدخل الجارّ فقال : ( من بعدك ) أي خالطنهم بأمر من أمرنا مخالطة أحالتهم عما عهدتهم عليه ، وكان ذلك بعد تمام المدة التي ضربتها لهم ، وهي الثلاثون بالفعل وبالقوة فقط ، من أول ما فارقتهم بضربك لتلك المدة بمقدار ما عجلت به في أولها ، فلما تأخر رجوعك إليهم حصل لهم الفتون بالفعل ، فظنوا مرجمات الظنون .
ولما عمتهم الفتنة إلا اثني عشر ألفاً من أكثر من ستمائة ألف ، أطلق الضلال على الكل فقال : ( وأضلهم السامري ) أي عن طريق الرشد بما سبب لهم ؟ روى النسائي في التفسير من سننه ، وأبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرههما عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث الفتون أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون عليه السلام ، وأجلهم ثلاثين يوماً ، وذهب فصامها ليلها ونهارها ، ثم كره أن يكلم ربه وريح فمه متغير ، فمضغ شيئاً من نبات الأرض فقال له ربه : أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح ا لمسك ؟ ارجع فصم عشراً ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك ، كان هارون قد خطبهم وقال : إنكم خرجتم من مصر ، ولقوم فرعون عواريّ وودائع ، ولكم فيها مثل ذلك ، وأنا أرى أن تحسبوا ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عاريّة ، ولسنا براين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد النار فأحرقه فقال : لا يكون لنا ولا لهم ، وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني اسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتمالوا ، فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام : يا سامري ألا تلقي ما في يدك - وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك اليوم ، فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلاً ، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أوحلية أو نحاس أوحديد ، فصار عجلاً أحوف ليس فيه الروح ، له خوار ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا والله ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل في دبره فتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك ، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً ، فقالت فرقة : ياسامري ما هذا وأنت أعلم به ؟ قال : هذا ربكم ، ولكن موسى أضل الطريق ، فقالت فرقة : لانكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى .
فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنّا نتبع موسى ، وقالت فرقة : هذا عمل(5/37)
صفحة رقم 38
الشيطان ، وليس بربنا ، ولن نؤمن به ولن نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به - الحديث .
ثم سبب عن إخباره سبحانه له بذلك قوله : ( فرجع موسى ) أي لما أخبره ربه بذلك ) إل قومه ) أي الذين لهم قوة عظيمة على ما يحاولونه ) غضبان أسفا ) أي شديد الحزن أو الغضب ؛ واستأنف قوله : ( قال ( لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم : ( ياقوم ( وأنكر عليهم بقوله : ( ألم يعدكم ربكم ( الذي إحسانه إليكم ) وعدا حيناً ) أي بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً ، ويكفر عنكم خطاياكم ، وينصركم على أعدائكم - إلى غير ذلك من إكرامه .
ولما جرت العادة بأن طول الزمان ناقض للعزائم ، مغير للعهود ، كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري في هذا البيت :
لا أنسيتك إن طال الزمان بنا وكم حبيب تمادى عهده فنسي
وكان عليه الصلاة والسلام قريب العهد بهم ، أنكر طول العهد بقوله ، مستأنفاً عما تقديره : هل ترك ربكم مواعيده لكم وقطع معروفة عنكم : ( أفطال عليكم العهد ) أي زمن لطفه بكم ، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما يعتري أهل الرذائل النحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر ) أم أردتم ( بالنقض مع قرب العهد وذكر الميثاق ) أن يحل عليكم ( بسبب عبادة العجل ) غضب من ربكم ) أي المحسن إليكم ، وكلا الأمرين لم يكن ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلا يظن بأحد إرادته ، والحاصل أنه يقول : إنكم فعلتم ما لا يفعله عاقل ) فأخلقنم ) أي فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم ) موعدي ( في إجلال الله والإتيان إلى الموضع الذي ضبه لكم لكلامه لي وإنزال كتابه عليّ إحساناً إليكم وإقبالاً عليكم ، وكأنه أضاف الموعد إليه أدباً مع الله تعالىى وإعظاماً له ، أو أنه لما كان إخلاف الموعد المؤك المعين الذي لا سبهة فيه ، لما نصب عليه من الدلائل الباهرة ، وأوضحه من البراهين الظاهرة ، لا يكون إلا بنسيان لطول العهد ، أو عناد بسوء قصد ، وكا من أبلغ المقاصد وأوضح التقرير إلجاء الخصم بالسؤال إلى الاعتراف بالمراد ، سألهم عن تعيين أحد الأمرين مع أن طول العهد لا يمكن ادعاؤه ، فقال ما معناه : أطال عليكم العهد بزيادة عشرة ايام فنسيتم فلم يكن عليكم في الإخلاف جناح ؟ أم أردتم أن يحل عليكم الغضب فعاندتم ؟ فكانت الآية من الاحتباك : ذكر طول العهد الموجب للنسيان أولاً دليب على حذف العناد ثانياً ، وذكر حلول الغضب ثانياً دليل على انتفاء الجناح أولاً ، وسر ذلك أن ذكر السبب الذي هو طول العهد أدل على النسيان الذي هو المسببن وإثبات الغضب - وهو المسبب - أنكأ من إثبات سببه الذي هو العناد .(5/38)
صفحة رقم 39
طه : ( 87 - 94 ) قالوا ما أخلفنا. .. . .
) قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يابْنَأُمِّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ( ( )
ولما تشوف السامع إلى جوابهم ، استأنف ذكره فقال : ( قالوا ( : لم يكن شيء من ذلك .
ولما كان المقصود من هذا السياق كله إظهار عظيم القدرة ، عبر عن ذلك بقوله ، حكاية عنهم للاعتراف بما قررتم موسى عليه السلام به من العناد معتذرين عنه بالقددرة ، والاعتذاربه لا يدفع العقوبة المرتبة على الذنب : ( ما أخلفنا موعدك بملكنا ) أي لقد صدقت فيما قلت ، ولكنا لم نفعل ذلك ونحن بملك أمرنا - هذا على قراءة الجماعة بالكسر ، وعلى قراءة نافع وعاصم بالفتح المعنى : ولنا ملكة نتصرف بها في أنفسنا ، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالضم كأنهم قالوا : ولنا سلطان قاهر لأمورنا - على انهم قد ذكروا أن القراءات الثلاث لغات لمعنى واحد ، قال في القاموس : ملكه يملكه ملكاً مثلثة : احتاه قادراً على الستبداد به ، والمعنى لأن السامري زين لهم ذلك ، ووسوس به الشيطان فما دورا إلا وقد تبعوه حتى كأنهم يقادون إليه بالسلاسل ، وقيل هذا كله إشارة إلى أنه تعالى هو المتصرف في القلوب ، فهو قادر على أن يرد كفار قريش والعرب من بعد عنادهم ، ولددهم وفسادهم ) ولكنا ( كنا ) حملنا أوزاراً ) أي أثقالاً من النقدين هي أسباب الآثام ، كما تقدم في الأعراف أن الله أمرهم في التوراة أن يستعيروها من القبط فخربوها بها ، وكأن هذا ما كان خيانة في ذلك الشرع ، أو أن الله تعالى أباح لهم ذلكك في القبط خاصة ) من زينة القوم ( الذين لم نكن نعرف قوماً غيرهم ، وغيرهم ليس حقيقاً بإطلاق هذا اللفظ عليه وهم القبط ، فقضى لنا أن نقذفها في النار ، وتوفرت الدواعي على ذلك واشتدت بحيث لم نتمالك ) فقذفنها فكذلك ) أي فتعقب هذا أنه مثل ذلك الإلقاء ) لقى السامري ( وهو لصيق انضم إليهم من قبط مصر ، ألقى ما كان معه ، أما المال وإما من أثر الرسول ، كما مضى ويأتي ، وكأن إلقاءه كان آخراً .(5/39)
صفحة رقم 40
ولما كان خروج التمثا لعقب إلقاءه ، حعل كأنه المتسبب في ذلكن فقيل مع العدول عن أسلوب التكلم استجاناً لنسبة أمر العجل إلى المتكلم : ( فأخرج لهم ) أي لمن شربه وعبده ، وجعل الضمير للغيبة يؤيد قول من جعل هذا كلام من لا يعبد العجل ، والمعنى عند من جعله من كلام العابدين أنهم دلوا بذلك على البراءة منه والاستقذار له .
ولما كان شديد الشبه للعجول ، قيل : ( عجلاً ( وقدم قوله : ( جسداً ( لنعرف أن عجليته صورة لا معنى - على قوله : ( له خوار ( لئلا يسبق إلى وهم أنه حي ، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل ) فقالوا ) أي فتسبب عن ذلك أن السامري قال فتابعه عليه من أسرع في الفتنة أول ما رآه : ( هذا ( مشرين إلى العجل الذي هو على صورة ما هو مثل في الغباوة ) إلهكم وإله موسى فنسى ( اي فتسبب عن أنه إلهكم أن موسى نسي - بعدوله عن هذا المكان - موضعه فذهب يطلبه في مكان غيره ، أو نسي أن يذكره لكم .
ولما كان هذا سبباً للإنكار على من قال هذا قال : ( أفلا يرون ) أي اقالوا ذلك ؟ فتسبب قولهم عن عماهم عن رؤية ) أن ) أي أنه ) لا يرجع إليهم قولاً ( والإله لا يكون أبكم ) ولا يملك لكم ضراً ( فيخافوه كما يخافون فرعون فيقولوا ذلك خوفاً من ضره ) ولا نفعاً ( فيقولوا ذلك رجاء له .
ولما كان الذنب مع العلم أبشع ، والضلال بعد البيان أشنع ، قال عاطفاً على قوله ) قال ياقوم ألم يعدكم ( أو على قوله ( قالوا ما أخلفنا ) : ( ولقد قال هارون ) أي مع أن من لم يعبده لم يملكوا رد من عبده .
ولما كان قولهم في بعض ذلك الزمان ، قال : ( من قبل ) أي من قبل رجوع موسى ، مستعطفاً لهم : ( ياقوم ( ثم حصر أمرهم ليجتمع فرهم ونظرهم فقال : ( إنما فتنتم ) أي وقع اختباركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه وثباتكم عليه ) به ) أي بهذا التمثال في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة .
وأكد لأجل إنكارهم فقال : ( وإن ربكم ) أي الذي أخرجكم من العدم ورباكم بالإحسان ) الرحمن ( وحده الذي فضله عام ونعمة شاملة ، فليس على البر ولا فاجر النعمة غلا وهي منه قبل أن يوججد العجل ، وهو كذلك بعده .
ومن رحمته قبول التوبة ، فخافوا نزع نعمه بمصيته ، وارجوا إسباغها بطاعته ) فاتبعوني ( بغية جهدكم في الرجوع إليه ) وأطيعوا أمري ( في دوام الشرف بالخضوع لديه ، ودوام الإقبال عليه ، بدفع عنكم ضيره ، ويفض عليكم خيره .
ولما كان هذا موضع أن يسأل من جوابهم لهذا الأمر الواضح الذي لا غبار عليه ، قيل : ( قالوا ( بفظاظة وجمود : ( لن نبرح عليه ) أي على هذا العجل ) عاكفين ( أي(5/40)
صفحة رقم 41
مقيمين مستديرين مجتمعين وإن حاربنا في ذلك ) حتى يرجع إلينا موسى ( فدافعهم ، فهمّموا به ، وكان معظمهم قد ضل ، فلم يكن معه من يقوى بهم ، فخاف أن يجاهد بهم الكافرين فلا يفيد ذلك شيءاً ، ويقتل بعضهم فيحمى له آخرون من ذوي رحمة الأقربين ، فيصير بين بني إسرائيل فرقة يبعد ضم شتاتها وتلافي دهمائها ، وكانوا قد غيوا الرجوع برجوع موسى عليه السلام مع أنه لم يأمره بجهاد من ضل ، إنما قال له ) ) وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ( ) [ الأعراف : 142 ] فرأى من الإصلاح اعتزلهم إلى أن يأتي ، فلما ذكر ما قال هارون عليه السلام ، التفتت النفس إلى علم ما قال له موسى عليه السلام لأنه خليفته عليهم ، مع كونه راساً في نفسه ، فدفع هذا العناء بقوله ، مسقطاً أخذه برأس أخيه لما تقدم من ذكره ويأتي هنا من الدلالة عليه ، ولم تدع إليه ضرورة في هذه السورة التي من أعظم مقاصدها الدلالة على تليين القلوب : ( قال ) أي موسى : ( ياهرون ( أنت نبي الله وأخي ووزيري وخليفتي فأنت أولى الناس بأن ألومه ، وأحقهم بأن أعاتبه ) ما منعك إذ ) أي حين ) رايتهم ضلوا ( عن طريق الهدى ، واتبعوا سبيل الردى ، من اتباعي في سيرتي فيهم من الخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً ، اتباعاً لا زيغ فيه عما نهجته لك بجه من الوجوه شيئاً من زيغ ، وعبر عن هذا التأكيد بزيادة ( لا ) في قوله : ( ألاَّ تتبعن ( كما تقدم غير مرة أن النافي إذا زيد في الكلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضون ونفياً لضده ، فيكون ذلك في غاية التأكيد ) افعصيت ) أي أتكبت عن اتباعي فتسبب عن ذلك أنك عصيت ) أمري ( وأخذ بلحيته وبرأسه يجره اليه غضباً لله تعالى ، فكأنه قيل : ما قال له ؟ فقيل : ( قال ( مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له ن الرقة والشفقة : ( يا بنؤم ( فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه لأنه يسوءها ما يسوءه ، وهي أرق من الأب ) تأخذ بلحيتي ولا برأسي ) أي بشعره ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إني خشيت ان تقول ( إن اشتددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال ) فرقت بين بين إسرائيل ( بفعلك هذا الذي لم يُجِْد شيئاً لقلة من كان معك وضعفكم عن ردهم ) ولم ترقب قولي ( ) اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ( ولم تقل وارددهم ولو أدى الأمر إلى السيف ، وهذا كما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ماموراً بالصفح والحلم والمدافعة باللين عند ضعف الناصر وقلة المعين .
طه : ( 95 - 97 ) قال فما خطبك. .. . .
) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ( ( )(5/41)
صفحة رقم 42
ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان راس الهداة ، تشوف السامع غلى ما من غيره ، فاستأنف تعالى ذكره بقوله : ( قال ) أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره .
جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحالمل له عليه : ( فما خطبك ) أي أمرك هذا العجيب العظيم الذي حملك على ما صنعت وأخبرني العزيز العليم أنك أنت أضللتهم به ) يا سامري قال ( السامري مجيباً له : ( بصرت ( من البصر والبصيرة ) بما لم يبصروا به ( من أمر الرسول الذي أجاز بنا البحر ) فقبضت ) أي فكان ذلك سبباً لأن قبضت ) قبضة ) أي مرة من القبض ، أطلقها على المقبوض تسمية للمفعول بالمصدر ) من أثر ( فرس ذلك ) الرسول ( اي المعهود ) فنبذتها ( في الحلي الملقى في النار ، أو في العجل ) وكذلك ) أي وكما سولت لي نفسي أخذ اثره ) سولت ) أي حسنت وزينت ) لي نفسي ( نبذها في الحلي فنبذتها ، فكان منها ما كان ، ولم يدعني غلى ذلك داع ولا حملني عله حامل غير التسويل .
ولما كان فعله هذا مفرقاً لبني إسرائيل عن طريق الحق التي كانوا عليها ، وجامعاً لهم على تمثال حيوان هو من أخس الحيوانات ، وعلى نفسه بكونه صار متبوعاً في ذلك الضلال ، لكونه كان سببه ، عوقب بالنفرة من الإنسان الذي هو أشرف الحيوان ، ليكون ذلك سبباً لضد ما تسبب عن فعله ، قيعاقب بالدنيا بعقوبة لا شيء اشد منها وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد ، بل يكون وحيداً طريداً ما دام حياً ، فلذلك استؤنف الإخبار عن هذا بقوله تعالى : ( قال ) أي له موسى عليه السلام : ( فاذهب ( اي تسبب عن فعلك أني أقول لك : اذهب من بيننا ، أز حيث ذهبت ) فإن لك في الحياة ) أي ما دمت حياً ) أن تقول ( لكل من رايته : ( لا مساس ) أي لا تمسني ولا أمسك ، فلا تقدر ان تنفك عن ذلك لإرادة الإله الحق ذلك بك وترغيبك فيه - بما افادته الام ، لتعلم أنت ومن تبعك أنكم كنتم على أعظم ضلال في ترك القادر على كل شيء ، واتباع ما لا قدرة له على شيء ) وإن لك ( بعد الممات ) موعداً ( للثواب إن تبت ، وللعقاب إن ابيت ) لن تخلفه ( مبنياً للفاعل وللمفعول ، اي لا يكون خلفك ولا تكون أنت خلفه ، بل يكون كل منهما مواجهاً لصاحبه ، لا انفكاك له عنه ، كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس ، فاختر لنفسك ما يحلو .
ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين ، أتبعه عجز العجل فقال : ( وانظر إلى إلهك ) أي بزعمك ) الذي ظلت ( اي دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه(5/42)
صفحة رقم 43
تخفيف التضعيف ) عليه عاكفاً ) أي مقبلاً مقارباً مواظباً جهاراً ) لنحرقنه ) أي بالنار وبالمبرد - كما سلف عن نص التوراة ، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان فهان على المبارد ) ثم لننسفنه ) أي نذرينه إذا صار سحالة ) في اليم ( اي البحر الذي أغرق الله فيه آل فرعون وهو لأن يقصد فيجمع الله سحالته التي هي من حيلهم وأموالهم فيحميها في نار جهنم ويكويها ويجعلها من أشد العذاب عليهم ، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله الذي أمره بذلك ، وتحقيقاً للصدق في الوعد فقال : ( نسفاً ( .
طه : ( 98 - 103 ) إنما إلهكم الله. .. . .
) إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ( ( )
ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان ، أخبرهم بالحق على وجه الحصر فقال : ( إنما إلهكم ( جميعاً ) الله ( اي الجامع لصفات الكمال ؛ ثم كشف المراد من ذلك وحققه بقوله : ( الذي لا إله إلا هو ) أي لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره لأنه ) وسع كل شيئاً علماً ( تمييز محول عن الفاعل ، أي أحاط علمه بكل شيء ، فكان على كل شيء ممكن قدياًن فكان كل شيء إليه فقيراً ، وهو غني عن كل شيء ، وجوده يباين وجود غيره ، وذاته تباين ذات غيره ، وصفاته تباين صفات غيره ، وأما العجل الذي عبدوه فلو كان حياً كان مثلاً في الغباوة ، فلا يصلح للإلهية بوجه ولا في عبادته شيء من حق ، وكان القياس على ما يتبادر إلى الذهن حيث نفى عنه العم بقوله ) ألا يرجع إليهم قولاً ( والقدرة بقوله ) ولا يملك لكم ضراً ولا نفعاً ( أن يثبتا هنا للاله الحق ، ولكنه اعتنى بإثبات العلم الواسع لاستلزامه للقدرة على كل ما يمكن أن يتعلق به ، بإفادة الأسباب لشيء المراد ، ومنع الموانع عنه فيكون لا محالة ، ولو لم يكن كذلك لكان التخلف للجهل إما بما يفيد مقتضياً أو يمنع مانعاً ، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى ) ) ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ( ) [ الأعراف : 188 ] ولا يستلزم إثبات القدرة المحيطة العم الشامل لخروج قسم المحال الذي ليس من شأن القدرة أن تتعلق به .
ولما تمت هذه القصة على هذا الأسلوب الأعظم ، والسبيل الأقوم ، متكلفة بالدلالة على القدرة على ما وقعت إليه الإشارة من البشارة أول السورة بتكثير هذه الأمة ورد العرب عن غيهم بعد طول التمادي في العناد ، والتنكيب عن سيبل الرشاد ، إلى ما(5/43)
صفحة رقم 44
تخللها من التسلية بأحوال السلف الصالح والتأسية ، مفصلة من أدلة التوحيد والبعث ، وغير ذلك من الحكم ، بما يبعث الهمم ، على معالي الشيم ، كان كلأنه قيل : هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع والمثال الرفيع ؟ فقيل : نعم ) كذلك ) أي مثل هذا القص العالي ، في هذا لانظم العزيز الغالي ، لقصة موسى ومن ذكر معه ) نقص عليك ) أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ؛ وأشار إلى جلالة علمه بقولله : ( من أنباء ) أي أخبار ) ما قد سبق ( من الأزمان والكوائن الجليلة ، زيادة في علمك ، وإجلالاً لمقدارك ، وتسلية لقلبك ، وإذهاباً لحزنك ، بما اتفق للرسل من قبلك وتكثيراً لأتباعك وزيادة في معجزاتك ، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة وتأكد الحجة على من عابه : ( وقد ءاتينك ( من عظمتنا تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك ) من لدنا ) أي من عندنا من الأمر الشريف بمزيد خصوصيتته بنا ولطيف اتصاله بحضرتنا من غيب غيباً ) ذكراً ( عظيماً جليلاً جامعاً لما أظهرناه من أمرنا في التوراة ، وما ابطنّاه من سرنا في الإنجيل ، وما أودعناه من سكينتنا في الزبور ، مع ما خصصناه به من لطائف المزايا ، وعظائم الأسرار ، يعرف بمجرد تلاوته أنه من عندنا لما يُشهد له من الروح ، ويُذاق له من الإخبات والسكون ، ويرى له من الجلالة في الصدور مع القطع بأن أحداً لا يقدر أن يعارضه ، وضمناه تلك القصص مع ما دنا فيه على ذلك من المواعظ والأحكام ودقائق اشارات الحقائق ، متكفلاً بسعادة الدارين وحسنى الحسنيين ، فمن أقبل عليه كان مذكراً له بكل ما يريد من العلوم النافعة .
ولما اشتمل هذا الذكر على جميع أبواب الخير ، فكان كل مل ليس له فيه أصل شقاور محضة وضلالاً بعيداً ، قال يقص عليه من أنباء ما يأتي كما قص من أأنباء ما قد سبق : ( من أعرض عنه ) أي عن ذلك الذكر ، وهو عام في جميع من يمكن دخوله في معنى ( من ) من العالمين ) فإنه يحمل ( ولما كان المراد استغراق الوقت قال : ( يوم القيامة وزراً ) أي حملاً ثقيلاً من العذاب الذي سببه الوزر وهو الذنب ، جزاء لإعراضه عنه واشتغلاه بغيره ) خلدين فيه ( وجمه هنا حملاً على المعنى بعد الإفراد للفظ ، تنبيهاً على العموم لئلا يغفل عنه بطول الفصل ، أو يظن أن الجماعة يمكنهم المدافعة ، ويمكن أن يراد بالوزر الحمل الثقيل نت الأثم ، ويمون الضمير في ( فيه ) للعذاب المسبب عنه فيكون استخداماً كقوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
ولما كانوا منكرين ليوم القيامة ، صرح بذكره ثانياً مع قرب العهد ، قارعاً لأسماعهم به ، مجرياً له إجراء ما هو بعه دير من أنه متحقق لا مرية فيه فقال : ( وساء ((5/44)
صفحة رقم 45
أي وبئس ؛ وبين أصحاب السوء فقال : ( لهم ) أي ذلك الحمل ) يوم القيامة حملاً ( ثم شرح لهم بعض أحوال ذلك اليوم من بتدائه ، فقال مبدلاً من ( يوم القيامة ) : ( يوم ينفخ ) أي بعظمتنا - على قراءة أبي عمرو بالنون مبنياً لفاعل ، ودل على تناهي العظمة بطريقة كلام القادرين في قراءة الباقين بالياء مبيناً للمفعول ) في الصور ( فيقوم الموتى من القبور ) ونحشر ) أي بعظمتنا ) المجرمين ( منهم الذين قطعوا ماأمر الله به أن يوصل ، وعدل عن أن يقول : ونحشرهم - لبيان الوصف الذي جره لهم : الإعراض عن الذكر ) يؤمئذ ) أي يوم القيامة ، ويكون لهم ما تقدم ) زرقاً ) أي زرق العيون والجسوم على هيئة من ضرب فتغير جسمه ، حال كونهم ) يتخافتون ( .
ولما كان التخافت - وهو المسارّة بالكلام - قد يكون بين اثنين من قبيلتين ، فيكون كل منهما خائفاً من قومه أقل عاراً مما لو كانا من قبيلة واحدة ، لأنه يدل على أن ذلك الخوف طبع لازم ، قال دالاً على لومه وعمومه : ( بينهم ) أي يتكلمون خافضي أصواتهم من الهيبة والجزع .
ولما كانت الزرقة أبغض ألوان العيون ألى العرب لعدم إلفهم لها ، والمخافتة أبغض الأصوات إليهم لأنها تدل عندهم على سفول الهمة والجبن وكانوا من الزرقة أشد نفرة لأن المخافتة قد يتعلق بها غرض .
رتبهما سبحانه كذلك ، ثم بين ما يتخافتون به فقال : ( إن ) أي يقول بعضهم لبعض : ما ) لبثتم ) أي في الدنيا استقصاراً لمدة إقامتهم في غيب ما بدا لهم من المخاوف ، أو غلظاً ودهشة ) إلا عشراً ) أي عقداً واحداص ، لم يزد على الآحاد إلا بواحدة ، وهو ل أنه سنون سن من يبلغ الحلم ، فكيف إذا كان شهوراً أو أياماً فلم يعرفوا لذة العيش بأيّ تقدير كان .
طه : ( 104 - 108 ) نحن أعلم بما. .. . .
) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( ( )
ولما كان علم ما يأتي أخفى من علم ما سبق ، أتى فيه بمظهر العظمة فقال : ( نحن أعلم ( من كل أحد ) بما يقولون ) أي في ذلك اليوم ) إذ يقول أمثلهم طريقة ( في الدنيا فيما يحسبون ، أي اقربهم إلى أن تكون طريقته مثل ما يطلب منه : ( إن ) أي ما ) لبثتم ( ودل على أن المعدود المحذوف من الأول الأيام بقوله : ( غلا يوماً ) أي مبدأ الآحاد ، لا مبدأ العقود كما قال في الاية الأخرى ) ) قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ( ) [ المؤمنون : 113 ] ) ) يقسم المجرومون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ( ((5/45)
صفحة رقم 46
[ الروم : 55 ] فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين ، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، ويجوز أن يكون المراد أن من قال : إن لبثهم يوم واحد ، أمثلهم في نفس الأمر ، لأن الزمان وإن طال إنما هو يوم متكرر ، ليس مراداً لنفسه ، وإنما هو مراد لما يكون فيه فإن كان خيراً كان صاحبه محموداً ولم يضره قصره ، وإن كان شراً كان مذموماً ولم ينفعه طوله ، ويجوز أن يكون أنث أولاً إرادة الليالي ، لأنها محل الراحة المقصودة بالذات ، فكان كأنهم قالوا : لم يكن لنا راحة إلا بزمن يسير جداً أكثر أول العقود ، ونص الأمثل على اليوم الذي يمون الكد فيه للراحة في الليل إشارة إلى أنهم ما كان لهم في اللبث في الدنيا يستراح فيها .
وإن كانت فيه راحة فهي ضمنية لا أصلية .
ولما أخبر عن بعض ما سبق ثم عن بعض ما يأتي من أحوال المعرضين عن هذا الذكر فيما ينتجه لهم إعراضهم عنه ، وختم ذلك باستقصارهم مدة لبثم في هذه الدار ، أخبر عن بعض أحوالهم في الإعراض فقال : ( ويسألونك عن الجبال ( ما يكون حالها يوم يتفخ في الصور ؟ شكا منهم في البعث وقوفاً مع الوهم في أنها تكون موجودة على قياس جمودهم لا محالة ، لأنها أشد الأشياء قوة ، وأطولها لبثاً ، وابعدها مكثاً ، فتمنع بعض الناس من سماع النفخ في الصور ، وتخيل للبعض بحكم رجع الهواء الحامل للصوت أنه آتٍ من غير جهته فلا يستقيم القصد إلى الداعي ) فقل ) أي فتسبب عن علمنا بأنهم يسألونك هذا السؤال أنا نقول لك : قل ، أو يكون على تقدير شرط ، اي فإذا سألوك فقل لهم ، وهذا بخلاف ما نول بعد وقوع السؤال عنه مثل الروح وقصة ذي القرنين فإن الأمر بجوابه على طريق الاستئناف لما هناك من استشراف النفس للجواب ) ينسفها ) أي يقلعها من أماكنها ويذريها بالهواء ) ربي ( المحسن إليّ بنصري في يوم القيامة نصراً لا يبلغ كنهه ) نسفاً ( عند النفخة الأولى ) فيذرها ) أي أماكنها ) قاعاً ) أي ارضاً ملساء ) صفصفاً ) أي مستوياً كأنه صف واحد لا اثر للجبال فيه ) لا ترى ) أي بالبصر ولا بالبصيرة ) فيها ) أي مواضع الجبال ) عوجاً ( بجه من الوجوه ، وعبر هنا بالكسر هو للمعاني ، ولم يعبر بالفتح الذي يوصف به الأعيان ، ومواضع الجبال أعبيان لا معاني ، نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه ، بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأراض لا تفقوا على الحكم باستوائها ، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا مقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك ) ولا أمتاً ) أي شيئاً مرتفعاً كالكدية أو نتوّاً يسيراً أو شقاً أو اختلافاً ؛ وقال البيضاوي والزمخشري : الأمت النتوّ اليسير ، قال الغزالي في الدرة الفاخرة : ينفخ في الصور فتطاير الجبال ، وتفجر الأنهار بعضها في بعض ، (5/46)
صفحة رقم 47
فيمتلئ عالم الهواء ماء ، تنتثر الكواكب وتتغير السماء والأرض ، ويموت العالمون فتخلو الأرض والسماء ؛ قال : ثم يكشف سبحانه عنن بيت في سقر فيخرج لهيب النار فيشتعل في البحور فتنشف ، ويدع الأرض جمرة سوداء ، والسموات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب ، ثم يفتح تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة ، فيمطر به الأرض ، وهو كمنيّ الرجال فتنبت الأجسام على هيئتها ، الصبى صبي ، والشيخ شيخ ، وما بينهما ، ثم تهب من تحت العرش نار لطيفة فتبر الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت ، ثم يحيى الله إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة القدس ، فتخرج الأرواح من ثقب في الصور بعددها كل روح إلى جسدها حتى الوحش والطير فإذا هم بالساهرة .
ولما أخبر سبحانه بنزول ما يكون منه العوج في الصوت قال : ( يومئذ ) أي إذ ينفخ في الصور فتنسف الجبال ) يتبعون ( اي أهل المحشر بغاية جهدهم ) الداعي ( اي بالنفخ منتصبين ليه على الاستقامة ) لا عوج له ) أي الداعي في شيء من قصدهم إليه ، لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعريج ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء ؛ وقال أبو حيان : أي لا عوج لدعائه ، بل يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس .
ولما اخبر بخشوعهم في الحديث والانقياد للدعوة ، أخبر بخشوع غير ذلك من الأصوات التي جرت العادة بكونها عن الاجتماع فقال : ( وخشعت الأصوات ) أي ارتخت وخفيت وخفضت وتطامنت لخشوع أهلها ) للرحمن ) أي الذي عمت نعمه ، فيرجى كرمه ، ويخشى نقمه ) فلا ) أي فيتسبب عن رخوتها أنك ) تسمع إلا همساً ( أخفى مايكون من الأصوات ، وقيلك أخفى شيء من أصوات الأقدام .
طه : ( 109 - 112 ) يومئذ لا تنفع. .. . .
) يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ( ( )
ولما تقرر ما للأصوات من الانخفات ، وكان قد أشير فيما مضى إلى وقوع الشفاعة من بعض أخصائه بإذنه ، وكان الحشر للحساب بمعرض التقريب لبعض والتبعيد لبعض ، وكانت العادة جارية بأن المقرب يشفع للمعبد ، لما بين أهل الجمع من الوصل والأسباب المقتضية لذلك ، وكان الكفار يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم قال نافياً لأنن تقع شفاعة بغير إذنه ، معظماً ذلك اليوم بالإنذار منه مرة بعد مرة : ( يومئذ ) أي إذ كان ما تقدم ) لا تنفع الشفاعة ) أي لا تكون شفاعة ليكون لها نفع ، لأنه قد ثبت بما مضى أنه لا صوتن وتقرر في تحقيق المحصورات من علم الميزان أن السالبة الحقيقية لا(5/47)
صفحة رقم 48
تستدعي وجود الموضوع في الخارج ، وإنما حول العبارة لأن المقصود بالذات النفع ، فنفيه بادىء بدا أفظع ، وقرع السمع به أولاً أهول وافزع ) إلا ) أي إلا شفاعة ) من أذن له الرحمن ( العم النعمة ) ورضي له قولاً ( ولو الإيمان المجرد .
ولما نفي أن تقع الشفاعة بغير إذنه ، علل ذلك - كما سلف في آية الكرسي - بقوله : ( يعلم ما بين ايديهم ) أي الخلائق وهو كل ما يعلمونه ) وما خلفهم ( وهو كل ما غاب عنهم علمه ، أي علمه سبحانه محيط بهم ، فهو يمنع قلوبهم في ذلك اليوم بما يوجد من الأسباب أن تهم بما لا يرضاه ) ولا يحيطون به علماً ( ليجترزوا عما يقدره عليهم ، و ) علماً ( تمييز منقول من الفاعل ، أي ولا يحيط علمهم به - قال أبو حيان .
والأقرب عندي كونه منقولاً عن المفعول الذي تعدى إليه الفعل بحرف الجر ، أي ولا يحيطون بعلمه ، فيكون ذلك أقرب إلى ما في آية الكرسي .
ولما ذكر خشوع الأصوات ، أتبعه خضوع دونها فقال : ( وعنت الوجوه ( اي ذلت وخضعت واستسلمت وجوه الخلائق كلهم ، وخصها لشرفها ولأنها أول ما يظهر فيه الذل ) للحي ( الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل ، وكل ما سواه جماد حيث ما نسبت حياته إلى حياته ) القيوم ( الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت ) وقد خاب ) أي خسر خسارة ظاهرة ) من حمل ( منهم أو من غيرهم ) ظلماً ( .
ولما ذكر الظلم ، أتبعه الحكيم فقال : ( ومن يعمل ( ولما كان الإنسان محل العجز وإن اجتهد ، قال ) من الصالحات ) أي التي أمره الله بها بحسب استطاعته ، لأنه ( لن يقدر الله أحد حق قدره ) ( ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) ) وهو مؤمن ( ليكون بناؤها على الأساس ، وعبر بالفاء غشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال فقال : ( فلا يخاف ( بأن ينسب إليه سوء لم يقترفه لأن الجزاء من جنس العمل ، وقراءة ابن كثير بلفظ النهي محققة للمباغة في النفي ) ولا هضماً ( اي نقصاً من جزائه وإن كان هو لم يوف المقام حقه لأنه لا يستطيع ذلك ، وأصل الهضم الكسر ، وأما غير المؤمن فلو عمل أمثال الجبال من الأعمال لم يكن لها وزر .
طه : ( 113 - 115 ) وكذلك أنزلناه قرآنا. .. . .
) وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( ( )
ولما اشتملت هذه الآية على الذروة من حسن المعاني ، فبشرت ويسرت ، وأنذرت وحذرت ، وبينت الخفايا ، وأظهرت الخبايا ، مع ما لها من جلالة السبك وبراعة(5/48)
صفحة رقم 49
النظم ، كان كأنه قيل تنبيهاً على جلالتها : أنزلناها على هذا المنوال العزيز المثال ) وكذلك ) أي ومثل هذا الإنزال ) أنزلنه ) أي هذا الذكر كله بعظمتنا ) قرآناً ( جامعاً لجميع المعاني المقصودة ) عربياً ( مبيناً لما أودع فيه لكل من له ذوق في أساليب العرب .
ولما كان أكثر هذه الآيات محذراً ، قال : ( وصرفنا ( اي بما لنا من العظمة ) فيه من الوعيد ) أي ذكرناه مكررين له محولاً في أساليب مختلفة ، وأفانين متنوعة مؤتلفة .
ولما ذكر الوعيد ، أتبعه ثمرته فقال : ( لعلهم يتقون ) أي ليكون الناظر لهم بعد ذلك على رجاء من أن يتقوا ويكونوا به في عداد من يجدد التقوى كل حين ، بأن تكون له وصفاً مستمراً ، وهي الحذر الحامل على اتخاذ الوقاية مما يحذر ) أو ( فيعداد من ) يحدث ) أي يجدد هذا التصريف ) لهم ذكراً ( اي ما يستحق أن يذكر من طرق الخير ، فيكون سبباً للخوف الحامل على التقوى ، فيردهم عن بعض ما تدعو إليه النفوس من النقائض والبؤس .
ولما بلغت هذه الجمل نهاية الإعجاز ، فاشتملت على غاية الحكمة ، دالة على أن لقائلها تمام العلم والقدرة والعدل ف أحوال الدراين ، تسبب عن سوقها كذلك أن بان له من العظمة ما أفهمه قوله ، معظماً لنفسه الأقدس بما هو له أهل بعد تعظيم كتابه تعليماً لعباده ما يجب له من الحق دالاً بصيغة التفاعل على مزيد العلو : ( فتعلى الله ) أي بلغ الذي لا يبلغ الواصفون وصفه حق وصفه من العلو أمراً لاتحتمله العقول ، فلا يلحقه شيء من غلحاد الملحدين ووصف المشركين ) الملك ( الذي لا يعجزه شيء ، فلا ملك في الحقيقة غيره ) الحق ( اي الثابت الملك ، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما ؛ ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة .
ولما كانت هذه الآيات في ذم من أعرض عن هذا الذكر ، كان تقدير : فلا تعرض عنه ، بل أقبل عليه لتكون من المتقين الذاكرين ، ولما كان هذا الحث العظيم ربما اقتضى للمسابق في التقوى المبالغة في المبادرة إليه فيستعجل بتلقفه قبل الفراغ من إيحائه ، قال عاطفاً على هذا المقدر : ( ولا تعجل بالقرآن ) أي بتلاوته .
ولما كان النهي عاماً لجميع الأوقات القبلية ، دل عليه بالجار لئلا يظن أنه خاص بما يستغرق زمان القبل جملة واحدة فقال : ( من قبل أن ( ولما كان النظر هنا إلى فراغ الإيحاء لا إلى موح معين ، بنى للمجهول قوله : ( يقضى ) أي ينهى ) إليك وحيه ( من الملك النازل إليك من حضرتنا به كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة ، بل رتلناه لك(5/49)
صفحة رقم 50
ترتيلاً ، زنزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً ، وموصلاً توصيلاً - كما أشرنا غليه أول السورة ، فاستمع له ملقياً جميع تأمك إليه ولا تساوقه بالقراءة ، فإذا فرغ فاقرأه فإنا نجمعه في قلبك ولا نسقيك بإنسائه وأنت مصغ إليه ، ولأ بتكليفك للمساوقة بتلاوته ) وقل ربي ( اي المحسن إليّ بإفاضة العلو عليّ ) زدني علماً ) أي بتفهيم ما أنزلت إليّ منه وإنزال غيره كما زدتني بإنزاله وتحفيظه ، لتتمكن من معرفة الأسباب المفيدة لتبع الخلق لك ، فإنه كما تقدم على قدر إحاطة العلم يكون شمول القدرة ، وفي هذا دليل على أن التاني في العلم بالتدبر وبإلقاء السمع أنفع من الاستعجال المتعب للبال المكدر للحال ، وأعون على الحفظ ، فمن وعى شيئاً حق الوعي حفظه غاية الحفظ ؛ وروى الترميذي وابن ماجة والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( للهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد لله على كل حال ، وأعوذ بالله من حال أهل النار ) أفاده ابن كثير في تفسيره .
ولما قرر سبحانه بقصة موسى عليه السلام ما لشلر إليه أول السورة بما هو عليه من الحلم والتاني على عباده ، والإمهال لهم فيما هم عليه من النقص بالنسيان للعهود والنقض للمواثيق ، وأتبعها ذكر مدح هذا الذكر الذي تأدت إلينا به ، وذم من أعرض عنه ، وختمه بما عهد إليه ( صلى الله عليه وسلم ) في أمره ونهياً وأمراً ، أتبع ذلك سبحانه قصة آدم عليه السلام تحذيراً من الركون إلى ما يسبب النسيان ، وحثاً على رجوع من نسي إلى طاعة .
الرحمن ، وبياناً لأن ذلك الذي قرره من حلمه وإمهاله عادته سبحانه من القدم ، وصفته التي كانت ونحن في حيز العدم ، وأنه جبل الإنسان على النقص ، فلو أخذهم بذنوبهم ما ترك عليها من دابة ، فقال عاطفاً على قوله
77 ( ) وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ( ) 7
[ الرعد : 37 ] أو ) كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ( مؤكداً لما تقدم فيه وعهد به من أمر القرآن ، ومحذراً من الإخلال بذلك ولو على وجه النسيان ، ومنجزاً لما وعد به من قص أنباء المتقدمين مما يوافق هذا السياق : ( ولقد عهدنا ( بما لنا من العظمة ) إلى ءادم ( أبي البشر الذي أطلعناه على كثير منها في النهي عن الأكل من الشجرة ) من قبل ) أي في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم ) فنسي ( عهدنا وأكل منها مع علمه من تلك العظمة بما لا ينبغي أن ينسى معه ذلك العهد المؤكد بذلك الجلال ، فعددنا عليه وقوعه في ذلك المنهيّ ناسياً ذنباً لعلو رتبته عندنا ، فهو من باب ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) فكيف بما فوق ذلك(5/50)
صفحة رقم 51
) ولم نجد ( بالنظر غلى ما لنا من العظمة ) له عزماً ) أي قصداً صلباً ماضياً وإرادة نافذة لا تردد فيها كإرادات الملائكة عليهم السلام ، والمعنىى أنه لم يتعلق علمنا بذلك موجوداً ، ومع ذلك عفونا عنه ولم نزحوحه عن رتبة الاصطفاء .
طه : ( 116 - 122 ) وإذ قلنا للملائكة. .. . .
) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( ( )
ولما كان المقصود من السورة - كما سلف - الإعلام بالحلم والأناة والتلطف بالنائي والقدرة على المعرض ، ذكر فعله آدم عليه السلام هذه في هذه السورة بلفظ المعصية مع التصريح بأنها وجه النسيان ، وذكر ذلك أولاً مجملاً ثم أتبعه تفصيله ليكون ذلك مذكوراً مرتين ، تأكيداً للمعنى المشار إليه ، تقيراً وتحذيراً من الوقوع في منهيّ ، وإرشاد لمن ( غلب عليه ) طبع النقص إلى المباردة إلى الندم وتعاطي أسباب التوبة ليتوب الله عليه ما فعل بآدم عليه السلام فقال : ( وإذ ) أي اذكر هذا واذكر حين ) قلنا ( بما لنا من لعظمة ، أي اذكر قولنا في ذلك الوقت ) للملائكة ) أي المجبولين على مضي العزم والتصميم على القصد من غير مانع تردد ولا عائع فتور ) اسجدوا لآدم ( الذي خلقته بيدي ، فلم نأمرهم بذلك إلا بعد أن اصطفيناه ونحن عالمون بما سيقع منه ، وأنه لا يقدح في رتبة اصطفائه ، فإن الحلم والكرم من صفاتنا ، والرحمة من شأننا ، فلا تيأس من عودنا بالفضل والرحمة على من بالغ في مقاطعتنا من قومك الذين وصفناهم باللد ) فسجدوا ) أي الملائكة ) إلا إبليس ( الذي نسب الله إلى الجور والإخلال بالحكمة فكفر فايس من الرحمة وسلب الخير فأصر على إضلال الخلق بالتلبيس ، فكأنه قيل : ما كان من حاله في عدم سجوده ؟ فقيل : ( ابى ) أي تكبر على آدم فعصى أمر الله ) فقلنا ( بسبب ذلك بعد أن حملنا عنه ولم نعاجله بالعقوبة : ( ياآدم إن هذا ( الشيطان الذي تكبر عليك ) عدو لك ( دائماً لأن لبكبر الناشىء عن الحسد لا يزول ) ولزوجك ( لأنها منك ) فلا يخرجانكما ) أي لا تصغيا إليه بوجه فيخرجكما ، ووجه النهي إليه والمراد : هما ، تنبيهاً على أن لها من الجلالة ما ينبغي أن تصان عن أن يتوجه إليها نهي ، وأسند الإخراج إليه لزيادة التحذير والإبالغ في التنفير ، وزاد في التنبيه بقوله : ( من الجنة ) أي فإنه لا يقصر في ضركما وإرادة إنزالكما عنها .(5/51)
صفحة رقم 52
ولما نص سبحانه على شركتها له في الإخراج فكان من المعلوم شركتها له في آثاره ، وكانت المرأة تابعة للرجل ، فكان هو المخصوص في هذه الدار بالكل في الكد والسعي ، والذب والرعي ، وكان أغلب تعبه في أمر المرأة ، أفرد لاتحذير منه فقال : لذلك وعدّا لتعبها بالنسبة إلى تعبه عدماً ، وتعريفاً بأن أمرها بيده ، وهو إن تصلب قادها إلى الخير ، وغلا قادته إلى الضير ، وعبر عن التعب بالشقاء زيادة في التحذير منه فقال : ( فتشقى ) أي فتتعب ، ولم يرد شقاوة الآخر ، لأنه لو أرادها ما دخل الجنة بعد ذلك ، لأن الكلام المقدر بعد الفاء خبر ، والخبر لا يخلف .
ثم علل شقاوته على تقدير الإخراج بوصفها بما لا يوجد في غيرها من الأقطاب التي يدور علها كفاف الإنسان ، وهي الشبع والريّ والكسوة والكن .
ذاكراً لها بافظ النفي لنقائضها ليطرق سمعه بأسماء أصناف الشقوة التي حذره منها ليصير بحيث يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها ، فإذا مضت عليه القدرة الباهرة علم أنه لا يغني حذر من قدر ، فقال : ( إنك لك ) أي علينا ) ألا تجوع فيها ) أي يوماً ما ) ولا تعرى ( فلا يتجرد باطنك ولا ظاهرك ) وإنك لا تظمؤا ( بالتهاب القلب ) فيها ولا تضحى ) أي لا يكون بحيث يصيبك حر الشمي ، والمعنى أنه لا يصيبك حر في الباطن ولا في الظاهر ) فوسوس ) أي فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في الزمان أن وسوس ) إليه الشيطان ( المحترق المطرود ، وهو إبليس ، أي ألقى إليه وجه الخفاء بما مكناه من الجري في هذا النوع مجرى الدم ، وقذف المعاني في قلبه ، وكأنه عبر ب ( إلى ) ، لأن المقام لبيان سرعة قبول هذا النوع للنقائض وإن أتته من بعد ، أو لأنه ما أنهى إليه ذلك إلا بواسطة زوجه ، لذلك عدى الفعل عند ذكرهما بالام ، وكأنه قيل : ما دس إليه ؟ فقيل : ( قال يا آدم ( ثم ساق له الغش مساق العرض ، إبعاداً لنفسه من التهمة والغرض ؛ وشوقه غليه أولاً بقوله : ( هل أدلك ( فإن النفس شديدة الطلب لعلم ما تجهله ؛ وثانياً بقوله : ( على شجرة الخلد ) أي التي من أكل منها خلد ، فإن الإنسان أحب شيء في طول البقاء ؛ وثالثاً بقوله : ( وملك لا بيلى ) أي لا يخلق أصلاً ، فكأنه قال له بلسان الحال أو القال : نعم ، فقال : شجرة الخلد هذه - مشيراً غلى التي نهي عنها - ما بينك وبين الملك الدائم غلا أن تأكل منها .
) فأكلا ) أي فتسبب عن قوله وتعقب أم أكل ) منها ( هو وزوجه ، متعين لقوله ناسيين ما عهد إليهما ) فبدت لهما ( لما خرقا من ستر النهي وحرمته ) سوءاتهما ( وقوعاً لما حذرا منه من إخراجهما مما كانا فيه ) وطفقا ) أي شرعا ) يخصفن ) أي يخيطان أو(5/52)
صفحة رقم 53
يلصقان ) عليهما من ورق الجنة ( ليسترا عوراتهما ) وعصى ءادم ( وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً ، لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ودوام المراقبة مع ربط الجأش ويقظة الفكر ) ربه ) أي المحسن إليه بما لم ينله أحداً من بنيه من تصويره له بيده وإسجاد ملائكته له ومعاداة من عاداه ) فغوى ( من الغواية وهي الضلال ، ولذلك قالوا : المعنى : فضلّ عن طريق السداد ، فأخطأ طريق التوصل إلى الخلد بمخالفة أمره ، وهو صفيه ، لم ينزله عن رتبة الاصطفاء ، لأن رحمته واسعة ، وحلمه عظيم ، وعفوه شامل ، فلا يهمنك أمر القوم اللد ، فإنا قادرون على أن نتقبل بقلوب من شءنا منهم فنجعلهم من أصفى الأصفياء ، ونخرج من أصلاب من شئنا منهم من نجعل قلبه معدن الحكمة والعلم .
ولما كان الرضى عنه - مع هذا الفعل الذي أسرع فيه اتباع العدو وعصيان الولي بشيء لا حاجة به إليه - مستبعداً جداً ، أثبت ذلك تعالى مشيراً إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم احتباه ربه ( اي المحسن إليه ) فتاب عليه ) أي بسبب الاجتباء بالرجع إلى ما كان عليه من طريق السداد ) وهدى ( بالحفظ في ذلك كما هو الشأن في أهل الولاية والقرب .
طه : ( 123 - 127 ) قال اهبطا منها. .. . .
) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ( ( )
ولما كانت دور الملوك لا تحتمل مثل ذلك ، وكان قد قدن سبحانه عنايته بآدم عليه السلام اهتماماً به ، وكان الخبر عن زوجه وعن إبليس لم يذكر ، فكانت نفس السامع لم تسكن عن تشوفها إلى سماع بقية الخبر ، أجاب عن ذلك بأنه أهبط من دراه المقدسة الحامل على المخالفة والمحمول وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها ، فقال على طريق الاستئناف : ( قال ) أي الرب الذي انتهكت حرمة داره : ( اهبطا منها ( أيها الفريقان : آدم وتبعه ، وإبليس ) جميعاً ( .
ولما كان السياق لوقوع النسيان وانحلال العزم بعد أكيد العهد ، حرك العزم بعث(5/53)
صفحة رقم 54
الهم بإيقاع العداوة التي تنشأ عنها المغالبة ، فتبعث الهمم وتثير العزائم ، فقال في جواب من كأنه قال : على أيّ حال يكون الهبوط : ( بعضكم لبعض عدو ( وهو صادق بعداوة كل من الفريقين للفريق الآخر : فريق إبليس - الذين هم الجن - بالإضلال ، وفريق الإنس بالاحتراز منهم بالتعاويذ والرقى وغير ذلك ، وبعداوة بعض كل فريق لبعضه ) فإما ) أي فتسبب عن ذلك العلم بأنه لا قدرة لأحد منكم على التحرز من عدوه إلا بي ولا حرز لكم من قبلي إلا اتباع أمري ، فإما ) يأتينكم ) أي أيها الجماعة الذين هم أضلّ ذوي الشهوات من المكلفين ) مني هدى ( تحترزون به عن اتهوا العدو واستزلاله ) فمن اتبع ( عبر صيغة ( افتعل ) التي فيها تكلف وتتميم للتبع الناشىء عن شدة الاهتمام ) هداي ( الذي أسعفته به من أوامر الكتاي والرسول المؤيد بدلالة العقل ، وللتعبير بصيغة ( افتعل ) قال ( ) فلا يضل ) أي بسبب ذلك ، عن طريق السداد في الدنيا ولا في الآخرة أصلاً ) ولا يشقى ) أي في شيء من سعيه في واحدة منهما ، فإن الشقاء عقاب الضلال ، ويلزم من نفيه نفي الخوف والحزن بخلاف العكس ، فهو أبلغ مما في البقرة ، فإن المدعو غليه في تلك مطلق العبادة ، والمقام في هذه للخشية والبعث على الجد بالعداوة ) إلا تذكرة لمن يخشى ( وللإقبال على الذكر ) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ( والتحفظ من المخالفة ولو بالنسيان ) فنسي ولم نجد له عزماً ( .
قال الرازي في اللوامع : والشقاء : فراق العبد من الله ، والسعادة وصوله غليه ؛ وقال الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما : ضمن الله عز وجل لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ) ومن أعرض ( اي فعل دون فعل الرضيع بتعمد الترك لما ينفعه بالمجاورة ) عن ذكري ( الذي هو الهدى ) فإن له ( ضد ذلك ) معيشة ( حقرها سبحانه بالتأنيث ثم وصفها بأفظع وصف وهو مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع وغيره فقال : ( ضنكاً ) أي ذات ضنك اي ضيق ، لكونه على ضلال وإن رأى أن حاله على غير ذل في السعة والراحة ، فإن ضلاله لا بد أن يرديه ، فهو ضنك لكونه سبباً للضيق وآئلاً إليه ، من تسمية السبب باسم المسبب ، مع أن المعرض عن الله لا يشبع ولا يضل إلى أن يقنع ، مستولٍ عليه الحرض الذي لا يزال أن يطيح ببال من من يريد الزدياد من الدنيا ، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق ، عن مناوأة الخصوم ، وتعاقب الهموم ، مع أنه لا يرجو ثواباً ، ولا يأمن عقاباً ، فهو لذلك في أضيق الضيق ، لا يزال همه أكبر من وجده ( لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانياً ، ولو أن له واديين لا بتغى لهما ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من(5/54)
صفحة رقم 55
تاب ) متفق عليه عن أنس رضي الله عنه ، وهكذا حال من أتبع نفسه هواها ، وأما المقبل على الذكر بكليته فهو قانع راض بما هو فيه ، مستكثر ن ذكر الله الشارح للصدور الجالي للقلوب فهو أوسع سعة ، فلا تغتر بالصور وانظر غلى المعاني .
ولما ذكر حاله في الدنيا ، أتبعه قوله : ( ونحشره يوم القيامة أعمى ( وكان ذلك في بعض أوقات ذلك اليوم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خرج من القبر خرج بصيراً ، فإذا سيق إلى المحشر عمي ، أويكون ذلك - وهو أقرب مفهوم العبارة - في بعض أهل الضلال ليجتمع مع قوله
77 ( ) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ( ) 7
[ مريم : 38 ] وحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح من هذا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الظلم ظلمات يوم القيامة .
) ثم اتأنف قوله : ( قال ( مذكراً بالنعمة السابقة استعطافاً لأن من شأن مسلف نعمة أن يربيها وإن قصر المنعم عليه ، وغاية ذلك إنما يمون مهما بقي للصلح موضع : ( رب ) أي أيها المحسن إليّ المسبغ نعمه عليّ ) لم حشرتني ( في هذا اليوم ) أعمى وقد كنت ) أي في الدنيا ، أو في أول هذا اليوم ) بصيراً ( فكأنه قيل : بم أجيب ؟ فقيل : ( قال ( له ربه : ( كذلك ) أي مثل هذا الفعل الشنيع فعلت في الدنيا ، والمعنى : مثل ما قلت كان ؛ ثم فسر على الأول ، وعلل على الثاني ، فقال : ( أتتك ءاياتنا ( على عظمتها التي هي من عظمتنا ) فنسيتها ) أي فعاملتها بإعراضك عنها معامله المنسي الذي لا يبصره صاحبه ، فقد جعلت نفسك أعمى البصر والبصيرة عنها ، كما قال تعالى :
77 ( ) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي ( ) 7
[ الكهف : 101 ] أي ومثل ذلك النسيان الفظيع ، وقدم الظرف ليسد سوقه للمظروف ويعظم اختباره لفهمه فقال : ( اليوم تنسى ) أي تترك على ما أنت عليه بالعمى والشقاء بالنار ، فتكون كالشيء الذي لا يبصره أحد ولا يلتفت إليه ) وكذلك ) أي ومثل ذلك الجزاء الشديد ) نجزي من أسرف ( في متابعة هواه فتكبر عن متابعة أوامرنا ) ولم يؤمن بآيات ربه ( فكفر إحسانه إما بالتكذيب وإما بفعله فعل المكذب .
ولما ذكر أن هذا الضال كان في الدنيا معذباً بالضنك ، وذكر بعض ما له ف الآخرة ، قال مقسماً لما له من التكذيب : ( ولعذاب اللآخرة ( بأيّ نوع كان ) اشد ( من عذاب الدنيا ) وابقى ( منه ، فإن الدنيا دار زوال ، وموضع قلعة وارتحال .(5/55)
صفحة رقم 56
طه : ( 128 - 135 ) أفلم يهد لهم. .. . .
) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ( ( )
ولما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين ، وأحاديث المكذبين ، بسبب العصيان على الرسل ، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان ، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم فقال تعالى : ( أفلم يهد ) أي يبين ) لهم كم أهكنا قبلهم ( اي كثرة إهلاكنا لمن تقدمهم ) من القرون ( بتكذيبهم لرسلنا ، حال كونهم ) يمشون في مساكنهم ( ويعرفون خبرهم بالتورات خلفاً عن سلف أنا ننصر أولياءنا ونهلك أعدائنا ونفعل ما شئنا والأحسن أن لا يقدر مفعول ، ويكون المعنى : أو لم يقع لهم البيان الهادي ، ويكون ما بعده استئنافاً عيناً كما وقع البيان بقوله استئنافاً : ( إن في ذلك ) أي الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة ) لآيات ( عظيمات البيان ) لأولي النهي ) أي العقول التي من شا ، ها النهي عما لا ينفع فضلاً عنا يضر ، فإنها تدل بتواليها على عموم القدرة ، وعلى أنه تعالى لا يقر على الفساد وإن أمهل - إلى غير ذلك من له وازع من عقله .
ولما هددهم بإهلاك الماضيين ، ذكر سبب التأخير عنهم ، عاطفاً على ما أرشد إلى تقديره السياق ، وهو مثل أن يقال : فلو أراد سبحانه لعجل عذابهم : ( ولا كلمة ( اي عظيمة ماضية نافذة ) سبقت ) أي في الأزل ) من ربك ( الذي عودك بالإحسان بأنه يعامل بالحلم والأناة ، وأنه لا يستأصل مكذبيك ، بل يمد لهم ، ليرد من شاء منهم ويخرج من أصلاب بعضهم من يعبده ، وإنما ذلك إكراماً لك رحمة لأمتك لأنا كما قلنا أول السورة ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( بإهلاكهم وإن كانوا قوماً لداً ، ولا بغير ذلك ، زما أنزلناه غلا لتكثر أتباعك ، فيعملوا الخيرات ، فيكون ذلك زيادة في شرفك ، وإلى ذلك الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً ) ) لكان ( اي العذاب ) لزاماً ) أي لازماً أعظم لزوم لكل من أذنب عند(5/56)
صفحة رقم 57
أول ذنب يقع منه لشرفك عنده وقربك لديه ) و ( لولا ) أجل مسمى ( ضربه لكل شيء لكان الأمر كذلك أيضاً ، لكنه سبقت رحمته غضبه فهو لا يجعل ، وضرب الأجل فهو لا يأخذ قبله ، وكل من سبق الكلمة وتسمية الأجل مستقل بالإمهال فكيف إذا اجتمعا ، فتسبب عن العلم بأنه لا بد من استيفاء الأجل وإن زاد العاصي في العصيان تسليم الأمور إلى الله وعدم القلق في انتظار الفرج فقال : ( فاصبر على ما يقولون ( لك من الاستهزاء وغيره .
ولما كان الصبر شديداً على النفس منافراً للطبع ، لأن النفس مجبولة على النقائص ، مشحونة بالوسواس ، أمر منه لأجل من يحتاج إلى الكمال بما ينهض بها من حضيض الجسم إلى أوج الروح بمقامي التحلي بالكمالات والتخلي عن الرعونات ، وبدأ بالأول لأنه العون على الثاني ، وذكر أشرف الحلي فقال : ( وسبح بحمد ربك ( اي اشتغل بماينجيك من عذابه ، ويقربك من جنابه ، بأن تنزه من أحسن إليك عن كل نفص ، حال كونك حامداً له بإثبات كل كمال ، وذلك بأن تصلي له خاصة وتذكره بالذاكرين ، غير ملتفت إلى شيء سواه ) قبل طلوع الشمس ( صلاة الصبح ) وقبل غروبها ( صلاة العصر والظهر ؛ وغير السياق في قوله : ( ومن آناء اليّل ( اي ساعاته ، جمع إنو - بكسر ثم سكون ، أي ساعة ، لأن العبادة حينئذ أفضل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب ، لأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف فكانت افضل عند الله ) فسبح ) أي بصلاة المغرب والعشاء ، إيذاناً بعظمة صلاة الليل ، وكرر الأمر بصلاتي الصبح والعصر إعلاماً بمزيد فضلهما ، لأن ساعتيها أثناء الطي والبعث فقال : ( وأطاف النهار ( ويؤيد ما فهمته من أن ذلك تكرير لهما ما في الصحيحين عن جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا جلوساً عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ) ، ثم قرأ هذه الاية .
وإلا لم يكن في الآية مزيد حث عليهما خاصة ، على أن الفظ ( آناء وأطراف ) صالح لصلاة التطوع من الرواتب وغيرها ليلاً ونهاراً ، وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبغيض ، لأن الليل محل الراحة ، ونزعه من الأطراف لتيسير استغراقها بالذكر ، لأن النهار موضع النشاط واليقظة ، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المراد بما قبل الطلوع الصبح ، وما قبل الغروب العصر فقط ، وببعض الآناء المغرب والعشاء ، وأدخل الجار لكونهما وقتين ، وبجميع الأطراف الصبح والظهر والعصر ، لأن النهار له لربعة أطراف : أوله ، وآخره وآخر نصفه الأول ، وأول نصفه الثاني ، والكل مستغرق بالتسبيح ، ولذلك(5/57)
صفحة رقم 58
نزع الجار ، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر ، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها ، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين : التقديم والتكرير ، وإلى ذلك الإشارة بالحديث ، وإذا أريد إدخال النوافل حمات الأطراف على الساعات - والله الهادي .
ولما كان الغالب على الإنسان النسيان فكان الرجا عنده أغلب ، ذكر الجزاء بكلمة الإطماع لئلا يأمن فقال : ( لعلك ترضى ) أي افعل هذا لتكون على رجاء من أن يرضاك ربك فيرضيك في الدنيا والآخرة ، بإظهار دينك وأعلاء أمرك ، ولا يجعلك في عيش ضنك في الدنيا والآخرة ، ولا تكون كذلك إلا وقد أعطاك ربك جميع ما تؤمل .
ولما كانت النفس ميالة إلى الدنايا ، مرهونة بالحاضر من فاني العطايا ، وكان تخيلها عن ذلك هؤ الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها ، قال مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك : ( ولا تمدن ( مؤكداً له بالنون الثقيلة ) عينيك ) أي لا تطوّل نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها قاصداً للاستحسان ) إلى ما متعنا به ( بما لنا من العظمة التي لا ينقصها تعظم أعدائنا به في هذه الحياة الفانية ) أزواجاً ) أي أصنافاً متشاكلين ) منهم ( اي من الكفرة ) زهرة ) أي تمتيع ) الحياة الدنيا ( لا ينتفعون به في الآخرة لعدم صرفهم له في أوامر الله ، فهو مصدر من المعنى مثل جلست قعوداً ، ثم علل تمتيعهم بقوله تعالى : ( لنفتنهم فيه ) أي لنفعل بهم فعل المختبر ، فيمون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى ، وفي الآخرة بالعذاب الأليم ، فصورته تغر من لم يتأمل معناها حق التأمل ، فما أنت فيه خير مما هم فيه ) ورزق ربك ( الذي عود به أولياءه - وهو في دار السفر - الكفاف الطيب المقرون بالتوفيق ) خير ( من زهرتهم ، لأنه يكفي ولا يطغي وزادك ما يدني إلى جنابه فيعلي ) وأبقى ( فإنه وفقك لصرفه في الطاعة فكتب لك من أجره ما توفاه يوم الحاجة على وجه لا يمكن أحداً من الخلق حصره ، ةتكون الدنيا كلها فضلاً عما في ايديهم أقل من قطرة بالنسبة إلى بحره ، وإضافة رزقه دون رزقهم إليه سبحانه - وإن كان الكل منه - للتشريف ، وفي النعبير بالرب إيذان بالحل ، وفيه إشارة إلى ظهوره عليهم وحياته بعدهم كما هو الشأن في الصالحين الطالحين .
ولما أمر بتزكية النفس أتبعه الإعلام بأن منها تزكية الغير ، لأن ذلك أدل على الإخلاص ، وأجدر بالخلاص ، كما دل عليه مثل السفينة الذي ضربه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمن(5/58)
صفحة رقم 59
يأمر بالمعروف ومن يتركه فقال ) وأمر أهلك بالصلاة ( كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام ، ليقودهم إلى كل خير
77 ( ) إِنّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ والْمُنْكَر ( ) 7
[ العنكبوت : 45 ] ولم يذكر الزكاة لدخولها في التزهيد بالآية التي قبلها .
ولما كانت شديدة على النفس عظيمة النفع ، قال ) واصطبر ( بصيغة الافتعال ) عليها ) أي على فعلها ، مفرغاً نفسك لها وإن شغلتك عن بعض أمر المعاش ، لأنا ) لا نسألك رزقاً ) أي نكلفك طلبه لنفسك ولا لغيرك ، فإن ما لنا من العظمة يأبى أن نكلفك أمراً ، ولا نكفيك ما يشغلك عنه .
ولما كانت النفس بكليتها مصروفة إلى أمر المعاش ، كانت كأنها تقول : فمن أين يحصل الرزق ؟ فقال : ( نحن ( بنون العظمة ) نرزقك ( لك ولهم ما قدرناه لكم من أيّ جهة شئناً من ملكنا الواسع وإن كان يظن أنها بعيدة ، ولا ينفع في الرزق حول محتال ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا تدأبوا في تحصيله والسعي فيه ، فإن كلاًّ من الجاد فيه والمتهاون به لا يناله أكثر مما قسمناه له في الأزل ولا أقل ، فالمتقي لله المقبل على ذكره واثق بوعده انع راض فهو في أوسع سعة ، والمعرض متوكل على سعيه فهو في كد وشقاء وجهد وعناء أبداً ) والعاقبة ) أي الكاملة ، وهي التي لا عاقبة في الحقيقة غيرها ، وهي الحالة الجميلة المحمودةة التي تعقب الأمور ، أي تكون بعدها ) للتقوى ) أي لأهلها ، ولا معولة على الرزق وغيره توازي الصلاة ، فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة - أخرجه أحمد عن حذيفة وعلقه البغوي في آخر سورة الحجر ، وقال الطبراني في معجمه الأوسط : ثنا أحمد - هو ابن يحيى الحلواني - ثنا سعيد - هو ابن سليمان - عن عبدالله بن المبارك عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة ، ثم قرأ ) وأمر أهلك بالصلاة ( الآية .
لا يروى هذا الحديث عن عبدالله بن سلام إلا بهذا الإسناد ، تفرد به معمر ، وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير في تفسيره : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي عبد الله بن أبي زياد القطران ناسيارنا جعفر عن ثابت قال : كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أصابته خصاصة نادى أهله : ( يأهلاه صلوا صلوا ، )(5/59)
صفحة رقم 60
قال ثابت : وكان الأنباء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ، وقد روى الترميذي وابن ماجه كلاهما في الزهد - وقال الترميذي : حسن غريب - من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يقول الله تعالى : تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك .
( وروى ابن ماجة من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه : سمعت نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد ، كفاه الله هم دنياه ، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديتهاهلك .
( وروى أيضاً من حديث عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي اله عنه : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله أمر ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة .
( ولما قدم في هذه السورة ما ذكر من قصص الأولين وأخبار الماضين ، مبكتاً بذلك من أمر قريش بالتعنت من اليهود ، فلم يقدروا على إنكار شيء منه ولا توجيه طعن إليه ، وخلله ببدائع الحكم ، وغرائب المواعظ في ارشق الكلم ، وختم ذلك بأعظم داع إلى التقوى ، عجب منهم في كونهم لا يذعنون للحق أنفة من المجاهرة بالباطل ، أو خوفاً من سوء العواقب ، فقال : ( وقالوا ( ولعله عطف على ما يقدر في حيز قوله ) أفلم يهد لهم إلى قوله : إن في ذلك لآيات ( من أن يقال : وقد أبوا ذلك ولم يعدوا شيئاً منه ىية : ( لولا ) أي هلا ولم لا ) يأتينا ) أي محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) بآية ) أي مثل الأولين ) من به ( المحسن إليه ، دالة على صدقه .
ولما تضمن هذا أنهم لم يعدوا شيئاً من هذه البينات - التي أدلى بها على من تقدمه - آية مكابرة ، استحقوا الإنكار ، فقال : ( أولم ) أي ألم يأتهم من الآيات في هذا القرآن مما خصصتك به من الأحكام والحكم في أبلغ المعاني بأرشق النظوم ما أعجز بلغاءهم ، وأبكم فصحاءهم ، فدل قطعاً على أنه كلامي ، أو لم ) تأتهم بينة ما ) أي الأخبار التي ) في الصحف الأولى ( من صحف إبراهيم وموسى وعيسى وداود عليهم السلام في التوارة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب الإلهية كقصتي آدم وموسى المذكورتين(5/60)
صفحة رقم 61
في هذه السورة وغيرهما مما تقدم قصة لها كما هي عند أهلها على وجوه لا يعلمها إلا قليل من حذاقهم من غير أن يخالط عالماً منهم أو من غيرهم ، ومن غير أن يقدر أحد منهم على معارضته ما أتى به في قصتها من النظم المنتج قطعاً أنه لا معلم له إلا الله المرسل له ، وأن أتى به منها شاهد لما في الصحف الأولى من ذلك بالصدق ، لأنه كلام الله ، فهو بينة على غيره لإعجازه ، فجميع الكتب الإلهية مفتقرة إلى شهادته افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة ، ولا افتقار له بعد العجز عنه إلى شيء أصلاً ، فهو أعظم من آيات جميع الأنبياء اللاتي يطلبون مثلها بما لا يقايس .
ولما تبين بذلك أنهم يطعنون بما لا شبهة لهم فيه أصلاً ، أتبعه ما كان لهم فيه نوع شبهة لو وقع ، فقال عاطفاً على ) ولولا كلمة : ( ولو أنا أهلكناهم ( معاملة لهم في عصيانهم بما يقتضيه مقام العظمة ) بعذاب من قبله ) أي من قبل هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها ، وفي قوله ) ولا تعجل بالقرآن ( صريحاً ، وكذا في مبنى السورة ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( ) لقالوا ( يوم القيامة : ( ربنا ( يا من هو متصف بالإحسان إلينا ) لولا ) أي هلا ولم لا ) أرسلت ( ودلوا على عظمته وعلو رتبته بحرف الغاية فقالوا : ( إلينا رسولا ) أي يأمرنا بطاعتك ) فنتبع ) أي فيتسبب عنه أن نتبع ) آياتك ( التي يجيئنا بها .
ولما كان اتباعهم لا يستغرق زمان القبل قالوا : ( من قبل أن نذل ( بالعذاب هذا الذل ) ونخزى ( بالمعاصي التي عملناها على جهل هذا الخري فلأجل ذلك أرسلناك إليهم وأقمنا بك حجة عليهم ، ونحن نترفق بهم ، ونكشف عن قلوب من شئنا منهم ما عليها من الرين بما ننزل من الذكر ونجدد من الآيات حتى نصدق أمرك ونعلي شأنك ونكثر أباعك وننصر أشياعك .
ولما علم بهذا أن إيمانهم كالمتنع ، وجدالهم لا ينقطع ، بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه ، وإن عذبوا فبله تظلموا ، كان كأنه قيل : فما الذي أفعل معهم ؟ فقال : ( قل كل ) أي مني ومنكم ) متربص ) أي منتظر حسن عاقبة أمره ودوائر الزمان على عدوه ) فتربصوا ( فإنكم كالبهائم ليس لكم تأمل ، ولا تجوزون الجائز إلا عند وقوعه ) فستعلمون ( اي عما قريب بوعد لا خلف فيه عند كشف الغطاء ) من أصحاب الصراط ( اي الطريق الواضح الواسع ) السويّ ) أي الذي لا عوج فيه ولا نتوّ ، فهو من شأنه أن يوصل إلى المقاصد .
ولما كان صاحب الشيء قد لا يكون عالماٍ بالشيء ولا عاملاً بما يعلم منه ، قال ) ومن اهتدى ( اي من الضلالة فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره ، (5/61)
صفحة رقم 62
نحن أم أنتم ؟ ولقد علموا يقيناً ذلك يوم فتح مكة المشرفة ، واشتد اغتباطهم بالإسلام ، ودخلوا رغبة في الحلم والكرم ، ورهبة من السيف والنقم ، وكتنوا بعد ذلك يعجبون من توقفهم عنه ونفرتهم منه ، وهذا معناه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ومن اتبعه هم السعداء الأغنياء الراضون في الدنيا والآخرة ، وهو عين قوله تعالى : ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( فقد انطبق لآخر على الأول ، ودل على أن العظيم يعامل بالحلم فلا يعجل - والله أعلم .
.. .. . .(5/62)
صفحة رقم 63
سورة الأنبياء
مقصودها الاستدلال على تحقق الساعة وقربها ولو بالموت ، ووقوع الحساب فيها على الجليل والحقير ، لأن موجدها لا شريك له يعوقه عنها ، وهن من لا يبدل القول لديه ، والدال على ذلك أوضح دلالة مجموع قصص جماعة ممن ذكر فيها من الأنبياء عليهم السلام ، ولا يستقل قصة منها استقلالا ظاهرا بجميع ذلك كما سنبين ، ولا يخلو قصو من قصصهم من دلالة على شيء من ذلك فنسبت إلى الكل - والله الموفق .
الأنبياء : ( 1 - 4 ) اقترب للناس حسابهم. .. . .
) اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ( )
) بسم ( الحكيم العدل الذي تمت قدرته وعم أمره ) الله ( الملك الذي لا كفوء له ) الرحمن ( الذي ساوى بين خلقه في رحمة إيجاده ) الرحيم ( الذي ينجي من شاء من عباده في معاده .
لما ختمت طه بإنذارهم بأنهم سيعلمون الشقي والسعيد ، وكان هذا العلم تارة يكون في الدنيا بكشف الحجاب بالإيمانن وتارة بمعانية ظهور الدينن وتارة بإحلال العذاب بإزهاق الورح بقتل أو غيره ، وتارة ببعثها يوم الدين ، افتتحت هذه بأجلى ذلك وهو اليوم الذي يتم فيه كشف الغطاء فينتقل فيه الخبر من علم اليقين إلى عين اليقين وحق اليقين وهو يوم الحساب ، فقال تعالى : ( اقترب للناس ) أي عامة أنتم وغيركم ) حسابهم ) أي في يوم القيامة ؛ وأشلر بصيغة الافتعال غلى مزيد القرب لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها ، وأخر الفاعل تهويلاً لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب ، ويصح أن(5/63)
صفحة رقم 64
يراد بالحساب الجزاء ، فيكون ذلك تهديداً بيوم بدر والفتح ونحوهما ، ويكون المراد بالناس حينئذ قريشاً أو جميع العرب ، والحساب : إحصاء الشيء والمجازاة عليه بخير أو شر ) وهم ) أي الحال أنهم من أجل ما في جبلاتهم من النوس ، وهو الاضطراب الموجب لعدم الثبات على حالة الأمن ، أنقذه الله منهم من هذا النقص وهم قليل جداً ) في غفلة ( فهي تعليل لآخر تلك على ما تراه ، لأنهم إذا نشروا علموت ، وإذا أبادتهم الوقائع علموا هم بالموت ، ومن بقي منهم بالذل المزيل لشماخة الكبر ، أهل الحق من أهل الباطل ، وقوله : ( معرضون ( كالتعليل للغفلة ، أي أحاطت بهم الغفلة بسبب إعراضهم عما يأتيهم منا ، وسيأتي ما يؤيد هذا في قوله آخرها ) بل كنا ظالمين ( وإلا فالعقول قاضية بأنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما تقدم قوله سبحانه
77 ( ) لا تمدن عينيك - إلى قوله - فستعلمون من اصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ( ) 7
[ طه : 131 ] قال تعالى ) اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) أي لا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة لمن ناله بغير حق ، ونسأل عن قليل ذلك وكثيره
77 ( ) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ لنَّعِيمِ ( ) 7
[ التكاثر : 8 ] والأمر قريب ) اقترب الناس حسابهم ( وأيضاً فإنه تعالى لما قال
77 ( ) تنذر به قوما لدا ( ) 7
وهم شديدو الخصومة في الباطل ، ثم قال
77 ( ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن ( ) 7
[ مريم : 74 ] إلى آخرها ، استدعت هذه الجملة بسط حال ، فابتدئت بتأنيسه عليه الصلاة السلام وتسليتة ، حتى لا يشق عليه لددهم ، فتضمنت سورة طه من هذا الغرض بشارته بقوله
77 ( ) ما أنزلنا عليك القرآن اتشقى ( ) 7
[ طه : 2 ] وتأنيسه بقصة موسى عليه السلام وما كان من حا ل بني إسرائيل وانتهاء أمر فرعون ومكابدة موسى عليه السلام لرد فرعون ومرتكبه إلى أن وقصه الله ، وأهلكه ، وأورث عباده أرضهم وديارهم ، ثم اتبعت بقصة آدم عليه السلام ليرى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) سنته في عباده حتى أن آدم عليه السلام وإن لم يكن امتحانه بذريته ولا مكابدته من أبناء جنسه - فقد كابد من إبليس ما قصه الله في كتابه ، وكل هذا تأنيس للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإنه إذا تقرر لديه أنه سنة الله تعالى في عبادة هان عليه لدد قريش ومكابدتهم ، ثم ابتدئت سورة الأنبياء ببقية هذا التأنيس ، فبين اقتراب الحساب ووقوع يوم الفصل المحمود فيه ثمرة ما كوبد في ذات الله والمتمنى فيه أن لو كان ذلك أكثر والمشقة أصعب لجليل الثمرة وجميل الجزاء ، ثم اتبع ذلك سبحانه بعظات ، ودلائل وبسط آيات ، وأعلم أنه سبحانه قد سبقت سنته بإهلاك من لم يكن منه الإيمان من متقدمي القرون وسالفي الأمم
77 ( ) ما ءامنت قبلهم من قرية أهلكناها ( ) 7
[ الأنبياء : 6 ] وفي قوله
77 ( ) أفهم يومنون ( ) 7
[ الأنبياء : 6 ] تعزية لرسول الله(5/64)
صفحة رقم 65
( صلى الله عليه وسلم ) في أمر قريش ومن قبل ما الكلام بسبيله ، وقد تضمنت هذه السورة إلى ابتداء قصة إبراهيم عليه السلام من المواعظ والتنبيه على الدلالات وتحريك العباد إلى الاعتبار بها مايعقب لمن اعتبر به التسليم والتفويض لله سبحانه والصبر علىالابتلاء وهو من مقصود السورة ، وفي قوله
77 ( ) ثم صدقناهم الوعد فأنجناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ( ) 7
[ الأنبياء : 9 ] إجمال لما فسره النصف الأخير منهذه السورة من تخليص الرسل عليهم السلام من قومهم وإهلاك من أسرف وأفك ولم يؤنم ، وفي ذكر تخليص الرسل وتأييدهم الذي تضمنه النصف الأخير من لدن قوله
77 ( ) ولقد ءاتينا إبراهيم رشده ( ) 7
[ الانبياء : 51 ] إلى آخر السورة كمال الغرض المتقدم من التأنيس وملاءمة ما تضمنته سورة طه وتفسير لمجمل
77 ( ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ( ) 7
[ مريم : 98 ] انتهى .
ولما أخبر سبحانه عن غفلتهم وإعراضهم ، علل ذلك بقوله : ( ما يأتيهم ( وأعرق في النفي بقوله : من ) ذكر ) أي وحي يذكر بما جعل في العقول من الدلائل عليه سبحانه ويوجب الشرف لمن أتبعه ) من ربهم ( المحسن إليهم بخلقهم وتذكيرهم ، قديم لكونه صفة له ) محدث ( إنزاله ) إلا استمعوه ) أي قصدوا سماعه وهو أجد الجد بالاستهزاء به ووضعه في غير مواضعه وجعلهم استماعهم له لإرادة الطعن فيه ، فهو قريب من قوله
77 ( ) لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه ( ) 7
[ فصلت : 26 ] ) لا هية قلوبهم ) أي غارقة قلوبهم في اللهو ، مشغولة به عما حداها إليه القرآن ، ونبهها عليه الفرقان ، وحذرها منه البيان ، - انتهى .
ويمكن أن يراد بالناس مع هذا كله العموم ويكون من باب قوله تعالى
77 ( ) وما قدروا الله حق قدره ( ) 7
[ الأنعام : 91 ] وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أحصي ثناء عليك ) وأن يخص بالكفار .
ولما ذكر ما يظهرونه في حال الاستماع من اللهو واللعب ، ذكر ما يخفونه من التشارو في الصد عنه وإعمال الحيلة في التنفير منه والتوثق من بعضهم لبعض في الثبات على المجانية له فقال عاطفاً على ) استمعوا ( : ( وأسروا ( اي الناس المحدث عنهم ) النجوى ) أي بالغوا في إسرار كلامهم بسبب الذكر ، لأن المناجاة في اللغة السر - كذا في القاموس ، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه : والنجوى : الكلام بين اثنين كالسر والتشاور .
ولما أخبر بسوء ضمائرهم ، أبد من ضميرهم ما دل على العلة الحاملة لهم على(5/65)
صفحة رقم 66
ذلك فقال : ( الذين ظلموا ( ثم بين ما تناجوا به فقال : ( هل ) أي فقالوا في تناجيهم هذا ، معجبين من ادعائه من ادعائه النبوة مع مماثلته لهم في البشرية : هل ) هذا ( الذي أتاكم بهذا الذكر ) إلا بشر مثلكم ) أي خلقه وأخلاقه من الأكل والشب والحياة والموت ، فكيف يختص عنكم بالرسالة ؟ ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له ، فحينئذ تسبب عن هذا الإنكار في قولهم : ( أفتأتون السحر وأنتم ) أي والحال أنكم ) تبصرون ( بأعينكم أنه بشر مثلكم ، وببصائركم أن هذه الخوارق التي يأتي بها يمكن أن تكون سحراً ، فيا لله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم فم يجزوا أن يكون عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان وجزموا بأنه من الشيطان الداعي إلى الهوان ، باصطلاء النيران ، والعجب أيضاً أنهم أمكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم لما يخص الله به بعض الناس عن بعض الذكاء والفطنة ، وحسن الخلائق والأخلاق ، والقوة والصحة ، وطول العمر وسعة الرزق - ونحو ذلك من القيافة والعيافة والرجز والكهانة ، ويأتون أصحابها لسؤالهم هما عندهم من ذلك من العلم .
ولما كان الله تعالى لا يقر من كذب عليه ، فضلاً عن أن يصدقه ويؤيده ، ولا يخفى عليه كيد حتى يلزم منه نقص ما أراده ، قال دالاً لهم على صدقه منبهاً على موضع الجحة في أمره - على قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وجوباً لمن كأنه قال : فماذا يقال لهؤلاء ؟ - على قاءة الباقين : ( قال ربي ( المحسن إليّ بتأييدي بكل ما يبين صدقي ويحمل على أتباعي ) يعلم القول ( سواء كانن سراً أو جهراً .
ولما كان من يسمع من هاتين المسافتين يسمع من أيّ مسافة فرضت غيرهما قطعاً ، لم يحتج إلى جمع على أنه يصح إرادة لالجنس فقال : ( في السماء والأرض ( على حد سواء ، لأنه لا مسافة بينه وبين شيء من ذلك ) وهو ) أي وحده ) السميع العليم ( يسمع كل ما يمكن سمعه ، ويعلم كل ما يمكن علمه من القول وغيره ، فهو يسمع سركم ، ويبطل مكركم ، ويسمع ما أنسبه إليه من هذا الذكر ، فلو لم يكن عنه لزلزل بي ، وقد جرت سنته القديمة في الأولين ، بإهلاك المكذبين ، وتأييد الصادقين ، وإنجائهم من زمن نوح عليه السلام إلى هذا الزمان ، ولعلمه بحال الفريقين .
وستعلموون لمن تكون له العقبة ، وقد أشار إلى هذا في هؤلاء الأنبياءء عليهم السلام الذين دل بقصصهم في هذه السورة على ما تقدمها من الأحكام والقاضايا
77 ( ) وكنا به عالمين ( ) 7
[ الأنبياء : 51 ]
77 ( ) إذ قال لأبيه وقومه وكنا لحكمهم شاهدين ( ) 7
و
77 ( ) كنا بكل شيء عالمين ( ) 7
[ الأنبياء : 88 ]
77 ( ) وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ( ) 7
[ الأنبياء : 109 ]
77 ( ) أنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ( ) 7
[ الأنبياء : 110 ]
77 ( ) إن الأرض يرنه عبادي(5/66)
صفحة رقم 67
الصالحون ( ) [ الأنبياء : 105 ] ) ) ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ( ) [ النور : 55 ] .
الأنبياء : ( 5 - 9 ) بل قالوا أضغاث. .. . .
) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ ( ( )
ولما كانت أقوالهم في أمر القرآن قد اضطربت ، والإضطراب من أمارات الباطل ، وكان وصفهم له بأنه سحر مما يهول السامع ويعلم منه أنه معجز ، فربما أدى إلى الاستبصار في أمره ، أخبر أنهم نزلوا به عن رتبة السحر على سبيل الاضطراب فقال : ( بل قالوا ) أي عن هذا الذكر الحكيم أنه ) أضغاث أحلام ) أي تخاليط نائم مبناه الباطل وإن كان ربما صدق بالأخبار ببعض المغيبات التي كشف الزمان عن أنها كما أخبر القرآن ، ثم أنزلوا عن ذلك إلى الوصف موجب لأعظم النفرة عنه وعمن ظهر عنه فقالوا : ( بل افتراه ) أي تعمد وصفه من عند نفسه ونسبه إلى الله .
ولما كان ذلك لا ينافي كون مضمونه صادقاً في نفسه ، قالوا ) بل هو شاعر ) أي يخيل ما لا حقيقة له كغيره من الشعراء ، تتربص به ريب المنون لأنه بشر كما تقدم ، فلا بد أن يموت ونستريح بعد موته ، وإليهه أشار في آخر التي قبلها ) ) قل كل متربص ( ) [ طه : 135 ] إلى أخره ، فاضطربت أقوالهم وعوّلوا أخيراً على قريب من السحر في نفي الحقيقة .
ولما كانوا يصفون القرآن بجميع هذه الأوصاف جملة ، يقولون لكل شخص ما رأوه أنسب له منها ، نبه الله سبحانه كل من له لب على بطلانها بتناقضها بحرف الإضراب إشارة إلى أنه كان يجب على من قالها على قلة عقله وعدم حيائه أن لا ينتقل إلى قول منها إلا بعد الإعراض عن الذي قبله ، وأنه مما يضرب عنه لكونه غلطاً ، ما قيل إلا عن سبق لسان وعدم تأمل ، ستراً لعناده وتدليساً لفجونه ، ولو فعل ذلك لكانت جديرة بانكشاف بطلانها بمجرد الانتقال فكيف عند اجتماعها .
ولما كانت نسبته إلى الشعر أضعافاً شأناً ، وأوضحها بطلاناً ، لم يحتج إلى إضراب عنه ، وعبروا في الأضغاث بوصف القرآن تأكيداً لعيبه ، وفي الافتراء والشعر بوصفه ( صلى الله عليه وسلم ) لذلك .
ولما نتج لهم ذلك على زعمهم القدح في أعظم المعجزات ، سببوا عن هذا(5/67)
صفحة رقم 68
القدح طلب آية فقالوا : ( فليأتنا ) أي دلايلاً على رسالته ) بآية ) أي لأنا قد بينا بطعننا أ ، القرآن ليس بآية ؛ ثم خيلوا النصفة بقولهم : ( كما ) أي مثل ما ، وبنوا الفعل للمفعول إشارة إلى أنه متى صحت الرسالة كان ذلك بزعمهم من غير تخلف لشيء أصلاً فقالوا : ( أرسل الأولون ) أي بالآيات مثل تسبيح الجبال ، وتسخير الريح ، وتفجير الماء ، وإحياء الموتى ، وهذا تناقض آخر في اعترافهم برسالة الأولين مع معرفتهم أنهم بشر ، وإنكارهم رسالته صلى الله عليه وشسلم لكون بشراً ، ولم يستجيبوا بعد التناقض من المكابرة فيما أتاهم به من انشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ، ونبع الماء ، والقرآن المعجز ، مع كونه أمياً - إلى غير ذلك .
ولما أشار سبحانه إلى فساد طعنهم بما جعله هباء منثوراً ، وتضمن قولهم الذي سببوه عنه القرار بالرسل البشريين وىياتهم ، أتبعه بيان ما عليهم فيه ، فين أولاً أن الآيات تكون سبباً للهلاك ، فقال جواباً لمن كأنه قال : رب إلى ما اقترحوه ليؤمنوا : ( ما ءامنت ) أي بلإجابة لى الآيات المقترحات .
ولما كان المراد استغراق الزمان ، جرد الظرف عن الخافض فقال : ( قبلهم ) أي قبل كفار مكة المقترحين عليك ، وأعرق في النفي فقال : ( من قرية ( ولما كان المقصود التهويل في الأهلاك ، وكان إهلاك القرية دالاً على إهلاك أهلها ن غير عكس ، دل على إهلاك جميع المعاندين : ( أهلكنها ) أي على كثرتهم
77 ( ) وكم أهلبكنا قبلهم من القرون من بعد نوح ( ) 7
[ الإسراء : 17 ] ،
77 ( ) وما أهلكنا من قرية إلا ولهم منذرون ( ) 7
[ الشعراء : 208 ] ،
77 ( ) وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ( ) 7
[ الإسراء : 15 ] ( وما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عيه البشر ) وأشار بذلك لى أنه لم يسلم عند البأس إلا قرية واحدة وهم قوم يونس لأنهم آموا عند رؤيسة المخايل وقيل الشروع في الإهلاك ، وهو إشارةة إلى أن سبب الإيمان مشيئنه سبحانه لا الايات .
ولما بين أولاً أن الآيات تمون سبباً للهلاك ، فلا فائدة في الإجابة إلى ما اقترحوه منها بعد بطلان ما قدحوا به في القرآن ، بيّن ثانياً بطلان ما قدحوا به في الرسول بكونه بشراً ، بأن الرسل الذين كانوا من قبله كانوا بإقرارهم من جنسه ، فما لهم أن(5/68)
صفحة رقم 69
ينكروا رسالته هو مثلهم ، بل عليهم أن يعترفوا له عندما أظهر من المعجز كما اعترفوا لأولئك ، كل ذلك فطماً عن أنن يتمنى أحد إجابتهم إلى الأييد بملك ظاهر ، فقال عاطفاً على ما ( آمنت ) : ( وما أرسلنا ( .
ولما كان السياق لإنكار أن يكون النبي بشراً ، وكان الدهر كله ما خلا قط جزء منه من رسالة ، إما برسول قائم ، وإما بتناقل أخباره ، كان تعميم الزمان أنسب فقال من غير حرف جر : ( قبلك ) أي في دجميع الأزمان الذي تقدم زمانك في جميع طوائف البشر ) إلا رجلاً نوحي إليهم ( بالملائكة سراً من غير أن يطلع على ذلك الملك غيرهم كما اقتضته العظمة من التخصيص والاختيار والإسرار عن الأغيار ، وذلك من نعم الله على خلقه ، لأن جعل الرسل من البشر أمكن للتلقي منهم والأخذ عنهم .
ولما لم يكن لهم طريق في علم هذا إن يقبلوا خبره عن القرآن إلا سؤال من كانوا يفوعون إليهم من أهل الكتاب ليشايعوهم على ما هم عليه من الشك والارتياب ، قال : ( فاسألوا أهل الذكر ( ثم نبه على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما كان قد بلغهم على الآجال من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإساعيل وغيرهم عليهم الصلاة والسلام بقوله ، معبراً بأداة الشكك محركاً لهم إلى المعالي : ( إن كنتم ) أي بجبلاتكم ) لا تعلمون ) أي لا أهلية لك في انتقاص علم ، بل كنتم أهل تقليد محض وتبع صرف .
ولما بين أنه على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلاً ، بين أنه على سنتهم فب جميع الأوصاف التي حكم بها على البشر من العيش والموت فقال : ( ) وما جعلناهم ( ) أي الرسل الذين اخترنا بعثهم إلى الناس ليأمروهم بأومرنا .
ولما كان السبب في الأكل ترتيب هذا الهيكل الحيواني على ما هو عليه لا كونه متكثراً ، وحد فقال ) جسداً ) أي ذوي جسد لحم ودم متصفين بأنهم ) لا يأكلون الطعام ( بل جعلناهم أجساداً يأكلون ويشربون ، وليس ذلك بمانع من إرسالهم ؛ قا لابن فارس في المجمل : وفي كتاب الخليل : إن امظهر
لجسد لا يقال لغير الإنسان من خلق الأرض .
ثم عطف على الأول قوله : ( وما كانوا خالدين ) أي بأجسادهم ، بل ماتوا كما مات الناس قبلهم وبعدهم ، أي لم يكن ذلك في جبلتهم وإنمكا تميزوا عن الناس بمات يأتيهم عن الل سبحانه ، ورسولكم ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بخالد ، فتربصوا كما أشار إليه ختم طه فإنه متربص بكم وأنتم عاصون للمك الذي اقترب حسابه لخلقه وهو مطيع له ، فأيكم أحق بالأمن ؟ ولما بين أن الرسل كالمرسل إليهم بشرل غير خالدين ، بين سنته فيهم وفي أممهم ترغيباً لمن اتبع ، وترهيباً لمن امتنع ، فقال عاطفاً بأداة التراخي في مظهر العظمة على ما(5/69)
صفحة رقم 70
أرشد إليه التقدير من مثل : بل جعلناهم جسداً يأكلون ويشربون ، ويعيشون إلى انقضاء آجالهم ويمتون ، وأرسلناهم إلى أممهم فحذروهم وأنذروهم وكلموهم كما أمرناهم ، ووعدناهم أن من آمن بهم أسعدناه ، ومن كفر واستمر أشقيناه ، وأنا نهلك من أردنا من المكذبينن فآم بهم بعض وكفر آخرون ؛ فلم نعاجلهم بالأخذ بل صبرنا عليهم ، وطال بلاء رسلنا بهم ) ثم صدقناهم ( بما اقتضت عظمتنا ، وأكد الأمر بتعدية الفعل من غير حرف الجر فقال : ( الوعد ) أي بإنجائهم ؛ وأشار بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم وصبرهم عليهم ، ثم أحل بهم سطوته ، وأراهم عظمته ، ولذا قال مسبباً عن ذلك : ( فأنجيناهم ) أي الرسل بعظمتنا ، ولكون السياق لأنهم في غاية الغفلة التي نشأ عنها التكذيب البليغ الذي اقتضى تنويع القول به إلى سحر وأضغاث وافتراء وشعر ، فاقتضى مقابلته بصدق الوعد منه سبحانه ، عبر بالإنجاء الذي هو إقلاع من وجدة العذاب في غاية السرعة ) ومن نشآء ) أي من تابيعهم .
إشارة إلى أن سبب الإنجاء المشيئة لا أن التصديق موجب له ، لأنه لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء ) وأهلكنا ) أي بما يقتضيه الحكمة ) المسرفين ( كلهم الذين علمنا أن الإسراف لهم وصف لا زم لا ينفكون عنه .
الأنبياء : ( 10 - 15 ) لقد أنزلنا إليكم. .. . .
) لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ يوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ( ( )
ولما انقضى ما لزمهم بسبب الإقرار برسلية البشر من الإقرار برسلية رسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) لمونه مساوياً لهم في النوع والإتيان بالمعجز ، وما فعل بهم وبأممهم ترغيباً وترهيباً ، وختم ذلك بأنه أباد المسرفين ، ومحا ذكرهم إلا بالبشر ، التفت إلى الذكر الذي طعنوا فيه ، فقال مجيباً لمن كأنه قال : هذا الجواب عن طعن في الرسول قد عرف ، فما الجواب عن الطعن في الذكر ؟ معرضاً عن جوابهم لما تقدم من الإشارة بحرف الإضراب إلى أن ما طعنوا به فيه لا يقوله عاقل ، مبيناً لما لهم فيه من الغبطة التي هم لها رادون ، والنعمة التي هم بها كافرون : ( لقد ) أي وعزتنا لقد ) أنزلنا ( بما لنا من العظمة ) إليكم ( يا معشر قريش بل العرب قاطبة ) كتاباً ) أي جامعاً لجميع المحاسن لا يغسله الماء ولا يحرقه النار ) فيه ذكركم ( طوال الدهر بالخير إن أطعتم ، والشر إن عصيتم ، وبه شرفكم على سائر الأمم بشرف ما فيه من مكارم الأخلاق التي كنتم تتفاخرون بها وبشرف نبيكم الذي تقولون عليه الأباطيل ، وتكثرون فيه القال والقيل .(5/70)
صفحة رقم 71
ولما تم ذلك على هذا الوجه ، نبه أنه يتعين على كل ذي لب الإقبال عليه والمسارعة إليه ، فحسن جداً قوله منكراً عليهم منبهاً على أن علم ذلك لا يحتاج إلى غير العقل المجرد عن الهوى : ( أفلا تعقلون ( .
ولما كان التقدير : فإن عدلتم بقبوله شرفناكم ، وإن ظلمتم برده عناداً أهلكناكم كما أهلكنا من كان قبلكم ، عطف عليه قوله : ( وكم قصمنا ) أي بعظمتنا ) من قرية ( جعلناها كالشيء اليابس الذي كسر فتباينت أجزاؤه ، والإناء الذي فت فانكب ماؤه ؛ وأشار بالقصم الذي هو أفظع الكسر إلى أنها كانت باجتماع الكلمة وشدة الشكيمة كالحجر الرخام في الصلابة والقوة ، و ( كم ) في هذا السياق يقتضي الكثرة ، ثم علل إهلاكها وانتقالها بقوله : ( كانت ظالمة ( ثم بين الغنى عنها بقوله : ( وأنشأنا ) أي بعظمتنا .
ولما كان الدهر لم يخل قط بعد آدم من إنشاء وإفناء ، فكان المراد أن الإنشاء بعد الإهلاك يستغرق الزمان على التعاقب ، بياناً لأن المهلكين ضروا أنفسهم من غير افتقار إليهم ، اسقط الجار فقال : ( بعدها قوماً ) أي الأقوياء ، وحقق أنهم لا قرابة قريبة بينهم بقوله : ( ءاخرين ( ثم بين حالها عند إحلال البأس بها فقال : ( فلما أحسوا ( اي أدرك أهلها بحواسهم ) باسنا ( اي بما فيه من العظمة ) إذا هم ) أي من غير توقف أصلاً ) منها ) أي القرية ) يركضون ( هاربين عنها مسرعين كمن يركض الخيل - أي يحركها - للعدو ، بعد تجبرهم على الرسل وقولهم لهم
77 ( ) لنخرجكم من أرضنا أو لتعدن في ملتنا ( ) 7
[ إبراهيم : 13 ] فنادهم لسان الحال تقريعاً تبشيعاً لحالهم وتفظيعاً : ( لا تركضوا ( وصور التهكم بهم بأعظم صورة فقال : ( وارجعوا ( إلى قريتكم ) إلى ما ( .
ولما كان الاسيف إنما هو على العيش الرافه لا على كونه من معط معين ، بني للمفعول قوله : ( أترفتم فيه ) أي منها ، ويجوز أن يكون بني للمجهول إشارة إلى غفلتهم عن العلم لمن أترفهم أو إلى أنهم كانوا ينسبون نعمتهم إلى قواهم ، ولو عدوها من الله لشكروه فنفعهم .
ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن ، قال : ( ومساكنهم ) أي التي كنتم تفتخون بها على الضعفاء من عبادي بما أتقنتم من بنائها ، وأوسعتم من فنائها ، وعليتم من مقاعدها ، وحسنتمك نم مشاهدها ومعاهدها ) لعلكم تسألون ( في الإيمان بما كنتم تسألون ، فتابوا بما عندكم من الأنفة ومزيد الحمية والعظمة ، أو تسألون في الحوائج والمهمات ، كما يكون الرؤساء في مقاعدهم العلية ، ومراتبهم البهية ، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا على تؤدة وأحووال مهل تخالف أحوال الراكض العجل
77 ( ) أولم تكنوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ( ) 7
[ إبراهيم : 44 ] .(5/71)
صفحة رقم 72
ولما كان كأنه قيل : بما أجابوا هذا المقال ؟ قيل ) قالوا ( حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس : ( ياويلنا ( إشارة إلى أنه حل بهم لأنه لا ينادي إلا القريب ، وترفقاً له كما يقول الشخص لمن يضربه : يا سيدي - كأنه يستغيث به ليكف عنه ، وذلك غباوة منهم ، وعمى عن الذي أحلهه بهم ، لأنهم كالبهئم لا ينظرون إلا السبب الأقرب ؛ ثم عللو حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم : ( إنا كنا ) أي جبلة لنا وطبعاً ) ظالمين ( حيث كذبنا الرسل ، وعصينا أر ربنا ، فاعترفوا حيث لم ينفعهم الاعتراف لفوات محله ) فما ) أي فتسبب عن إحلالنا ذلك البأس بهم أنه ما ) زالت تلك ) أي الدعوة البعيدة عن الخير والسلامة ، وهي فولهم : ياويلنا ) دعواهم ( يرددونها لا يكون دعوى لهم غيرها ، لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم ، وترفقهم له غير نافعهم ) حتى جعلناهم ( بما لنا من العظمة ) حصيداً ( كالزرع المحصود .
ولما كان هذا وما بعده مثل حلو حامض في الزمان ، جعلا خبراً واحدداً ليكون ( جعل ) مقتصراً على مفعولين فقال : ( خادمين ) أي جامعين للانقطاع والخفوت ، لا حركة لهم ولا صوت ، كالنار المضطرمة إذا بطل لهيبها ثم جمرها وصارت رماداً ، ولم يك ينفعهم إيمانهم واعترافهم بالظلم وخضوعهم لما رأوا بأسنا .
الأنبياء : ( 16 - 20 ) وما خلقنا السماء. .. . .
) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( ( )
ولما ذمهم باللعب وبين أنه يفعل في إهلاك الظلم وإنجاء العدل فعل الجاد بإحقاق الحق بالانتقام لأهله ، وإزهاق الباطل باجتثاثه من أصله ، فكان التقدير : وما ينبغي لنا أن نفعل غير ذلك من أفعال الحكمة العرية عن اللعب ، فلم نخلق الناس عبثاً يعصوننا ولا يؤاخذون ، عطف عليه قوله : ( وما خلقنا ) أي بعظمتنا التي تقتضي الجد ولا بد .
ولما كان خلق السماء واحدة يكفي في الدلالة على الحكمة فكيف بأكثر منها وحّد فقال : ( السماء ( اي على علوها وإحكامها ) وارض ( على عظمها واتساعها ) وما بينهما ( مما دبرناه لتمام المنافع من أصناف الدائع وغرائب الصنائع ) لاعيبن ( غير مريدين بذلك تحقيق الحقائق وإبطال الأباطيل ، بل خلقنا لكم ذلك آية عظيمة كافية في الوصول إلينا ليظهر العدل في جزاء كل بما يستحق ، مشحونة بما يقوت الأجسام ، (5/72)
صفحة رقم 73
ويهيج النفوس ، ويشرح الصدور ، ويريح الأرواح ويبعث إلى الاعتبار ، كلَّ من له استبصاراً ، للدلالة على حكمتنا ووجوب وحدانيتنا فاتخذتم أنتم ما زاد على الحاجة لهواً صاداً عن الخير ، داعياً إلى الضير .
ولما نفى عنه اللعب ، أتبعه دليله فقال : ( لو اردنا ) أي على عظمتنا ) أن نتخذ لهواً ( يكون لنا ومنسوباً في لهوه إلينا ، واللهو - قال الأصفهاني : صرف الهم عن النفس بالقبيح .
) لاتخذناه ) أي بما لنا من العظمة ) من لدنا ( اي مما يليق أن ينسب إلى حضرتنا بما لن امن تمام القدرة وكمال العظمة ، وباهر الجلالة والحكمة ، وذلك بأن يكون محض لهو لا جد فيه أصلاً ، ولا يخلطه شيء من الكدر ، ولا يتوقف من يراه في تسميته لهواً ، لا يكون له عنده اسم غير ذلك كما لو أن شمساً أخرى وجدت لم يتوقف أحد في تسميتها شمساً كما قال تعالى في السورة الماضية
77 ( ) وقد ءاتيناك من لدنا ذكرا ( ) 7
[ طه : 99 ] أي فهو بحيث لا يتوقف أحد في أنه من عندنا ، وأنه ذكر وموعظة كما مضى ، لكنا لم نرد ذلك فلم يكن ، وما اتخذتموه لهواً فإنا خلقناه لغير ذلك بدليل ما فيه من الشواغل والمنغصاتوالقواطع فاتخذتموه أنتم من عند أنفسكم لهواً ، فكان أكثره لكم ضراً وعليكم شراً ، وخص الحرالي ) عند ( بما ظهر ، و ) لدن ( بما بطن ، فعلى هذا يكون المراد : من حضرتنا الخاصة بنا الخفية التي لا يطلع عليها غيرنا ، لأن ما للملك لا يكون مبتذلاً ، وكذلك لم يذكر إلا ما يتحقق المكذبون بالبعث وؤيته فوحد السماء هنا وجمعها في غير هذا الموضع لاقتضاء الحال ذلك .
ولما كان هذا مما ينبغي أن تنزه الحضرة القدوسية عنه وعن مجرد ذكره ولو على سبيل الفرض ، أشار إلى ذلك بأداة شرط أخرى فقال : ( إنا كنا فاعلين ) أي له ، ولكنه لا يليق بجنابنا فلم نفعله ولا نكون فاعلين له ) بل ( وإشعار لهذا المعنى بالقذف والدمغ تصويراً للحق بجعل الحق كأنه جرم صلب كالصخرة قذف بها على جرم رخو أجوف فقال : ( نقذف ) أي إنما شأننا أن نرمي رمياً شديدأ ) بالحق ( الذي و هذا الذكر الحكيم الذي أنزلناه جدالً كله وثباتاً جميعه لا لهو فيه ولا باطل ، ولا هو مقارب لشيء منهما ، ولا تقدرون أن تتخذوا شيءاً منه لهواً اتخاذاً يطابقكم عليه منصف ، فنحن نقذف به ) على الباطل ( الذي أحدثتموه من غير أنفسكم ) فيدمغه ( اي فيمحقه محق المكسور الدماغ ) فإذا هو ( في الحال ) زاهق ) أي ذاهب الروح اي هلاك ؛ ثم عطف على ما أفادته ( إذا ) قوله : ( ولكم ( ) ولكم ) أي وإذا لكم أيها المبطلون ) الويل مما تصفون ) أي من وصفكم لكل شيء بما تهوى أنفسكم من غير إذن منا لكم ، لأنكم لا تقفون على حقائق الأمور ، فإن وصفتم القرآن بشيء مما تقدم ثم عليه ثم قذفنا عليه بما يبين بطلانه ، بان(5/73)
صفحة رقم 74
لكل عاقل أنه يجب عليكم أن تنادموا الويل بميلكم كل الميل ، وإن وصفتم الله أو الدنيا أو غيرهما فكذلك إنما أنتم متعلقون بقشور وظواهر لا يرضاها إلا بعيد عن العقل محجوب عن الإدراك ؛ ثم عطف أيضاً على ما لزم من ذلك القذف قوله : ( وله من في السموات ) أي الأجرام العالية وهي ما تحت العرش ، وجمع السماء هنا لا قتضاء تعميم الملك ذلك .
ولما كانت عقولهم لا تدرك تعدد الأراضي ، وحد فقال : ( والأرض ) أي ومن فيها ، وذلك شامل - على أن التعبير بمن لتغليب العقلاء - للسماوات والأرض ، لأن الأرض في السموات ، وكل سماء في التي فوقها ، والعليا في العرش وهو سبحانه ذو العرش العظيم - كما سيأتي قريباً ، فدل ذلك دلالة عقلية على أنه مالك الكل وملكه .
ولما كانوا يصفون الملائكة بما لهم الويل من وصفه ، خصهم بالذكر معبراً عن خصوصيتهم وقربهم بالعندية تمثيلاً بما نعرف من أصفياء الملوك عند التعبير بعند من مجرد القرب في المكانة لا في المكان فقال : ( ومن عنده ) أي هم له حال كونهم ) لا يستكبرون عن عبادته ( بنوع كبر طلباً ولا إيجاد ) ولا يستسحرون ) أي ولا يطلبون أن يتقطعوا عن ذلك فأنتج ذلك قوله : ( يسبحون ) أي ينزهون المستحق للتنزيه بأنواع التنزيه من الأقوال والأفعال التي هي عبادة ، فهي مقتضية مع نفي النقائص إثبات الكمال ) اللّيل والنهار ) أي في جميع آنائهما دائماً .
ولما لم يصرح هنا بإنكار منهم ، ولا ما يستلزه من الاستكبار ، لم يؤكد لا عطف بالواو فقال : ( لا يفترون ( عن ذلك في الوقت من الأوقات بخلاف ما في ) فصلت ( فإن الأمر فيها مبني على حد استكبارهم المستلزم نكارهم المقتضي للتأكيد ، وكل هذا في حيز ) إذا ) أي إذا أنزلنا شيئاٍ من القرآن منبهاً على أقاويلكم مبيناً لأباطيلكم ، فاجأه ظهور الزهوق للباطل ، والويل لكم والملك له سبحانه منزهاً عن كل نقص ثابتاً له بالعبادة عن كل كما ، ويجوز أن يعطف على ) نقذف ( .
الأنبياء : ( 21 - 28 ) أم اتخذوا آلهة. .. . .
) أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( ( )(5/74)
صفحة رقم 75
ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد فلم يفعلوا ، كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم - بالتوبيخ والتهكم والتعنيف فقال تعالى : ( أم اتخذوا ) أي أعملوا أن ك لشيء تحت قهره نافذ فيه أمره فرجعوا عن ضلالهم ، أم لم يعلموه ، أو عملوا ما ينافيه فاتخذوا ) ءالهة ( .
ولما كانت معبوداتهم أصناماً أرضية من حجارة ونحوها قال : ( من أرض ( اي التي هم مشاهدون لأنها وكل ما فيها طوع مشيئته ) هم ) أي خاصة ) ينشرون ) أي يحيون شيئاً مما فيها من الأجسام النامية حتى يستحقوا بذلك صفة الإلهية ، وإفادة السياق الحصر تفيد أنه لو وقع الإنشاء لأحد على وجه يجوّز مشاركة غيره له لم يستحق العبادة ، وفي هذا الاستفهام تهكم بهم بالإشارة إلى أنهم عبدوا ما هو من أدنى ما في الأرض مع أنه ليس في الأرض ما يستحق أن يعبد ، لأن الإنسان أشرف ما فيها ، ولا يخفى ما له من الحاجة المعبدة من تلك الرتبة الشماء .
ولما كان الجواب قطعاً : لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف ، ولا شيء غيره سبحانه يستحق وصف الإلهية ، أقام البرهان القطعي على صحة نفي إله غيره ببرهان التمانع ، وهو أشد برهان لأهل الكلام فقال : ( لو كان فيهما ) أي السموات والأرض ، أي في تدبيرهما .
ولما كان الأصل فيما بعد كل من ( إلا ) و ( غير ) أن يكون من جنس ما قبلهما وإن كان مغيراً له في العين ، صح وضع كل منهما موضع الآخر ، واختير هنا التعبير بأداة الاستثناء والمعنى للصفة إذ هي تابعة لجميعع منكور غير محصور الإفادة إثبات الإلهية له سبحانه مع النفي عما عداه ، لأن ) لولا ( - لما فيها من الامتناع - مفيدة للنفي ، فالكلام في قوة أن يقال ( ما فيهما ) ) ءالهة إلا الله ) أي مدبرون غير من تفرد بصفات الكمال ، ولو كان فيهما آلهة غيره ) لفسدتا ( لقضاء العادة بالخلاف بين المتكافئين المؤدي إلى ذلك ، ولقضاء العقل بإمكان الاختلاف اللازم منه إمكان التمانع اللازم منه إمكان عجز أحدهما اللازم منه أن لا يكون إلهاً لحاجته ، وإذا انتفى الجمع ، انتفى الاثنانى من باب الأولى ، لأن الجمع كلما زاد حارب بعضهم بعضاً فقل الفساد كما نشاهد .
ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر لها إلا واحداً ، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله قال : ( فسبحان الله ) أي فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال ) رب العرش ) أي الذي هو نهاية المعلومات من الأجسام ، ورب ما دونه من السماوات(5/75)
صفحة رقم 76
والأراضي وما فيهما المتفرد بالتدبير ، كما يتفرد الملك الجالس على السرير ) عما يصفون ( مما يوهم نقصاً ما ، ثم علل ذلك بقوله : ( لا يسأل ) أي من سائل ما ) عما يفعل ) أي لا يعترض عليه لأنه كفوء له في علم ولا حكمة ولا قدرة ولا عظمة ولا غير ذلك ، فليس في شيء من أفعاله لإتقانها موضع سؤال ، فمهما أراد كان ومهما قال فالحسن الجميل ، فلو شاء لعذب أهل سماواته وأهل أرضه ، وكان ذلك منه عدلاً حسناً ، وهذا مما يتمادح به أولو الهمم العوال ، كما قال عامر الخصفي في هاشم بن حرملة بن الأشعر :
أحيا أباه هاشم بن حرملة يوم الهبات ويوم اليعمله ترى الملوك عنده مغربلة يقتل ذا الذنب من لا ذنب له
قال ابن هشام في مقدمة السيرة قبل ( أمر البسل ) بقليل : أأنشدني أبو عبيدة هذه الأبيات وحدثيني أن هاشماً ، ثم قال البيت الثاني فلم يعجبه ، ثم قال الثالث فلم يعجبه ، فلما قال الرابع ( ويقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له ) أعجبه فأثابه عليه ، ومن أعجب ما رأيت في حكم الأقدمين أن الشهر ستاني قال في الملل : وقد سأل بعض الدهرية أرسطاطاليس فقال : إذا كان لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه ؟ فقال : ( لِمَ ) غير جائز عليه ، لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معلّ فوقه ولا علة فوقه ، وليس بمركب فتحمل ذاته العلل ، فلم عنه منفية .
) وهم يسألون ( من كل سائل لما في أفعالهم نم الاختلال بل يمنعون عن أكثر ما يريدون .
ولما قام ا لدليل ، ووضح السبيل ، واضمحل كل قال وقيل ، فانمحقت الأباطيل ، قال منبهاً لهم على ذلك : ( أم ) أي رجعوا عن ضلا لهم لما بان لهم غيهم فيه فوحدوا الله أم ) اتخذوا ( ونبه على كل شيء دونه وأثبت أن آلهتهم بعض من ذلك بإثبات الجار فقال منبهاً لهم مكرراً لما مضى على وجه أعم ، طالباً البرهان تلويحاً إلى التهديد : ( من دونه ءالهة ( من السماء أو الأرض وغيرهما .
ولما كان جوابهم : اتخذنا ، ولا يرجع أمره بجوابهم فقال : ( قل هاتوا برهانكم ( على ما ادعيتموه من عقل أو نقل كما أثبت أنا ببرهان النقل المؤيج بالعقل .
ولما كان الكريم سبحانه لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضم إليه دليل النقل ، أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله به الرسل من الكتب : ( هذا ذكر ) أي موعظة وشرف(5/76)
صفحة رقم 77
) من معي ( ممن آمن بي وقد ثبت أنه كلام الله بعجزكم عن معارضته فانظروا هل تجدون فيه شيئاً يؤيد أمركم ) وذكر ) أي وهذا ذكر ) من قبلي ( فاسألوا أهل الكتابين هلى في الكتاب منهما برهان لكم .
ولما كانوا لا يجدون شبهة لذلك فضلاً اقتضى الحال الإعراض عنهم غضباً ، فكان كأنه قيل : لا يجدون لشيء من ذلك برهاناً ) بل أكثرهم ( لأي هؤلاء المدعوين ) لا يعلمون الحق ( بل هم جهلة والجهل أصل الشر والفساد ، فهم يكفرون تقليداًُ ) فهم ) أي فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم ) معرضون ( عن ذكرك وذكر من قبلك غفلة منمهم عما يراد بهم وفعلاً باللعب فعلَ القاصر عن درجة العقل ، وبعضهم معاندة مع علمه الحق ، وبعضهم يعلم فيفهم - كما أفهمه التقييد بالأكثر .
ولما كان التقدير بياناً لما في الذكرين : ولو أقبلوا على الذكر لعلموا أنا أوحينا إليك في هذا الذكر أنه لا إله ألا أنا ، ما أرسلناك إلا لنوحي إليك ذلك ، عطف عليه قوله : ( وما أرسلنا ) أي بعظمتنا .
ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدم لأنه كما أن الرسالة لا يقوم بها كل أحد ، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن ، أثبت الجار فقال : ( من قبلك ( وأعرق في النفي فقال : ( من رسول ( في شيع الأولين ) إلا لنوحي إليه ( من عندنا ) أنه لا إله إلا أنا ( ولم يقل : نحن ، لئلا يجعلوها وسيلة إلى شبهة ، ولذا قال : ( فاعبدون ( بالإفراد ، وترك التصريح بالأمر بالتخصيص بالعبادة لفهمه من المقام والحال ، فإنهم كانوا قبل ذلك يعبدونه ولكنهم يشركون تنبيهاً على أن كل عبادة فيها شوب شرك عدم .
ولما دل على نفي مطلق الشريك عقلاً ونقلاً ، فانتفى بذلك كل فرد يطلق عليه هذا السم ، عجب من ادعائهم الشركة المقيدة بالولد ، فقال عاطفاً على قوله
77 ( ) واسروا النجوى ( ) 7
[ طه : 62 ] : ( وقالوا ( قيل : الضمير لخزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وقيل : لليهود حيث قالوا : إنه سبحانه صاهر الجن فكانت منهم الملائكة : ( اتخذ ) أي تكلف كما يتكلف من يكون له ولد ) الرحمن ) أي الذي كل موجود من فيض نعمته ) ولداً ( .
ولما كان ذلك أعظم الذنب ، نزه نفسه سبحانه عنه بمجمع التنزيه فقال : ( سبحانه ) أي تنزه عن أن يكون له ولد ، فإن ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد ، (5/77)
صفحة رقم 78
ولا يصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي ) بل ( الذي جعلوهم له ولداً وهم الملائكة ) عباد ( من عباده ، أنعم الله عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولا د ، فإن العبودية تنافي الولدية ) مكرمون ( بالعصمة من الزلل ، ولذلك فسر الإكرام بقوله : ( لا يسبقونه ) أي لا يسبقون إذنه ) بالقول ) أي بقولهم ، لأنهم لا يقولون شيئاً لم يأذن لهم فيه ويطلقه لهم .
ولما كان الوزاقف عما لم يؤذن له فيه قد لا يفعل ما أمر به قال : ( وهم بأمره ) أي خاصة إذا أمرهم ) يعملون ( لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل وذلك غاية الطاعة ؛ ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه فقال : ( يعلم ما بين أيديهم ) أي مما لم يعلموه ) وما خلقهم ( مما عملوه ، أو يكون الأول لما عملوه والثاني لما لم يعلموه ، لأنك تطلع على ما أقدامك ويخفى عليك ما خلفك ، أي أن علمه محيط بأحوالهم ماضياً وحالاً ومآلاً ، لا يخفى عليه خافية ؛ ثم صرح بلازم الجملة الأولى فقال : ( ولا يشفعون ) أي في الدنيا ولا في الآخرة ) إلا لمن ارتضى ( فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه ، وبلازم الجملة الثانية فقال : ( وهم من خشيته ) أي لا من غيرها ) مشفقون ) أي دائماً .
الأنبياء : ( 29 - 31 ) ومن يقل منهم. .. . .
) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( ( )
ولما نفى الشريك مطلقاً ثم مقيداً بالولدية ، أتبعه التهديد على ادعائه بتعذيب المتبوع المجب لتعذيب التابع فقال : ( ومن يقل منهم ) أي من كل من قام الدليل على أنه لا يصلح للإلهية حتى العباد المكرمون الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده وأثنى عليهم كما رواه البيهيقي في الخصائص من الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( إني إله ( ولما كانت الرتب التي تحت رتبة الإلهية كثيرة ، بعّض ليدل على من استغرق بطريق الأولى فقال : ( من دونه ) أي من دون الله ) فذلك ) أي اللعين الذي لا يصلح للتقريب أصلاً ما دام على ذلك ) نجزيه ) أي بعظمتنا ) جهنم ( لظلمه ، فأفهم تعذيب مدعي الشرك تعذيب أتباعه من باب الأولى ، وهو على سبيل الفرض والتمثيل في الملائكة من إحاطة علمه بأنه لا يكون ، وما ذاك إلا لقصد تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد ، وفي دلائل النبوة للبيهيقي في باب التحدثبالنعمة والخصائص أن هذه(5/78)
صفحة رقم 79
الآية مع قوله تعالى
77 ( ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ( ) 7
[ الفتح : 2 ] دليل على فضله ( صلى الله عليه وسلم ) على أهل السماء .
ولما كان مقتضياً للسؤال عن غير هذا من الظلمة ، قيل : ( كذلك ) أي مثل هذا الجزاء الفظيع جداً ) نجزي الظالمين ( كلهم ما داموا على ظلمهم .
ولما أنكر سبحانه اتخاذهم آلهة من دونه تارة بقيد كونها أرضية ، وتارة بقيد كونها سماوية ، وتارة مطلقة ، لتعم كلا من القسمين وغيرهما ، واستدل على ذلك كله بما لم تبق معه شبهة ، فدل تفرده على أنه لا مانع له مما يريد من بعث ولاغيره ، وكان علمهم لا يتجاوز ما في السموات والأرض ، قال مستدلاً على ذلك أيضاً مقرراً بما يعلمونه ، أو ينبغي أن يسألوا عنه حتى يعلموه لتمكنهم من ذلك ) فاسألوا أهل الذكر ( جلياً له في أسلوب العظمة : ( أولم ) أي ألم يعلموا ذلك بما أوضحنا من أدلته ولم يروا ، ولكنه أظهر للدلالة على أنهم يغطون أنوار الدلائل عناداً فقال : ( ير ) أي يعلم علماً هو كالمشاهدة ) الذين كفروا ) أي ستروا ما يعلمون من قدرو الله فأدى ذلك إلى الاستهانة والتنقص فصار ذنبهم غير مغفور ، وسعيهم غير مشكور ، وحذف ابن كثير الواو العاطفة على ما قدرته مما هدى إليه السياق أيضاً ، لا للاستفهام بما دل عليه ختام الآية التي قبلها من البعث والجزاء المقتضي للإنكار على من أنكره ، فكان المعنى على قراءته : نجزي كل ظالم بعد البعث ، ألم ير النمكرون لذلك قدرتنا عليه بما أبدعنا من الخلائق ، وإنما أنكر عليهم عدم الرؤية بسبب أن الأجسام وإن تباينت لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بقادر يفصل بينهما ، فمن البديهي الاستحالة أن يرتفع شيء منها عن الآخر منفصلاً عنه بغير رافع لا سيما إذا كان المرتفع ثابتاً من غير عماد ، فكيف وهو عظيم الجسم كبير الجرم ؟ وذلك دال على تمام القدرة والاختيار والتنزه عن كل شائبة نقص من مكافىء وغيره ، فصح الإنكار عليهم في عدم علم ذلك بسبب أنهم عملوا بخلاف ما يعملونه ) إن السماوات والأرض ( .
ولما كان المراد الإخبار عن الجماعتين لا عن الأفراد قال : ( كانتا ( ولما كان المراد شدة الاتصال والتلاحم ، أخبر عن ذلك بمصدر مفرد وضع موضع الاسم فقال : ( رتقاً ) أي ملتزقتين زبدة واحدة على وجه الماء ، والرتق في اللغة : السد ، الفتق : الشق ) ففقناهما ) أي بعظمتنا أي بأن ميزنا إحداهما عن الأخرى بعد التكوين المتقن وفتقنا السماء بالمطر ، والأرض بأنواع النبات بعد أن لم يكن شيء من ذلك ، ولا كان مقدوراٍ على شيء منه لأحد غيرنا ؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء والضحاك وقتادة : كانتا شيءاٍ واحداٍ ملتزقتين ففضل الله تعالى بينهما بالهواء .
وعن مجاهد وأبي(5/79)
صفحة رقم 80
صالح والسدي : كانتا مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت واحدة ففتقها فجعلها سبع طبقات .
ولما كان خلق الماء سابقاً على خلق السماوات والأرض ، قال : ( وجعلنا ) أي بما اقتضته عظمتنا ) من الماء ) أي الهمر ثم الدافق ) كل شيء حي ( مجازاً من النبات وحقيقة من الحيوان ، خرج الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أخبرني عن كل شيء ، ( فقال : ( كل شيء خلق من ماء .
) ولذلك أجاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك الذي وجه على ماء بدر وسأله : ممن هو ؟ قوله : ( نحن من ماء .
) ولما كان هذا من تصرفه في هذين الكونين ظاهراً ومنتجاً لأنهما وكل فيهما ومن فيهما بصفة العجز عن أن يكون له تصرف ما ، تسبب عنه إنكار عدم إيمانهم فقال : ( أفلا يؤمنون ) أي بأن شيئاً منهما أو فيهما لا يصلح للإلهية ، لا على وجه الشركة ولا على وجه الانفراد ، وبأن صانعهما ومبدع النامي من حيوان ونبات منهما بواسطة الماء قادر على البعث للحساب للثواب أو العقاب ، بعد أن صار الميت تراباً بماء يسببه لذلك .
ولما كان من القدرة الباهرة ثبات الأرض من غير حركة ، ودل الماء أدل دليل على ثباتها ، وكانت الأرض أقرب في الذكر من السماء ، أتبع ذلك قوله : ( وجعلنا ( بما لنا من العظمة ) في الأرض ( جبالاً ) رواسي ) أي ثوابت ، كراهة ) أن تميد بهم ( وتضطرب فتهلك المياه كل شيء حي فيعود نفعها ضراً وخيرها شراً .
ولما كان المراد من المراسي الشدة والحزونة لتقوى على الثبات والتثبيت ، وكان ذلك مقتضياً لإبعادها وحفظها عن الذلة والليونة ، بين أنه أخرق فيها العادة ليعلم أنه قادر مختار لكل ما يريد فقال : ( وجعلنا ( بما لنا من القدرة الباهرة والحكمة البالغة ) فيها ) أي الجبال مع حزونتها ) فجاجاً ) أي مسالك واسعة سهلة ؛ ثم ابدل منها قوله : ( سبلاً ) أي مذللة للسلوك ، ولولا ذلك اتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد ) لعلهم يهتدون ( إلى منافعهم في ديارهم وغيرها ، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية وغيرها فيعلموا أن وجودها لو كان بالطبيعة كانت على نمط واحد مساوية للأرض متساوية في الوصف ، وأن كونها على غير ذلك دال على أن صانعها قادر مختار متفرد بأوصاف الكمال .(5/80)
صفحة رقم 81
الأنبياء : ( 32 - 35 ) وجعلنا السماء سقفا. .. . .
) وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( ( )
ولما دلهم بالسموات والأرض على عظمته ، ثم فصل بعض ما في الأرض لملابستهم له ، وخص الجبال لكثرتها في بلادهم ، أتبعه السماء فقال : ( وجعلنا ) أي بعظمتنا ) السماء ( وأفرادها بإرادة الجنس لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا الدنيا ولأن الحفظ للشيء الواحد أقن ) سقفاً ) أي للأرض لا فرق بينها وبين ما يعهد من السقوف إلا أن ما يعهد لا يسقط منه إلا ما يضر ، وهذه مشحونة بالمنافع فأكثر ما ينزل منها ما لا غنى للناس عنه من الآت الضياء وعلامات لاهتداء والزينة التي لا يقدر قدرها .
ولما كان ما يعرفون من السقوف على صغرها لا تثبت إلا بالعمد ، ويتمكن منه المفسدون ، وتحتاج كل قليل إلى إصلاح وتعهد ، بين أن هذا السقف عاة سعته وعلوه على غير ذلك فقال : ( محفوظاً ) أي عن السقوط بالقدرة وعن الشياطين بالشهب ، فذكّر باعتبار السقف ، وأشار إلى كثرة ما حوى من الآيات مؤنثاً باعتبار السماء أو العدد الدال عليه الجنس ، لأن العدد أولى بالدلالة على كثرة الآيات والنجوم مفرقة في الكل فقال : ( وهم ) أي أكثر الناس ) عن ءاياتها ) أي من الكواكب الكبار والصغار ، والرياح والأمطار ، وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار ، أي الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال ، من الجلال والجمال ) معرضون ( لا يتفكرون فيما فيها من التسيير والتدبير بالمطالع والمغارب والترتيب القويم الدال على الحساب الدائر عليه سائر المنافع .
ولما ذكر السماء ، ذكر ما ينشاء عنها فقال : ( وهو ) أي لا غيره ) الذي خلق الّيل والنهار ( ثم أتبعهما آيتيهما فقال : ( والشمس ( التي هي آية النهار وبها وجوده ) والقمر ( الذي هو آية الليل .
ولما ذكر أعظم آياتها فأفهم بقية الكواكب ، استأنف لمن كأنه قال : هل هي كلها في سماء واحدة ؟ : ( كل ) أي من ذلك ) في فلك ( فكأنه قيل : ماذا تصنع ؟ فقيل تغليباً لضمير العقلاء. . .
ونقلهم إليها : ( يسبحون ) أي كل واحد يسبح في الفلك الذي جعل به .
ولما ذكر الصارم البتار ، للأعمار الطوال والقصار ، من الليل والنهار ، كان كأنه(5/81)
صفحة رقم 82
قيل : فينفيان كل شديد ، ويبليان كل جديد ، فعطف عليه قوله : ( وما جعلنا ) أي بما لنا من العظمة التي اقتضت تفردنا بالبقاء ) لبشر ( وحقق عدم هذا الجعل بإثبات الجار فقال : ( من قبلك الخلد ( ناظراً إلى قوله ) وما كانوا خالدين ( بعد قوله ) هل هذا إلا بشر مثلكم ( وهذا من أقوى الأدلة على أن الخضر عليه السلام مات ، ويجاب بأن الحياة الطويلة ليست خلداً كما في حق عيسى عليه السلام ، لكن قوله عليه السلام : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعداليوم ) وقوله : ( ) لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض اليوم أحد ( وقوله : ( ( وددنا أن موسى عليه السالم صبر فقص علينا من أمرهما ) في أمثال ذلك ، يدل على موته دلالة لا تقبل ادعاء حياته بعدها إلا بأظهر منه .
ولما كان قولهم )
77 ( ) بل هو شاعر ( ) 7
[ الأنبياء : 5 ] مشيراً غلى أنهم قالوا نتربص به ريب المنون كما اتفق لغيره من الشعراء ، وكان ينبغي أن لا ينتظر أحد لآخر من الأذى إلا ما يتحقق سلامته هو منه ، توجه الإنكار عليهم والتسلية له بمنع شماتتهم في قوله : ( أفائن ) أي يتمنون موتك فإن ) مت فهم ) أي خاصة ) الخالدون ( فالمنكر تقدير خلودهم على تقدير موته الموجب لإنكار تمنيهم لموته ، فحق الهمزة الموجب لإنكار تمنيهم لموته ، فحق الهمزةدخولها على الجزاء ، وهو فهم ، وإنما قارنت الشرط لأن الاستفهام الصدر .
ولما تم ذلك ، أنتج قطعاً : ( كل نفس ) أي منكم ومن غيركم ) ذاقة الموت ) أي فلا يفرح أحد ولا يحزن بموت أحد ، بل يشتغل بما يهمه ، وإليه الإشارة بقوله : ( ونبلوكم ) أي نعاملكم معلملة المبتلي المختبر المظهر في عالم الشهادة الشاكر والصابر والمؤمن والكافر كما هوو عندنات في علام الغيب بأن نخالطهم ) بالشر ( الذي هو طبع النفوس ، فهي أسرع شيء إليه ، فلا ينجو منه إلا من أخلصناه لنا ) والخير ( مخالطة كبيرة ، وأكد البلاء بمصدر من معناه مقرون بالهاء تعظيماً له فقال : ( فتنة ) أي كما يفتن الذهب إذا أريدت تتصفية بمخالطة النار له ، على حالة عظيمة محيلة مميلة لكم لا يتبت لها إلا الموفق ) وإلينا ) أي بعد الموت لا إلى غيرنا ) ترجعون ( للجزاء حيث لا حكم لأحد أصلاً لا ظاهراً ولا باطناً كما هذه الدار بنفوذ الحكم فلا يكون إلا ما نريد فاشتغلوا بما ينجيكم منا ، ولا تلتفتوا إلى غيره ، فإن الأمر صعب ، وجدوا فإن الحال جد .(5/82)
صفحة رقم 83
الأنبياء : ( 36 - 40 ) وإذا رآك الذين. .. . .
) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ( ( )
ولما أخبر سبحانه عن إعراضهم عن الساعة تكذيباً ، واستدل على كونها منزهة عن الغيب في خلق هذا العالم وتعاليه عن جميع صفات النفص واتصافه بأوصاف الكمال إلى أن ختم ذلك بمثل ما ابتدأ به على وجه أصرح ، وكان فيه تنبيههم على الابتلاء وكان الابتالء على قدر النعم ، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم شيء ابتلوا به لأنه لا نعمة أعظم من النعمة به ، ولا شيء أظهر من آياته عطف على قوله ( واسروا النجوى ) قوله : ( وإذا رءاك ) أي وأنت أشرف الخلق وكلك جد وجلال وعظمة وكمال ) الذين كفروا ( فأظهر منبهاً على أن ظلمهم الذي أوجب لهم ذلك هو الكفر وإن كان في أدنى رتبة ، تبشيعاً له ونتبيهاً على أنه يطمس الفكر مطلقاً .
ولما كان من المعلوم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية البعد عن الهزء ، قال منبهاً على أنهم أعرقوا في الكفر حتى بلغوا الذروة : ( إن ) أي ما ) يتخذونك ) أي حال الرؤية ، وسيعلم من يبقى منهم عما قليل أنك جد كلك ) إلا هزواً ) أي جعلوك بحمل أنفسهم على ضد ما يعتقد عين ما ليس فيك شيء منه ؛ ثم بين استزاءهم به بأنهم يقولون إنكاراً واستصغاراً : ( أهذ الذي يذكر ) أي بالسوء ) ءالهتكم ( قال أبو حيان : والذكر يكون بالخير والشر ، فإذا لم يذكر متعلقه فالقرينة تدل عليه - انتهى .
فإذا دلت القرينة على أحدهما أطلق عليه ) وهم ) أي والحال أنهم على حال كانوا بها أصلاً في الهزء ، وهي أنهم ) بذكر الرحمن ( الذي لا نعمة عليهم ولا على غيرهم إلا منه ، وكرر الضمير تعظيماً بما أتوا به من القباحة فقال : ( هم ) أي بظواهرهم وبواطنهم ) كافرون ) أي ساترون لمعرفتهم به ، فلا أعجب ممن هو محل للهزء لكونه أنكر ذكر من لا نعمة منه ولا نقمة أصلاً بالسوء ، وهو يذكر من كل نعمة منه بالسوء ويهزأ به .
ولما كان من آيات الأولين التي طلبوها العذاب بأنواع الهول ، وكانوا هم أيضاً قد طلبوا ذلك واستعجلوا به ) ) عجل لنا قطنا ( ) [ ص : 26 ] ونحو ذلك ، وكان الذي جرأهم على هذا حلم الله عنهم بإمهاله لهم ، قال معللاً لذلك : ( خلق ( وبناه للمفعول لأن المقصود بيان ما جبل عليه والخالق معروف ) الإنسان ) أي هذا النوع .(5/83)
صفحة رقم 84
ولما كان مطبوعاً على العجلة قالك لا ) من عجل ( فلذا يكفر ، لأنه إذا خولف بادر إلى الانتقام عند القدرة فظن بجهله أن خالقه كذلك ، وأن التأخير ما هو إلا عن عجز أو عن رضى ؛ ثم قا لتعالى مهدداً للمكذبين ك ) سأوريكم ( حقاً ) ءاياتي ( بين أيديكم وجعلهم شجاً في حلوقكم حتى يتلاشى ما أنتم عليه وغيره ذلك من العظائم ) فلا تستعجلون ) أي تطلبوا أن أوجد العجلة بالعذاب أو غيره ، فإني منزه عن العجلةة التي هي من جملة نقائصكم .
ولما ذم العجلة وهي إرادة الشيء قبل أ ، انه ، ونهى عنها ، قال دالاً عليها عاطفاً على عامل ) هذا ( : ( ويقولون ) أي في استزائهم بأولياء الله : ( متى هذا ( وتهكموا بقولهم : ( الوعد ) أي بإتيان الآيات من الساعة ومقدمتها وغيرها ، وزادوا في الإلهاب والتهييج تكذيباً فقالوا : ( إن كنتم صادقين ) أي عريقين في هذا الوصف جداً - بما دل عليه الوصف وفعل الكون .
ولما غلوا في الاستهزاء فكانوا أجهل الجهلة باستحالة الممكن ، استأنف الجواب عن كالمهم بنفي العلم عنهم في الحال والمآل دون المعاينة على طريق التهكم والاستهزاء بهم : ( لو يعلم الذين كفروا ( وذكر المفعول به فقال : ( حين ) أي لو تجدد لهم علم ما بالوقت الذي تستعجلون به ؛ وذكر ما أضيف إليه ذلك الوقت فقال : ( لا يكفون ) أي فيه بأنفسهم ) عن وجوههم ( التي هي اشرف أعضائها ) النار ( استسلاماً وضعفاً وعجزاً ) ولا عن ظهورهم ( التي هي أشرف أجسادهم ، فعرف من هذا أنها قد أحاطت بهم وأنهم لا يكفون عن غير هذين من باب الأولى ) ولا هم ينصرون ) أي ولا يتجدد لهم نصر ظاهراً ولا باطناً بأنفسهم ولا بغيرهم ، لم يقولوا شيئاً من ذلك الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكنهم لا يعلمون ذلك بنوع من أنواع العلم إلا عند الوقوع لأنه لا أمارة لها قاطعة بتعيين وقتها ولا تأتي بالتدريج كغيرها ، وهذا معنى ) بل تأتيهم ) أي الساعة التي هي ظرف لجميع تلك الأحوال وهي معلومة لكل أحد فهي مستحضرة في كل ذهن ) بغتة فتبهتهم ) أي تدعهم باهتين حائرين ؛ ثم سبب عن بهتهم قوله : ( فلا يستطيعون ردها ( اي لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم عنه ) ولا هم ينظرون ) أي يمهلون من ممهل ما ليتداركوا ما أعد لهم فيها ، فيا شدة اسفهم على التفريط في الأوقات التي أمهلوا فيها في هذه الدار ، وصرفهم إياها في لذات أكثرها أكدار .(5/84)
صفحة رقم 85
الأنبياء : ( 41 - 44 ) ولقد استهزئ برسل. .. . .
) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( ( )
ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك ، تبعه ما يدل على أن الرسل في ذلك شرع واحد ، تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) وتأسية ، فقال عاطفاً على لآوإذا رءاك ( : ( ولقد ( مؤكداً له لمزيد التسلية بمساواة إخوانه من الرسل وبتعذيب أعدائه .
ولما كان المخوف نفس الاستهزاء لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : ( استهزىء برسل ( اي كثيرين .
ولما كان معى النتكير عدم الاستغراق ، أكده بالخافض فقال : ( من قبلك فحاق ( اي فأحاط ) بالذين سخروا منهم ( لكفرهم ) ما كانوا ( بما هو لهم كالجبلة ) به يستهزءون ( من الزعود الصادقة كبعض من سألوه الإتيان بمثل آياتهم كقوم نوح ومن بعدهم .
ولما هددهم بما مضى مما قام الدليل على قدرته عليه ، وختمه - لوقوفهم مع المحسوسات - بما وقع لمن قبلهم ، وكان الأمان عن مثل ذلك لا يكون إلا بشيء يوثق به ، أمره أن يسألهم عن ذلك بقوله : ( قل من يكلؤكم ) أي يحفظكم ويؤخركم ويكثر رزقكم ، وهو استفهام توبيخ .
ولما استوى بالنسبة إلى قدرته حذرهم وغفلتهم ، قال : ( بالّيل ) أي وأنتم نائمون .
ولما كانت مدافعة عذابه سبحانه غير ممكنة لنائم ولا يقظان قال : ( والنهار ( اي وأنتم مستيقظون .
ولما كان لا منعم بكلاية ولا غيرها سواه سبحانه ، ذكرهم بذلك بصفة الرحمة فقال : ( من الرحمن ( الذي لا نعمة بحراسة ولا غيرها إلا منة حتى أمنتم مكروه ولو بقطع إحسانه ، فكيف إذا ضربتم بسوط جبرتوه وسطوةة قهرة وعظموته .
ولما كان الجواب قطعاص : ليس لهم من يكلؤهم منه وهو معنى الاستفهام الإنكاري ، قال مضرباً عنه : ( بل هم ) أي في أمنهم من سطواته ) عن ذكر ربهم ( الذي لا يحسن إليهم غيره ) معرضون ( فهم لا يذكرون أصلاً فضلاً عن أن يخشوا بأسه وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان .
ولما أرشد السياق إلى أن التقديرك أصحيح هذا الذي أشرناا إليه من أنه لا مانع لهم منا ، عادله بقوله إنكاراً عليهم : ( أم لهم ءالهة ( موصفة بأنها ) تمنعهم ( نوبَ(5/85)
صفحة رقم 86
الدهر .
ولما كانت جميع الرتب تحت رتبته سبحانه ، أثبت حرف الابتداء فقال محقراً لهم : ( من دوننا ) أي من مكروه هو تحت إرادتنا ومن جهة غير جهتنا .
ولما كان الجواب قطعاً : ليس لهم ذلك ، وهو بمعنى الاستفهام ، استأنف الإخبار بما يؤيد هذا الجواب ، ويجوز أن يكون تعليلاً ، فقال : ( لا يستطبعون ) أي الآلهة التي يزعمون أنها تنفعهم ، أو هم - لأنهم لا مانع لهم من دوننا - ) نصر أنفسكم ( من دون إرادتنا فكيف بغيرهم ، أو يكون ذلك صفة الالهة على طريق التهكم ) ولا هم ) أي الكفار أو الآلهة ) منا ) أي بما لنا من العظمة ) يصحبون ( بوجه من وجوه الصحبة حتى يصير لهم استطاعة بنا ، فانسدت عليهم أبواب الاستطاعة أصلاً ورأساً .
ولما لم يصلح هذا لأن يكون سبباً لاجترائهم ، أضرب عنه قائلاً في مظهر العظمة ، إشارة غلى أن اغترارهم به سبحانه - مع ما له من دلائل الجلال - من أعجب العجب ، بانياً على نحو ( لا كالىء لهم منه ولا مانع ) : ( بل متعنا ) أي بعظمتنا ) هؤلاء ) أي الكفار على حقارتهم ، أو الإضراب عن عدم استطاعتهم للنصر ، والمعنى أن ما هم فيه من الحفظ إنما هو منا لأجل تمتيعهم بما لا يتغير به إلا مغرور ، لا من مانع يمنعهم ) وءاباءهم ( من قبلهم بالنصر وغيره ) حت طال عليهم العمر ( فكان طول سلامتهم غاراً لهم بنا ، فظنا أنه لا يغلبهم على ذلك التمتيع شيء ، ولا ينزع عنهم ثوب النعمة .
ولما أقام الأدلة ونصب الحجج على أنه لا مانع لهم من الله ، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في اعتقاد غيره فقال : ( أفلا يرون ) أي يعلمون علماً هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر ) أنا ( بما لنا من العظمة ، وصور ما كان يجريه من عظمته على أيدي أوليائه فقال : ( نأتي الأرض ) أي التي أهلها كفار ، إتيانَ غلبة لهم بتسليط أوليائنا عليهم .
ولما كان الإتيان على ضروب شتى ، بيّنه بقوله : ( ننقصها من أطرافها ( بقتل بعضهم وردّ من بقي عن دينه إلى الإسلام ، فهم في نقص ، وأولياؤنا في زيادة .
ولما كانت مشاهدتهم لهذا مرة بعد مرة قاضية بأنهم المغلبونن تسبب عنه إنكار غير ذلك فقال : ( افهم ) أي خاصة ) الغلبون ) أي مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا .
الأنبياء : ( 45 - 50 ) قل إنما أنذركم. .. . .
) قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ(5/86)
صفحة رقم 87
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) 73
( ) 71
ولما تبين الخلف في قولهم على كثرته وادعائهم الحكمة والبالغة ، وفعلهم على كثرتهم وزعمهم القوة والشجاعة ، ثبت أن أقواله الناقصة لذلك من عند الله بما ثبت من استقامة معانيها وإحكامها ، بعدما اتضح من إعجاز نظومها وحسن التئامها ، فأمره أن يبين لهم ذلك بقواه : ( قل إنما أنذركم ( أيها الكفار ) بالوحي ) أي الآتي يه الملك عن الله فلا قدح في شيء من نظمه ولا معناه والحال أنكم لا تسمعون - على قراءة الجماعة والحال أنك لا تسمعهم - على قراءة ابن عامر بضم الفوقانية وكسر الميم ونصب الصم خاصة ، ولكنهم لما كانوا لا ينتفعون بإنذاره لتصامّهم وجعلهم أصابعهم في آذانهم قت الإنذار عدهم صماً ، وأظهر الوصف لتعليق الحكم به من العذاب إلا إذا كان قوياً على دفعه .
بيّن أنهم على غير ذلك فقال : ( ولئن ) أي لا يسمعون والحال أنه لا قوة بهم ، بل إن ) مستهم ) أي لاقتهم أدنى ملاقاة ) نفحة ( اي رائحة يسيرة مرة من المرات ) من عذاب ربك ( المحسن إليك بنصرك عليهم ) ليقولن ( وقد أذهلهم أمرها عن نخوتهم .
وشغلهم قدرها عن كبرهم وحميتهم : ( يا ويلنا ( الذي لا نرى الآن بحضرتنا غيره ) إنا كنا ) أي بما لنا مما هو في ثباته كالجبلات ) ظالمين ) أي عريقين في الظلم في إعراضنا وتصامّنا ترفقاً وتذللاً لعله يكف عنهم .
ولما بيّن ما افتتحت السوة من اقتراب الساعة بالقدر عليه واقتضاء الحكمة له ، وأن كل أحد ميت لا يستطيع شيئاً من الدفع عن نفسه فضلاً عن غيره ، وختمت الآيات بإقرار الظالم بظلمه ، وكانت عادة كثير من الناس الجور عند القدرة ، بين أنه سبحانه بخلاف ذلك فذكر بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل فقال عاطفاً على قوله ( بل تأتيهم بغتة ) : ( ونضع ( فأبرزه في مظهر العظمة إشارة غلى هوانه عنده وإن كان لكثرة الخالئق وأعمال كل منهم متعذراً عندنا ) الموازين ( المتعددة لتعدد الموزونات أو أنواعها .
ولما كانت الموازين آلة العدل ، وصفها به مبالغة فقال ) القسط ) أي العدل المميز للأقسام على السوية .
ولما كان الجزاء علة في وضع المقادير ، عبر باللام ليشمل - مع ما يوضع فيه(5/87)
صفحة رقم 88
- ما وضع الآن لأجل الدنيوية فيه فقال : ( ليوم القيامة ( الذي أنتم عنه - لإعراضكم عن الذكر - غافلون .
ولما جرت العادة بأن الملك قد يكون عادلاً فظلم بعض أتباعه ، بين أن عظمته في إحاطة علمه وقدرته تأبى ذلك ، فبنى الفعل للمجهول فقال : ( فلا ) أي فتسبب عن هذا الوضع أنه لا ) تظلم ) أي من ظالم ما ) نفس شيئاً ( من عملها ) وإن كان ) أي العمل ) مثقال حبة ( هذا على قراءة الجماعة بالنصب .
والتقدير على قراءة نافع بالرفع : وإن وقع أو وجد ) من خردل ( أو أحقر منه ، وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة ، وزاد في تحقيره بضمير التأنيث لإضافته إلى المؤنث فقال : ( أتينا بها ( بما لنا من العظمة في العلم والقدرة وجميع صفات الكمال فحسبناه عليها ، والميوان الحقيقي .
ووزن الأعمال على صفة يصح وزنها معها بقدرة من لا يعجزه شيء .
ولما كان حساب الخلائق كلهم على ما صدر منهم أمراً باهراً للعقل ، حقره عند عظنته فقال : ( وكفى بنا ) أي بما لنا من العظمة ) حاسبين ) أي لا يكون في الحساب أحد مثلنا ، ففيه توعد من جهة أن معنها أنه لا يروج عليه شيء من خداع ولا يقبل غلطاً ، ولا يضل ولا ينسى ، إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس أو شوب نقص ، ووعد من جهة أنه لا يطلع على كل حسن فقيد وإن دق وخفي .
ولما قدم في قوله ) ما يأتيهم من ذكر من ربهم ( - الآية وغيره أنهم أعرضوا عن هذا الذكر تعللاً بأشياء منها طلب آيات الأولين ، ونبه على إفراطهم في الجهل بما ردوا من الشرف بقوله ) لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ( ومر إلى أن ختم بالتهديد بعذابه ، وأنه يحكم بالقسط ، وكان كتاب موسى عليه السلام بعد القرآن أعظم الكتب السماوية ، وكان أهل الكتاب قد أعرضوا عنه غير مرة على زمن موسى عليه السلام بعادة العجل وغيره وبعد موته مع كون المرسل ، به اثنان تاضدا على إبلاغه وتقرير أحكامه بعد أن بهرا العقول بما أتيا به من الآيات التي منها - كما بين في سورة البقرة والأعراف - التصرف في العناصر الأربعة التي هي أصل الحيوان الذي بدأ الله منها خلقه .
ومقصود السورة الدلالة على إعادته ، ومنمها ما عذب به من أعرض عن ذكر موسى وهارون عليهما السلام الذي هو ميزان العدل لما نشر من الضياء المورث للتبصرة الماحقة للظلام ، فلا يقع متبعه في ظلم ، كان الحساب تفصيل الأمور ومقابلة كل منها بما يليق به ، وذلك بعينه هو الفرقان ، قال سبحانه بعد آية الحساب عاطفاً على ( لقد نزلنا ) : ( ولقد ءاتينا ) أي بما لنا من العظمة ) موسى وهارون ) أي أخاه الذي سأل أن يشد أزره به ) الفرقان ( الذي تعاضدا على إبلاغه والإلزام بما دعا إليه حا لكونه مبيناً لسعادة الدارين ، لا يدع لبساً في أمر من الأمور ) وضياء ( لا ظلام معه ، فلا ظلم للمستبصر(5/88)
صفحة رقم 89
به ، لأن من شأن من كان في الضياء أن لا يضع شيئاً إلا في موضعه ) وذكراً ) أي وعظاً وشرفاً .
ولما كان من لا ينتفع بالشيء لا يكون له منه شيء ، قال : ( للمتقين ) أي الذين صار هذا الوصف لهم شعاراً حاملاً لهم على التذكير لما يدعو إليه الكتاب من التوحيد الذي هو أصل المراقبة ؛ ثم بين التقوى بوصفهم بقوله : ( الذين يخشون ) أي يخافون خوفاً عظيماً ) ربهم ) أي المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان ) بالغيب ) أي في أن يكشف لهم الحجاب ) وهم من الساعة ( التي نضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير ، مبعد من كل ضير ) مشفقون ( أنهم لقيامها متحققون ، وبنصب الموازين فيها عالمون .
ولما ذكر فرقان موسى عليه السلام ، وكان العرب يشاهدون إظهار اليهود للتمسك به والمقاتلة على ذلك والاغتباط ، حثهم على كتابهم الذي هو أشرف منه فقال : ( وهذا ( فأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم ) ذكر ) أي عظيم ، ودلهم على أنه أثبت الكتب وأكثرها فوائد بقوله : ( مبارك ( ودلهم على زيادة عظمته بما له من قرب الفهم والإعجاز وغيره بقوله : ( أنزلناه ( ثم أنكر عليهم رد وبخهم في سياق دال على أنهم أقل الكتاب من أن يجترءوا على ذلك ، منبه على أنهم أولى بالمجاهدة في هذا الكتاب برد ما أنزل من أهل الكتاب في كتابهم فقال : ( أفأنتم له ) أي لتكونوا دون أهل الكتاب برد ما أنزل لتشريفكم عليهم وعلى غيرهم مع أنكم لا تنكرون كتابهم ) منكرون ( اي أنه لو أنكره غيركم لكان ينبغي لكم مناصبته ، فكيف يكون الإنكار منكم ؟
الأنبياء : ( 51 - 54 ) ولقد آتينا إبراهيم. .. . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ( )
ولما كان مقصود السورة الدلالة على القدرة على ما استبعده العرب من إعادة الحيوان بعد كونه تراباً ، وبدأ ذكر الأنبياء بمن صرفه في العناصر الأبعة كما تقدم قص ذلك من التوراة في سورتي البقرة والأعراف إشارة إلى من استبعد عليه ما جعله إلى بعض عبيده أعمى الناس ، تلاه من الأنبياء بمن سخر له واحداً من تلك العناصر ، مرتباً لهم على الأخف في ذلك فالأخف على سبيل الترقي ، فبدأهم بذكر من سخر له عنصر النار ، مع التنبيه للعرب على عماهم عن الرشد بإنكاره للشرك بعبادة الأوثان على أبيه(5/89)
صفحة رقم 90
وغيره ، ودعائهم إلى التوحيد ، والمجاهدة في الله على ذلك حق الجهاد ، وهو أعظم آباء الرادين لهذا الذكر ، والمستمسكين بالشرك تقليداً للآباء ، إثباتاً للقدرة الباهرة الدالة على التوحيد الداعي إليه جميع هؤلاء الأصفياء ، هذا مع مشاركته بإنزال الصحف عليه لموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومشاركته لهما في الهجرة ، وإذا تأملت ما في سورتي الفرقان والشعراء ازداد ما قلته وضوحاً ، فإنه لما أخبر تعالى أنهم قالوا
77 ( ) لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ( ) 7
[ الفرقان : 2 ] بدأ بقصة موسى الذي كتب له ربه في الألواح من كل شيء ، وقومه مقرّون بعظمة كتابه وأنه أوتي من الآيات ما بهر العقول ، وكفر به مع ذلك كثير منهم .
ولما قال في الشعراء
77 ( ) ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث ( ) 7
- [ الآية : 5 ] كما هنا ، صنع كما صنع هنا من البداءة بقصة موسى عليه السلام وإلائها ذكر إبراهيم عليه السلام فقال تعالى : ( ولقد ءاتينا ( بما لنا من العظمة ) إبراهيم رشده ) أي صلاحه و إصابته وخه الأمر واهتداءه إلى عين الصواب وأدل الدلالة وأعرف العرف وأشرف القصد الذي جلبناه عليه ؛ وقال الرازي في اللوامع : والرشد قوة بعد الهداية - انتهى .
ةأضافة إليه إشارة إلى أنه رشد يليق به على علو مقامه وعظم شأنه لا جرم ظهر عليه أثر ذلك من بين أهل ذلك الزمان كلهم فآثر الإسلام على غيره من الملل ) من قبل ) أي قبل موسى وهارون عليهما السلام ) وكنا ( بما لنا من العظمة ) به ( ظاهراً وباطناَ ) عالمين ( بأنه جبلة خير يدوم على الرشد ويترقى فيه إلى أعلى درجاته لما طبعناه عليه بعظمتنا من طبائع الخير ؛ وتعليقُ ) إذ قال ) أي إبراهيم ) لأبيه وقومه ( ب ) عالمين ( إشارة إلى أن قوله لما كلن بإذن منا ورضى لنا نصرناه - وهو وحده - على قومه كلهم ، ولو لم يم كن يرضينا لمنعانه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه ، فهو مثل ما مضى في قوله ) قل ربي يعلم القول في السماء والأرض ( ومفهوم هذا القيد لا يضر لأنه لا يحصي ما ينفيه من المنطوقات ، وإن شئت فعلقة ب ) أيانتا ( ؛ ثم ذكر مقول القول في قوله منكراً عليهم محقراً لأصنامهم في أسوب التجاهل لإثبات دعوى جهلهم بدليل : ( ما هذه التماثيل ) أي الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح ، جاعلين بها ما لا يمون إلا لمن لا مثل له ، وهي الأصنام ) التي أنتم لها ) أي لأجلها وحدها ، مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها ) عاكفون ) أي موقعون الإقبال عليها مواظبرون على ذلك ، فبأي معنى استحقت منكم هذا الاختصاص ، وإنما هي مثال للحي في الصورة وهو أعلى منها بالحياة التي أفاضها الله عليه .
ولما أتاهم بهذا القاصم ، استأنف الخبر سبحانه عن جوابهم بقوله : ( قالوا ((5/90)
صفحة رقم 91
مسوين أنفسهم بالبهائم التي تقاد ولا علم بما قيدت له : ( وجدنا ءاباءنا لها ( خاصة ) عابدين ( فاقتدينا بهم لا حجة لنا غير ذلك .
ولما غلوا في الجهل غير محتشمين من إقرارهم على أنفسهم به ، بالاستناد إلى محض التقليد بعد إفلاسهم من أدنى شبهة فضلاً عن الدليل ، استأنف الله تعالى الإخبار عن جوابه بقوله : ( قال ( اي منبهاً لهم بسوط التقريع على أن الكلام مع ىبائهم كالكلام معهم : ( لقد كنتم ( وأكد بقوله : ( أنتم ( لأجل صحة العطف لأن الضمير المرفوع المتصل حكمه حكم جزء الفعل ، هذا مع الإشاة إلى الحكمم على ظواهرهم وبواطنهم ) وءاباؤكم ) أي من قبلكم ) في ضلال ( قد أحاط بكم إحاطة الظرف بالمظروف والمسلوك بالسلك ) مبين ( ليس به نوع من الخفاء .
الأنبياء : ( 55 - 61 ) قالوا أجئتنا بالحق. .. . .
) قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذلِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ( ( )
ولما لم تكن عادته مواجهة أحد بما يكره ، استأنف الإخبار عنهم بما يدل عليه فقال : ( قالوا ( ظناً منهم أه لم يقل ذلك على ظاهرة : ( أجئتنا ( في هذا الكلام في هذا الكالم ) بالحق ( الذي يطابقه الواقع ) أم أنت من اللاعبين ( فظاهر كلامك غير حق ) قال ( بانياً على ما تقديره : ليس كلامي لعباً ، بل هو جد ، وهذه التماثيل ليست أرباباً ) بل ربكم ( الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة ) رب السموات والأرض ) أي مدبرهن القائم بمصالحهن ) الذي فطرهن ) أي أوجدهما وشق بهما ظلمة العدم ، وأنتم وتماثيلكم مما فيها من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجردة عن الهوى ) وأنا على ذلكم ( الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره ) من الشاهدين ) أي الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لأنهم لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس ، لا كما فعلتم أنتم حين اضطركم السؤال إلى الضلال .
ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق ، أتبعه البرهان على إبطال الباطل فقال : ( وتالله ( وهو القسم ، والأصل في القسم الباء الموحدة ، والواو بدل منها ، والتاء بدل من الواو ، وفيها - مع كونا بدلاً - زيادة على التأكيد بالتعجب : قال الأصبهاني : كأنه تعجب(5/91)
صفحة رقم 92
من تسهل الكيد على يده - انتهى .
وفيها أيضاً أنها تدل على رجوع التسبب باطناً ، فكأنها إشارة إلى أنه بعد أن تسبب في ردهم عن عبادتها ظاهراً بما خاطبهم به ، تسبب من ذلك ثانياً باطناً بإفسادها ) لأكيدن ( أمد لأنه مما ينكر لشدة عسره ؛ والكيد : الاحتيال في الضرر ) أصنامكم ) أي هذه التي عكفتم عليها ناسين الذي خلقكم وإياها ، أي لأفعلن بها ما يسوكم بضرب من الحيلة .
ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أيّ جزء تيسر له منه ، أسقط الجارّ فقال : ( بعد أن تولوا ) أي توقعوا التولي عنهان وحقق مراده بقوله : ( مدبرين ( لأنزلكم من الدليل العقلي على تحقيق الحق إذ لم تكونوا من أهله إلى الدليل الحسي على إبطال الباطل .
ولما كانوا في غاية التعظيم لأصنامهم لرسوخ أقدامهم في الجهل ، لم يقع في أوهامهم قط أن إبراهيم عليه السلام يقدم على ما قال ، وعلى تقدير إقدامه الذي هو عندهم من قبيل المحال لا يقد على ذلك ، فتولوا إلى عيدهم ، وقصد هو ما كان عزم عليه فشمر في إنجازه تشميراً يليق بتعليقه اليمين بالاسم الأعظم ) فجعلهم ) أي عقب توليهم ) جذاذاً ( قطعاً مهشمة مكسرة مفتة ، من الجذ وهو القطع ) إلا كبيراً ( واحداً ) لهم ) أي للأصنام أو لعبادها فإنه لم يكسر وجعل الفأس معه ) لعلهم ) أي أهل الضلال ) إليه ( وحده ) يرجعون ( عند إلزامه لهم بالسؤال فتقوم عليهم الحجة ، إذ لو ترك غيره معه لربما زعموا أن كلاّ يكل الكلام إلى الآخر عند السؤال لغرض من الأغراض ، فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال علم أنه لا بد لهم عند ذلك من أمر هائل ، فاستؤنف الإخبار عنه بقوله : ( قالوا ) أي أهل الضلال : ( من فعل هذا ( الفعل الفاحش ) بىلهتنا ( ثم استأنفوا الخبر عن الفاعل فقالوا مؤكدين لعلمهم أن ما أقامه الخليل عليه السلام على بطلانها يميل القلوب إلى اعتقاد أن هذا الفعل حق : ( إنه من الظالمين ( حيث وضع الإهانة في غير موضعها ، فإن الآلهة حقها الإكرام ، لا الإهانة والانتقام ) قالوا ) أي بضهم لبعض : ( سمعنا ( ولم يريدوا تعظيمه مع شهرته وشهرة أبيه وعظمتهما فيهم ليجترىء عليه من لا يعرفه فنكروه بقولهم : ( فتى ) أي شاباً من الشبان ) يذكرهم ) أي بالنقص والعيب ) يقال له إبراهيم ( يعنون : فهو الذي يظن أنه فعله ) قالوا ( مسببين عن هذا كارهين فإلى الله المشتكى من قوم يأخذون أكابر أهل دينهم بغير بينة بل ولا ظنة ) فأتوا به ( إلى هنا أي إلى بيت الاصنام ) على اعين الناس ( اي جهرة ، والناس ينظرون إليه نظراً لا خفاء معه حتى كأنه ماشٍ على ابصارهم ، متمكناً منها تمكن الراكب على المركوب ، وعبر بالعين عن البصر ليفهم الأكابر ، ويجمع القلة(5/92)
صفحة رقم 93
لإفادة السياق الكثرة ، فيفيد الأمران قلة ما ، لئلا يتوهم من جمع الكثرة جميع الناس مطلقاً ) لعلهم ( إذا رأوه ) يشهدون ) أي أنه فعل بالآلهة هذا الفعل ، أو أنه ذكرها بسوء ، فيكون ذلك مسوغاً لأخذه بذلك ، أو يشهد بفعله بعضهم ، لأن الشيء إذا حضر كانت أحواله بالذكر أولى منها إذا كان غائباً ، وكان هذا عين ما قصده الخليل عليه السلام أن يبين - في هذا المحفل الذي لا يوجد مثله - ما هم عليه من واضح الجهل المتضمن قلة العقل .
الأنبياء : ( 62 - 72 ) قالوا أأنت فعلت. .. . .
) قَالُواْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا ينَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ( ( )
ولما كان إحضاره معلوماً أنهم لا يتأخرون عنه ، استأنف أخباره لما يقع التشوف له فقال : ( قالوا ( نمكرين عليه مقررين ، له بعد حضوره على تلك الهيئة : ( ءأنت فعلت هذا ( الفعل الفاحش ) بىلهتنا يا إبرهيم قال ( متهكماً لهم وملزماً بالحجة : ( بل فعله كبيرهم ( غيره من أن يعبد معه من هو دونه ، وهذا على طريق إلزام الحجة ؛ وتقييده بقوله : ( هذا ( إشارة إلى الذي تركه بغير كسر يدل على أنه كان فيهم كبير غيره .
وكذا التنكير فيما مضى من قوله ) إلا كبيراً لهم ( وهذا - مع كونه تهكماً بهم ونكاية عن أنهم لا عقل لهم لعبادتهم من يعلمون أنه لا يقدر على فعل ما - تنبيه على قباحة الشرك ، وأنه لا يرضى به إله بل يهلك منعبد غيره وكل ما عبد من دونه إن كان قادراً ، غيره على مقامه العظيم ، ومنضبه الجسبم .
ولما أخبر بذلك ، ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله ، وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعم لهم محل من بعقل ، سبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال : ( فاسألوهم ) أي عن الفاعل ليخبروكم به ) إن كانوا ينطقون ( على زعمكم أنهم آلالهة يضرون وينفعون ، فإن قدروا على النطق أمكنت منهم القدرة وإلا فلا ، أما سؤال الصحيح فواضح ، وأما غيره فكما يسأل الناس من جرح أو قطعت يده أو رجله أو(5/93)
صفحة رقم 94
ضرب وسطه وبقيت فيه بقية من رمق ، وإسناده الفعل ما لا يصح إسناده إليه وأمره بسؤاله بعد الإضراب عن فعله متضمن لأنه هو الفاعل .
ولما كان روح الكالم إقراره بالفعل وجعلهم موضع الهزئ لأنهم عبدوا ما لا قدرة له على دفاع أصلاً تسبب عنه قوله تعالى الدال على خزيهم : ( فارجعوا ) أي الكفرة ) إلى أنفسهم ( بمعنى أنهم فكروا فيما قال فاضطرهم الدليل إلى أن تحققوا أنهم على محض الباطل وأن هذه الشرطية الممكنة عقلاً غير ممكنة عادة ) فقالوا ( يخاطب بعضهم بعضاً مؤكدين لأن حالهم يقتضي إنكارهم لظلمهم : ( إنكم أنتم ( خاصة ) الظالمون ( لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها ، لا إبراهيم فإنه أصاب في إهانتهم سواء المجزّ ووافق عين الغرض ، وفي أنكم بعد أن عبدتموها ولا قدرة لها تركتموها بلا حافظ .
ولما كان رجوعهم إلى الضلال بعد هذا الإقرار الصحيح الصريح في غاية البعد ، عبر بأداته مشيراً إلى ذلك فقال : ( ثم نكسوا ) أي انقلبوا في الحال غير مستحيين مما يلزمهم من الإقرار بالسفه حتى كأنهم قبلهم قالب لم يمكنهم دفعه ) على رؤوسهم ( فصار أعلاهم أسفلهم برجوعهم عن الحق غلى الباطل ، من قولهم : نكس المريض - إذا رجع إلى حاله الأول ، قائلين في مجادلته عن شركائهم : ( لقد علمت ( يا إبراهيم ) ما هؤلاء ( لا صحيحهم ولا جريحهم ) ينطقون ( فكانوا بما فاهوا به ظانين أنه ينفعهم ، ممكنين لإبراهيم عليه السلام من جلائل المقاتل .
ولما تسبب عن قولهم هذا إقرارهم بأنهم لا فائدة فيهم ، فاتجهت لإبراهيم عليه السلام الحجة عليهم ، استانف سبحانه الإخبار عنها بقوله : ( قال ( منكراً عليهم موبخاً لهم مسبباً عن إقرارهم هذا : ( أفتعبدون ( ونبههم على أن جميع الرتب تتضاءل دون رتبة الإلهية بقوله : ( من دون الله ) أي من أدنى رتبة من تحت رتبة الملك الذي لا ضر ولا نفع إلا بيده لاستجماعه صفات الكمال .
ولما كانوا في محل ضرورة بسبب تكسير أصنامهم ، راجين من ينفعهم في ذلك ، قدم النفع فقال : ( ما لا ينفعكم شيئاً ( لترجوه ) ولا يضركم ( شيئاً لتخافوه .
ولما أثبت أن معبوداتهم هذه في حيز العدم ، فكانوا لعبادتها دونها ، استأنف تبكيتهم لذلك بأعلى كلمات التحقير التي لا تقال إلا لما هو غاية في القذارة فقال : ( أف ) أي تقذر وتحقير مني ، وفي الأحقاف ما يتعين استحضاره هنا ، ثم خص ذلك بهم بقوله : ( لكم ولما تعبدون ( ولما كانت على وجه الإشراك ، وكانت جميع الرتب تحت رتبته تعالى ، وكانت أصنامهم هذه في رتب منها سافلة جداً أثبت الجار فقال : ( من دون الله ) أي الملك الأعلى لدناءتكم وقذارتكم .
ولما تسبب عن فعلهم هذا وضوح أنه لا يقربه عاقل ، أنكر عليهم ووبخهم على(5/94)
صفحة رقم 95
ترك الفكر تنبيهاً على أن فساد ما هم عليه يدرك ببديه العقل فقال : ( أفلا تعقلون ) أي وأنتم شيوخ قد مرت بكم الدهور وحنكتكم التجارب .
ولما وصل بهم إلى هذا الحد من البيان ، فدخصت حجتهم ، وبان عجزهم ، وظهر الحق ، واندفع الباطل ، فانقطعوا انقطاعاً فاضحاً ، أشار سبحانه إلى الإخبار عن ذلك بقوله استئنافاً : ( قالوا ( عادلين إلى العناد واستعمال القوة الحسية : ( حرقوه ( بالنار لتكونوا قد فعلتم فيه فعلاً هو أعظم مما فعل بآلهتكم ) وانصروا آلهتكم ( التي جعلها جذاذاً ؛ وأشاء التعبير - بأداة الشك وفعل الكون واسم الفاعل إلى أن أذاه لا يسوغ ، وليس الحامل عليه إلا حيلة غلبت على الفطرة الأولى السليمة - في قوله : ( إن كنتم فاعلين ) أي النصرة لها ، فإن النار أهول المعقبات وأفظعها ، فهي أزجر لمن يريد مثل هذا الفعل ، واتركوا الجدال فإنه يورث ضد ما تريدون ، ويؤثر عكس ما تطلبون ، فعزموا على ذلك فجمعوا الحطب شهراً ووضعوه في جوبة من الأرض أحاطوا بها جداراً كما في الصافات حتى كان ذلك الحطب كالجبل ، وأضرموا فيه النار حتى كان على صفة لم بوجد في الأرض قط مثلها ، حتى إن كان الطئر ليمر بها في الجو فيحترق ، ثم ألقوه فيها بالمنجنيق فقال : حسبي الله ونعم الوكيل - أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لما القي إبراهيم عليه السلام في النار قال : اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد ، عبدك ) وقال البغوي : أتاه خاون المياه فقال : إن أردت أخمدت النار ، وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال لإبراهيم : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل .
فأراد الله الذي له القوة جميعاً سلامته منها ، فعبر عن ذلك بقوله سبحانه استئنافاً لجواب من زاد تشوفه إلى ما كان من أمره بعد الإلقاء فيها : ( قلنا ) أي بعظمتنا ) يا نار كوني برداً ( بإرادتنا التي لا يتخلف عنها مراد ) برداً ( .
ولما كان البرد قد يكون ضاراً قال : ( وسلاماً ( فكانت كذلك ، فلم تحرق منه إلا وثاقه .
ولما كان المراد اختصاصه عليه السلام بهذا قيده به ، ولما كان المراد حياته ولا بد ، عبر بحرف الاستعلاء فقال : ( على إبراهيم ) أي فكان ما أردنا من سلامته ، وروى البغوي من طريق البخاري عن أم شريك رضي الله عنها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر(5/95)
صفحة رقم 96
بقتل الوزغ وقال : ( كان ينفخ النار على إبراهيم ) وقال ابن كثير : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عبيد الله بن أخي وهب ثنا عمي عن جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال : حدثتني مولاة الفاكة بن المغيرة المخزومي قالت : دخلت على عائشة رضي الله عنها فرأيت في بيتها رمحاً فقلت : يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ ، إن رسول الله قال : ( إن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفىء عنه غير الوزغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم فأمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله .
( ولما قدم ما نبه على شدة الاهتمامم به لإفهامه أنه حكم بسلامته من كيدهم عند همهم به فكيف بما بعده قال عاطاً على تقديره : فألقوه فيها : ( وأرادوا به كيداً ) أي مكراً بإضراره بالنار وبعد خروجه منها ) فجعلناهم ) أي بما لنا من الجلال .
ولما كانوا قد أرادوا بما صنعوا له من العذاب أن يكون أسفل مننم أهل ذلك الجمع ، وكان السياق لتحقيق أمر الساعة الذي هو مقصود السورة ، وكان الصائر إليها المفرط فيها بالتكذيب بها قد خسر خسارة لا جبر لها لفوات محل الاستدراك ، قال : ( الأخسرين ( لأن فضيحتهم في الدنيا الموجبة للعذاب في الأخر كانت بنفس فعلهم الذي كادو به ، ولم يذكر سبحانه شعيباً عليه السلام مع أنه سخر له النار في يوم الظلة فأحرقت عصاه ، لأن فعل النار بقومه كان على ما هو المعهود من أمرها بخلاف فعلها مع إبراهيم عليه السلام ، فإنه على خلاف المعتاد ، وقد وقع مثل هذا لبعض أتباع نبيناً ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو أبو مسلم الخولاني ، طلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع ، قال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجده قائماً يصلي فيها وقد صارت عليه برداً وسلاماً ، وقدم بعد موت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر رضي الله عنهما وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله .
ولما كان إنجاؤه - وهو وحده - ممن أرادوا به هذا الأمر العظيم من العجائب فكيف إذا انضم إليه غيره ، ولم يكن في ذلك الغير آية تمنعهم عنه كما كان في إبراهيم(5/96)
صفحة رقم 97
عليه السلام ، قال : ( ونجيناه ) أي بعظمتنا ) ولوطاً ) أي ابن أخيه وصديقه لكونه آمن به وصدقه ، من بلادهما كوثى بلاد العراق ، منتهيين إلى الأرض المقدسة ، ولعله عبر بإلى الدالة على تضمين ) انتهى ( للدلالة على أن هناك غاية طويلة ، فإنهما خرجا من كوثى من أرض العراق إلى حران ثم من حران ) إلى الأرض ( المقدسة ) التي باركنا فيها ( بأن ملأناها من الخيرات الدنيوية و الأخروية بما فيها من المياه التي بها حياة كل شيء من الأشجار والزروع وغيرها ، وما ظهر منها من الأنبياء عليهم السلام الذي ملؤوا الأرض نوراً ) للعالمين ( كما أنجيناك أنت يا أشرف أولاده وصديقك أبا بكر رضي الله عنه إلى طيبة التي شرفناها بك ، وثثنا من أنوارها في أرجاء الأرض وأقطارها ما لم نبث مثله قط ، وباركنا فيها للعالمين ، بالخلفاء الراشدين وغيرهم من العلماء والصالحين ، الذين انبثت خيراتهم العملية والعلمية والمالية في جميع الأقطار .
ولما أولد له في حال شيخوته وعجزا امرأه مع كونها عقيماً ، وكان ذلك دالاً على الاقتدار على البعث الذي السياق كله له ، قال : ( ووهبنا ( دالاً على ذلك بنون العظمة ) له إسحاق ) أي من شبه العدم ، وترك شرح حاله لتقدمه ، أي فكان ذلك دالاً على اقتدارنا على ما نريد لا سيما من إعادة الخلق في يوم الحساب ؛ ولما كان قد يظن أنه - لتولده بين شيخ فانٍ وعجوز مع يأسها عقيم - كان على حالة من الضعف ، لا يولد لمثله معها ، نفى ذلك بقوله : ( ويعقوب نافلة ) أي ولد إسحاق زيادة على ما دعا به إبراهيم عليهما السلام ؛ ثم نمى سبحانه أولاد يعقوب - وهو إسرائيل - وذرياتهم إلى أن ساموا النجوم عدة ، وباروا الجبال شدة ) وكلاً ( من هؤلاء الأربعة ؛ وعظم رتبتهم بقوله : ( جعلنا صالحين ) أي مهيئين - لطاعتهم لله - لكل ما يريدونه أو يرادون له أو يراد منهم ، وهذا إشارة إلى أن العاصي الهالك ، لا يصلح لشيء وإن طال عنره ، واشتد أمره ، لأن العبرة بالعاقبة .
الأنبياء : ( 73 - 79 ) وجعلناهم أئمة يهدون. .. . .
) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَة وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ(5/97)
صفحة رقم 98
دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ) 73
( ) 71
ولما ذكر أنه أعطاهم رتبة الصلاح في انفسهم ، ذكر أنه أعطاهم رتبة الإصلاح لغيرهم ، فقال معظماً لإمامتهم : ( وجعلناهم أئمة ) أي أعلاماً ومقاصد يقتدى بهم في الدين بما أعطاهم من النبوة .
ولما كان الإمام قد يدعو إلى الردى ، ويصد عن الهدى ، إذا كانت إمامته ظاهرة لا يصحبها صلاح باطن ، تحترز عن ذلك بقوله : ( يهدون ) أي يدعون إلينا من وفقناه للهداية ) بأمرنا ( وهو الروح الذي هو العمل المؤسس على العلم بإخبار الملائكة به عنا ، ولإفهام ذلك عطف عليه قوله معظماً لوحية إليهم : ( وأوحينا إليهم ) أي أيضاً ) فعل ) أي أن يفعلوا ) الخيرات ( كلها وهي شرائع الدين ، ولعله عبر بالفعل دلالة على أنهم امتثلوا كل ما أوحي إليهم .
ولما كانت الصلاة أم الخيرات ، خصها بالذكر فقال : ( وإقام الصلاة ( قال الزجاج : الإضافة عوض عن تاء التأنيث .
يعني فيكون من الغالب لا من القليل ، وكان سر الحذف تعظيم الصلاة لأنها مع نقصها عن صلاتنا - لما أشار إليه الحذف - بهذه المنزلة من العظمة فما الظن بصلانتا .
ولما كانت الصلاة بين العبد والحق ، وكان روحها الإعراض عن كل فان ، عطف عليها قوله : ( وإيتاء الزكاة ) أي التي هي مع كنها إحساناً إلى الخلق بما دعت الصلاة إلى الانسلاخ عنه من الدنيا ، ففعلوا ما أوحيناه إليهم ) وكانوا لنا ( دائماً جبلة وطبعاً ) عابدين ) أي فاعلين لكل ما يأمرون به غيرهم ، فعل العبد مع ملاه من كل ما يجب له من الخدمة ، ويحق له من التعظيم والحرمة .
ولما كان سبحانه قد سخر لصديقه لوط عليه السالم إهلاك من عصاه في أول المر بحجارة الكبريت التي هي من النار ، وفي آخره بالماء الذي هو اقوى من النار ، تلاه به فقال : ( ولوطاً ) أي وآتيناه أو واذكر لوطاً ؛ ثم استأنف قوله : ( ءاتيناه ) أي بعظمتنا ) حكماً ) أي نبوة وعملاً محكماً بالعلم ) وعلماً ( مزيناً بالعمل ) ونجيناه ( بانفرادنا بالعظمة .
ولما كانت مادة ( قرا ) تدل على الجمع ، قال : ( من القرية ( المسماة سدوم ، أي من عذابهم وجميع شرورهم ، وأفرد تنبيهاً على عمومها بالقلع والقلب وأنه كان في غاية السهولة والسرعة ، وقال أبو حيان : وكانتسبعاً ، عبر عهنا بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة .
) التي كانت ( قبل إنجائنا له منها ) تعمل الخبائث ( بالذكران ، وغير ذلك من الطغيان ، فاستحقوا النار التي أمر المؤلفات ، بما ارتكبوا من الشهوة المححظورة لعدهم لها الملذذات ، والغمر بالماء القذر المنتن الذي جعلناه - مع أنا جعلنا من(5/98)
صفحة رقم 99
الماء كل شيء حي - لا يعيش فيه حيواناً ، فضلاً عن أن يتولد منه ، ولا ينتفع به ، لما خامروا من القذر الذي لا ثمرة له .
ولما كان في هذا إشارة غلى إهلاك القرية ، وأن التقدير : ودمرنا عليهم بعد انفصاله عنهم ، علله بقوله : ( إنهم كانوا ( اي بما جلبوا عليه ) قوم سوء ) أي ذوي قدرة على الششر بانهماكهم في الأعمال السيئة ) فاسقين ( خارجين من كل خير ، ثم زاد الإشارة وضوحاً بقوله : ( وأدخلناه ) أي دونهم بعظمتنا ) في رحمتنا ) أي في الأحوال السنية ، والأقوال العلية ، والأفعال الزكية ، التي هي سبب الرحمة العظمى ومسببة عنها ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إنه من الصالحين ) أي لما جلبناه عليه من الخير .
ولما أتم سبحانه قصة لوط المناسبة لقصة الخليل عليهما السلام بحجارة الكبريت ، لقصة نوح عليه السلام بالماء الذي غمرت به قراه السبع ، أتبع ذلك قصة نوح عليه السلام الذي سخر له من الماء مل لم يسخره لغيره لغمره جميع الأرض دانيها وقاصيها ، واطيها وعاليها ، فقال : ( ونوحاً إذ ) أي اذكره حين ) نادى ) أي دعا ربه
77 ( ) إني مغلوب فانتصر ( ) 7
[ القمر : 10 ] و
77 ( ) لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ( ) 7
[ نوح : 26 ] ونحوه من الدعاء .
ولما كان دعاؤه لم يستغرق الأزمنة الماضية ، أثبت الجالر فقال : ( من قبل ) أي من قبل لوط ومن تقدمه ) فاستجبنا ) أي أردنا الإجابة وأوجدناها بعظمتنا ) له ( في ذلك النداء ؛ ثم سبب عن ذلك قوله : ( فنجيناه ) أي بعظمتنا تنجية عظيمة ) وأهله ( الذين أدام ثباتهم على الإسلام وصلتهم به ) من الكرب العظيم ( من الأذى والغرق ؛ قال أبو حيان : والكرب : أقصى الغم ، والأخذ بالنفس ، وهو هنا الغرق ، عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق .
) ونصرناه ) أي مخلصين له ومانعين ومنتقمين ) من القوم ) أي المتصفين بالقوة ) الذين كذبوا ) أي أوقعوا التكذيب له ) بآيتنا ) أي بسبب إتيانه بها ، وهي من العظمة على أمر لا يخفى .
ولما كان التقدير : ثم أهلكناهم ، علله بقوله : ( إنهم كانوا قوم سوء ( لا عمل لهم إلا ما يسوء ) فأغرقناهم ) أي بعظمتنا التي أتت عليهم كلهم ) أجمعين ( حتى من قطع الكفر بين نوح عليه السلام وبينه من أهله فصار لا يعد من أهله ، لاختلاف الانتساب بالدين .
ولما كان ربما قيل : لم قدم إبراهيم ومن معه على نوح وهو أبوهم ومن أولي العزم ، وموسى وهارون على إبراهيم وهو كذلك ، أشار بقصة داود وسليمان - على(5/99)
صفحة رقم 100
جميعهم الصلاة والسلام - إلى أنه ربما يفضل البن الأب في أمر ، فربما قدم لأجله وإن كان لا يلزم منه تقديمه مطلقاً ، مع ما فيها من أمر الحرث الذي هو أنسب شيء لما بعد غيض الماء في قصة نوح عليه السلام ، هذا في أوله وأما في آخره فما يتنبه مثال للدنيا في بهجتها وغرورها ، وانقراضها ومرورها ، ومن تصريف داود عليه السلام في الجبال وهي أشد التراب الذي هو اقوى من الماء ، وفي الحديد وهو أقوى من تراب الجبال ، وسليمان عليه السلام في الريح وهي أقوى من التراب فقال : ( وداود ) أي أول من ملك ابنه من أنبياء بني إسرائيل ) وسليمان ( ابنه ، أي اذكرهما واذكر شأنهما ) إذ ) أي حين ) يحكمان في الحرث ( الذي أنبت الزرع ، وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت ، قيل : كان ذلك كرماً ، وقيل : زعاً ) إذ نفشت ) أي انتشرت ليلاً بغير راع ) فيه غنم القوم ( الذي لهم قوة على حفظها فرعته ؛ قال قتادة : النفش بالليل ، والهمل بالنهار .
) وكنا ) أي بعظمتنا التي لا تقر على خلاف الأولى في شرع من الشروع ) لحكمهم ) أي الحكمين والمتحاكمين إليهما ) شاهدين ( لم يغب عنا ذلك ولا شيء من أمرهم هذا ولا غيره ، فذلك غيرنا على داود عليه السلام تلك الحكومة مع كونه ولينا وهو مأجور في اجتهاده لأن الأولى خلافها ، فإنه حكم بأن يمتلك صاحب الحرث الغنم لصاحب الكرم ليرتفق بلبنها ونسلها وصوفها ومنافعها ، ويعمل صاحبها في الكرم حتى يعود كما كان فيأخذ حرثه ، وترد الغنم إلى صاحبها ، وهذا أرفق بهما .
ذا أدل دليل على ما تقدمت الإشارة إليه عند ) قل ربي يعلم القول ( ، و ) كنا به عالمين إذ قال لأبيه ( وفيه رد عليهم في غيظهم من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في تسفيه الآباء والرد عليهم كما في قصة إبراهيم عليه السلام لأنه ليس بمستنكر أن يفصل الابن أباه ولو في شيء ، والآية تدل على أن الحكم ينقض بالاجتهاد إذا ظهر ما هو أقوى منه .
ولما كان ذلك ربما أوهم شيءاً في أمر داود عليه السلام ، نفاه بقوله دالاً على أنهما على الصواب في الاجتهاد وإن كان المصيب في الحكم هو أحدهما ) وكلاً ) أي منهما ) ءاتينا ( بما لنا من العظمة ) حكماً ) أي نبوة وعملاً مؤسساً على حكمة العلم ، وهذا معنى ما قالوه في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن من الشعر حكماً - أي قولاً صادقاً مطابقاً للحق ) وعلماً ( مؤيداً بصالح العمل ، وعن الحسن رحمه الله : لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان عليه السلام بصوابه ، وعذر داود عليه(5/100)
صفحة رقم 101
السلام باجتهاده انتهى .
وأتبعه من الخوارق ما يشهد له بالتقدم والفضل فقال : ( وسخرنا ) أي بعظمتنا التي لا يعيبها شيء .
ولما كان هذا الخارق في التنزيه ، لم يعد الفعل اللام زيادة في التنزيه وإبعاداً عما ربما أوهم غيره فقال مقدماً ما هو أدل على القدرة في ذلك لأنه أبعد عن النطق : ( مع داود الجبال ) أي التي هي أقوى من الحرث ، حال كونهن ) يسبحن ( معه ، ولو شئنا لجعنا الحرث أو الغنم يكلمه بصواب الحكم ، ولم يذكر ناقة صالح أنها مقترحة موجبة لعذاب الاستئصال ، فلم يناسب ذكرها هنا ، لما أشار إليه قوله تعالى ) لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ( ، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وهذه الآيات التي ذكرت هنا ليس فيها شيء مقترح ) والطير ( التي سخرنا لها الرياح التي هي أقوى من الجبال وأكثر سكناها الجبال ، سخرناها معه تسبح ) وكنا فاعلين ) أي من شأننا الفعل لأمثال هذه الأفاعيل ، ولكل شيء نريده بما لنا من العظمة المحيطة ، فلا تستكثروا علينا أمراً وإن كان عندهم عجباً ، وقد اتفق نحو هذا لغير واد من هذه الأمة ، كان مطرف بن عبد الله ابن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه ابنته ، هذا مع أن الطعام كان يسبح بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والحصا وغيره .
الأنبياء : ( 80 - 88 ) وعلمناه صنعة لبوس. .. . .
) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما ذكر التسخير بالتسبيح ، اشار إلى تسخير الحديد الذي هة اقوى تراب الجبال وأصلبه وأصفاه فقال : ( وعلمناه ) أي بعظمتنا ) صنعة لبوس ( قال البغوي : وهو في اللغة اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها ، وهو كالجلوس والركوب .
) لكم ) أي لتلبسوه في حربكم ، وألنا له في عمله الديد ليجتمع له إلى العلم سهولة(5/101)
صفحة رقم 102
العمل فيأتي كما يريد ) لتحصنكم ) أي اللبوس أو داود أو الله على قراءة الجماعة في حصن مانع ، وهو معنى قراءة النون الدال على مقام العظمة عند أبي بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب ، وقراءة أبي جعفر وابن عامر وحفص بالفوقانية للدروع نظراً إلى الجنس ) من بأسكم ( الكائن مما يحصل من بعضكم لبعض من شدائد الحرب لا من الباس كله ) فهل أنتم شاكرون ( لنا على ذلك لتوحدنا وتؤمنوا بأنبيائنا ؛ قال البغوي : قال قتادة : أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود عليه السلام ، وكانت من قبل صفائح ، والدرع يجمع الخفة والحصانة .
ولما كان قد سخر لابنه سليمان عليه السلام الريح التي هي أقوى من بقية العناصر قال : ( ولسليمان ( معباً باللام لأنها كانت تحت أمره لنفعه ولا إبهام في العبارة ) الريح ( قال البغوي : وهي جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ، ويظهر للحس بحركته ، وكان سليمان عليه السلام يأمر بالخشب فيضرب له ، فإذا حمل عليه ما يريد من الدواب ، الناس وآلة الحرب أمر العاصفة فدخلت تحت الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء تمر به شهراً في غدوته وشهراً في روحته - انتهى ملخصاً .
فكان الريحان مسخرتين له ، ولكن لما كان السياق هنا لبيان الإقدار على الأفعال الغريبة الهائلة ، قال : ( عاصفة ) أي شديدة الهبوب ، هذا باعتبار عملها ، ووصفت بالرخاء باعتبار لطفها بهم فلا يجدون لها مشقة ) تجري بأمره ( غذا أمرها غادية ورائحة ذاهبة إلى حيث اراد وعائدة على حسب ما يريد ، ىية في آية .
ولما كان قد علم مما مضى من القرآن لحامله المعتني بتفهم معانيه ، ومعرفة أخبار من ذكر فيه ، أنه من بني إسرائيل ، وأن قراره بالأرض المقدسة فكان من المعلوم أنه يجريها غلى غيره ، وكان الحامل إلى مكان ربما تعذر عوده مع المحمول ، عبر بحرف الغاية ذاكراً محل القرار دلالة علىأنها كما تحمله ذهاباً إلىحيث أراد من قاص ودان - تحمله إلى قراره اياماً فقال : ( ألى الأرض التي باركنا ) أي بعزتنا ) فيها ( وهي الشام ) وكنا ) أي أزلاً وأبداً بإحاطة العظمة ) بكل شي ( من هذا وغيره من أمره وغيره ) عالمين ( فكنا على كل شيء قادرين ، فلولا رضانا به لغيرناه عليه كما غيرنا على من قدمنا أمورهم ، وهذا من طراز ) قل ربي يعلم القول ( كما مضى ، وتسخير الريح له كما سخرت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليالي الأحزاب ، قال حذيفة رضي الله عنه : حتى كانت تقذفهم بالحجارة ، ما تجاوز عسكرهم فهزمهم الله بها وردوا بغيظهم لم ينالو خيراً .
وأعم من جميع ما أعطى الأنبياء عليهم السلام أنه أعطى ( صلى الله عليه وسلم ) التصرف في العالم العلوي الذي(5/102)
صفحة رقم 103
جعل سبحانه من الفيض على العالم السفلي بالاختراق لطباقة بالإسراء تارة ، وبإمساك المطر لما دعا بسبع كسبع يوسف ، وبإرساله اخرى كما في أحاديث كثيرة ، وأتي مع ذلك بمفاتيح خزائن الأرض كلها فردها ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما ذكر تسخير اليح له ، ذكر أنه سخر له مأغلبعناصره النار والريح للعمل في الماء ، مقابلة لارتفاع الحمل في الهواء باستفال الغوص في الماء فقال : ( ومن ) أي وسخرنا له من ) الشياطين ( الذين هم أكثر شيء تمرداً وعتواً ، وألطف شيء أجساماً ) من ( وعبر بالجمع لأنه أدل على عظم التصرف فقال : ( يغوصون له ( في المياه لما يأمرهم به من استخراج الجواهر وغيرها من المنافع ، وذلك بأن أكثفنا أجسامهم مع لطافتها لتقبل الغوص في الماء معجزة في معجزة ، وقد خنق نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) العفريت الذي جاء بشهاب من نار وأسر جماعة من أصحابه رضي الله عنهم عفاريت أتوا إلى ثمر الصدقة وأمكنهم الله منهم ) ويعملون عملاً ) أي عظيماً جداً .
ولما كان إقدارهم على الغوص اعلى ما يمون في أمرهم ، وكان المراد استغراق إقدارهم على ما هو أدنى من ذلك مما يريده منهم ، نزع الجار فقال : ( دون ذلك ) أي تحت هذا الأمر العظيم أو غيره من بناء ما يريد ، واصطناع ما يشاء ، من الصنائع العجيبة ، والآثار الغريبة ، وفي ذلك تسخير الماء والتراب بواسطة الشاطين ، فقد ختم عند انتهاء الإشارة إلى تسخير العناصر - بمن سخر له العناصر الربعة كما ابتدأ بذلك ) وكنا ( اي بعظمتنا التي تغلب كل سيء ) لهم حافظين ( من أن يفعلوا غير ما يريد ، ولمن يذكر هوداً عليه السلام هنا ، إن كان قد سخر له الريح ، لن عملها له كان على مقتضى العادة في التدمير والأذى عند عصوفها وإن كان خارقاً بقوته ، والتي لسليمان عليه السلام للنجاة والمنافع ، هذا مع تكرارها فأمرها أظهر ، وفعلها أزكى وأطهر .
ولما أتم سبحانه ذكر من سخر لهم العناصر التي منها الحيوان المحتوم ببعثته تحقيقاً لذلك ، ذكر بعدهم من وقع له أمر من الخوارق يدل على ذلك ، إما بإعادة(5/103)
صفحة رقم 104
أو حفظ أو ابتداء ، وبدأهم بمن أعاد له ما كان أعدمه من أهل ومال ، وسخر له عنصر الماء في إعادة لحمه وجلده ، لأن الإعادة هي المقصودة بالذات في هذه السورة فقال : ( وأيوب ) أي واذكر أيوب ، قالوا : وهو ابن أموص بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، وكان صاحب البثنية من بلاد الشام ، وكان الله قد بسط عليه الدنيا فشكره سبحانه ثم ابتاله فصبر ) إذ نادى ربه ( اي المحسن إليه في عافيته وضره بما آتاه من صبره ) إني مسني الضر ( بتسليطك الشيطان عليّ في بدني وأهلي ومالي وقد طمع الآن في ديني ، وذلك أنه زين لامرأة أيوب عليه السلام أن تأمره ان يذبح الصنم فإنه يبرأ ثم يتوب ، ففطن لذلك وحلف : ليضربها إن برأ ، وجزع من ذلك ، والشكوى غلى الله تعالى ليست من الجزع فلا تنافي الصبر ، وقال سفيان بن عيينة : ولا من شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله تعالى .
) وأنت ) أي والحال أنك أنت ) أرحم الراحمين ( فافعل بي ما يفعل الرحمن بالمضرور ، وهذا تعريض بسؤال الرحمة حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، وربّه بأبلغ صفاتها ولم يصرح ، فكان ذلك ألطف في السؤال ، فهو أجدر بالنوال ) فاستجبنا له ( اي أوجدنا إجابته إيجاد من كأنه طالب لها بسبب ندائه ، هذا بعظمتنا في قدرتنا على الأمور الهائلة ، وسبب عن ذلك قوله : ( فكشفنا ) أي بما لنا من ا لعظمة ) ما به من ضر ( بأن أمرناه أن يركض برجله ، فتنبع له عين من ماء ، فيغتسل فيها ، فينبت لحمه وجلده أحسن ما كان وأصحه ودل على تعاظم هذا الأمر بقوله : ( وءاتيناه أهله ) أي أولاده وما تبعه من حشمة ، أحييناهم له بعد أن كانوا ماتوا ) ومثلهم ) أي وأوجدنا له مثلهم في الدنيا ، فإن قوله : ( معهم ( يدل على أنهم وجدوا عند وجدان الأهل ، حال كون ذلك الكشف الإيتاء ) رحمة ) أي نعمة عظيمة تدل على شرفه بما شأنه العطف والتحنن ، وهو من تسمية المسبب باسم السبب ، وفخمها بقوله : ( من عندنا ( بحيث لا يشك من ينظر ذلك أنا ما فعلناه إلا رحمة منا له وأن غيرنا لم يكن يقدر على ذلك ) وذكرى ) أي عظة عظيمة ) للعابدين ( كلهم ، ليتأسوا به فيصبروا إذا ابتلوا بفتنة الضراء ولا يظنوما أنها لهوانهم ، ويشكروا إذا ابتلوا بنعمة السراء لئلا تكون عين شقائهم ، واتبعه سبحانه بمن أنبع له من زمزم ماءً باقياً شريفاً ، إشارة إلى شرفه وشرف ولده خاتم الرسل ببقاء رسالته ومعجزته فقال : ( إسماعيل ) أي ابن إبراهيم عليه السلام الذي سخرنا له من الماء بواسطة الروح الأمين ما عاش به صغيراً بعد أن كان هالكاً لا محالة ، ثم جعناه طعام طعم وشفاء سقم دائماً ، وصناه - وهو كبير - من الذبح فذبحه أبوه واجتهد في إتلافه إمتثالاً لأمرنا فلم ينذبح كما اقتضته إرادتنا ) وإدريس ) أي ابن شيث بن آدم عليهم السلام الذي احييناه(5/104)
صفحة رقم 105
بعد موته ورفعناه مكاناً علياً ، وهوأول نبي بعث من بني آدم عليهما السلام ) وذا الكفل ( الذي قدرناه على النوم الذي هو الموت الأصغر ، فكان يغلبه فلا ينام أو إلا قليلاً ، يقوم الليل ولا يفتر ، ويصوم النهار ولا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب .
فقدره الله علىالحياة الكاملة في الدنيا التي هي سبب الحياة الكاملة في الأخرى وهو خليفة اليسع عليه السلام تخلفه على أن يتكفل له بصيام النهار وقيام الليل وأن لا يغضب ، قيل : إنه ليس ببني وعن الحسن أنه نبي ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إلياس ، وقيل : هو يوشع بن نون ، وقيل : زكريا - عليهم السلام .
ولما قرن بينهم لهذه المناسبة ، استأنف مدحهم فقال : ( كل ) أي كل واحد منهم ) من الصابرين ( على ما ابتليناه به ، فآتيناهم ثواب الصابرين ) وأدخلناهم ( ودل على عظمة ما لهم عنده سبحانه بقوله : ( في رحمتنا ( ففعلنا بهم من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم ، فكان ظرفاً لهم ؛ ثم علل بقوله : ( إنهم من الصالحين ( لكل ما يرضاه الحكيم منهم ، بمعنى أنهم جبلوا جبلة خير فعملوا على مقتضى ذلك ، ثم أتبعهم من هو أغرب حالاً منهم في الحفظ فقال ) وذا النون ) أي اذكره ) إذ ذهب مغاضباً ( اي على هيئة الغاضب لقومه بالهجرة عنهم ، ولربه بالخروج عنهم دون الانتظار لإذن خاص منه بالهجرة ، وروي عن الحسن أن معنى ) فظن أن لن نقدر عليه ( أن لن نعاقبه بهذا الذنب ، أي ظن أنا نفعل معه من لا يقدر ، وهو تعبير عن اللازم بالملزوم مثل التعبير عن العقوبة بالغضب ، وعن الإحسان بالرحمة وفي أمثاله كثرة ، فهو أحسن الأقوال وأقومها - رواه البهيقي في كتاب الأسماء والصفات عن قتادة عنه وعن مجاهد مثله وأسند من غير طريق عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه ، وكذا قال الأصبهاني عنه أن معناه : لن نقضي عليه بالعقوبة ، وأنه قال أيضاً ما معناه : فظن أن لن نضيق عليه الخروج ، من القدر الذي معناه الضيق ، لا من القدرة ، ومنه
77 ( ) فقدر عليه رزقه ( ) 7
[ الفجر : 16 ] وروى البهيقي أيضاً عن الفراء نقدر بمعنى نقدر - مشدداً وبحكم ، وأنشد عن ابن الأنباري عن أبي صخر الهذلي : ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما نقدر يقع ولك الشكر ) فنادى ) أي فاقتضت حكمتنا أن عاتبناه حتى استسلم فألقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وغاص به إلى قرار البحر ومنعناه من أن يكون له طعاماً ، فنادى ) في الظلمات ( من بطن الحوت الذي في أسف البحر في الليل ، فهي ظلمات ثلاث - نقله ابن كثير عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم .
) أن لا إله إلا أنت ( .
ولما نزه عن الشريك عم فقال : ( سبحانك ) أي تنزهت عن كل نقص ، فلا(5/105)
صفحة رقم 106
يقدر على الإنجاء من مثل ما أنا فيه غيرك ؛ ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسباً إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله : ( إني كنت ) أي كوناً كبيراً ) من الظالمين ) أي في خروجي من بين قومي فبل الإذن ، فاعف عني كما هي شيمة القادرين ، ولذلك قال تعالى مسبباً عن دعائه : ( فاستجبنا له ) أي أوجدنا الإجابة إيجاد من هو طالب لها تصديقاً لظنه أن لن نعاقبه ( أنا عند ظن عبدي بي ) والآية تفهم أن شرط الكون مع من يظن الخير دوام الذكر وصدق الإلتجاء ، وقال الرازي في اللوامع : وشرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبتدىء بالتوحيد ثم بالتسبيح والثناء ثم بالعتراف والاستغفار والاعتذار ، وهذا شرط كل دعاء - انتهى .
ولما كان التقدير : فخلصناه مما كان فيه ، عطف عليه قوله ، تنبيهاً على أنهما نعمتان لأن أمره مع صعوبته كان في غاية الغرابة : ( ونجيناه ) أي بالعظمة الباغة تنجية عظيمة ، وأنجيناه إنجاء عظيماً ) من الغم ( الذي كان ألجأه إلى المغاضبة ومن غيره ، قال الرازي : وأصل الغم الغطاء على القلب - انتهى .
فألقاه الحوت على الساحل وأظله الله بشجرة القرع .
ولما كان هذا وما تقدمه أموراً غريبة ، أشار إلى القدرة على أمثالها من جميع الممكنات ، وأن ما فعله من إكرام أنبيائه عام لأتباعهم بقوله : ( وكذلك ) أي ومثل ذلك الإنجاء العظيم الشأن والتنجية ) ننجي ( اي بمثل ذلك العظمة ) المؤمنين ( إنجاء عظيماً وننجيهم تنجية عظيمة ، ذكر التنجية أولاً يدل على مثلها ثانياً ، وذكر الإنجاء ثانياً يدل على مثله أولاً وسر ذلك الإشارة إلى شدة العناية بالمؤمنين لأنهم ليس لهم كصبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - بما أشار إليه بحديث ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ) ( يبتلى المرء على قدر دينه ) فيسلهم سبحانه من البلاء كما تسل الشعرة من العجين ، فيكون ذلك مع السرعة في لطافة وهناء - بما أشارت إليه قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم رضي الله عنه بتشديد الجيم لإدغام النون الثانية فيه ، أو يمون المعنى أن من دعا منهم بهذا الدعاء أسرع نجاته ، فإن المؤمن متى حصلت له هفوة راجع ربه فنادى معترفاً بذنبه هذا النداء ، ولاسيما إن مسه بسوط الأدب ، فبادر إليه الهرب .
الأنبياء : ( 89 - 91 ) وزكريا إذ نادى. .. . .
) وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ(5/106)
صفحة رقم 107
فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان حاصل أمر يونس عليه السلام أنه خرج من بطن لم يعهد الخروج من مثله ، عطف عليهه قصة زكريا عليه السلام في هبته له ولداً من بطن لم يعهد الحمل من مثله في العقم واليأس ناظراً إلى أبيه إبراهيم عليه السلام أول من ذكر تصريفه في أحاد العناصر فيما اتفق له من مثل ذلك في ابنه غسحاق عليه السلام تكريراً لإعلام القيامة وتقريراً للقدرة التامة فقال : ( وزكريا ) أي اذكره ) إذ نادى ربه ( نداء الحبيب القريب فقال : ( رب ( بإسقاط أداة البعد ) لا تذرني فرداً ) أي من غير ولد يرث ما آتيتني من الحكمة .
ولما كان من الوارث من يحب من يحجبه من الإرث أو يشاركه فيه ، ومنهم من لا يحب ذلك ويسعى فب إهلاك من يحجبه أو ينقصه ، ومنهم من يأخذ الإرث فيصرفه في المصارف القبيحة على ما تدعوه إليه شهوته وحاجته ، ومنهم من يأخذه بعفة فينفذ وصايا الموروث ويصل ذا قرابته وأهل وده ، ويتصدق عنه ، ويبادر إلى كل ما كان يحبه وينفعه ، كل ذلك لغنى نفسه وكرم طبعه مع كونه مجبولاً على الحاجة والنقص ، وكان الله هو الغني الحميد ، الحكيم المجد ، قال ملوحاً بمقصده في أسلوب الإلهاب والتهييج : ( وأنت ) أي والحال أنك ) خير الوارثين ( لأنك أغناهم عن الإرث وأحسنهم تصرفاً ، وكثيراً ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيداً آخرين ، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحبه ، فتهبني ولداً تمن عليه بذلك ) فاستجبنا له ( بعظمتنا وإن كان في حد من السن لا حراك به معه وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها ، فكيف وقد جاوزت سن اليأس ، ولذلك عبر بما يدل على العظمة فقال : ( ووهبنا له يحيى ( وارثاً حكيماً نبياً عظيماً ) وأصلحنا له ( خاصة من بين أهل ذلك الزمان ) زوجه ) أي جعناها صالحة لكل خير ، خالصة له ولا سيما لما مننا عليه به من هذه الهبة بعد أن كانت بعقمها وكبرها غير صالحة له بوجه يقدر عليه غيرنا ؛ ثم استأنف البيان لخيرية ا لموروث والوارث والمصلحة للولادة فقال ، مؤكداً ترغيباً في مثل أحوالهم وأنها مما يلتذ بذكره ويعجب من أمره : ( إنهم كانوا ( مجبولين في أول ما خلقناهم جبلة خير ، مهيئين لأنهم ) يسارعون في الخيرات ) أي يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر ، ودل على عظيم أفعالهم بقوله : ( ويدعوننا ( مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا ) رغباً ( في رحمتنا ) ورهباً ( من سطوتنا ) وكانوا ) أي جبلة وطبعاً ) لنا ( خاصة ) خاشعين ( ي خائفين خوفاً عظيماً يحملهم على الخضوع والانكسار .(5/107)
صفحة رقم 108
ولما استدل على الساعة بما وهب لهؤلاء القوم من أهل الطاعة من التصرف في العناصر وغيرها إلى أن ذكر أنه خرق العادة في إيداع يحيى عليه الصلاة والسلام بين والدين لا يولد لمثلهما لأن أباه زكريا عليه السلام كان قد صار إلى حالة الكبر ويبس من الأعضاء عظيمة ، وأمه كانت - مع وصولها إلى مثل تلك الحال - عاقراً في حال شبابها ، تلاه بإبداع ابن خالته عيسى عليه السلام الذي هو علم للساعة على حال أغرب من حاله ، فأخرجه من أنثى بلا ذكر ، إشارة إلى قرب الوقت لضعف الأمر ، كضعف الأنثى بالنسبة إلى الذكر ، فقال : ( والتي أحصنت فرجها ) أي حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدث به ، لأنه غاية في العفة والصيانة ، والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة ، مع ما جمعت إلى ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة ) فنفخنا ) أي بما لنا من العظمة التي لا يداني أةجها نقص ، ولا يقرب من ساحتها حاجة ولا وهن ) فيها ) أي في فرجها - كما التحريم ، نفخاً هو من جناب عظمتنا ؛ ودل على عظم خلوصه وصفائه بقوله : ( من روحنا ) أي من روح يحق له أن يضاف إلينا لجلالته وطهارته ، فكان من ذلك النفخ حبل وولد .
ولعله أضاف هنا النفخ إليها ، لا إلى فرجها وحده ، ليفيد أنه - مع خلق عيسى عليه السلام به وإفاضةة الحياة عليه حساً ومعنى - أحياها هي به معنى بأن قوى به معانيها القلبية حتى كانت صديقة متأهلة لزواجها بخير البشر في الجنة ، وخصت هذه السورة بهذا لأن مقصودها الدلالة على البعث الذي هو إفاضة الأرواح على الأموات ، قال الرازي : وعلى الجملة هذه عبارة عن إبداع عيسى عليه السلام من غير نطفة .
ولما قدمته من السر في إفاضة النفخ إلى حملتها ، أتبع ذلك قوله : ( وجعلناها وابنها ( اي بتلك الالعظمة العظمى ) ءاية ( جعلهما نفس الآية لكثرة ما كان فيهما من الأعاجيب .
ولما كان ما فيهما من ذلك ليس مقصوداً لذاته ، بل لتقرير أمر عيسى عليه السلام ، لم يقل : آيتين ، أو لئلا يظن أن نفس العدد مقصود فينقص المعنى ) للعالمين ) أي في أن الله قادر على كل شيء لا سيما البعث الذي هو آيته ، يتحدث بذلك بعدهما جيل بعد جيل ، وعالم بعد عالم ، وأمة بعد أمة ، إلى قيام الساعة التي هو علمها ، وحفظنا ابنها بعلمنا وحكمتنا قدرتنا وعظمتنا ممن كاده ، ورفعناه إلى محل قدسنا ، وختم به الأنبياء المذكورين هنا لأنه خاتم المجددين لهذا الدين المحمدي ، وهو دليل الساعة ، وكتابة أعظم كتاب بعد التوراة التي ابتدأ بصاحبها ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، حاشى القرآن الذي عجزت لبلاغته الإنس والجان .(5/108)
صفحة رقم 109
ذكر شيء من دلائل كونه آية من الإنجيل
قال متى أحد المترجمين الأربعة للإنجيل وأغلب السياق له بعد أن ذكر مقتل يحيى ابن زكريا عليه السلام كما مضى في آل عمران : فلما سمع يسوع مضى من هناك في سفينة إلى البرية مفرداً ، وسمع الجمع فتبعوه ما شين من المدينة ، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ أعلاءهم ومرضاهم وقال مرقس : فلما خرج يسوع أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم لأنهم كانوا كخراف لا راعي لها فبدأ يعلمهم ، وبعد ساعات كثيرة جاء تلاميذه إليه ، وقال متى : ولما كان المساء أتى تلاميذه وقالوا : إن المكان قفر ، والساعة قد جازت ، أطلق الجمع يذهبوا إلى القرى المحيطة فيبتاغوا لهم طعاماً ، فقال لهم : أعطوهم أنتم ليأكلوا ، فقالوا : ليس هاهنا ، وأمر بإجلاس الجميع على العشب ، وقال مرقس : الأخضر أحزاباً أحزاباً ، فجلسوا رفاقاً رفاقاً مائة مائة وخمسين خمسين ، وقال يوحنا : فقال لفيلبس : من أين نبتاع لهؤلاء خبزاً ؟ قاله ليجربه ، فقال فيلبس : ما يكفيهم خبز بمائتي دينار ، وقال إندراوس أخو شمعون الصفاء : إن ها هنا حدثاً معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ، فقال يسوع : مروا الناس بالجلوس ، وقال متى : وأخذ الخمس خزات والحوتين ، ونظر إلى السماء وبارك وقسم وأعطى الخبز لتلاميذه ، وقال مرقس : وقسم الحوتين وناول التلاميذ الجميع فأكل جميعهم وشبعوا ورفعوا من فضلات الكسر اثني عشر سلاًّ مملوءة ، ومن السمك ، وكان عدد الآكلين خمسة آلاف رجل ، وقال متى : سوى النساء والصبيان ، وقال يوحنا : فقالوا : حقاً أن هذا هو النبي الجائي غلى العالم ، فعلم يسوع أنهم اجتمعوا ليحتفظوا به ويصيروه ملكاً ، فتحوّل إلى الجبل ، وقال متى : وللوقت أمر تلاميذه أن يصعدوا إلى السفينة ويسبقوه إلى العبر ليطلق الجموع ، وقال يوحنا : ليعبروا إلى الكفر ناحوم وكان ظلاماً ، وقال متى : فأطلق الجمع وصعد إلى الجبل منفرداً يصلي ، وقال مرقس : وللوقت تقدم إلى تلاميذه بركوبهم السفينة وأن يسبقوه إلى العبر عند بيت صيداً ليطلق هو الجماعة ، فلما ودعهم وذهب إلى الجبل ليصلي ، قال متى : فلما كان المساء وكان وحده هناك والسفينة في وسط البحر ، فضربتها الأمواج لمعاندة الريح لها ، قال يوحنا : فمضوا نحو خمسة وعشرين غلوة أو ثلاثين ، وقال متى : وفي الهجعة الرابعة من الليل جاءهم ماشياً على البحر فاضطربوا وقالوا : إنه خيال ، ومن خوفهم صرخوا ، فكلمهم قائلاً : أنا هو ، لا تخافوا ، أجابه بطرس وقالوا : إن كنت أنت هو فمرني أن آتي إليك على الماء ، فقال له : تعال فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ، فرأى قوة الريح فخاف ، وكاد أن يغرق فصاح قائلاً : يا رب نجني فللوقت مد يسوع يده وأخذه وقال له : يا قليل الأمانة لم(5/109)
صفحة رقم 110
شككت ؟ فلما صعد السفينة سكنت الريح ، قال يوحنا : وللوقت صارت إلى الأرض التي أرادوها ، وفي الغد نظرت الجموع الذين كانوا معه في عبر البحر أن ليس هناك سوى سفبنة زاحدة ، وأن يسوع لم يركبها مع تلاميذه لكن تلاميذه مضوا وحدهم ، وكانت سفن أخر وافت من طبرية حتى انتهت إلى الموضع الذي أكلوا الخبز الذي بارك عليه ، فحين لم ير الجماعة يسوع هناك ولا تلاميذه ، ركبوا تلك السفن ، وأتوا إلى كفر ناحوم يطلبون يسوع ، فلما قصدوه في عبر البحر قالوا له : يا معلم متى صرت هاهنا ؟ أجاب يسوع وقال : الحق الحق أقول لكم إنكم لم تطلبوني لنظركم الآيات بل لأكلكم الخبز فشبعتم ، اعلموا لا للطعام الزائل بل للطعام الباقي في الحياةة المؤبدة الذي يعطيكموه ابن البشر ، ثم قال : لست أعمل بمشيئتي ، لكن بمشيئة الذي أرسلني ، ثم قال : قد كتب في الأنبياء أنهم يكنون بأجمعهم معلمين ، الحق أقول لكم من يؤمن بي فله الحياة الدائمة ، قالوا : ما نصنع حتى نعمل أعمال الله ؟ قال : عمل الله هو أن تؤمنوا بمن ارسله ، قال متى : ولما عبروا جاؤوا إلى أرض جناشر ، قال مرقس : فأرسوا وخرجوا من السفينة - انتهى .
فعرفه أهل ذلك المكان وأرسلوا إلى جميع تلك الكور فقدموا إليه كل المسقومين وطلبوا إليه أن يلمسوا طرف ثوبه فقط ، وكل من لمسه خلص .
الأنبياء : ( 92 - 97 ) إن هذه أمتكم. .. . .
) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ( ( )
ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء وغيرهم على أن لله القدرة الباهرة القوة البالغة الشاملة للبعث وغيره ، وكان ذلك دالاً على التوحيد الذي هو أصل الدين ، وأنهم كلهم متفقون عليه بالتصريح من البعض هنا ومن الباقين فيما سبق ، كان إثباته فذلكة هذه القصص وما تقدمها من هذه السورة ، فلذلك اتصل به قوله مخاطباً لمن قال لهم : أفأنتم له منكرون : ( وأن هذه ) أي الأنبياء الذين أرساناهم قبل نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) رجالاً نوحي إليهم كما أنه رجل نوحي إليه لا ىباؤكم ولا ما وجدتمه عليه ) أمتكم ) أي مقصودكم أيه الخلق بالاقتداء في الاهتداء ، حال كونها ) أمة ( قال البغوي : وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد - انتهى .
وأكد سبحانه هذا المعنى فقال :(5/110)
صفحة رقم 111
) واحدة ( كما في الخبر أنهم أولاد علات .
أمهاتهم شتى ودينهم واحد .
لا اختلاف بينهم أصلاً في التوحيد الذي هو الأصل ولا في توجيه الرغبات إلينا ، وقصر النظر علينا ، علماً منهم بما لنا من صفات الكمال ، وأن كل شيء فإلينا مفتقر ، ولدينا خاضع منكسر ، فاتبعوهم في ذلك ، لا تحيدوا عنهم تضلوا ، وإنما فرقناهم وجعلناهم عدداً بحب الأمم المتشعبة في الأزمان المتطاولة ، وأنا لم نجعل لأحد منهم الخلد ، ولغير من الحكم ، فبثثاناهم في الأقطار ، حتى ملؤوها من الأنوار .
ولما كان المقصود تعيين المراد من غير لبس ، عدل عن صيغة العظمة فقال : ( وأنا ربكم ) أي لا غيري ، في كل زمان وكل مكان ، لكل أمة ، لأني لا أتغير على طول الدهر ، ولا يشغلني شأن عن شأن ) فاعبدون ( دون غيري فإنه لا كفوء لي .
ولما كان من المعلوم أنهم لم يفعلوا ، أعرض إلى أسلوب الغيبة إيذاناً بالغضب ، فكان التقدير في جواب من كأنه قال : ما فعلوا ؟ : لم يطيعواأمري في الاجتماع على ما جمعتهم عليه من عبادتي التي هي سبب لجلب كل خير ، ودفع كل ضير ولا افتدوا في ذلك بالكمّل من عبادي ، فعطف عليه قوله ) وتقطعوا ) أي مخالفة للأمر بالاجتماع ولما كان الدين الحق من الجلاء والعظمة والملاءمة للنفوس بحيث لا يجهله ولا يأباه أحد نصح لنفسه وإن جهله ، كفي أدنى تنبيه في المبادرة إليه وترك ما سواه كائناً ما كان ، فكان خروج الإنسان عنه بعد أن كان عليه في غاية البعد فضلاً عن أن يتكلف ذلك بمنازعة غيره المؤدية إلى الافتراق والتباغض ولا سيما إن كان ذلك الغير قريبة أو صديقه ، وكانت صيغة التفعل من القطع صريحة في التفرق ، وتفيد العلاج والتلكف ، وكانت تأتي بمعنى التفعيل والاستفعال ، عبر بها .
ولما كان البعد أن يقطع الإنسان أمر نفسه ، كان تقديم الأمر أهم فقال : ( أمرهم ( فنصبه بفعل التقطع لأنه بمعنى التقطيع واقعاً منهم بهم وأن يكون مستغرقاً لظرفه ، قال : ( بينهم ) أي فكانوا فرقاً كل فرقة على شعبة من ضلال ، زينها لها هواها ، فلم يدعوا شيئاً من الأمر بغير تقطيع ، وكان العطف بالواو دون الفاء كما في المؤمنون لأن ترك العبادة ليس سبباً للتقطع ، بل ربما كان عنه الاجتماع على الضلال ، كما يكون في آخر الزمان وكما قال تعالى
77 ( ) كان الناس أمة واحدة ( ) 7
[ البقرة : 213 ] الآية
77 ( ) وما تفرق الذي أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( ) 7
[ البينة : 4 ] .(5/111)
صفحة رقم 112
ولما كان كأنه قيل : فماذا يفعل بهم ؟ قال ما هو غاية في الدلالة على باهر العظمة وتام القدرة ليكون أشد في الوعيد ، وصادع التهديد : ( كل ) أي من هذه الفرق وإن بالغ في التمرد ) إلينا ( على عظمتنا التي لا يكافئها شيء ، لا إلى غيرنا ) راجعون ( فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنا نجازيهم إقامة للعدل فنعطي كلاًّ من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه ، وذلك هو معنى قوله تعالى ، فارقاً بين المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً بالفضل : ( فمن يعمل ) أي منهم الآن من ) الصالحات وهو ) أي والحال أنه ) مؤمن ) أي بان لعمله على الأساس الصحيح ) فلا كفران ) أي إبطال بالتغطية ) لسعيه ( بل نحن نجزيه عليه بما يستحقه ونزيده من فضلنا ) وإنا له ) أي لسعيه الآن على عظمتنا ) كاتبون ( وما كتبناه فهو غير ضائع ، بل باق ، لنطلعه على يوم الجزاء بعد أن نعطيه قدرة على تذكره ، فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل ، ومن المعلوم أن قسمية ( ومن يعمل من السيئات وهو كافر فلا نقيم له وزناً ) و ( من عمل منها وهو مؤمن فهو في مشيئتنا ) ، ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان .
ولما كان هذا غير صريح في ان هذا الرجوع بعد الموت ، بينه بقوله : ( وحرام ) أي وممنوع ومحجور ) على قرية ) أي أهلها ) أهلكناها ) أي بالموت بعظمتنا ) أنهم لا يرجعون ) أي إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلاً من غير إحساس ، بل إلينا بموتهم رجعوا فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيماً وعذاباً دون النعيم والعذاب الأكبر ، ولقد دل على قدرته قوله : ( حتى إذا فتحت ( بفتح السد الذي تقدم وصفنا له ، وأن فتحه لا بد منه وقراءة ابن عامر بالتشديد تدل على كثرة التفتيح أو على كثرة الخارجين من الفتح وإن كان فرحة واحدة كما أشار إطلاق قراءة الجماعة بالتخفيف ) يأجوج ومأجوج ( فخرجوا على الناس ؛ وعبر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه بقوله : ( وهم ) أي والحال أنهم ) من كل حدب ) أي نشز عال من الأرض ) ينسلون ) أي يسرعون ، من النسلان وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب ، وفي العبارة إيماء إلى أن الأرض كرية ) واقتر الوعد الحق ( وهو حشر الأموات الذي يطابقه الواقع ، إذا وجد قرباً عظيماً ، كأن الوعد طالب له ومجتهد فيه .
ولما دلت صيغة ( افتعل ) على شدة القرب كما في الحديث أن الساعة إذ ذاك مثل الحامل المتمّ ، علم أن التقدير جواباً لإذا : كان ذلك الوعد فقام الناس من قبورهم : ( فإذا هي شاخصة ) أي واقفة جامدة لا تطرف لما دهمهم من الشدة ، ويجوز وهو أقرب أن تكون إذا هذه الفجائية هي جواب إذا الشرطية ، وهي تقع في المجازات سادة مسد الفاء ، فإذا جاءت الفاء معها متفاوتة على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، فالمعنى :(5/112)
صفحة رقم 113
إذا كان الفتح ووقع ما تعقبه فاجأت الشخوص ) أبصار الذين كفروا ) أي منهم ، لما بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه من الأهوال ، قائلين : ( يا ويلنا ) أي حضرنا الويل فهو نديمنا فلا مدعو لنا غيره ) قد كنا ) أي في الدنيا ) في غفلة من هذا ) أي مبتدئة من اعتقاد هذا البعث فكنا نكذب به فعمتنا الغفلة .
ولما كان من الوضوح في الدلائل والرسوخ في الخواطر بحيث لا يجهله أحد ، أضربوا عن الغفلة فقالوا : ( بل كنا ظالمين ) أي بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير موضعه حيث أعرضنا عن تأمل دلائله ، والنظر في مخايله ، وتقبل كلام الرسل فيه ، فأنكرنا ما هو أضوأ من الشمس .
الأنبياء : ( 98 - 105 ) إنكم وما تعبدون. .. . .
) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( ( )
ولما كان هذا محلاًّ يخطر بالبال فيه آلهتهم بما يترجونه منها من النفع ، قال مخاطباً لهم إرادة التعنيف والتحقير : ( إنكم ( وأكده لإنكارهم مضمون الخبر : ( وما تعبدون ( أيها المشركون من الأصنام والشياطين ؛ ولما كان يتعبدون له سبحانه طوعاً وكرهاً مع الإشراك ، قيد بقوله دالاً على أن رتبة ما عبدوه من أدنى المراتب الكائنة تحت رتبته سبحانه : ( من دون الله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ؛ ولما كانوا يرمى بهم في جهنم رمي الحجارة الصغار التي تسمى الحصباء إلى المحصوب إسراعاً وإكراهاً ، فيكونون وقودها من غير إخراج ، قال : ( حصب جهنم ) أي الطبقة التي تلقى المعذب بها بالتجهم والعبوسة والتكره ؛ ثم أكد ذلك بقوله استئنافاً : ( أنتم لها واردون ) أي داخلون دخول ورد الحمى على حالة هي بين السواد بالدخان والاحمرار باللب .
ولما قرعهم من هذا الكلام بما لا جواب لهم عنه غير المكابة ، أعرض عنهم الخطاب استهانة بهم واحتقاراً لهم فقال : ( لو كان هؤلاء ) أي الذين أهلوهم لرتبة الإلهية وهم في الحقارة بحيث يقذف بهم في النار قذفاً ) ءالهة ) أي كما زعم العابدون(5/113)
صفحة رقم 114
لهم ) ما ردوها ( أ ي جهنم أصلاً ، فكيف على هذه الصفة ؛ ثم أخبر عنهم وعنها بقوله : ( وكل ) أي منهم ومنها ) فيها ) أي جهنم ) خالدون ( لا انفكاك لهم عنها ، بل يحمى بكل منهم فيها على الآخر ) لهم ( اي لمن فيه الحياة من المذكورين العابدين مطلقاً والمعبدوين الراضين كفرعون ) فيها زفير ) أي تنفس عظيم على غاية من الشد والمد .
تكاد تخرج معه النفس ، ويقرنون بآلهتهم زيادة في عذابهم حيث جعل المعبود الذي كان يطلب من السعادة زيادة في الشقاوة فصار عدواً ولا يكون أنكأ من مقارنة العدو .
ولما كانت تعمية الأخبار مما يعدم القرار ، ويعظم الإكدار ، قال ) وهم فيها لا يسمعون ( حذف المتعلق تعميماً لكل مسموع ، قال ابن كثير : قال ابن حاتم : حدثنا على بن محمد الكنافسي ثنا ابن فضيل ثنا عند الرحمن - يعني المسعودي - عن أبيه قال : قال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره ، ثم تلا عبد الله .
يعني هذه الآية ، قال : ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خباب عن ابن مسعود فذكره .
ولما ذكر حالهم وحال معبوديهم بغاية الويل ، كان ومضع السؤال عمن عبدوهم من الصالحين من نبي أو ملك وغيرهما من جميع من عبده سبحانه لا يشرك به شيئاً ، فقال مبيناً أنهم ليسوا مرادين لشيء من ذلك على وجه يعمهم وغيرهم من الصالحين : ( إن الذين سبقت لهم منا ) أي ولنا العظمة التي لا يحاط بها ) الحسنى ( اي الحكم بالموعدة البالغة في الحسن في الأزل سواء ضل بأحد منهم الكفار فأطروه أو لا ) أولئك ) أي العالو الرتبة ) عنها ) أي جهنم .
ولما كان الفوز مطلق الإبعاد عنها لا كونه من مبعد معين ، قال : ( مبعدون ( برحمة الله لأنهم أحسنوا في العبادة واتقوا ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؛ قال ابن كثير في تفسيره : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علىى بن سهل ثنا محمد بن حسن الأنماطي ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة ثنا يزيد بن أبي حكيم أن الحكم - يعني ابن أبان - عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية ) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ( قال ابن الوبعرى : قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم أكل هؤلاء في النار مه آلهتنا ؟ فنزلت ) ولما ضرب ابن مريم(5/114)
صفحة رقم 115
مثلاً إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ( ثم نزلت ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ( رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابة الأحاديث المختارة انتهى .
وفي السيرة النبوية أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما بلغه اعتراض ابن الزبعرى قال : ( كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته .
( وقد أسلم ابن الزبعرى بعد ذلك ومدح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان أقل ما ينكىء من المكروه سماعه ، قال : ( لا يسمعون حسيسها ) أي حركتها البالغة وصوتها الشديد ، فكيف بما دونه لأن الحس مطلق الصوت أو الخفي منه كما قال البغوي ، فإذا زادت حروفه زاد معناه ) وهم ) أي الذين سبقت لهم منا الحسنى ) في ما ( ولما كانت الشهوة - وهي طلب النفس اللذة - فقال : ( اشتهت أنفسهم ( في الجنة ) خلدون ) أي دائماً أبداً .
ولما كان المعنى ذلك أن سرورهم ليس له زوال ، أكده بقوله : ( لا يحزنهم ) أي يدخل عليهم حزناً - على قراءةالجماعة حتى نافع بالفتح ، عن حزنه ، أو جعلهم حزبين - على قراءة أبي جعفر بضم ثم كسر ، من أحزنه - رباعياً ، فهي اشد ، فالمنفي فيها بالغاً في يكون لهم صفة ) الفزع الأكبر ) أي فما الظن بما دونه ) وتتلقاهم ) أي تلقياً بالغاً في الإكرام ) الملائكة ( حيثما توجهوا ، قائلين بشارة لهم : ( هذا يومكم ( إضافة إليهم لأنهم المنتفعون به ) الذي كنتم ( في الدنيا .
ولما تطابق على الوعد فيه الرسل والكتب والأولياء من جميع الأتباع ، بنى الفعل للمفعول إفادة للعموم فقال : ( توعدون ) أي بحصول ما تتمنون فيه من النصر والفوز العظيم ، والنعيم المقيم ، فأبشروا فيه بجميع ما يسركم .
ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال ، تتشوف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه ، قال تعالى شافياً لعيّ هذا السؤال ، زيادة في تهويل ذلك اليوم لمن له وعي : ( يوم ) أي تكون هذه الأشياء يوم ) نطوي ) أي بما لنا من العظمة الباهرة ) السماء ( طياً فتكون كأنها لم تكن ؛ ثم صور طيّها بما يعرفون فقال مشبهاً للمصدر(5/115)
صفحة رقم 116
الذي دل عليه الفعل : ( كطيّ السجل ) أي الكتاب الذي له العلو والقدرة على مكتوبه ) للكتب ) أي القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد ، وإنما قلت ذلك لأن السجل يطلق علىالكتاب وعلى الكاتب - قاله في القاموس ، واختير للفاعل لفظ السجل لما مضى في سورة هود من أن هذه المادة تدور على العلو ، وللمطوي لفظا الكتاب الدال على الجمع ، لكونه لازماً للطي ، مع أن ذلك أنسب لما جعل كل منهما مثالاً له ، وقراءة المفرد لمقابلة لفظ السماء ، والجمع للدلالة على أن المراد الجنس ، فجميع السماوات تطوى ؛ قال ابن كثير : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي محمد ثنا محمد بن أحمد بن أحمد بن الحجاج الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن أبي الواصل عن أبي المليح عن الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : يطوي الله السماوات السبع بما فيها من الخليفة ، والأرضين السبع بما فيها من الخليفة ، يطوي ذلك كله بيمينه حتى يكون ذلك بمنزلة خردلة .
ولما كان هذا عند من لا يعلم أعظم استبعاداً من استبعادهم إعادة الموتى ، قال دالاً عليه مقرباً له إلى العقول بتشبيه الإعادة بالإبداء ، في تناول القدرة لهما على السواء ، فإنه كما أخرجه بعلم من خزائن قدرته كذلك يرده بعلمه في خزائن قدرته ، كما يصنع في نور السراج ونحوه إذا أطفىء ، فكذا في غيره من جميع الأشياء ) كما ) أي مثل ما ) بدأنا ) أي بما عُلم لنا من العظمة ) أول خلق ) أي تقدير أيّ تقدير كان ، نكره ليفيد التفصيل واحداً واحداً ، بمهنى أن كل خلق جل أو قل سواء في هذا الحكم ، وهو أنا ) نعيده ) أي بتلك العظمة بعينها ، غير ناسين له ولا غافلين ولا عاجزين عنه ، فما كان متضامّ الأجزاء فمددناه نضمه بعد امتداده ، وما كان ميتاً فأحييناه نميته بعد حياته ، وما كان حياً فأمتناه نحييه بعد موته ، ونعيد ممنهم من التراب من بدأناه منه ، والحاصل أن من أوجد شيئاً لا يبعد عليه التصرف فيه كيفما كان ؛ ورى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إنكم محشورون إلى الله غرلاً ) كما بدأنا أول الخلق نعيده ( - الآية ، أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ، ألا إنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يارب أصحابي فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح ) كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم - إلى قوله - شهيد ( فيقال : إن هؤلاء لم يوالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم .
) ثم أعلم أن ذلك أمر لابد منه بالتعبير بالمصدر تأكيداً لما أنكروه وبالغوا في إنكاره فقال :(5/116)
صفحة رقم 117
) وعداً ( وأكد بقوله : ( علينا ( وزاده بقوله : ( إنا كنا ) أي أزلاً وأبداً ، على حالة لا تحول ) فاعلين ) أي شأننا أن نفعل ما نريد ، لا كلفة علينا في شيء من ذلك بوجه .
ولما ذكر صدقه في الوعد وسهولة الأفعال عليه ، وكان من محط كثير مما مضى أن من فعل ما لا يرضي الله غيّر عليه ، كائناً من كان ، ومن فعل ما أمره به نصره وأيده ولو بعد حين ، كما أشير إليه بقوله تعالى ) قل ربي يعلم القول في السماء والأرض ( وما بعده من أشكاله ، حتى ختم بقوله ) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها ( الآية ، قال تعالى عاطفاً على ) لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ( وما عطف عليه من أشباهه مذكراً بما وعد على لسان داود عليه السلام : ( ولقد كتبنا ) أي على عظمتنا التي نفوذها محقق لا تخلف له أصلاً ) في الزبور ) أي الذي أنزلناه على داود عليه السلام .
ولما كان المكتوب المشار إليه لم يستغرق ما بعد الذكر المراد من هذا الزبور ، أشار إلى التبعيض بإثبات الجار فقال : ( من بعد الذكر ) أي الكلام الداعي إلى الله تعالى الدال عليه من الدعاء والمواعظ والتسبيح والتمجيد الذي ابتدأنا به الزبور ) أن الأرض ( اي جنسها الشامل لبقاع أرض الدنيا كلها ولأرض المحشر والجنة وغير ذلك مما يعلمه الله ) يرثها عبادي ( وحقق ما أفادته إضافتهم إليه من الخصوص بقوله : ( الصالحون ) أي المتخلفون بأخلاق أهل الذكر ، المقبلين على ربهم ، الموحدين له ، المشفقين من الساعة ، الراهبين من سطوته ، الراغبين في رحمته ، الخاشعين له - كما أشرنا إليه بقولنا ) قل ربي يعلم القول ( وما ضاهاه وبذكر ما سلف في هذه السورة من شاهد ذلك من قصص هؤلاء الأنبياء الذي ضمنّاها بعض أخبارهم دلالة على أن العاقبة لمن ارضانا
77 ( ) لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ( ) 7
[ إبراهيم : 14 ]
77 ( ) إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ( ) 7
[ الأعراف : 128 ]
77 ( ) أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ( ) 7
[ المؤمنون : 11 ] وفي هذا إشارة بالبشارة بأنه تعالى يورث هذه الأمة على ضعفها ما أورث داود وابنه سايمان عليهما الصلاة والسلام على ما أعطاهما من القوة من إلانة الحديد والريح والحيوانات كلها من الجن والإنس واوحش والطير وغير ذلك ، والمراد بهذا الكلام - والله أعلم - ظاهره ، فإنه ابتدأ سبحانه الزبور بالأذكار والمواعظ إلى أن قال في المزمور السادس والثلاثين وهو فبل ربعه - هذا اللفظ بعينه .
بيان ذلك : المزمور الأول : طوبى للرجل الذي لا يتبع رأي المنافقين ، ولم يقف في طريق الخاطئين ، ولم يجلس في مجالس المستهزئين ، لكن في ناموس الرب مشيئته ، وفي سننه يتلوا ليلاٍ ونهاراً ، فيكون كمثل الشجرة المغروسة على مجاري المياه التي تعطي ثمرتها في حينها ، وورقها لا ينتثر ، وكل مل يعمل يتم ، ليس كذلك المنافقون ، بل(5/117)
صفحة رقم 118
كالهباء الذي تذريه الرياح عن وجه الأرض ، فلهذا لا يقوم المنافقون في القضاء ولا الخطأة في مجمع الصيديقين ، لأن الرب عالم بطريق الأبرار ، وطريق المنافقين تبيد .
المزمور الثثاني : لماذا ارتجت الشعوب ؟ وهدت الأمم بالباطل ؟ قامت ملوك الأرض ورؤساؤها وائتمروا جميعاً على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع أغلالهما ونلقي عنا سيرهما ، الساكن في السماء يضحك بهم ، والرب يمقتهم ، حينئذ يكلمهم بغضبه ، وبسخطه يذهلهم ، أنا أقمت ملكاً منهم على صهيون جبل قدسه ، لأخبر ميثاق الرب ، الرب قال لي : أنت ابني ، أنا اليوم ولدتك ، سلني فأعطيك الشعوب ، ميراثك وسلطانك على أقطار الأرض ، ترعاهم بقضيب من حديد ، ومثل آنية ا لفخار تسحقهم ، من الآن تفهموا ايها الملوك تأدبوا يا جميع قضاة الأرض اعبدوا الرب بخشية ، سبحوه برعدة ، الزموا الأدب لئلا يسخط الرب عليكم فتضلوا عن سبيله العادلة ، إذا ما توقد رجزه عن قليل ، طوباهم المتوكلين عليه .
المزمور الخامس : استمع يارب قولي داعياً ، وكن لدعائي مجيباً ، وأنصت إلى صوت تضرعي ، فإنك ملكي وإلهي ، وإني لك أصلي في غدواتي ، استمع يارب طلبتي لأقف أمامك بالغداة وتراني ، لأنك إله لا ترضى الإثم ، ولا يحل في مساكنك شرير ، ولا يثبت مخالفو وصاياك بين يديك ، أبغضت جميع عاملي الإثم ، وأبدت كل الناطقين بالكذب ؛ الرجل السافك الدماء الغاش الرب يرذله ، وأنا بكثرة رحمتك أدخل بيتك ، وأسجد في هيكل قدسك مستشعراً بخشيتك ، اهدني يا رب بعدلك ، ومن أجل أعدائي سهل أمامك طريقي ، فإنه ليس في أفواههم صدق ، بل الإثم في قلوبهم ، حناجرهم قبور مفتحة ، وألسنتهم غاشة ، دنهم يا الله ومثل كثرة نفاقهم ارفضهم لأنهم أسخطوك يا رب ، ويفرح بك جميع المتوكلين عليك ، وإلى الأبد يسرون ، ويهم تحل بركتك ، ويفتخربك كل محبي اسمك ، لأنك يارب تبار الصديق ، وكمثل سلاح ، المسرة كللتنا .
المزمور السادس : يارب لا تبكتني بغضبك ، ولا تؤدبني بزجرك ، ارحمني يا رب فإني ضعيف ، اشفني يارب فإن عظامي قلقت ، ونفسي جزعت جداً ، وأنت نج نفسي وخلصني برحمتك ، فليس في الموتى من يذكرك ، ولا في الجحيم من يشكرك ، تعبت في تنهدي ، أحمم في كل ليلة سريري ، وبدموعي أبلّ فراشي ، ذبلت من السخط عيناي ، ابعدوا عني يا جميع عاملي الإثم ، فإن الرب سمع صوت بكائي ، الرب سمع صوت تضرعي ، الرب قبل صلاتي ، يخزون ويبهتون جميع أعدائي ، ويتضرعون وسيقطون جداً عاجلاً .(5/118)
صفحة رقم 119
وفي المزمور التاسع : أشكرك يا رب من كل قلبي ، وأقص جميع عجائبك ، أفرح وأسر بك ، وأرتل لاسمك العلي حين تولى أعدائي على أدبارهم يضعفون ويبيدون من بين يديك ، لأنك قضيت لي وانتقمت لي ، استويت على العرش يا ديان الحق ، زجرت الشعوب ، أبدت المنافق أسقطت اسمه إلى الأبد وإلى الأبد ، لأنك أبدت سلاح العدو ، وأفنيت مدائنه ، وأزلت ذكرها ، الرب دائم إلى الأبد ، أعدَّ كرسيه للقضاء ليقضي للمسكونة بالعدل ، ويدين الشعوب بالاستقامة .
المزمور الثاني عشر : حتى متى يا رب تنساني ألى التمام ؟ حتى متى يارب تصرف وجهك عني ؟ حتى متى تترك هذه الأفكار في نفسي والهموم والأوجاع في قلبي النهار كله ؟ حتى متى يعلو عدوي عليّ ؟ انظر إليّ واستجب لي يا ربي وإلهي أنر عيني لئلا أنام ميتاً ، ولئلا يقول عدوي : إني عليه قد قدرت ، والمضطهدون لي يفرحون إذا أنا زللت ، وأنا على رحمتك توكلت ، فلبي بخلاصك بيفرح ، ارتل الرب الذي صنع لي حسناً ، وأسبح اسم الرب العالي .
المزمور الرابع عشر : يا رب من يسكن في مسكنك أو من يحل في طور قدسك ؟ ذاك الذي يمشي بلا عيب ويعمل البر ويتكلم في قلبه بالحق ، ولا يغش بلسانه أحداً ، ولا يصنع بقريبه سوءاً ، ولا يلتمس لجيراته عاراً ، عيناه تشنأ الأثمة ، يمجد أتقياء الرب ، يحلف لقريبه ولا يكذب ، ولا يعطي فضته بالربا ، ولا يقبل الرشوة على الأزكياء ، الذي بفعل هذا يدوم ولا يحول إلى الأبد .
المزمور السادس عشر : استمع يا الله ببري ، وانظر إلى تواضعي ، وأنصت لصلاتي من شفتين غير غاشتين ، من قدامكيخرج قضائي ، عيناك تنظران الاستقامة ، بلوت قلبي وتعاهدتني ، جربتني فلم تجد فيّ ظلماً ، ولم يتكلم فمي بأعمال الشر ، من أجل كلام شفتيك حُفظت طرق صعبة لكيما يشتد في سبلك نهوضي ولا تزل خطاي ، وإذا ما دعوتك استجب لي ، اللهم أنصت إليّ أسمعك ، وتقبل دعائي يا مخلص المتوكلين عليك ، خلصني بيمينك من المضادين لي ، احفظني مثل حدقة العين ، وبظلال جناحك ظللني ، من وجه المنافقين الذي أجهدوني ، وأعدائي الذين اكتنفوا نفسي ، تفقدت شحومهم ، وتكلمت أفواههم بالكبرياء ، عندما أخرجوني أحاطوا بي ، نصبوا عيونهم ليضربوا بي الأرض ، استقبلوني مثل الأسد المستعد للفريسة ، ومثل الشبل الذي يأوي في خفية ، قم يا رب أدركهم وعرقلتهم ، ونج نفسي من ا لمنافقين ، ومن سيف أعدائك ، اللهم عن قرب شتتهم في الأرض ، اقسمهم في حياتهم ، المزمور السابع عشر : أحبك يا رب قوتي الرب رجائي وملجأي ومخلصي إلهي(5/119)
صفحة رقم 120
عوني ، عليه توكلي ، ساتري وخلاصي وناصري ، أسبح الرب وأدعوه ، أنجو من أ " دائي ، لأن غمرات الموت اكتنفتني ، وأودية الأثمة أفزعتني ، أحاطت بي أهوال الجحيم ، شباك الموت أدركتني ، وعند شدتي دعوت الرب ، وإلى إلهي صرخت ، سمع من هيكل قدسه صوت دعائي ، أمامه يدخل إلى مسامعه ، تزلزلت الأرض وارتعدت ، تحركت أساسات الجبال وتزعزعت من أجل أن الرب غضب عليها ، صعد الدخان من رجزه والتهبت النار أمامها ، اشتعل منه جمر النا ، طأطأ السماوات ، والضباب تحت رجليه ، طار على أجنحة الرياح ، جعل الظلمة حجابه ، تحوط مظلته مياه مظلمة في سحب الهوا من الزمهرير ظلاله ، ومنبريق نور وجهه جعل الغمام يجري بين يديه ، برداً وجمر نار ، ارعد الرب من السماء ، وأبدى العي صوته ، أرسل سهاماً وفرقهم ، وأكثر البرق وافزعهم وأقلقهم ، ظهرت عيون المياه ، وانكشفت أساسات المسكونة من انتهارك يا رب ومن هبوب الريح سخطك ، أرسل من العلى وأخذني ، نشلني من المياه الغزيرة ، وخلصني من أعدائي الأشداء ، ومن المبغضين لي ، لأنهم تقووا أكثر مني ، سبقوني في يوم حزني ، نجاني في يوم جزعي ، الرب صار لي سنداً ، أ رجني إلى السعة ، وأنقذني لأنه ترأف لي ، خلصني من أعدائي المبغضين ، جازاني الرب مثل بري ، ومثل طهر يدي يعطيني ، لأني حفظت سبل الرب ، ولم أبعد من إلهي ، إذ كل أحكامه قدامي ، وعدله لم ابعده عني ، أكون معه بلا عيب ، ولم تزدحف خطاي ، جازاني الب مثل بري ، ومثل طهر يدي أمامه ، مع العفيف عفيفاً تكون ، من البار أنك تنجي تكون ، ومع الملتوي ملتوياً تكون ، مع المختار مختاراص تكون ، من أجل أنك تنجي الشعب المتواضع وتذل أعين المتعظمين ، وأنت يا رب تضيء سراجي ، لأني بك أنجو من الرصد ، وبإلهي أعبر السور ، والله لا ريب في سبله ، كلام الرب مختبر ، يخلص جميع المتوكلين عليه ، لا إله مثل الرب ، ولا عزبز مثل إلهنا ، الإله الذي عضدني بقوته ، جعل سبيلي با لعيب ، ثبت قدمي ، وعلى المشارق رفعني ، علم يدي القتال ، شدد ذراعي مثل قوس نحاس ، أعطاني الخلاص ، يمينه نصرتني ، وأدبه أقامني إلى التمام ، حكمتك علمتني ، وسعت خطاي تحتي ، ولم تضعف قدماي ، أطلب أعدائي وأدركهم ، ولا أرجع حتى أفنيهم ، أرميهم فلا يستطيعون القيام ، يسقطون تحت قدمي ، عضدتني بقوة فب الحرب ، جعلت كل الذي قاموا عليّ تحتي ، أبدت أعدائي استأصلت الذي سنؤوني ، صرخوا فلم يمن لهم مخلص ، رغبوا إلى الله فلم يستجب لهم ، أسحقهم مثل الثرى أمام الريح ، وكمثل طين الطرق أطؤهم ، نجني من مقاومة الألسن ، سيرني راساً على الشعوب ، الشعب الذي لا أعرفه تعبد لي ، سمع لي سماع(5/120)
صفحة رقم 121
الأذن ، بنو الغرباء أقبلوا وأطيعوني ، ولم يؤمن بي بنو الغرباء ، حي هو الله ، وتبارك إله خلاصي ، تعالى الرب الذي أنقذني ، الله الذي ثبّت لي الانتقام ، أخضع الشعوب تحتي ، ونجاني من أعدائي ، ورفعني على الذين قاموا عليّ ، ومن الرجال الأثمة نجاني ، لذلك أشكرك يا رب بين الشعوب ، وأرتل لا سمك .
المزمور الحادي والعشرون : إلهي إلهي لماذا تركتني ؟ تباعدت عن خلاصي لقول جهلي ، غلهي دعوتك فلم تستجب لي ، وفي الليل فلم يكن مني جهلاً ، أنت كائن في القديسين يا فخر إسرائيل ، بك آمن آباؤنا ، وتوكلوا عليك فنجيتهم ، وصرخوا إليك فخلصتهم ، رجوك فلم يخزوا ، وأنا فدودة ولست إنساناً ، عار في الناس ، مرذول في الشعب ، كل من رآني يمقتني ، تكلموا بشفاههم وهزوا رؤوسهم وقالوا : أن كان آمن أو توكل على الرب فلينجه ، ويخلصه إ ، كان يحبه ، وأنت من البطن أخرجتني ، ومذ كنت أرتضع من بطن أمي القيت إليك ، وعليك من الرحم توكلت ، ومن بطن أمي أنت إلهي فلا تبعد عني ، فإن الشدة قريبة ، وليس من يخلصني ، أحاطت بي عجول كثيرة ، اكتنفني ثيران السمانن ، فتحت أفواهها على مثل الأسد الزائر المفترس ، ومثل الماء انهرقت عظامي ، وصار قلبي مثل الشمع المذاب في وسط بطني ، يبست قواي مثل الفخار ، لصق لساني بحنكي 4 ، وإلى تراب الموت أنزلتني ، أجحاطت بي كلاب كثيرة ، اكتنفتي جماعة الأشرار ، ثقبوا يدي ورجلي ، وزعزعوا جميع عظامي ، نظروا إليّ وشمتوني ، واقتسموا بينهم ثيابي ، واقترعوا على لباسي ، وأنت يا رب فلا تبعد من معونتي ، انظر إلى تضرعي ، نج من السيف نفسي ، ومن يد الكلاب التي احتوشتني ، ومن فم الأسد خلصني ، ومنالقرن المتعالي على تواضعي ، لأبشر باسمك إخوتي ، وبين الجماعة أمجدك ، أيها الخائفون من الرب مجدوه يا جميع ذرية يعقوب سبحوه يخشاه كل زرع إسرائيل ، لأنه لم يهن ولم يرذل دعوة المسكين ، ولا صرف وجهه عني ، وعند دعائي استجاب لي ، يأكل المساكين ويشبعون ، ويسجد قدامه جميع قبائل الشعوب ، لأنه الملك الرب ، وسلطانه على الأمم ، تأكل وتسجد قدام الرب جميع ملوك الأرض ، وبين يديه يجثو جميع هابطي التراب لله ، يحيي نفسي ، وذريتي لع تتعبد ، أخبروا بالرب أيها الجيل الآتي ، وحدثوا بعدله ، ليرى الشعب الذي يولد صنع الرب .
المزمور الثلاثون : عليك يارب توكلت فلا أخرى إلى الأبد ، خلصني وأنقذني بعدلك ، أنصت لي بسمعك ، واستنقذني عاجلاً ، كن لي إلهاً نصيراً ملجأ ومخلصاً لأنك عوني وملجئي ، وباسمك يارب تهديني وتعينني وتخرجني من هذا الفخ الذي أخفي لي ، لأنك ناصري ، وفي يدك أسم روحي ، نجني يارب إله الحق ، شنأت الذين(5/121)
صفحة رقم 122
يغتبطون بالأوثان الباطله ، وأنا على الرب توكلت ، أفرح وأسر برحمتك لأنك نظرت إلى تواضعي ، وخلصت نفسي من الشدائد ، ولمن تسلمني في ايدي الأعداء ، اقمت رجلي في السعة ، ارحمني يا رب فإني حزين ، جزعت عيناي من سخطك ، ونفسي وقواي ، فني عمري بالأحزان ، وسني بالزفرات ، ضعفت بالمسكنة قوتي وقلقلت عظامي ، صرت عاراً في أعدائي وجيرتي ، ورهبة لمن عرفني ، من عاينني تباعد عني ، ونسوني في قلوبهم مثل الميت ، صرت مثل إناء مكسور ، لأني سمعت سب جميع من حولي ، هموا بي وعند اجتماعهم عليّ جميعاً تآمروا لأخذ نفسي ، فأنا يارب عليك توكلت ، قلت : أنت إلهي ، وفي يدك قسمي ، نجني من يد أعدائي والطاردين لي ، أضىء وجهك على عبدك ، وخلصني برحمتك ، يارب لا تخزني فإني دعوتك ، تخزي المنافقين ويهبطون إلى الجحيم ، تبكم الشفاه الغاشة المتقولة على الصديق بالزور والبهتان ، ما أكثر رحمتك يارب لجميع خائفيك ، أعددتها لمن اعتصم بك أمام بني البشر ، استرهم في كنفك نم أشرار الناس وفي ظلال وجهك ، وقهم من مقاومة الألسن ، تبارك الرب الذي انتخب له الأصفياء في المدينة العظيمة ، أنت قلت في تحيري : إني سقطت من حذاء عينك ، ولذلك سمعت صوت تضرعي حين دعوتك ، حبوا الرب يا جميع أصفيائه ، فإن الرب يبتغي الحق ، ويكافىء المستكبرين بفعلهم ، تشتد قلوبكم وتقوى أيها المتوكلون على الرب .
المزمور الثالث والثلاثون : أبارك الرب في كل حين ، وكل أوان تسبيحه في فمي ، بالرب تفتخر نفسي ، فليسمع أهل الدعة ويفرحوا ، عظموا معي الرب وشرفوا اسمه أجمعون ، أنا طلبت الرب فأجابني ، ومن شدائدي نجاني ، أقبلوا إلى الرب واستتورا به ، فإن وجوهكم لا تخزى ، إن المسكين دعا فاستجاب له الرب ، ومن جميع أحزانه خلصه ، ملك الرب يحوط أتقياءه وينجيهم ، ذقوا وتيقنوا طيب الرب ، طوبى للرجل المتوكل عليه ، اتقوا الرب ياجميع قديسيه لأنه لا نقصة لأتقيائه ، الأغنياء افتقروا وجاعوا ، والذين يطلبون الرب لا يعدمون كل الخيرات ، هلموا أيها الأبناء واسمعوا مني لأفهمكم مخافة الرب ، من هو الرجل الذي يهوى الحياة ويحب أن يرى الأيام الصالحة ، اكفف لسانك من الشر وشفتيك ، لا تتكلم بالغدر ، ابعد عن الشر ، واصنع الخير ، اطلب السلامة واتبعها ، فإن عين الرب على الأبرار ، وسمعه إلى تضرعهم ، وحه الرب على صانعي الشر ليمحو ذكرهم من الأرض ، الأبرار دعوا فاستجاب لهم الرب ، من جميع شدائدهم نجاهم ، الرب قريب من مستقيمي القلوب ، يخلص متواضعي الأرواح ، كثيرة هي أحزان الصديقين ، ومن جميعها ينجيهم الرب ، الرب يحفظ جميع(5/122)
صفحة رقم 123
عظامهم ، وواحد منهم لا ينكسر ، موت الخطأ سيىء ، ومبغضو البار يهلكون ، الرب ينجي نفوس عبيده ، ولا يخيب المتوكلين عليه ، المزمور الرابع والثلاثون : حاكم يا رب الذين يظلمونني ، قاتل الذي يقاتلونني ، خذ سلاحاً وترساً وقم لمعونتي ، استل سيفاً ورد به أعدائي الذين يرهقونني ، وقل لنفسي : أنا مخلصك ، يخزي ويبهت طالبو نفسي ، يرتدون على أعقابهم ويخزي الذين يتفكرون بي الشر ، ويكونون كالغبار أمام اليح ، وملك الرب يخزيهم ، تكون طريقهم زلقة ظلمة عليهم وملك الرب يطاردهم ، لأنهم أخفوا لي فخاً ، بغير حق عيروا نفسي ، فليأتهم الشر بغتة ، والمصيدة التي أخفوها تأخذهم ، وفي الحفرة التي حفروها يسقطون ، نفسي تبتهج بالرب ، وتنعم بخلاصه ، عظامي كلها تقول : يا رب من مثلك منجي المسكين من يد القوي ، والفقير والبائس من يد الذين يختطفونه ، قام عليّ شهود الزور ، وعما لم أعلم سألوني ، جاوزني بدل الخير شراً ، وأبادوا نفسي وأنا عندما لجوا عليّ لبست مسحاً ، وبالصيام أذللت نفسي ، وصلاتي عادت إلى حضني ، مثل قريب و أخ كنت لهم ، صرت كالحزين الكئيب في تواضعي ، اجتمعوا عليّ وفرحوا ، اجتمع عليّ الأشرار ولم أشعر ، أثموا ولم يندموا ، أحزنوني وهزؤوا بي وصروا أسنانهم عليّ ، يا رب إلى متى تنتظر نج نفسي من شر ما نصبوا ، ومن الأسد نج وحدتي ، لأشكرك يا رب في الجمع الكثيرة وفي الشعب الصالح أرتل لك ، لا يسر بي المعدون لي ظلماَ ، الذين يشنؤونني باطلاً ويتغامزون بعيونهم ، لأنهم يتكلون بالسلام وبالدغل يفكرون ، وعلى المتواضعين في الأرض يقولون الكذب ، فتحوا عليّ أفواههم ، وقالوا : نعماً نعماً قد قرت به عيوننا ، اللهم قد رايتن لا تغفل ، لا تبعد عني يا رب انظر سريعاً في قضائي إلهي وربي ، كن في ظلامتي ، واحكم لي مثل برك يا ربي وإلهي ، لا تسرهم بي ، لئلا يقولوا في قلوبهم : تفتحت نفوسنا ، ولا يقولوا : قد ابتلعناه ، يخزون ويهنون جميعاً الذين يفرحون بإساءتي ، يلبس الخزي والبهت المتعظون بالقول عليّ يسر ويفرح الذين يهوون بري ، ويقولون في كل حين : عظيم هو الرب ، الذين يريدون سلامة عبدك ، لساني يتلو عدلك وتمجيدك النهار كله .
المزمور السادس والثلاثون : لا تغبط الأشرار ولا تتأسّ بفاعلي الإثم ، لأنهم مثل العشب سريعاً يجفون ، ومثل البقل الأخضر عاجلاً يذبلون ، توكل على الرب واصنع الخير ، واسكن في الأرض ، وعش من نعيمها ، استبشر بالرب يعطيك مطلوبات قلبك ، واكشف سبلك للرب وتوكل عليه وهو يصنع لك ، يخرج مثل النور عدلك ، ومثل الظهيرة أحكامك ، اخضع للرب واضرع إليه ، لا تغبط الرجل المستقيم في طريقه المقيم(5/123)
صفحة رقم 124
على إثمه ، ولا رجلاً يعمل بخلاف الناموس ، اكفف من السخط ، ودع الغضب ، لا تبار الشرير ، فإن الأشرار جميعاً يبيدون ، والذين يرجون الرب يرثون الأرض عن قليل ، لا يوجد الخاطىء ، ويطلب مكانه فلا يوجد ، أهل الدعة يرثون الأرض ، ويتنعمون بكثرة السلامة ، المنافق يرصد الصديق ويصر عليه أسنانه ، والرب يهزأ به ، لأنه قد علم أن يومه يدركه ، استل الخطأة سيوفهم ، وأوتروا قسيهم ، ليصرعوا المسكين والبائس ، ويقتلو مستقيم القلب ، تدخل سيوفهم إلى قلوبهم ، وتنكسر قسيهم ، اليسير للصديق خير من كثرة غنى الخطأة ، لأن سواعد الخطأة تنكسر ، والرب يحفظ البرار ، الرب يعرف أيام صديقيه الذين لا عيب فيهم وميراثهم إلى الأبد ، ولا يخزون في زمان سوء وفي أيام الشدائد يشبعون ، لأن الأثمة يبيدون ، أعداء الرب حين يرتعمون ويتمجدون يذهبون مثل الدخان ويضمحلون ، الخاطىء يقترض ولا يوفى ، والبار يترأف ويعطي ، لأن مباركيه يرثون الأرض ، ولا غية يستأصلون ، الرب يقوّم خطأ الإنسان ويهديه في الطريق ، إن سقط البار لم يجزع ، لأن الرب ممسك بيده ، كنت صبياً وشخت ولم أر صديقاً رفض ، ولا ذريته طلبت خبزاً النهار كله يترحم ويقرض ونسله مبارك ، ابعد عن الشر وافعل الخير ، واسكن إلى أبد الأبد ، فم الصديق ينطق بالحكمة ولسانه يقول العدل ، سنة إلهه في قلبه ، ولا تزدحف قدماه ، الخاطىء يرصد البار وبهم بقتله ، والرب لا يسلمه في يديه ، ولا يدخله في الحكم ، ترج الرب واحفظ طرقه ، وهو يرفعك لترث الأرض وتعاين الخطأة جميعاً يبيدون ، رأيت المنافق يتعالى : ويتطاول مثل أرز لبنان ، مررت به فلم أجده وطلبت موضعه فلم أصبه ، تمسك بالدعة وسترى الاستقامة ، خلاص الأبرار من عندالرب وهو نا صرهم في الزمان الشدائد ، الرب عونهم ومنجيهم ومنقذهم من الخطأة ، ويخلصهم لأنهم توكلوا عليه .
الأنبياء : ( 106 - 112 ) إن في هذا. .. . .
) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( } )(5/124)
صفحة رقم 125
ولما كان ما ذكر في هذه السورة من الحكم والدلائل والقصص واعظاً شافياً حكيماً ، ومرشداً هادياً عليماً ، قال واصلاً بما تقدم إشارة غلى أنه نتيجة : ( إن في هذا ) أي الذي ذكرناه هنا من الأدلة على قدرتنا على قيام الساعة وغيرها من الممكنات ، وعلى أن من ادعى علينا أمراً فأيدناه عليه وجعلنا العاقبة له فيه فهو صادق محق ، وخصمه كاذب مبطل ) لبلاغاً ( لأمراً عظيماً كافياً في البلوغ إلى معرفة الحق فيما ذكرناه من قيام الساعة والوحدانية وجميع ما تحصل به البعثة ) لقوم ) أي لأناس أقوياء على ما يقصدونه ) عابدين ) أي معترفين بالعبودية لربهم الذي خلقهم اعترافاً تطابقه الأفعال بغاية الجد والنشاط .
ولما كان هذا مشيراً غلى رشادهم ، فكان التقدير : فما أرسلناك إلا لإسعادهم والكفاية لهم في البلاغ إلى جنات النعيم ، عطف عليه ما يفهم سبب التأخير لإنجاز ما يستعجله غير العابدين من العذاب فقال : ( وما أرسلناك ) أي بعظمتنا العامة على حالة من الأحوال ) إلا ( على حال كونك ) رحمة للعالمين ( كلهم ، أهل السماوات وأهل الأرض من الجن والأنس وغيرهم ، طائعهم بالثواب ، وعاصيهم بتأخير العقاب ، الذي كنا نستأصل به الأمم ، فنحن نمهلهم ونترفق بهم ، إظهاراً لشرفك وإعلاء لقدرك ، حتى نبين أنهم مع كثرتهم وقوتهم وشوكتهم وشدة تمالئهم عليك لا يصلون إلى ما يريدون منك ، ثم نرد كثيراً منهم إلى دينك ، ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك ، بعد طول ارتكابهم الضلال ، وارتباكهم في أشراك المحال ، وإيضاعهم في الجدال والمحال ، فيلعم قطعاً أنه لا ناصر لك إلا الله الذي يعلم القول في السماء والأرض ، ومن أعظم ما يظهر فيه الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الأولون والآخرون ، وتقوم ا لملائكة صفوفاً والثقلان وسطهم ، ويموج بعضهم في بعض من شدة ما هم فيه ، يطلبون من يشفع لهم في أن يحاسبوا ليستريحوا من ذلك الكرب أما إلى جنة أو نار ، فيقصدون أكابر الأنبياء نبياً نبياً عليهم الصلاة والسلام ، والتحية والإكرام ، فيحيل بعضهم على بعض ، وكل منهم يقول : لست لها ، حتى يأتوه ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول : ( أنا لها ، ) ويقوم ومعه لواء الحمد فيشفعه الله وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وقد سبقت أكثر الحديث بذلك في سورة غافر عند
77 ( ) ولا شفيع يطاع ( ) 7
[ الآية : 18 ] .
ولما كان البلاغ الذي رتب هذا لأجله هو التوحيد الملزوم لتمام القدرة ، أتبع الإشارة إلى تأخيرهم غلإيمان إلى تحذيرهم فقال : ( قل ) أي لكل من يمكنك له القول :(5/125)
صفحة رقم 126
) إنما يوحى إليّ ( اي ممن لا موحي بالخير سواه وهو الله الذي خصني بهذا الكتاب المعجز ) أنما إلهكم ( .
ولما كان المراد إثبات الوحدانية ، لإله مجمع على إلهيته منه ومنهم ، كرر ذكر الإله فقال : ( إله واحد ( لا شريك له ، لم يوح إليّ في أمر الإله إلا الوحداينة ، وما إلهكم إلا واحد لمن يوح إليّ فيما تدعون من الشركة غير ذلك ، فالأول من قصر الصفة على الموصوف ، أي الحكم على الشيء ، أي الموحي به إليّ مقصور على الوحدانية لا يتعداها إلى الشركة ، والثاني من قصر الموصوف على الصفة ، أي الإله مقصور على الوحدة لا يتجاوزها إلى التعدد ، والمخاطب بهما من يعتقد الشركة ، فهو قصر قلب .
ولما انضم إلى ما مضى من الأدلة العقلية في أمر الوحدانية هذا الدليل السمعي ، وكان ذلك موجباً لأن يخشى إيجاز ما توعدهم به فيخلصوا العبادة لله ، أشار إلى ذلك مرهباً ومرغباً بقوله : ( فهل أنتم مسلمون ( اي مذعنون له ملقون إليه مقاليدكم متخلون عن جميع ما تدعونه من دونه لتسلموا من عذابه وتفوزوا بثوابه ، ففي الآية أن هذه الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع .
ولما كان توليهم بعد هذه القواطع مستبعد ، أشار إلى ذلك بإيراده بأداة الشك فقال : ( فإن تولوا ) أي لم يقبلوا ما دعوتهم إليه ) فقل ) أي لهم : ( ءاذنتكم ) أي أعلمتكم ببراءتي منكم وأني غير راجع إليكم أبداً كما أنكم تبرأتم مني ولم ترجعوا إليّ ، فصار علمكم أن لا صلح بيننا مع التولي كعلمي وعلم من اتبعني .
لتتأهبوا لجميع ما تظنونه ينفعكم ، فهو كمن بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدره ، فنبذ غليهم العهد ، شهر ذلك النبذ وأشاعه فلم يخفه عن أحد منهم ، وهو مما اشتهر أنه بلغ النهاية في الفصاحة والوجازة ، أو أبلغتكم جميع ما أرسلت به ولم أخص به أحداً دون أحد ، وهذا كله معنى ) على سواء ) أي إيذاناً مستعلياً على أمر نصف وطريق عدل ، ليس فيه شيء من خفاء ولا غش ولا خداع ولا عذر ، بل نستوي فيه نحن وأنتم .
ولما كان من لازم البراءة من شخص الإيقاع به كان موضع أن يقولوا هزؤاً على عادتهم : نبذت إلينا على سواء فعجل لنا ما تتوعدنا به ، فقال : ( وإن ) أي وما ) أدري أقريب ( جداً بحيث يكون قربه على ما تتعارفونه ) أم بعيد ما توعدون ( من عذاب الله في الدنيا بأيدي المسلمين أو بغيره ، أو في الآخرة مع العلم بأنه كائن لا محالةن وأنه لا بد أن يلحق من أعراض الله الذل والصغار .
ولما كان من المقطوع به من كون الشك إنما هو في القرب أو البعد أن يكون(5/126)
صفحة رقم 127
التقدير : لكنه محقق الوجود ، لأن الله واحد لا شريك له ، وقريب عند الله ، لأن كل ما حقق إيجاده قريب ، علله بقوله : ( إنه ) أي الله تعالى ) يعلم الجهر ( لما كان الجهر قد يكون في الأفعال ، بينه بقوله : ( من القول ( مما تجاهرونه به من العظائم وغير ذلك ، ونبه الله تعالى على ذلك لأن من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جداً بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين ، فأعلم سبحانه أنه لا يشغله صوت عن آخر ولا يفوته شيء عن ذلك ولو كثر ) ويعلم ما تكتمون ( مما تضمرونه من المخازي كما قال تعالى أولها ) قل ربي يعلم القول في السماء والأرض ( ومن لازم ذلك المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل ، فستعلمون كيف يخيب ظنونكم ويحقق ما أقول ، فتقطعون بأني صادق عليه ولست بساحر ، ولا حالم ولا كاذب ولا شاعر ، فهو من أبلغ التهديد فإنه لا أعظم من التهديد بالعلم .
ولما كان الإمهال قد يكون نعمة ، وقد يكون نقمة ، قال : ( وإن ( وما ) أدري ) أي ايكون تأخير عذابكم نعمة لكم كما تظنون أو لا .
ولما كان إلى كونه نقمة أقرب ، قال معبراً عما قدرته : ( لعله ) أي تأخير العذاب وإيهام الوقت ) فتنة لكم ) أي اختبار من الله ليظهر ما يعلمه منكم من الشر لغيره ، لأن حالكم حال من يتوقع منه ذلك ) ومتاع ( لكم تتمتعون به ) إلى حين ) أي بلوغ مدة آجالكم التي ضربها لكم في الأزل ، ثم يأخذكم بغتة أخة يستأصلكم بها .
ولما كان اللازم من هذه الآيات تجويز أمور تهم سامعها وتقلقه للعلم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء من عدل وفضل ، وكان من العدل جواز تعذيب الطائع وتنعيم العاصي ، كان كأنه قيل : فما قال الرسول الشفوق على الأمة حين سمع هذا الخطاب ؟ فقيل : قال مبتهلاً غلى الله تعالى - هذا على قراءة حفص .
وعلى قراءة حفص ، وعلى قراءة الجمهور : لما علم سبحانه أن ذلك مقلق ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بما يرجى من يقلق من أتباعه فقال : ( قل رب ) أي ايها المحسن إلي في نفسي واتباعي بامتثال أوامرك واجتناب نواهيك ) احكم ) أي أنجز الحكم بيني وبين هؤلاء المخالفين ) بالحق ) أي بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان على ما أجريته من سنتك القديمة في أوليائك وأعدائك
77 ( ) ما ننزل الملائكة إلا بالحق ( ) 7
[ الحجر : 8 ] أي الأمر الفصل الناجز ، قال ابن كثير : وعن مالك عن زيد بن أسلم : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا شهد قتالاً قال ) رب احكم بالحق ( .
وفي الآية أعظم حث على لزوم الإنسان بالحق ليتأهل لهذه الدعوة .(5/127)
صفحة رقم 128
ولما كان التقدير : فربنا المنتقم الجبار له أن يفعل ما يشاء وهو قادر على ما توعدون ، عطف عليه قوله : ( وربنا ) أي المحسن إلينا أجمعين ؛ ثم وصفه بقوله : ( الرحمن ) أي العام الرحمة لنا ولكم بإدرار النعم علينا ، ولولا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين وإن كنا نحن أطعناه ، لأنا لا نقدره حق قدره ) لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ( والحاصل أنه لما سال ) الحق ( المراد به الهلاك للعدو والنجاة للولي ، أفرد الإضافة إشارة إلى تخصيصه بالفضل ، وإفرادهم بالعدل ، ولما سأل العون عن بالإضافة والصفة قنوعاً بترجيح جانبه بالعون وإن شملتم الرحمة ، ولأن من رحمتهم خليتهم عما هم عليه من الشر فقال : ( المستعان ) أي المطلوب منه العون وهو خبر مبتدأ موصوف ) على ما تصفون ( مما هو ناشىء عن غفلتكم الناشئة عن إعراضكم عن هذا الذكر من الاستهزاء والقذف بالسحر وغيره ، والمناصبة بالعداوة والتوعد بكل شر ، فقد انطبق آخر السورة على أولها بذكر الساعة رداً على قوله ) اقترب للناس حسابهم ( وذكر غفلتهم وإعراضهم وذكر القرآن الذي هو البلاغ ، وذكر الرسالة بالرحمة لمن نسبوه إلى السحر وغيره ، وتفصيل ما استعجلوا به من آيات الأولين وغير ذلك ، وقام الدليل بالسمع بعد العقل على تحقق أمر الساعة بأنه سبحانه لا شريك له يمنعه من ذلك ، وأنه يعلم السر وأخفىن وهو الرحمن ، فمن رحمته إيجاد يوم الدين ليجازي فيه المحسن بإحسانه ، والمسيء بكفرانه ، وفي ذلك أعظم ترهيب في أعلى حاث على التقوى للنجاة في ذلك اليوم ، وهو أول التي تليها - والله الموفق .
.. .. .(5/128)
صفحة رقم 129
سورة الحج
الحج : ( 1 - 5 ) يا أيها الناس. .. . .
) يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( ( )
مقصودها الحث على التقوى المعلية عن دركة الاستحقاق للحكم بالعدل إلى درجة استئال الإنعام بالفضل ، في يوم الجمع للفصل ، وأنسب ما فيها لذلك الحج وهو ظاهر ) بسم الله ( الذي اقتضت عظمته خضوع كل شيء ) الرحمن ( الذي عم برحمته وعدله كل موجود ) الرحيم ( الذي خص بفضله من شاء من ذوي عدله .
لما ختمت التي قبلها بالترهيب من الفزع الأكبر ، وطيّ السماء وإتيان ما يوعدون ، والدينونة بما يستحقون ، وكان أعظم ذلك يوم الدين ، افتتحت هذه بالأمر بالتقوى المنجية من هول ذلك اليوم فقال : ( يا أيها الناس ) أي الذين تقدم أول تلك أنه اقترب لهم حسابهم ) اتقو ربكم ) أي احذروا عقاب المحست إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبينه وقاية الطاعات .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما افتتحت سورة الأنبياء بقوله تعالى : ( اقترب(5/129)
صفحة رقم 130
للناس حسابهم ( وكان وارداً فقي معرض التهديد ، وتكرر في مواضع منها كقوله تعالى :
77 ( ) إلينا ترجعون ( ) 7
[ الأنبياء : 35 ]
77 ( ) سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد ( ) 7
[ الأنبياء : 37 ]
77 ( ) لو يعلم الذين كفروا حين يكفون عن وجوهم النار ( ) 7
[ الأنبياء : 39 ]
77 ( ) ولئن مستهم نفحة نم عذاب ربك ( ) 7
[ الأنبياء : 46 ]
77 ( ) ونضع موازين القسط يوم القيامة ( ) 7
[ الأنبياء : 47 ]
77 ( ) وهم من الساعة مشفقون ( ) 7
[ الأنبياء : 49 ]
77 ( ) كل إلينا راجعون ( ) 7
[ الأنبياء : 93 ]
77 ( ) واقترب وعد الحق ( ) 7
[ الأنبياء : 97 ]
77 ( ) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ( ) 7
[ الأنبياء : 98 ]
77 ( ) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ( ) 7
[ الأنبياء : 104 ] إلى ما تخلل هذه الآي من التهديد ، وشديد الوعيد ، حتى لا تكاد تجد أمثال هذه الآي في الوعيد والإنذار بما في الساعة وما بعدها وما بين يديها في نظائر هذه السورة ، وقد ختمت من ذلك بمثل ما به ابتدئت ، اتصل بذلك ما يناسبه من الإعلام بهول الساعة وعظيم أمرها ، فقال تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ( - إلى قوله : ( ولكن عذاب الله شديد ( ثم اتبع ببسط الدلالات على البعث الأخي وإقامة البرهان ) يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث ( الآيات ، ثم قال ) ذلك بأن الله هو الحق ) أي اطرد هذا الحكم العجيب ووضح من تقلبكم من حالة إلى حالة في الأرحام وبعد خروجكم إلى الدنيا وأنتم تعلمون ذلك من أنفسكم ، وتشاهدون الأرض على صفة من الهمود والموت إلى حين نزولالماء فنحي ونخرج أنواع النبات وضروب الثمرات ) يسقى بماء واحد ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى ( كما أحياكم أولاً وأخرجكم من العدم إلى الوجود وأحيا الأرض بعد موتها وهمودها ، كذلك تأتي الساعة من غير ريب ولا شك ، ويبعثكم لما وعدكم من حسابكم وجزائكم ) فريق في الجنة وفريق في السعير ( انتهى .
ولما أمرهم بالتقوى : علل ذلك مرهباً لهم بقوله : ( إن زلزلة الساعة ) أي التي تقدم التحذير منها في الأنبياء بدأ وختماً وما بين ذلك ، أي شدة اضطرابها وتحركها العنيف المزيل للأشياء عن مقارها إزالة عظيمة ، بما يحصل فيهما من الأصوات المختلفة ، والحركات المزعجة المتصلة ، من النفخ في الصور ، وبعثرة القبور ، وما يتسبب عن ذلك من عجائب المقدور ، وقت القيام ، واشتداد الزحام ، وذلك لأن ( زلزل ) مضاعف زل - إذا زال عن مقره بسرعة ، ضوعف لفظه لتضاعف معناه ؛ قال البغوي : الزلزلة والزلزال : شدة الحركة على الحال الهائلة - انتهى .
وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول فيه ، ) سيء عظيم ) أي لا تحتمل العقول وصفه ؛ قال ابن كثير : أي أمر كبير ، وخطب جليل وطارق مفظع ، وحادث هائل ، وكائن عجيب - انتهى .(5/130)
صفحة رقم 131
وهذا للزلزلة نفسها ، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لا بد لكم من الحشر فيه إلى الله ليجازيكم على ما كان منكم ، لا ينسى منه نقير ولا قطمير ، ولا يخفى قليل ولا كثير ، مما تطير له القلوب ، ولا تثبت له النفوس ، فاعتدوا وجاهدوا أعداءكم من الأهواء والشياطين .
ولما كان المراد بالساعة القيام وما والاه ، جعل مظروفاً لذلك اليوم الذي هو من ذلك الوقت إلى افتراق الفريقين إلى داري الإبعاد والإسعاد ، والهوان والغفران ، فقال تعالى : ( يوم ترونها ) أي الزلزلة أو كل مرضعة ، أضمرها قبل الذكر ، تهويلاً للأمر وترويعاً للنفس ) تذهل ) أي تنسى وتغفل حائرة مدهوشة ، وهو العامل في ( يوم ) ويجوز أن يكون عامله معنى الكلام ، أي تستعظمون جداً ذلك اليوم عمد المعاينة وإن كنتم الآن تكذبون ، ويكون ما بعده استئنافاً ودل بالسور على عموم تأثير لشدة عظمته فقال : ( كل مرضعة ) أي بالفعل ) عما أرضعت ( من ولدها وغيره ، وهي من ماتت مع أبنها رضيعاً ، قال البغوي : يقال : مرضع ، بلا هاء - إذا أريد به الصفة مثل حائض وحامل ، فإذا أردوا الفعل أدخلوا الهاء - يعني : فيدل حينئذ أنها ملتبسة به ) وتضع كل ذات حمل حملها ) أي تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً ، وهي من ماتت حاملاً - والله أعلم ، فإن كل أحد يقوم على ما مات عليه ، قال ا لحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام - انتهى .
ويؤيد أن هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما في الصحيحين وغيرهما : مسلم في الإيمان وهذا لفظه ، والبخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رفعه : ( يقول الله عز وجل : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، قال : يقول : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فذلك حين يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ) الحديث والأحاديث في ذلك كثيرة ، ومعارضها ضعيف ، والمنسب أيضاً لما في آخر تلك من قوله
77 ( ) فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ( ) 7
[ الأنبياء : 97 ] وما تبعه أن هذه الزلزلة بعد القيام من القبور
77 ( ) يوم نطوي السماء ( ) 7
[ الأنبياء : 104 ]
77 ( ) إذا السماء انفطرت ( ) 7
- إلى قوله :
77 ( ) علمت نفس ما قدمت وأخرت ( ) 7
[ النفطار : 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ] ويمكن أن يكون المراد هذا وا قبله لأن يوم الساعة طويل ، فنسبة الكل إليها على حد سواء .
ولما كان الناس كلهم يرون الزلزلة ، ولا يرى الإنسان السكر - إلا من غيره قال(5/131)
صفحة رقم 132
في الزلزلة ) ترونها ( وقال في ) السكر ( : ( وترى الناس سكارى ) أي لما هم فيه من الدهش والحيرة والبهت لما شاهدوا من حجاب العز وسلطان الجبروت وسرادق الكبرياء ، ثم دل على أن ذلك ليس على حقيقته بقوله ، نافياً لما يظن إثباته بالجملة الأولى : ( وما هم بسكارى ) أي من الخمر .
ولما نفى أن يكونوا سكارى من الخمر ، أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة فقال : ( ولكن عذاب الله ( ذي العز والجبروت ) شديد ( فهو الذي وجب أن يظن بهم السكر ، لأنه أذهب خوفه حولهم ، وطير هوله عقولهم .
ولما أفهم العطف الآتي أن الناس قسمان ، وأن التقدير : فإن منكم من يؤمن فبتقي فينجو من شر ذلك اليوم الذي اقتضت الحكمة إظهار العظمة فيه ليزداد حزب الله فرحاً ، وحزب الشيطان غماً وترحاً ، عطف عليه قوله : ( ومن الناس ) أي المذبذبين المضطربين ) من ( لا يسعى في إعلاء نفسه وتهذيباً فيكذب فيوبق بسوء أعماله ، لأنه ) يجادل في الله ) أي في قدرة الملك الأعظم على ذلك اليوم وفي غير ذلمك من شؤونه بعد أن جاءه العلم بها اجتراء على سلطانه العظيم ) بغير علم ( بل بالباطل الذي هو جهل صرف ، فيترك اتباع الهداة النصحاء ) ويتبع ( بغاية جهده في جداله ) كل شيطان ) أي محترق بالشر مبعد باللعن .
ولما كان السياق لذم متبعه ، أشار إلى أنه لا قصد له في اتباعه إلا الشر ، لأنه لا لبس في أمره بصيغة المبالغة كما مضى في النساء ويأتي في الصافات ، فقال : ( مريد ) أي متجرد للفساد لا شغل غيره ، فهو في غاية الضراوة عليه ، قال البيضاوي : وأصله العرى ) كتب ) أي قضى وقدر على سبيل الحتم الذي لا بد منه ، تعبير باللازم عن الملزوم ) عليه ) أي على ذلك الشيطان ) أنه من تولاه ) أي فعل معه فعل الولي مع وليه ، باتباعه والإقبال على ما يزينه ) فإنه يضله ( بما يبغض إليه من الطاعات فيخطىء سبيل الخير .
ولما نفّر عن توليه بإضلاله لأن الضلال مكروه إلى كل أحد ، بين أنه إضلال لا هدى معه أصلاً فقال : ( ويهديه ) أي بما يزين له من الشهوات ، الحاملة على الزلات ، إعلاماً بأنه إن كان له هدى إلى شيء فهو ) إلى عذاب السعير ( .
ولما حذر الناس من ذلك اليوم ، وأخبر أن منهم من يكذب ، وعرف بمآله ، فأفهخم ذلك أن منهم من يصدق به فيكون له ضد حاله ، وكان كثير من المصدقين يعملون عمل المكذبين ، أقبل عليهم سبحانه إقبالاً ثانياً رحمة لهم ، منبهاً على أنه ينبغي أن لا يكون عندهم نوع من الشك في ذلك اليوم لما عليه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ، فقال دالاً عليه بالأمرين : ( يا أيها(5/132)
صفحة رقم 133
الناس ) أي كافة ، ويجوز أن يراد المنكر فقط ، وعبر بالناس الذي هو من أسفل الأوصاف لذلك ، وإشارة إلى أن المنكر والعامل عمله - وإن كان مصدقاً - هم أكثر الناس ، وعبر بأداة الشك إشارة إلى أن الذي يقتضيه الحال جزمهم به فقال : ( إن ( وبين أنه ما عبر به إلا للتوبيخ ، لا للشك في أمرهم ، بجعل الشرط ماضياً ، ودل ب ( كان ) وبالظرف على ما تمكن الريب منهم فقال : ( كنتم في ريب ) أي شك وتهمة وحاجة إلى البيان ) من البعث ( وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتتها سواء ، استعظاماً لأن نقدر عليه ) فإنا خلقناكم ( بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء ) من تراب ( لم يسبق له اتصاف بالحياة ) ثم من نطفة ( حالها ابعد شيء عن حال التراب ، فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال
77 ( ) من ماء دافق ( ) 7
واصلها الماء القليل - قاله البغوي .
وأصل النطف الصب - قاله البيضاوي .
) ثم من علقة ) أي قطعة دم حمراء جامدة ، ليس فيها أهلية للسيلان ) ثم من مضغة ) أي قطعة لحم صغيرة جداً تطورت إليها النطفة ) مخلقة ( بخلقة الآدمي التمام ) وغير مخلقة ) أي أنشأناكم من تراب يكون هذا شأنه ، وهو أنا ننقله في هذه الأطوار إلى أن يصير مضغة ، فتارة يخلقها ويمون منها آدمياً ، وتارة لا يخلقها بل يخرجها من الرحم فاسدة ، أو تحرقها حرارته ، أو غير مخلقة تخليقاً تاماً بل ناقصاً مع وجود الروح كشق الذي كان شق آدمي ، وسطيح الذي كان علواً بلا سفل ونحوهما ) لنبين لكم ( كمال قدرتنا ، وتمام حكمتنا ، وأن ذلك ليس كائناً عن الطبيعة ، لأنه لو كان عنها لم يختلف ، فدل اختلافه على أنه عن فاعل مختار ، قادر قهار ، وحذف المفعول إشارة إلى أنه يدخل فيه كل مل يمكن أن يحيط به العقول .
ولما : ان التقدير : فنجهض منه مل لا نشاء إتمامه ، عطف عليه قوله : ( ونقر في الأرحام ) أي من ذلك الذي خلقناه ) ما نشاء ( إتمامه ) إلى أجل مسمى ( قدرناه لإتمامه ما بين ستة أشهر إلى ما نريد من الزيادة على ذلك ، بحسب قوة الأرحام وضعفها ، وقوة المخلقات وضعفها وكثرة ما تغتذيه من الدماء وقلته ، وزكائه وخبثه ، إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا بارئها ، جلت قدرته ، وتعالت عظمته ، وأما ما لم نشأ إتمامه فإن الأرحام تمجه بقدرتنا وتلقيه دون التمام أو تحرقه فيضمحل ) ثم نخرجكم ( بعد ذلك ) طفلاً ) أي في حال الطفولة من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر وجميع الحواس ، لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم ، وعظم أجسامكم ، وهو يقع على جميع ، وعبر به دونه للتساوي في ضعف الظاهر والباطن .
ولما ذكر أضعف الضعف ذكر أقوى القوة عاطفاً له عليه لما بينهما من المهلة بأداة التراخي فقال : ( ثم ) أي نمد أجلكم ) لتبلغوا ( بالانتقال في أسنان الأجسام فيما بين(5/133)
صفحة رقم 134
الرضاع ، إلى حال اليفاع ، إلى زمان الاحتلام ، وقوة الشباب والتمام ) أشدكم ) أي نهاية كل شدة قدرناه لكل واحد منكم ) ومنكم من يتوفى ( قبل ما بعد ذلك من سن الشيخوخة ) ومنكم من يرد ( بالشيخوخة ، وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه مع استبعاده لولا تكرر المشاهدة عند الناظر لتلك القوة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط ) إلى أرذل العمر ( وهو سن الهرم فينقص جميع قواه ) لكيلا يعلم ( .
ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة ، أثبت ( من ) الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم ، فربما بات الإنسان في غاية الاستحضار لما يعلم والحذق فيه فعاد في صبيحة ليلته أو بعد أيام يسيرة جداً من غير كبير تدريج لا يعلم شيئاً ، وأفهم غسقاط حرف الانتهاء أنه ربما عاد إليه علمه ، وربما اتصل جهله بالموت بخلاف ما مضى في النحل فقال : ( من بعد علم ( كان أوتيه ) شيئاً ( بل يصير كما كان طفلاً في ضعف الجواهر والأعراض ، لتعلموا أن ذلك كله فعل غلإله الواحد المختار ، وأنه لو كان فعل الطبيعة لازداد بطول البقاء نمواً في جميع ذلك ، وقد علم - بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق - قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات ، والكون على حال الرفات .
ولما تم هذا الدليل على الساعة محكم المقدمات واضح النتائج ، وكان أول الإيجاد فيه غير مشاهد فعبر عنه بما يليق به ، أتبعه دليلاً آخر محسوساً ، وعطفه على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله : تجدون أيها الناس ما ذكناه في أنفسكم ، فقال : ( وترى ( فعبر بالرؤية ) الأرض ( ولما كان في سياق البعث ، عبر بما هو أقرب إلى الموت فقال : ( هامدة ) أي يابسة مطمئنة ساكنة سكون الميت ليس بها شيء من نبت ، ولعله أفرد الضمير توجيهاً إلى كل من يصلح أن يخاطب بذلك ) فإذا ) أي فننزل عليها ماء من مكان لا يوجد فيه ثم ينزل منه بقدرة عظيمة وقهر باهر ، فإذا ) أنزلنا ( بما لنا من العظمة ) عليها الماء اهتزت ( اي تحركت بنجوم النبات اهتزاز الحي ، وتأهلت لإخراجه ؛ قال الرازي : والاهتزاز : شدة الحركوة في الجهات المختلفة .
) وربت ) أي انتفخت ، وذلك أول ما يظهر منها للعين وزادت ونمت بما يخرج منهاا من النبات الناشىء عن التراب والماء ) وأنبتت ( بتقديرنا ) من كل زوج ) أي صنف عادلناه بصنف آخر جعلناه تمام نفعه به ) بهيج ) أي مؤنق من أشتات النباتاتفي اختلاف ألوانها وطعومها ، وورائحها وأشكالها ، ومنافعها ومقاديرها رائقة المناظر ، لائقة في العيون والبصائر ، قال الرازي : فكما أن النبات يتوجه من نقص إلى كمال ، فكذلك الآدمي(5/134)
صفحة رقم 135
يترقى من نقص إلى كمال ، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعد له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود ، أي السعيد منه في دار السلام مبراً عن عوارض هذا العالم - انتهى .
الحج : ( 6 - 10 ) ذلك بأن الله. .. . .
) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ( ( )
ولما قرر سبحانه هذين الدليلين ، رتب عليهما ما هو مطلوب والنتيجة فقال على طريق التعليل : ( ذلك ) أي الذي تقدم من الأمر بالتقوى ، والترهيب من جلال الله بالحشر ، والاستدلال عليه بالتصرف في تطوير الإنسان والنبات إلى ما في تضاعيفه من أنواع الحكم وأصناف اللطائف ) بأن ) أي بسبب أن تعلموا أن ) الله ) أي الجامع لأوصاف الكمال ) هو ) أي وحده ) الحق ( اي الثابت أتم الثبات ، بحيث يقتضي ذلك أنه يكون كل ما يريد ، فإنه لا ثبات مع العجز ) وأنه يحيي الموتى ) أي القادر على ذلك بأنه - كما سيأتي - هو العلي الكبير ) وأنه على كل شيء ( من الخلق وغيره ) قدير ( ) ) إنما أمره إذا اراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ( ) [ يس : 82 ] ) وأن الساعة ( التي تقدم التحذير منها ، وهي وقت حشر الخلائق كلهم ) لآتية لا ريب فيها ( بوجه من الوجوه لما دل عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله ، وهو حكيم فلا يخلف ميعاده ، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب ) وأن الله ( لما له من الجلال والحكم ) يبعث ( بالإحياء ) من في القبور ( لحضوره والفصل بينهم فيها في كل ما اختلفوا فيه لأن ذلك من العدل الذي أمر به ، وبه يظهر كثير من صفاته سبحانه أتم الظهور ، والحاصل أن المراد أنه سبحانه قال ما تقدم وفعل ما ذكر من إيجاد الإنسان والنبات في هذه الأطوار ليعلم أنه قادر على هذه الأمور وعلى كل شيء ) ومن ) أي فمن الناس الذين كانوا قد وقفوا عن الإيمان قبل هذا البيان من آمن عند سماع هذه القواطع ، ومن ) الناس ( وهم ممن اشتد تكاثف طبعه ) من يجادل ) أي بغاية جهده ) في الله ) أي في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل لهه ولا خفاء فيه ) بغير علم ( أتاه عن الله على لسان أحد من أصفيائه أعم من أن يكون كتاباً أو غيره ) ولا هدى ( أرشده إليه من عقله أعم من كونه بضرورة أو استدلال ) ولا كتاب منير ( صح لديه أنه من عند الله ، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل ) ثاني عطفه ) أي رخى البال معرضاً متكبراً متماثلاً لاوياً عنقه لذلك كما قال تعالى(5/135)
صفحة رقم 136
) ) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً ( ) [ لقمان : 7 ] والعطف في الأصل الجانب وموضع الميل .
ولما دل السياق علىأنه أكثف الأقسام طبعاً ، عبر عن قصده بقوله : ( ليضل ) أي غيره ) عن سبيل الله ( إفهاماً لذلك ، لأن هذا لا يقصده عاقل ، فالقسم الأول تابع ضال ، وهذا داع لأهل الضلال ، هذا على قراءة الضم للجمهور ، وعلى قراءة الفتح لابن كثير وأبي عمرو ورويس عن يعقوب بخلاف عنه من ضل ، تكون من باب التهكم كما تقدم غير مرة ، أي إنه من الحذق بحيث لا يذهب عليه أن هذا ضلال ، فما وصل إليه إلا بقصده له .
ولما ذكر فعله وثمرته ، ذكر ما أعد له عليه فقال : ( له في الدنيا خزي ( اي إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه بتنعيمه ( حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا غلا وضعه ) ) ونذيقه ) أي بما لنا من العظمة ) يوم القيامة ( الذي يجمع فيه الخلائق بالإحيا بعد الموت ) عذاب الحريق ) أي بجعله يحس بألم العذاب بالحريق كما يحس الذائق بالشيء كما أحرق قلوب المهتدين بجداله بالباطل ، ويقال حقيقة أو مجازاً : ( ذلك ( اي العذاب العظيم ) بما ( اي بسبب ما ) قدمت يداك ) أي بعملك ، ولكنه جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد لأنها آلة أكثر العمل ، وإضافة ما يؤدي إليهما أنكأ ) وأن ) أي وبسبب أن ) الله ) أي الذي له الكمال كله ) ليس بظلام ( اي بذي ظلم ما ) للعبيد ( ولو ترككم بغير ذلك لكان في مجاري عاداتكم ظلماً أولاً بتسوية المحسن بالمسيء ، وثانياً بترك الانتصار للذين عادوك فيع وأذيتهم من أجله ، ويجوز أن تكون الصيغة للمبالغة لتفهم أنه لو تركه لكان الظلم ، وذلك في غاية البعد عن حكمته و. .. .
نفي أصل الظلم من آياته الباهرة .
الحج : ( 11 - 14 ) ومن الناس من. .. . .
) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآُخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( ( )
ولما بين قصمين المصارحين بالكفر الكثيف والأكثف صريحاً .
وأفهم المؤمن المخلص ، عطف على ذلك المذبذب فقال : ( ومن الناس ( ولذلك عبر بالناس الذي مدلولة الاضطراب والتردد دون أن يضمر ) من يعبد الله ) أي يعمل على سبيل الاستمرار(5/136)
صفحة رقم 137
والتجدد بما أمر به الإله الأعظم من طاعته ) على حرف ( فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره ، لا استقرار له ، وكالذي على طرف من العسكر ، فإن رأى غنيمة قر ، وإن توهم خوفاً طار وفر ، وذلك معنى قوله : ( فإن أصابته فتنة ( اي مصبية ولو قلت - بما يشير إليه التأنيث - في جسده أو معيشته يختبر بها ويظهر خبأة للناس ) انقلب على وجهه ( لتهيئة للانقلاب بكونه على شفا جرف فسقط عن ذلك الطرف من الدين سقوطاً لا رجوع له بعد إليه وجوع له بعده إليه ولا حركة له معه ، فإن الإنسان مطبوع على المدافعة بكل عضو من أعضائه عن وجهه فلا يمكن منه إلا بعد نهاية العجز ، والمعنى أنه رجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر أو الشك رجوعاً متمكناً ، وهذا بخلاف الراسخ في إيمانه ، فإنه إن أصابته سراء شكر ، وإن أصابته ضراء حمد وصبر ، فكل قضاء الله له خير .
ولما كان انقلاب هذا مفسداً لآخرته بما ناله من الوزر ، وغي نافع له في استدراك ما فاته من الدنيا ، كانت فذلكة ذلك قوله : ( خسر الدنيا ) أي بسبب أن ذلك لا يرد ما فاته منها ويكون سبب التقتير عليه وذهاب بركته
77 ( ) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ( ) 7
[ المائدة : 66 ] ( إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) ) والآخرة ( بفوات أجر الصبر وحصول إثم الجزع : ثم عظم مصيبته بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العظيم ) هو ) أي لا غير ) الخسران المبين ( ورى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء ثم بين هذا الخسران الذي رده إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفي بقوله : ( يدعو ) أي يعبد حقيقة أومجازاً مع التجدد والاستمرار بالاعتماد على غير الله ومنابذة
77 ( ) وإياك نستعين ( ) 7
[ الفاتحة : 5 ] .
ولما كان كل ما سوى الله دنه ، نبه على ذلك بقوله : ( من دون الله ) أي عن أدنى رتبة من رتب المستجمع لصفات الكمال .
ولما كان المتضي للعبادة إنما هو الفعل بالاختيار ، وأما الفعل الذي يقتضيه الطبع والقسر عليه فلا عبرة به في ذلك ، فإنه لا قدرة على انفكاك عنه فلا حمد لفاعله ، نبه(5/137)
صفحة رقم 138
على ذلك بقوله : ( ما لا يضره ) أي بوجه من الوجوه حتى ولا بقطع النفع إن كان يتصور منه .
ولما قدم الضر لأنه من الأعذار المقبوله في ارتكاب الخطأ ، أتبعه النفع قطعاً لكل مقال فقال : ( وما لا ينفعه ( بوجه من الوجوه ولا بترك الضر إن وجد منه ، ولو أسقطت ( ما ) من الثاني لظن أن الذم يشترط فيه انتفاء الضر والنفع معاً حتى أن من ادعى ما انتفى عنه أحدهما لم يذم ) ذلك ) أي الفعل الدال على أعظم السفه وهو دعاء شيء اتنتفى عنه القدرة على النفع ، أو شيء انتفى عنه القدرة على الضر ) هو ) أي وحده ) الضلال البعيد ( عن الحق والرشاد الذي أوصل إلى فياف مجاهل لا يتأتى الرجوع منها ، وذلك لأن الأول لو ترك عبادته ما قدر على منع إحسانه ، والثاني لو تقاداه ما وصل إلى نفعه ولا يترك ضره ، فعبادتهما عبث ، لأنه استوى فعلها وتركها .
ولما كان الإحسان جالباً للانسان ، من غير نظر إلى مورده ، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، بين أن مل قيل في جانب النفع إنما هو على سبيل الفرض فقال : ( يدعوا ( ولما كان ما فرض أولاً فيما عبر عنه ب ( ما ) قد يكون غير عاقل ، فيكون ما صدر منه لعدمه العقل ، أزال هذا الإبهام بقوله : ( لمن ) أي زاعماً أن من ) ضره ( ولو بعبادته المجبة لأعظم الشقاء ) أقرب من نفعه ( الذي يتوقع منه - إله .
ولما كانت الولاية الكاملة لا تنبغي إلا لمن يكون توقع النفع منه والضر على حد سواء ، لقدرته على كل منهما باخياره ، وكان العشير لا يصلح إلا إن كان مأمون العاقبة ، وكان هذا المدعو إن نظر إليه في جانب الضر وجد غير قادر عليه ، أو في جانب النفع فكذلك ، وإن فرض توقع نفعه أو ضره كان خوف ضره أقرب من رجاء نفعه ، استحق غاية الذم : ( لبئس المولى ( لكونه ليس مرجو النفع كما هو مخشي الضر ) ولبئس العشير ( لكونه ليس مأمون الضر فهوو غير صالح لولاية ولا لعشرة بوجه .
ولما أفهم ما تقدم أن هذا الإله المدعو إليه قادر على كل من النفع والضر بالاختبار ، وأن تجويز الوقوع لكل منهما منه على حد سواء ، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً : ( إن الله ) أي الحائز لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص ) يدخل الذين آمنوا ( برسله وما دعت إليه من شأنه ) وعملوا ( تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ( الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان بعد ما ضرهم في الدنيا بأنواع المعايب ، تطهيراً لهم مما اقترفوه من الزلات ، وأهوتهم إليه الهفوات ) جنات تجري من تحتها ) أي من أيّ مكان أردت من أرضها ) الأنهار ( ولما كان هذا أمراً باهراً دل على(5/138)
صفحة رقم 139
سهولته بقوله : تصريحاً بما أفهمه السياق من وصف الاختيار : ( إن الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) يفعل ما يريد ( من كل نفع وضر .
الحج : ( 15 - 17 ) من كان يظن. .. . .
) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ( )
ولما أتم الدليل على خسران هذا المنقلب وربح الثابت ، وكان هذا مفهماً لأن من رجاه لما وعد به بادر الإقبال عليه ولم ينفع إلا نفسه ، ومن لا يرج ذلك أعرض عن الله سبحانه منقلباً على جهه فلم يضر إلا نفسه ، ترجم عن حال هذا الثاني العبد على حرف بقوله : ( من كان يظن ) أي ممن أصابته فتنة ) أن لن ينصره الله ( ذو الجلال والإكرام في حال من أحواله ) في الدنيا والآخرة ( فأعرض عنه انقلاباً على وجهه فإنه لا يضر إلا نفسه وإن ظن أنه لا يضرها ) فليمدد بسبب ) أي حبل أو شيء من الأشياء الموصلة له ) إلى السماء ( التي يريدها من سقف أو سحاب أو غيرهما .
ولما كان مده ذلك متعسراً أو متعذراً ، عبر عما يتفرع عليه بأداة التراخي فقال : ( ثم ليقطع ) أي ليوجد منه وصل وقطع ، أي ليبذل جهده في دفع القضاء والقدر عنه ، وهي لام أمر عند من حركها بالكسر إفهاماً لشدة الحركة في المزاولة للذهاب إلى السفل الدال على عدم العقل ، وهم أبو عمرو وابن عامر وورش عن نافع ورويس عن يعقوب ، أو أسكنها وهم الباقون ) فلينظر ( ببصره وبصيرته ) هل يذهبن ( وإن اجتهد ) كيده ما يغيظ ) أي شيئاً يحصل له منه غيظ ، أو يكون المعنى : فليفعل ما يفعله من بلغ منه الغيظ بأن يربط حبلاً بسقف بيته ثم ليربطه في عنقه ثم ليقطع ما بين رجليه وبين الأرض ليختنق ، وهذا كما يقال لمن أدبر عنه أمر فجزع : اضرب برأسك الجدار إن لم ترض هذا ، مت غيظاً - ونحو ذلك ، والحاصل أنه إن لم يصبر على المصائب لله طوعاً صبر عليها كرهاً مع ما ناله من أسباب الشقاء .
ولما بين سبحانه هذه الآيات المرئية ، في هذه الأساليب العلية ، هذا البيان الشافي الهادي بإعجاز حكمه ، بين أنه معجز أيضاً بنظمه ، فقال : ( وكذلك ) أي ومثل ما بينا هذه الآيات المرئية التي أنزلنا كلامنا لبيان حكمها وإظهار أسرارها ) أنزلناه ) أي الكلام كله بما لنا من العظمة الباهرة ) ءايات بينات ( معجزاً نظمها ، كما كان معجزاً حكمها .
زلما كان الكلام بيناً في أن التقديرك ليعلم إذا ضل ضال مع هذا البيان أن الله(5/139)
صفحة رقم 140
يضل من يريد ، عطف عليه قوله : ( وأن ( اي وليعلم أن ) الله ) أي الموصوف بالإكرام ، كما هو موصوف بالانتقام ) يهدي ) أي بآياته ) من يريد ) أي لتين قدرته واختياره إزاحة لغم من يقول : إذا كانت الآيات المرئية والمسموعة في هذا الحد من البيان فما لأكثر الناس على ضلالهم يتخلف فيهم المسببات عن أسبابها .
ولما كان ذلك موجباً للسؤال ، عن حال الفريقين : المهدي والضال ، أجاب عن ذلك ببيان جميع فرق الضلال ، لأن لهذه السورة أتم نظر إلى يوم الجمع الذي هو مقصود السورة التي قبلها ، فقصد إلى استيعاب الفرق تصويراً لذلك اليوم بأليق صورة ، وقرن بكل من فريقي أهل الكتاب موافقة في معناه فقال : ( إن الذين ءامنوا ) أي من أيّ فرقة كانوا ، وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان ، الذي هو أدنى وجوه الإيمان ) والذين هادوا ) أي انتحلوا اليهودية ، على أيّ حال كانوا من إيمان أو كفران .
ولما كان اليهود عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم كما مضى في المائدة ، أتبعهم من شابهوه فقال : ( والصابئين ( ثم تلا بثاني فريقي أهل الكتاب فقال : ( والنصارى ( ثم أتبعهم من أشبه بعض فرقهم في قولهم بإلهين اثنين فقال : ( والمجوس ( وهم عبدة النار ؛ ثم ختم بأعم الكل في الضلال كما فتح بأعمهم في الهدى فقال : ( والذين أشركوا ( لشمله كل شرك حتى الأصغر من الربا ةغيره ) إن الله ) أي الملك الأعظم الذي له الملك كله وهو أحكم الحاكمين ) يفصل بينهم يوم القيامة ( فيجازي كلاًَ بعمله على ما يقتضيه في مجاري عاداتكم ، ويقتص لبعضهم من بعض ، ويمز الخبيث منهم من الطيب ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ( أ ] أي الجامع لجميع صفات الكمال ) على كل شيء ( من الأشياء كلها ) شهيد ( فلا شيء إلا وهو به عليم ، فهو لذلك على كل شيء قدير ، كما مضى بيانه في
77 ( ) وسع كل شيء علماً ( ) 7
[ طه : 98 ] في طه ، وقال الحرالي في شرح الأسماء الحسنى : الشهادة رؤية خبرة بطية الشيء دخلته ممن له غنى في أمره ، فلا شهادة إلا بخبرة وغنى ممن له اعتدال في نفسه بأن لا يحيف على غيره ، فيكون ميزان عدل بينه وبين غيره ، فيحق له أن يكون ميزانا بين كل متداعيين ممن يحيط بخبرة أمرهما
77 ( ) وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ( ) 7
[ البقرة : 134 ] وبحسب إحاطة علم الشهيد ترهب شهادته ، ولذلك ارهب شهادة شهادة الله على خلقه
77 ( ) قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ( ) 7
[ الأنعام : 19 ] ولما كان أيّما الإحاطة والخبرة والرقبة لله كان بالحقيقة لا شهيد إلا هو - انتهى .(5/140)
صفحة رقم 141
الحج : ( 18 - 22 ) ألم تر أن. .. . .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( ( )
ولما كان جميع ما تقدم في هذه السورة دالاً على أنه على كل شيء قدير ، وأنه يقعل ما يريد ، وختم ذلك بأنه بكل شيء عليم لم يغب ولا يغيب شيء عنه ، فاقتضى ذلك قيوميته ، وكان بحيث يستعظم لكثرة الخلائق فكيف بأحوالهم ، قرر ذلك في جواب من كأنه سأل فهي في معنى العلة ، فقال : ( ألم تر أن الله ) أي الحائز لجميع الكمال المبرأ عن كل نقص ) يسجد له ) أي يخضع منقاداً لأمره مسخراً لما يريد منه تسخير من هو في غاية الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها ) من في السماوات ( .
ولما كان في السياق مقتضياً للإبلاغ في صفة القيومية بشهادة ذكر الفصل بين جميع الفرق ، أكد بإعادة الموصول فقال : ( ومن في الأرض ( إن أخلت غير العاقل فبالتغليب ، وإن خصصت فبالعاقل أفهم خضوع غيره من باب الأولى .
ولما ذكر ما يعم العاقل وغيره ، أتبعه بأشرف ما ذكر مما لا يعقل لأن كلاًّ منهما عبد من دون الله أو عبد شيء منه فقال : ( والشمي والقمر والنجوم ( من الأجرام العلوية فعبد الشمس حمير ، والقمر كنانة ، والدبران تميم ، والشعرى لخم ، والثريا طيىء وعطارد أسداً ، والمرزم ربعية - قاله أبو حيان .
ثم أتبع ذلك أعلام الذوات السفلية فقال : ( والجبال ) أي التي تنحت منها الأصنام ) والشجر ( التي عبد بعضها ) والدواب ( التي عبد منها البقر ، كل هذه الأشياء تنقاد لأمر الله ، ومن المعلوم لكون هذه لا تعقل - أن أمره لها هو مراده منها .
ولما كان العقلاء من المكلفين قد دخلوا في قوله ) ومن في الأرض ( دخولاً أولياً ، وكان السجود الممدوحون عليه إنما هو الموافق للأمر ، لا الموافق للإرادة المجردة عن الأمر ، قال دالاً على إرادته هنا بتكريرهم وتقسيمهم بعد إدخالهم في السجود الإدارة وتعميمهمك ) وكثير من الناس ) أي يسجد سجوداً هو منه عبادة شؤعية فحق له الثواب ) وكثير ( اي منهم ) حق عليه العذاب ( بقيام الحجة عليه بكون لم يسجد ، فجحد الأمر الذي من جحده كان كافراً وإن كان كافراً وإن كان ساجداً عابداً بالمعنى اللغوي الذي هو(5/141)
صفحة رقم 142
الجري مع المراد ، وعلى القول بأن هذا في تقدير عامل من لفظ الأول بغير معناه هو قريب من الاستخدام الذي يعلو فيه ضمير على لفظ مراد منه معنى آخر ، والآية من الاحتباك : إثبات السجود في الأول دليل على انتفائه في الثاني ، وذكر العذاب في الثاني دليل على حذف الثواب في الأول .
ولما علم بهذا أن الكل جارونن مع الإدراة منقادون أتم انقياد تحت طوع المشيئة ، وأنه إنما جعل المر والنهي للمكلفين سبباً لإسعاد السعيد منهم وإشقاء الشقي ، لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه من أحوالهم فيما بينهم ، كان المعنى : فمن يكرم الله بتوفيقه لا متثال أمره فما له من مهين ، فعطف عليه : ( ومن يهن الله ) أي الذي له الأمر كله بمنابذة أمره ) فما له من مكرم ( لأنه لا قدرة لغيره اصلاً ، ولعله إنما ذكره وطوى الأول لأن السياق لإظهار القدرة ، وإظهارها في الإهانة أتم ، مع أن أصل السياق للتهديد ؛ ثم علل أن الفعل له لا لغيره بقوله : ( إن الله ) أي الملك الأعظم ) يفعل ما يشاء ) أي كله ، فلو جاز أن يمانعه غيره ولو في لحظة لم يكن فاعلاً لما يشاء ، فصح أنه لا فعل لغيره ، قال ابن كثير : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي نا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قيل له : إن ههنا رجلاً يتكلم في المشيئةن فقال له علي : يا عبد الله خلقك الله كما تشاء أو كما شئت ؟ قالك بل كما شاء ، قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قالك بل إذا شاء ، قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء ، قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ؟ قال : بل حيث يشاء ، قال : والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ، وقد مر في سورة يوسف عند
77 ( ) إن الحكم إلا لله عليه توكلت ( ) 7
[ يوسف : 67 ] ما ينفع هنا .
ولما قسم الناس إلى مخالف ومؤالف ، أتبعه جزاءهم بما يرغب المؤالف ويرهب المخالف على وجه موجب للأمر بالمعروف الذي من جملته الجهاد لوجهه خالصاً فقالكك ) هذان ( اي الساجد والجاحد من جميع الفرق ) خصمان ( لا يمكن منهما المسالمة الكاملة إذ كل منهما في طرف .
ولما أشار بالتثنية إلى كل فرقة منهم صارت - مع كثرتها وانتشارها باتحاد الكلمة في العقيدة - كالجسد الواحدن صرح بكثرتهم بالتعبير بالجمع فقال : ( اختصموا ) أي أوقعوا الخصومة بغاية الجهد ، ولما كانت الفرق المذكورة كلها مثبتة وقد جحد أكثرهم النعمة ، قال : ( في ربهم ) أي الذي هم بإحسانه إليهم معترفون ، لم يختصموا بسبب غيره أصلاً ، وحمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب - الذين هم أول من برز للمخاصمة بحضرة رسول الله - صلى الله(5/142)
صفحة رقم 143
عليه ورضي عنهم - للكفرة من بني عمهم : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ، في غزوة بدر - أولى الناس بهذه الآية لما روي في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه ( أنه كان يقسم أنها نزلت فيهم ، ولذلك قال رضي الله عنه : أنا أول من يحثو بين يدي الرحمن عز وجل يوم القيامة للخصومة ) أخرجه البخاري في صحيحه ، ولعله رضي الله عنه أول الثلاثة ، قام لمنابذتهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه كان اشبّهم .
ولما ذكر خصومتهم وشرطها ، ذكر جزاءهم عليها في فصل الأمر الذي قدم ذكره ، وبدأ بالترهيب لأن الإنسان إليه أحوج فقال : ( فالذين كفروا ( منابذين لأمر ربهم ) قطعت ( تقطيعاً لا يعلم كثرته إلا الله ، بأيسر أمر ممن لا أمر لغيره ) لهم ( الآن وهيئت وإن وافقوا مراد ربهم بمخالفتهم أمره ) ثياب من نار ( تحيط بهم وهي على مقاديرهم سابغة عليهم كما كانوا يسلبون الثياب في الدنيا تعاظماً وتكبراً حال كونهم ) يصب ( إذا دخلوها ) من فوق رؤوسهم الحميم ) أي الماء الحار حرارة لا يدري مقدارها إلا بالذوق - أعاذنا الله منه ، واستأنف الإخبار عنه بقوله : ( يصهر ) أي يذاب ، وأصله المخالطة الشديدة ) به ( من شدة الحرارته ) ما في بطونهم ( من شحم وغيره ) والجلود ( فيكون أثره في البطن والظاهر سواء ) ولهم مقامع ( جمع مقمعة بكسر ثم فتح ، وهي عمود حديد يضرب به الرأس والوجه ليرد المضوب عن مراده رداً عنيفاً ، ثم نفى المجاز بقوله : ( من حديد ( اي يقمعون بها ) كلما أرادوا ) أي كلهم فالبعض بطريق الأولى ) أن يخرجوا منها ) أي من تلك الثياب أو من النار .
ولما كان السياق لخصومه أولياء الله المتصفين بما هو مقصود السورة من التقوى للكفار ، المنابذين لها بكل اعتبارن اقتضى ذلك بشاة للأولياء ونذارة للأعداء - قوله زيادة على ما في السجدة : ( من غم ( عظيم لا يعلم قدر الله إلا الله ) أعيدوا ( ، كل من ) فيها ( كأنهم يضربون بلهيب النار فيرفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً - قاله الحسن ، أو أنهم يضطربون في تلك الثياب المقطعة من النار إلى أن يكادوا أن ينفصلوا منها وهم في النار ثم يردون كما كانوا ، وذلك أشد في العذاب ، مقولاً لهم : ارجعوا صاغرين مقاسين لغمومها ) وذوقا عذاب الحريق ) أي العذاب البالغ في الإحراق .
الحج : ( 23 - 25 ) إن الله يدخل. .. . .
) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(5/143)
صفحة رقم 144
وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) 73
( ) 71
ولما ذكر ما لأحد الخصمين وهم الكافرون ، أتبعه ما ببآخر وهم المؤمنون ، وغير السياق بالتأكيد لمن كأنه سأل عنه ، معظماً له بإثبات الاسم العلم الجامع إيذاناً بالاهتمام فقال : ( إن الله ) أي الذي له الأمر كله ) يدخل الذين آمنوا ( عبر الإيمان بالماضي إشارة إلى أن من عمل الصالح انكشف له ما كان محجوباً عنه من حسنه فأحبه ولم ينفك عنه ) جنات تجري ) أي دائماً ) من تحتها الأنهار ) أي المياه الواسعة ، أينما أردت من أرضها جرى لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار ) يحلون فيها ( في مقابلة ما يزال من بواطن الكفرة وظواهرهم ) من أساور ( .
ولما كان مقصودها الحث على التقى المعلية إلى الإنعام بالفضل ، شوّق إليه بأغلى ما نعرف من الحلية فقال : ( من ذهب ولؤلؤ ( وقراءة نافع وعاصم بنصبه دليل على عطفه بالجر على ( أساور ) ) ولباسهم فيها حرير ( في مقابلة ثياب الكفار كما كان لباس الكفار في الدنيا حريراً ، ولباس المؤمنين دون ذلك ، وقد رود في الصححين عن عبد الله بن الزبير عن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه السلام قال : ( ا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) قال ابن كثير : قال عبد الله بن الزبير ( ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة ) قال تعالى : ( ولباسهم فيها حرير ( انتهى ( وذلك أن في الصحيحين وغيرهما عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله قال : ( إنما يلبس هذه من لا خلاق لهه في الآخرة ( فيوشك لتشبهه بالكفار في لباسهم - أن يلحقه الله بهم فلا يموت مسلماً - والله الهادي ) وهدوا ) أي بأسهل أمر بهداية الله أعم من أن يكون السبب القريب لذلك العقل وحده أو مع الرسول أو الكتاب أو غير ذلك وهو حال من ) الذين آمنوا ( ، وما بعدها ختم به لئلا يطول الفصل بين الفعل مفعوله ولتكون محاسنهم محيطة بذكر دخولهم الجنة إشارة إلى دوامها ) إلى طيب من القول ( فلم يزالوا في حال حسن ) وهدوا ( وبنى الفعل أيضاً للمفعول إشارة إلى سهولة الهداية لهم وللأتقياء منهم ، ولذلك لم يذكر العزة ، واكتفى بذكر الحمد فقيل : ( إلى صراط(5/144)
صفحة رقم 145
الحميد ( الذي وفقهم لسلوك ما يحمدون عليه فيحمدون عاقبة ، فكان فعلهم حسناً كما كان قولهم حسناً ، فدخلوا الجنة التي هي أشرف دار عند خير جار وحلوا فيها أشرف الحلي كما الدنيا بأشرف .
الطرائق ، هذا بعد أن حازوا أشرف الذكر في الدنيا عكس حال الكفار في اقتراف ما أدخلهم ما كلما أرادوا الخروج منه اعيدوا فيه ، مع ما نالهم من سوء الذكر ، بإقبالهم كالبهائم على الفاني مع خسته لحضوره ، وإعراضهم عن الباقي مع شرفه لغيابه .
ولما بين ما للفريقين ، تضمن ما للفريق الثاني بيان أعمالهم الدالة على صدق إيمانهم ، كرر ذكر الفريق الأول لبيان ما يدل على استمرار كفرهم ، ويؤكد بيان جزائهم ، فقال : ( إن الذين كفروا ) أي أوقعوا هذا الفعل الخبيث .
ولما مان المضارع قد لا يلحظ منه زمان معين من حال أو استقبال ، بل يكون المقصود منه الدلالة على مجرد الاستمرار كقولهم : فلان يعطي ويمنع ، قال عاطفاً له على الماضي : ( ويصدون ) أي ويديمون الصد ) عن سبيل الله ) أي الملك الأعظم ، باقتسامهم طرق مكة ، وقول بعضهم لمن يمر به : خرج فينا ساحر ، وآخر يقول شاعر ، وآخر ك كاهن ، فلا تسمعوا منه ، فإنه يريد أن يردكم عن دينكم ؛ قال بعض من أسلم : لم يزالوا ب حتى جعلت في أدنى الكرسف مخافة أن أسمع شيئاً من كلامهم .
وكانوا يؤذون من أسلم - إلى غير ذلك من أعمالهم ، ولعله إنما عبر بالمضارع رحمة منه لهم ليكون كالشرط في الكفر فيدل على أن من ترك الصد زال عنه الكفر وإن طال ذلك منه ) و ( يصدون عن ) المسجد الحرام ( أن تقام شعائره من الطواف فيه بالبيت والصلاة والحج والاعتمار ممن هو أهل ذلك من أوليائنا .
ثم وصفه بما يبين شديد ظلمهم في الصد عنه فقال : ( الذين جعلناه ( بما لنا من العظمة ) للناس ) أي كلهم ؛ ثم بين جعله لهم بقوله : ( سواء العاكف فيه ) أي المقيم ) والباد ) أي الزائر له من البادية ؛ قال الرازي في اللوامع : ( سواء ( رفع بالابتداء ، ) والعاكف ( خبره ، وصلح من تنكيره للابتداء ، لأنه كالجنس في إفادة العموم الذي هو أحسن العهد .
ولما ذكر الكفار ودليل كفرهم بما استعطفهم ، وزاد في الاستعطاف بحذف الخبر عنهم ، ودل آخر الآية هلى أنه يذيقهم العذاب الأليم ، عطف عليه ما ينفر عن وصفهم فقال : ( ومن يرد فيه ) أي شيئاً من أفعال الكفار من الصد المذكور وغيره ، أي يقع منه إرادة لشيء من ذلك ) بإلحاد ) أي مصاحبة تلك الإرادة وماتبسة بجور عن الأمر المعروف وميل واعوجاج .
ولما كان ذلك يقع على مطلق هذا المعنى ، بين المراد بقوله : ( بظلم ) أي في غير موضعه ، وأما صد الكفار عنه فإنه بحق ، لأنهم نجس لا ينبغي قربانهم المحال المقدسة ، وكذا صد الحائض والجنب والخائن ) نذقه ( ولما كان(5/145)
صفحة رقم 146
المشروط نوعاً من الإلحاد ، لا الإلحاد الكامل ، عبر بقوله ) من عذاب أليم ( ودل هذا الخبر عمن أراد شيئاً مما فعله الكفار أن الخبر عن الكفار الفاعلين لما رتب هذا الجزاء على إرادته ما قدرته .
الحج : ( 26 - 31 ) وإذ بوأنا لإبراهيم. .. . .
) وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ( ( )
ولما ذكر الفريقين وجزاء كل وختمه بذكر البيت ، أتبعه التذكير به وبحجه ، ن لما فيه من التذكير بالقيامة الحاملة على التقوى التي هي مقصد السورة ، بما فيه من الوفادة على الله ، مع التجرد من المحيط ، والخضوع للرب ، والاجتماع في المشاعر موقفاً في أثر موقف ، ولما فيه من الحث على التسنن بأبيهم الأعظم إبراهيم عليه السلام فقال ، مقرعاً وموبخاً لمن أشرك في نفعه ( أسست على التوحيد من أول يوم ) عطفاً على قوله أول السورة ) اتقوا ( ) وإذ ) أي واذكروا إذ ) بوأنا ( بما لنا من العظمة ، ولما لم يجعله سبحانه سكنه بنفسه ، قصر الفعل عن التعدية إلى مفعوله الأول فقال : ( لإبراهيم ) أي قدرنا له ) مكان البيت ( اي الكعبة وجعلناه له مباءة ، أي منزلاً يبوء إليه أي يرجع ، لأنه - لما نودعه فيه من اللطائف - أهل لأن يرجع إليه من فارقه ويحن إليه ، ويشتاق من باعده وينقطع إليه بعض ذريته ، من المباءة بمعنى المنزل ، وبوأه إياه وبوأه له ، أي أنزله ، قال في ترتيب المحكم : وقيل : هيأته ومكنت له فيه .
ويدل على أن إبراهيم عليه السلام أول بان للبيت ما في الصحيح ( عن أبي أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ( ، قلت : ثم أيّ ؟ قال : ( بيت المقدس ( ، قلت : كم بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ( ولما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام نبياً ، كان من(5/146)
صفحة رقم 147
المعلوم أن نبوتته له لأجل العبادة ، فكان المعنى : قلنا له : أنزل أهلك هاهنا وتردد إلى هذا المكان للعبادة ، فذلك فسره بقوله : ( أن لا تشرك بي شيئاً ( فابتدأ بأسّ العبادة ورأسها ، وعطف على النهي قولهك ) وطهر بيتي ( عن كل مل لا يليق به من قذر حسي وعنوي من شرك ووثن وطواف عريان به ، كما كانت العرب تفعل ) للطائفين ( به .
ولما تقدم العكوف فاستغنى عن إعادته ، قال : ( والقائمين ) أي حوله تعظيماً لي كما يفعل حل عرشي ، أو في الصلاة ، ولأن العكوف بالقيام أقرب إلى مقصود السورة .
) والركع ( ولما كان كل من الطواف والقيام عبادة برأسه ، ولم يكن الركوع والسجود كذلك ، عطف ذاك ، واتبع هذا لما بينهما من كمال الاتصال ، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر في الصلاة فقال : ( السجود ) أي المصلين صلاة أهل الإسلام الأكمل ) وأذن في الناس ( اي أعلمهم وناد فيهم ) بالحج ( وهو قصد البيت على سبيل التكرار لعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة ) يأتوك ) أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك ، مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مخبتين خاشعين من أقطار الأرض كما يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بمثل ذلك بعذ الموت ) رجالاً ) أي مشاة على أرجلهم ) وعلى كل ضامر ( اي هزيل من طول السير من الإبل لبعد الشقة وعظم المشقة .
ولما كان الضامر يطلق على كل من الذكر والأنثى من الجمال ، وكانت النثى أضعف النوعين ، فكان الحكم عليها بالإتيان المذكور حكماً على الذكر الذي هو أشد بطريق الأولى ، أسند إلى ضميرها فقال معبراً بما يدل على التجدد والاستمرار ، واصفاً الضوامر التي أفهمتها ( كل ) ) يأتين ) أي الضوامر ) من كل فج ) أي طريق واسع بين جبلين ) عميق ( اي بعيد منخفض بالنسبة غلى علو جباله .
قال أبو حيان : أصله البعد سفلاً - انتهى .
حفاة عراة ، ينتقلون من مشعر من مشاعر الحج إلى معشر ، ومن مشهد إلى مشهد ، مجموعين بالدعوة ، خاشعين للهيبة ، خائفين من السطوة ، راجين للمغفرة ، ثم يتفرقون إلى مواطنهم ، ويتوجهون إلى مساكنهمن كالسائرين إلى مواقف الحشر ، يوم البعث والنشر ، المتفرقين إلى إلى داري النعيم والجحيم ، قيا أيها المصدقون بأن خليلنا إبراهيم عليه السلام نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله حجة على بعد أقطارهم ، وتنائي ديارهم ، ممن كان موجوداً في ذلك الزمان ، وممن كان في ظهور الآباء الأقربين أو الأبعدين صدقوا أن الداعي من قبلنا بالنفخ في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظناه له جسده ، أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار تراباً ، وما بين ذلك ، لأن الكل علينا يسير .(5/147)
صفحة رقم 148
ولما كان افنسان ميالاً إلى الفوائد ، مستشرقاً غلى جميل العوائد ، علل الإتيان بما يرغبه مبيحاً من فضله ما يقصده من أمر المعاش فقال : ( ليشهدوا ( اي يحضروا حضوراً تاماً ) منافع لهم ) أي لا للمعبود ، دينية ودنيوية ، فإنه كما جعل سبحانه تلك المواطن ماحية للذنوب ، جالبة للقلوب ، جعلها جالبة للفوائد ، جارية على أحسن العوائد ، سالمة للفقر ججابرة للكسر ، ولما كانت المنافع لا تطيب وتمثر إلا بالتقوى كان الحامل على التقوى لذكر قال : ( ويذكروا اسم الله ) أي الجامع لجميع الكمالات بالكبير وغيره عند الذبح وغيره ، إعلاماً بأنه المقصود الذي يتبعه جميع المقاصد لأنه ما جمعهم على ما فيه من تلك الأرض الغراء والأماكن الغبراء إلا هو بقدرته الكاملة ، وقوته الشاملة ، لا اسم شيء من الصنام كما كانت الجاهلية تفعل ) في أيام معلومات ( اي علم أنها أول عشر في ذي الحجة الذي يوافق اسمه مسماه ، لا ما سموه به ومسماه غيره على ما حكم به النسيء ، وفي هذا إشارة إلى أن المراد به الإكثار إذ مطلق الذكر مندوب إليه في كل وقت ، وفي التعبير بالعلم إشارة إلى وجوب استفراغ الجهد بعد القطع بأن الشهر ذو الحجة اسماً ومسمى في تحرير أوله ، أما أيام التشويق فإنها لما كانت مبنية عل العلم بأمر الشهر الذي أمر به هنا ، فأنتج العلم بيوم العيد ، لم يحتج في أمرها إلى غير العد فلذا عبر عنها به دون العلم .
ولما كانت النعم أجل أموالهم ، قال تعالى مرغباً لهم ومرهباً : ( على ) أي مبركين بذكره وحامدين على ) ما رزقهم ( ولو شاء محقه ) من بهيمة ( ولما كانت البهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، بينها بقوله : ( الأنعام ( من الإبل والبقر والغنم بالتكبير عند رؤيته ، ثم عند ذبحه ، وفيه حث على التقرب بالضحايا ، والهدايا ، ولذلك التفت إلى الإقبال عليهم ، وتركيب ( لهم ) يدور على الاستعجام والخفاء والانغلاق وعدم التمييز ، وتركيب ( نعم ) على الرفاهية والخفض والدعة .
ولما ذكر سبحانه العبادة فخاطب بها إبراهيم عليه الصلاو والسلام ، تنبيهاً على أنها لعظم المعبود لا يقوم بها على وجهها إلا الخلص ، أقبل على العابدين كلهم بالإذن في ما يسرهم من منحة التمتيع ، تنبيهاً على النعمة ، حثاً على الشكر ، فقال مبيناً عما اندرج في ذلك من الذبح : ( فكلوا منها ) أي إن شئتم إذا تطوعتم بها ولا تمتنعوا كأهل الجاهلية ، فالأكل من المتطوع به لا يخرجه عن كونه قرباناً في هذه الحنيفية السمحة منة على أهلها ، تشريفاً انبيها ( صلى الله عليه وسلم ) ، والأكل من الواجب لا يجوز امن وجب عليه ، لأنه إذا أكل منه ولم يكن مخرجاً لما وجب عليه بكماله ) وأطعموا البائس ) أي الذي اشتدت حاجتهن من بئس كسمع إذا سات حاله وافتقر ، وبين أنه من ذلك ، لا من بؤس - ككرم(5/148)
صفحة رقم 149
الذي معناه : اشتد في الخرب ، بقوله ) الفقير ( وأكد هذا الحث ونفى عنه الريب بعوده إلى الأسلوب الأول في قوله : ( ثم ليقضوا ) أي يقطعوا وينهوا يوم النحر بعد طول الإحرام ) تفثهم ) أي شعثهم بالغسل وقص الأظفار والشارب وحلق العنة ونحو ذلك ) وليوفوا نذورهم ( أخذاً من الفراغ من الأمر والخروج من كل واجب ) وليطوفوا ( فيكون ذلك آخر أعمالهم ، وحث على الإكثار منه والاجتهاد فيه بصيغة التفعل ، وعلى الإخلاص بالإخفاء بحسب الطاقة بالإدغام ، واللام إن كسرت - كما هي قراءة أبي عمرو وانب عامر وورش عن نافع وقنبل غن ابن كثير ورويس عن يعقوب في ) ليقضوا ( وقراءة ابن ذكوان عن ابن عامر وحده في ) ليوفوا وليطوفوا ( يصح أن تكون للعلة عطفاً على ) ليشهدوا ( ويمون عطفها بأداة التراخي لطول المدة على ما هو مفهومها مع الإشارة إلى التعظيم في الرتبة ، ويصح أن تكون للأمر كقراؤة الباقين بالإسكان ، وقوله : ( بالبيت ) أي من ورائه ، لعلم الحجر ، ومتى نقص عن إكمال الدوران حوله أدنى جزء لم يصح أنه لم يوقع مسمىى الطواف ، فلا تعلق بالباء في التبعيض ووصفه بقوله : ( العتيق ( إشارة إلى استحقاقه للتعظيم بالقدم والعتق من كل سوء ، ثم أشار غلى تعظيم الحج وأفعاله هذه بقوله : ( ذلك ) أي المر الجليل العظيم الكبير المنافع دنيا وأخرى ذلك .
ولما كان التقدير : فمن فعله سعد ، ومن انتهك شيئاً منه شقي ، عطف عليه قوله : ( ومن يعظم ( اي بغية جهده ) حرمات الله ( اي ذي الجلال والإكرام كلها من هذا ومن غيره ، وهي الأمور التي جعلها له فحث على فعلها أو تركها ) فهو ) أي التعظيم الحامل له على امتثال الأمر فيها على وجهه واجتناب المنهي عنه كالطواف عرياناً والذبح بذكر اسم غير الله ) خير ( كائن ) له عند ربه ( الذي أسدى إليه كل ما هو فيه من النعم فوجب عليه شكره فإن ذلك يدل على تقوى قلبه ، لأن تعظيمها من تقوى القلوب ، وتعظيمها لجلال الله ، وانتهاكها شر عليه عند ربه .
ولما كان التقدير : فقد حرمت عليكم أشياء أن تفعلوها ، وأشياء أن تترموها ، عطف عليه قوله بياناً أن الإحرام لم يؤثر فيها كما أثر في الصيد : ( وأحلت لكم الأنعام ( وهي الإبل والبقر والغنم كلها ) إلا ما يتلى ) أي على سبيل التجديد مستمراً ) عليكم ( تحريمه من الميتة والدم وما أهل لغير الله به ، خلافاً للكفار في افترائهم على الله بالتعبد بتحريم الوصيلة والبحيرة والسائبة والحامي وأحلال الميتة والدم .
ولما أفهم ذلك حل السوائب وما معها وتحريم المذبوح لللأنصاب ، وكان سبب ذلك كله الأوثان ، سبب عنه قوله : ( فاجتنبوا ) أي بغاية الجهد اقتداء بالأب الأعظم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم الإيصاء له بمثل ذلك عند جعل البيت له مباءة(5/149)
صفحة رقم 150
) الرجس ) أي القذر الذي من حقه أن يجتنب من غير أمر ؛ ثم بينه وميزه بقوله : ( من الأوثان ) أي القذر الذي من حقه أن يحتنب من غير أمر ، فإنه إذا اجتنب السبب اجتنب المسبب .
ولما كان ذلك كله من الزور ، أتبعه النهي عن جميع الزور ، وزاد في تبشيعه وتغليظه إذ عدله - كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالشرك فقال : ( واجتنبوا ) أي بكل اعتبار ) قول الزور ) أي جميعه ، وهو الانحراف عن الدليل كالشركالمؤدي غلى لزوم عجز الإله وتحريم ما لم ينزل الله به سلطاناً من السائبة وما معها ، وتحليل الميتة ونحوها مما قام الدليل السمعي على تحريمه كما أن الحنف الميل مع الدليل ، ولذلك أتبعه قوله : ( حنفاء لله ( أذي له الكمال كله ، فلا ميل في شيء من فعله ، وإنما كانا كذلك مع اجتماعهما في مطلق الميل ، لأن الزور تدور مادته على القوة والوعورة ، والحنف - كما مضى في البقرة - على الرقة والسهوله ، فكان ذو الزور معرضاً عن الدليل بما فيه من الكثافة والحنيف مقبالً على الدليل بما له من الاطافة .
ولما أفهم ذلك التوحيد ، أكده بقوله : ( غير مشركين به ) أي شيئاً من إشراك ، بل مخلصين له الدين ، ودل على عظمة التوحيد وعلوه ، وفظاعة الشرك وسفوله ، بقوله زاجراً عنه عاطفاً على ما تقديره : فمن امتثل ذلك أعلاه اعتدله إلى الرفيق الأعلى : ( ومن يشرك ) أي يوقع شيئاً من الشرك ) بالله ) أي الذي له العظمة كلها ، لشيء من الأشياء في وقت من الأوقات ) فكأنما خرّ من السماء ( لعلو ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما نحط إليه من حضيض الإشراك .
ولما كان الساقط من هذا العلو متقطعاً لا محالة إما بسباع الطير أو بالوقوع على جلد ، عبر عن ذلك بقوله : ( فتخطفه الطير ) أي قطعاً بينها ، وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض ) أو تهوي به الريح ) أي حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه ) في مكان ( من الأرض ) سحيق ) أي بعيد في السفول ، فيتقطع حال وصوله إلى الأرض بقوة السقطة وشدة الضغطة لبعد المحل الذي خر منه وزل عنه ، فالآية من الاحتباك : خطف الطير الملزوم للتقطع أولاً دال على حذف التقطع ثانياً ، والمكان السحيق الملزوم لبلوغ الأرض ثانياً دليل على حذف ضده أولاً ؛ ثم عظم ما تقدم من التوحيد وما هو مسبب عنه بالإشارة بأداة البعد فقال :
الحج : ( 32 - 35 ) ذلك ومن يعظم. .. . .
) ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى(5/150)
صفحة رقم 151
مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) 73
( ) 71
) ذلك ) أي الأمر العظيم الكبير ذلك ، فمن راعاه فاز ، ومن حاد عنه خاب ؛ ثم عطف عليه ما هو أعم من هذا المقدر فقال : ( ومن ( ويجوز أن يكون حالاً ، أي أشير إلى الأمر العظيم والحال أنه من ) يعظم شعائر الله ) أي معالم دين الملك الأعظم التي ندب إليها وأمر بالقيام بها في الحج ، جمع سعيرة وهي المنسك والعلامة في الحج ، والشعيرة أيضاً : البدنة المهداة إلى البيت الحرام ، قال البغوي : وأصلها من الإشعار وهو إعلامها ليعرف أنها هدي - انتهى .
ولعله مأخوذ من الشعر لأنها إذا جرحت قطع شيء من شعرها أو ازيل عن محل الجرح ، فيكون من الإزالة ، وتعظيمها استحسانها ، فتعظيمها خير له لدلالته على تقوى قلبه ) فإنها ) أي تعظيمها ) من ) أي مبتدىء من ) تقوى القلوب ( التي من شأنها الشعور بما هو أهل لأن يعظم ، فمعظمها متق ، وقد علم بما ذكرته أنه حذف من هذه جملة الخير ومن قوله ) ومن يعظم حرمات الله ( سبب كونه خيراً له ، وهو التقوى ، ودل على إرادته هناك بذكره هنا ، وحذف هنا كون التعظيم خيراً ، ودل عليه بذكره هناك ، فقد ذكر في كل جملة ما دل على ما حذف من الأخرى كما تقدم في
77 ( ) قد كان لكم آية فئتين ( ) 7
[ آل عمران : 3 ] في آل عمران ، وأنه يسمى الاحتباك ، وتفسيري للشعائر بما بما ذكرته من الأمر العام جائزا الإرادة ، ويكون إعادة الضمير على نوع منه نوعاً من الاستخدام ، فقوله : ( لكم فيها ( مهناه : البدن أو النعم المهداة أو مطلقاً ) منافع ( بالدر والنسل والظهر ونحوه فكلما كانت سمينة حسنة كانت منافعها أكثر ديناً ودنيا ) إلى أجل مسمى ( وهو الموت الذي قدرناه على كل نفس ، أو النحر إن كانت مهداة ، أو غير ذلك ، وهذا تعليل للجملة التي قبله ، فإن المنافع حاملة لذوي البصائر على التفكر فيها لا سيمت مع تفاوتها ، والتفكر فيها موصل إلى التقوى بمعرفة أنها من الله ، وأنه قادر على ما يريد .
وأنه لا شريك له .
ولما كانت هذه المنافع دنيوية ، وكانت منفعة نحرها إذا أهديت دينية ، أشار إلى تعظيم الثاني بأداة التراخي فقال : ( ثم محلها ) أي وقت حلول نحرها بانتهائكم بها ) إلى البيت العتيق ) أي إلى فنائه وهو الحرم كما قال تعالى
77 ( ) هدياً بالغ الكعبة ( ) 7
[ المائدة : 95 ] .
ولما كان التقدير : جعل لكم سبحانه هذه الأشياء مناسك ، عطف عليه قوله : ( ولكل أمة ( اي من الأمم السالفة وغيرها ) جعلنا ( بعظمتنا الت يلا يصح أن تخالف(5/151)
صفحة رقم 152
) منسكاً ) أي عبادة أو موضع عبادة أو قرباناً ، فإنه يكون مصدر نسك - كنصر و كرم - نسكاً ومنسكاً ، ويكون بمعنى الموضع الذي يعبد فيه ، والذي يذبح فيه النسك وهو الهدي ، وقال ابن كثير : ولم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل .
ثم أتبع هذا الجعل عتله بياناً لأنه ليس مقصوداً في نفسه فقال : ( ليذكروا ( ولما كان الدين سهلاً سمحاً ذا يسر ، رضي بالدخول فيه بالظاهر فقال : ( اسم الله ) أي الملك الأعلى وحده ، على ذبائحهم وقرابينهم وعبادتهم كلها ، لأنه الرزاق لهم وحده ؛ ثم علل الذكر بالنعمة تنبيهاً على التفكر فيها فقال : ( على ما رزقهم ( فوجب شكره به عليهم ) من بهيمة الأنعام ( .
ولما علم أن الشارع لجميع الشرائع الحقة واحد ، وأن علة نصبه لها ذكره وحده ، تسبب عنه قوله : ( فإلهكم ) أي الذي شرع هذه المناسك كلها .
ولما كان الإله ما يحق له الإلهية بما تقرر من أوصافه ، لا ما سمي إلهاً ، قال : ( إله ( ووصفه بقوله : ( واحد ) أي وإن اختلفت فروع شرائعه ونسخ بعضها بعضاً ، ولو اقتصر على ( واحد ) لربما قال متعنتهم : إن ا لمراد اقتصارنا على واحد مما نعبده .
والتفت إلى الخطاب لأنه أصرح وأجدر بالقبول .
ولما ثبت كونه واحداً ، وجب اختصاصه بالعبادة ، فلذا قال : ( فله ) أي وحده ) أسلموا ) أي انقادوا بجميع ظواهركم وبواطنكم في كل ما أمر به أو نهى عنه ناسخاً وأجدر بالقبول .
كان أو لا وإن لم تفهموا معناه كغالب مناسك الحج .
ولما أمر بالإسلام من يحتاج إلى ذلك إيجاداً أو تكميلاً أو إدامة ، وكان الإسلام هو سهولة الانقياد من غير كبر ولا شماخة ، وكان منشأ الطمأنينة والتواضع اللذين هما أنسب شيء لحال الحجاج المتجرد من المخيط المكشوف الراس الطالب لوضع أوزاره ، وتخفيف آصاره لستر عوراه ، أقبل سبحانه وتعالى على الرأس من المأمورين ، الحائز لما يمكن المخلوقين أن يصلوا إليه من رتب الكمال ، وخلال الجمال والجلال ، إشارة إلى أنه لا يلحقه أحد في ذلك فقال : ( وبشر المخبتين ) أي المتواضعين ، المنكسرين ، من الخبت - للأرض المنخفضة الصالحة للاستطراق وغيره من المنافع ؛ ثم بين علاماتهم فقال : ( الذين إذا ذكر الله ) أي الذي له الجلال والجمال ) وجلت ) أي خافت خوفاً مزعجاً ) قلوبهم ( .
ولما كان في ذكر الحج ، وكان ذلك مظنة لكثرة الخلطة الموجبة لكثرة الأنكاد ولا سيما وقد كان أكثر المخالطين مشركين ، لأن السورة مكية ، قال عاطفاً غير مُتبع ، إيذاناً بالرسوخ في الأوصاف : ( والصابرين ( الذين صار الصبر عادتهم ) على ما أصابهم ( كائناً ما كان .(5/152)
صفحة رقم 153
ولما كان ذلك شاغلاً عن الصلاة ، قال : ( والمقيمي الصلاة ) أي وإن حصل لهم من المشاق بأفعال الحج وغيره ما عسى أن يحصل ، ولذلك عبر بالوصف دون الفعل إشارة إلى أنه لا يقيمها على الوجه المشروع مع ذلك المشاق والشواغل إلا الأراسخ في حبها ، فهم - لما تمكن من حبها في قلوبهم والخوف من الغفلة عنها - كأنهم دائماً في صلاة .
ولما كان ما يحصل فيه من زيادة النفقة ربما كان مقعداً عنه ، رغب فيه بقوله : ( ومما رزقناهم ( فهم لكونه نعمة منا لا يبخلون به ، ولأجل عظمتنا يحسنون ظن الخلف ) ينفقون ) أي يجددون بذله على الاستمرار ، بالهدايا التي يغالون في أثمانها وغير ذلك ، إحساناً إلى خلق الله ، امتثالاً لأمره كالخبت الباذل لما يودعه تعالى فيه من الماء والمرعى .
الحج : ( 36 - 38 ) والبدن جعلناها لكم. .. . .
) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ( ( )
ولما قدم سبحانه الحث على التقرب بالأنعام كلها ، وكانت الإبل أعظمها خلقاً ، وأجلها في أنفسهم أمراً ، خصها بالذكر في سياق تكون فيه مذكورة مرتين معبراً بالاسم الدال على عظمتها ، أو أنه خصها لأنه خص العرب بها دون الأمم الماضية ، فقال عاطفاً على قوله ) جعلنا منسكاً ( أو يكون التقدير والله أعلم : فأشركناكم مع الأمم الماضية في البقر والغنم ) والبدن ) أي الإبل أي المعروفة بعظم الأبدان - ) جعلناها ) أي بعظمتنا ، وزاد في التذكير بالعظمة بذكر الاسم العلم فقال : ( لكم من شعائر الله ) أي أعلام دين الملك الأعظم ومناسكه التي شرعها لكم وشرع فيها الإشعار ، وهو أن يطعن بحديدة في سنامها ، تمييزاً لما يكون منها هدياً عن غيره .
ولما نبه على ما فيها من النفع الديني ، نبه على ما هو أعم منه فقال : ( لكم فيها خير ( بالتسخير الذي هو من منافع الدنيا ، والتقريب الذي هو من منافع الآخرة ؛ روى الترميذي وحسنه وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة الدمن وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها(5/153)
صفحة رقم 154
وأشعارها ، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الرض فطيبوا بها نفساً ) والدارقطني في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد ( ولما ذكر ما فيها ، سبب عنه الشكر فقال : ( فاذكروا اسم الله ) أي الذي لا سمي له ) عليها ) أي على ذبحها بالتكبير ، حال كونها ) صواف ( قياماً معقلة الأيدي اليسرى ، فلولا تعظيمه بامتثال شرائعه ، ما شرع لكم ذبحها وسلطكم عليها مع أنها أعظم منكم جرماً وأقوى ) فإذا وجبت جنوبها ) أي سقطت سقوطاً بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلاً ، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع ) ولا تعجلوا النفس أن تزهق ( وقد وراه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن فرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ذلك .
ولما كان ربما ظن أنه يحرم الأكل ممنها ااأمر بتقريبها لله تعالى ، قال نافياً لذلك : ( فكلوا منها ( إذا كانت تطوعاً إن شئتم الأكل ، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها قرباناً ) وأطعموا القانع ) أي المتعرض للسؤال بخضوع وانكسار ) والمعتر ) أي السائل ، وقيلك بالعكس ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، قال في كتاب اختلاف الحديثك والقانع هو السائل ، والمعتر هو الزائر والمار ، قال الرازي في اللموامع : وأصله في اللغة أن القاف والنون والعين تدل على الإقبال على الشيء ، ثم اختلف معاينه مع اتفاق القياس ، فالقانع : السائل ، لإقباله على من يساله ، والقانع ك الراضي الذي لا يسأل ، كأنه مقبل على الشيء الذي هو راض به .
ولما كان تسخيرها لمثل هذا القتل على الكيفية مع قوتها وكبرها أمرً باهراً للعقل عند التأمل ، نبه عليه بالتحريك للسؤال عما هو أعظم منه فقال : ( كذلك ) أي مثل هذا التسخير العظيم المقدار ) سخرناها ( بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك ) لكم ( وذللناها ليلاً ونهاراً مع عظمها وقوتها ، ولو شئنا جعلناها وحشية ) لعلكم تشكرون ((5/154)
صفحة رقم 155
أي لتتأملوا ذلك فتعرفوا أنه ما قادها لكم إلا الله فيكون حالكم حال من يرجى شكره ، فتوقعوا الشكر بأن لا تحرموا منها إلا ما حرمن ولا تحلوا إلا ما أحل ، وتشهدوا منها ما حث على إهدائه ، وتتصرفوا فيها بحسب ما أمركم .
ولما حث على التقرب بها مذكوراً اسمه عليها ، وكان من مكارم الأخلاق ، وكان أكثرهم يفعله ، وكانوا ينضحون البيت ونحوه بدماء قرابينهم ، ويشرحون اللحم ، ويضعونه حوله ، زاعمين أن ذلك قربة ، وقد كان بعض ذلك شرعاً قديماً ، نبه سبحانه على نسخ ذلك بأن نبه على أن المقصود منه روحه لا صورته فقال : ( لن ينال ) أي يصيب ويبلغ ويدرك .
ولما كان السياق للحث على التقريب له سبحانه ، كان تقديم اسمه على الفاعل أنسب للإسراع بنفي ما قد يتوهم من لحاق نفع أو ضر ، فقال معبراً بالاسم العلم الذي حمى عن الشركة بكل اعتبار : ( الله ) أي رضا الملك الذي له صفات الكمال فلا يلحفه نفع ولا ضر ) لحومها ( المأكوله ) ولا دماؤها ( المهراقة ) ولكن يناله التقوى ) أي عمل القلب وهي الصفة المقصود بها أن تقي صاحبها سخط الله ، وهي التي استولت على قلبه حتى حملته على امتثال اموامر التي هي نهايات لذلك ، الكائنة ) منكم ( الحاملة على التقرب التي تكون بها يمون له روح القبول ، المحصلة للمأمول ؛ قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن النية الخالصة خير من الأعمال الموظفة - انتهى .
فإذا نالته سبحانه النية قبلب العمل فتلقى اللقمة ( فرباها كما يربي أحدكم فله حتى تكون مثل جبل ) ( ووقع الدم منه بمكان ) فالنفي لصورة لا روح لها والإثبات لذات الروح ، فقد تفيد النية من غير عمل كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك ما معناه ( إن بالمدينة رجالاً ما نزلنا منزلاً ولا قطعنا وادياً غلا كانوا فيه حسبهم العذر ) ولا يفيد العمل بغير نية ، والنية هي التي تفيد الجزاء سرمداً والله الموفق ؛ ثم كرر التنبيه على عظيم تسخيرها منبهاً على ما أوجب عليهم به فقال : ( كذلك ) أي التسخير العظيم ) سخرها ) أي الله الجامع لصفات الكمال ) لكم ( بعظمتته وغناه عنكم ) لتكبروا ( .
ولما ذكر التكبير ، صورة بالاسم الأعظم فقال : ( الله ( وضمن التكبير فعل الشكر ، فكان التقدير : شاكرين له ) على ما هداكم ) أي على هدايتكم له والأمور العظيمة التي هداكم إليها .
ولما كان الدين لا يقوم إلا بالنذارة والبشارة ، وكان السياق لأجل ما تقدم من شعائر الحج ، (5/155)
صفحة رقم 156
ومعالم العج والثج - بالبشارة أليق ، ذكرها مشيراً إلى النذارة بواو العطف ليؤذن أن التقدير : فأنذر ايها الداعي المسيئينك ) وبشر المحسنين ) أي الذين أوجدوا الإحسان لأفعالهم صورة ومعنى .
ولما ذكر سبحانه الحج المذكر للمهاجرين بأوطانهم المخاصمة التي أنزلت في غزوة بدر ، وذكر ما يفعل فيه من القربات ، عظم اشتياق النفوس إلى ذلك وتذكرت علو المشركين الذي يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام وظهورهم ومنعهم لمن أراد هذه الأفعال ، على هذه الأوصاف الخالصة ، والأحوال الصالحة ، وفتنتهم له ، فأجابها سبحانه عن هذا السؤال بقوله : ( إن الله ) أي الذين لا كفوء له ) يدافع عن الذين آمنوا ( لأنهم بدخولهم في الإيمان لم يكونوا مبالغين في الخيانة ولا في الكفر فهو يحبهم ، فكيف بالمحسنين الذين ختمت بهم الآية السالفة ، أي فسظهرهم على عدوهم - هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بغير ألف ، وفي قراءة الباقين مبالغة بإخراج الفعل على المغالبة ، فكأنه قال : بشرهم بأن الله يدفع عنهم ، ولكنه تعالى أظهر الأوصاف ليفهم أنها مناط الأحكام والتعبير ، فعبر بالفعل الماضي ترغيباً ، أي لكل من أوقع هذا الوصف في الخارج إقاعياً ما دفع عنه ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) لا يحب ) أي لا يكرم كما يفعل المحب ) كل خوان ( لنعمته بالتقرب إلى لعباده من بيته الذي هو للناس سواء العاكف فيه والبادي ) كفور ( لنعمته بالتقرب إلى غيره ، فهو يفعل مكارم الأخلاق صورة ليس فيها معنى أصلاً ، لا يصححها بذكر الله وحده ، ولا يجملها بالإحسان ، وأتى بالصفتين على صيغة المبالغة لأن نقائص الإنسان لا يمكنه أن يفعلها خالية عن المبالغة ، لأنه يخون نفسه بالعزم أولاً ، والفعل ثانياً وغيره من الخلق ثالثاً ، وكذا يخون نفسه وهكذا في الكفر وغيره ، ولما كانت لالخيانة منبع النقائص ، كانت المبالغة فيها أكثر .
الحج : ( 39 - 44 ) أذن للذين يقاتلون. .. . .
) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( ( )(5/156)
صفحة رقم 157
ولما كان كأنه قد قيل : كيف تكون المدافعة وبمن ؟ فقيل : بعباده المؤمنين ، عبر عن ذلك بقوله : ( أذن ( وأشار بقراءة من بنها للمجهول إلى سهولة ذلك عليه سبخانه ) للذين يقاتلون ) أي للذين فيهم قوة المدافعة ، في المدافعة بالقتلا بعد أن كانوا يمنعون منه بمكة ويؤمرون بالصفح ؛ ثم ذكر سبب الإذن فقال ) بأنهم ظلموا ) أي وقع ظلم الظالمين لهم بالإخراج من الديار ، والأذى بغير حق .
ولما كان التقدير : فأن الله أراد إظهار دينه بهم ، عطف عليه قوله : ( وإن الله ) أي الذي هو الملك الأعلى ، وكل شيء في قبضته ، ويجوز عطفه على قوله ) إن الله يدفع ) أي بإذنه لهم في القتال وأنه ) على نصرهم ( وأبلغ في التأكيد لا ستبعاد النصرة إذ ذاك بالكفار من الكثرة والقوة ، وللمؤمنين من الضعف والقلة ، فقال : ( لقدير ( ثم وصفهم بما يبين مظلوميتهم على وجه يجمعهم ويوثقهم بالله فقال : ( الذين أخرجوا من ديارهم ( إلى الشعب والحبشة والمدينة ) بغير حق ( أوجب ذلك ) إلا أن يقولوا ) أي غير قولهم ، أو ألا قولهمك ) ربنا الله ( المحيط بصفات الكمال ، الموجب لإقرارهم في ديارهم ، وحبهم ومدحهم واقتفاء آثارهم ، فهو من باب :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وفي سوق ذلك المساق الاستثناء عند من يجعله منقطعاً إشارة إلى أن من أخلص لله ، صوب الناس إليه سهام مكرهم ، ولم يدعوا في أذاه شيئاً من جهدهم .
ولما ذكر مجافعتهن وذكر أنها بالمؤمنين ، بين سرها عموماً ليفهم منها هذا الخاص ، وصورها تقريباً لفهمهان فقال عاطفاً على ما تديرهك فلولا إذن الله لهم لا ستمر الشرك ظاهراً ، والباطل - باستيلاء الجهلة على مواطن الحج - قاهراً ك ) ولولا دفع الله ) أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة في كل شريعة ، وفي زمن كل ني أرسله ) الناس ) أي عموماً ) بعضهم ببعض ) أي بتسليط بعضهم على بعض ) لهدمت صوامع ( وهي معابد صغار مرتفعة للرهبان ) وبيع ( للنصارى ) وصلوات ( اي كنائس اليهود ) ومساجد ) أي للمسلمين ، أخرها لتكون بعيدة من الهدم قريبة من الذكر ) يذكر فيها اسم الله ) أي الملك الذي لا ملك غيرهن ولعل العدول عن الإضمار إلى الإظهار للإشارة إلى اختلاف ذكره تعالى في الأماكن المذكورة بالإخلاص وغيره ) كثيراً ( لأن كل فرقة تريد هدم ما للأخرى ، بل ربما أراد بعض أهل ملة إخراب بعض معلبد أهل ملته ، لا فبدفعه الله بمن يريد من عباده ، وإذا تأملت ذلك وجدت فيه من الأسرار ، ما يدق عن الأفكار ، فإنه تعالى لما أراد بأكثر الناس الفساد ، نصب لهم من الأضداد ، ما يخفف كثيراً من العناد .
ولما كان لتقدير : ولكن لم تهدم المذكورات ، لأن الله دفع بعضهم ببعض ، (5/157)
صفحة رقم 158
وجعل بعضهم في نحور بعض ، عطف عليه أو على قوله ) أذن ( قوله : ( ولينصرون الله ) أي الملك الأعظم ، وأظهر ولم يضمر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( من ينصره ( كائناً كم كان منهم ومن غيرهم ، بما يهيىء له من الأسباب ، إجراءً له على الأمر المعتاد ، وبغير أسباب خرقاً للعادةن كما وقع في كثير من الفتوحاتن كخوض العلاء بن الحخضرمي رضي الله عنه البحر الملح إلى جواثاء بالبحرين ، واقتحام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدجلة مع عظمها في ذلك العام وطموهان وزيادتها وعلوها ، وزلزلة أسوار حمص بالتكبير وتهدّم كثيراً من بيوتهان عن إتقان بنيانها ، وإحكام قواعدها وأركانها ونحو ذلك ؛ ثم علل نصره وإن ضعف المنصور ، بقوله : ( إن الله ) أي الذي لا كفوء له ) لقوي ) أي على ما يريد ) عزيز ( لا يقدر أحد على مغالبته ، ومن كان ناصره فهو المنصور ، وعدوه المقهور ، ولقد صدق سبحانه فيما وعد به ، فأذل بأنصار دينه رضي الله عنهم - جبابرة أهل الأرض وملوكهم ، ومن أصدق من الله حديثاً .
ولما وصف نفسه سبحاه بما يقتضي تمكين منصوره الذي ينصرهن وصفهم بما يبين أن قتالهم له ، لا لهم ، بعد أن وصفهم بأنهم أوذوا بالإخراج من الديار الذي يعادل القتل ، فقال : ( الذين ( ولما كانن وقت النصرة مبهماً آخره يوم الفصل ، عبر بأجاة الشك ليكون ذلك أدل على إخلاص المخلص في القتال : ( أن مكناهم ( بما لنا من العظمة ) في الأرض ( بإعلائهم على أضدادهم ) أقموا الصلاة ( اي الني هي عماد الدين ، الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني ) وآتوا الزكاة ( المؤذنة بالزهذ في الحاصل منه ، لالمؤذن بعمل النفس للرحيل ) وأمروا بالمعروف ( وهو ما عرفه الشرع وأجاره ) ونهوا عن المنكر ( المعرف بأنه لا أنس لهم إلا به سبحانه ، ولا خوف لهم إلا منه ، ةولا رجاء فيه والآية دالة على صحة خلافة الأئمة الأربعة .
ولما كان هذا ابتداء الأمر بالجهاد ، وكان عقب ما آذى أعداؤه أولياءه ، فطال أذاهم لهم ، فكان التقدير كما أرشد إليه العطف على غير مذكور ، عطفاً على ) ولولا دفع ( فااّه بادئة الأمور ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء ) عاقبة الأمور ( فتمكينهم كائن لا محالة ، لكن ذكره للعاقبة وطيه للبادئة منبه على أنه تعالى يجعل للشيطان - كما هو المشاهد في الأغلب - حظاً في البادئة ، ليتيبن الصادق من الكاذب ، والمزلزل من اثابت ، وأما العاقبة فهي متمحضة له إلى أن يكون آخرذلك القيامة التي لا يكون لأحد فيها أنمر ، حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن خاص .
ولما كان في ترغيب هذه الآيات وترهيبها ما يعطف العاقل ، ويقصف الجاهل ، طوي حكم العاقل لفهمه ما سبق ، وهو : فإنه يؤمنوا بك مكناهم في الأرض ، ودل عليه بعطف حكم(5/158)
صفحة رقم 159
الجاهل على غير مدكور في سياق يسلي به نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ويعزيه ، ويؤنسه ويواسيه ، فقال ) وإن يكذبوك ( اي أخذتهم وإن كانوا أمكن الناس ، فقد فعلت بمن قبلهم ذلك ، فلا يحزنك أمرهم ) فقد كذبت ( وأتى سبحانه بتاء التأنيث تحقيراً للمكذبين في قدرته وإن كانوا أشد الناس .
ولما كانت هذه لأمم لهظمهم وتمادي أزمانهم كأنهم قد استغرقوا الزمان كلهن لم يأت بالجار فقال : ( قبلهم قوم نوح ( وكانوا أطول الناس أعماراً ، واشدهم اقتداراً ؛ ولما لم يتعلق في هذا السياق غرض بالمخالفة في ترتيبهم ، ساقهم على حسب ترتبيهم في الوجود فقال : ( وعاد ( اي ذوو الأبدان الشداد ) وثمود ( أولو الأبنية الطوال ، في السهول والجبال ) وقوم إبراهيم ( المتجبرون المتكبرون ) وقم لوط ( الأنجاس ، بما لم يسبقهم إليه أحد من الناس ) وأصحاب مدين ( أرباب الموال ، المجموعة من خزائن الضلال .
ولما كان موسى عليه السلام قد أتى من الآيات المرئية ثم المسموعة بما لم يأت بمثله أحد ممن تقدمه ، فكان تكذيبه في غاية من البعد ، غير سبحانه الأسلوب تنبيهاً على ذلك ، وعلى أن الذين أطبقوا على تكذيبه القبط ، وأما قومه فما كذبه منهم إلا ناس يسير ، فقال : ( وكذب موسى ( وفي ذلك ايضاً تعظيم للتأسية وتفخيم للتسلية ) فأمليت للكافرين ) أي فتعقب عن تكذيبهم أني أمهلتهم بتلأخير عقوبتهم إلى الوقت الذي ضربته لهم ، وعبر عن طول الإملاء بأداة التراخي لزيادة التأسية فقال : ( ثم أخذتهم ( ونبه سبحانه وتعالى على أنه كان في أخذهم عبر وعجائب ، وأهوال وغرائب ، بالاستفهام في قوله : ( فكيف كان نكير ( اي إنكاري لأفعالهم ، فليحذر هؤلاء الذين أتيتهم بأعظم ما أتى به رسول قومه مثل ذلك .
الحج : ( 45 - 47 ) فكأين من قرية. .. . .
) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( ( )
ولم كانت هذه الأمم السبعة أكثر أهل الأرض ، بل كانت أمة منهم أهل الأرض كما مضى بيانه في الأعراف ، فكيف بمن عداهم ممن كان في أزمانهم وبعدهم ، وأخبر سبحانه وتعالى أن عادته فيهم الإملاء ثم الإهلاك ، تسبب عن ذلك تهويل الإخبارعنهم وتكثيرهم ، فقال تعالى شارحاً للأخذ والإمهال على طريق النشر والمشوش : ( فكأين من(5/159)
صفحة رقم 160
قرية أهلكناها ( كهؤلاء المذكورين وغيرهم ، وفي قراءة الجماعة غير أبي عمرو بالنون إظهاراً للعظمة ) وهي ) أي والحال أنها ) ظالمة فهي ) أي فتسبب عن إهلاكها أنها ) خاوية ) أي متهدمة ساقطة أي جدرانها ) على عروشها ) أي سقوفها ، بأن تقصفت الأخشاب ولا من كثرة الأمطار ، وغير ذلك من الأسرار ، فسقطت ثم سقطت عليها الجدران .
أو المعنى : خالية ، قد ذهبت أرواحها بذهاب سكانها على البقاء سقوفها ، ليست محتاجة إلىغير السكان ) و ( كم من ) يئر معطلة ( من أهلها مع بقاء بنائها ، وفوران مائها ) وقصر مشيد ) أي عال متقن مجصص لأنه لا يشيد - أي يجصص - إلا الذي يقصد رفعه ، فحلت القصور من أربابها ، وأقفرت موحشة من جميع أصاحبها ، بعد كثرة التضام في نواديها ، وعطلت الآبار من ورّادها بعد الازدحام بين رائحتها وغاديها ، دانية ونائية ، حاضرة وبادية ؛ ولما كان خراب المشيد يوهى من أركانه ، ويخلق من جدارنه ، لم يحس التشديد في وصف القصر ، كما أحسن في وصف البئر .
ولما كان هذا واعظاً لمن له استبصار ، وعاطفاً له إلى العزيز الغفار ، تسبب عنه النفي ، وقد دخلت على النفي السير فنفته ، فأثبتت السير عرياً عما أفاده الجواب ، وهو قوله ) فتكون ) أي فيتسبب عن سيرهم أن تكون ) لهم قلوب ( واعية ) يعقلون بها ( ما رأوه بأبصارهم في الآيات المرئيات من الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته على الإحياء والإماتة متىى أراد فيعتبروا به ، فانتفاء القلوب الموصوفة متوقف على نفي السير الذي هو إثبات السير ، وكذا الكلام في الآذان من قوله ) أو ) أي أو تكون لهم إن كانوا عمي الأبصار كما دل عليه جعل هذا قسيماً ) آذان يسمعون بها ( الآيات ا لمسموعة المترجمة عن تلك القرى وغيرها سواء ساروا أو لم يسيروا ، إن كانت بصائرهم غير نافذة الفهم بمجرد الرؤية فيتدبروها بقلوبهم ، فإنه لا يضرهم فقد الأبصار عند وجود البصائر .
ولما كان الضار للإنسام إنما هو عمى البصائر دون ابصار ، نفى العمى أصلاً عن الأبصار لعدم ضرورة مع إنارة البصائر ، وخصه بالبصئر لوجود الضرر به ولو وجدت البصار ، مسبباً عما مضى مع ما أرشد إليه من التقدير ، فقال : ( فإنها لا تعمى الأبصار ((5/160)
صفحة رقم 161
أي لعدم الضرر بعماها المستنير البصيرة ) ولكن نعمى القلوب ( ، اكد المعنى بقوله : ( التي في الصدور ( لوجود الضرر بعماها المبطل لمنفعة صاحبها وإن كان البصر موجداً ، فاحتيج في تصوي عماها إلى زيادة تعيين لما تعورف من أن العمى البصر عدم للبصر ، إعلاماً بأن القلوب ما ذكرت غلطاً ، بل عمداً ، تنبيهاً على أن عمى البصر عدم بالنسبة لى عماها ، والمراد بالقلب لطيفة ربانية روحانية مودعة في اللحم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، لديه تعلق. . .
عقول الأكثر في أنه يضاهي تعلق العرض بالجسم ، أو الصفة بالموصوف ، أو المتمكن بمكان ووهذه اللطيفة على حقيقة الإنسان سميت قلباً للمجاورة والتعلق ، وهي كالفارس والبدن كله كالفرس ، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس ، بل لا نسبة لأحد الضررين بالآخرة ، فلذلك نفى عمى الأبصار أصلاً ورأساً ، فلا شيء ضرورة بالنسبة إلى عمى البصائر .
ولما قدم سبحانه أن الضال المضل له خزي في الدنيا ، وقدم أنه يدفع عن الذين آمنوا وينصرهم ، وساق الدليل الشهودي على ذلك لمن كان جامد الفهمن مقيداً بالوهم ، بالقرى الظالمة التي أنجز هلاكها ، وختم بإنكار عماهم عن ظاهر الآيات البيناتن قال عاطفاً على ) ومن الناس من يجادل ( معجباً منهم وموضحاً لعماهمك ) ويستعجلونك ( ويجوز وهو أحسن أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل ) يسيروا ( فيكون مما أنكر عليهم ) بالعذاب ( الذي تتوعدهم به تكذيباً واستهزاء ، ) و ( الحال أنه ) لن يخلف الله ( الذي لا كفوء له ) وعده ( فلا بد من وقوعه لكن الطويل عندهم من الزمن القصير عنده ، وقد ينجز الوعد وقد يؤخره بعد الوعيد إلى حين يوم أو أقل أو أكثر ، لأن قضاءه سبق أنه لا يكون فيه لحكم يظهرها لمن يشاء من عباده ) وإن يوماً ) أي واحداً ) عند ربك ) أي المحسن غليك بتأخير العذاب عنهم إكراماً لك ) كألف سنة ( ولما كان المقصود هنا التطويل ، فعبر بالسنة تنبيهاً عليه ؛ ولما كانت السنون قد تختلف قال : ( مما تعدون ( لأن أيامكم تناسب أوهامكم ، وأزمانكم تناسب شأنكم ، وهو حليم لا يستطيل الزمان ، وقادر لا يخاف الفوت .
الحج : ( 48 - 52 ) وكأين من قرية. .. . .
) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ( )(5/161)
صفحة رقم 162
ولما دل على نصر أوليائه ، وقسر أعدائه ، بشهادة تلك القرىوختم بالتعجيب من استعجالهم مع ما شاهدوا من إهلاك أمثالهم ، وأعلمهم ما هو عليه من الأناة ، واتساع العظمة ، وكبر المقدار ، عطف على ) فكأين ( نمحذراً من نكاله ، بعد طويل إمهاله ، قوله : ( وكأين من قرية ) أي من أهلها ) أمليت لها ) أي أمهلتها كما أمهلتكم ) وهي ظالمة ( كظلمكم لالاستعجال وغيره ) ثم أخذتها ( اي بالعذاب ) وإليّ المصير ( بانقطاع كل حكم دون حكمي ، كما كان مني البدء ، فلم يقدر أحد أن يمنع من خلق ما أردت خلقه ، ولا أن يخلق ما لم ارد خلقه ، فلا نغتروا لالإمهال ، وإن تمادت الأيام والليالي ، واحذروا عواقب الوبال ، وإن بلغتم ما أردتم من الآمال ، ولعله إنما طوى ذكر البدء ، لأنه احتجب فيه بالأسباب فغلب فيه اسمه الباطن ، ولذلك ضل في هذه الدار أكثر الخلق وقوفاً مع الأسباب .
ولما كان الاستعجال بالأفعال لا يطلب من الرسول ، وكان الإخبار باستهزائهم وشدة عماهم ربما أفهم الإذن في الأعراض عنهم اصلاً ورأساً قال سبحانه وتعالى مزيلاً لذلك منبهاً على أن مثله إنما يطلب من المرسل ، لا من الرسول : ( قل ) أي لهم ، ولا يصدنك عن دعائهم ما أخبرناك به ن عماهم ) يا أيها الناس ) أي جميعاً من قومي وغيرهم ) إنما أنا لكم نذير ) أي وبشير ، وإنما طواه لأن المقام للتخويف ، ويلزم منه الآمن للمنتهى فتأتي البشارة ، ولأن النذارة هي المقصود العظم من الدعوة ، لأنه لا يقدم عليها إلا المؤيدون بروح من الله ) مبين ) أي لكل ما ينفعكم لتلزموه .
ويضركم فتتركوه لا إلهن أعجل لكم العذاب ؛ ثم تسبب عن كونه مبيناً العلم بأن وصف البشارة مراد وإن طوي ، فدل عليه سبحانه بقوله تفضيلاً لأهل البشارة والنذارة : ( فالذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ) وعملوا ) أي تصديقاً لدعواهم ذلك ) الصالحات لهم مغفرة ( لما فرط منهم من التقصير لأنه لن يقد أحد أن يقدر الله حق قدره .
ولما كان هذا أول الإذن في القتال ، المجب لمنابذة الكفار ، مهاجرة الأهل والأموال والديار ، وكان ذلك - مع كونه في غاية الشدة - موجباً للفقر عادة ، قال محققاً له ومنبهاً على أنه سبب الرزق : ( ورزق ) أي في الدنيا بالغنائم وغيرها ، والآخرة بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) كريم ( لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره أصلاً ما داموا على الاتصاف بذلك ، هذا فعل ربهم بهم عكس ما وصف به مدعو الكفار من أن ضره أقرب من نفعه .
ولما كان في سياق الإنذار ، قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف : ( والذين سمعوا ) أي أوقعوا السعي ولو مرة واحدة بشبهة من الشبه ونحوها ) في آياتنا ) أي التي(5/162)
صفحة رقم 163
نصبناها للدلالة علينا مرئية أو مسموعة ) معاجزين ) أي مبالغين في فعل ما يلزم - في زعمهم - منه عجزنا ، ومعجزين ، أي مقدرين أنهم يعجزوننا بإخفائهم آياتنا ، وإضلال الناس وصدهم عهنا بألقاء الشبه والجدال ، اتباعاً لشيطان مريد ، من غير علم ولا هدى ولا كتب منير كشبه الاتحادية الذين راج أمرهم على كثير من الناس مع أنه لا شيء لأو هى من شبههم ولا أظهر بطلاناًن ولذلك راج أمرها على أهل الغباوة ، فإن الداعية منهم يقول لمن يغره : هذا الظاهر من الكلام لا يقول به عاقلن فالمراد به اسرار دقيقة ، وراء طور العقل ، لا يوصل إليه إلا بالرياضة والكشف ، وما درى المغرور أن أبا طالب كان أعقل من هذا الذي ينسب إليه ذلك الكفر الظاهر ، فإن شعره أحسن من شعره ، وبديهته أعظم من بديهته ، ورؤيته أحكم من رؤيته ، وقد رأى من الآيات من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مل لا مزيد عليه ، مع أن له من القرابة ما هو معروف ، ومن المحبة مايفوت الحصر ، ومع ذلك فقد أصرّ من الضلال ما لا يرضاه حمار لو نطق ، على أن هذا المغرور قد لزمه - بتحسين الظن بهؤلاء الكفرة - إساءة الظن باشرف الخلق : النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ( من رأى منكم منكراً ) - الحديث الذي في بعض رواياته : ( وليس وراء ذلك ) أي الإنكار بالقلب - ( مثقال حبة من إيمان ) وقد أفردت لبيان ضلالهم كتباً لما استطار من شرهم ، ومس من ضرهم ، منها المطول والمختصر ، لا مزيد على بيانها وظهور سلطانها ) أولئك ( البعداء البغضاء ) أصحاب الجحيم ) أي استحقاقاً بما سعوا ، فإن شاء تاب عليهم ، وإن شاء كبهم فيها ، ليعلموا أنهم هم العاجزون ، هذا في الآخرة ، وسيظهر سبحانه في الدنيا أيضاً عجزهم ، بكشف شبههم ومج القلوب النيرة لها ، مع ذلهم وانكسارهم ، وهوانهم وصغارهم ، حتى لا يقدروا أن ينطقوا من ذلك ببنت شفةن علماً منهم أن مثلها لا يقوله عاقل .
ولما لاح من ذلك أن الشيطان ألقى للكفار شبهاً ، يعاجزون بها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً ثلى الله عليه وسلم بإظهاره ، وتقرير وإشهاره ، عطف عليه تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) قوله : ( وما ارسلنا ( اي بعظمتنا ) من قبلك ( ثم أكد ىالاستغراق بقوله : ( من رسول ) أي من ملك أو بشر بشريعة جديدة يدعو ليها ) ولا نبي ( سواء كان رسولاً أو لا ، مقرر بالحفظ لشريعة سابقة - كذا قال البيضاوي وغيره في الرسول وهو منقوص بأنبياء بني أسرائيل الذين بين موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، فإن الله تعالة سماهم رسلاً في غير آية منها
77 ( ) ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ( ) 7
[ البقرة : 87 ](5/163)
صفحة رقم 164
فالصواب أن يقال : أن النبي إنسان أوحي إليه بشرع جديد أو مقرر ، فإن أمر بالتبليغ فرسول أيضاً ، والتقييد بشرع لأخراج مريم وغيرها من الأولياء ) إلا إذا تمنى ) أي تلا على الناس ما أمره الله به أو حدثهم به واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم ) القى الشيطان في أمنيته ) أي ما تلاه أو حدث به ةاشتهى أن يقبل ، من الشبه والتخيلات ما يتلقفه منه أولياءه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم ) ) وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ( ) [ النعام : 121 ] ) ) وكذلك جلعنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ( ) [ الأنعام : 112 ] كما يفعل هؤلاء فيما يغيرون به في وجه الشريعة اصولاً وفروعاً من قولهمك إن القرآن شعر وسحر وكهانة ، وقولهم ) ) لو شاء الله ما أشركنا ( ) [ الأنعام 148 ] وقولهم ) ) هؤلاء شفعاؤنا عند الله ( ) [ يونس : 18 ] وقولهم ك إن ما قلته الله بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح ، وقولهمك نحن أهل الله وسكان حرمهن لا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمعشر الحرام ويقف الناس بعرفة ، ونحن نطوف قي ثيابنا وكذا من ولدناه ، وأما غيرنا فلا يطوف إلا عرياناً ذكراً ان أو أنثى إلا أن يعطيه أحد منا ما يلبسه ، نحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله ، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية وأنظارهم التي ألحدو فيها ، يضل بها من يشاء الله ثم يمحوها من أراد من عباده وما أراد من أمره ) فينسخ ) أي فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ ) الله ( اي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) ما يلقي الشيطان ( فيبطله بإيضاح أمره ومج القلوب له .
ولما كان إبطاله سبحانه للشبه إبطالاً محكماً ، لا يتطرق إليه لعلو رتبة بيانه - شبهة أصلاً ، عبر بأداة التراخي فقال : ( ثم يحكم الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ) آياته ) أي يجعلها جلية فيما أريد منها ، وأدل دليل على أنم هذا هو المراد مع الافتتاح بالمعاجزة في الآيات - الختام بقوله عطفاً على ما تقديره : فالله على ما يشاء قدير : ( والله ) أي الذي له الأمر كله ) عليم ) أي بنفي الشبه ) حكيم ( بإيراد الكلام على وجه لا تؤثر فيه عند من له أدنى بصيرة ، وكذا ما مضى في السورة ويأتي من ذكر الجدال .
الحج : ( 53 - 58 ) ليجعل ما يلقي. .. . .
) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ(5/164)
صفحة رقم 165
يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) 73
( ) 71
ولما ذكر سبحانه ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء ، ذكر العلة في ذلك فقال : ( ليجعل ما يلقي الشيطان ( اي في المتلو أو المحدث به من تلك الشبه في قلوب أوليائه ) فتنة ) أي اختبار وامتحاناً ) للذين في قلوبهم مرض ( لسفولها عن حد الاعتدال من اللين حتى صارت مائيتة تقبل كل صورة ولا يثبت فيها صورة ، وهم أهل النفاق المتلقفون للشبه الملقون لها ) والقاسية قلوبهم ( عن فهم الآيات ، وهم من علت قلوبهم عن ذلك الجدال أن صارت حجرية ، وهم المصارحون بالعداوة ، فهم في ريب من أمرهم وجدال للمؤمنين ، قد انتشقت فيها الشبه ، فصارت أبعد شيء عن الزوال .
ولما كان التقدير : فإنهم حزب الشيطان ، وأعداء لرحمن ، عطف عليه قوله .
وإنهم هكذا الأصل ، ولكنه أظهر تنبيهاً على وصفهم فقال : ( وإن الظالمين ) أي الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في غير مواضعها كفعل من هو في الظلام ) لفي شقاق ) أي خلاف بكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك السبه التي تلقوها من الشيطان ، وجادلوا بها أولياء الرحمن ) بعيد ( عن الصواب
77 ( ) ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنوا بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ( ) 7
[ الأنعام : 113 ] ) وليعلم الذين أتوا العلم ( بإتقان حججه ، وإحكام براهينه ، وضعف شبه التي المعاجزين ، وبني فعله للمجهول نعظيماً لثمرته في حد ذاته لا بالنسبة إلى معط معين ) أنه ) أي الشيء الذي تلوته أو حدثت به ) الحق ( اي الثابت الذي لا يمكن زواله ) من ربك ( اي المحسن إليك بتعليمك إياه ، فإن الحق كلما جودل أهله ظهرت حججه ، وأسفرت وجوهه ، ووضحت براهينه ، وغمرت لججه ، كما قال تعالى
77 ( ) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ( ) 7
[ البقرة : 26 ] ) فيؤمنوا به ( لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبه ) فتخبت ) أي تطمئن وتخضع ) له قلوبهم ( وتسكن به قلوبهم ، فإن الله جعل فيها السكينة فجعلها زجاجية صلبة صافية رقيقة بين المائية والحجرية ، نافعة بفهم العلم وحفظه والهداية به لمن يقبل عنهم من الضالين كما ينفع الخبث بقبول طائفة أخرى منه من الماء ، وإنبات ما يقدره الله من الكلاء وغيره وحفظ طائفة أخرى لطائفة أخرى منه لشرب الحيوان ) وإن الله ( بجلاله وعظمته لهاديهم ، ولكنه أظهر تنبيهاً أخرى منه فقال : ( لهاد الذين آمنوا ( في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان ) لى الصراط المستقيم ((5/165)
صفحة رقم 166
يصلون به إلى معرفة بطلانه ، فيوصلهم ذلك غلى سعادة الدارين ) ولا يزال الذين كفروا ) أي وجد منهم الكفر وطبعوا عليه ) في مرية ) أي شك يطلبون السكون إليه ) منه ) أي من أجل إلقاء الشيطان وما ألقاه ، أو مبتدىء منه ) حتى تأتيهم الساعة ) أي الموت أو القيامة ) بغتة ) أي فجأة بموتهم حتف الأنف ) أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ( يقتل فيه جميع أبنائهم منهم ولا يكون لهم فيه شيء مما يترجونه من نصر أو غيره كما سعوا بجدلهم وإلقاء الضلالات في إعقام الآيات ، فإذا انكشف لهم الغطاء بالساعة أو العذاب الموصل إلى حد الغرغرة آمنوا دأب البهائم التي لا ترى إلا الجزيئات ، فلم ينفعهم ذلك لفوات شرطه ، وقد زالت بحمد الله عن هذه الآية - بما قررته الشكوك ، وانفصحت مخيلات الشبه ، وانقمعت مضلات الفتن ، من قصة الغرانيق وما شكلها مما يتعالى عنه ذلك الجناب الرفيع ، والحمى العظيم المنيع ، ولم يصح شيء من ذلك كما صرح به الحافظ عماد الدين ابن كثير وغيره كيف وقد منع الشيطان من مثاله ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه ( من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ) وقد تولى الله سبحانه حفظ الذكر الحكيم بحراسة السموات وغيرها
77 ( ) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ) 7
77 ( ) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ( ) 7
[ الجن : 27 ] .
ولما كانوا من الكثرة والقوة بمكان كان كأنه قيل : كيف يغلبون ؟ فقال جواباً عن ذلك : ( الملك يومئذ ) أي يوم إذ تأتيهم ذلك إما في القيامة أو في ا لدنيا ) لله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال وحد بتغليب اسمه الظاهر ، بأن يجري أمره فيه على غير الأسباب التي تعرفونها .
ولما كان كأنه قيل : ما معنى اختصاصه به وكل الأيام له ؟ قيل : ( يحكم بينهم ) أي بين المؤمنين والكافرين بالأمر الفيصل ، لا حكم فيه ظاهراً ولا باطناً لغيره ، كما ترونه الآن ، بل يمشي فيه الأمر على أتم قوانين العدل ، ولذلك سبب ظهور العدل عنه قوله مفصلاً بادئاً .
إظهاراً لتفرده بالحكم بإكرام من كانوا قاطعين بهوانهم في الدارين مع أن تقديمهم أوفق لمقصود السورة : ( فالذين آمنوا وعملوا ) أي وقصدوا دعواهم الإيمان بأن عملوا ) الصالحات ( وهي ما أمرهم الله به .(5/166)
صفحة رقم 167
ولما كانت إثابته تعالى لأهل طاعته تفضلاً منه ، نبه على ذلك بإعراء الخبر عن الفاء السببية بخلاف ما يأتي في حق الكفار فقال : ( في جنات النعيم ( في الدنيا مجازاً ، لمآلهم إليهم مع ما يجدونه من لذة المناجاة واستشعار القرب وفي الآخرة حقيقة بما رحمهم الله به من توفيقهم للأعمال الصالحة ) والذين كفروا ( اي غطوا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا ) وكذبوا بىياتنا ( ساعين - بما اعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه ، وقرن الخبر بالفاء إيذاناً بأنه مسبب عن كفرهم فقال : ( فأولئك ) أي البعداء عن أسباب الكرم ) لهم عذاب مهين ( بسبب ما سعوا في إهانة ىياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتها والتكبر عن اتباعها .
ولما كان المشركون يمنعون بهذ الشبه وغيرها كثيراً من الناس الإيمان ، وكانوا لا يتمكنون بها إلا ممن يخالطهم ، رغب سبحانه في ا لهجرة فقال : ( والذين هاجروا ) أي أوقعوا هجرة ديارهم وأهليهم ) في سبيل الله ) أي طريق ذي الجلال والإكرام التي شرعها ، فكانت ظرفاًُ لمهجرتهم ، فلم يكن لها بها غرض آخر .
ولما كان أكثر ما يخاف من الهجرة القتل .
لقصد الأعداء للمهاجر بالمصادمة ، عند تحقق المصارمة ، قال معبراً بأداة التراخي إشارة إلى طول العمر وعلو الرتبة بسبب الهجرة : ( ثم قتلوا ) أي بعد الهجرة ، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه فقال : ( أو ماتوا ) أي من غير قتل ) ليزقنهم الله ( اي الملك الأعلى ) رزقاً حسناً ( من حين تفارق أرواحهم أشباحهم لأنهم أحياء عند ربهم ، وذلك لأنهم أرضوا الله بما انخلعوا منه مما أثلوه طول أعمارهم .
وأثله آباؤهم من قبلهم ، وأموالهم وأهليهم وديارهم .
ولما كان التقدير : فإن لاالله فعاللما يريد من إحيائهم ورزقهم وغيره ، عطف عليه قوله : ( وإن الله ) أي الجامع لصفات الكمال بعظمته وقدرته على الإحياء كما قدر على الإماتة ) لهو خير الرازقين ( يرزق الخلق عامة البر منهم والفاجر ، فكيف بمن هاجر إليه ويعطي عطاء لا يدخله عد ، ولا يحويه حد ، وكما دلت الآية على تسوية من مات في سبيل الله برباط أو غيره في الرزق بالشهيد ، دلت السنة أيضاً من حديث سلمان وغيره رضي الله عنهم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من مات مرابطاً أجري عليه الرزق وأمن الفتانين ) .(5/167)
صفحة رقم 168
الحج : ( 59 - 63 ) ليدخلنهم مدخلا يرضونه. .. . .
) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( ( )
ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار ، وكان ذلك من أفضل الرزق ، قال دالاً على ختام التي قبل : ( ليدخلنهم مدخلاً ) أي خولاً ومكان دخول قراءة نافع وأبي جعفر بفتح الميم ، وإدخالاً ومكان إدخال على قراءة الباقين ) يرضونه ( لا يبغون به بدلاً ، بما أرضوه به بما خرجوا منه .
ولما كان التقدير : فإن الله لشكور حميد ، وكان من المعلوم قطعاً أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره وإن اجنهد ، لأن الإنسان محل الخطأ والنسيان ، فلو أوخذ بذلك هلك ، وكان ربما ظن ظان أنه لو علم ما قصروا فيه لغضب عليهم ، عطف على ما قدرته قوله : ( وإن الله ) أي الذي عمت رجمته وتمت عظمته ) لعليم ) أي بمقاصدهم وما علموا مما يرضيه وغيره ) حليم ( عما قصروا فيه من طاعته ، وما فرطوا في جنبه سبحانه .
ولما ختم هذه الآيات - التي الإذن للمظلومين في القتال للظالمين - بصفة الحلم ، فكان ذلك مخيلة لوجوب العفو عن حقوق العباد كما في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام ، نفى ذلك بقوله إذناً للمجهرين فيمن أخرجهم من ديارهم أن يخرجوه من دياره ويذيقوه بعض ما توعده الله به من العذاب المهين : ( ذلك ) أي الأمر المقرر من صفة الله تعالى ذلك ) ومن عاقب ( من العباد بأن أصاب خصمه ، لمصيبة يرجو فيها العاقبة ) بمثل ما عوقب ) أي عولج علاج من يطلب حسن العاقبة ) به ( من أي معاقب كان فلم يتجاوز إلى ظلم ) ثم بغي ) أي من أيّ باغ كان ) عليه ( بالعود غلى خصومته لأخذه حقه .
ولما كان ما يحصل للمبغي عليه بالكسر عودا على بدء من الذل والهوان مبعداً لأن ينجبر ، أكد وعده فقالك ) لينصرنه الله ) أي الذي لا كفوء له .
ولما قيد ذلك بالمثلية ، وكان أمراً خفياً ، لا يكاد يوقف عليه ، فكان ربما وقعت المجاوزة خطأ ، فظن عدم النصرة لذلك ، أفهم تعالى أن المؤاخذة إنما هي(5/168)
صفحة رقم 169
بالعمد ، بقوله ؛ ويجوز أن يكون التقدير ندباً إلى العفو بعد ضمان النصر : إن الله لعزيز حكيم ، ومن عفا وأصلح فقد تعرض لعفو الله عن تقصيره ، ومغفرته لذنوبه ، فهو احتباك : ذكر النصرة دليل العزة والحكمة ، وذكر العفو منه سبحانه دليل حذف العفو من العبد ) إن الله ) أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ) لعفو ) أي عمن اقتص ممن ظلمه أول مرة ) غفور ( لمن اقتص ممن بغى عليه .
ولما ختم بهذين الوصفينن ذكر من الدليل عليهما أمراً جامعاً للمصالح ، عاماً للخلائق ، يكون فيه وبه الإحسان بالخلق والرزق فقال : ( ذلك ) أي معرفة اتصافه سبحانه بهذين الوصفين ) بأن الله ( المتصف بجيع صفات الكمال ) يولج ( لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن ) الليل في النهار ( فيمحو ظلامه بضيائه ، لو شاء مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار ) ويولج النهار بالليل ( فينسخ ضياءه بظلامه ، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل ، أو يطول أحدهما حيث يراد استيلاء ما طبع عليه على عضد ما طبع عليه آخر لما يراد من المصالح التي جعل ذلك لأجلها ) وأن الله ( بجلاله وعظمته ) سميع ( لما يمكن أن يسمع ) بصير ) أي مبصر عالم لما يمكن أن يبصر دائم الاتصاف بذلك فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع ، ولا لضياء النهار ليبصر ، لأنه منزه عن الأعراض ، وهو لتمام قدرته وعلمه لا يخاف في عفوه غائلة ، ولا يمكن أن يفوته أمر ، أو يكون التقدير : ذلك النصر والعفو بأنه قادر وبأنه عالم .
ولما وصف نفسه سبحانه بما ليس لغيره فبان بذلك نقير ما سواه بفعله علله بقوله : ( ذلك ) أي الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم ) بأن الله ( الحاوي لصفات الكمال ، القادر على إخراج المعدوم وتجديد ما فات ، من نشر الأموات وغيره ) هو ( وحده ) الحق ) أي الواجب الوجود ) وأن ما يدعون ) أي دعاء عبادة وهم لا يسمعون .
ولما كان سبحانه فوق كل شيء بقهره وسلطانه ، قال محقراً لهم : ( من دونه ) أي من هذه الأصنام وغيرها ، ولم يتقدم هنا من الدليل على بطلان الأوثان مثل ما ذكره في لقمان الداعي الحال إلى التأكيد بضمير الفصل فقال : ( هو الباطل ( لأنه ممكن وجوده وعدمه ، فليس له من ذاته إلا العدم كغيره من الممكنات ) وأن الله ( لكونه هو الحق الذي لا كفوء له ) هو ( وحده ) العلي الكبير ( وكل ما سواه سافل حقير ، تحت قهره وأمره ، فهو يحيي الموتى كما تقدم أول السورة .
ولما دل ما تضمنه رزقه سبحانه للميت في سبيله بقتل أو غيره على إحيائه له ، ودل سبحانه على ذلك وعلى أنه خير الرازقين بما له من العظمة ، وختم بهذين الوصفين ، أتبعه دليلاً آخر على ذلك كله بآية مشاهدة جامعة بين العالم العلوي والسفلي(5/169)
صفحة رقم 170
قاضية بعلوه وكبره ، فقال : ( الم تر ) أي أيها المخاطب ) أن الله ) أي المحيط قدرة وعلماً ) أنزل من السماء ماء ( بأن يرسل رياحاً فتثير سحاباً فيمطر على الأرض الملساء .
ولما كان هذا الاستفهام المتلو بالنفي في معنى الإثبات لرؤية الإنزال لكونه فيه معنى الإنكار ، عطف على ) أنزل ( معقباً له على حسب العادة قولع ، معبراً بالمضارع تنبيهاً على عظمة النعمة بطول زمان أثر المطر وتجدد نفعه : ( فتصبح الأرض ) أي بعد أن كانت مسدة يابسة ، ميتة هامدة ) مخضرة ( حية يانعة ، مهتزة نامية ، بما فيه رزق العبادة ، وعمار البلاد ، ولم ينصب على أنه جوابه لئلا يفيد نفي الاخضرار ، وذلك لأن الاستفهام من حيث فيه معنى الإنكار نفي لنفي رؤية افنزال الذي هو إثبات الرؤية ، فيكون ما جعل جواباً له منفياً ، لأن الجواب متوقف على ما هو جوابه ، فإذا نفى ما عليه التوقف انتفى المتوقف عليه ، أي إذا نفى الملزوم انتفى اللازم ، وإذا نفي السبب انتفى المسبب - كما تقدم ( فتكون لهم قلوب ) فلو نصب ( يصبح ) على أنه جواب الاستفهام لكان المعنى أن عدم الاخضرار متوقف على نفي للإنزال الذي هو إثبات الإنزال ، وهو واضح الفساد ، أفاد شيخنا الإمام أبو الفضل رحمه الله .
ولما كان هذا إنتاجاً للأشياء من أضدادها ، لأن كلاًّ من الماء في رقته وميوعه والتراب في كثافته ، وجموده في غاية البعد عن النبات في تنوعه وخضرته ، ونموه وبهجته ، قال سبحانه وتعالى منبهاً على ذلك : ( إن الله ) أي الذي له تمام العز وكمال العلم ) لطيف ) أي يسبب الأشياء عن أضدادها ) خبير ) أي مطلع على السرائر وإن دقت ، فلا يستبعد عليهه إحياء من أراد بعد موته ، والإحسان في رزقه .
الحج : ( 64 - 67 ) له ما في. .. . .
) للَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ( ( )
ولما اقتضى ذلك انهى الترف ، لأنه لا بد بعد اختلاط الماء بالتراب من أمور ينشأ عنها النبات ، على تلك الهيئات الغريبة المختلفة ، فأوجب ذلك أن يكون هو المالك المطلق ، قال : ( له ما في السماوات ) أي التي أنزل منها الماء ، ولما كان السياق لإثبات البعث والانفراد بالماك والدلالة على ذلك ، اقتضى الحال التأكيد بإعادة الموصول فقال : ( وما في الأرض ) أي التي استقر فيها ، وذلك يقتضي ملك(5/170)
صفحة رقم 171
السماوات ( والأرضين ، فإن كل واحدة منها في التي فوقها حتى ينتهي الأمر إلى عرشه سبحانه الذي لا يجوز أصلاً أن يكون لغيره .
ولما كان من المألوف عندنا أن المالك فقير إلى ما في يده ؛ مذموم على إمساكه بالتقتير ، وعلى بذله بالتبذير ، بين أنه بخلاف ذلك فقال : ( وإن الله ) أي الذي له الإحاطة التامة ) لهو ) أي وحده ) الغني ) أي عنهما وعما فيهما ، ما خلق شيئاً منهما أو فيهما لحاجة له إليه بل لحاجتكم أنتم إليه ) الحميد ( في كل ما يعطيه أو يمنعه ، لما في ذلك من الحكم الخفية والجلية ؛ ثم استدل على ذلك بقوله تعالى : ( ألم تر ) أي أيها المخاطب ) أن الله ) أي الحائز لصقفات الكمال ، من الجلال والجمال ) سخر لكم ( فضلاً منه ) ما في الأرض ( كله من مسالكها وفجاجها وما فيها من حيوان وجماد ، زروع وثمار ، فعلم أنه غير محتاج إلى شيء منه ولما كان تسخير السلوك في البحر من أعجب العجب ، قال : ( والفلك ) أي وسخرها لكم موسقة بما تريدون من البضائع .
ثم بين تسخيرها بقوله : ( تجري في البحر ) أي العجاج ، المتلاطم بالأمواج ، بريح طيبة على لطف وتؤدة .
ولما كان الراكب فيها - مع حثيث السير وسرعة المر - مستقراً كأنه على الأرض ، عظم الشأن في سيرها بقوله : ( بأمره ( ولما كان إمساكها على وجه الماء مع لطافته عن الغرق أمراً غريباً كإمساك السماء على متن الهواء عن الوقوع ، أتبعه قوله : ( ويمسك السماء ( ثم فسر ذلك بقوله مبدلاً : ( أن تقع ( اي مع علوها وعظمها وكونها بغير عماد ) على الأرض ( التي هي تحتها .
ولما اقتضى السياق أنه لا بد أن تقع لانحلاله إلى أن يمنع وقوعها لأنها جسم كثيف عظيم ، ليس له من طبعه إلا السفول ، أشار إلى ذلك بقوله : ( إلا بإذنه ) أي فيقع غذا أذن في وقوعها حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء .
ولما كان هذا الجود الأعظم والتدبير المحكم محض كرم من غير حاجة أصلاً ، أشار إليه بقوله : ( إن الله ) أي الذي له الخلق والأمر .
ولما كان الجماد كله متاعاً للحيوان ، اقتضى تقديم قولهك ) بالناس ( اي على ظلمهم ) لرؤوف ) أي بما يحفظ من سرائرهم عن الزيغ بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ونصب المناسك ، التي يجمع معظمها البيت الذي بوأه لإبراهيم عليه السلام ، وهو التوحيد والصلاة والحج الحامل على التقوى التي بنيت عليها السورة ، فإن الرأفة كما قال الحرالي : ألطف الرحمة وأبلغها ، فالمرؤوف به تقيمه عناية الرأفة حتى تحفظ(5/171)
صفحة رقم 172
بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو ، وتارة يكن هذا الحفظ بالقوةة بنصب الأدلة ، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب ، وهذا خاص بمن له بالمنعم نوع وصلة .
) رحيم ( بما يثبت لهم عموماً من الدرجات على ما منحهم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية لما تقدم في الفاتحة من أن الرحيم خاص الرحمة بما ترضاه الإلهية ، وتقدم في البقرة تحقيق هذا الموضع ولما بين سبحانه جملاً من أمهات الدين ، وأتبعها لأهله على المعتدين ، وختم بما بعد الموت للمهاجرين ، ترغيباً في منابذة الكافرين ، وعرّف بما له من تمام العلم وشمول القدرة ، ومثل ذلك بأنواع من التصرف في خلق السموات والأرضين ، وأنهاه بالدلالة على أنه كله لنفع الآدميين نعمة منه ، تلا ذلك بما هو أكبر منه نعمة عليهم فقال : ( وهو ) أي وحده ) الذي أحياكم ) أي عن الجمادية بعد أن أوجدكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً ، منة منه عليكم مستقلة ، لزم منها المنة بما تقدم ذكره من المنافع الدنيوية لتستمر حياتكم أولاً ، الدينية لتنتفعوا بالبقاء ثانياً ) ثم يميتكم ( ليكون الموت واعظاً لأولي الصائر منكم ، وزاجراً لهم عما طبعوا عليه من الأخلاق المذمومة ) ثم يحييكم ( للتحلي بفصل القضاء وإظهار العدل في الجزاء .
ولما علم أن كل م في الوجود من جوهر وعرض نعمة على الإنسان حتى الحياة والموت ، وكان من أجلي الأشياء ، وكانت أفعاله معرضة عن الرب هذه النعم بالعبادة لغيره ، أو التقصير في حقه على عمم فضله وخيره ، ختم الآية سبحانه بقوله : ( إن الإنسان لكفور ( اي بليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به .
ولما تقدم ذكر المناسك ، ولكثرة الكفار قد يقع في النفس أن إقانتها معجوز عنها ، وكشف سبحانه غمة هذا السؤال بآية ) إن الله يدافع عن الذي آمنوا ( وما بعدها ، فأنتج ذلك علمنا بتصرفه التام بقدرته الباهرة ، وعلمه الشامل المقتضي لإقبال العباد إليه ، واجتماعهم كلهم عليه ، فمن شك في قدرته على إظهار دينه بمدافعته عن أهله ، أو نازع فيه فهو كفور ، ذكر بإظهار أول هذا ا لخطاب بآخر ذلك الخطاب مؤكداً لما أجاب به عن ذلك السؤال من تمام القدرة وشمول العلم أنه هو الذي مكنن لكل قوم ما هم فيه من المناسك التي بها انتظام الحياة ، فإن نوافقت الأمر الإلهي كانت سبباً للحياة الأبدية ، وإلا كانت سبباً للهلاك الدائم ، وهو سبحانه الذي نصب من الشرائع لكل قوم ما يلائمهم ، لأنه بتغيير الزمان بإيلاج الليل في النهار على مر الأيام وتوالي الشهور والأعوام ، بسبب من الأسباب - لأجل امتحان العباد ، وإظهار ما خبأ في جبلة كل منهم من طاعة وعصيان ، وشكر وكفران - ما يصير الفعل مصلحة بما يقتضيه من الأسباب بعد أن كان(5/172)
صفحة رقم 173
مفسدة وبالعكس ، لا قتداره على كل شيء وإظهار اقتداره كما قال تعالى عند أول ذكره للنسخ
77 ( ) ألم تعلم أن الله هلى كل شيء قدير ( ) 7
[ البقرة : 106 ] الآياتن فعلم أن منازعتهم فيه كفر ، فلذلك أتبع هذا قوله من غير عاطف لما بينهما من تمام الاتصال : ( لكل أمة ) أي في كل زمان ) جعلنا ) أي بما لنا من العظمة ) منسكاً ) أي شرعاً لاجتماعهم به على خالقهم حيث وافق أمره ، ولاجتماعهم على أهوائهم إذا لم يوافقه ، وعن ابن جرير أم أصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو لشر .
ولما كان بحيث إن ما أراده سبحانه كان لا محالة ، قال : ( هم ناسكوه ) أي متعبدون به ، لأنا ندافع عنهم من يعاديهم فيه حتى يستقيم لهم أمره ، لإسعادهم به أو إشقائهم ، فمن شك في قدرتنا على تمكينهم منه فهو كفور ، فإن وافق الأمر كان ربحاً وإيماناً ، وإن خالفه كان كفراً وخسراناً .
ولما كان قد حكم بإظهار دينه عل الدين كله ، وبأن الكفار على كثرتهم يغلبون بعد ما هم فيه م نالبطرن أعلم بذلك بالتعبير بصيغة الزجر لهم بقوله مسبباً عن هذه العظمة : ( فلا ينازعنك في الأمر ) أي بما يلقيه الشيطان إليهم من الشبه ليجادلوا به ، من طعنهم في دينك بالنسخ بقولهم : لو كان من عند الله لما أمر اليوم بشيء ونهي عنه غداً .
لأنه يلزم منه ا لبدء ، فليس الأمر كما زعموا ، بل هو دال على العم بالعواقب والاقتدار التام على شرع المذاهب ، وغير ذلك من الشبه كما مضت الإشارة إليه ، فلا يلتفت إليهم في شيء نازعوا فيه كائناً ما كان ، وروي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعين وغيرهما في الذبائح ، وقولهم للمؤمنين : تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم ، ولا تأكلون ما قتل الله - ينعون الميتة .
ولما كان النهي عن المنازعة في الحقيقة له ( صلى الله عليه وسلم ) إلهاباً وتهييجاً إلى الإعراض عنهم لأنهم أهل لذلك ، لأن كيدهم في تضليل ، والإقبال على شأنه ، وكان التعبير بما تقدم من تحويله إليهم لتأكيد الأمر مع دلالته على إجلاله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المواجة بالنهي ، عطف عليه قوله : ( وادع ) أي أوقع الدعوةلجميع الخلق ) إلى ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك ، بالحمل لهم على كل ما أمرك به متى ما أمرك ، ولا يهولنك قولهم ، فإنهم مغلوبون لا محالة ، ولا تتأمل عاقبة من العواقب ، بل أقدم على الأمر وإن ظن أن فيه الهلاك ، فإنه ليس عليك إلا ذلك .
وأما نظم الأمور على نهج السداد في إظهار الدين ، وقهر المعاندين ، فإلى الذي أمرك بتلك الأموامر ، وأحكم الشأن في جميع الزواجر ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إنك ( مؤكداص له بحسب ما عندهم من الإنكار ) لعلى هدى مستقيم ( فإنه تأصيل العليم القدير وإن طرقه التغيير .(5/173)
صفحة رقم 174
الحج : ( 68 - 72 ) وإن جادلوك فقل. .. . .
) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ( )
ولما أمره بالإقبال على ما يهمه ، والإعراض عن منازعتهم ، في صيغة نهيهم عن منازعته ، علمه الجواب إن ارتكبوا منهيه بعد الاحتهاد في دفعهم ، لما لهم من اللجاج والعتو ، فقال : ( وإن جادلوك ) أي في شيء من دينك بشيء مما تقدم من أقوالهم السفسافة أو بغيره ) فقل ( معرضاً عن عيب دينهم الذي لا أبين فساداً منه : ( الله ) أي الملك المحيط بالعز والعلم ) أعلم بما تعملون ( مهدداً لهم بذلك ، مذكراً لنفسك بقدرة ربك ، قاطعاً بذلك المنازعة من حيث رقّب ، متوكلاً على الذين أمرك بذلك في حسن تدبيرك والمدافعة عنك ومجازاتهم بما سبق علمه به مما يستحقونه ؛ قال الرازي في اللوامع : وينبغي أن يتأدب بهذا كل أحد ، فإن أهل الجدل قوم جاوزوا حد العوام بتحذلقهم ، ولم يبلغوا درجة الخواص الذين عرفوا الأشياء على ما هي عليه ، فالعوام منقادون للشريعة ، والخواص يغرفون أسرارها وحقائقها ، وأهل الجدل قوم في قلوبهم اضطراب وانزعاج .
ولما أمره بالإ " راض عنهم ، وكان ذلك شديداً على النفس لتشوفها إلى النصرة ، رجاه في ذلك بقولهك مستأنفاً مبدلاً من مقول الجزاء تحذيراً لهم ) الله ) أي الذي لا كفوء له ) يحكم بينكم ) أي بينك مه أتباعك وبينهم ) يوم القيامة ( الذي هو يوم التغابن ) فيما كنتم ) أي بما هو لكم كالجبلة ) فيه ) أي خاصة ) تختلفون ( في أمر الدين ، ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حل به قبله ) ) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( ) [ الشعراء : 227 ] قال البغوي : والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر .
ولما كان حفظ ما يقع بينهم على كثرتتهم في طول الأزمان أمراً هائلاً ، أتبعه قوله : ( الم تعلم أن الله ( بجلال عزه وعظيم سلطانه ) يعلم ما في ( ولما كان السياق لحفظ أحوال الثقلين للحكم بينهم ، وكان أكثر ما يتخيل أن بعض الجن يبلغ استراق السمع من السماء الدنيان لم تدع حاجة إلى ذكر أكثر منها ، فأفرد معبراً بما يشمل لكونه جنساً -(5/174)
صفحة رقم 175
الكثير أيضاً فقال : ( السماء والأرض ( مما يتفق منهم ومن غيرهم من جميع الخلائق الحيوانات وغيرها .
ولما كان الإنسان محل النسيان ، لا يحفظ الأمور إلا بالكتاب ، خاطبة بما يعرف ، مع ما فيه من عجيب القدرة ، فقال : ( إن ذلك ) أي الأمرالعظيم ) في كتاب ( كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه وكتب جزاءه ؛ ولما كان جمع ذلك في كتاب أمراً بالنسبة إلى الإنسان متعذراً ، أتبعه التعريف بسهولته عنده فقال : ( إن ذلك ( إلى علم ذلك الأمر العظيم بلا كتاب ، وجمعه في كتاب قبل كونه وبعده ) على الله ) أي الذي لا حد لعظمته ، وحده ) يسير ( .
ولما أخبر سبحانه أن الشك لا يزال ظرفاً لهم - لما يلقى الشيطان من شبهه في قلوبهم القابلة لذلك بما لها من المرض وما فيها من ا لفساد إلى إتيان الساعة ، وعقب ذلك بما ذكر من الحكم المفصلة ، والأحكام المشرفة المفضلة ، إلى أن ختم بأنه وحده الحكم في الساعة ، مرهباً من تمام علمه وشمول قدرته ، قال معجباً ممن لا ينفعه الموعظة ولا يجوز الواجب وهو يوجب المحال ، عاطفاً على ) ولا يزال ( : ( ويعبدون ) أي على سبيل التجديد والاستمرار ) من دون الله ) أي من أدنى رتبة من رتب الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال ، وتنزهه عن شوائب النفص ) مل لم ينزل به سلطاناً ) أي حجة واحدة من الحجج .
ولما كان قد يتوهم أن عدم إنزال السلكان لا ينفيه ، قال مزيلاً لهذا الوهم : ( وما ليس لهم به علم ) أي أصلاً ) وما ) أي والحال أنهم ما لهم ، ولكنه أظهره إشارة إلى الوصف الذي استحقوا به الهلاك فقال : ( للظالمين ) أي الذين وضعوا التعبد في غير موضعه بارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر ؛ وأكد النفي واستغراق المنفي بإثبات الجار فقال : ( من نصير ) أي ينصرهم من الله ، لا مما أشركوه به ولا من غيره ، لا في مدافعة عنهم ولا في إثبات حجة لمذاهبهم ، فنفى أن يكون أحد يمكنه أن يأتي بنصرة تبلغ القصد بأن يغلب المنصور عليه ، وأما مطلق نصر لا يفيد بما تقدم من شبه الشيطان فلا .
ولما ذكر اعترافهم بما لا يعرف بنقل ولا عقل ، ذكر إنكارهم لما لا يصح أن ينكر فقال : ( وإذا تتلى ) أي على سبيل التجديد والمتابعة من أيّ تالٍ كان ) عليهم آياتنا ) أي المسمعة على ما لها من العظمة والعلو ، حال كونها ) بينات ( لا خفاء بها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع ) تعرف ( بالفراسة في وجههم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أبدل الضمير بظاهر يدل على عنادهم فقال : ( في وجوه الذين(5/175)
صفحة رقم 176
كفروا ) أي تلبسوا بالكفر ) المنكر ) أي الإنكار الذي هو منكر في نفسه لما حصل لهم من الغيظ ؛ ثم بين ما لاح في وجوههم فقال : ( يكادون يسطون ) أي يوقعون السطوة بالبطش والعنف ) بالذين يتلون عليهم آياتنا ) أي الدالة على أسمائه الحسنى ، وصفاتنا العى ، القاضية بوحدانيتنا ، مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا ، لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها .
ولما استحقوا - بإنكارهم وما أرادوه من الأذى لأولياء الله - النكال ، تسبب عنه إعلامهم بما استحقوه ، فقال مؤذناً بالغضب بالإعراض عنهم ، آمر له ( صلى الله عليه وسلم ) بتهديدهم : ( قل أفأنبئكم ) أي أتعون فأخبركم خبراً عظيماً ) بشر من ذلكم ( الأمر الكبير من الشر الذي أردتموه بعباد الله التالين عليكم للىيات وما حصل لكم من الضجر من ذلك ، فكأنه قيلك ما هو ؟ فقيل : ( النار ( ثم استأنف قوله متهكماً بهم بذكر الوعد : ( وعدها الله ( العظيم الجليل ) الذين كفروا ( جزاء لهم على همهم هذا ، فبئس الموعد هي ) وبئس المصير ( .
الحج : ( 73 - 76 ) يا أيها الناس. .. . .
) يأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( ( )
ولما أخبر تعالى عن أنه لا حجة لعابد غيره ، وهدد من عاند ، أتبعه بأن الحجة قائمة على أن ذلك الغير في غاية ا لحقارة ، ولا قدرة له على دفع ما هدد به عابدوه ولا على غيره ، فكيف بالصلاحية لتلك الرتبة الشريفة ، والخطة العالية المنيفة ، فقال منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً : ( يأيها الناس ( .
ولما كان المقصود من المثل تعقله لا قائله ، بني للمفعول قوله : ( ضرب مثل ( حاصله أن من عبدتموه أمثالكم ، بل هم أحقر منكم ) فاستمعوا ) أي أنصتوا متدبرين ) له ( ثم فسره بقوله : ( إن الذين تدعون ) أي في حوائجكم ، وتجعلونهم آلهة ) من دون الله ( أب الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترون ، ولما تدعون فيها مفترون ، لأن سلب القدرة عنها يبين أنها في أدنى المراتب ) لن يخلقوا ذباباً ) أي لا قدرة لهم على ذلك الآن ، ولا يتجدد لهم هذا الوصف أصلاً في شيء من الأزمان ، على حال من الحوال ، مع صغره ، فكيف بما هو أكبر منه ) ولو اجتمعوا ) أي الذين(5/176)
صفحة رقم 177
زعموهم شركاء ) له ) أي الخلق ، فهم في هذا أمثالكم ) وإن ) أي وأبلغ من هذا أنهم عاجزون عن مقاومة الذباب فإنه إن ) يسلبهم الذباب ) أي الذي تقدم أنه لا قدرة لهم على خلقه وهو في غاية الحقارة ) شيئاً ( من الأشياء جل أو قل مما تطلونهم به من الطيب أو تضعونه بين ايديهم من الأكل أوغيره ) لا يستنقذوه ) أي يوجدوا خلاصه أو يطلبونه ) منه ( فهم في هذا أحقر منكم ، وجهة التمثيل به في الاستلاب الوقاحة ، ولهذا يجوز عند الإبلاغ في الذب ، فلو كانت وقاحته في الأسد لم ينج منه أحد ، ولكن اقتضت الحكمة أن تصحب قوة الأسد النفرة ، ووقاحة الذباب الضعف ، وهو واحد لا جمع ، ففي الحمع بين العباب والمحكم أن عبيدة قال : إنه الصواب ، ثم قال : وفي ( كتاب ما تلحن فيه العامة ) لأبي عثمان المازني : ويقال : هذا ذباب واحد ، وثلاثة أذّبة ، لأقل العدد ولأكثر ذباب ، وقول الناس : ذبابة - خطأ ، فلا تقله - .
ولما كان هذا ربما أفهم قوة الذباب ، عرف أن المقصود غير ذلك بقوله ، فذلكة للكلام من أوله : ( ضعف الطالب ) أي للاستنقاذ من الذباب ، وهو الأصنام وعابدوها ) والمطلوب ) أي الذباب والأصنام ، اجتمعوا في الضعف وإن كان الأصنام أضعف بدرجات .
ولما أنتج هذا جهلهم بالله ، عبر عنه بقوله ، ) ما قدروا الله ) أي الذي له الكمال كله ) حق قدره ( في وصفهم بصفته غيره كائناً من كان ، فكيف وهو أحقر الأشياء .
ولما كان كأنه قيل : ما قدره ؟ قال : ( إن الله ) أي الجامع لصفات الكمال ) لقوي ( على خلق كل ممكن ) عزيز ( لا يغلبه شيء ، وهو يغلب كل شيء بخلاف أصنامهم وغيرها .
ولما نصب الدلي على أن ما دعوه لا يصلح أن يكون شيىء منه إلهاً بعد أن أخبر أنه لم ينزل إليهم حجة بعبادتهم لهم ، وختم بما له سبحانه من وصفي القوة والعزة بعد أن أثبت أن له الملك كله ، تلا ذلك بدليله الذي تقتضيه سعة الملك وقوة السلطان من إنزال الحجج على ألسنة الرسل بأوامره ونواهيه الموجب لإخلاص العبادة له المقتضي لتعذيب تاركها ، فقال : ( الله ) أي الملك الأعلى ) يصطفي ) أي يختار ويخلص ) من الملائكة رسلاً ( إلى ما ينبغي الإرسال فيه من العذاب والرحمة ، فلا يقدر أحد على صدهم عما أرسلوا له ، ولا شك أن قوة الرسول من قوة المرسل ) ومن الناس ( أيضاً رسلاً يأتون عن الله بما يشرعونه لعباده ، لتقوم عليهم بذلك حجة النقل ، مضمومة إلى سلطان العقل ، فمن عاداهم خسر وإن طال استدراجه .
ولما كان ذلك لا يكون إلا بالعلم ، قال : ( إن الله ) أي الذي له الجلال والجمال ) سميع ) أي لما يمكن أن يسمع من الرسول وغيره ) بصير ) أي مبصر عالم بكل ما يمكن عقلاً أن يبصر ويعلم ، بخلاف أصنامهم .(5/177)
صفحة رقم 178
ولما كان المتصف بذلك قد يكون وصفه مقصوراً على بعض الأشياء ، أخبر أن صفاته محيطة فقال : ( يعلم ما بين أيديهم ) أي الرسل ) وما خلفهم ) أي علمه محيط بما هم مطلعون عليه وبما غاب عنهم ، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه ، فإنه يسلك من بين أيديهم ومن خلفهم رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وإن ظن الجاهلون غير ذلك ، لاحتجاجه سبحانه وتعالى في الأسباب ، فلا يقع في فكر اصلاً أن المحيط علماً بكل شيء الشامل القدرة لكل شيء يكل رسولاً من رسله إلى نفسه ، فيتكلم بشيء لم يرسله به ، ولا أنه يمكن شيطاناً أو غيره أن يتكلم على لسانه بشيء ، بل كل منهم محفوظ في نفسه ) ) ا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( ) [ الحجر : 9 ] ) وإلى الله ) أي الذي لا كفوء له ، وحده ) ترجع ) أي بغاية السهولة بوعد فصل لا بد منه ) الأمور ( يوم يتجلى لفصل القضاء ، فكيون أمره ظاهراً لا خفاء فيه ، ولا يصدر شيء من الأشياء غلا على وجه العدل الظاهر لكل أجد أنه منه .
ولا يكون لأحد التفات إلى غيره ، والذي هو بهذه الصفة له أن يشرع ما يشاء ، وينسخ من الشروع ما يشاء ، ويحكم بما يريد .
الحج : ( 77 - 78 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( ( )
ولما أثبت سبحانه أن الملك والأمر له وحده ، وأنه قد أحكم شرعه ، وحفظ رسله ، وأنه يمكن لمن يشاء أيّ يدن شاء ، وختم ذلك بما يصلح للترغيب والترهيب ، وكانت العادة جارية بأن الملك إذا يرزت أوامره وانبثت دعاته ، أقبل إليه مقبلون ، خاطب المقبلين إلى دينه ، وهم الخلص من الناس ، فقال : ( يا أيها الناس آمنوا ) أي قالوا : آمنا ) اركعوا ( تصديقاً لقولكم ) واسجدوا ) أي صلوا الصلاة التي شرعتها للآدميين ، فإنها رأس العبادة ، لتكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان ، وخص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة بهما ، لأنهما - لمخالفتهما الهيئات المعتادة - هما الدالان على الخضوع ، فحسن التعبير بهما عنها جداً في السورة التي جمعت جميع الفرق الذين فيهم من يستقبح - لما غلب عليه من العتو - بعض الهيئات الدالة على ذل .(5/178)
صفحة رقم 179
ولما خص اشرف العبادة ، عم بقوله : ( واعبدوا ) أي بأنواع العبادة ) ربكم ( المحسن إليكم بكل نعمة دنيوية ودينية .
ولما ذكر عموم العبادة ، أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها ، وقد يكون بلا نية ، فقال : ( وافعلوا الخير ) أي كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المرضى ونحو ذلك ، من معالي الأخلاق بنية وبغير نية ، حتى يكون ذلك لكم عادة فيخف عليكم عمله لله ، وهو قريب من ( ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ) قال أبو حيان : بدأ بخاص ثم بأعم .
) لعلكم تفلحون ) أي ليكون حالكم حال من يرجو الفالح ، وهو الفوز بالمطلوب ؛ قال ابن القطاع : أفلح الرجل : فاز بنعيم الآخرة ، وفلح أيضاً لغة فيه .
وفي الجمع بين العباب والمحكم : الفلح والفلاح : الفوز والبقاء وفي التنزيل
77 ( ) قد افلح المؤمنون ( ) 7
[ المؤمنون : 1 ] أي نالوا البقاء الدائم ، وفي الخبر : أفلح الرجل : ظفر .
ويقال لكل من أصاب خيراً : مفلح .
ولما كلن الجهاد أساس العبادة ، وهو - مع كونه حقيقة في قتال الكفار - صالح لأن يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل بالسيف وغيره ، وكل اجتهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل ، ختم به فقال : ( وجاهدوا في الله ( اي الملك الأعظم الذي لا كفوء له في كل ما ينسب إليه سبحانه ، لا يخرج منه شيء عنه كما لا يخرج شيء من المظروف عن الظرف ) حق جهاده ( باستفراغ الطاقة في إيقاع كل ما أمر به من الجهاد العدو والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما جهاداً يليق بما أفهمته الإضافة إلى ضميره سبحانه من الإخلاص والقوة ، فإنه يهلك جميع من يصدكم عن شيء منه .
ولما أمر سبحانه بهذه الأوامر ، أتبعها بعض ما يجب به شكره ، وهو كالتعليل لما قبله ، فقال : ( هو اجتباكم ) أي اختاركم لجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل ، ودينه أكرم الأديان ، وكتابه أعظم الكتب ، وجعلكم - لكونكم أتباعه - خير الأمم ) وما جعل عليكم في الدين ( الذي اختاره لكم ) من خرج ) أي ضيق يكون به نوع عذر لمن توانى في الجهاد الأضغر والأكبر كما جعل على من كان قبلكم كما تقدم ذكره بعضه في البقرة وغيرها ، أعني ) ملة ( .
ولما كان أول مخاطب بهذا قريشاً ، ثم مضر ، وكانوا كلهم أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حقيقة ، قال : ( أبيكم إبراهيم ) أي الذي ترك عبادة الصنام ونهى عنها ، ووحد الله وأمر بيوحيده ، يا من تقيدوا بتقليد الآباء فالزما دينه لكونه اباً ، ولكوني أمرت به ، وهو أب لبعض المخاطبين من الأمة الحقيقية ، ولبعضهم مجازاً بالاحترام والتعظيم ، فيعم الخطاب الجميع ، ولذلك حثهم على ملته بالتعليل بقوله : ( هو ( أي(5/179)
صفحة رقم 180
إبراهيم عليه السلام ) سماكم المسلمين ( في الأزمان المتقدمة ) من قبل ) أي قبل إنزال هذا القرآن ، فنوّه بذكركم والثناء عليكم في سالف الدهر وقديم الزمان فكتب ثناءه في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان ، وسماكم أيضاً مسلمين ) وفي هذا ( الكتاب الذي أنزل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب كما أخبرتكم عن دعوته في قوله
77 ( ) ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ( ) 7
[ البقرة : 128 ] لأنه بانتفاء الحرج يطابق الاسم المسمى ، ويجوز - ولعله أحسن - أن يكون ) هو سمّاكم ( تعليلاً للأمر بحق الجهاد بعد تعليله بقوله ) هو اجتباكم ( فيكون الضمير لله تعالى ، وييشهد له بالحسن قراءة أبي رضي الله عنه بالجلالة عوضاً عن الضميرن أي أن كل أمة تسمت باسم من تلقاء نفسها ، والله تعالى خصكم باسم الإسلام مشتقاً له من اسمه
77 ( ) السلام ( ) 7
[ الحشر : 3 ] مع ما خصكم به من اسم الإيمان استقاقاً له من اسمه المؤمن ، فأثبت لكم هذا الاسم في كتبه ، واجتباكم لاتباع رسوله .
ولما كان الاسم إذا كان ناشئاً عن الله تعالى سواء كان بواسطة نبي من أنبيائه أو بغير واسطة يكن مخبراً عن كيان المسمى ، وكان التقديرك رفع عنكم الحرج وسماكم بالإسلام لتكونوا اشد الأمم انقياداً لتكونوا خيرهم ، علل هذا المعنى بقوله : ( ليكون الرسول ( يوم القيامة ) شهيداً عليكم ( لأنه خيركم ، والشهيد يكون خيراً ولكون السياق لإثبات مطلق وصف الإسلام فقط ، لم يقتض الحال تقديم الظرف بخلاف آية البقرة ، فإنها لإثبات ما هو أخص منه ) وتكونوا ( بما في جبلاتكم من الخير ) شهداء على الناس ( بأن رسلهم بلغتهم رسالات ربهم ، لأنكم قدرتم الرسل حق قدرهم ، ولم تفرقوا بين أحد منهم ، وعلمتم أخبارهم من كتابكم على لسان رسولكم ( صلى الله عليه وسلم ) ، فبذلك كله صرتم خيرهم ، فأهلتم للشهادة وصحت شهادتكم وقبلكم الحكم العدل ، وقد دل هذا على أن الشهادة غير المسلم ليست مقبولة .
ولما ندبهم لأن يكونوا خير الناس ، تسبب عنه قوله : ( فأقيموا ) أي فتسبب عن إنعامي عليكم بهذه النعم وإقامتي لكم في هذا المقام الشريف أني أقول لكم : قيموا ) الصلاة ( التي هي زكاة قلوبكم ، وصلة ما بينكم وبين ربكم ) وآتوا الزكاة ( التي هي طهرة ابدانكم ، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم ) واعتصموا بالله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال .
في جميع ما أمركم به ، من المناسك التي تقدمت وغيرها لتكونوا متقين ، فيذب عنكم من يريد أن يحول بينكم وبين شيء منها ويقيكم هول الساعة ؛ ثم علل أهليته لاعتصامهم به بقوله : ( هو ) أي وحده ) مولاكم ) أي المتولي لجميع أموركم ، فهو ينصركم على كل من يعاديكم ، بحيث تتمكنون من إظهار هذا الدين من(5/180)
صفحة رقم 181
مناسك الحج وغيرها ؛ ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله : ( فنعم المولى ) أي هو ) ونعم النصير ( لأنه إذا تولى أحداً كفاه كل ما أهمه ، وإذا نصر أحداً أعلاه على كل من خاصمه ( ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته ) - الحديث ، ( إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت ) وهذا نيتجة التقوى ، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها .
فقد انطبق آخر السورة على أولها .
ورد مقطعها على مطلعها - والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وهو الهادي للصواب .
.. . .(5/181)
صفحة رقم 182
سورة المؤمنون
المؤمنون : ( 1 - 6 ) قد أفلح المؤمنون
) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( ( )
مقصودها اختصاص المؤمنين بالفلاح ، وتسمها واضح الدلالة على ذلك ) بسم الله ( الذي له الأمر كله ، فلا راد لأمره ) الرحمن ( الذي من عموم رحمته الإبلاغ في البيان ) الرحيم ( الذي خص من أراد بالإيمان .
لما ختمت الحج بناء الذين آمنوا وأمرهم بأمور الدين خاصة وعامة ، وختم بالصلاة والزكاة والعصمة به سبحانه موصفاً بما ذمر ، أوجب ذلك توقع المادين كل خير ، فابتدأت هذهه بما يثمر الاعتصام به سبحانه في الصلاة وغيرها من خلال الدين في الدارين ، فقال تعالى مفتتحاً بحرف التوقع : ( قد ( وهي نقيضة لما تثبت المتوقع وتقرب الماضي من الحال ولما تنفيه ) أفلح ) أي فاز وظفر الآن بكل ما يريد ، ونال البقاء الدائم في الخير ) المؤمنون ( وعبر بالاسم إشارة غلى أن من أقر بالإيمان وعمل بما أمر به في آخر التي قبلها ، استحق الوصف الثابت لأنه اتقى وأنفق مما رزق فأفلح ) ) ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ( ) [ الحشر : 9 ] ؛ ثم قيدهم بما يلزم من الصدق في الإيمان فقال : ( الذين هم ) أي بضمائرهم وظواهرهم ) في صلاتهم ( أضيفت إليهم ترغيباً لهم في حفظها ، لأها بينهم وبين الله تعالى ، وهو غني عنها ، فهم المنتفعون بها ) خاشعون ) أي أذلاء ساكنون متواضعون مطمئنون قاصرون بواطنَهم وظواهرهم على ما هم فيه ؛ قال الرازيك خائفون خوفاً يملأ القلب حرمة ، والأخلاق تهذيباً ، والأطراف تأديباً ، أي خشية أن ترد عليهم صلاتهم ، ومن ذلك خفض البضر إلى موضع السجود ، قال الرازي : فالعبد إذا دخل في الصلاة رفع الحجاب ، وإذا التفت أرخى ، قالك وهو(5/182)
صفحة رقم 183
خوف ممزوج بتيقظ واستكانة ، ثم قد يكون في المعاملة إيثاراً ومجاملة و إنصافاً ومعدله ، وفي الخدمة حضوراً واستكانة .
وفي السر تعظيماً وحياء وحرمة ، والخشوع في الصلاة بجمع الهمة لها ، والإعراض عما سواها ، وذلك بحضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء ، وإذا كان هذا حالهم في الصلاة التي هي أقرب القربات .
فهم به فيما سواها أولى .
قال ابن كثير : والخشوع في ا لصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) رواه أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه ( يا بلال أرحنا بالصلاة ) - رواه أحمد عن رجل من أسلم رضي الله عنه .
ولما كان كل من الصلاة والخشوع صاداً عن اللغو ، أتبعه قوله : ( والذين هم ( بضمائرهم التي تبعها ظواهرهم ) عن اللغو ) أي ما لا يعنيهم ، وهو كل ما يستحق أن يسقط ويلغى ) معرضون ) أي تاركون عمداً ، فصاروا جامعين فعل ما يعني وترك ما لا يعني .
ولما جمع بين قاعدتي بناء التكاليف : فعل الخشوع وترك اللغو ، وكان الإنسان محل العجز ومركز التقصير ، فهو لا يكاد يخلو عما لا يعنيه ، وكان المال مكفراً لما قصد من الإيمان فضلاً عما ذكر منها على سبيل اللغو ، فكان مكفراً للغو في غير اليمين من باب الأولى
77 ( ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ( ) 7
[ التوبة : 103 ] اتبعه قوله : ( والذين هم ( وأثبت اللام تقوية لاسم الفاعل فقال : ( للزكاة ) أي التزكية ، وهي إخراج الزكاة ، أو لأداء الزكاة التي هي أعظم مصدق للإيمان ) فاعلون ( ليجمعوا في طهارة الدين بين القلب والقالب والما ؛ قال ابن كثير : هذه مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة ، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب ، وأن أصل الزكاة كان واجباً بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام
77 ( ) وآتوا حقه يوم حصاده ( ) 7
[ الأنعام : 141 ] .
ولما أشار إلى أن بذل المال على وجهه طهرة ، ةأن حبسه عن ذلك تلفة ، أتبعه(5/183)
صفحة رقم 184
الإيماء إلى أن بذل الفرج في غير وجهه نجاسة ، وحفظه طهرة .
فقال : ( والذين هم لفروجهم ( في الجماع وما داناه بالظاهر والباطن ) حافظون ) أي دائماً لا يتبعونها شهوتها ، بل هم قائمون عليها يذلونها ويضبطونها ، وذكرها بعد اللغو الداعي إليها وبذل المال الذي هو من أعظم أسبابها عظيم المناسبة ؛ ثم استثنى من ذلك فقال : ( إلا على أزواجهم ( اللاتي ملكوا أبضاعهن بعقد النكاح ، ولعلو الذكر عبر ب ( على ) ) أو ما ملكت أيمانهم ( رقابة من السراري ، وعبر ب ( ما ) لقربهن مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكور ) فإنهم غير ملومين ) أي على بذل الفرج في ذلك إذا كان على وجهه .
المؤمنون : ( 7 - 13 ) فمن ابتغى وراء. .. . .
) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ( ( )
ولما كان من لم يكتف بالحلال مكلفاً نفسه طلب ما يضره ، سبب عن ذلك قوله معبراً بما يفهم العلاج : ( فمن ابتغى ) أي تطلب متعدياً ) وراء ذلك ( العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنى أو لواط أو استمناء يد أو بهيمة أو غيرها ) فأولئك ( البعيدون من الفلاح ) هم العادون ) أي المبالغون في تعدي الحدود ، لما يورث ذلك من اختلاط الأنساب ، وانتهاك الأعراض ، وإتلاف الأموال ، وإيقاد الشر بين العباد .
ولما كان ذلك من الأمانات العظيمة ، أتبعه عمومها فقال : ( والذين هم لأماناتهم ) أي لفروجهم وغيرها ، سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام وغيرهما ، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق ، أو بينهم وبين خلق كالوادئع والبضائع ، فعلى العبد الوفاء بجميعها - قاله الرازي .
ولما كان العهد أعظم أمانة ، تلاها به تنبيهاً على عظمة فقال : ( وعهدهم راعون ) أي الحافظون بالقيام والرعاية والإصلاح .
ولما كانت الصلاة أجلّ ما عهد فيه من أمر الدين وآكد ، وهي من الأمور الخفية التي وقع الائتمان عليها ، لما خفف الله فيها على هذه الأمة بإيساع زمانها ومكانها ، قال : ( والذين هم على صلواتهم ( التي وصفوا بالخشوع فيها ) يحافظون ) أي يجددون تعهدها بغاية جدهمن لا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها ، ويجتهدون في كمالاتها ، وحّدت في قراءة حمزة والكسائي للجنس ، وجمعت عند الجماعة إشارة(5/184)
صفحة رقم 185
إلى أعدادها وأنواعها ، ولا يخفى ما في افتتاح هذه الأوصاف واختامها بالصلاة من التعظيم لها ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( واعملوا أن خير أعمالكم الصلاة ) ولما ذكر مجموع هذه الأوصاف العظيمة ، فخم جزاءهم فقال : ( أولئك ) أي البالغون من الإحسان إعلى مكان ) هم ( خاصة ) الوارثون ( اي المستحقون لهذا الوصف المشعر ببقائهم بعد أعدائهم فيرثون دار الله لقربهم منه واختصاصهم به بعد إرثهم أرض الدنيا التي قارعوا عليها على قتلهم وضعفهم أعداءَنا الكفار على كثرتهم وقوتهم ، فكانت العاقبة فيها لهم كما كتبنا في الزبور
77 ( ) إن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( ) 7
77 ( ) لنهلكن الظالمين ولنسكننم الأرض من بعدهم ( ) 7
[ إبراهيم : 13 ، 14 ] ) الذين يرثون الفردوس ( التي هي أعلى الجنة ، وهي في الأصل البستان العظيم الواسع ، يجمع محاسن النبات والأشجار من العنب وما ضاهاه من كل ما يكون في البساتين والأودية التي تجمع ضروباً من النبت : فيحوزون منها بعد البعث ما أعد الله لهم فيها من المنازل وما كان أعد للكفار لو آمنوا أو لم يخرجوا بخروج ابويهم من الجنة ) هم ( خاصة ) فيها ) أي لا في غيرها ) خالدون ( وهذه الآيات أجمع ما ذكر في وصف المؤمنين ، روى الإمام أحمد في مسنده والترميذي في التفسير من جامعه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( كان إذا نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع فقال : ( اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا ، ثم قال : لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ( ، ثم قرأ ) قد أفلح المؤمنون ( حتى ختم العشر ) - ورواه النسائي في الصلاة وقال : منكر لا يُعرَف أحد رواه غير يونس بن سليم ويونس لا نعرفه ، وعزى أبو حيان آخر الحديث للحاكم في المستدرك .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : فصل في افتتاحها ما أجمل في قوله تعالى
77 ( ) يا(5/185)
صفحة رقم 186
أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير ( ) 7
[ الحج : 77 ] وأعلم بما ينبغي للراكع والساجد التزامه من الخشوع ، ولالتحام الكلامين ما ورد الأول أمراً والثاني مدحه وتعريفاً بما به كمال الحال ، وكأنه لما أمر المؤمنين ، وأطمع بالفلاح جزاء لامتثاله ، كان مظنة لسؤاله عن تفصيل ما أمر به من العباد وفعل الخير الذي به يكمل فلاحه فقيل له : المفلح من التزم كذا وكذا ، وذكر سبعة أضرب من العبادة هي أصول لما وراءها زمستتبعة سائر التكاليف ، وقد بسط حكم كل عبادة منها وما يتعلق بها في الكتاب والسنة ؛ ولما كانت المحافظة على الصلاة منافرة إتيان المأثم جملة
77 ( ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( ) 7
[ العنكبوت : 45 ] لذلك ما ختمت بها هذه العبادات بعد التنبيه على محل الصلاة من هذه العبادة بذكر الخشوع فيها أولاً ، واتبعت هذه الضروب السبعة بذكر أطوار سبعة يتقلب فيها الإنسان قبل خروجه إلى الدنيا فقال تعالى ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( - إلى قوله : ( ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( وكأن قد قيل له : إنما كمل خلقك وخروجك إلى الدنيا بعد عقب هذه الايات قوله تعالى ) ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ( ولعل ذلك مما يقرر هذا الاعتبار ووارد لمناسبته - والله أعلم ، وكما أن صدر هذه السورة مفسر لما أجمل في الآيات قبلها فكذا الآيات بعد مفصلة لمجمل ما تقدم في قوله تعالى
77 ( ) يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ( ) 7
[ الحج : 5 ] وهذا كاف في التحام السورتين والله سبحانه المستعان - انتهى .
ولما ذكر سبحانه الجنة المتضمن ذكرها لبعث ، استدل على القدرة عليه بابتداء الخلق للإنسان ، ثم لما هو أكبر منه من الأكوان ، وما فيهما من المنافع ، فلما ثبت ذلك شرع يهدد من استكبر عنه بإهلاك الماضين ، وابتدأ بقصة نوح عليه الصلاة والسلام لأنه أول ، ولأن نجاته كانت في الفلك المختوم به الآية التي قبله ، وفي ذلك تذكير بنعمة النجاة فيه لأن الكل من نسله ، فلما ثبت بالتهديد بإهلاك الماضين القدرة التامة بالاختيار ، خوف العرب مثل العذاب ، فلما تم زاجر الإنذار بالنقم شرع في الاستعطاف إلى الشكر بالنعم ، بتمييز الإنسان على سائر الحيوان ونحو ذلك ، ثم عاد إلى دلائل القدرة على البعث بالوحدانية والتنزه عن الشريك والولد - إلى آخرهان ثم ذكر في أول التي بعدها على ما ذكر هنا من صون الفروج ، فذكر حكم من لم يصن فرجه أتبعه ما يناسبه من توابعه .
ولما كان التقدير : فلقد حكمنا ببعث جميع العباد بعد الممات ، فريقاً منهم إلى(5/186)
صفحة رقم 187
النعيم ، وفريقاً إلى الجحيم ، فإنا قادرون على الإعادة وإن تمزقتم وصرتم تراباً فإنه تراب له أصل في الحياة ، كما قدرنا على البداءة فلقد خلقنا أباكم آدم من تراب الأرض قبل أن يكون للتراب أصل في الحياة ، عطف عليه قوله ، دلالة على هذا المقدار واستدلالاً على البعث مظهراً له في مقام العظمة ، مؤكداً إقامة لهم بإنكارهم للبعث مقام المنكرين : ( ولقد خلقنا الإنسان ) أي هذا النوع الذي تشاهدونه أنساً بنفسه مسروراً بفعله وحسه ) من سلالة ) أي من شيء قليل ، بما تدل عليه الصيغة كالقلامة والقمامة ، انتزعناه واستخلصناه برفق ، فكان على نهاية الاعتدالن وهي طينة آدم عليه الصلاو السلام ، سلّها - بما له من اللطف - ) من طين ) أي جنس طين الأرض ، روى الإمام أحمد وأبو داود والترميذي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله خلق آدم عن قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب وبين ذلك ) ولما ذكر سبحانه أصل الآدمي الأول الذي هو الطين الذي شرفه به لجمعه الطهورين ، وعبر فيه بالخلق لما فيه من الخلط ، لأن الخلق - كما مر عن الحرالي في أول البقرة : تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة ، مع أنه ليس مما يجري على حكمه التسبيب التي نعهدها أن يكون من الطين إنسان ، أتبعه سبحانه أصله الثاني الذي هو أطهر الطهورين : الماء الذي منه كل شيء حي ، معبراً عنه بالعجل لأنه كما مر أيضاً إظهار أمر سبب وتصيير ، وما هو من الطين مما يتسبب عنه من الماء ويستجلب منه وهو بسيط لا خلط فيه فلا تخليق له ، وعبر بأداة التراخي لأن جعل الطين ماء مستبعد جداً فقال : ( ثم جعلناه ) أي ا لطين أو هذا النوع المسلول من المخلوق من الطين بتطوير أفراده ببديع الصنع ولطيف الوضع ) نطفة ( اي ماء دافقاً لا أثر للطين فيه ) في قرار ) أي من الصلب والترائب ثم الرحم ، مصدر جعل اسماً للموضع ) مكين ) أي مانع من الأشياء المفسدة .
المؤمنون : ( 14 - 16 ) ثم خلقنا النطفة. .. . .
) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ( ( )(5/187)
صفحة رقم 188
ولما كان تصيير الماء دماً أمراً بالغاً خارجاً عن التسبيب ، وكانت النطفة التي هي مبدأ الآدمي تفسد تاة وتأخذ في التكون أخرى ، عبر بالخلق لما يخلطها به مما تكتسبه من الرحم عند التحمير وقرنه بأداة التراخي فقال : ( ثم ) أي بعد تراخ في الزمان وعلو في الرتبة والعظمة ) خلقنا ) أي بما لنا من العظمة ) النطفة ) أي البيضاء جداً ) علقة ( حمراء دماً عبيطاً شديد الحمرة جامداً غليظاً .
ولما كان ما بعد العلقة من الأطوار المتصاعدة مسبباً كل واحد منه عما قبله بتقدير العزيز العليم الذي اختص به من غير تراخ ، وليس تسببه من العادة التي يقدر عليها غيره سبحانه ، عبر بالفاء والخلق فقال : ( فخلقنا العلقة مضغة ) أي قطعة لحم صغيرة لا شكل فيها ولا تخطيط ) فخلقنا المضغة ( بتصفيتها وتصلبيها بما سببنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة ) عظاماً ( من رأس ورجلين وما بينهما ) فكسونا ( بما لنا من قدرة الاختراع ، تلك ) العظام لحماً ( بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظماً ، فسترنا تلك العظام وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب .
ولما كان التصوير ونفخ الروح من االجلالة بمكان أيّ مكان ، اشار إليه بقوله : ( ثم أنشأناه ) أي هذا المحدث عنه بعظمتنا ) خلقاً آخر ) أي عظيماً جليلاً متحركاً ناطقاً خصيماً مبيناً بعيداً من الطين جداً ؛ قال الرازي : وأصل النون والشين والهمزة يدل على ارتفاع شيء وسموه .
ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق : ( فتبارك ) أي ثبت ثباتاً لم يثبته شيء ، بأن حاز جميع صفات الكمال ، وتنزه عن كل شائبة نقص ، فكان قادراً على كل شيء ، ولو داناه شيء من عجز لم يكن تام الثبات ، ولذلك قال : ( الله ( فعبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى ؛ وأشار إلى جمال الإنسان بقوله : ( أحسن الخالقين ) أي المقدرين ، أي قدر هذا الخلق العجيب هذا التقدير ، ثم طوره في أطواره ما بين طفل رضيع ، ومحتلم شديد ، وشاب نشيط ، وكهل عظيم ، وشيخ هرم - غلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير .
ولما كانت إماتة ما صار هكذا - بعد القوة العظيمة والإدراك التام - من الغرائب ، وكان وجودها فيه وتكرارها عليه في كل وقت قد صيرها أمراً مألوفاً ، وشيئاً ظاهراً مكشوفاً ، وكان عتو الإنسان على خالقه وتمرده ومخالفته لأمره نسياناً لهذا المألوف كالإنكار له ، اشار إلى ذلك بقوله تعالى مسبباً مبالغاً في التأكيد : ( ثم إنكم ( ولما كان من الممكن ليس له من ذاته إلا العدم ، نزع الجار فقال : ( بعد ذلك ) أي الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد في العمر في آجال متفاوتة ) لميتون ( وأشار بهذا النعت(5/188)
صفحة رقم 189
إلى أن الموت أمر ثابت للإنسان حيّ في حال حياته لازم له ، بل ليس لممكن من ذاته إلا العدم .
ولما تقرر بذلك القدرة على البعث تقرراً لا يشك فيه عاقل ، قال نافياً ما يوهمه إعراء الظرف من الجار : ( ثم إنكم ( وعين البعث الأكبر التام ، الذي هو محط الثواب والعقاب ، لأن من أقر به أقر بما هو دونه من الحياة في القبر وغيرها ، فقال : ( يوم القيامة ) أي الذي يجمع فيه جميع الخلائق ) تبعثون ( فنقصه عن تأكيد الموت تنبيهاً على ظهوره ، ولم يخله عن التأكيد لكنه على خلاف العادة ، وليس في ذكر هذا نفي للحياة في القبر عند السؤال .
المؤمنون : ( 17 - 19 ) ولقد خلقنا فوقكم. .. . .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ( )
ولما بين لهم أن فكرهم فيهم يكفيهم ، ولا عتقاد البعث يعنيهم ، أتبعه دليلاً آخر بالتذكير بخلق ما هو أكبر منهم ، وبتدبيرهم بخلقه وخلق ما فيه من المنافع لاستبقائهم ، فقال : ( ولقد خلقنا قوقكم ( في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك ) سبع ( ولإرادة التعظيم أضاف إلى جمع كثرة فقال : ( طرائق ) أي سماوات لا تتغير عن حالتها التي دبرناها عليها إلى أن نريد ، وبعضها فوق بعض متابقة ، وكل واحدة منها على طريقة تخصها ، وفيها طرق لكواكبها ؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي : سميت طرائق لأنها مطارقة بعضها في أثر بعض - انتهى .
وهذا من قولهم : فلان على طريقه - أي حاله - واحدة ، وهذا مطراق هذا ، أي تلوه ونظيره ، وريش طراق - إذا كان بعضه فوق بعض .
وقال ابن القطاع : وأطرق جناح الطائر - أي مبنياً للمجهول : ألبس الريش الأعلى السفل .
وقال أبو عبيد الهروي : وأطرق جناح الطير - إذا وقعت ريشة على التي تحتها فألبستها ، وفي ريشه طرق - إذا ركب بعضه بعضاً .
وقال الصغاني في مجمع البحرين : والطرق أيضاً بالتحريك في الريش أن يكون بعضها فوق بعض ، وقال ابن الأثير في النهاية : طارق النعل - إذا صيرها طاقاً فوق طاق وركب بعضها على بعض ، وفي القاموس : والطراق - ككتاب : كل خصفة يخصف بها النعل وتكون حذوها سواء وأن يقور جلد على مقدار الترس فيلزق بالترس ، وقال القزاز : يقال : ترس مُطرَق - إذا جعل له ذلك ، وقال الصغاني في المجمع : والمجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة - أي المخصوفة بعضها على بعض ، ويقال : أطرقت بالجلد والعصب ، أي ألبست ، وقال أبو عبيد : طارق النعل - إذا صير خصفاً فوق خصف ، (5/189)
صفحة رقم 190
وقال في الخصف : هو إطباق طاق على طاق ، وأصل الخصف : الضم والجمع ، وقال القزاز : وطارقت بين النعلين والثوبين : جعلت أحدهما فوق الآخر - انتهى .
وأصل الطرق الضرب ، ومع كون السماوات مطارقة بعضها فوق بعض فهي طرق للملائكة يتنزلون فيها بأوامره سبحانه وتعالى .
ولما كان إهمال الشيء بعد إيجاده غفلة عنه ، وكان البعث إحداث تدبير لم يكن كما أن الموت كذلك ، بين أن مثل تلك الأفعال الشريفة عادته سبحانه إظهاراً للقدرة وتنزهاً عن العجز والغفلة فقال : ( وما كنا ) أي على ما لنا من العظمة ) عن الخلق ) أي الذي خلقناه وفرغنا من إيجاده وعن إحداث مل لم يكن ، بقدرتنا التامة وعلمنا الشامل ) غافلين ( بل دبرناه تدبيراً محكماً ربطناه بأسباب تنشأ عنها مسببات يكون بها صلاحه ، وجعلنا في كل سماء ما ينبغي أن يكون فيها من المنافع ، وفي كل أرض كذلك ، وحفظناه من الفساد إلى الوقت الذي نريد فيه طيّ هذا العالم وإبراز غيره ، ونحن مع ذلك كل يوم في شأن ، وإظهار برهان ، نعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، إذا شئنا أنقذنا السبب فنشأ عنه المسبب ، وإذا شئنا منعناه مما هيىء له ، فلا يكون شيء من ذلك إلا بخلق جديد ، فكيف يظن بنا أنا نترك الخلق بعد موتهم سدى ، مع أن فيهم المطيع الذي لم نوفه ثوابه ، والعاصي الذي لم ننزل به عقابه ، أم كيف لا نقدر على إعادتهم إلى ما كانوا عليه بعد ما قدرنا على إبداعهم ولم يكونوا شيئاً .
ولما ساق سبحانه هذين الدليلين على القدرة على البعث ، أتبعهما بما هو من جنسهما ومشاكل للأول منهما ، وهو مع ذلك دليل على ختام الثاني من أنه من أجلّ النعم التي يجب شكرها ، فقال : ( وأنزلنا ( اي بعظمتنا ) من السماء ) أي من جهتها ) ماء بقدر ( لعله - والله أعلم - بقدر ما يسقي الزروع والشجار ، ويحيي البراري والقفار ، وما تحتاج إليه البحار ، مما تصب فيه الأنهار ، إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار ، ولو كان دون ذلك لأدى إلى جفاف النبات والأشجار ) فأسكنّاه ( بعظمتنا ) في الرض ( بعضه على ظهرها وبعضه في بطنها ، ولم نعمها بالذي على ظهرها ولم نغور ما في بطنها ليعم نفعه وليسهل الوصول إليه ) وإنا ( على ما لنا من العظمة ) على ذهاب به ) أي على إذهابه بأنواع الإذهاب بكل طريق بالإفساد والرفع والتغوير وغير ذلك ، مع إذهاب البركة التي تكون لمن كنا نمعه ) لقادرون ( قدرة هي في نهاية العظمة ، فإياكم والتعرض لما يسخطنا .
ولما ذكر إنزاله ، سبب عنه الدليل القرب على البعث فقال : ( فأنشأنا ( أي(5/190)
صفحة رقم 191
فأخرجنا وأحيينا ) لكم ( خاصة ، لا لنا ) به ) أي بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي ) جنات ) أي بساتين تجن - أي تستر - داخلها بما فيها ) من نخيل وأعناب ( صرح بهذين الصنفين لشرفهما ، ولأنهما أكثر ما عن عند العرب من الثمار ، سمي الأول باسم شجرتته لكثرة ما فيهما من المنافع المقصودة بخلاف الثاني فإنه المقصود من شجرته ؛ وأشار إلى غيرهما بقوله : ( لكم ) أي خاصة ) فيها ( اي الجنات ) فواكة كثيرة ( ولكم فيها غير ذلك .
ولما كان التقدير : منها - وهي طرية - تتفكهون ، عطف عليه قوله : ( ومنها ) أي بعد اليبس والعصر ) تأكلون ) أي يتجدد لكم الكل بالادخار ، ولعله قدم الظرف تعظيماً للامنتنان بها .
المؤمنون : ( 20 - 24 ) وشجرة تخرج من. .. . .
) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ ( ( )
ولما ذكر سبحانه ما إذا عصر كان ماء لا ينفع للاصطباح ، أتبعه ما إذا عصر كان دهناً يعم الصطباح و الاصطباغ ، وفصله عنه لأنه أدل على القدرة فقال : ( وشجرة ) أي وأنشأنا به شجرة ، أي زيتونة ) تخرج من طور ( .
ولما كان السياق للإمداد بالنعم ، ناسبه المد فقال : ( سيناء ( قال الحافظ عماد الدين ابن كثير : وهو طور سينين ، وهو ا لجبل الذي كلم الله عليه موسىى بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون .
وقال صاحب القاموس : والطور : الجبل ، وجبل قرب أيلة يضاف إلى سيناء وسينين ، وجبل بالشام ، وقيل : هو المضاف إلى سيناء ، وجبل بالقدس عن يمين المسجد ، وآخر عن قبليه ، به قبر هارون عليه السلام ، مجبل برأس العين ، - وآخر مطلّ على طبرية - انتهى .
وهو اسم مركب من الاسمين ، وقيل : بل مضاف إلى سيناء ، ومعنى سيناء الحسن ، وقيل : المبارك ، وقيل : هو حجارة معروفة ، وقيل شجر ، ولعله خصه من بين الأطوار لقربه من المخاطبين أولاً بهذا القرآن ، وهم العرب ، ولغرابة نبت الزيتون به لأنه في بلاد الحر والزيتون من نبات الأرض الباردة ، ولتمحضه لن يكون نبته مما أنزل من السماء من الماء لعلوه جداً ، وبعد من أن يدعى أن ما فيه من النداوة من الماء من البحر لأن الإمام(5/191)
صفحة رقم 192
أبا العباس أحمد ابن القاص من قدماء أصحاب الشافعي حكى في كتابه أدلة القبلة أنه يصعد إلى أعلاه في ستة الآف مرقاة وستمائة وست وستين مرقاة ، قال : وهي مثل الدرج من الصخر ، فإذا انتهى إلى مقدار النصف من الطريق يصير إلى مستواه من الأرض فيها أشجار وماء عذب ، في هذا الموضع كنيسة على اسم إيليا النبي عليه السلام ، وفيه مغار ، ويقال : إن إيليا عليه السلام لما هرب من إزقيل الملك اختفى فيه ؛ ثم يصعد من هذا الموضع في الدرج حتى ينتهي غلى قلة الجبل ، وفي قلبه كنيسة بنيت على اسم موسى عليه السلام بأساطين رخام ، أبوابها من الصفر والحديد ، وسقفها من خشب الصنوبر ، وأعلى سقوفها أطباق رصاص قد أحكمت بغاية الإحكام ، وليس فيها إلا رجل راهب يصلي ويدخن ويسرج قناديلها ، ولا يمكن أحداً أن ينام فيها البتة ، وقد اتخذ هذا الراهب لنفسه خارجاً من الكنيسة بيتاً صغيراً يأوي فيه ، وهذه الكنيسة بنيت في المكان الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام ، وحواليه - أي حوالي الجبل - من أسفله ستة آلاف مل بين دير وصومعة للرهبان والمتعبدين ، كان يحمل إليهم خراج مصر في أيام ملك الروم للنفقة على الديارات وغيرها ، وليس اليوم بها إلا مقدار سبعين راهباً يأوون في الدير الذي داخل الحصن ، وفي اكثرها يأوي أعراب بني رمادة ، وعلى الجبل مائة صومعة ، وأشجار هذا الجبل اللوز والسرو ، وإذا هبطت من الطور أشرفت على عقبة تهبط منها فتسير خطوات فتنتهي إلى دير النصراني : حُصين عليه سورة من حجارة منحوتة ذات شرف عليه بابان من حديد ، وفي جوف هذا الدير هو الموضع الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار في الشجرة العليق ، وقبله من بها دبر الكعبة ، وفيه يقول القائل :
عجب الطور من ثباتك موسى حين ناجاك بالكلام الجليل
والطور من جملة كور مصر ، منه إلى بلد قلزم على البر مسيرة أربعة أيام ، ومنه إلى فسطاط مصر مسيرة سبعة أيام - انتهى كلام ابن القاص ، وسألت أنا من له خبرة بالجبل المذكور : هل به أشجار الزيتون ؟ فأخبرني أنه لم ير به شيئاً منها ، وإنما رآها فيما حوله في قرار الأرض ، وهي كثيرة وزيتونها مع كبره أطيب من غيره ، فإن كان ذلك كذلك فهو أغرب مما لو كانت به ، لأنه لعلوه أبرد مما سفل من الأرض ، فهو بها أولى ، وظهر لي - والله أعلم - أن حكمه تقدير الله تعالى أن يكون عدد الدرج ما ذكر موافقة زمان الإيجاد الأول لمكان البقاء الول ، وذلك أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام وهو الإيجاد الأول ، وكلم موسى عليه الصلاة والسلام ، وكتب له(5/192)
صفحة رقم 193
الألواح في هذا الجبل ، ثم أتم له التوراة وهي أعظم الكتب بعد القرآن ، وبالكتب السماوية والشرائع الربانية انتظام البقاء الأول ، كما سلف في الفاتحة والأنعام والكهف .
ولما ذكر سبحانه إنشاء هذه الشجرة بهذا الجبل البعيد عن مياه ابحار لعلوه وصلابته أو بما حوله من الأرض الحارة ، ذكر تميزها عن عامة الأشجار بوجه آخر عجيب فقال : ( تنبت ) أي بالماء الذي لا دهن فيه أصلاً ، نباتاً على قراءة الجمهور ، أو إنباتاً على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وورش عن يعقوب بضم الفوقانية ، ملتبساً ثمره ) بالدهن ( وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به ، وكأنه عرّفه لأنه أجلّ الأدهان وأكملها .
ولما كلن المأكول منها الدهن والزيتون قبل العصر ، عطف إشعاراً بالتمكن فقال : ( وصبغ ) أي وتنبت بشيء يصبغ - أي يلون - الخبز إذا غمس فيه أو أكل به ) للآكلين ( وكأنه نكره لأن في الإدام ما هو أشرف منه وألذ وإن كانت بركته مشهورة ؛ روى الإمام أحمد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قالك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كلوا الزين وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ) .
وللترميذي وابن ماجه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره كما نقاه ابن كثير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة ) .
وقال أبو حيان : وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع .
ولما دل سبحانه وتعالى على قدرته بما أحيا بالماء حياة قاصرة عن الروح ، أتبعه ما أفاض عليه به حياة كاملة فقال : ( وإن لكم في الأنعام ( وهي الإبل والبقر والغنم ) لعبرة ( يعبرون بها من ظاهر أمرها إلى باطنه مما له سبحانه فيها من القدرة التامة على البعث وغيره ؛ ثم استأنف تفصيل ما فيها م العبرة قائلاً : ( نسقيكم ( ولما كان الأنعام مفرداً لكونه اسم جمع ، ولم يذكر ما يسقى منه ، أنث الضمير بحسب المعنى وعلم أن(5/193)
صفحة رقم 194
المراد ما يكون منه اللبن خاصة وهو الإناث ، فهو استخدام لأنه لو أريد جميع ما يقع عليه الاسم لذكر الضمير ، فلذلك قالك ) مما في بطونها ) أي نجعله لكم شراباً نافعاً للبدن موافقاً للشهوة تلتذون به خروجه من بين الفرث والدم كما مضى في النحل ) ولكم فيها ( باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها ، وبأولادها وأصوفها وأوبارها ، وغير ذلك من آثارها .
ولما كان التقدير : تصرفونها في تلك المنافع ، عطف عليه مقدماً للجار تعظيماً لمأكولها فقال : ( ومنها تأكلون ( بسهولة من غير امتناع ما عن شيء من ذلك ، ولو شاء لمنعها من ذلك وسلطها عليكم ، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج ، أو جعله قذراً لا يؤكل ، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها له .
ولما كانت المافوتة بين الحيوانات في القوى وسهولة الانقياد دالة على كمال القدرة ، وكان الحمل للنفس والمتاع عليها وعلى غيرها من الحيوان من أجلّ المنافع بحيث لولا هو تعطلت أكثر المصالح ، ذكره فيها مذكراً بغيرها في البر تلويحاً ، وذاكراً لمحامل البحر تصريحاً ، فقال مقدماً للجار عداً لحمل غيرها بالنسبة غلى حملها لعظيم وقعه عدماً : ( وعليها ) أي الأنعام الصالحة للحمل من الإبل والبقر في البر ) وعلى الفلك ( في البحر .
ولما كان من المعلوم من تذليلها على كبرها وقوتها وامتناع غيرها على صغره وضعفه أنه لا فاعل لذلك إلا الله مع أن الممتن به نفس الحمل لا بالنظر إلى شيء آخر ، بني للمفعول قوله : ( تحملون ( بإنعامه عليكم بذلك ، ولو شاء لمنعه ، فتذكروا عظيم قدرته وكمال صنعته ، وعظموه حق تعظيمه ، واشكروه على ما أولاكم من تلك النعمن وأخلصوا له الدين ، لتفلحوا فتكونوا من الوارثين .
ولما كان التقدير : فلقد حملنا نوحاً ومن أردنا ممن آمن به من أولاده وأهله وغيرهم على الفلك ، وأغرقنا من عانده من أهل الأرض قاطبة بقدرتنا ، نصرناه عليهم بعد ضعفه عنهم بأيدينا وقوتنا ، وجعلناه وذريته هم الوارثين ، وكنتم ذرية في أصلابهم ، وكثرناهم حتى ملأنا منهم الأرض ، دلالة على ما قدمناه من تفردنا كما أجرينا عادة هذا الكتاب الكريم بذكر عظيم البطش بعد أدلة التوحيد ، واتبعناه بعده الرسل الذين سمعتم بهم ، وعرفتم بعض أخبارهم ، يا من أنكر الآن رسالة البشر لإنكار رسالة هذا النبي الكريم عطف عليه يهدد بإهلاك الماضين ، للرجوع عن الكفر ، ويذكر بنعمة النجاة للإقبال على الشكر ، ويسلي هذا النبي الكريم ومن معه م نالمؤمنين لمن كذب قبله من النبيين وأوذي من أتباعهم ، ويدل على أنه يفضل من عباده من يشاء بالرسالة ، كما فضل(5/194)
صفحة رقم 195
طينة الإنسان على سائر الطين ، وعلى أن الفالح بالإرث والحياة الطيبة في الدارين مخصوص لالمؤمنين كما ذكر أول السورة ، فذكر نوحاً لأن قصته أشهر القصص ، ولأن قومه كانوا ملء الأرض ، ولم تغن عنهم كثرتهم ولا نفعتهم قوتهم ، ولأنه الأب الثاني بعد الأب الأول المشار إليه بالطين ، ولأن نجاته ونجاة المؤمنين معه كانت بالفلك المختوم به الآية قبله ، فقال : ( ولقد ارسلنا ( إشارة بصيغة العظمة إلى زيادة التسلية بأنه ( آتاه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ) وقاخ هو ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك حق القيام ) نوحاً ) أي وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما السلام ) إلى قومه ( وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة ) فقال ) أي فتسبب عن ذلك أن قال : ( يا قوم ( ترفقاً بهم ) اعبدوا الله ) أي ا لملك الأعظم الذي لا كفوء له ، وحده ، لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال ؛ واستأنف على سبيل التعليل قوله : ( ما لكم ( وأغْرق في النفي بما هو حق ا لعبادة فقال : ( من إله ( اي معبود بحق ) غيره ( فلا تعبدوا سواه .
ولما كانت أدلة الوحادنية والعظمة بإعطاء الثواب وإحلال العقاب في غاية الظهور لا تحتاج إلى كبير تأمل ، تسبب عن ذلك إنكاره لأمنهم من مكره ، والخوف من ضره ، فقال : ( افلا تتقون ( اي تخافون ما ينبغي الخوف منه فتجعلوا لكم وقاية من عذابه فتعملوا بما تقتضيه التقوى من إفراده بالعبادة خوفاً من ضركم ورجاء لنفعكم ) فقال ) أي فتسبب عن ذلك أن كذبوه فقال : ( الملؤا ) أي الأشراف الذين تملأ رؤيتهم الصدور عظمة .
ولما كان أهل الإيمان كلهم إذ ذاك قبيلة واحدة لاجتماعهم في لسان واحد قدم قوله : ( الذين كفروا ) أي بالله لأن التسلية ببيان التكذيب أتم ، والصلة هنا قصيرة لا يحصل بها لبس ولا ضعف في النظم بخلاف ما يأتي ، وكأن أفخاذهم كانت متمايزة فزاد في الشناعة عليهم بأن عرف أنهم من أقرب الناس إليه بقوله : ( من قومه ما هذا ) أي نوح عليه الصلاة والسلام ) إلا بشر مثلكم ) أي فلا يعلم ما لا تعلمون ، فأنكروا أن يكون بعض البشر نبياً ، ولم ينكروا أن يكون بعض الطين إنساناً ، وبعض الماء علقة ، وبعض العلقة مضغة - إلى آخره ، فكأنه قيل : فما حمله على ذلك ؟ فقالوا : ( يريد أن يتفضل ( اي يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا ) عليكم ( لتكونوا أتباعاً له ، ولا خصوصية له به دونكم .
ولما كان التقديرم فلم يرسله الله كما ادعى ، عطف عليه قولهم : ( ولو شاء الله ( اي الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره ) لأنزال ( لذلك ) ملائكة ( وما علموا أن القادر على تفضيل بعض الجواهر بجعلها ملائكة قادر على تفضيل ما شاء ومن شاء بما يشاء من الملائكة وغيرها .(5/195)
صفحة رقم 196
ولما كان هذا متضمناً لإنكار رسالة البشر ، صرحوا به في قولهم كذباً وبهتاناً كما كذب فرعون وآله حين قالوا مثل هذا القول وكذبهم المؤمن برسالة يوسف عليه الصلاة والسلام : ( ما سمعنا بهذا ) أي بإرسال نبي من البشر يمنع أن يعبد غير الله بقصد التقريب إليه ، فجعلوا الإله حجراً ، وأحالوا كون النبي بشراً ) في بائنا الأولين ( ولا سمعنا بما دعا إليه من التوحيد .
المؤمنون : ( 25 - 29 ) إن هو إلا. .. . .
) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ( ( )
ولما نفوا عنه الرسالة وحصروا أمره في قصد السيادة ، وكانت سيادته لهم بمثل هذا عندهم من المحالن قالوا : ( إن ( اي ما ) هو إلا رجل به جنة ) أي جنون في قصده التفضل بما يروث بغضه وهضمه ولا نعرف له وجهاً مخصصاً به ، فلا نطيع له فيه ابداً ) فتربصوا به ) أي فتسبب عن الحكم بجنونه أنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على مجنون ) حتى ) أي إلى ) حين ( لعله يفيق أو يموت ، فكأنه قيل : فما قال ؟ فقيل : ( قال ( عندما أيس من فلاحهم : ( رب انصرني ( اي أعني عليهم ) بما كذبون ( اي بسبب تكذيبهم لي ، فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل ) فأوحينا ( اي فتسبب عن دعائه أنا أوحينا ) إليه أن اصنع الفلك ) أي السفينة .
ولما كان يخاف من أذاهم له في عمله بالإفساد وغيره قال : ( بأعيننا ) أي أنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم وأنت تعرف قدرتنا عليهم فثق بحفظنا ولا تخف شيئاً من أمرهم .
ولما كان لا يعلم تلك الصنعة ، قال : ( ووحينا ( ثم حقق له هلاكهم وقربه بقوله : ( فإذا جاء أمرنا ) أي بالهلاك عقب فراغك منه ) وفار التنور ( قال ابن عباس رضي اله عنهما : وجه الأرض .
وفي القامو : التنور : الكنون يخبز فيه ، ووجه الأرض ، وكل مفجر ماء ، وجبل قرب المصيصة - انتهى .
والليق بهذا الأمر صرفه إلى ما يخبز فيه ليكون آية في آية ) فاسلك ) أي فادخل ) فيها ) أي السفينة ) من كل زوجين ( من الحيوان ) وأهلك ( من أولادك وغيرهم ) إلا من سبق عليه ( لا له ) القول منهم ( بالهلاك لقطع ما بينك وبينه من الوصلة بالكفر .
ولما كان التقدير : فلا تحمله معك ولا تعطف عليه لظلمه ، عطف عليه قوله :(5/196)
صفحة رقم 197
) ولا تخاطبني ( اي بالسؤال في النجاة ) في الذين ظلموا ( عامة ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إنهم مغرقون ( اي قد ختم القضضاء عليهم ، ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل .
ولما قدم ذلك ، لأن درء المفاسد - بالنهي عما لا يرضي - أولى من جلب المصالح ، أتبعه الأمر بالشكر فقال : ( فإذا استويت ( اي اعتقلت ) أنت ومن معك ) أي من البشر وغيرهم ) على الفلك ( ففرغت من امتثال الأمر بالحمل ) فقل ( لأن علمك بالله ليس كعلم غيرك فالحمد منك أتم ، وإذا قلت اتبعك من معك ، فإنك قدوتهم وهم في غاية الطاعة لك ، ولهذا أفرد في الجزاء بعد العموم في الشرط ) الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال في الإيجاد والإعدام ) لله ( اي الذي لا كفوء له لأنه المختص بصفات المجد ) الذي نجّانا ( بحملنا فيه ) من القوم ( الأشداء الأعتياء ) الظالمين ( الذين حالهم - لوضعهم الأشياء في غير مواضعها - حال من يمشي في الظلام ، فلك الحمد بعد إفنائهم كما كان لك الحمد في حال إبدائهم وإبقائهم ، والحمد في هذه السوة المفتتحة بأعظم شعيرة بها الإبقاء الأول ، وهي الصلاة الموصوفة بالخشوع كالحمد في سورة الإيجاد الأول : الأنعام بقوله تعالى ) ) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ( ) [ الأنعام : 45 ] .
ولما أشار له بهذا القول إلى السلامة بالجمل ، أتبعه الإشارة إلى الوعد بإسكان الأرض فقال : ( وقل ربي أنزلني ( في الفلك ثم في الأرض وفي كل منزل تنزلني به وتورثني إياه ) منزلاً ( موضع نزول ، أو إنزلاً ) مباركاً ( اي أهلاً لأن يثبت فيه أو به .
ولما كان الثناء أعظم مهيج على إجابة الدعاء ، وكان التقدير ، فأنت خير الحاملين ، عطف عليه قوله ) وأنت خير المنزلين ( لأنك تكفي نزيلك كل ملم ، وتعطيه كل مراد .
المؤمنون : ( 30 - 32 ) إن في ذلك. .. . .
) إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( ( )
ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص ، حث على تدبرها بقوله : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم الذي ذكر من أمر نوح وقومه وكذا ما هو مهاد له ) لآيات ( اي علامات دالات على صدق الأنبياء في أن المؤمنين هم المفلحون ، وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين وإن عظمت شوكتهم ، واشتدت صولتهم ) وإن ) أي وإنا بما لنا من العظمة ) كنا ( بما لنا من الوصف الثابت الدال على تمام القدرة ) لمبتلين ( اي فاعلين فعل المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالحُ منهم من(5/197)
صفحة رقم 198
غيره ، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم ، وينقص سيئاتهم ، ويعلي دراجاتهم ، ثم نجعل لهم العقبة فنبلي بهم الظالمين بما يوجب دمارهم ، ويخرب ديارهم ، ويمحو آثارهم ، هذه عادتنا المستمرة إلى أن نرث الأرض ومن عليها فيكون البلاء المبين .
ولما بين سبحانه وتعالى تكذيبهم وما عذبهم به ، وكان القياس موجباً لأن من يأتي يعدهم يخشى مثل مصرعهم ، فيسلك غير سبيلهم ، ويقول غير قيلهم ، بين أنه لم تنفعهم العبرة ، فارتكبوا مثل أحوالهم ، وزادوا على أقوالهم وأفعالهم ، لإرادة ذلك من الفاعل المختار ، الواحد القهار ، وأيضاً فإنه لما كان المقصود - مع التهديد والدلالة على القدرة والاختيار - الدلالة على تخصيص المؤمنين بالفلاح والبقاء بعد الأعداء ، وكان إهلاك المترفين أدل على ذلك ، اقتصر على ذكرهم وابهمهم ليصح تنزيل قصتهم على كل من ادعى فيهم الإتراف من الكفرة ، ويترجح إرادة عاد لما أعطوا مع ذلك من قوة الأبدان وعظم الأجسام ، وبذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وإرادة ثمود لما في ا لشعراء والقمر مما يشابه عبض قولهم هنا ، وللتعبير عن عذابهم بالصيحة ولموافقتهم لقوم نوح في تعليل ردهم بكونه بشراً ، وطوى الإخبار عمن بعدهم بغير التكذيب والإهلاك لعدم الحاجة إلى ذكر شيء غيره ، فقال : ( ثم أنشأنا ( اي أحدثنا وأحيينا وربينا بما لنا من العظمة .
ولما لم يستغرقوا زمان البعد ، أتى بالجار فقالك ) من بعدهم قرناً ) أي أمة وجيلاُ .
ولما كان ربما ظن ظان أنهم فرقة من المهلكين نجوا من عذاب سائرهم كما يكون في حروب سائر الملوك ، عبر عن إنجائهم بإنشائهم ، حقق أنهم أحدثوا بعدهم فقال : ( آخرين فارسلنا ( اي فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أن أرسلنا .
ولما كان الإبلاغ في التسلية ، عدي الفعل ب ( في ) دلالة على أنه عمهم بالإبلاغ كما يعم المظروف الظرف ، حتر لم يدع واحد منهم إلا أبلغ في أمره فقال : ( فيهم رسولاً منهم ( فكان القياس يقتضي مبادرتهم لاتباعه لعلمهم بما حل بمن قبلهم لأجل التكذيب ، ولمعرفتهم غاية المعرفة لكون النبي منهم ، بما جعلناه عليه المحاسن ، وما زيناه به من الفضائل ، ولأن عزه عزهم ، ولدعائه لهم إلى ما لا يخفى حسنه على عاقل ، ولا يأباه منصف ؛ ثم بين ماأرسل به بقوله : ( أن اعبدوا الله ) أي وحده لأنه لا مكافىء له ، ولذا حفظ اسمه فكان لا سمي له ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( ما لكم ( ودل على الاستغراق بقوله : ( من إله غيره ( .
ولما كانت المثلات قد دخلت من قبلهم في المكذبين ، وأناخت صروفها بالظالمين ، فتسبب عن عملهم بذلك إنكار قلة مبالاتهم في عدم تحرزهم من مثل مصارعهمن قال : ( أفلا تتقون ) أي تجعلون لكم وقاية مما ينبغي الخوف منه فتجعلوا وقاية تحول بينكم وبين سخط الله .(5/198)
صفحة رقم 199
المؤمنون : ( 33 - 36 ) وقال الملأ من. .. . .
) وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : فلم يؤمنوا ولم يتقوا داب قوم نوح ، عطف عليه قوله : ( وقال الملأ ) أي الإشراف الذين تملأ رؤيتهم الصدور ، فكأن ما اقترن بالواو أعظم في التسلية مما خلا منها على تقدير سؤال لدلالة هذا على ما عطف عليه .
ولما كانت القبائل قد تفرغت بتفرق الألسن ، قدم قوله : ( من قومه ( اهتماماً وتخصيصاً للإبلاغ في التسلية ولأنه لو أخر لكان بعد تمام الصلة وهي طويلة ؛ ثم بين الملأ بقوله : ( الذين كفروا ) أي غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين ) وكذبوا بلقاء الآخرة ( لتكذيبهم بالبعث .
ولما كان من لازم الشرف الترف ، صرح به إشارة إلى أنه - لظن كونه سعادة في الدنيا - قاطع في الغالب عن سعادة الآخرة ، لكونه حاملاً على الأشر والبطر والتكبر حتى على المنعم ، فقال : ( وأترفناهم ) أي والحال أنا - بما لنا وعلى ما لنا من العظمة - نعمناهم ) في ا لحياة الدنيا ( اي الدانية الدنيئة ، بالأموال والأولاد وكثرة السرور ، يخاطبون أتباعهم : ( ما هذا ( أشاروا إليه تحقيراً له عند المخاطبين ) إلا بشر مثلكم ) أي في الخلق والحال ؛ ثم وصفوه بما يوهم المساواة في كل وصف فقالوا : ( يأكل مما تأكلون منه ( من طعام الدنيا ) ويشرب مما تشربون ) أي منه من شرابها فكيف يكون رسولاً دونكم ولما كان التقدير : فلئن اتبعتموه إنكم لضالون ، عطف عليه : ( ولئن أطعتم بشراً مثلكم ( في جميع ما ترون ) إنكم إذاً ( اي إذا أطعتموه ) لخاسرون ( اي مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه مما نحن له منكرون ؛ ثم بينوا إنكارهم بقولهم : ( أيعدكم أنكم إذا متم ( ففارقت أرواحكم أجسادكم ) وكنتم ) أي وكانت أجسادكم ) تراباً ( باستيلاء التراب على مادون عظامها ) وعظاماً ( مجردة ؛ ثم بين الموعود به بعد أن حرك النفوس إليه ، وبعث بما قدمه أتم بعث عليه ، فقال مبدلاً من ) أنكم ( الأولى إيضاحاً للمعنى : ( أنكم مخرجون ( اي من تلك الحالة التي صرتم إليها ، فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام ؛ ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعادهم ذلك فقالوا : ( هيهات هيهات ( اي بعد بعد جداً بحيث صار ممتنعاً ، ولم يرفع ما بعده به بل قطع عنه تفخيماً له ، فكان كأنه قيل : لي شيء هذا الاستبعاد ؟ فقيل : ( لما توعدون ( .(5/199)
صفحة رقم 200
المؤمنون : ( 37 - 40 ) إن هي إلا. .. . .
) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ( ( )
ولما كانوا بهذا التأكيد في التبعيد كأنهم قالوا : إنا لا نبعث أصلاً ، اتصل به : ( إن هي ) أي الحالة التي لا يمكن لنا سواها ) إلا حياتنا الدنيا ) أي التي هي أقرب الأشياء إلينا وهي ما نحن فيها ، ثم فسروها بقولهم : ( نموت ونحيا ) أي يموت منا من هو موجود ، وينشأ آخرون بعدهم ) وما نحن بمبعوثين ( بعد الموت ، فكأنه قيل : فما هذا الكلام الذي يقوله ؟ فقيل : كذب ؛ ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا : ( إن ) أي ما ) هو إلا ( وألهبوه على ترك مثل ما خاطبهم به بقولهم : ( رجل افترى ) أي تعمد ) على الله ( اي الملك الأعلى ) كذباً ( والرجل لا ينبغي مثل ذلك ، أو هو واحد وحده ، أي لا يلتفت إليه ) وما نحن له بؤمنين ) أي بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة ؛ ثم استانف قوله : ( قال رب ( اي أيها المحسن إليّ بإرسالي إليهم وغيره من أنواع التربية ) انصرني ( " ليهم أي أوقع لي النصر ) بما كذبون ( فأجابه ربه بأن ) قال عما قليل ( اي من الزمن .
وأكد قلته بزيادة ( ما ) ) ليصبحن نادمين ( على تخلفهم عن اتباعك .
المؤمنون : ( 41 - 44 ) فأخذتهم الصيحة بالحق. .. . .
) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ( ( )
ولما تسبب عن دعائه أن تعقب هلاكهم ، وعد الله له بذلك ، قال تعالى : ( فأخذتهم الصيحة ) أي التي كأنها لقوتها لا صحية إلا هي ، ويمكن أن تكون على بابها فتكون صيحة جبرئيل عليه الصلاة والسلام ويكون القوم ثمود ، ويمكن أنت تكون مجازاً عن العذاب الهائل ) بالحق ) أي بالأمر الثابت من العذاب الذي أوجب لهم الذي لا تمكن مدافعته لهم ولا لأحد غير الله ، ولا يكون كذلك إلا وهو عدل ) فجعلناهم ( بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة ، بسبب الصيحة ) غثاء ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ، جاثمين أمواتاً يطرحون كما يطرح الغثاء ، وهو ما يحمله السيل من نبات ونحوه فيسود ويبلى فيصير بحيث لا ينتفع به ، ونجينا رسولهم ومن معه من المؤمنين ، فخاف الكافرون ، وأفلح المؤمنون ، وكانوا هم الوارثين للأرض من بعدهم .
ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سبباً لهوانهم ، عبر عنه بقوله : ( فبعداً ( أي(5/200)
صفحة رقم 201
هلاكاً وطرداً .
ولما كان كأنه قيلك لمن ؟ قيل : لهم ولكنه أظهر الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف تحذيراً لكل من تلبس به فقال : ( للقوم ( اي الأقوياء الذي لا عذر لهم في التخلف عن اتباع الرسل والمدافعة عنهم ) الظالمين ( الذين وضعوا قوتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم .
ولما كانت عادة المكذبين أن يقولوا تكذيباً : هذا تعريض لنا بالهلاك ، فصرَّح ولا تدع جهداً في إحلاله بنا والتعجيل به إلينا ، فإنا لا ندع ما نحن عليه لشيء ، وكان العرب أيضاً قد ادعوا أن العادة بموتهم وإنشاء من بعدهم شيئاً فشيئاً لا تنخرم ، قال تعالى رادعاً لهم : ( ثم أنشأنا ) أي بعظمتنا التي لا يضرها تقديم ولا تأخير ، وأثبت الجار لما تقدم فقال : ( من بعدهم ) أي من بعد من قدمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده ) قروناً آخرين ( ثم أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي حده له بقوله : ( ما تسبق ( ولعله عبر بالمضارع إشارة إلى أنه ما كان شيء من ذلك ولا يكون ، وأشار إلى الاستغراق بقوله : ( من أمة أجلها ) أي الذي قدرناه لهلاكها ) وما يستأخرون ( عنه ، وكلهم أسفرت عاقبته عن خيبة المكذبين وإفلاح المصدقين ، وجعلهم بعدهم الوارثين ، وعكس هذا الترتيب في غيرها من الآيات فقدم الاستئخار لنه فرض هناك مجيء الأجل فلا يكون حينئذ نظر إلا إلى التأخير .
ولما كان قد أملى لكل قوم حتى طال عليهم الزمن ، فلما لم يهدهم عقولهم لما نصب لهم من الأدلة ، وأسبغ عليهم من النعم ، وأحل بالمكذبين قبلهم من النقم ، أرسل فيهم رسولاً ، دل على ذلك بأداة التراخي فقال : ( ثم ارسلنا ) أي بعد إنشاء كل قرن منهم وطول إمهالنا له ، ومن هنا يعلم أن بين كل رسولين فترة ، وأضاف الرسل إليه لأنه في مقام العظمة وزيادة في التسلية فقال : ( رسلنا تترا ( اي واحداً بعد واحد ؛ قال الرازي : من وتر القوس لاتصاله .
وقال البغوي : واترت الخبر : اتبعت بعضه بعضاً وبين الخبرين هنيهة .
وقال الأصبهاني : والأصل : وترى ، فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التقوى .
فجاء كل رسول إلى أمته قائلاً : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .
ولما كان كأنه قيل : فكان ماذا ؟ قيل : ( كلما جاء أمة ( ولما كان في بيان التكذيب ، اضاف الرسول إليهم ، ذماً لهم لأن يخصوا بالكرامة فيأبوها ولقصد التسلية أيضاً فقال : ( رسولها ) أي بما أمرناه به من التوحيد .
ولما كان الأكثر من كل أمة مكذباً ، اسند الفعل إلى الكل فقال : ( كذبوه ) أي كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك ) فأتبعنا ( القون بسبب تكذيبهم ) بعضهم بعضاً ( في الإهلاك ، فكنا نهلك الأمة كلها في آن واحد ، بعضهم بالصيحة ، وبعضهم بالرجفة ، (5/201)
صفحة رقم 202
وبعضهم بالخسف ، وبعضهم بغير ذلك ، فدل أخذنا لهم على غير العادة - من إهلاكنا لهم جميعاً وإنجاء الرسل ومن صدقهم والمخالفة بينهم في نوع العذاب - أنا نحن الفاعلون بهم ذلك باختيارنا لا الدهر ، وأنا ما فعلناه ذلك إلا بسبب التكذيب .
ولما كانوا قد ذهبوا لم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم ، جعلوا إياها ، فقال : ( وجعلناهم أحاديث ) أي أخباراً يسمر بها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلخ الكافرون ولا يخيب المؤمنون ، وماأحسن قول القائل :
ولا شيء يدوم فكن حديثاً جميل الذكر فالدنيا حديث
ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم فقال : ( فبعداً لقوم ( اي أقوياء على ما يطلب منهم ) لا يؤمنون ) أي لا يتجدد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة ، لأنه لا مزاج لهم معتدل .
المؤمنون : ( 45 - 48 ) ثم أرسلنا موسى. .. . .
) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ ( ( )
ولما كان آل فرعون قد أنكروا الإيمان لبشر مثلهم كما قال من تقدم ذكره من قوم نوح والقرن الذي بعدهم ، وكانوا أترف أهل زمانهم ، وأعظمهم قوة ، وأكثرهم عدة ، وكانوا يستعبدون بني إسرائيل ، وكان قد نقل إلينا من الآيات التي أظهر رسولهم ما لم ينقل إلينا مثله لمن تقدمه ، صرح سبحانه بهم ، وطأن الرسالة إليهم كانت بعد فترة طويلة ، فدل عليها بحرف التراخي فقال : ( ثم أرسلنا ( اي بما لنا من العظمة ) موسى ( وزاد في التسلية بقوله : ( وأخاه هارون ( اي عاضداً له وبياناً لأن إهلاك فرعون وىله جميعاً مع إنجاء الرسولين معاً ومن آمن بهما لإرادة الواحد القهار لإفلاح المؤمنين وخيبة الكافرين ) بآياتنا ( اي المعجزات ، بعظمتنا لمن يباريها ) وسلطان مبين ( اي حجة ملزمة عظيمة واضحة ، وهي حراسته وهو وحده ، وأعلاه على كل من ناواه وهم مع قوتهم ملء الرض وعجزهم عن كل ما يرمونه من كيدهن وهذه وإن كانت من جملة الآيات لكنها أعظمها ، وهي وحدها كافية في إيجاب التصديق ) إلى فرعون وملئه ) أي وقومه .
ولما كان الأطراف لا يخالفون الأشراف ، عدهم عدماً ، ومن الواضح أن التقدير : أن اعبدوا الله ، ما لكم من إله غيره ، واشار بقوله : ( فاستكبروا ( إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوا إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت وطلبوا أن لا يكونوا(5/202)
صفحة رقم 203
تحت أمر من دعاهم ، وأشار بالكون غلى فساد جبلتهم فقال : ( وكانوا قوماً ) أي أقوياء ) عالمين ( على جميع من يناويهم من أمثالهم .
ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال : ( فقالوا أنؤمن ) أي بالله مصدقين ) لبشرين ( ولما كان ( مثل ) و ( غير ) قد يوصف بهما المذكر والمؤنث والمثنى والجمع دون تغيير ، ولم تدع حاجة إلى التثنية قال : ( مثلنا ) أي في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يتعرى البشر كما قال من تقدمهم ) وقومهما ) أي والحال أن قومهما ) لنا عابدون ) أي في غاية الذل والانقياد كالعبيد فنحن أعلى منهما بهذا ، ويا ليت شعري ما لهم لما جعلوا هذا شبهة لم يجعوا عجزهم عن إهلاك الرسل وعما يأتون به من المعجزات فرقاناً وما جوابهم عن أن من الناس الجاهل الذي لا يهتدي لشيء والعالم الذي يفوق الوصف من فاوت بينهما ؟ وغذا جاز التفاوت في ذلك فلم لا يجوز في غيره ؟ .
ولما تسبب عن هذا الإنكار التكذيب ، فتسبب عنه الهلاك ، قال : ( فكذبوهما ) أي فرعون وملؤه موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ) فكانوا ( اي فرعون وآله ، ونبه بصيغة المفعول على عظيم القدرة فقال : ( من المهلكين ( بإغراقنا كلهم على تكذيبهم إشارة إلى أنهم لم يهلكوا بأنفسهم من غير مهلك مختار بدليل إغراقهم كلهم بما كان سبب إنجاء بني إسرائيل كلهم ولم تغن عنهم قوتهم في أنفسهم ثم قوتهم على خصوص بني إسرائيل باستعبادهم إياهم ، ولا ضر بني إسرائيل ضعفهم عن دفاعهم ، ولا ذلهم لهم وصغارهم في ايديهم .
المؤمنون : ( 49 - 52 ) ولقد آتينا موسى. .. . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( ( )
ولما كان ضلال قومهما الذين استنقذناهم من عبودية فرعون وقومه أعجب ، وكان السامع متشوقاً إلى ما كان من أمرهم بعد نصرهم ، ذكر ذلك مبتدئاً له بحرف التوقع مشيراً إلى حالهم في ضلالهم تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ولقد آتينا ) أي بعظمتنا ) موسى الكتاب ) أي الناظم لمصالح البقاء الأول بل والثاني .
ولما كان كتابهم لم ينزل إلا بعد هلاك فرعون كما هو واضح لمن تأمل أشتات قصتهم في القرآن ، وكان حال هلاك القبط معرفاً أن الكتاب لبني إسرائيل ، اكتفى بضميرهم فقال : ( لعلهم ( اي قوم موسى وهارون عليهما السلام ) يهتدون ) أي ليكون حالهم عند من لا يعلم العواقب حال من ترجى هدايته ، فأفهم جعلهم في ذلك(5/203)
صفحة رقم 204
في مقام الترجي أن فيهم من لم يهتد ؛ قال ابن كثير : وبعد أن أنزل التوراة لم تهلك أمة بعامة بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين - انتهى .
ولا يبعد على هذا أن يكون الضمير في ) لعلهم ( للقرون الحادثة المدلول عليها بقوله ) قروناً ( وربما أرشد إلى ذلك قوله تعالى :
77 ( ) ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرن ( ) 7
[ القصص : 43 ] وقد ختم الهلاك العام بالإغراق كما فتح به ، والنبيان اللذان وقع ذلك لهما دعا كل منهما على من عصاه ، وكلاهما مثله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة بدر في الشدة على العصاة بعمر رضي الله عنه الذي أطاعه النيل وأطاع جيشه الدجلة .
ولما كان من ذكر كلهم قد ردوا من جاءهم لإشعارهم استبعادهم لأن يكون الرسل بشراً ، وكان بنو إسرائيل الذين أعزهم الله ونصرهم على عدوهم وأوضح لهم الطريق بالكتاب قد اتخذوا عيسى - مع كونه بشراً - إلهاً ، اتبع ذلك ذكره تعجيباً من حال المكذبين في هذا الصعود بعد ذلك نزول في أمر من أرسلوا إليهم ، وجرت على أيديهم الآيات لهدايتهمن فقال : ( وجعلنا ) أي بعظمتنا ) ابن مريم ( نسبة إليها تحقيقاً لكونه لا أب له ، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية ؛ وزاد في حقيق ذلك بقوله : ( وأمه ( وقال : ( آية ( إشارة إلى ظهور الخوارق على أيديهما حتى كأنهما نفس الآية ، فلا يرى منها شيء إلا وهو آية ، ولو قال : آيتين ، لكان ربما ظن أنه يراد حقيقة هذا العدد ، ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكملت به آية القدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام ، ومن الزوجين كبقية الناس ، والمراد أن بني إسرائيل - مع الكتاب الذي هو آية مسموعة والنبي الذي هو آية مرئية - لم يهتد أكثرهم .
ولما كان أهل الغلو في عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام ربما تشبثوا من هذه العبارة بشيء ، حقق بشريتهما واحتياجهما المنافي لرتبة الإلهية فقال : ( وآويناهما ) أي بعظمتنا لما قصد ملوك البلاد الشامية إهلاكهما ) إلى ربوة ) أي مكان عال من الأرض ، وأحسن ما يكون النبات في الأماكن المرتفعة ، والظاهر أن المراد بها عين شمس في بلاد مصر ؛ قال ابن كثير : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ليس الربى إلا بمصر والماء حين يرسل تكون الربى عليها القرى ، ولولا الربى غرقت القرى ، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا - انتهى .
) ذات قرار ) أي منبسط صالح لأن يستقر فيه لما فيه من المرافق ) ومعين ) أي ماء ظاهر للعين ، ونافع كالماعون ، فرع اشتق من أصلين ، ولم يقدر من(5/204)
صفحة رقم 205
خالفه من الملوك وغيرهم على كثرتهم وقوتهم على قتله لا في حال صغره ، ولا في حال كبره ، كما مضى نقله عن الإنجيل وصدقة عليه القرآن ، مع كونه مظنة لتناهي الضعف بكونه ، من انثى فقط ولا ناصر له إلا الله ، ومع ذلك فأنجح الله أمره وأمر من اتبعه ، وخيب به الكافرين ، ورفعه إليه ليؤيد به هذا الدين في آخر الزمان ، ويكون للمؤمنين حينئذ فلاح لم يتقدمه مثله ، وكان ذلك من إحسان خالقه ونعمته عليه .
ذكر شيء من دلائل كونه آية من الإنجيل : قال يوحنا أحد المترجمين للإنجيل وأغلب السياق لمتى فإني خلطت كلام المترجمين الأربعة : ولما قرب عيد المظال قال إخوة يسوع اي الاثني عشر تلميذاً - له : تحول من ههنا إلى يهوذا ليرى تلاميذك الأعمال التي تعمل لأنه ليس أحد يعمل شيئاً سراً فيجب أن يكون علانية غذ كنت تعمل هذه الأشياء فأظهر نفسك للعالم ، فقال لهم يسوع : أما وقتي فلم يبلغ ، وأما وقتكم فإنه مستعد في كل حين ، لم يقدر العالم أن يبغضكم وهم يبغضونني لأني أشهد عليهم أن أعمالهم شريرة ، اصعدوا أنتم إلى هذا العيد ، فإني لا أصعد الآن ، ثم قال : ولما انتصف أيام العيد صعد يسوع إلى الهيكل فبدأ يعلم ، وكان اليهود ويتعجبون ويقولون : كيف يحسن هذا الكتاب ولم يعلمه أحد ، فقال : تعليمي ليس هو لي ، بل للذي أرسلني ، فمن أحب أن يعمل مرضاته فهو يعرف تعليمي هو من الله أو من عندي ؟ من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه ، وأما الذي يطلب مجد الذي ارسله فهو صادق وليس فيه ظلم ، أليس موسى أعطاكم الناموس وليس فيكم أحد يعمل بالناموس ، ثم قال : وفي اليوم العظيم الذي هو آخر العيد كان يسوع قائماً ينادي : كل من يؤمن بي كما قالت الكتب تجري من بطنه أنهار ماء الحياة ، وإن الجمع الكثير سمعوا كلامه فقالوا : هذا نبي حقاً ، وآخرون قالوا : هذا هو المسيح ، وآخرون قالوا : ألعل المسيح من الجليل يأتي ؟ أليس قد قال الكتاب : إنه من نسل داود ، من بيت لحم قرية داود خاصة يأتي المسيح ، فوقع بين الجموع خوف من أجله ، قال متى : حينئذ جاء إلى يسوع من يروشليم كتبة وفريسيون قائلين : لماذا تلاميذك يتعدون وصية المشيخة إذ لا يغسلون ايديهم عند أكلهم ؛ وقال مرقس : ثم اجتمع إليه الفريسيون وبعض الذين جاؤوا من يروشليم فنظروا إلى تلاميذه يأكلون الطعام بغير غسل ايديهم ، لأن بعض الفريسيين وكل اليهود لا يأكلون إلا بغسل ايديهم تمسكاً بتعليم شيوخهم والذين يشترونه من السواق إن لم يغسلوه لا يأكلونه ، وأشياء أخر كثيرة تمسكوا بها من غسل كؤوس وأواني ومصاغ وأسرة ، وسأله الكتبة والفريسيون : لم تلاميذك لا يسيرون على ما وصّت به المشيخة قال متى : فأجابهم وقال : لماذا أنتم تتعدون وصية الله من أجل(5/205)
صفحة رقم 206
سننكم ، إلم يقل الله : أكرم أباك وأمك ، والذي يقول كلاماً رديئاً في أبيه وأمه يستأصل بالموت ، وأنتم تقولون : من قال لأبيه أو لأمه .
إن القربان شيء ينتفع به ، فلا يكرم اباه وأمه ، فأبطلتم كلام الله من تلقاء روايتكم ؛ قال مرقس : وتفعلون كثيراً مثل هذا - اتنهى .
يا مراؤون حسناً يثني وقال مرقس : نعماً يثني عليكم أشياعاً قائلاً : إن هذا لاشعب قرب مني ويكرمني بشفتيه ، وقلبه بعيد عني ، يعبدونني باطلاً ويعلّمون تعليم وصايا الناس .
ودعا الجمع وقال لهم : اسمعوا وافهموا ، ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان ، لكن الذي يخرج من الفم ينجس الإنسان ، حينئذ جاء إليه تلاميذه وقالوا : اعلم أن الفريسيين لما سمعوا الكلام شكوا ، فأجابهم وقال : كل غرس لا يغرسه أبي السماوي يقلع ، دعوهم فإنهم عميان يقودهم عميان ، أجابه بطرس وقال : فسر لنا المثل فقال : حتى أنتم لا تفهمون ؟ أما تعلمون أن كل ما يدخل إلى الفم يصل إلى البطن وينطرد إلى المخرج ، فأما الذي يخرج من الفم فهو يخرج من القلب ، هذا الذي ينجس الإنسان ، لأنه يخرج من القلب الفكر الشرير : القتل الزنى الفسق السرقة وشهادة الزور التجديف ، هذا هو الذي ينجس الأنسان ، وأما الأكل بغير غسل الأيدي وفليس ينجس الإنسان ، وقال مرقس : إن كل ما كان خارجاً يدخل إلى فم الإنسان لا يقدر أن ينجسه لأنه لا يصل إلى القلب ، بل إلى الجوف ويذهب إلى خارج ، والذي يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان ، لأنه من داخل تخرج أفكار السوء : فجور الزنى قتل سرقة شره شر غش فسق عين شريرة تجديف تعاظم جهل ، هذا كله شر من داخل يخرج وينجس الإنسان انتهى .
وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا : الأب - كما تقدم غير مرة .
ولما بين أن عيسى عليه السلام على منهاج إخوانه من الرسل في الأكل والعبادة ، وجميع الأحوال ، زاد ي تحقيق ذلك بياتاً لمن ضل بأن اعتقد فيه ما لا يليق به ، فقال مخاطباً لجميعهم بعد إهلاك من عاندهم من قومهم على وجه يشمل ما قبل ذلك رداً لمن جعله موجباً لإنكار الرسالة ، وتبكيتاً لمن ابتدع الرهبانية من أمة عيسى عليه السلام ، إعلاماً بأن كل رسول قيل له معنى هذا الكلام فعمل به ، فكانوا كأنهم نودوا به في وقت واحد ، فعبر بالجمع ليكون أفخم له فيكون أدعى لقبوله : ( يا أيها الرسل ( من عيسى وغيره ) كلوا ( أنتم ومن نجيناه معكم بعد إهلاك المكذبين .
ولما علو عن رتبة الناس ، فلم يكونوا أرضيين ، لم يقل
77 ( ) مما في الأرض ( ) 7
[ البقرة : 168 ] وعن رتبة الذين آمنوا ، لم يقل
77 ( ) من طيبات ما رزقناكم ( ) 7
[ البقرة : 172 ] ليكنوا عابدين نظراً إلى النعمة أو حذراً من النقمة ، كما مضى بيانه في سورة البقرةن بل قال : ( من الطيبات ) أي الكالملة اليت مننت عليكم بخلقها لكم وإحلالها وإزالة الشبه(5/206)
صفحة رقم 207
عنها وجعلها شهية للطبع ، نافعة للبدن ، منعشة للروح ، وذلك ما كان حلاًّ غير مستقذر لقوله تعالى ) ) يحل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث ( ) [ الأعراف : 157 ] .
ودل سبحانه على أن الحلال عون على الطاعة بقوله : ( واعملوا صالحاً ) أي سراً وجهراً غير خائفين من أحد ، فقد أهلكت عدوكم وأورثتكم أرضكم ، ولم يقيد عملكم بشكر ولا غيره ، إشارة إلى أنه لوجهه ليس غير ، فإنهم دائماً في مقام الشهود ، في حضرة ا لمعبود ، والهنى عن كل سوى حتى عن الغنى ، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله : ( إني بما ) أي بكل شيء ) تعملون عليم ) أي بالغ العلم .
ولما كان هذا تعليلاً لما سبقه من الأمر ، عطف على لفظه قوله : ( وإن ( بالكسر في قراءة الكوفيين ، وعلى معناه لما كان يستحقه لو أبرزت لام العلة من الفتح في قراءة غيرهم ) هذه ) أي دعوتكم أيها الأنبياء المذكورين إجمالاً وتفصيلاً وملتكم المجتمعة على التوحيد أو ا لجماهة التي أنجيتها معكم من المؤمنين ) أمتكم ) أي مقصدكم الذي ينبغي أن لا توجهوا هممكم إلى غيره أو جماعة أتباعكم حال كونها ) أمة واحدة ( لا شتات فيها أصلاً ، فما دانت متوحدة فهي مرضية ) وأنا ربكم ) أي المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي ، فمن وحدني نجا ، ومن كثر الأرباب هلك .
ولما كان الخطاب في هذه السورة كلها للخلص من الأنبياء ومن تبعهم من المؤمنين ، قال : ( فاتقون ) أي اجعلوا بينكم وبين غضبي وقاية من جميع عبادي بالدعاء إلى وحدانيتي بلا فرقة أصلاً ، بخلاف سورة الأنبياء المصدرة بالناس فإن مطلق العبارة أولى بدعوتها .
المؤمنون : ( 53 - 59 ) فتقطعوا أمرهم بينهم. .. . .
) فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ( ( )
ولما كان من المعلوم قطعاً أن التقدير : فاتقى النبياء الله الذي أرسلهم وتجشموا حمل ما أرسلهم به من عظيم الثقل ، فدعوا العباد إليه وأرادوا جمعهم عليه ، عطف عليه بفاء السبب قوله معبراً بفعل التقطع لأنه يفيد التفرق : ( فتقطعوا ) أي الأمم ، وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم لأن الآية التي قبلها قد صرحت بأن الأنبياء ومن نجا معهم أمة واحدة لا اختلاف بينهما ، فعلم قطعاً أن الضمير للأمم ومن نشأ بعدهم ، ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم ، فقدم قوله : ( أمرهم ) أي في الدين بعد أن كان(5/207)
صفحة رقم 208
مجتمعاً متصلاً ) بينهم ( فكانوا شيعاً ، وهو معنى ) زبراً ) أي قطعاً ، كل قطعة منها في غاية القوة والاجتماع والثبات على ما صارت إليه من الهوى والضلال ، بكل شيعة طريقة في الضلال عن الطريق الأمم ، والمقصد المستقيم ، وكتاب زبروه في أهويتهم ولم يرحموا أنفسهم بما دعتهم إليه الهداة من الاجتماع والألفة فأهلكوها بالبغضاء والفرقة ، وهو منصوب بأنه مفعول ثان لتقطع على ما مضى تخريجه في الأنبياء ، وقد ظهر كما ترى ظهوراً بيناً أن هذه غشارة إلى الناجين من أمة كل نبي بعد إهلاك أعدائهمن اي أن هذه الجماعة الذين أنجيتهم معكم أمتكم ، حال كونهم أمة واحدة متفقين في الدين ، لا خلاف بينهم ، وكما أن جماعتكم واحدة فإنا ربكم لا رب لكم غيري فاتقون ولا يخالف أحد منكم أمري ولا تختلفوا لئلا أعذب العاصي منكم كما عذبت أعداءكم .
ولما كان هذا مما لا يرضاه عاقل ، أجيب من كأنه قال : هل رضوا بذلك مع انكشاف ضرره ؟ بقوله : ( كل حزب ) أي فرقة ) بما لديهم ) أي من ضلال وهدى ) فرحون ) أي مسرورن فضلاً عن أنهم راضون غير معرج الضال منهم على ما جاءت به الرسل من الهدى ، ولا على الاعتبار بما اتفق لأممهم بسبب تكذيبهم من الردى .
ولما أنتج هذا الضلال وإن وضح لا يكشفه إلا ذو الجلال ، سبب عنه سبحانه قوله تسلية لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فذرهم ( اي اتركهم على شر حالاتهم ) في غمرتهم ) أي الضلاله التي غرقوا فيها ) حتى حين ) أي إلى وقت ضربناه لهم من قبل أن نخلقهم ونحن عالمون بكل ما يصدر منهم على أنه وقت يسير .
ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أن حالهم - في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد - حال الموعود لا المتوعد ، أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة ، وكتبت له الحسنى وزيادة ، فقال : ( أيحسبون ) أي لضعف عقولهم ) أنما ) أي الذين ) نمدهم ( على عظمتنا ) به ) أي نجعله مدداً لهم ) من مال ( نسيره لهم ) وبنين ( نمتعهم بهم ، ثم أخبر عن ( أن ) بدليل قراءة السلمي بالياء التحتية فقال : ( نسارع لهم ) أي به بإدرارنا له عليهم في سرعة من يباري آخر ) في الخيرات ( التي لا خيرات غلا هي لأنها محمودة العاقبة ، ليس كذلك بل هو وبال عليهم لأ ، ه استدراج إلى الهلاك لأنهم غير عاملين بما يرضي الرحمن ) بل ( هم يسارعون في أسباب الشرور ، ولا يكون عن السبب إلا مسببه ، ولكنهم كالبهائم ) لا يشعرون ( أنهم في غاية البعد عن الخيرات
77 ( ) سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( ) 7
[ القلم : 44 ] .(5/208)
صفحة رقم 209
ولما ذكر أهل الافتراق ، أبتبعهم أهل النفاق ، فكان كأنه قيل : فمن الذي يكون له الخيرات ؟ فأجيب بأنه الخائف من الله ، فقيل معبراً بما يناسب أول السورة من الأوصاف ، بادئاً بالخشية لأنها الحاملة على تجديد الإيمان : ( إن الذين هم ( اي ببواطنهم ) من خشية ربهم ( اي الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم ) مشفقون ) أي دائمو الحذر ) والذين هم بىيات ربهم ( المسوعة والمرئية ، لا ما كان من جهة غيره ) يؤمنون ( لا يزال إيمانهم بها يتجدد شكراً لإحسانه إليهم .
ولما كان المؤمن قد يعرض له ما تقدم في إيمانه من شرك جلي أو خفي ، قال : ( والذين هم بربهم ( اي الذي لا محسن إليهم غيره وحده ) لا يشركون ) أي شيئاً من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في إحسانه إليهم أحد .
المؤمنون : ( 60 - 67 ) والذين يؤتون ما. .. . .
) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ( ( )
ولما ثبت لهم الإيمان الخالص ، نفى عنهم العجب بقوله : ( والذين يؤتون ما آتوا ) أي يعطون ما أعطوا من الطاعاتن وكذا قراءة يحيى بن الحارث وغيره : يأتون ما أتوا ، أي يفعلون ما فعلوا من أعمال البر لتتفق القراءتان في الإخبار عنهم بالسبق ؛ ثم ذكر حالهم فقال : ( وقلبهم وجلة ) أي شديدة الخوف ، قد ولج في دخولها وجال في كل جزء منها لأنهم عالمون بأنهم لا يقدرون الله حق قدره وإن اجتهدوا ، ثم علل ذلك بقوله : ( إنهم إلى ربهم ( اي الذي طال إحشانه إليهم ) راجعون ( بالبعث فيحاسبهم على النقير والقطمير ، ويجزيهم بكل قليل و كثير وهو النافذ البصير ، قال الحسن البصري : إن المؤمن حمع إيماناً وخشية ، والمنافق جمع إساءة وأمناً .
ثم اثبت لهم ما أفهم أن ضده لأضدادهم فقال : ( أولئك ( اي خاصة ) يسارعون ( اي يسبقون سبق من يساجل آخر ) في الخيرات ( فأفهم ذلك ضد ما ذكر لأضدادهم بقوله : ( وهم لها ) أي إليها خاصة ، أي غلى ثمراتها ، ولكنه عبر باللام إشارة إلى زيادة القرب منها والوصول إليها مع الأمن لجعل الخيرات ظرفاً للمسارعة من أخذها على حقيقتها للتعدية ) سابقون ( لجميع الناس ، لأنا نحن نسارع لهم في المسببات أعظم من مسارعتهم في الأسباب ، ويجوز أن يكون ) سابقون ( بمعنى : عالين ، من وادي ( سبقت رحمتي(5/209)
صفحة رقم 210
غضبي ) أي أنهم مطيقون لها ومعانون عليها ) ولا ) أي والحال أنا لا نكلفهم ولكنه عم فقال : ( نكلف نفساً ) أي كافرة ومؤمنة ) إلا وسعها ( فلا يقدر عاص على أن يقول : كنت غير قادر على الطاعة ، ولا يظن بنا مؤمن أنا نؤاخذه بالزلة والهفوة ، فإن أحداً لا يستطيع أ ، يقدرنا حق قدرنا لأن مبنى المخلوق على العجز .
ولما كانت الأعمال إذا تكاثرت وامتد زمنها تعسر أو تعذر حصرها إلا بالكتابة عامل العباد سبحانه بما يعرفون مع غناه عن ذلك فقال : ( ولدينا ( اي عندنا على وجه هو أغرب الغريب ) كتاب ( وعبر عن كونه سبباً للعلم بقوله : ( ينطق ( بما كتب فيه ن أعمال العباد من خير وشر صغير وكبير ) بالحق ( اي الثابت الذي يطابقه الواقع ، قد كتب فيه أعمالهم من قبل خلقهم ، لا زيادة فيها ولا نقص ، تعرض الحفظة كل يوم عليه ما كتبوه مما شاهدوه بتحقيق القدر له فيجدونه محرراً بمقاديره وأقاته وجميع أحواله قيزدادون به إيماناً ، ومن حقيته أنه لا يستطاع إنكار شيء منه .
ولما أفهم ذلك نفي الظلم ، صرح به فقال : ( وهم ( اي الخلق كلهم ) لا يظلمون ( من ا لظالم ما بزيادة ولا نقص في عمل ولا جزاء .
ولما كان التقدير : ولكنهم بذلك لا يعلمون ، قال ) بل قلوبهم ) أي الكفرة من الخلق ؛ ويجوز أن يكون هذا الإضراب بدلاً من قوله ) بل لا يشعرون ( ) في غمرة ) أي جهالة قد أغرقتها ) من هذا ) أي الذي أخبرنا به من الكتاب الحفيظ فهم به كافرون ) ولهم أعمال ( وأثبت الجار إشارة إلى أنه لا عمل لهم يستغرق الدون فقال : ( من دون ذلك ( اي مبتدئة من أدنى رتبة التكذيب من سائر المعاصي لأجل تكذيبهم بالكتاب المستلزم لتكذيبهم بالبعث المستلزم لعدم الخوف المستلزم للإقدام على كل معضلة ) هم لها ( اي دائماُ ) عاملون ( لا شيء يكفهم عجزهم عنها .
ولما كانوا كالبهائم لا يخافون من المهلكة إلا عند المشاهدة ، غيَّى عملهم للخبائث بالأخذ فقال : ( حتى إذا أخذنا ) أي بما لنا من العظمة ) مترفيهم ( الذين هم الرؤساء القادة ) بالعذاب ( فبركت عليهم كلاكله ، وأناخت بهم أعجازه وأوائله ) إذا هم ( كلهم المترف ومن تبعه من باب الأولى ) يجأرون ) أي يصرخون دلاًّ وانكساراً وجزعاً من غير مراعاة لنخوة ، لا استكباراً ، وأصل الجأر وفع الصوت بالتضرع - قاله البغوي ، فكأنه قيل : فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم ؟ فقيل : لا بل يقال لهم بلسان الحال أو القال : ( لا تجأروا اليوم ( بعد تلك الهمم ، فإن الرجل من لا يفعل شيئاً(5/210)
صفحة رقم 211
عبثاً ، ثم علل ذلك بقوله : ( إنكم منا ) أي خاصة ) لا تنصرون ( اي بوجه من الوجوه ، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصراً ، فلا فائدة لجؤاره إلا إظهار الجزع ؛ ثم علل عدم نصره لهم بقوله : ( قد كانت ىياتي ( .
ولما كانت عظمتها التي استحقت بها الإضافة إليه تكفي في الحث على الإيمان بمجرد سماعها ، بنى للمفعول قوله : ( تتلى عليكم ) أي وهي أجلى الأشياء ، من أوليائي وهم الهداة النصحاء ) فكنتم ) أي كوناً هو كالجبلة ) على أعقابكم ( عند تلاوتها ) تنكصون ) أي ترجعون القهقرى إما حساً أو معنى ، والماشي كذلك لا ينظر ما وراءه ، ومضارعه فيه مع الكسر الضم ولم يقرأ به ولو شاذاً ، دلالة على أنه رجوع كبر وبطر فهو بالهوينا ، ولو قرىء بالضم لدل على القوة فأفهم النفرة والهرب ، قال في القاموس : نكص على عقبيه ينكص وينكص : رجع عما كان عليه من خير ، وفي الشر قليل ، وعن الأمر نكصاً ونكوصاً ونكاصاً .
أو على ما ذكرت دلالة على ما تقديره : حال كونكم ) مستكبرين به ) أي بذلك النكوص ، لا شيء غير الاستكبار من هرب أو غيره ، ذوي سمر في أمرها بالقول الهجر ، وهو الفاحش ، ولعله إنما قال : ( سامراً ( بلفظ المفرد لأن كلاًّ منهم يتحدث في أمر الآيات مجتمعاً مع غيره ومنفرداً مع نفسه حديثاً كثيراً كحديث المسامر الذي من شأنه أن لا يمل ؛ وقال : ( تهجرون ( اي تعرضون عنها وتقولون فيها القول الفاحش ، فأسنده غلى الجمع لأن بعضهم كان يستمعها ، ولم يكن يفحش القول فيها ، أو تعجيباً من أن يجتمع جمع على مثل ذلك لأن الجمع جدير بأن يوجد فيه من يبصر الحق فيأمر به .
المؤمنون : ( 68 - 72 ) أفلم يدبروا القول. .. . .
) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ( )
ولا كانت الآيات - لما فيها من البلاغة المعجزة ، والحكم المعجبة داعية إلى تقبلها بعد تأملها ، وكانوا يعرضون عنها ويفحشون في وصفتها تارة بالسحر وأخرى بالشعر ، وكره بالكهانة ومرة بغيرها ، تسبب عن ذلك افنكار عليهم فقال معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب مسنداً إلى الجمع الذي هو أولى بإلقاء السمع : ( أفلم يدبروا القول ) أي المتلو عليهم بأن ينظروا في أدباره وعواقبه ولو لم يبلغوا في نظرهم الغاية بما أشار إليه(5/211)
صفحة رقم 212
الإدغام ، ليعلموا أنه موجب للإقبال والوصال ، والوصف بأحسن المقال ، لعله عبر بالقول إشارة إلى أن من لم يتقبله ليس بأهل لفهم شيء من القول بل هو في عداد البهائم ) أم جاءهم ( في هذا القول من الأوامر بالتوحيد الآتي بها الرسول الذي هو من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وما ترتب على ذلك من الأوامر التي لا يجهل حسم فعلها عاقل ، والنواهي التي - كما يشهد بقبح إتيانها العالم - يقطع بها الجاهل ، وبالرسالة برسول من البشر ) ما لم يأت آباءهم الأولين ( الذين بعد إسماعيل وقبله .
ولما كان الرجل الكانل من عرف الرجال بالحق ، بدأ بما أشار إليه ثم أعقبه بمن يعرف الشيء للالف به ، ثم بمن يعرف الحق بالرجال فقال : ( أم لم يعرفوا رسولهم ) أي الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله ، ويعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ، وما فاتهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه - إذا حقت الحقائق - نقيصة يذكرونها ، ولا صمة يتخيلونها ، كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) فهم ) أي فتسبب عن جهلهم به أنهم ) له ) أي نفسه أو للقول الذي أتى به ) منكرون ( فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به ، فلم يحرز شيئاً من رتبتي الناس ، لا رتبة العلماء الناقدين ، ولا رتبة الجهال المتقلدين ، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبعنادهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل ثم يكذبونه .
ولما فرغ بما قد يجر إلى الطعن في القول أو القائل ، أشار إلى العناد في أمر القائل والقول والرسول بقوله : ( أم يقولون ( اي بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن ) به ) أي برسولهم ) جنة ) أي فلا يوثق به لأنه قد يخلط فيأتي بما فيه مطعن وإن خفي وجه الكعن فيه الحال .
ولما كانت هذه الأقسام منتفية ولا سيما الأخير المستلزم عادة للتخليط المستلزم للباطل ، فإنهم أعرف الناس بهذا الرسول الكريم وأنه أكملهم خلقاً ، واشرفهم خلقاً ، وأطهرهم شيماً ، وأعظمهم همماً ، وأرجحهم عقلاً ، وأمتنهم رأياً وأرضاهم قولاً ، وأصوبهم فعلاً ، اضرب عنها وقال : ( بل ) أي لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى ، وإنما فعلوا ذلك لأن هذا الرسول الكريم ) جاءهم بالحق ( الذي لا تخليط فيه بوجه ، ولا شيء أثيت منه ولا أبين مما فيه من(5/212)
صفحة رقم 213
التوحيد والأحكام ، ولقد أوضح ذلك تحديهم بهذا الكتاب فعجزوا فهو بحيث لا يجهله منصف ) وأكثرهم ) أي والحال أن أكثرهم ) للحق كارهون ( متابعة للأهواء الرديئة والشهوات البهيمية عناداً ، وبعضهم ، يتركونه جهلاً وتقليداً أو خوفاً من أن يقال : صبأ ، وبعضهم يتبعه توفيقاً من الله وتأييداً .
ولما كان ربما قيل : ما له ما كان بحسب أهوائهم فكانوا يتبعونه ويستريح ويستريحون من هذه المخالفات ، التي جرت إلى المشاحنات ، فأوجبت أعظم المقاطعات ، قال مبيناً فساد ذلك ، ولعله حال من فاعل كاره ، فإن جزاءه خبري مسوغ لكونه حالاً كما ذكره الشيخ سعد الدين في بحث المسند ، أو هو معطوف على ما تقديره : فلو تركوا الكره لأحبوه ولو أحبوه لأتبعوه ولو اتبعوه لانصلحوا وأصلحوا ) ولو اتبع الحق ) أي في الأصول والفروع والأحوال والأقوال ) أهواءهم ) أي شهواتهم التي تهوي بهم لكونها أهواء - بما أشار غليه الافتعال ) لفسدت السماوات ( على علوها وإحكامها ) والأرض ( على كثافتها وانتظامها ) ومن فيهن ( على كثرتهم وانتشارهم وقوتهم ، بسبب ادعائهم تعدد الآلهة ، ولو كان ذلك حقاً لأدى ببرهان التمانع إلى الفساد ، وبسبب اختلاف أهوائهم واضطرابها المفضي إلى النزاع كما ترى من الفساد عند اتباع بعض الأغراض في بعض الأزمان إلى أن يصلحها الحق بحكمته ، ويقمعها بهيبته وسطوته ، ولكنا لم نتبع الحق أهواءهم ) بل أتيناهم ( بعظمتنا ) بذكرهم ( وهو الكتاب الذي في غاية الحكمة ، ففيه صلاح العلم وتمام انتظامه ، فإذا تأمله الجاهل صده عن جهله فسعد في أقواله وأفعاله ، وبان له الخير في سائر احواله ، وإذا تدبره العالم عرج به إلى نهاية كماله ، فحينئذ يأتي السؤال عمن أنزله ، فتخضع الرقاب ، وعمن أنزل عليه فيعظم في الصدور ، وعن قومه فتجلهم النفوس ، وتنكس لمهابتهم الرؤوس ، فيكون لهم أعظم ذكر وأعلى شرف .
ولما جعلوا ما يوجب الإقبال سبباً للإدبار ، قال معجباً منهم : ( فهم عن ذكرهم ) أي الذي هو شرفهم ) معرضون ( لا يفوتنا بإعراضهم مراد ، ولا يلحقنا به ضرر ، إنما ضرره عائد إليهم ، وراجع في كل حال عليهم .
ولما أبطل تعالى وجوه طعنهم في المرسل به والمرسل من جهة جهلهم مرة ، ومن جهة ادعائهم البطلان أخرى ، نبههم على وجه آخر هم أعرف الناس ببطلانه ليثبت المدعى من الصحة إذا انتفت وجوه المطاعن فقال منكراً : ( أم تسألهم ) أي على ما جئتهم به ) خرجاً ( قال البغوي : أجراً وجعلاً ، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم : والخرج والخراج شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم ، (5/213)
صفحة رقم 214
والخراج غلبة العبد والأمة ، وقال الزجاج : الخراج : الفيء ، والخرج : الضريبة والجزية ، وقال الأصبهاني : شئل أبو عمرو بن العلاء فقال : الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه ، والخرج ما تبرعت به من غير وجوب .
ولما كان الإنكار معناه النفي ، حسن موقع فاء السبب في قوله : ( فخراج ) أي أم تسألهم ذلك ليكون سؤالك سبباً لاتهامك وعدم سؤالك ، بسبب أن خراج ) ربك ( الذي لم تقصد غيره قط ولم تخل عن بابه وقتاً ما ) خير ( من خراجهم ، لأن خراجه غير مقطوع ولا ممنوع عن أحد من عباده المسيئين فكيف بالمحسنين وكأنه سماه خراجاً إشارة إلى أنه أوجب رزق كل أحد على نفسه بوعد لا خلف فيه ) وهو خير الرازقين ( فإنه يعلم ما يصلح كل مرزوق وما يفسده ، فيعطيه على حسب ما يعلم منه ولا يحوجه إلى سؤال .
المؤمنون : ( 73 - 78 ) وإنك لتدعوهم إلى. .. . .
) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( ( )
ولما كانت عظمة الملك مقتضية لتقبل ما أتى به والتشرف به على أيّ حال كان ، نبه على أنه حق يكسب قبوله الشرف لو لم يكن من عند الملك فكيف إذا كان من عنده ، فكيف إذا كان ملك الملوك ومالك الملك فكيف غذا كان الآتي به خالصة العباد وأشرف الخلق ، كما قام عليه الدليل بنفي هذه المطاعن كلها ، فقال عاطفاً على ) آتيناهم ( : ( وإنك ) أي مع انتفاء هذه المطاعن كلها ) لتدعوهم ) أي بهذا الذكر مع ما قدمنا من الوجوه الداعية إلى اتباعك بانتفاء جميع المطاعن عنك وعما جئت به ) إلى صراط مستقيم ( لا عوج فيه ولا طعن أصلاً كما تشهد به العقول الصحيحة ، فمن سلكه أوصله إلى الغرض فجاز كل شرف ، والحال أنهم ، ولكنه عبر بالوصف الحامل لهم على العمى فقال : ( وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة ( فلذلك لا يخشون القصاص فيها ) على الصراط ) أي الذي لا صراط غيره لأنه لا موصل إلى القصد غيره ) لناكبون ) أي عادلون منتحون مائلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج اصلاً ، بل خبط عشواء لأنه يجوز أن يراد مطلق الصراط وأن يراد النكرة الموصوفة بالاستقامة .
ولما وصفوا بالميل ، وكان ربما قال قائل : إن جؤارهم المذكور آنفاً سلوك في الصراط ، بين أنه لا اعتداد به لعروضه فقال : ( ولو رحمناهم ( اي عاملناهم معاملة(5/214)
صفحة رقم 215
المرحوم في إزالة ضرره هو معنى ) وكشفنا ( اي بما من العظمة ) ما بهم من ضر ( وهو الذي عرض جؤارهم بسببه ) لَلَجّوا ) أي تمادوا تمادياً عظيماً ) في ظغيانهم ( الذي كانوا عليه قبل الجؤار وهو إفراطهم في منابذة الحق والاستقامة ) يعمهون ) أي يفعلون من التحير والتردد فعل من لا بصيرة له في السير النحرف عن القصد ، والجائر عن الاستقامة ، قال ابن كثير : فهذا من باب علمه بما لا يكون لو كان كيف كان يكون ، قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما فيه ( لو ) فهو مما لا يكون أبداً .
ثم أتبع هذا الدليل تأييداً له ما يدل على أنهم لا يسلكون الصراط غلا اضطراراً فقال : ( ولقد أخذناهم ) أي بما لنا من العظمة ) بالعذاب ) أي بمطلقه كإظهار حزب الله عليهم في بدر وغيرها ) فما استكانوا ) أي خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم ) لربهم ( المحسن إليهم عقب المحنة ، وحقيقته ما طلبوا أن يكونوا له ليكرموا مقام العبودية من الذب والخضوع والانقياد لأموامره تاركين حظوظ أنفسهم ، والحاصل أنه لما ضربهم بالعذاب كان من حقهم أن يكونوا له لا لشركائهم ، فما عملوا بمقتضى ذلك إيجاداً ولا طلباً ) وما يتضرعون ( اي يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة ، بل هم على ما جلبوا عليه من الاستكبار والعتو إلا إذا التقت حلقتا البطان ، على عتوهم ) حتر إذا فتحنا ) أي بما لنا من العظمة ، ودل على أنه فتح عذاب فقال : ( عليهم باباً ( من الأبواب التي نقهر بها من شئنا بحيث يعلوه أمرها ولا يستطيع دفعها ) ذا عذاب شديد ( يعني القتل والأسر يوم بدر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، أو القحط الذي سلطه عليهم غجابة لدعوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ( اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ) ) إذا هم فيه ) أي ذلك الباب مظرفون لا يقدرون منه على نوع خلاص ) مبلسون ) أي متحيزون ساكنون على ما في أنفسهم آئسون لا يقدرون أن ينطقوا بكلمة ، داخلون في الإبلاس وهو عدم الخير ، متأهلون لسكنى ( بولس ) وهو سجن جهنم ، لعدم جعلهم التضرع وصفاً لهم لازماً غير عارض ، والخوف من الله شعاراً دائماً غير مفارق ، استحضاراً لقدرته واستكباراً لعظمته ؛ ثم التفت غلى خطابهم ، استعطافاً بعتابهم ، لأنه عند التذكير بعذابهم أقرب إلى إيابهم ، فقال : ( وهو ) أي ما استكانوا لربهم والحال أنه هو لا غيره ) الذي أنشأ لكم ( يا من يكذب بالآخرة ، على غير مثال سبق ) السمع والأبصار ( ولعله جمعها لأن التفاوت فيها أكثر من التفاوت في السمع ) والأفئدة ( التي هي مراكز العقول ، فكنتم بها أعلى من بقية الحيوانات ، جمع(5/215)
صفحة رقم 216
فؤاد ، وهو القلب لتوقده وتحرقه ، من التفؤد وهو التحرق ، وعبر به هنا لأن السياق للاتعاظ والاعتبار ، وجمعه جمع القلة إشارة إلى عزة من هو بهذه الصفة ، ولعله جمع الأبصار كذلك لاحتمالها للبصيرة .
ولما صور لهم هذا النعم ، وهي بحيث لا يشك غافل في أنه لا مثل لها ، وأنه لو تصور أن يعطي شيئاً منها آدمي لم يقدر على مكافأته ، حسن تبكيتهم في كفر المنعم بها فقال : ( قليلاً ما تشكرون ( لمن أولاكم هذه النعم التي لا مثل لها ، ولا يقدر غيره على شيء منها ، مع ادعائكم أنكم اشكر الناس لمن أسدى إليكم اقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد ، فكنتم بذلك أنزل من ا لحيوانات العجم صماً بكماً عمياً .
المؤمنون : ( 79 - 87 ) وهو الذي ذرأكم. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( ( )
ولما ذكرهم بهذ النعم التي هي دالة على خلقهم ، صرح به في قوله : ( وهو ) أي وحده ) الذي ذرأكم ( اي خلقكم وبثكم ) في الأرض ( ولما ذكرهم بإبدائهم المتضمن للقدرة على إعادتهم مع ما فيها من الحكمة وفي تركها من الإخلال بهان صرح بها فقال : ( وإليه ) أي وحده ) تحشرون ( يو النشور .
ولما تضمن ذلك إحيائهم وإماتتهم ، صرح به على وجه عام فقال : ( وهو ( اي وحده ) الذي ( من شأنه أنه ) يحيي ويميت ( فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده .
ولما كانت حقيقة البعث إيجاد الشيء كما هو بعد إعدامه ، ذكرهم بأمر طالما لا بسوه وعالجوه ومارسوه فقال : ( وله ( اي وحده ، لا لغيره ) اختلاف الليل والنهار ) أي التصرف فيهما على هذا الوجه ، يوجد كلاًّ منهما بعد أن أعدمه كما كان سواء ، فدل تعاقبهما على تغيرهما ، وتغيرهما بذلك وبالزيادة والنقص على أن لهما مغيراً لا يتغير وأنه لا فعل لهما وإنما الفعل له وحده ، وأنه قادر على إعادة المعدوم كما قدر على ابتدائه بما دل على قدرته وبهذا الدليي الشهودي للحامدين ، ولذلك ختمه بقوله منكراً تسبيبَ ذلك لعدم عقلهم : ( أفلا تعقلون ( اي يون لكم عقول لتعرفوا ذلك فتعملوا بما تقتضيه من اعتقاد البعث الذي يوجب سلوك الصراط .(5/216)
صفحة رقم 217
ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي ، حسن بعده كل الحسن قوله : ( بل ( وعدل إلى أسلوب الغيبة للإيذان بالغضب بقوله : ( قالوا ) أي هؤلاء العرب ) مثل ما قال الأولون ( من قوم ومن بعده ؛ ثم استأنف قوله : ( قالوا ( اي منكرين للبعث متعجبين من أمره : ( أإذا متنا وكنا ) أي بالبلى بعد الموت ) تراباً وعظاماً ( نخرة ، ثم أكدوا الإنكار بقولهم : ( أإنا لمبعثون ( اي من باعث ما .
ولما كان محط العناية في هذه السورة الخلق ةالإيجاد ، والتهديد لأهل العناد ، حكى عنهم أنهم قالوا : ( لقد وعدنا ( مقدماً قولهم : ( نحن وآباؤنا ( على قولهم : ( هذا ( اي البعث ) من قبل ( بخلاف النمل ، فإن محط العناية فيها الإيمان بالآخرة فلذلك قدم قوله ( هذا ) ، والمراد وعد آبائهم على ألسنة من أتاهم من الرسل غير أن الإخبار بشموله جعله وعداً للكل على حد سواء ، ثم استأنفوا قولهم : ( إن ( اي ما ) هذا إلا أساطير الولين ) أي كذب لا حقيقة له ، لأن ذلك معنى الإنكار المؤكد .
ولما أنكروا البعث هذا الإنكار المؤكد ، ونفوه هذا النفي المحتم ، أمره أن يقررهم بأشياء هم بها مقرون ، ولها عارفون ، يلزمهتم من تسليمها الإقرار بالبعث قطعاً ، فقال : ( قل ) أي مجيباً لإنكارهم البعث ملزماً لهم : ( لمن الأرض ) أي على سعتها وكثرة عجائبها ) ومن فيها ( على كثرتهم واختلافهم ) إن كنتم ( اي بما هو كالجبلة لكم ) تعلمون ) أي أهلاً للعلم ، وكأنه تنبيه لهم على أنهم أنكروا شيئاً لا ينكره عاقل .
ولما كانوا مقربين بذلك ، أخبر عن جابهم قبل جوابهمن ليكون من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بقوله استئنافاً : ( سيقولون ( اي قطعاً : ذلك كله ) لله ) أي المختص بصفات الكمال .
ولما كان ذلك دالاً على الوحدانية والتفرد بتمام القدرة من وجهين : كون ذلك كله له ، وكونه يخبر عن عدوه بشيء فلا يمكنه التخلف عنه ، قال : ( قل ) أي لهم إذا قالوا ذلك منكراً عليهم تسبيبه لعدم تذكرهم ولو علة أدنى الوجوه بما أشار إليه الإدغام : ( أفلا تتذكرون ) أي بذلك المركوز في طباعكم المقطوع به عندكم ، ما غفلتم عنه من تمام قدرته وباهر عظمته ، فتصدقوا ما أخبر به من البعث الذي هو دون ذلك ، وتعلموا أنه لا يصلح شيء منها - وهو ملكه - أن يكون شريكاً له ولا ولداً ، وتعلموا أنه لا يصح في الحكمة أصلاً أنه يترك البعث لأن أقلكم لا يرضى بترك حساب عبيده والعدل بينهم .
ولما ذكرهم بالعالم السفلي لقربه ، تلاه بالعالوي لأنه أعظم فقال على ذلك المنوال مرقياً لهم إليه : ( قل من رب ) أي خالق ومدبر ) السماوات السبع ( كما تشاهدون من حركاتها وسير نجومها ) ورب العرش العظيم ( الذي أنتم به معترفون ) سيقولون لله ((5/217)
صفحة رقم 218
أي الذي له كل شيء وهو رب ذلك - على قراءة البصريين ، والتقدير لغيرهما : ذلك كله لله ، لأن معنى من رب الشيء : لمن الشيء ، فتفيد اللام الملك صريحاً مع إفادة الرب التدبير .
ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح ، حسن التهديد على التمادي فقال : ( قل ( منكراً عليهم عدم تسبيبه لهم التقوى : ( أفلا تتقون ) أي تجعلون بينكم وبين حلول السخط من هذا الواسع الملك التام القدرة وقاية بالمتاب من إنكار شيء يسير بالنسبة إلى هذا الملك العظيم هين عليه .
المؤمنون : ( 88 - 92 ) قل من بيده. .. . .
) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ( )
ولما قررهم بالعالمين : العلوي والسفلي ، أمره بأن يقررهم بما هو أعم منهما وأعظم ، فقال : ( قل من بيده ) أي خاصة ) ملكوت كل شيء ) أي من العالمين وغيرهما ، والملكوت الملك البليغ الذي لا نقص فيه بوجه ؛ قال ابن كثير : كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً لا يخفر في جواره وليس لمن دونه أن يجبرعليه لئلا يفتات عليه .
ولو أجار ما أفاد ، ولهذا قال تعالى : ( وهو يجير ) أي يمنع ويغيث من يشاء فيكون في حرزه ، لا يقدر أحد على الدنو من ساحتة ) ولا يجار عليه ) أي ولا يمكن أحداص أبداً أن يجير جواراً يكون مستعلياً عليه بأن يكون على غير مراده ، بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق ، ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب ، فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه ، ولا ولد يصانعه أو يضارعه ؛ وقال ابن كثير ك وهو السيد المعظم الذي لا أعظم منه الذي له الخلق والأمر ، ولا معقب لحكمه الذي لا يمانع ولا يخالف ، وما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
ولما كان هذا برهاناً مع أنه ظاهر لا يخفى على أحد ، قد يمجمج فيه من له غرض في اللددن ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله : ( إن كنتم ) أي كوناً راسخاً ) تعلمون ) أي في عداد من يعلم ، ولذلك استأنف قوله : ( سيقولون لله ) أي الذي بيده ذلك ، خاصاً به ، والتقدير لغير البصريين : ذلك كله لله ، لأن اليد أدل شيء على الملك .
ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث ، استأنف قوله :(5/218)
صفحة رقم 219
) قل ( منكراً عليهم تسبيب ذلك لهم ادعاء أنه سحر ، أو صرف عن الحق كما يصرف المسحور ) فأنى تسحرون ) أي فكيف بعد إقراركم بهذا كله تدعون أن الوعيد بالبعث سحر في قولكم : أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ، ومن اين صار لكم هذا الإعتقاد وقد أقررتم بما يلزم منه شمول العلم وتمام القدرة ؟ ومن أين تتخيلون الحق باطلاً ، أز كيف تفعلون فعل المسحور بما تأتون به من التخطيط في الأقوال والأفعال ، وتخدعون وتصرفون عن كل م ادعا إليه ؟ ولماكان الإنكار بمعنى النفي ، حسن قوله : ( بل ( اي ليس الأمر كما يقولون ، لم نأتهم بسحر بل ، أو يكون المعنى : ليس هو أساطير ، بل ) أتيناهم ( فيه على عظمتنا ) بالحق ) أي الكامل الذي لا حق بعده ، كما دلت عليه ( ال ) فكل ما أخبر به من التوحيد والبعث وغيرهما فهو حق ) وإنهم لكاذبون ( في قولهم ك إنه سحر لا حقيقة له ، وفي كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده كما لزمهم بما أقروا به في جواب هذه الأسئلة الثلاثة .
ولما كان من أعظم كذبهم ما أشار إليه قوله تعالى
77 ( ) وقالوا اتخذ الحمن ولداً ( ) 7
[ مريم : 88 ] قال : ( ما اتخذ الله ) أي الذي لا كفوء له ، وأعرق في النفي بقوله : ( من ولد ( لا من الملائكة ولا من غيرهم ، لما قام من الأدلة على غناه ، وأنه لا مجانس له ، ولما لزمهم بإقرارهم أنه يجير ولا يجار عليه ، وأن السماوات والأرض ومن فيهما .
ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال : ( وما كان ) أي بوجه من الوجوه ) معه ( فأفاد بعفل الكون نفي الصحة لينتفي الوجود بطريق الأول ) من إله ( وزاد ( من ) لتأكيد النفي ؛ ولما لزمهم الكذب في دعوى الإلهية بولد أو غيره من إقرارهم هذا ، أقام عليه دليلاً عقلياً ليتطابق الإلزامي والعقلي فقال : ( إذا ) أي إذ لو كان معه إله آخر ) لذهب كل إله بما خلق ( بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له لغيره ) ولعلا بعضهم ( اي بعض الآلهة ) على بعض ( إذا تخالفت أوامرهم ، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره ، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده ، كما هو مقتضى العادة ، فلا يكون المغلوب إلهاً لعجزه ، ولا يكون مجيراً غير مجار عليه ، بيده حده ملكوت كل شيء ، وفي ذلك إشارة غلى أنه لو لم يكن ذلك الاختلاف لأمكن أن يكون ، فكان إمكانه كافياً في إبطال الشركة لما يلزم ذلك من إمكان العجز المنافي للإلهية ، كما بين في الأنبياء .
ولما طابق الدليل الإلزام على نفي الشريك ، نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك بقوله : ( سبحان الله ( اي المتصف بجميع صفات الكمال ، المنزه عن كل شائبة نقص(5/219)
صفحة رقم 220
) عما يصفون ( من كل ما لا يليق بجنابه المقدس من الشريك والولد وغيره ؛ ثم أقام دليلاً آخر على كماله بوصفه بقوله : ( عالم الغيب ( ولما كان العلم بذلك لا يستلزم علم الشهادة كما للنائم قال : ( والشهادة ( ولا عالم بذلك غيره .
ولما كان من الواضح الجلي أنه لا مدعي لذلك ، ومن ادعاه غيره بأن كذبه لا محالة ، وأن من تم علمه تمت قدرته ، فاتضح تفرده كما بين في طه ، تسبب عنه قوله : ( فتعلى ) أي علا العالم المشار إليه علواً عظيماً ) عما يشركون ( فإنه لا علم لشيء منه فلا قدرة ولا صلاحية لرتبة الإلهية .
المؤمنون : ( 93 - 100 ) قل رب إما. .. . .
) قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ( )
ولما أقام الدليل على كذبهم بالأدلة على عظمته ، وتعاليه عن كل ما يقول الظالمون ، وبين لهم الأمر غاية البيان بعد أن هددهم بمثل قوله وما يشعرون ) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب ( ونحوه من مثل ما أنزله بالماضين ، وأحله بالمكذبين ، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعذار إلا إيقاع القضاء وإنزال البلاء ، وكان من الممكن أن يعم سبحانه الظالم وغيره بعذابه لأنه لا يسأل عما يفعل ، أمره أن يتعوذ من ذلك إظهار لعظمة الربوبية ذل العبودية فقالك ) قل رب ) أي أيها المحسن إليّ ، وأكد إظهار لعظمة المدعو به وإعلاماً بما للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مزيد الشفقة على أمته مؤمنهم وكافرهم ) إما تريني ) أي إن كان ولا بد من أن تريني قبل موتي ) مايوعدون ( ثم نبهه على الزيادة في الضراعة بتكرير النداء بصفة الإحسان تعبداً وتخشعاً ، وتذللاً وتخضعاً ، إشارة إلى أن الله سبحانه له أن بفعل ما يشاء ، فينبغي لأقرب خلقه إليه أن يكون على غاية الحذر منه فقال : ( رب فلا تجعلني ( بإحسانك إليّ وفضلك عليّ فيهم ، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعميماً للدعوة وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( في القوم الظالمين ) أي الذين أعمالهم أعمال من يمشي في الظلام ، فهي في غير مواضعها ، فضلاً عن أن أكون منهم فإنه يوشك أن يخصهم العذاب ويعم من جاورهم لوخامة الظلم وسوء عاقبته .
ولما أرشد التعبير بأداة الشك إلى أن التقدير : فإنا على العفو عنهم وعلى الإملاء لهم لقادرون ، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب المتضمن للطعن في القدرة(5/220)
صفحة رقم 221
وهم المقصودون بالتهديد : ( وإنا ) أي بما لنا من العظمة ) على أن نريك ) أي قبل موتك ) ما نعدهم ( من العذاب ) لقادرون ( ولما لاح من هذا أن أخذهم وتأخيرهم في الإمكان على حد سواء ، وكانوا يقولون ويفعلون ما لا صبر عليه إلا بمعونة من الله ، كان كأنه قال فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم ؟ فقال آمراً له بمداواته : ( ادفع ( وفخم الأمر بالموصول لما فيه من الإيهام المشوق للبيان ثم بأفعل التفضيل فقال : ( بالتي هي أحسن ) أي من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة ) السيئة ( ثم خفف عنه ما يجد من ثقلها بقوله : ( نحن أعلم ) أي من كل عالم ) بما يصفون ( في حقك وحقنا ، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل .
ولما كان الصبر عليه لا يطاق إلا به سبحانه ، أمره بالدعاء بذلك فقال : ( وقل رب ( أيها المحسن إليّ ) أعوذ بك ) أي ألتجىء إليك ) من همزات الشياطين ) أي أن يصلوا إليّ بوساوسهم التي هي كالنخس بالمهماز في الإقحام في السيئات البعد عن مطلق الحسنات ، فكيف بالأحسن منها كما سلطتهم على الكافرين تؤزهم إلى القبائح أزاً ) وأعوذ بك رب ( اي أيها المربي لي ) أن يحضرون ) أي ولو لم تصل إليّ وساوسهم فإن حضورهم هلكة ، وبعدهم بركة ، لأنهم مطبوعون على الفساد لا ينفكون عنه .
ولما كان أضر أوقات حضورهم ساعة الموت ، وحالة الفوت ، فإنه وقت كشف الغطاء ، عما كتب من القضاء ، وآن اللقاء ، وتحتم السفول أوالارتقاء ، عقب ذلك بذكره تنبيهاً على بذل الجهد في الدعاء والتضرع للعصمة فيه فقال معلقاً بقوله تعالى : ( بل لا يشعرون ( أو بمبلسون ، منبهاً بحرف الغاية على انه سبحانه يمد في أزمانهم استدراجاً لهم : ( حتى ( أو يكون التقدير كما يرشد إليه السياق : فلا أكون من ا لكافرين المطيعين للشياطين حتى ) إذا جاء ( وقدم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال : ( أحدهم الموت ( فكشف له الغطاء ، وظهر له الحق ، ولاحت له بوارق العذاب ، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب ) قال ( مخاطباً لملائكة العذاب على عادة جهاه ووقوفه مع المحسوس دأب البهائم : ( رب ارجعون ) أي إلى الدنيا دار العلم ؛ ويجوزأن يكون الجمع لله تعالى وللملائكة ، أو للتعظيم على عادة في مخاطبات الأكابر لا سيما الملوك ، أو لقصد تكرير الفعل للتأكيد .
ولما كان في تلك الحالة على القطع من اليأس من النجاة لليأس من العمل لفوات داره مع وصوله غلى حد الغرغرة قال : ( لعلي أعمل ) أي لأكون على رجاء من أن(5/221)
صفحة رقم 222
أعمل ) صالحاً فيما تركت ( من الإيمان وتوابعه ؛ قال البغوي : قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع ليعمل بكاعة الله ، فرحم الله امرأً عمل قيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب .
وقال ابن كثير : كان العلاء بن زياد يقول : اينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره المر وت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل .
ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع ، ولو رجع لم يعمل قال ردعاً له ورداً لكلامه : ( كلا ) أي لا يكون شيء من ذلك ، فكأنه قيل : فما حكم ما قال ؟ فقال معرضاً عنه إيذاناً بالغضب : ( إنها كلمة ) أي مقالته ) رب ارجعون ( - إلى آخره ، كلمة ) هو قائلها ( وقد عرف من الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها .
ولما كان التقدير : فهو لا يجاب إليها ، عطف عليه قوله ، جامعاً معه كل من ماثله لأن عجز الجمع يلزم منه عجز الواحد : ( ومن ورائهم ( اي من خلفهم ومن أمامهم محيط بهم ) برزخ ( اي حاجز بين ما هو فيه وبين الدنيا والقيامة مستمر لا يقدر أحد على رفعه ) إلى يوم يبعثون ) أي تجدد بعثهم بأيسر أمر وأخفه وأهونه .
المؤمنون : ( 101 - 104 ) فإذا نفخ في. .. . .
) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ( ( )
ولما غيَّى ذلك بالبعث فتشوفت النفس إلى مل يكون بعده ، وكان قد تقدم أن الناس - بعد أن كانوا أمة واحدة في الاجتماع على ربهم - تقطعوا قطعاً ، وتحزبوا أحزاباً ، وتعاضدوا بحكم ذلك وتناصروا ، قال نافياً لذلك : ( فإذا نفخ ) أي بأسهل أمر النفخة الثانية وهي نفخة النشور ، أو الثالثة للصعق ) في الصور ( فقاموا من القبور أو من الصعق ) فلا أنساب ( وهي أعظم الأسباب ) بينهم ( يذكرونها يتفاخرون بها ) يومئذ ( لما دهمهم من الأمر وشغلهم من البأس ولحقهم من الدهش ورعبهم من الهول وعلموا من عدم نفعها إلا ما أذن الله فيه ، بل يفر الإنسان من أقرب الناس إليه ، وإنما أنسابهم الأعمال الصالحة ) ولا يتسألون ) أي في التناصر لأنه انكشف لهم أن حكم إلا الله وأنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً ، فتسبب عن ذلك أنه لا نصرة إلا بالأعمال رحم الله بالتيسير لها ثم رحم بقبولها ، فلذلك قال : ( فمن ثقلت موازينه ) أي بالأعمال المقبولة ، ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزاناً يعرف أنه لا يصلح له غيره ، وذلك أدل علىالقدرة ) فأولئك ) أي خاصة ، ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد الدلالة(5/222)
صفحة رقم 223
على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد ) هم المفلحون ( لأنهم المؤمنون الموصوفون ) ومن خفت موازينه ( لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان ) فأولئك ( خاصة ) الذين خسروا أنفسهم ( لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال ؛ ثم علل ذلك أو بينه بقوله : ( في جهنم خالدون ( وهي دار لا ينفك أسيرها ، ولا ينطفىء سعيرها ؛ ثم استأنف قوله : ( تلفح ) أي تغشى بشديد حرها وسمومها ووهجها ) وجوههم النار ( فتحرقها فما ظنك بغيرها ) وهم فيها كالحون ) أي متقلصو الشفاه عن الأسنان مع عبوسة الوحوه وتجعدها وتقطبها شغل من هو ممتلىء الباطن كراهية لما دهمه من شدة المعاناة وعظيم المقاساة في دار التجهم ، كما ترى الرؤس المشوية ، ولا يناقض نفي التساؤل هنا إثباته في غيره لأنه في غير تناصر بل في التلاوم والتعاتب والتخاصم على أن المقامات في ذلك اليوم طويلة وكثيرة ، فالمقالات والأحوال لأجل ذلك متباينة وكثيرة ، وسيأتي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سورة الصافات نحو ذلك .
المؤمنون : ( 105 - 110 ) ألم تكن آياتي. .. . .
) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ( ( )
ولما جرت العادة بأن المعذب بالفعل يضم إليه القيل ، أجيب من قد يسأل عن ذلك بقوله : ( ألم ) أي يقال لهم في تأنيبهم وتوبيخهم : ألم ) تكن آياتي ( التي انتهى عظمها إلى أعلى المراتب بإضافتها إليّ .
ولما كان مجرد ذكرها كافياً في الإيمان ، نبه على ذلك بالبناء للمفعول : ( تتلى عليكم ) أي تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئاً فشيئاً .
ولما كانت سبباً للإيمان فجعلوها سبباً للكفران ، قال : ( فكنتم ) أي كوناً أنتم عريقون فيه ) بها تكذبون ( وقدم الظرف للإعلام بمبالغتهم في التكذيب ؛ ثم استأنف جوابهم بقوله : ( قالوا ربنا ( أيها المسبغ علينا نعمه ) غلبت علينا شقوتنا ) أي أهواؤنا التي قادتنا إلى سوء الأعمال اليت كانت سبباً ظاهراً للشقاوة .
ولما كان التقدير : فكنا معها كالمأسورين ، تؤزنا إليها الشياطين أزاً ، عطف عليه قوله ) وكنا ( اي بما جلبنا عليه ) قوماً ضالين ( في ذلك عن الهدى ، أقوياء في موجبات الشقوة ، فكان سبباً للضلال عن طريق السعادة .
ولما تضمن هذا الإقرار الاعتذار ، وكان ذلك ربما شوغ الخلاص ، وصلوا به(5/223)
صفحة رقم 224
قولهم : ( ربنا ( يا من عودنا بالإحسان ) أخرجنا منها ( اي النار تفضلاً منك على عادة فضلك ، وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك ) فإن عدنا ( غلىمثل تلك الضلالات ) فإنا ظالمون ( فاستوئنف جوابهم بأن ) قال ( لهم كما يقال للكلبك ) اخسئووا ) أي انزجروا زجر الكلب وانطردوا عن مخاطبيت ساكتين سكوت هوان ) فيها ) أي النار ) ولا تكلمون ( اصلاً ، فإنكم لستم أهلاً لمخاطبتي ، لأنكم لم تزالوا متصفين بالظلم ، ومنه سؤالكم هذا المفهم لأن اتصافكم به لا يكون إلا على تقدير عودكم بعد إخراجكم .
ولما كانت الشماتة أسر السرور للشامت وأخزى الخزي للمشموت به ، علل ذلك بقوله : ( إنه كان ) أي كناً ثابتاً ) فريق ) أي ناس استضعفتموهم فهان عليكم فراقهم لكم وفراكم لهم وظننتم أنكم تفرقون شملهم ) من عبادي ) أي الذين هم أهل للإضافة إلى جنابي لخلوصهم عن الأهواء ) يقولون ( مع الاستمرار : ( ربنا ( أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق ) آمنا ) أي أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل لوجوب ذلك علينا لأمرك لنا به .
ولما كان عظم المقام موجباً لتقصير العابد ، وكان الاعتراف بالتقصير جابراً له قالوا : ( فاغفر لنا ( اي استر إيماننا عيوبنا التي كان تقصيرنا بها ) وارحمنا ( اي افعل بنا فعل الراحم من الخير الذي هو على صورة الحنو والشفقة والعطف .
ولما كان التقدير : فأنت خير الغافرين ، فإنك إذا سترت ذنباً أنسيته لكل أحد حتى للحفظة ، عطف عليه قوله : ( وأنت خير الراحمين ( لأنك تخلص مَنْ رحمته من كل شقاء وهوان ، بإخلاص الإيمان ، والخلاص من كل كفران .
ولما تسبب عن إيمان هؤلاء زيادة كفران أولئك قال : ( فاتخذتموهم سخرياً ) أي موضعاً للهزء والتلهي والخدمة لكم ، قال الشهاب السمين في إعرابه : والسخرة - بالضم : الاستخدام ، وسخريا - بالضم منها والسخر بدون هاء - الهزء والمكسور منه يعني على القراءتين وفي النسبة دلالة على زيادة قوة في الفعل كالخصوصية والعبودية ) حتى أنسوكم ) أي لأنهم كانوا السبب في ذلك بتشاغلكم بالاستهزاء بهم واستبعادهم ) ذكري ) أي أن تذكروني فتخافوني بإقبالكم بكليتكم على ذلك منهم .
ولما كان التقدير : فتركتموه فلم تراقبوني في أوليائي ، عطف عليه قوله : ( وكنتم ) أي بأخلاق هي كالجبلة ) منهم ( اي خاصة ) تضحكون ( كأنهم لما صرفوا قواهم إلى الاستهزاء بهم عد ضحكهم من غيرهم عدماً .(5/224)
صفحة رقم 225
المؤمنون : ( 111 - 113 ) إني جزيتهم اليوم. .. . .
) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ ( ( )
ولما تشوف النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم ، قال : ( إني جزيتهم ) أي مقابلة على عملكم ) اليوم بما صبروا ( اي على عبادتي ، ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم كما كما شغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم ، فوزَهم دونكم ، وهو معنى قوله : ( أنهم هم ) أي خاصة ) الفائزون ( اي الناجون الظافرون بالخير بعد الإشراف على الهلكة ، وغير العبارة لإفادة الاختصاص والوضوح والرسوخ ، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف .
ولما كان الفائز - وهو الظافر - من لم يحصل له بؤس في ذلك الأمر الذي فاز به ، وكان قد أشار سبحانه بحرف الغاية وما شاكله إلى أنه مد لأهل الشقاء في الدنيا في الأعمار والأرزاق حتى استهانوا بعبادة السعداء ، فكان ربما قيل : إن أعداءهم فازوا بالاستهزاء بهم والرفعة عليهم في حال الدنيا ، وكان سبحانه قد أسلف ما يرد ذلك من الإخبار بأنه خلدهم في النار وأعرض عنهم وزجرهم عن كلامه ، وكان أنعم أهل الدنيا إذا غمس في النار غمسة ثم سئل عن نعيمة قال : ما رايت نعيماً قط ، فكان ذلك مجزاً لتقريع الأشقياء بسبب تضيع أيامهم وتنديمهم عليها .
تشوف السامع إلى أنه هل يسألهم عن تنعيمه لهم في الدنيا الذي كان جديراً منهم بالشكر فقابلوه بالكفر والاستهزاء بأوليائه ؟ فأجاب تشوفه ذلك مجهلاً لهم ومندماً ومنبهاً على الجواب أن فوزهم في الدنيا - لقلته التي هي أحقر من قطرة في جنب بحر - عدم ، بقوله : ( قال ( تاسيفاً على ما أضاعوا من عبادة يسيرة تؤرثهم سعادة لا انقضاء لها وارتكبوا من لذة قليلة أعقبتهم بؤساً لا آخر له - هذا على قراءة الجماعة ، وبين سبحانه بقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي أن القول بواسطة بعض عبادة الذين أقامهم لتعذيبهم إعارضاً عنهم أردنا أي لهؤلاء الذين ) ولا تكلمون ( فقال : ( قل ( اي يا من أقمناه للانتقام ممن أردنا أي لهؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا على ما يرون من قصر مدتها ولعبها بأهلها فكفروا بنا واستهزؤوا بعبادنا : ( كم لبثتم في الأرض ( على تلك الحال التي كنتم تعدونها فوزاً ) عدد سنين ( أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون ، ولعله عبر بما منه الإسنات الذي معناه القحط إشارة إلى أن أيام الدنيا ضيقة حرجة وإن كان فيها سعة ، ولا سيما للكفرة بكفرهم وخبثهم ومكرهم الذي جرهم إلى أضيق الضيق وأسوأ العيش ) قالوا ( استقصاراً له في حنب ما رأوا من العذاب واستنقاذاً لأنفسهم ظناً أ ، مدة لبثهم في النار تكون بمقدار مكثهم في الدنيا : ( لبثنا يوماً ( ولعلهم ذكروا العامل تلذذاً بطول الخطاب ، (5/225)
صفحة رقم 226
أو تصريحاً بالمراد دفعاً للبس والارتياب ، ثم زادوا في التقليل فقالوا : ( أبو بعض يوم ( .
ولما كان المكرة في الدنيا إذا أرادوا تمشية كذبهم قالوا لمن أخبروه فتوقف في خبرهم : سل فلاناً ، إيثاقاً بإخبارهم ، وستراً لعوارهم ، جروا على ذلك تمادياً منهم في الجهل بالعليم القدير في قولهم : ( فاسأل ) أي لتعلم صدق خبرنا أو بسبب ترددنا في العلم بحقيقة الحال لتحرير حقيقة المدة ) العادين ( ويحتمل أيضاً قصد الترقيق عليهم بالإشارة إلى أن ما هم فيه من العذاب شاغل لهم عن أن يتصوروا شيئاً حاضراً محسوساً ، فضلاً عن أن يكون ماضياً ، فضلاً عن أن يكون فكرياً ، فكيف إن كان حساباً .
المؤمنون : ( 114 - 118 ) قال إن لبثتم. .. . .
) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ( ( )
ولما كان ذلك على تقدير تسليمه لا ينفعهم لأن الجزاء بالعذاب على عزمهم على التمادي في العناد على مرّ الآباد ، المصدق منهم بالانهماك في الفساد ، أجابهم إلى قصدهم في عدهم بعبارة صالحة صادقة على مدة لبثهم طال أو قصر ، بقوله على طريق الاستئناف لمن تشوف غلى معرفة جوابهم : ( قال ) أي الله على قراءة الجماعة ، وبينت قراءة حمزة والكسائي أن إسناد القول إليه سبحانه مجاز عن قول بعض عباده العظماء فقال على طريق الأول : ( قل ) أي لهؤلاء الذين وقع الإعراض عنهم ) إن ) أي ما ) لبثتم ( اي في الدنيا ) إلا قليلاً ) أي هو من القلة بحيث بحيث لا يسمى بل هو عدم ) لو أنكم كنتم ( اي كوناً هو كالجبلة ) تعلمون ) أي في عداد من يعلم في ذلك الوقت ، لما آثرثم الفاني على الباقي ، ولأقبلتم على ما ينفعكم ، وتركتم الخلاعة التي لا يرضاها عاقل ، ولا يكون على تقدير الرضا بفعلها إلا بعد الفراغ من المهم ، ولكنكم كنتم في عداد البهائم ، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين الذين هم الوارثون على الشكر على ما منحهم من السرور بإهلاك أعدائهم وإيراثهم ارضهم وديارهم ، مع إعزازهم والبركة في أعمارهم ، بعد إراحتهم منهم في الدنيا ، ثم بإدامة سعادتهم في الآخرة وشقاوة أعدائهم .
ولما كان حالهم في ظنهم أن لا بعث ، حتى اشتغلوا بالفرح ، والبطر و المرح ، والاستهزاء بأهل الله ، حال من يظن العبث على الله الملك الحق المبين ، سبب عن ذلك عطفاً على قوله ) فاتخذتموه سخرياً ( إنكاره عليهم في قوله : ( أفحسبتم ( ويجوز أن(5/226)
صفحة رقم 227
يكون معطوفاً على مقدر نحو : أحسبتم أنا نهملكم فلا ننصف مظلومكم من ظالمكم ، فحسبتم ) أنما خلقناكم ) أي على ما لنا من العظمة ) عبثاً ) أي عابثين أو للعبث منا أو منكم ، لا لحكمة إظهار العدل والفضل ، حتى اشغلتم بظلم أنفسكم وغيركم ؛ قال أبو حيان : والعبث : اللب الخالي عن فائدة .
) وأنكم ) أي وحسبتم أنكم ) إلينا ) أي خاصة ) لا ترجعون ( بوجه من الوجوه لإظهار القدرة والعظمة في الفصل ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو يعلى الموصلي في الجزء الرابع والعشرين من مسنده والبغوي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رقى رجلاً مصاباً بهذه الآية إلى آخر السورة في أذنيه فبرأ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال ) وفي سندهما ابن لهيعة .
قال ابن كثير : وروى أبو نعيم عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث عن أبيه رضي الله عنه ، قال : بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا ) أفحسبتم ( - الآية ، قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا .
ولما كان التقدير : ليس الأمر كما حسبتم ، علل ذلك بقوله : ( فتعالى الله ) أي علا الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن البعث ؛ ثم وصفه بما ينافي العبث فقال : ( الملك ) أي المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة ، وحفظاً ورعاية .
ولما كان بعض ملوك الدنيا قد يفعل ما ينافي شيم الملوك من البعث بما فيه من الباطل ، أتبع ذلك بصفة تنزهه عنه فقال : ( الحق ) أي الذي لا تطرق للباطل إليه في شيء من ذاته ولا صفاته ، فلا زوال له ولا لملكه فأنّى يأتيه العبث .
ولما كان الحق من حيث هو قد يكون له ثان .
نفى ذلك في حقه تعالى بقوله : ( لا إله إلا هو ( فلا يوجد له نظير أصلاً في ذات ولا صفة ، ومن يكون كذلك يكون حائزاً لجميع أوصاف الكمال ، وخلال الجلال والجمال ، متعالياً عن سمات النقص ، والعبث من أدنى صفات النقص ، لخلوه عن الحكمة التي هي أساس الكمال ؛ ثم زاد في التعيين والتأكيد للتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره فقال : ( رب العرش ) أي السرير المحيط بجميع الكائنات ، العالي عليها علواً لا يدانيه شيء ؛ ثم وصف العرش لنه في سياق الحكم بالعدل والتنزه عن العبث بخلاف سياق براءة والنمل فإنه للقهر والجبروت بقوله : ( الكريم ( اي الذي تنزل منه الخيرات الحاصلة للعباد ، مع شرف جوهره ، (5/227)
صفحة رقم 228
على رتبته ، ومدحه ابلغ مدح لصاحبه ، والكريم من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها وتنزه عن كل دناءة ؛ قال القزاز : وأصل الكرم في اللغة الفضل والفعة .
ولما كان التقدير : فمن دعا الله وحده فأولئك هم المفلحون الوارثون في الدارين ، عطف عليه قوله : ( ومن يدع مع الله ( اي الملك الذي كفوء له لإحاطته بجميع صفات الكمال ) إلهاً ( ولما كانوا لتعنتهم ينسبون الداعي له سبحانه باسمين أو أكثر إلى الشرك ، قيد بقوله : ( آخر ( ثم أيقظ من سنة الغفلة ، ونبه على الاجتهاد والنظر في أيام المهملة ، بقول لا أعدل منه ولا أنصف فقال : ( لا برهان له ( ولما كان المراد ما يسمى برهاناً ولو على أدنى الوجوه الكافية ، عبر بالباء سلوكاً لغاية الإنصاف دون ( على ) المفهمة للاستعلاء بغاية البيان فقال : ( به ) أي بسبب دعائه فإنه إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد ، بل وجد البراهين كلها قائمة على نفي ذلك ، داعية إلى الفلاح باعتقاد التوحيد والصلاح ، هذا المراد ، لا أنه يجوز أن يقوم على شيء غيره برهان ) فإنما حسابه ) أي جزاؤه الذي لا تمكن زيادته ولا نقصه ) عند ربه ( الذي رباه ، ولم يربه أحد سواه ، وغمره بالإحسان ، ولم يحسن إليه أحد غيره ، الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته منه نفسه ، فلا يخفى عليه شيء من أمره .
ولما أفهم كون حسابه عند هذا المحسن أحد أمرين : إما الصفح بدوام الإحسان ، وإما الخسران بسبب الكفران ، قال على طريق الجواب لمن يسأل عن ذلك : ( إنه لا يفلح ( ووضع ) الكافرون ( موضع ضميره تنبيهاً على كفره وتعميماً للحكم ، فصار أول السورة وآخرها مفهماً لأن الفلاح مختص به امؤمنون .
ولما كان الأمر كذلك ، أمر سبحانه نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالاجتهاد في إنقاذ عباده حتى بالدعاء لله في إصلاحهم ليكون الختم بالرحمة للمؤمنين ، كما كان الافتتاح بفلاحهم ، فقال عاطفاً على قوله ) ادفع بالتي هي أحسن ( فإنه لا إحسان أحسن من الغفران ، أو على معنى ) قال كم لبثتم ( الذي بينته قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي بالأمر : ( وقل ( ، أو يكون التقدير : فأخلص العبادة له ) وقل ( لأجل أن أحداً لا يقدره حق قدره : ( رب ( أيها المحسن إليّ ) اغفر وارحم ) أي أكثر من تعليق هاتين الصفتين في امتي لتكثرها ، فإن في ذلك شرفاً لي ولهم ، فأنت خير الغافرين ) وأنت خير الراحمين ( فَمنْ رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة ، فكان من المؤمنين ، فكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن ، وخيبة كل كافر ، نسأل الله تعالى أن يكون لنا أرحم راحم وخير غافر ، إنه المتولي للسرائر ، والمرجو لإصلاح الضمائر - آمين .
.. .. .(5/228)
صفحة رقم 229
سورة النور
النور : ( 1 - 2 ) سورة أنزلناها وفرضناها. .. . .
) سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ( )
مقصودها مدلول اسمها المودع قلبها المراد منه أنه تعالى شامل العلم ، اللازم منه تمام القدرة ، اللازم منه إثبات الأمور على غاية الحكمة ، اللازم منه تأكيد الشرف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، اللازم منه شرف من اختاره لصحبته على منازل قربهم منه واختصاصهم به ، اللازم منه غاية النزاهة والشرف والطهارة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي مات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو عنها راض ، وماتت هي رضي الله عنها صالحة محسنة ، وهذا هو المقصود بالذات ولكن إثباته محتاج إلى تلك المقدمات ) بسم الله ( الذي تمت كلمته فبهرت قدرته ) الرحمن ( الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته ) الرحيم ( الذي شرف من اختاره بخدمته .
لما تقدم في التي قبلها تحريم الزنى والحث على الصيانة ، وختم تلك الآية بذكر الجنة المتضمن للبعث ، استدل عليه وذكر ما يتبعه من تهديد وعمل إلى أن فرغت السورة وأخبر في آخرها بتبكيت المعاندين يوم الندم بقوله ) ) ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ( ) [ المؤمنون : 105 ] وبقوله ) ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً ( ) [ المؤمنون : 115 ] كل ذلك رحمة منه لخلقه ليرجع منهم من قضى بسعادته ، ثم ختم بقوله ) ) وأنت خير الراحمين ( ) [ المؤمنون : 118 ] فابتدأ سبحانه هذه السورة بأنه منَّ على المخاطبين ببيان ما خلقوا له من الأحكام لنهم لم يخلقوا سدى ، بل لتكاليف تعبدهم بها ترفع التنازع وتحسم مادة الشر ، فتوجب الرحمة والعطف بسلامة الصدر بما فيهم من الجنسية ، فقال مخبراً عن مبتدإ تقديره : هذه ) سورة ) أي عظيمة ؛ ثم رغب في امثتال(5/229)
صفحة رقم 230
ما فيها مبيناً أن تنويهاً للتعظيم بقوله : ( أنزلناها ) أي بما لنا م نالعظمة وتمام العلم والقدرة ) وفرضناها ) أي قررناها وقدرناها وأكثرنا فيها من الفروض وأكدناها ) وأنزلنا فيها ( بشمول علمنا ) آيات ( من الحدود والحكام والمواعظ والأمثال وغيرها ، مبرهناً عليها ) بينات ( لا إشكال فيها رحمة منا لكم ، فمن قبلها دخل في دعوة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) التي لقناه إياها في آخر تلك فرحمه خير الراحمين ، ومن أباها ضل فدخل في التبكيت بقولنا
77 ( ) ألم تكن آياتي تتلى عليكم ( ) 7
[ المؤمنون : 105 ] ونحوه ، وذلك معى قوله : ( لعلكم تذكرون ) أي لتكونوا - إذا تأملتموها مع ما قبلها من الآيات المرققة والقصص المحذرة - على رجاء - عند من لا يعلم العواقب - من أن تتذكروا واو نوعاً من التذكر - كما أشار إليه الإدغام - بما ترون فيها من الحكم أن الذي نصبها لكم وفصلها إلى ما ترون لا يترككم سدى ، فتقبلوا على جميع أوامره ، وتنتهوا عن زواجره ، ليغفر لكم ما قصرتم فيه من طاعته ، ويرحمكم بتنويل ما لا وصول لكم إليه إلا برحمته ، وتتذكروا أيضاً بما يبين لكم من الأمور ، ويكشف عنه الغطاء من الأحكام التي اغمت عنها حجب النفوس ، وسترتها ظلمات الأهوية - ما جبل عليه الآدميون ، فتعلموا أن الذي تحبون أن يفعل معكم بحب غيركم أن تفعلوه معه ، والذي تكرهونه من ذلك يكرهه غيركم ، فيكون ذلك حاملاً لكم على النصفة فيثمر الصفاء ، والألفة والوفاء ، فتكونوا من المؤمنين المفلحين الوارثين الداخلين في دعوة البشير النذير بالرحمة .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما قال تعالى
77 ( ) والذين هم لفروجهم حافظون ( ) 7
[ المؤمنون : 5 ] ثم قال تعالى
77 ( ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( ) 7
[ المؤمنون : 7 ] استدعى الكلام بيان حكم العادي في ذلك ، ولم يبين فيها فأوضحه في سورة النور فقال تعالى ) الزانية والزاني ( - الآية ، ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف وانجرّ مع ذلك الإخبار بقصة الإفك تحذيراً للمؤمنين من زلل الألسنة رجماً بالغيب ) تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ( واتبع ذلك بعد بوعيد محبّي شياع الفاحشة ، في المؤمنين بقوله تعالى
77 ( ) إن الذين يرمنو المحصنات الغافلات المؤمنات ( ) 7
[ النور : 23 ] الآيات ، ثم بالتحذيرمن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان المشروع ، ثم بالأمر بغض الأبصار للرجال والنساء ونهى النساء عن إبداء الزينة إلا لمن سمى الله سبحانه في الآية ، وتكررت هذه المقاصد في هذه السورة غلى ذكر حكم العورات الثلاث ، ودخول بيوت الأقارب وذي الرحام ، وكل هذا مما تبرأ ذمة المؤمن بالتزام ماأمر الله فيه من ذلك والوقوف عندما حده تعالى من أن يكون من العادين المذمومين في قوله تعالى
77 ( ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( ) 7
[ المؤمنون : 7 ] .
وما تخلل الآي المذكورات(5/230)
صفحة رقم 231
ونسق عليها مما ليس من الحكم المذكور فلاستجرار الآي إياه واستدعائه ، ومظنه استيفاء ذلك وبيان ارتباطه التفسير ، وليس من شرطنا هنا - والله سبحانه وتعالى يوفقنا لفهم كتابه - انتهى .
ولما كان مبنى هذه الدار على الأنساب في التوارث والإمامة والنكاح وغير ذلك ، ومبنى تلك الدار على العمال لقوله تعالى
77 ( ) فلا أنساب بينهم يومئذ ( ) 7
[ المؤمنون : 101 ] وكان قد حث في آخر تلك على الستر والرحمة ، حذر رحمة منه في أول هذه من لبس الأنساب ، وكسب الأعراض وقطع الأسباب ، معلماً أن الستر والرقة ليسا على عمومهما ، بل على ما يحده سبحانه ، فقال مخاطباً للأئمة ومن يقيمونه : ( الزانية ( وهي من فعلت الزنى ، وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً ، وقدمها لأن أثر الزنى يبدو عليها من الحبل وزوال البكارة ، ولنها أصل الفتنة بهتك ماأمرت به من حجاب التستر والتصون والتحذر ) والزاني ( .
ولما كان ( ال ) بمعنى الاسم الموصول ، أدخل الفاء في الخبر فقال : ( فاجلدوا ) أي فاضربوا وإن كان أصله ضرب الجلد بالسوط الذي هو جلد ) كل واحد منهما ( إذا لم يكن محصناً ، بل كان مكلفاً بكراً - بما بينته السنة الشريفة ) مائة جلدة ( فبدأ بحد الزنى المشار إليه أول تلك بقوله تعالى
77 ( ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( ) 7
[ المؤمنون : 7 ] وفي التعبير بلفظ الجلد إشارة غلى أنه يكون مبرحاً بحيث يتجاوز الألم إلى اللحم .
ولما كان هذا ظاهراً في ترك الشفقة عليهما ، صرح به لأن من شأن كل من يجوز على نفسه الوقوع في مثل ذلك أن يرحمهما فقال : ( ولا تأخذكم ) أي على حال من الأحوال ) بهما رأفة ) أي لين ، ولعله عبر بها إعلاماً بأنه لم ينه عن مطلق الرحمة ، لأن الرأفة اشد الرحمة أو أرقها وتكون عن اسباب من المرؤوف به ، وكذا قوله : ( في دين الله ) أي الذي شرعه لكم الملك المحيط بصفات الكمال - إشارة إلى أن الممنوع منه رحمة تؤدي إلى ترك الحد أو شيء منه أو التهاون به أو الرضى عن منتهكه لا رقة القلب المطبوع عليها البشر كما يحكى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه بكى يوم فتحت قبرص وضربت رقاب ناس من أسراها فقيل له : هذا يوم سرور ، فقال : هو كذلك ، ولكني أبكي رحمة لهؤلاء العباد الذين عصوا الله فخذلهم وأمكن منهم .
ولما علم سبحانه ما طبع عليه عباده من رحمة بعضهم لبعض فحث على هذا الحكم بالأمر والنهي ، زاد في التهييج غليه والخص عليه بقوله : ( إن كنتم ) أي بما هو كالجبلة التي لا تنفك ) تؤمنون بالله ) أي الملك الأعظم الذي هو أرحم الراحمين ، فما(5/231)
صفحة رقم 232
شرع ذلك إلا رحمة للناس عموماً وللزانين خصوصاً ، فمن نقص سوطاً فقد ادعى أنه أرحم منه ، ومن زاد سوطاً فقد ظن أنه أحكم وأعظم منه .
ولما ذكر بالإيمان الذي من شرطه التزام الأحكام ، وكان الرجاء غالباً على الإنسان ، أتبعه ما يرهبه فقال : ( واليوم الآخر ( الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي .
ولما كان الخزي والفضيحة أعظم عند بعض الناس من ضرب السيف فضلاً عن ضرب السوط قال : ( وليشهد ( اي يحضر حضوراً تاماً ) عذابهما طائفة ) أي جماعة يمكن إطافتها أي تحلقها وخفوفها بكل منهما ) من المؤمنين ( العريقين إشهاراً لأمرهما نكالاً لهما ، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة .
وفي كل هذا إشارة ظاهرة إلى أن إقامة الحدود والغلظة فيها من رحمته سبحانه المشار إليها بقوله ) ) وأنت خير الراحمين ( ) [ المؤمنون : 118 ] .
النور : ( 3 ) الزاني لا ينكح. .. . .
) الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما كان في ذلك من الغلظة على الزاني لما ارتكب من الحرام المتصف بالعار ما يفهم مجانبته ، صرح به ، مانعاً من نكاح المتصف بالزنى من ذكر وأنثى ، إعلاكاً بأن وطء من اتصف به من رجل أو امرأة لا يكون إلا زنى وإن كان بعقد ، فقال واصلاً له بما قبله : ( الزاني لا ينكح ) أي لا يتزوج ) إلا زانية أو مشركة ( اي المعلوم اتصافه بالزنى مقصور نكاحه على زانية أو مشركة ، وذلك محرم ، فهذا تنفير للمسلمة عن نكاح المتصف بالزنى حيث سويت بالمشركة إن عاشرته ، وذلك يرجع إلى أن من نكحت زانياً فهي زانية أو مشركة ، أي فهي مثله أو شر منه ، ولو اقتصر على ذلك لم يكن منع من أن ينكح العفيف الزانية ، فقال تعالى مانعاً من ذلك : ( والزانية لا ينكحها ( اي لا يتزوجها ) إلا زان أو مشرك ( اي والمعلوم اتصافها بالزنى مقصور نكاحها على زان أو مشرك ، وذلك محرم فهو تنفير للمسلم أن يتزوج من اتصفت بالزنى حيث سوى في ذلك بالمشرك ، وهو يرجع إلى أن من نكح زانية فهو زان أو مشرك ، أي فهو مثلها أو شر منها ، وأسند النكاح في الموضعين إلى الرجل تنبيهاً إلى أن النساء لا حق لهن في مباشرة العقد ؛ ثم صرح بما أفهمه صدر الاية بقوله مبنياً للمفعول لأن ذلك يكفي المؤمن الذي الخطاب معه : ( وحرم ذلك ) أي نكاح الزاني والزانية تحريماً لا مثنوية فيه ) على المؤمنين ( وعلم من هذا أن ذكر المشرك والمشركة لزيادة التنفير ، ثم إن هذا الحكم فسخ كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله موافقة لابن المسيب بقوله تعالى ) ) وانكحو الأيامى منكم ( ) [ النور : 32 ] وهو جمع أيم وهو من لا زوج له من الذكور والإناث ، فأحل للزاني أن ينكح من(5/232)
صفحة رقم 233
شاء ، وللزانية أن تنكح من شاءت ، وقراءة من قرأ ) لا ينكح ( بالنهي راجعة إلى هذا ، لأن الطلب قد يجيء للخبر كما يجيء الخبر للطلب - والله أعلم ؛ قال الشافعي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه في الأم في جزء مترجم بأحكام القرآن وفي جزء بعد كتاب الحج الكبير والصغير والضحايا : ما جاء في نكاح المحدثين ، فذكر الآية وقال : اختلف أهل التفسير في هذه الاية اختلافاً متبايناً ، أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في بغايا من بغايا الجاهلية كانت على منازلهن رايات ، قال في الجزء الآخر : وكن غير محصنات ، فأراد بعض المسلمين نكاحهن فنزلت الآية بتحريم أن ينكحن إلا من أعلن بمثل ما أعلن به أو مشركاً ، وقيل كن زواني مشركات فنزلت لا ينكحن إلا زان مثلهم مشرك ، أو مشرك وإن لم يكن زانياً ، وحرم ذلك على المؤمنين ، وقيل : هي عامة ولكنها نسختن أخبرنا سفيان بن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال : هي منسوخة نسختها
77 ( ) وانكحوا الأيامى منكم ( ) 7
[ النور : 32 ] فهي من أيامي المسلمين ، فهذا كما قال ابن المسيب إن شاء الله ، تعالى ، وعليه دلائل من الكتاب والسنة ، ثم استدل على فساد غير هذا القول بأن الزانية إن كانت مشركة فهي محرمة على زناة المسلمين وغير زناتهم بقوله تعالى
77 ( ) ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمن ( ) 7
[ البقرة : 221 ] ولا خلاف في ذلك ، وإن كانت مسلمة فهي بالإسلام محرمة على جميع المشركين بكل نكاح بقوله تعالى
77 ( ) فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ( ) 7
[ الممتحنة : 10 ] ولا خلاف في ذلك أيضاً ، وبأنه لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أيضاً في تحريم الوثنيات عفائف كن أو زواني على من آمن زانياً كان أو عفيفاً ، وبأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جلد بكراً في الزنى وجلد امرأة ولم نعلمه قال للزاني : هل لك زوجة فتحرم عليك إذا زنيت ، ولا يتزوج هذا الزاني زلا الزانية إلا زانية أو زانياً ، بل قد يروى أن رجلاً شكا من امرأته فجوراً فقال : طلقها ، قال : إني أحبها ، د قال : استمتع بها - يشير إلى ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إن امرأتي لا تمنع يد لامس ، قال : ( طلقها ( ، قال : إني لا أصبر عنها ، قال : ( فأمسكها ( ورواه البيهقي والطبراني من حديث جابر رضي الله عنه ، وقال شيخنا ابن حجر : إنه حديث حسن صحيح - انتهى .
قال الشافعي : وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل اراد أن ينكح امرأة أحدثت :(5/233)
صفحة رقم 234
انكحها نكاح العفيفة المسلمة - انتهى بالمعنى .
وقال في الجزء الذي بعد الحج : فوحدنا الدلالة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في زانية وزان من ا لمسلمين لم نعلمه حرم على واحد منهما أن ينكح غير زانية ولا زان ، ولا حرم واحداً منهما على زوجه ؛ ثم قال : فالاختيار للرجل أن لا ينكح زانية وللمرأة أن لا نتكح زانياً ، فإن فعلا فليس ذلك بحرام على واحد منهما ، ليست معصية واحد منهما في نفسه تحرم عليه الحلال إذا أتاه ، ثم قال : سواء حد الزاني منهما أو لم يحد ، أو قامت عليه بينة أو اعترف ، لا يحرم زنى واحد منهما ولا زناهما ولا معصية من المعاصي الحلال إلا أن يختلف ديناهما بشرك وإيمان - انتهى .
وقد علم أنه لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية اليامى فقط ، بل بما انضم إليها من الإجماع وغيره من الايات والإحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقناً كدلالة الخاص على ما تناوله ، فلا يقال : إن الشافعي رحمه الله خالف أصله في أن الخاص لا ينسج بالعام ، لأن ما تناوله الخاص متيقن ، وما تناوله العام ظاهرة مظنون ، وكان هذا الحكم - وهو الحرمة في أول الإسلام بعد الهجرة - لئلا يغلب حال المفسد على المصلح فيختل بعض الأمر كما أشير إليه في البقرة
77 ( ) ولا تنكحوا المشركات ( ) 7
[ البقرة : 221 ] وفي المائدة عند
77 ( ) ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ( ) 7
[ المائدة : 5 ] وهو من وادي قوله :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل خليل بالمخالل يقتدي
والجنسية علة الضم ، واولمشاكلة سبب المواصلة ، والمخالفة توجب المباعدة وتحرم المؤالفة ، وقد روى أبو دتود في الأدب والترميذي في الزهد - وقال : حسن غريب - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) وروى الإمام أبو يعلي الموصلي في مسنده قال : حدثنا يحيى بن معين حدثنا سعيد بن الحكم حدثنا يحيى بن أيوب حدثني يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : كانت امرأة بمكة مزاحة ، يعني فهاجرت إلى المدينة الشريفة ، فنزلت على امرأة شبه لها ، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت صدق حبي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) قال : ولا أعلم إلا قال في الحديث : ولا نعرف تلك المرأة ، وسيأتي ) والطيبات(5/234)
صفحة رقم 235
للطيبين ( تخريج ( الأرواح جنود مجندة ) وقال الإمام أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتاب المجالسة : حدثنا أحمد بن على الخزاز حدثنا مصعب بن عبدالله عن أبي غزية الأنصاري قال : قال الشعبي : يقال : إن لله ملكاً موكلاً بجمع الأشكال بعضها إلى بعض - انتهى .
وعزاه شيخنا الحافظ اب الفضل بن حجر في تخريج أحاديث مسند الفردوس إلى أنس رضي الله عنه وقال : بتأليف الأشكال .
ويروى أن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه خطب أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من مقدمه عليهم فقال : يا أهل الكوفة ، قد علمنا شراركم من خياركم ، فقالوا : كيف وما لك إلا ثلاثة أيام ؟ فقال : كان معنا شرار وخيار ، فانضم خيارنا إلى خياركم ، وشرارنا إلى شراركم ، فلما تقررت الأحكام ، وأذعن الخاص والعام ، وضرب الدين بجرانه ، ولم يخش وهي شيء من بنيانه ، نسخت الحرمة ، وبقيت الكراهة أو خلاف الأولى - والله الموفق .
وهذا كله توطئة لبراءة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما يأتي إضاحه عنه ) والطيبات للطيبين ( لأنها قرينة خير العالمين وأتقاهم وأعفهم ، ولأن كلاًّ منها ومن صفوان رضي اله عنهما بعيد عما رمى به شهير بضده ، وإليه الإشارة ( بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرا ( وفي رواية ) ما علمت عليه من سوء قط ، ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ( وبقول عائشة رضي الله عنها عن صفان رضي الله عنه : إنه قتل شهيداً في سبيل الله .
وهذا سوى الآيات المصرحة والأعلام المفصحة ، فهو ) والطيبون ( تلويح قبل بيان ، وتصريح وإشارة بعد عبارة وتوضيح ، ليجتمع في براءة الصديقة رضي الله عنها دليلان عقيلتان شهوديان اكتنفا الدليل النقلي فكانا سوراً عليه ، وحفظاً من تصويب طعن إليه ، وفي ذلك من فخامة أمرها وعظيم قدرها ما لا يقدره حق قدره إلا الذي خصها به .
النور : ( 4 - 11 ) والذين يرمون المحصنات. .. . .
) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ(5/235)
صفحة رقم 236
عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما نفر سبحانه من نكاح من اتصف بالزنى من رجل أو امرأة ، وبدأ - لأن نكاح المرأة للزاني مظنة لزناها - بتنفير الإناث بما يوهم جواز إطلاق الزنى أيضاً لأن زناها أكبر شراً ، من علم زناه ، وذلك بعد أن ابتدأ في حد الزنى بالأنثى أيضاً لأن زناها أكبر شراً ، وأعظم فضيحة وضراً ، عطف على ذلك تحريم القذف بما يوجب تعظيم الرغبة في الستر وصيانة الأعراض وإخفاء الفواحش ، فقال ذاكراً الجمع لأن الحكم بإقامة الحد عليه يفهم إقامة الحد على الواحد من باب الأولى ولا إيهام فيه لأن الجمع إذا قوبل بالجمع أفهم التوزيع : ( والذين يرمون ) أي بالزنى ) المحصنات ( جمع محصنة ، وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة ، والمراد القذف بالزنى بما أرشد إليه السياق سابقاً ولاحقاً ، ذكوراً كان الرامون أو إناثاً بما أفهمه الموصول ، وخص الإناث وإن كان الحكم عاماً للرجال تنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، ولأن الكلام في حقهن اشنع .
ولما كان إقدام المجترىء على القذف مع ما شرطه فيه لدرء الحد إرادة الستر - بعيداً ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم لم يأتوا ) أي إلى الحاكم ) بأربعة شهداء ( ذكور ) فاجلدوهم ( أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم ) ثمانين جلدة ( لكل واحد منهم ، لكل محصنة ، إن لم يكن القاذف اصلاً ، إن كانوا أحراراً ، وحد العبد نصف ذلك لآية النساء
77 ( ) فعليهن نصف ما على المحصنات من ا لعذاب ( ) 7
[ النساء : 25 ] فهذه الآية مخصصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى ولا بين حد الزنى وحد القذف ) ولا تقبلوا لهم ) أي بعد قذفهم على هذا الوجه ) شهادة ) أي شهادة كانت ) أبداً ( للحكم بافترائهم ، ومن ثبت افتراؤه سقط الوثوق بكلامه .
ولما كان التقدير : فإنهم قد افتروا ، عطف عليه تحذيراً من الإقدام عن غير تثبيت : ( وأولئك ) أي الذين تقدم ذمهم بالقذف فسفلت رتبتهم جداً ) هم الفاسقون ) أي المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر .
ولما كان من أصل الشافعي رحمه الله أن الاستثناء المتعقب للجمل المتواصلة المتعاطفة بالواو عائد إلى جميع سواء كانت من جنس أو أكثر إلا إذا منعت قرينة ، أعاد الاستثناء هنا إلى الفسق ورد الشهادة دون الحكم بالجلد ، لأن من تمام التوبة الاستسلام للحد والاستحلال منه ، ولقرينة كونه حق آدمي وهو لا يسقط بالتوبة ، في قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) أي رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره وندموا عليه وعزموا على(5/236)
صفحة رقم 237
أن لا يعودوا كما بين في البقرة في قوله تعالى
77 ( ) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ( ) 7
[ البقرة : 160 ] وأشار إلى أن الجلد لا يسقط بالتوبة بقوله مشيراً بإدخال الجار إلى أن قبولها لا يتوقف على استغراقها الزمان الآتي : ( من بعد ذلك ( اي المر الذي أوجب رد الشهادة وما تسببت عنه وهو الفسق ، وأشار إلى شروط التوبة بقوله : ( وأصلحوا ( اي بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال ، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الطباع .
ولما كان استثناؤهم من رد الشهادة والفسق ، فكان التقدير : فاقبلوا شهادتهم ولا تصفوهم بالفسق ، علله بقوله : ( فإن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) غفور ) أي ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه ) رحيم ) أي يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة .
ولما كان لفظ المحصنات عاماً للزوجات ، وكان لهن حكم غير ما تقدم ، أخرجهن بقوله : ( والذين يرمون ) أي بالزنى ) أزواجهم ) أي المؤمنات الأحرار والإماء والكافرات ) ولم يكن لهم ( بذلك ) شهداء إلا أنفسهم ( وهذا يفهم أن الزوج إذا كان أحد الأربعة كفى ، لكن يرد هذا المفهوم كونه حكاية واقعة لا شهود فيها ، وقوله في الآية قبلها : ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ( فإنه يقتضي كون الشهداء غير الرامي ، ولعله استثناه من الشهداء لأن لعانه يكون بلفظ الشهادة ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يقبل في ذلك على زوجته - قال ابن الرفعة في الكفاية : لأمرين : أحدهما أن ا لزنى تعرض لمحل حق الزوج ، فإن الزاني مستمتع بالمنافع المستحقة له ، فشهادته في صفتها تتضمن إثبات جناية الغير على ما هو مستحق له فلم تسمع ، كما إذا شهد أنه جنى على عبده ، والثاني أن نم شهد بزنى زوجته فنفس شهادته تدل على إظهار العداوة ، لأن زناها يوغر صدرهبتلطيخ فراشه وإدخال العار عليه ةعلى ولده ، وهو أبلغ في العداوة من مؤلم الضرب وفاخش السب ، قال القاضي الحسين : وإلى هذه العلة أشار الشافعي رحمه الله وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب في باب حد قاطع الطريق عن الشيخ أبي حامد .
) فشهادة أحدهم ) أي على من رماها ) أربع شهادات ( من خمس في مقابلة أربعة شهداء ) بالله ) أي مقرونة بهذا الاسم الكريم الأعظم الموجب لاستحضار جميع صفات الجلال والجمال ) إنه لمن الصادقين ) أي فيما قذفها به ) والخامسة أن لعنة الله ) أي ا لملك الأعظم ) عليه ( اي هذا القاذف نفسه ) إن كان من الكاذبين ( فيما رماها به ، ولأجل قطعة بهذه الأيمان الغليظة بصدقه وحكم الله بخالصه انتفى عنه الولد ، فلزم من نفيه الفرقة المؤبدة من غير لفظ لعدم صلاحيتهها أن تكون فراشاً له ، لأن(5/237)
صفحة رقم 238
الولد للفراش ، ولا يصح اللعان إلا عند حاكم ، ولا يخفى ما في هذا من الإبعاد عن القذف بوجوب مزيد الاحتياط ، لما في ذلك من التكرير والاقتران بالاسم الأعظم ، والجمع بين الإثبات وما يتضمن النفي ، والدعاء باللعن المباعد لصفة المؤمن ، فإذا فعل الزوج ذلك سقط عنه العذاب بحد القذف وأوجبه على المقذوفة ، فلذلك قال تعالى : ( ويدرؤا ) أي يدفع ) عنها ) أي المقذوفة ) العذاب ( اي المعهود ، وهو الحد الذي أوجبه عليها ما تقدم من شهادة الزوج ) أن تشهد اربع شهادات ( من خمس ) بالله ( الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى كما تقدم في الزوج ) إنه لمن الكاذبين ( فيما قاله عنها ) والخامسة ( من الشهادات ) أن غضب الله ( الذي له الأمر كله فلا كفوء له ) عليها ( وهو أبلغ من اللعن الذي هو الطرد ، لأنه قد يكون بسبب غير الغضب ، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يعضد الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق ، ولأنها مادة الفساد ، وهاتكة الحجاب ، وخالطه الأنساب ) إن كان ) أي كوناً راسخاً ) من الصادقين ) أي فيما رماها به ؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف ارأته عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشريك بن سحماء رضي الله عنه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( البينة وإلا حداً في ظهرك ) ، قال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي يقول : ( البينة وإلا حداً في ظهرك ) ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد ، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه ) والذين يرمون أزواجهم ( فقرأ حتى بلغ ) إن كان من الصادقين ( فانصرف النبي صلى الله صلى عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ ) ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة ، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم .
فمضت ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء ) ، فجاءت به كذلك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن ) وقد روى البخاري أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر ، وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدة أسباب معاً أو متفرقة .(5/238)
صفحة رقم 239
ولما حرم الله سبحانه بهذه الجمل الأعراض والأنساب ، فصان بذلك الدماء والأموال ، علم أن التقدير : فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين ، لما فعل بكم ذلك ، ولفضح المذنبين ، وأظهر سرائر المستخفين ، ففسد النظام ، وأطبقتم على التهاون بالأحكام ، فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله : ( ولولا فضل الله ) أي بما له من الكرم والجمال ، والاتصاف بصفات الكمال ) عليكم ورحمته ) أي بكم ) وأن الله ) أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ) تواب ( اي رجاع بالعصاة إليه ) حكيم ( يحكم المور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور ، لفضح كل عاص ، ولم يوجب اربعة شهداء ستراً لكم ، ولأمر بعقوبته بما توجيه معصيته ، ففسد نظامكم ، واختل نقضكم وإبراكم ، ونحو ذلك مما لا يبلغ وصفه ، فتذهب النفس فيه كل مذهب ، فهو كما قالوا : رب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به ، ثم علل ما اقتضته ) لولا ( من نحو : ولكنه لم يفعل ذلك إفضالا عليكم ورحمة لكم ، بقوله على وجه التأكيد لما عرف من حال كثير ممن غضب لله ولرسوله من إرادة العقوبة للآفكين بضرب الأعناق ، منبهاً لهم على أن ذلك يجر غلى مفسدة كبيرة : ( إن الذين جاؤوا بالإفك ) أي أسوأ الكذب لأنه القول المصروف عن مدلوله غلى ضده ، المقلوب عن وجهه غلى قفاه ، وعرّف زيادة تبشيع له في هذا المقام ، حتى كأنه لا إفك إلا هو لأنه في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أحق الناس بالمدحة لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم ، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أقفائه ، وترك تسميتها تنزيهاً لها عن هذا المقام ، إبعاداً لمصون جانبها العلي عن هذا المرام ) عصبة ) أي جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون ، فهم لكونهم عصبة يحمى بعضهم لبعض فيشتد أمرهم ، لأن مدار مادة ( عصب ) على الشدة ، وهم مع ذلك ) منكم ) أي ممن يعد عندكم في عداد المسلمين ، فلو فضحهم الله في جميع ما أسروه وأعلنوه ، وأمركم بأن تعاقبوهم بما يستحقون على ذلك ، لفسدت ذات البين ، بحايتهم لأنفسهم وهم كثير ، وتعصّب أودّائهم لهم ، إلا بأمر خارق يعصم به من ذلك كما كشفت عنه التجربة حين خطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي ) حين كادوا يقتتلون لولا أن سكنهم النبي صلى الله عليه سلم ، فالله سبحانه برحمته بكم يمنع من كيدهم ببيان كذبهم ، وبحكمته يستر عليهم ويخفيهم ، اتنحسم مادة مكرهم ، وتنقطع أسباب ضرهم .
ولما كان هذا مقتضياً للاهتمام بشأنهم ، أتبعه قوله ، تحقيراً لأمرهم مخاطباً(5/239)
صفحة رقم 240
للخلص وخصوصاً النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعائشة وأمها وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم : ( لا تحسبوه ) أي الإفك ) شراً لكم ( أيها المؤمنون بأن يصدقه أحد أو تنشأ عنه فتنة ) بل هو خير لكم ( بثبوت البراءة الموجبة للفخر الذي لا يلحق ، بتلاوتها على مر الدهور بألسنة من لا يحصى من العباد ، في أكثر البلاد ، وتسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والصديقين بذلك ، مع الثواب الجزيل ، بالصبر على مرارة هذا القيل ، وثبوت إعجاز القرآن بعد أعجازه بالبلاغة بصدقه في صيانة من أثنى عليها في ذلك الدهر الطويل ، الذي عاشته مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعده غلىأن ماتت رضي الله تعالى عنها أتقى الناس ديانة ، وأظهرهم صيانة ، وأنقاهم عرضاً ، وأطهرهم نفساً ، فهو لسان صدق في الدنيا ، ورفعة منازل في الآخرة إلى غير ذلك من الحكم ، التي رتبها بارىء النسم ، من الفوائد الدينية والأحكام والآداب .
ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له ، علل ذلك بقوله : ( لكل امرىء منهم ) أي الآفكين ) ما ) أي جزاء ما ) اكتسب ( بخوضه فيه ) من الإثم ( الموجب لشقائه ، وصيغة الافتعال من ( كسب ) تستعمل في الذنب إشارة غلى أن الإثم يرتب على ما حصل فيه تصميم وعزم قوي صدفقه العمل بما فيه من الجد والنشاط ، وتجرد في الخير إشارة إبى أن الثواب يكتب بمجرد فعل الخير بل ونيته ) والذي تولى كبره ) أي معظمه بإشاعته والمجاهرة به ) منهم له ( بما يخصه لإمعانه في الأذى ) عذاب عظيم ) أي أعظم من عذاب الباقين ، لأنهم لم يقولوا شيئاً إلا كان عليه مثل وزره من غير أن ينقص من أوزارهنم شيئاَ ، وقصه الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرها شهيرة جداً ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزا بني المصطلق بعد ما أنزلت آية الحجاب ، وكانت معه الصديقة بنت الصديق زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحمل هودج لها ، فافتقدت عقداً لها ليلة فرجعت إلى الموضع الذي تخلت فيه فالتمسته ، فرحل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحمل جمالوها هودجها وهم يظنونها فيه ، فلما رجعت فلم تجد أحداً اضطجعت مكان هودجها رجاء أن يعلموا بها فيرجعوا ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني رضي الله عنه قد عرس من وراء الجيش ، فأصبح في مكانهم ، فلما رآها وكان يراها قبل الحجاب استرجع وأناخ راحلته فوطىء على يدها ، ولم يتكلم بكلمة غير استرجاعه ، فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها ، ثم أقبل بها حتى لحق بالجيش وهم نزول في نصف النهار ، فتكلم أهل الإفك فيهما رضي الله عنهما ، وكان من سمي منهم عبد الله بن أبي المنافق ، وزيد بن رفاعة ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت ، قال عروة بن الزبير : في ناس آخرين لا علم لي بهم غير(5/240)
صفحة رقم 241
أنهم عصبة كما قال تعالى .
وهكذا ذكروا حسان منهم وأنا والله لا أظن به أصلاً وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطى الثقة لأسباب لا تحصى ، كما يعرف ذلك من مارس نقد الأخبار ، وكيف يظن ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واولمدافعة عنه والذم لأعاداءه وقد شهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن جبريل عليه السلام معه ، فأقسم بالله أن الذي أيده بجبريل ما كان ليكله غلى نفسه في مثل هذه الواقعة ، وقد سبقني إلى الذب عنه الحافظ عماد الدين بن كثير الدمشقي رحمه الله وكيف لا ينافح عنه وهو القائل :
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
وهو القائل يمدح عائشة رضي الله عنها ويكذب من نقل عنه ذلك :
حصان رزان ما تزنُّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس ديناً ومنصباً نبي الهدى والمكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما بلغت عني قلته فلا رفعت سوطي إليّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب : وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك وجلد فيه ورووا عن عائشة رضي الله عنها أنها برأته من ذلك - انتهى .
واستمر أهل الإفك في هذا أكثر من شهر ، والله تعالى عالم بما يقولون ، وأن قولهم يكاد يقطع أكباد أحب خلقه إليه ، وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه ، ولكنه سبحانه أراد لناس رفعة الدرجات ، ولآخرين الهلاك ، فيا لله ما لقي النبي صلى عليه وسلم والصديق وآله رضي الله عنهم وكل من أحبهم وهم خير الناس ، والله سبحانه وتعالى يملي للآفكين ويمهلهم ، وكأن الحال لعمري كما قال أبو تمام الطائي في قصيدة :
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وحين سمعت عائشة رضي الله عنها بقول أهل الإفك سقطت مغشياً عليها وأصابتها حمى بنافض ، واستأذنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في إتيان بيت أبيها فأذن لها فسألت أمها عن الخبر ، فأخبرتها فاستعبرت وبكت ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والصديق فسمع حسها فنزل فسال أمها فقالت : بلغها الذي ذكر من شأنها ، ففاضت عيناه ، واستمرت هي رضي الله عنها تبكي حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها ، وساعدتها على البكاء امراءة من أولي الوفاء والمؤاساة والكرم والإيثار ومعالي الشيم : الأنصار رضي الله(5/241)
صفحة رقم 242
عنهم ، فكانت تبكي معها ، وسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن عائشة رضي الله عنها جاريتها بريرة رضي الله عنها فاستعظمت أن يظن في عائشة رضي الله عنها مثل ذلك فقالت : سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وخطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس على المنبر واستعذر ممن تكلم في أهله وما علم عليهم إلا خيراً ، وشهد رسول الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق بصلاح صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأنه ما علم عليه إلا خيراً ، فكاد الناس يقتتلون فسكنهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم دخل بعد أن صلى العصر على عائشة رضي الله عنها وهي تبكي والأنصارية معها فوعظها ، فأجابت وأجادت ، فأنزل الله على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك المجلس فأخذه ما كان يأخذه من البرجاء ، قالت عائشة رضي الله عنها : فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فزعت وما باليت ، قد عرفت أني بريئة ، وأن الله غير ظالمي ، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يأتي الله بيحقيق ما قاله الناس ، قالت : فرفع عنه وإني لأتيبن السرور في وجه وهو يمسح عن جبينه العرق ويقول : ( أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك ) ، فكنت اشد ما كنت غضباً ، فقال لي أبواي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتمه فما أنكرتمه ولا غيرتموه ، وأنزل الله تعالى : ( إن الذين جاؤوا بالإفك ( العشر الآيات كلها ، قالت عائشة رضي الله عنها : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول : سبحان الله والذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط .
قالت : ثم قتل بعد ذلك شهيداً في سبيل الله .
النور : ( 12 - 16 ) لولا إذ سمعتموه. .. . .
) لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ( )
ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقابهم ، وكان من المؤمنين من سمعه فسكت ، وفيهم من سمعه فتحدث به متعجباً من قائله ، أو مستثيبتاً في أمره ، ومنهم من كذبه ، أتبعه سبحانه بعتابهم ، في أسلوب خطابهم ، مثنياً على من كذبه ، فقال مستأنفاً محرضاً : ( لولا ) أي هلا ولم لا ) إذ سمعتموه ( أيها المدعون للإيمان .
ولما كان هذا الإفك قد(5/242)
صفحة رقم 243
تمالأ عليه رجال ونساء قال : ( ظن المؤمنون ) أي منكم ) والمؤمنات ( وكان الأصل : ظننتم ، ولكنه التفت غلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ ، وصرح بالنساء ، ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة : ( بأنفسهم ( حقيقة ) خيراً ( وهم دون من كذب عليها ، فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن بالناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم ، لأن المؤمنين كالجسد الواحد ، أو ظنوا ما يظن بالرجل لو خلا بأمه ، وبالمرأة إذا خلت بابنها ، فإن نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمهات المؤمنين ) وقالوا هذا إفك ) أي كذب عظيم خلف منكب على وجهه ) مبين ) أي واضح في نفسه ، موضح لغيره ، وبيانه وظهوره أن المرتاب يكاد يقول : خذوني فهو يسعى في التستر جهده ، فإتيان صفوان بعائشة رضي الله عنها راكبة على جملة داخلاً به الجيش في نحر الظهيرة والناس كلهم يشاهدون ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهرهم ينزل عليه الوحي ، إدلالاً بحن عمله ، غافلاً عما يظن به أهل الريب ، أدل دليل على البراءة وكذب القاذفين ، ولو كان هناك أدنى ريبة لجاء كل منهما وحده على وجه من التستر والذعر ، تعرف به خيانته ، فالأمور تذاق ، ولا يظن الإنسان بالناس غلا ما في نفسه ، ولقد عمل أبو أيب الأنصاري وصاحبته رضي الله عنهما بما أشارت إليه هذه الآية ؛ قال ابن اسحاق : حدثني أبي اسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها ؟ قال : بلى وذلك كذب ، أكنت يا أم أيوب فاعلة ؟ قالت لا والله ما كنت لأفعله ، فنزلت الآية على وفق قوله رضي الله عنه .
ثم علل سبحانه بيان كذب الآفكين بأن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملقناً لمن ندبه غلى ظن الخير : ( لولا ) أي هلا ولم لا ) جاؤوا ) أي المفترون له أولاً ) عليه ( إن كانوا صادقين ) بأربعة شهداء ( كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها .
ولما تسبب عن كونهم لم يأتوا بالشهداء كذبهم قال ) فإذا ( اي فحين ) لم يأتوا بالشهداء ( اي الموصوفين ) فأولئك ( اي البعداء من الصواب ) عند الله ) أي في حكم الملك الأعلى ، بل وفي هذه الواقعة بخصوصها في علمه ) هم الكاذبون ( اي الكذب العظيم ظاهراً وباطناً .
ولما بين لهم بإقامة الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام أنهم استحقوا الملام ، وكان ذلك مرغباً لأهل التقوى ، بين أنهم استحقوا بالتقصير في الإنكار عموم الانتقام في سياق مبشر بالعفو ، فقال عاطفاً على ) ولولا ( الماضية : ( ولولا فضل الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) عليكم ورحمته ) أي معاملته لكم بمزيد الأنعام ، الناظر(5/243)
صفحة رقم 244
إلى الفضل والإكرام ، اللازم للرحمة ) في الدنيا ( بقبول التوبة والمعالمة بالحلم ) والآخرة ( بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم ) لمسكم ) أي عاجلاً عموماً ) في ما أفضتم ) أي اندفعتم على أي وجه كان ) فيه ( بعضكم حقيقة ، وبعضكم مجازاً بعدم الإنكار ) عذاب عظيم ) أي يحتقر معه اللوم والجلد ، بأن يهلك فيتصل به عذاب الآخرة ؛ ثم بين وقت حلوله وزمان تعجيله بقوله : ( إذ ) أي مسكم حين ) تلقونه ) أي تجتهدون في تلقي أي قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه ) بألسنتكم ( بإشاعة البعض وسؤال آخرين وسكوت آخرين ) وتقولون ( وقوله : ( بأفواهكم ( تصوير لمزيد قبحه ، وإشارة إلى أنه قول لا حقيقة له ، فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل ؛ وأكد هذا المعنى بقوله : ( ما ليس لكم به علم ( اي بوجه من الوجوه ، وتنكيره للتحقير ) وتحسبونه ( بدليل سكوتكم عن إنكاره ) هيناً وهو ( اي والحال أنه ) عند الله ) أي الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته ) عظيم ) أي في حد ذاته ولو كان في غير أم المؤمنين رضي الله عنها ، فكيف وهو في جنابها المصون ، وهي زوجة خاتم الأنبياء وإمام المرسلين عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم .
ولما بين فحشه وشناعته ، وقبحه وفظاعته ، عطف على التأديب الأول في قوله ) لولا إذا سمعتموه ( تأديباً فقال : ( ولولا إذ ( اي وهلا حين ) سمعتموه قلتم ) أي حين سماع من غير توقف ولا تلعثم ، وفصل بين آلة التحضيض والقول المحضض عليه بالظرف لأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها ، وأنها لا انفكاك لها عنه ، ولأن ذكره منبه على الاهتمام به لوجوب المابدرة غلى المحضض عليه : ( ما يكون ( اي ما ينبغي وما يصح ) لنا لأن نتكلم ( حقيقة بالنطق ولا مجازاً بالسكوت عن الإنكار ) بهذا ( اي بمثله في حق أدنى الناس فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق ، تعجباً من أن يخطر بالبال ، في حال من الأحوال .
ولما كان تنزيه الله تعالى في مثل ذلك وإن كان للتعجب إشارة إلى تنزيه المقام الذي وقع فيه التعجب تنزيها عظيماً ، حسن أن يوصل بذلك قوله تعليلاً للتعجب والنفي : ( هذا بهتان ) أي كذب يبهت من يواجه به ، ويحيره لشدة ما يفعل في القوى الباطنة ، لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه ابعد الناس منه ؛ ثم هوله بقوله : ( عظيم ( والمراد أن الذي ينبغي للإنسان أولاً أن لا يظن بإخوانه المؤمنين ولا يسمع فيهم إلا خيراً ، فإن غلبه الشيطان وارتسم شيء من ذلك في ذهنه فلا يتكلم به ، ويبادر إلى تكذيبه .(5/244)
صفحة رقم 245
النور : ( 17 - 19 ) يعظكم الله أن. .. . .
) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( ( )
ولما كان هذا كله وعظاً لهم واستصلاحاً ، ترجمه بقوله : ( يعظكم الله ) أي يرفق قلوبكم الذي له الكمال كله فيمهل بحمله ، ولا يمهل بحكمته وعلمه ، بالتحذير على وجه الاستعطاف : ( إن ) أي كراهة لأن ) تعودوا لمثله ابداً ) أي ما دمتم أهلاً لسماع هذا القول ؛ ثم عظم هذا الوعظ ، وألهب سامعه بقوله : ( إن كنتم مؤمنين ) أي متصفين بالإيمان راسخين فيه فإنكم لا تعودون ، فإن عدتم فأنتم غير صادقين في دعواكم الاتصاف به ) ويبين الله ) أي بما له من الاتصاف بصفات الجلال والإكرام ) لكم الآيات ) أي العلامات الموضحة للحق والباطل ، من كل أمر ديني أو دنيوي ) والله ) أي المحيط بجميع الكمال ) عليم ( فثقوا بيبانه ) حكيم ( لا يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه وإن دق عليكم فهم ذلك ، فلا تتوقفوا في أمر من أوامره ، واعلموا أنه لم يختر لنبيه عليه الصلاة والسلام إلا الخلص من عباده ، على حسب منازلهم عنده ، وقربهم من قلبه .
ولما كان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب ، أدبهم تأديباً ثالثاً اشد من الأولين ، فقال واعظاً ومقبحاً لحال الخائضين في الإفك ومحذراً ومهدداً : ( إن الذين يحبون ( عبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته غلا محب له ، ولا يحبه غلا بعيد عن الاستقامة ) أن تشيع ( اي تنتشر بالقول أو بالفعل ) الفاحشة ) أي الفعلة الكبيرة القبح ، ويصير لها شيعة يحامون عليها ) في الذين آمنوا ( ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان فكيف بمن تسنم ذرته ، وتبوأ غايته ) لهم عذاب إليم ( ردعاً لهم عن إرادة إشاعة مثل ذلك لما فيه من عظيم الأذى ) في الدنيا ( بالحد وغيره مما ينتقم الله منهم به ) والآخرة ( فإن الله يعلم هل كفر الحد عنهم جميع مرتكبهم أم لا ) والله ) أي المستجمع لصفات الجلال والجمال ) يعلم ) أي له العلم التام ، فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن وما الحكمة في ستره أو إظهاره أو غير ذلك من جميع الأمور ) وأنتم لا تعلمون ) أي ليس لكم علم من أنفسكم فاعلموا بما علمكم الله ، ولا تتجاوزوه تضلوا .
النور : ( 20 - 22 ) ولولا فضل الله. .. . .
) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ(5/245)
صفحة رقم 246
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما ختم بالحكم عليهم بالجهل ، وكان التقدير كما أرشد إليه ما يأتي من العطف على غير معطوف : فلولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعجل هلاك المحبين لشيوع ذلك بعذاب الدنيا ليكون موصولاً بعذاب الآخرة ، عطف عليه قوله مكرراً التذكير بالمنة بترك المعاجلة حاذفاً الجواب ، منبهاً بالتكرير والحذف علىقوة المبالغة وشدة التهويل : ( ولولا فضل الله ( اي الجائز لجميع الجلال والإكرام ) عليكم ورحمته ( بكم ) وأن ) أي ولو لا أن ) الله ) أي الذي له القدرة التامة فسبقت رحمته غضبه ) رؤوف ( بكم في نصب ما يزيل جهلكم بما يحفظ من سرائركم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الحدود ، الزاجرة عن الجهل ، الحاملة على التقوى ، التي هي ثمرة العلم ، فإن الرأفة كما تقدم في الحج وغيرها تقيم المرؤوف به لأنها ألطف الرحمة وأبلغها على أقوم سنن حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو ، وتارة يكون هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة ، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب بما للمرؤوف به من الوصلة بسهولة الانقياد وقوة الاستعداد ) رحيم ( بما يثبت لكم من الدرجات على ما منحكم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية ، والجواب محذوف تقديره : لترككم في ظلمات الجهل تعمهون ، فثارت بينكم الفتن حتى تفانيكم ووصلتم إلى العذاب الدائم بعد الهم اللازم .
ولما أخبرهم بأنه ما أنزل لهم هذا الشرع على لسان هذا الرسول الرؤوف الرحيم إلا رحمة لهم ، بعد أن حذرهم موارد الجهل ، نهاهم عن التمادي فيه في سياق معلم أن الداعي إليه الشيطان العدو ، فقال ساراً لهم بالإقبال عليهم بالنداء : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ) لا تتبعوا ) أي بجهدكم ) خطوات ) أي طريق ) الشيطان ) أي لا تقتدوا به ولا تسلكوا مسالكه التي يحمل على سلوكها بتزيينها في شيء من الأشياء ، وكأنه أشار بصيغة الافتعال إلى العفو عن الهفوات .
ولما كان التقدير : فإنه من يتنكب عن طريقه يأت بالحسنى والمعروف ، عطف عليه قوله : ( من يتبع ( اي بعزم ثابت من غير أن يكون مخطئاً أو ناسياً ؛ وأظهر ولم يضمر لزيادة التنفير فقال : ( خطوات الشيطان ) أي ويقتد به يقع في مهاوي الجهل الناشىء عنها كل شر ) فإنه ) أي الشيطان ) يأمر بالفحشاء ( وهي ما أغرق في القبح(5/246)
صفحة رقم 247
) والمنكر ( وهو ما لم يجوزه الشرع ، فهو أولاً يقصد أعلى الضلال ، فإن لم يصل تنزل إلى أدناه ، وربما درج بغير ذلك ، ومن المعلوم أن من اتبع من هذا سبيله عمل بعمله ، فصار في غاية السفول ، وهذا أشد في التنفير من إعادة الضمير في ) فإنه على من ( والله الموفق .
ولما كان التقدير : فلولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان مع أمره بالقبائح ، عطف عليه قوله : ( ولولا فضل الله ) أي ذي الجلال والإكرام ) عليكم ( اي بتطهير نفوسكم ورفعها عما تعشقه من الدنايا إلى المعالي ) ورحمته ( لكم بإكرامكم ورفعتكم بشرع التوبة المكفرة لما جرّ إليه الجهل من ناقص الأقوال وسفاف الأفعال ) ما زكى ) أي طهر ونما ) منكم ( وأكد الاستغراق بقوله : ( من أحد ( وعم الزمان بقوله : ( أبداً وكن الله ( اي بجلاله وكماله ) يزكي ( اي يطهر وينمي ) من يشاء ( من عباده ، من جميع أدناس نفسه وأمراض قلبه ، وإن كان العباد وأخلاقهم في الانتشار والكثرة بحيث لا يحصيهم غيره ، فلذلك زكى منكم من شاء فصانه عن هذا الإفك ، وخذل من شاء .
ثم ختم الآية بما لا تصح التزكية بدونه فقال : ( والله ( اي الذي له جميع صفات الكمال ) سميع ( اي لجميع أقولهم ) عليم ( بكل ما يخطر في بالهم ، وينشأ عن أحوالهم وأفعالهم ، فهو خبير بمن هو أهل للتزكية ومن ليس بأهل لها ، فاشكروا الله على تزكيته لكم من الخوض في مثل ما خاض فيه غيركم ممن خذله نوعاً من الخذلان ، واصبروا على ذلك منهم ، ولا تقطعوا إحسانكم عنهم ، فإن ذلك يكون زيادة في زكاتكم ، وسبباً لإقبال من علم فيه الخير منهم ، فقبلت توبته ، وغسلت حوبته ، وهذا المراد من قوله : ( ولا يأتل ) أي يحلف مبالغاً في اليمين ) أولو الفضل منكم ( الذين جعلتهم بما آتيتهم من العلم والأخلاق الصالحة أهلاً لبر غيرهم ) والسعة ) أي بما أوسعت عليهم في دنياهم .
ولما كان السياق والسباق واللحاق موضحاً للمراد ، لم يحتج إلى ذكره أداة النفي فقال : ( أن يؤتوا ( ثم ذكر الصفات المقتضية للإحسان فقال : ( أولي القربى ( وعددها بأداة العطف تكثيراً لها وتعظيماُ لأمرها ، وإشارة إلى أن صفة منها كافية في الإحسان ، فكيف إذا اجتمعت فقال سبحانه : ( والمساكين ) أي الذين لا يجدون ما يغنيهم وإن لم تكن لهم قرابة ) والمهاجرين ( لأهلهم وديارهم وأموالهم ) في سبيل الله ) أي الذي عم الخلائق بجوده لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام وإن انتفى عنهم الوصفان الأولان ، فإن هذه الصفات مؤذنة بأنهم ممن زكى الله ، وتعدادها بجعلها علة للعفو - دليل على أن(5/247)
صفحة رقم 248
الزاكي من غير المعصومين قد يزل ، فتدركه الزكاة بالتوبة فيرجع كما كان ، وقد تكون الثلاثة لموصوف واحد لأن سبب نزولها مسطح رضي الله عنه ، فالعطف إذن للتمكن في كل وصف منها .
ولما كان النهي عن ذلك غير صريح في العفو ، وكان التقدير : فلؤتوهم ، عطف عليه مصرحاً بالمقصود قوله : ( وليعفوا ( اي عن زللهم بأن يمحوه ويغطوه بما يسلبونه عليه من أستار الحلم حتى لا يبقى له أثر .
ولما كان المحو لا ينفي التذكر قال : ( وليصفحوا ) أي يعرضوا عنه أصلاً ورأساً ، فلا يخطروه لهم على بال ليثمر ذلك افحسان ، ومنه الصفوح وهو الكريم .
ولما كانت لذة الخطاب تنسي كل عتاب ، أقبل سبحانه بفضله ومنّه وطوله على أولي الفضل ، مرغباً في أن يفعلوا بغيرهم ما يحبون أن يفعل بهم ، مرهباً من أن يشدد عليهم إن شددوا فقال : ( ألا تحبون ( اي يا أولي الفضل ) أن يغفر الله ( اي الملك الأعظم ) لكم ( اي ما قصرتم في حقه ، وسبب نزولها كما في الصحيح منحديث عائشة رضي الله عنها أن أباها رضي الله تعالى عنه كان حلف ما بعد برأ الله عائشة رضي الله عنها أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لكونه خاض من أهل الإفك ؛ وفي تفسير الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما : أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر رضي الله عنهم أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية .
وناهيك بشهادة الله جل جلاله للصديق بأنه من أولي الفضل فيا له من شرف ما أجلاه ومن سؤدد وفخار ما أعلاه ولا سيما وقد صدقه رضي الله عنه بالعفو عمن شنع على ثمرة فؤاده ومهجة كبده ، وهي أنه لا ينقطع النفقة عنه أبداً ، فبا لله من أخلاق ما أبهاها وشمائل ما أطهرها وأزكاها وأشرفها وأسندها .
ولما كان الجواب قطعاً كما أجاب الصديق رضي الله عنه : بلى والله إنا لنحب أن يغفر الله لنا ، وكان كأنه قيل : فاغفروا لمن أساء إليكم ، فالله حكم عدل ، يجازيهم على إساءتهم إليكم إن شاء ، والله عليم شكور ، يشكر لكم ما صنعتم إليهم ، عطف عليه قوله : ( والله ( اي مع قدرته الكاملة وعلمه الشامل ) غفور رحيم ( من صفته ذلك ، إن شاء يغفر لكم ذنوبكم بأن يمحوها فلا يدع لها أثراً ويرحمكم بعد محوها بالفضل عليكم كما فعلتم معهم ، فإن الجزاء من جنس العمل .(5/248)
صفحة رقم 249
النور : ( 23 - 25 ) إن الذين يرمون. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ( )
ولما كان الختم بهذين الوصفين بعد الأمر بالعفو ربما جرّأ على مثل هذه الإساءة ، وصل به مرهباً من الوقوع في مثل ذلك قوله معمماً للحكم : ( إن الذين يرمون ) أي بالفاحشة ) المحصنات ) أي اللائي جعلن أنفسهن نم العفة في مثل الحصن .
ولما كان الهام بالسيىء والمقدم عليه عالماً بما يرمي به منه ، جاعلاً له نصب عينيه ، أكد معنى الإحصان بقوله : ( الغافلات ) أي عن السوء حتى عن مجرد ذكره .
ولما كان وصف الإيمان حاملاً على كل خير ومانعاً ن كل سوء ، نبه على أن الحامل على الوصفين المتقدمين إنما هو التقوى ، وصرف ما لهن من افطنة إلى ما لله عليهن من الحقوق فقال : ( المؤمنات ( .
ولما ثبت بهذه الأوصاف البعد عن السوء ، ذكر جزاء القاذف كفّاً عنه وتحذيراً منه بصيغة المجهول ، لأن المحذور اللعن لا كونه المعين ، وتنبيهاً على وقوع اللعن من كل من يأتي منه فقال : ( لعنوا ) أي أبعدوا عن رحمة الله ، وفعل معهم فعل المبعد من الحد وغيره ) في الدنيا والآخرة ( ثم زاد في تعظيم القذف لمن هذه أوصافها فقال : ( ولهم ) أي في الآخرة ) عذاب عظيم ( وقيد بوصف الإيمان لأن قذف الكافرة وإن كان محرماً ليس فيه هذا المجموع ، وهذا الحكم وإن كان عاماً فهو لأجل الصديقة بالذات وبالقصد الأول وفيما فيه من التشديد الذي قل أن يوجد مثله في القرآن من الإعلام بعلي قدرها ، وجلي أمرها ، في عظيم فخرها ، ما يجل عن الوصف ؛ ثم أتبع ذلك ذكر اليوم الذي يكون فيه أثر ذلك على وجه زاد الأمر عظماً فقال : ( يوم تشهد عليهم ( اي يوم القيامة في ذلك المحجمع العظيم ) ألسنتهم ( إن ترفعوا عن الكذب ) وأيديهم وأرجلهم ( إن أنكرت ألسنتهم كذباً وفجوراً ظناً أن الكذب ينفعها ) بما كانوا يعملون ( من هذا القذف وغيره ؛ ثم زاد في التهويل بقوله : ( يومئذ ) أي إذ تشهد عليهم هذه الجوارح ) يوفيهم الله ) أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة وله الكمال كله ) دينهم ) أي جزاءهم ) الحق ) أي الذي يظهر لكل أحد من أهل ذلك المجمع العظيم أنهم يستحقونه ، فلا يقدر أحد على نوع طعن فيه ) ويعلمون ) أي إذ ذاك ، لانقطاع الأسباب ، ورفع كل حجاب ) أن الله ) أي الذي له العظمة المطلقة ، فلا كفوء له ) هو ) أي وحده ) الحق ( اي الثابت أمره فلا أمر لأحد سواه ، ) المبين ( الذي لا أوضح من شأنه في ألوهيته وعلمه وقدرته وتفرده بجميع صفات الكمال ، وتنزهه عن جميع(5/249)
صفحة رقم 250
سمات النقص ، فيندمون عل ما فعلوا في الدنيا مما يقدح في المراقبة وتجري عليه الغفلة ؛ قال ابن كثير : وأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة لا سيما التي كانت سبب النزول ، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما ، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن ، وفي بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قولان أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم - انتهى .
وقد علم من هذه الآيات وما سبقها من أول السورة وما لحقها غلى آخرها أن الله تعالى ما غلظ في شيء من المعاصي ما غلظ في قصة الإفك ، ولا توعد في شيء ما توعد فيها ، وأكد وبشع ، ووبخ وقرع ، كل ذلك إظهاراً لشرف رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وغضباً له وإعظاماً لحرمته وصوناً لحجابه .
النور : ( 26 - 28 ) الخبيثات للخبيثين والخبيثون. .. . .
) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ( )
ولما تضمن ما ذكر من وصفه تعالى علمه بالخفيات ، أتبعه ما هو كالعلة لآية ) الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ( دليلاًشهودياً على براءة عائشة رضي الله تعالى عنها فقال : ( الخبيثات ) أي من النساء وقدم هذا الوصف لأن كلامهم فيه ، فإذا انتفى ثبت الطيب ) للخابثين ) أي من الرجال .
ولما كان ذلك لا يفهم أن الخبيث مقصور على الخبيثة قال : ( والخبيثون ) أي من الرجال أيضاً ) للخابيثات ) أي من النساء .
ولما أنتج هذا براءتها رضي الله عنما لأنها قرينة أطيب الخلق ، أكده بقوله : ( والطيبات ( اي منهن ) للطيبين ( اي منهم ) والطيبون للطيبات ( بذلك قضى العليم الخبير أن كل شكل ينضم إلى شكله ، ويفعل أفعال مثله ، وهو سبحانه قد اختار لهذا النبي الكريم لكونه أشرف خلقه خلص عباده من الأزواج والأولاد والأصحاب ) ) كنتم خير أمة أخرجت للناس ( ) [ آل عمران : 110 ] ( خيركم قرني ) وكلما ازداد الإنسان منهم من قبله ( صلى الله عليه وسلم ) قرباً ازداد طهارة ، وكفى بهذا البرهان دليلاً على براءة الصديقة رضي الله عنها ، فكيف وقد أنزل الله العظيم في براءتها صريح كلامه القديم ، وحاطه من أوله وآخره بهاتين الآيتين المشيرتين غلى الدليل العادي ، وقد تقدم عند ىية ) الزاني ( ذكر لحديث ( الأرواح جنود مجندة ) وما لاءمه ، لكنه لم يستوعب تخريجه ، وقد خرجه(5/250)
صفحة رقم 251
مسلم في الأدب من صحيحه وابو داود في سننه نم حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .
( وفي رواية عنه رفعها : ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، والأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تنار منها اختلف ( وهذا الحديث روي أيضاً عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعلي ابن أبي طالب وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعمد وعبد الله بن عمرو وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم ، وقد علق البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها بصيغة الجزم ، ووصله في كتاب الأدب المفرد وكذا الإسماعيلي في المستخرج ، وأبو الشيخ في كتاب الأمثال ، وتقدم عزوه إلى أبي يعلى ، ولفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهما ) فما كان في الله ائتلف ، وما كان في غير الله اختلف ( أخرجه أبو الشيخ في الأمثال ، ولفظ حديث ابن مسعود رضي الله عنه ) فإذا التقت تشامّ كما تشامّ الخيل ، فما تعارف منها ائتلف ( - الحديث ) وأما حديث علي رضي الله عنه فرواه الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن الفضل السقطي وأبو عبد الله بن منده في كتاب الروح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال عمر بن ا لخطاب رضي الله عنه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : يا أبا الحسن ربما شهدت وغبنا وربما شهدنا وغبت ، ثلاث أسالك عنهن هل عندك منهن علم ؟ قال علي : وما هن ؟ قال : الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيراً ، والرجل يبغض الرجل ولم يو منه شراً ، فقال علي رضي الله عنه : نعم سمعت رسول صلى الله عليه السلام يقول : ( إن الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ) قال عمر : واحدة ، قال : والرجل يحدث الحديث إذ نسيه فينما هو وما نسيه إذ ذكره ؟ فقال علي رضي الله عنه : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر ، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت فأضاء ، وبينا القلب يتحدث إذ تجللته سحابة فنسي إذ تجلت عنه فذكر ) ، فقال عمر رضي(5/251)
صفحة رقم 252
الله عنه : اثنتان ، وقال : والرجل يرى الرؤيا ، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب ؟ قال : نعم سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ما من عبد أو أمة ينام فيستثقل نوماً إلا عرج بروحه إلى العرش ، فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب ) فقال عمر رضي الله عنه : ثلاث كنت في طلبهن فالحمد لله الذي أصبتهن قبل الموت وكذا أخرج الطبراني حديث سلمان كحديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ، وأنشدوا لأبي نواس في المعنى :
إن القلوب لأجناد مجندة لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تعارف منها فهو مؤتلف وما تناكر منها فهو مختلف ولما ثبت هذا كانت نتيجته قطعاً : ( أولئك ) أي العالو الأوصاف بالطهارة والطيب ) مبرؤون ( ببراءة الله وبراءة كل من له تأمل في مثل هذا الدليل ) مما يقولون ) أي القذفة الأخابث لأنها لا تكون زوجة أطيب الطيبين إلا وهي كذلك .
ولما أثبت لهم البراءة ، استأنف الإخبار بجزائهم فقال : ( لهم مغفرة ( اي لما قصروا فيه إن قصروا ، ولما كان في معرض الحث على الإنفاق على بعض الآفكين قال : ( ورزق كريم ( اي يحيون به حياة طيبة ، ويحسنون له إلى من أساء إليهم ، ولا ينقصه ذلك لكرمه في نفسه بسعته وطيبه وغير ذلك من خلال الكرم .
ولما أنهىى سبحانه الأمر في براءة عائشة رضي الله عنها على هذا الوجه الذي كساها به من الشرف ما كساها ، وحلاها برونقه من مزايا الفضل ما حلاها ، وكأن أهل الإفك قد فتحوا بإفكهم هذا الباب الظنون الشيئة عدواة من إبليس لأهل هذا الدين بعد أن كانوا في ذلك وفي كثير من سجاياهم - إذ قانعاً منهم بداء الشرك - على الفطرة الأولى ، امر تعالى رداً لما أثار بواسواسه من الداء بالتنزه عن مواقع التهم والتلبس بما يحسم الفساد فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ( أيألزموا أنفسهم هذا الدين ) لا تدخلوا ) أي واحد منكم ، ولعاه خاطب الجمع لأنهم في مظنة أن يطرودوا الشيطان يتزين بعضهم بحضرة بعض بلباس التقوى ، فمن خان منهم منعه إخوانه ، فلم يتكمن منه شيطانه ، فنهي الواحد من باب الأولى ) بيوتاً غير بيوتكم ) أي التي هي سكنكم ) حتى تستأنسوا ) أي تطلبوا بالاستئذان أن يأنس بكم من فيها وتأنسوا به ، فلو قيل له : من ؟ فقال : أنا لم يحصل الاستئناس لعدم معرفته ، بل الذي عليه أن يقول : أنا فلان - يسمى نفسه بما يعرف به ليؤنس به فيؤذن له أو ينفرنمنه فيرد ) وتسلموا على أهلها ) أي الذين هم سكانها ولو بالعارية منكم فتقولوا : السلام عليكم أأدخل ؟ أو تطرقوا الباب إن كان قد لا يسمع الاستئذان ليؤذن لكم ) ذلكم ( الأمر العالي الذي أمرتكم به ) خير لكم ((5/252)
صفحة رقم 253
مما كنتم تفعلونه من الدخول بغير إذن ومن تحية الجاهلية ، لأنكم إذا دخلتم بغير إذن ربما رأيتم ما يسوءكم ، وإذا استأذنتم لم تدخلوا على ما تكرهون ، هذا في الدنيا ، وأما في الأخرى فأعظم ، وقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : إذا سلم ثلاثاً فلم يجبه أحد فليرجع .
وكان هذا إذا ظن أن صاحب البيت سمع .
ولما كان كل إنسان لا ينفك عن أحوال يكره أن يطلع عليها أو تقطع عليه ، قال : ( لعلكم تذكرون ( اي لتكون حالكم حال من يرجى أن يتذكر برجوعه غلى نفسه عند سماع هذا النهي ، فيعرف أن ما يسوءه غيره منه ، فيفعل ما يحب أن يفعل معه خوفاً من المقابلة ، لأن الجزاء من جنس العمل ، وكل ما يجب عليه في غير بيته يستحب له في بيته بنحو النحنحة ورفع الصوت بالذكر ونحوه على ما اشار إليه حديث النهي عن الطروق لكيلا يرى من أهله ما يكره .
ولما كان السكان قد يكنون غائبين ، والإنسان لكونه عورة لا يحب أن يطلع غيره على جميع أموره ، قال : ( فإن لم جدوا فيها ) أي البيوت التي ليس بها سكناكم ) أحداً ( قد يمنعكم ، فالله يمنعكمم منها ، تقديماً لدرء المفاسد ) فلا تدخلوها ) أي أبداً ) حتى يؤذن لكم ( من آذن ما بإذن شرعي من الساكن أو غيره ، لأن الدخول تصرف في ملك الغير أو حقه فلا يحل بدونه إذنه .
ولما كان كأنه قيل : فإن أذن لكم في شيء ما استأذنتم فيه فادخلوا ، عطف عليه قوله : ( وإن قيل لكم ( نم قائل ما إذا استأذنتم في بيت فكان خالياً أو فيه أحد : ( ارجعوا فارجعوا ) أي ولا تستنكفوا من أن توجهو بما تكرهون من صريح المنع ، فإن الحق أحق أن يتبع ، وللناس عورات وأمرو لا يحبون اطلاع غيرهم عليها .
ولما كان في المنع نقص يوجب غضاضة ووحراً في الصدر ، وعد سبحانه عليه بما يجبر ذلك ، فقال على طريق الاستئناف : ( هو ( اي الرجوع المعين ) أزكى ) أي أطهر وأنمى ) لكم ( فإن فيه طهارة من غضاضة الوقوف على باب الغير ، ونماء بما يلحق صاحب البيت من الاستحياء عند امتثال أمره في الرجوع مع ما في ذلك عند الله .
ولما كان التقدير : فالله يجازيكم على امتثال أمره ، وكان الإنسان قد يفقعل في اليوت الخالية وغيرها من الأمور الخفية ما يخالف ما أدب به سبحانه مما صورته مصلحة وهو مفسدة ، عطف على ذلك المقدر قوله : ( والله ) أي الملك الأعلى .
ولما(5/253)
صفحة رقم 254
كان المراد المبالغة في العلم ، قدم الجار ليصير كما إذا سألت شخصاً عن علم شيء فقال لك : ما أعلم غيره ، فقال : ( بما تعملون ) أي وإن التبس أمره على أحذق الخلق ) عليم ( لا يخفى عليه شيء منه وإن دق ، فإياكم ومشتبهات الأمور ، فإذا وقفتم للاستئذان فلا تقفوا تجاه الباب ، ولكن على يمينه أو يساره ، لأن الاستئذان إنما جعل من أجل البصر ، وتحاموا النظر غلى الكوى التي قد ينظر منها أحد من أهل البيت ليعرف من على الباب : هل هو ممن يؤنس به فيؤذن له ، أو لا فيرد ، ونحو هذا من أشاكله مما لا يخفى على متشرع فطن ، يطير طائر فكره في فسيح ما أشار إليه مثل قوله صلى الله عليه السلام : ( إذا حدث الرجل فالتفت فهي أمانة ) وراه أحمد وأبو داود والترميذي عن جابر رضي الله عنه .
النور : ( 29 - 31 ) ليس عليكم جناح. .. . .
) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ( )
ولما كان من الأمكان التي قد لا يوجد بها أحد ما يباح الدخول إليه لخلوه أو عدم اختصاص النازل به كالخانات والربط ، أتبع ما تقدم التعريف بأنه لم يدخل في النهي فقال مستأنفاً : ( ليس عليكم جناح ) أي ميل بلوم أصلاً ) أن تدخلوا بيوتاً ( كالخانات والربط ) غير مسكونة ( ثم وصفها بقوله : ( فيها متاع ) أي استمتاع بنوع انتفاع كالاستظلال ونحوه ) لكم ( ويدخل فيه المعد للضيف إذا أذن فيه صاحبه في أول الأمر ووضع الضيف متاعه فيه ، لأن الاستئذان لئلا يهجم على ما يراد الاطلاع عليه ويراد طيه عن علم الغير ، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستئذان .(5/254)
صفحة رقم 255
ولما كان التقدير : فالله لا يمنعكم مما ينفعكم ، ولا يضر غيركم ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الملك الأعظم ) يعلم ( في كل وقت ) ما تبدون ( وأكد بإعادة الموصول فقال : ( وما تكتمون ( تحذيراً من أن تزاحموا أحداً في مباح بما يؤذيه ويضيق عليه ، معتلين بأصل الإباحة ، أو يؤذن لكم في منزل فتبطنوا فيه الخيانه فإنه وإن وقع الاحتراز من الخونة بالحجاب فلا بد من الخلطة لما بني عليه الإنسان من الحاجة إلى العشرة ، ولذلك اتصل به على طريق الاشتئناف قوله تعالى ؛ مقبلاً على أعلى خلقه فهماً وأشدهم لنفسه ضبطاً دون بقيتهم ، إشارة إلى صعوبة الأمر وخطر المقام ، مخوفاً لهم بالإعراض عنهم ، بالتردي برداء الكبر ، والاحتجاب في مقام القهر : ( قل للمؤمنين ( فعبر بالوصفإشارة إلى عدم القدرة على الحتراز من المخالط بعد الخلطة ، وأنه لا يعف فيها إلا من رسخ الإيمان في قلبه لخفاء الخيانة حينئذ بخلاف ما سبق في المنع من الدخول حيث كان التعبير ب ( الذين آمنوا ) ) يغضوا ) أي يخفضوا ولا يرفعوا ، بل يكفوا عما تهوا عنه ، ولما كان الأمر في غاية العسر ، قال : ( من أبصارهم ( بإثبات من التبعيضية إشارة غلى العفو عن النظرة الأولى ، وأن المأخوذ به إنما هو التمادي ، ولما كان البصر يريد الزنى قدمه .
ولما كان حفظ الفرج لخطر المواقعة اسهل من حفظ البصر ، ولأنه لا يفعل به من غير اختبار ، حذف ( من ) لقصد العموم فقال : ( ويحفظوا فروجهم ) أي عن كل حرام من كشف وغيره ولم يستثقن الزوجة وملك اليمين استغنا عنه بما سبق في المؤمنون ، ولأن المقام للتهويل في أمر للحفظ والتشديد ، ورغب في ذلك بتعليله بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العالي العظيم من كل من الغض والحفظ الذي أمرتهم به ) أزكى لهم ) أي أقرب إلى أن ينموا ويكثروا ويطهروا حساً ومعنى ، ويبارك لهم ، أما الحسي فهو أن الونى مجلبة للموت بالطاعون ، ويورث الفقر وغيرهما من البلايا ( ما من قوم ظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالسنة ) رواه أحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، ورواه عنه أبو القاسم عبد الرحنم بن عبد الحكم في كتاب الفتوح ولفظه ( ما من قوم يظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالفنا وما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة ، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب الزنى يورث الفقر ) رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما(5/255)
صفحة رقم 256
وإذا ظهر الزنى ظهر الفقر والمسكنة وراه ابن ماجة والبزار وهذا لفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما - والبيهيقي ولفظه : ( الزنى يورث الفقر ) وفي رواية له ( ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ) رواه عنه ابن إسحاق في السيرة في سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل ولفظه : ( إنه لم تظهر الفاحشة في وقم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقضوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجورالسلطان ، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، فلولا البهائم ما مطروا ، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم ، فأخذ بعض ما كان في ايديهم ، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله ةتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ) وفي الترغيب للمنذري عن ابن كاجة والبزار والبيهيقي عنه رضي الله عنه نحو هذا اللفظ ، وفي آخر السيرة عن أبي بكر رضي الله عنه في خطبته عندما ولي الخلافة : لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط غلا عمهم الله بالبلاء .
وفي الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغع عن عباس رضي الله عنهما أنه قال ( ما ظهر الغلول فب قوم قط إلا القى في قلوبهم الرعب ، ولا فشا الزنى في قوم قط ألا كثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم قط المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم ، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو ) وروى الطبراني في الأوسط عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا كثرت الفاحشة كثر الفساد ، وجار السلطان ) وفيه : ( أمثلهم في هذا الزمان المداهن ، إذا ظهر الربا والزنى في قرية(5/256)
صفحة رقم 257
آذن الله في هلاكها ) رواه الطبراني عن ابن عبايس رضي ا لله عنهما ، وأما المعنوي فروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : ( ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها ) قال ابن كثير : وروى هذا مرفوعاً عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ولكن في أسانيدها ضعف .
وساق له شاهداص من الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ : ( إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم ، من ترها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه ) فعلم من ذلك أن من تخلق بما أمره الله هنا كان قلبه موضعاً للحكمة ، وفعله أهلاً للنجح ، وذكره مقروناً بالقبول .
ولما كان الزكاء يتضمن التكثير والتطهير ، وكان الكلام هنا في غض البصر ، وكان ظاهراً جداً في الطهارة ، لم يدع داع إلى التأكيد بالتصريح بالطهارة ، وأما آية البقرة فلما كانت في العضل ، وكان لا يكون إلا عن ضغائن وإحن فكان الولي رما ظن أن منعها عمن عضلها عنه أطهر له ولها .
أكد العبارة بفعل الزكاء بالتصريح بما أفهمه من الطهارة .
ولما كان المقام صعباً لميل النفوس غلى الدنايا واتباعها للشهوات ، علل هذا الأمر مرغباً ومرهباً بقوله : ( إن الله ( اي الذي لا يخفى عليه شيء لما له نم الإحاطة الكاملة ) خبير ( ولما كان وازع الحياء مع ذلك مانعاً عظيماً فلا يخالف إلا بمعالجة وتدرب ، عبر بالصنعة فقال : ( بما يصنعون ) أي وإن تناهوا في إخفائه ، ودققوا في تدبير المكر فيه .
ولما بدأ بالقومة من الرجال ، ثنى بالنساء فقال : ( وقل للمؤمنات ( فرغب أيضاً بذكر هذا الوصف الشريف ) يغن ( ولما كان المراد الغض عن بعض المبصرات وهم المحارم قال : ( من أبصارهن ( فلا يتبعنها النظر إلى منهي عنه رجل أو غيره ، وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها في النظر إلى لعب الحبشة في المسجد باحتمال أنها كانت دون البلوغ لأنها قالت : فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو .
) ويحفظن فروجهن ( عما لهن من كشف وغيره .(5/257)
صفحة رقم 258
ولما كان النساء حبائل الشيطان ، أمرن بزيادة الستر بقوله : ناهياً عن الزينة ليكون النهي عن مةاقعها من الجسد أشد وأولى ) ولا يبدين زينتهن ) أي كالحلي والفاخر من الثياب فكيف بما وراءها ) إلا ما ظهر منها ) أي كان بحيث يظهر فيشق التحرز في إخفائه فيدا من غير قصد كالسوار والخاتم والكحل فإنها لا بد لها من مزاولة حاجتها بيدها ومن كشف وجهها في الشهادة ونحوها .
ولما كان أكثر الزينة في ألأعناق والأيدي والأرجل ، وكان دوام ستر الأعناق أيسر وأمكن ، خصها فقال : ( وليضربن ( من الضرب ، وهو وضع الشيء بسرعة وتحامل ، يقال : ضرب في عمله : أخذ فيه ، وضرب بيده إلى كذا : اهوى ، وعلى يده : أمسك ، وضرب الليل بأوراقه : اقبل ، والضارب : اليلي الذي ذهبت ظلمته يميناً وشمالاً وملأت الدنيا ، والضارب : الطويل من كل شيء والمتحرك .
ولما كان المقصود من هذا الضرب بعض الخمار ، وهو ما لا صق الجيب منه ، عداه بالباء فقال : ( بخمرهن ( جمع خمار ، وهو منديل يوضع على الرأس ، وقال أبو حيان : وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها .
) على جيوبهن ( جمع جيب ، وهو خرق الثوب الذي يحيط بالعنق ، فالمعنى حينئذ يهوين بها غلى ما تحت العنق ويسبلنها من جميع الجوانب ويطولنها ستراً للشعر والصدر وغيرهما مما هنالك ، وكأنه اختير لفظ الضرب إشارة إلى قوة القصد للستر وإشارة إلى العفو عما قد يبدو عند تحرك الخمار عند مزاولة شيء من العقل ؛ قال أبو حيان : وكان النساء يغطين رؤوسهن بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهور فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهن .
وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزلت ) وليضربن بخمرهن ( شققن مروطهن - وفي رواية : أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي - فاختمرن بها ، يعني تسترن ما قدام ، والإزار هنا الملاء .
ولما كان ذكر الجيب ربما أوهم خصوصاً في الزينة ، عم بقوله : ( ولا يبدين ( أو كرره لبيان من يحل الإبداء له ومن لا يحل ، وللتأكيد ) زينتهن ( اي الخفية في أي موضع كانت من عنق أو غيره ، وهي ما عدا الوجه والكفين ، وظهور القدمين ، بوضع الجلباب ، وهو الثوب الذي يغطي الثياب والخمار قاله ابن عباس رضي الله عنهما .
) إلا لبعولتهن ) أي أزواجهن ، فإن الزينة لهم جعلت .
قال أبو حيان : ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ، ولكن تختلف مراتهم في ا لحرمة بحسب ما في نفوس البشر فالأب والأخ ليس كابن الزمج - انتهى .
فقال تعالى : ( أو آبائهن ) أي فإن لهم عليهن من الشفقة ما يمنع النظر بالشهوة ومثلهم في هذا المعنى سواء الأعمام والأخوال(5/258)
صفحة رقم 259
وكل منهما والد مجازاً بدليل ) وإله آبائك إبراهيم واسماعيل ( ) أو آباء بعولتهن ( فإن رحمتهم لأولادهم مانعة ) أو أبنائهن ( فإن لهن عليهن من الهيبة ما يبعد عن ذلك ) أو أبناء بعولتهن ( فإن هيبة آبائهم حائلة ) أو إخوانهن ( فإن لهم من الرغبة في صيانتهن عن العار ما يحفظ من الريبة ) أو بني ( عدل به عن جمع التكسير لئلا يتوالى اربع مضمرات من غير فاصل حصين فتنتقص عذوبته ) إخوانهن أو بني أخوانهن ( فإنهم كأبنائهن ) أو نسائهن ) أي المسلمات ، وأما غير المسلمات فحكمهن حكم الرجال ؛ روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى عبيدة رضي الله عنه ينهى عن دخول الذميات الحمام مع المسلمات ، وقال : فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها ، وفي مسند عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما .
) وأما ما ملكت ايمانهن ) أي من الذكور زالإناث وإن كن غير مسلمات لما لهن عليهن من الهيبة ، وحمل ابن المسيب الآية على الإماء فقط ؛ قال أبو حيان : قال الزمخشري : وهذا هو الصحيح ، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيّاً كان أو فحلاً ، وعن ميسون بنة بدحل الكلابية أن معاوية رضي الله عنه دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال : هو خصي ، فقالت : يا معاوية أترى المثلة به تحلل ما حرم الله - انتهى .
وقصة مابور ترد هذا ، وقوله : الكلابية ، قال شيخنا في تخريج الكشاف : صوابه : الكلبية بإسكان اللام .
) أو التابعين ) أي للخدمة أو غيرها ) غير أولي الإربة ) أي الحاجة إلى الاستمتاع بالنساء ) من الرجال ( كالشيوخ الفانين ومن بهم علة منعت شهوتم ، زكذا من كان ممسوحاً لقصة مابور ) أو ( من ) الطفل ) أي جنسه ، والطفل الصغير ما لم يبلغ الحلم أو خمس عشرة سنة ، وهو في الأصل : الرخص الناعم من كل شيء ، وكأنه سمي بذلك لأنه يخرج متلبساً بالتراب الذي تأكله الحامل ، قال في القاموي : وطفل النبت كفرح وطفل بالضم تطفيلاًك أصابه التراب ، والطفال ، كغراب وسحاب : الطين اليابس .
قال القزاز : ويسميه أهل نجد الكلام والعامة تقول لجنس منه : طفل ، ) الذين لم يظهروا ( اي لم يعلوا بالنظر المقصود للاطلاع ) على عورات النساء ( لعم بلوغ سن الشهوة لذلك .
ولما نهى عن الإظهار ، نبه على أمر خفي منه فقال : ( ولا يضربن بأرجلهن ) أي والخلاخيل وغيرها من الزينة فيها .
ولما كان ذلك لمطلق الإعلام ، بناه للمفعول فقال : ( ليعلمن ما يخفين ( اي بالساتر الذي أمرن به ) من زينتهن ( بالصوت الناشىء من الحركة عند الضرب المذكور ، وفي معنى ذلك التطيب ، والنهي عن ذلك يفهم النهي عن موضعه من الجسد من باب الأولى .(5/259)
صفحة رقم 260
ولما أنهى سبحانه ما أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالتقدم فيه إلى الرجال والنساء ، وكان من المعلوم أن العبد الحقير المجبول على الضعف الموجب للتقصير لن يقدر على أن يقدر المولى العلي الكبير حق قدره وإن ابلغ في الاجتهاد وزاد في التشمير ، أتبعه التلطف بالإقبال عليهم في الأمر بإقبالهم إليه إشارة إلى أن الأمر في غاية الصعوبة ، وأن الإنسان لكونه محل الزلل والتقصير - وإن اجتهد - لا يسعه إلا إحسان الرحيم الرمن ، فقال : ( وتوبوا إلى الله ) أي ارجعوا إلى طاعة الملك الأعلى مهما حصل منكم زيغ كما كنتم تفعلونه في الجاهلية ) جميعاً ( رجالكم ونسائكم ) أيُّه المؤمنون ( والتعبير بالوصف إشارة إلى علو مقام التوبة بأنه لا يقدر على ملازمتها غلا راسخ القدم في الإيمان ، عارف بأنه وإن بالغ في الاجتهاد واقع في النقصان ، وهذا الأمر للوجوب ، وغذا كان للراسخين في الإيمان فمن دونه من باب الأولى ) لعلكم تفلحون ( اي لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطلوب الذي مضى أول سورة المؤمنون تعليقه بتلك الأوصاف التي منها رعاية الأمانة ولا سيما في الفروج ؛ قال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء : إن الإنسان من حيث جبل على النقص لا يخلو عما يوجب عليه التوبة ، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب ، فإن خلا عنه فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخراطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله ، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله ، وكل ذلك نقصن وله أسبابن وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده ، والمراد بالتوبة الرجوع ، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص ، وإنما يتفاوتون في المقادير .
النور : ( 32 - 33 ) وأنكحوا الأيامى منكم. .. . .
) وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما تقدم سبحانه إلى عباده في الأمور العامة للأوال والأشخاص في الزنى وأسبابه ، فحكم وقرر ، ووعظ وحذر ، أتبعه أسباب العصمةالتي هي نعم العون على التوبة فقال مرشداً : ( وأنكحوا الأيامى ( مقلوب أيايم جمع أيم ، وزن فعيل من آم ، عينه ياء ، وهو العزب ذكراً كان أو أنثى أو بكراً ) منكم ) أي من أحراركم ، وأغنى لفظ الأيم عن ذكر الصلاح لأنهه لا يقال لمن قصر عن درجة النكاح ) والصالحين ) أي للنكاح(5/260)
صفحة رقم 261
) من عبادكم وإمائكم ) أي أرقائكم الذكرو والإناث ، احتياطاً لمصالحهم وصناً لهم عن الفساد امتثالاً لما ندب إليه حديث ( تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ) ولما كان للزواج كلف يهاب لأجلها ، لما طبع الآدمي عليه من الهلع في قلة الوثوق بالرزق ، أجاب من كأنه قال : قد يكون الإنسان غير قادر لكونه معدماً ، بقوله : ( إن يكونوا ) أي كل من ذكر من حر أو عبد ، والتعبير بالمضارع يشعر بأنه قد يكون في النكاح ضيق وسعة ) فقراء ) أي من المال ) يغنهم الله ( اي الذي له الكمال كله ، إذا تزوجوا ) من فضله ( لأنه قد كتب لكل نفس رزقها فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم ، وعن ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى .
وقال البغوي : قال عمر رضي الله عنه : عجبت لمن يبتغي الغنى في بغير النكاح - وقرأ هذه الآية .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : التمسوا الغنى في النكاح ، وتلا هذه الآية ابن جرير .
ولأحمد والتميذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه : ( ثلاثة حق على الله عونهم : النكاح يريد العفاف ، والماكتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله ) ويؤيده ما في الصحيح من حديثث الواهبة نفسها حيث زوجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمن لم يجد ولا خاتماً من حديد .
ولما كلن التقدير : فالله ذو فضل عظيم ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي ذو الجلال والإكرام ) واسع عليم ) أي فهو بسعة قدرته يسوق م اكتبه للمرأة على يد الزوج ، وبشمول علمه يسبب أسبابه ، ولما أمر سبحانه بما يعصم من الفتنة من غض البصر ثم بما يحصن من النكاح ، وجراً عليه بالوعد بالإغناء ، وكان هذا الوعد فيما بعد النكاح ، وقدم الكلام فيه ترغيباً للإنسان في التوكل والإحصان ، وكان قلبه ما قد يتعذر لأجله إما(5/261)
صفحة رقم 262
بعدم وجدان المهر وما يطلب منه تقديمه ، أو بعدم رضى العبد وغيره يكون ولده رقيقاً أو غير ذلك ، أتبعه قوله حاثاً على قمع النفس الأمارة عند العجز : ( وليستعفف ( اي يبالغ في طلب العفة وإيجادها عن الحرام ) الذين لا يجدون نكاحاً ) أي قدرة عليه وباعثاً إليه ) حتى يغنيهم الله ) أي الذي له الإحاجة بجميع صفات الكمال ) من فضله ( في ذلك الذي تعذر عليهم النكاح بسببه .
ولما كان من جملة الموانع كما تقدم خوف الرق على الولد لمن له من الرقيق همة علية ، ونفس أبية ، أتبعه قوله : ( والذين يبتغون ) أي يطلبون طلباً عازماً ) الكتاب ) أي المكاتبة ) مما ملكت أيمانكم ( ذكراً كان أو أنثى ؛ وعبر ب ( ما ) إشارة إلى ما في الرقيق من نقص ) فكاتبوهم ) أي ندباً لأنه معاوضة تتضمن الإرفاق على ما يؤدونه إليكم منجماً ، فإذا أدوه عتقوا ) إن علمتم فيهم خيراً ) أي تصرفاً صالحاً في دينهم ودنياهم لئلا يفسد حالهم بعد الاستقلال بأنفسهم ؛ قال ابن كثير : وروى أبو داود في كتاب المراسيل عن يحيى ابن كثير قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلاًّ على الناس ) انتهى .
ولعله عبر بالعلم في موضع الظن لذلك ) وءاتوهم ( وجوباً إذا أدوا إليكم ) من مال الله ) أي لاذي عم كل شيء بنعمته ، لأنه الملك العظم ) الذي آتاكم ( ولو بحط شيء من مال الكتابة .
ولما أمر سبحانه بالجود في أمر الرقيق تارة بالنفس ، وتارة بالمال ، نهاهم عما ينافيه فقال : ( ولا تكرهوا فتياتكم ) أي إماءكم ، ولعله عبر بلفظ الفتوة هزاً لهم إلى معالي الأخلاق ، وتخجيلاً من طلب الفتوة من امة ) على البغاء ) أي الزنى لتأخذوا منهن مما يأخذنه من ذلك .
ولما كان الإكراه على الزنى لا يصح إلا عند العفة ، وكان ذلك نادراً من أمة ، قال : ( إن ( بأداة الشك ) أردن تحصناً ( وفي ذلك زيادة تقبيح للإكراه على هذا الفعل حيث كانت النساء مطلقاً يتعففن مع أنهن مجبولات على حبه ، فكيف غذا لم يمنعهن مانع خوف أو حياء كالإماء ، فكيف إذا أذن لهن فيه .
فكيف إذا ألجئن إليهن وأشار بصيغة التفعل وذكر الإرادة إلى أن ذلك لا يكون إلا عن عفة بالغة ، زاد في تصوير التقبيح بذكر علة التزام هذا العار في قوله : ( اتبتغوا ( اي تطلبوا طلباً حثيثاً فيه رغبة قوية بإكراههن على الفعل الفاحش ) عرض الحياة الدنيا ( فإن العرض متحقق فيه الزوال ، والدنيا مشتقة من الدناءة .(5/262)
صفحة رقم 263
ولما نهى سبحانه عن الإكراه ، رغب الموالي في التوبة عند المخالفة فيه فقال : ( ومن يكرههن ( دون أن يقول : وإن أكرهن ، وعبر بالمضارع إعلاماً بأن يقبل التوبة ممن خالف بعد نزول الآية ، وعبر بالاسم العلم في قوله : ( فإن الله ( إعلاماً بأن الجلال غير مؤيس من الرجمة ، ولعله عبر بلفظ ( بعد ) إشارة إلى العفو عن الميل إلى ذلك الفعل عند مواقعته إن رجعت إلى الكراهة بعده ، فإن النفس لا تملك بضغه حينئذ ، فقال : ( من بعد إكراههن غفور ) أي لهن وللموالي ، يستر ذلك الذنب إن تابوا ) رحيم ( بالتوفيق للصنفين إلى ما يرضيه .
النور : ( 34 - 35 ) ولقد أنزلنا إليكم. .. . .
) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ ( ( )
ولما أتم سبحانه هذه الآيات في براءة عائشة رضي الله عنها ومقدماتها و خواتيمها ، قال عاطفاً على قوله أولها ) وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ( : ( ىيات مبينات ( مفصل فيها بما لنا من الععظمة ترغيباً لكم وترهيباً ) إليكم ) أي لتتعظوا ) أبات مبينات ( مفصل فيها الحق من الباطل ، كوضح بالنقل والعقل بحيث صارت لشدة بيانها تبين هي لمن تدبرها طرق الصواب كما أوضحنا ذلك لمن يتدبره في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وما تقدمها وتتبعها مما هو 3 صلاحكم في الدين والدنيا ) ومثلاً ( اي وشبهاً بأحوالكم ) من الذين خلوا من قبلكم ) أي من أحوالهم بما أنل الله إليهم في التوراة في أحوال المخالطة والزنى وقذف الأبرياء كيوسف ومريم عليهم الاسلام وتبرئتهم كما قدمت كثيراً منه في سورة المائدة وغيرها مما صار في حسن سبكه في هذا الكتاب ، وبديع حبكه عند أولي الألباب ، كالأمثال السائرة ، والأفلاك الدائرة ) وموعظة للمتقين ( بما فيه من الأحكام والفواصل المنبئة عن العلل المذكرة بما يقرب من الله زلفى ، وينور القلب ، ويوجب الحب والألفة ، ويذهب وحر ا لصدر ؛ ثم علل إنزاله لذلك على هذا السنن الأقوم ، والنظم المحكم ، بقوله : ( الله ) أي الذي أحاطت قدرتته وعلمه ) نور ) أي ذو نر ) السموات والأرض ( لأنه مظهرهما بإيجادهما وإيجاد أهلهما وهاديهم بالتنوير بالعلم الجاعل صاحبه بهدايته إلى الصراط ا لمستقيم كالماشي في نور الشمس ، لا يضع شيئاً في غير موضعه كما أن الماشي في النور لا يضع رجلاً في غير موضعها اللائق بها ، (5/263)
صفحة رقم 264
ولا شك أن النورهو ما به تظهر به الأشياء وتنكشف ، فهو سبحانه مظهرها ، وهما وما فيهما دال على ظهوره ، وأنه تام القدرة شامل العم حاوٍ لصفات الكمال ، كنزه عن شوائب النقص ، وفي خر الشورى ما ينفع جداً هنا .
ولما كان من المحال أن يضل عن نور هو ملء الحافقين أحد من سكانها ، بين وجه خفائه مع ظهور ضيائه واتساعه وقوة شعاعه ، حتى ضل عنه أكثر الناس ، فقال مبيناً بإضافة النر إلى ضميره أن الأخبار عنه بالنور مجاز لا حقيقة ، منبهاً على أن آياته الهادية تلوح خلال الشبهات الناشئة عن الأوهام الغالبة على الخلق التي هي كالظلمات ) مثل نوره ) أي الذي هدي له إلى سبيل الرشاد في خفائه عن بعض الناس مع شدة ظهوره ، وهو آياته الدالة عليه من أقواله وأفعاله ) كمشكاة ) أي مثل كة أي خرق لكن غير نافذ في دار ؛ قال البغوي : فإن كان لها منفذ فهي كوة .
ولما دخل المشكاة في هذا المثل خفياً فقدمها تشويقاً إلى شرحه ، أتبعه قوله شارحاً له : ( فيها مصباح ) أي سراج ضخك ثاقب .
وهو الذبالة - أي الفتيلة - الضخمة المتقدة ، من الصباح الذي هو نور الفجر ، والمصباح الذي هو الكوكب الكبير ؛ قال البغوي : وأصله الضوء - انتهى .
فإذا كان في المشكاة اجتمعت أشعته فكان أشد إنارة ، ولو كان في فضاء لافترقت أشعته ؛ ةأتى ببقية الكلام استءنافاً على تقدير سؤال تعظيماً له فقال : ( المصباح في زجاجة ) أي قنديل .
ولما كان من الزجاج ما هو في غاية الصفاء ، بين أن هذه منه فقال : ( الزجاجة كأنها ( اي في شدة الصفاء ) كوكب ( شبهه بها دون الشمس والقمر لأنهما يعتريهما الخسوف ) دريّ ) أي متلألىء بالأنوار فإنه إذا كان في زجاجة صافية انعكست الأشعة المنفصلة عنه من بعض جوانب الزجاجة إلى بعض لما فيها من الصفاء والشفيف فيزداد النور ويبلغ النهاية كما أن شعاع الشمس إذا وقع على ماء أو زجاجة صافية تضاعف النور حتى أه يظهر فيما يقابله مثل ذلك النور ؛ والدريّ - قال الزجاج : مأخوذ من درأ إذا اندفع منقضاً فتضاعف نوره .
ولما كان من المصابيح أيضاً ما يكون نوره ضعيفاً بين أن هذا ليس كذلك فقال : ( يوقد ) أي المصباح ، بأن اشتد وقده .
ولما كلن هذا الضوء يختلف باختلاف ما يتقد فيه ، فإذا كان دهناً صافياً خالصاً كان شديد ، وكانت الأدهان التي توقد ليس فيها ما يظهر فيه الصفاء كالزيت لأنه ربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض وشعاع يتردد في أجزائه ، قال : ( من شجرة ( اي زيتها ) مباركة ) أي عظيمة الثبات والخيرات يطيب منبتها ) زيتونة ( .(5/264)
صفحة رقم 265
ولما كان الزيت يختلف باختلاف شجرته في احتجابها عن الشمس وبروزها لها ، لأن الشجر ربما ضعف وخبث ثمره بحائل بينه وبين الشمس ، بين أن هذه الشجرة ليست كذلك فقال : ( لا شرقية ) أي ليست منسوبة غلى الشرق وحده ، لكونها بحيث لا يتمكن منها الشمس إلا عند الشروق لكنها في لحف جيل يظلها إذا تضيقت الشمس للغروب ) ولا غربية ( لأنها في سفح جبل يسترها من الشمس عند الشروق ، بل هي بارزة للشمس من حين الشروق إلى وقت الغروب ، ليكون ثمرها أنضج فيكون زيته أصفى ، قال البغوي : هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة والكلبي والأكثرين .
فهي لزكاء عناصرها ، وطهارة منبتهاً ، وبروزها للشمس والرياح ، بحيث ) يكاد زيتها ( لشدة صفائه ) يضيء ولو لم تمسسه نار ( .
ولما علم من هذا أن لهذا الممثل به أنواراً متظاهرة بمعاونة المشكاو والزجاجة والمصباح والزيت ، فلم يبق مما يقوي نوره ويزيده إشارقاً ، ويمده بإضاءة نقية ، قال في الممثل له : ( نور على نور ) أي أن العلم الرباني عظيم الاتساع كلما سرحت فيه النظر ، وأطلقت عنان الفكر ، أتى لاغرائب ولا يمكن أن يوقف له على حد .
ولما كان الإخبار عن مضاعفة هذا النور موجباً لا عتقاد أنه لا يخفى عن أحد ، أشار إلى أنه - بشمول علمه وتمام قدرته - يعمى عنه من يريد مع شدة ضيائه ، وعظيم لألائه ، فقال : ( يهدي الله ) أي بعظمته المحيطة بكل شيء ) لنوره من يشاء ( كما هدى الله من هدى من المؤمنين لتبرئة عائشة رضي الله عنها قبل إنزال براءتها .
بكون الله اختارها لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا يختار له إلا طيباً طاهراً وما شاكل ذلك ، وعلم أن قسيم ذلك ( ويضل الله عن نوره من يشاء ) وعلم أن وجه كونه ضل عنه أكثر الناس إنما هو ستر القادر له بنقص في حس من يريد سبحانه إضلاله ، لا لنقص في النر كما قال الشاعر :
والنجم تستصغر الأبصار صورته فالذنبللطرف لا للنجم في الصغر
كما سيأتي إيضاح ذلك عند قوله تعالى
77 ( ) إلم تر إلى ربك كيف مد الظل ( ) 7
[ الفرقان : 25 ] ، ومر نفاً في حديث علي رضي الله عنه في الأرواح ما ينفع ههنا .
ولما كان كأنه قيل : ضرب الله هذا المثل لكم لتدبروه فتنفعوا به ، عطف عليه قوله : ( ويضرب الله ) أي بما له من الإحاطة بكمال القدرة وشمول العلم ) الأمثال للناس ( لعلمه بها ، تقريباً للأفهام ، لعلهم يهتدون ) والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) بكل شيء ) أي منها ومن غيرها ) عليم ( يبين كل شيء بما يسهل سبيله فثقوا بما يقول ، وإن لم تفهموه أنفسكم وأمعنوا النظر فيه يفتح لكم سبحانه ما انغلق منه .(5/265)
صفحة رقم 266
النور : ( 36 - 39 ) في بيوت أذن. .. . .
) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ( )
ولما كان كأنه قيل : فأي شيء يكون هذه المشكاة ؟ قال شافياً على هذا السؤال : ( في بيوت ) أي في جدران بيوت ، فجمع دلالة على أن المراد بالمشكاة الجنس لا الواحد ، وفي وحدتها ووحدة آلات النور إشارة غلى عزته جداً ) أذن الله ) أي مكن بجلاله فأباح وندب وأوجب ) أن ترفع ( حساً في البناء ، ومعنى بإخلاصها للعمل الصالح ، من كل رافع أذن له سبحانه في ذلك ، فعلى المرء إذا دخلها أن يتحصن من العدو بما رواه أبو دواد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا دخل المسجد قال : ( أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم ) قال عقبة بن مسلم : فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر يوم .
) ويذكر ( من كل ذاكر أذن له سبحانه ) فيها اسمه ) أي ذكراً صافياً عن شوب ، وخالصاً عن غش ) يسبح ) أي يصلي وينزه ) له ) أي خاصة ) فيها بالغدو ) أي الإبكار ، بصلاة الصبح ) والآصال ) أي العشيات ، ببقية الصلوات ، فيفتحون أعمالهم ويختمونها بذكره ليحفظوا فيما بين ذلك ويبارك لهم فيما يتقلبون فيه ، وجمع الأصيل لتحقق أن المراد الظهر والعصر والمغرب والعشاء ؛ قال البغوي : لأن اسم الأصيل يجمعها .
) رجال ( أيّ رجال ) لا تلهيهم تجارة ) أي ببيع أو شر أو غيرهما ، يظهر لهم فيها ربح .
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى الخروج بالبيع عن بعض ما يملك للاقتيات بثمنه أو التبلغ به إلى بعض المهمات التي لا وصول له إليها إلا به ، أو بتحصيل ما لا يملك كذلك مع أن البيع في التجارة أيضاً هو الطلة الكلية لأنه موضع تحقق الربح الذي لا صبر عنه ، قال : ( ولا بيع ) أي وإن لم يكن على وجه التجارة ، والبيع يطلق بالاشتراك على التحصيل الذي هو الشرى وعلى الإزالة ) عن ذكر الله ) أي الذي له الجلال والإكرام مطلقاً بصلاة وغيرها ، فهم كل وقت في شهود ومراقبة لمن تعرف إليهم بصفات الكمال ) و ( لا يليهم ذلك عن ) إقام الصلاة ( التي هي طهرة الأرواح ، (5/266)
صفحة رقم 267
أعادها بعد ذكرها بالتسبيح تصريحاً بها تأكيداً لها وحثاً على حفظ وقتها لأنه من جملة مقوماتها وكذا جميع حدودها ولو بأوجز ما يكون من أدنى الكمال - بما أشار إليه حرف التاء إشعاراً بأن هذا المدح لا يتوقف على أنهى الكمال ) و ( لا عن ) إيتاء الزكاة ( التي هي زكاة الأشباح ونماؤها ، وخص الرجال مع أن حضور النساء المساجد سنة شهيرة ، إشارة إلى أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لما روى أبو داود في سننه وابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ) والمخدع : الخزانة .
وللإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( خير مساجد النساء قعر بيوتهن ) ولأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن أم حميدة امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما أنها قالت : يا رسول الله إني أحب الصلاة معك ، قال : ( قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي ) ، قال : فأمرت فبنى لها مسجد في أقصى بيت من بيتها وأظلمه ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل .
ولما وصف الرجال المذكورين ما وصفهم به ، ذكر علة فعلهم لذلك زيادة في مدحهم فقال : ( يخافون يوماً ( وهو يوم القيامة ، هو بحيث ) تتقلب فيه ) أي لشدة هوله ، تقلباً ظاهراً - بما اشار إليه إثبات التاءين ) القلوب والأبصار ) أي بين طمع في النجاة ، وحذر من الهلاك ، ويمكن أن يقال : المشتكي - والله أعلم - هي المساجد ، والزجاج هي الرجال ، والمصابيح هي القلوب ، وتلألؤها ما تشتمل عليه من المعاني الحاملة على الذكر ، والشجرة الموصوفة هي مثال الأبدان ، التي صفاها الله من الأدران ، وطبعها على الاستقامة ، والزيت مثال لما وضع سبحانه فيها من جميل الأسرار ، وقد ورد في بعض الأخبار أن المساجد لأهل السماوات كالنجوم لأهل الأرض ، وفي معجم(5/267)
صفحة رقم 268
الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما : ( كمسكاة ) قال : جوف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والزجاجة قلبه ، والمصباح النور الذي في قلبه ، والشجرة إبراهيم عليه السلام ، ) لا شرقية ولا غربية ( : لا يهودي ولا نصراني .
ولما بين تعالى أفعال هؤلاء الرجال التي أقبلوا بها عليه ، وأعرضوا عما عداهن بين غايتهم فيها فقال : ( ليجزيهم ) أي يفعلون ذلك ليجزيهم ) الله ) أي في دار كرامته بعد البعث بعظمته وجلاله ، وكرمه .
وجماله ) أحسن ما عملوا ) أي جزاءه .
ويغفر لهم سيئه ) ويزيدهم من فضله ( على العدل من الجزاء ما لم يستحقوه - كما هي عادة أهل الكرم .
ولما كان التقديرك فإن الله لجلاله ، وعظمته وكماله ، لا يرضى أن يقتصر في جزاء المحسن على ما يستحقه فقط ، عطف عليه بيناً لأن قدرته وعظمته لا حد لها قولَه : ( والله ) أي الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه ) يرزق من يشاء ( .
ولما كان المعنى : رزقاً يفوق الحد ، ويفوت العد ، عبر عنه بقوله : ( بغير حساب ( فهو كناية عن السعة ، ويجوز أن يكون مع ا سعة التوفيق ، فيكون بشارة بنفي الحساب في اللآخرة أيضاً أصلاً ورأساً ، لأن ذلك المرزوق لم يعمل مل فيه درك عليه فلا يحاسب ، أو يحاسب ولا يعاقب ؛ فيكون المراد بنفي ا لحساب نفي عسه وعقابه ، ويجوز أن يزاد الرزق كفافاً ، وقد ورد أنه لا حساب فيه ؛ روى ابن كثير من عند ابن أبي حاتم بسنده عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم ، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون وهم قليل ، ثم يحاسب سائر الخلائق ) ولما أخبر تعالى أن الذين اتبعوا نور الحق سبحانه ، وصلوا - من جزائه بسبب ما هداهم إليه النور من الأعمال الصالحة - إلى حقائق هي في نفس الأمر الحقائق ، أخبر عن اضدادهم الذين اتبعوا الباطل فحالت جباله الوعرة ا لشامخة بين أبصار بصائرهم وبين تلك الأنوار بضد حالهم فقال : ( والذين كفروا ) أي ستروا بما لزموه من الضلال ما انتشر من نور الله ) أعمالهم ( كائنة في يوم الجزاء ) كسراب ( وهو ما تراه نصف النهار في البراري لاصقاً بالأرض يلمع كأنه ماء ، وكلما قربت منه بعد حتى تصل إلى جبل ونحوه فيخفى ؛ قال الرازي في اللوامع : والسراب شعاع ينكشف فينسرب ويجري كالماء تخيلاً ؛ وقال ابن كثير : يرى عن بعد كأنه بحر طام ، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار ، (5/268)
صفحة رقم 269
وأما الآل فإنما يكون أول النهار ، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض - انتهى .
وقال البغوي : والآل ما ارتفع عن الأرض ، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاءة ، يرفع فيه ا لشخوص ، يرى فيه الصغير كبيراً ، والقصير طويلاً ، والرقراق يكون بالعاشايا ، وهو ما ترقرق من السراب ، أي جاء وذهب .
) بقيعة ( جمع قاع ، وهو أرض سهلة مطمئنة فد انفجرت عنها الجبال والآكام - قاله في القاموس .
وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه : القيعة والقاع واحد ، وهما الأرض المستوية الملساء يحفن فيها التراب ، الفراء : القيعة جمع قاع كجار وجيرة .
وقال الصغاني في مجمع البحرين : والقاع : المستوي من الأرض ، والجمع أقاع وأقواع وقيعانن صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، والقيعة مثل قاع ، وهو أيضاً من الواو ، وبعضهم يقول : هو جمع ؛ وقال ابن جرير : والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ، وفيه يكون السراب .
وقال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب : قال الفراء : القاع : مستنقع الماء ، والقاع : المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه المطر فيمسكه ويستوي نباته ، وجمعه قيعة وقيعان .
) يحسبه الظمآن ) أي العطشان الشديد العطش من ضعف العقل ) ماء ( فيقصده ولا يزال سائراً ) حتى إذا جاءه ) أي جاء الموضع الذي توهمه به ) لم يجد شيئاً ( من الأشياء ، فلم يفده قصده غير زيادة العطش بزيادة التعب ، وبعده عن مواطن الرجاء ، فيشتد بأسه ، وتنقطع حليه فيهلك ، وهكذا الكافر يظن أعماله تجديه شيئاً فإذا هي قد أهلكته .
ولما كان الله محيطاً بعلمه وقدرته بكل مكان قال : ( ووجد الله ( اي قدرة المحيط بكل شيء ) عنده ) أي عند ذلك الموضع الذي قصده لما تخيل فيه الخير فخاب ظنه ) فوفاه سحابه ) أي جزاء عمله على ما تقتضيه أعماله على حكم العدل ، فلم يكفِ هذا الجاهل خيبة وكمداً أنه لم يجد ما قصده شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى نار ، لا يفك أسيرها ، ولا يخمد سعيرها .
ولما كان سبحانه لا يحتاج إلى كاتب ، ولا يدخل عليه لبس ، ولا يصعب عليه ضبط شيء وإن كثر ، ولا يقد أحد أن يتأخر عما يريده به بنوع حيلة ، عبر عن ذلك بقوله : ( والله ( اي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ) سريع الحساب ) أي لأنه لا يحتاج إلى حفظ بقلب ، ولا عقد بأصابع ، ولا شيء غير ذلك ، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعلمه العبد وبعد عمله له ، لا يعزب عنه منه ولا من غيره شيء .(5/269)
صفحة رقم 270
النور : ( 40 - 44 ) أو كظلمات في. .. . .
) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ ( ( )
ولما بين سبحانه بهذا المثال أنهم لم يصلوا إلى شيء غير التعب ، المثمر للعطب ، وكان هذالا يفعله بنفسه عاقل ، ضرب مثالاً آخر بين الحامل لهم على الوقوع في ممثول الأول ، وهو السير بغير دليلن المقع في خبط العشواء كالماشي في الظلام ، فقال عاطفاً على ) كسراب ( قوله : ( أو ( للتخيير ، اي أعمالهم لكونها لا منفعة لها كسراب ، ولكونها خاية عن نور الحق ) كظلمات ( أو للتنويع ، فإنها إن كانت حسنة الظاهر فكالسراب ، أو قبيحة فكالظلمات ، أو للتقسيم باعتبار وقتين كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة ) في بحر ( هو مثا قلب الكافر ) لجي ) أي ذي لج هو اللج ، إشارة إلى أنه عميق لا يدرك له قرار ، لأن ا للج معظم الماءن ويكون جمع لجة أيضاً ، والأوفق هنا أن يكون منسوباً إلى الجمع ، لأنه أهول ، والمقام للتهويل ، قال القزاز في ديوانه : ولجة البحر معروفة وهو المرضع الذي لا ترى منه أرضاً ولا جبلاً ، وبحر لجي : واسع اللجة ، وجمع اللجة لجج ولج .
) يغشاه ) أي يغطي هذا البحر ويعلوه ، أو يلحق الكائن فيه ) موج ( وهو مثل ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، كائن ) من فوقه ) أي هذا الموج ) موج ( آخر ) من فوقه ) أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول ) سحاب ( قد غطى النجوم ، وهو مثال الرين والختم والطبع على القلب ، فلا سماء تبصر ولا أرض .
ولما كان هذا الأمر مهولاً ، أشار إلى هوله وتصويره بقوله : ( ظلمات ) أي من البحر والمجين والسحاب ) بعضها ( .
ولما كان المراد استغراق الجهة ، لم يثبت الجار فقال : ( فوق بعض ( متراكمة ، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر ، ولذلك قال : ( إذا أخرج ) أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر ) يده ( وهي أقرب شيء إليه ) لم يكد ) أي الكائن فيه ) يراها ) أي يقرب من ذلك فضلاً عن أن يكون ، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة ، وهو مثال لعمله وأنه عدم(5/270)
صفحة رقم 271
لما تقدم من أن العدم كله ظلمة ، فلا عمل له يكون شيئاً ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه ) ومن لم يجعل الله ) أي الملك الأعظم ) له نوراً ( من الأنوار ، وهو قوة الإيجاد والإظهار ) فما له من نور ( أصلاً ، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية ، لأنه قادر على ما يريد .
ولما كان قيام الأمور ، زظهورها كل ظهور ، إنما هو بالنور ، حساً بالإيجاد ، زمعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها ، قال تعالى دالاً على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض ، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم ، ومن أعراه من النور هلك : ( ألم تر ) أي تعلم يارأس الفائزين برتبة الإحسان علماً هو في ثباته كما بالمشهادة ) أن الله ( الحائز لصفات الكمال ) يسبح له ( اي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة ) من في السموات ( .
ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب ، قال مخصصاً : ( والطير صافات ) أي ) والأرض ) أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله ، أو آلة مقاله ، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل ، وعبر ب ( من ) لأن المخبر به من وظائف العقلاء .
ولما كان الطير أدل لأنه أعجب ، قال مخصصاً : ( والطير صافات ) أي باسطات أجنحتها في جو السماء ، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله ، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة ، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته .
ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه ، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال : ليله قائم ، ونهاره صائم ،
77 ( ) ولا تزال تطلع على خائنة منهم ( ) 7
[ المائدة : 13 ] وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن ، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء ، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال ، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال : ( كل ) أي من المخلوقات ) قد علم ) أي بما كان شبباً له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال ) صلاته ) أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه ) وتسبيحه ) أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص ، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها ، نيابة عن بيان مقالها ، هذا بقيامه صامتاً جامداً ، وهذا بنموه مهتزاً رابياً ، إلجاء وقهراً ، وهذا بحركته بالإرادة ، وقصد وجوه منافعه ، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته ، وهذا بنطقه وعقله ، ونباهته وفضله ، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض(5/271)
صفحة رقم 272
والسماء واحدة ، ويدل على ذلك دلالة واضحة ما روى الإمام أمحد في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن ( النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن نوحاً عليه السلام أوصى ابنه عند مته بلا إله إلا الله ، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو كن حلقة مبهمة قصمتهن ، وسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وقال الغزالي في الإحياء : وروي أن رجلاً جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون ) ، قال فقلت : وما هي يا رسول الله ؟ قال : ( سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح ، تأتيك الدنيا راغمة صاغرةن ويخلق الله من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه ) .
قال الحافظ زينا لدين العراقي : رواه المستغفري في الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال : غريب من حديث مالك ، ولا أعرف له أصلاً من حديث مالك ( .
ولما كان التقدير : فالله قدير على جميع تلك الشؤون ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي المحيط علماً وقدرة ) عليم بما يفعلون ( بما ثبت ممت أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم ، وضمائركم وأفعالكم ، وقد تقدم في الأعراف عند
77 ( ) أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ( ) 7
[ الأعراف : 185 ] ما ينفع هنا .
ولما أخبر عما في الكونين بما يستلزم الملك على أنهى وجوه التمام المستلزم للقدرة على البعث ، أخبر عنهما بالتصريح به فقال : ( ولله ) أي الذي لا ملك سواه ) ملك السموات والأرض ( مع كونه كالكاً مسخراً مصرفاً لجميع ذلك ، فهو جامع للملك والملك .
ولما كان التقدير : ومن الله المبدأ للكل بالإيجاد من العدم ، عطف عليه قوله : ( وإلى الله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء ) المصير ) أي لهم كلهم بعد الفناء ، وإنما طوي هذا المقدر لأنه لا خلف فيه .
ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه ، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال : ( ألم تر أن الله ) أي ذا الجلال والجمال ) يزجي ( اي يسوق بالرياح ، وسيأتي الكلام عليها في النمل ؛ وقال أبو حيان : إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق .
) سحاباً ( اي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل ، وتارة منالعو ، ضعيفاً(5/272)
صفحة رقم 273
رقيقاً متفرقاً ، قال أبو حيان : وهو اسم جنس واحدة سحابة ، والمعنى : يسق سحابة إلى سحابة .
وهو معنى ) ثم يؤلف بينه ) أي بين أجزائه بعد أن كانت قطعاً في جهات مختلفة ) ثم يجعله ركاماً ( في غاية العظمة متاكباً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة ) فترى ) أي في تلك الحالة المستمرة ) الودق ) أي المطر ، قال القزاز : وقيل : هو احتفال المطر .
) يخرج من خلاله ) أي فتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض ) وينزل من السماء ) أي من جهتها مبتدئاً من ) من جبال فيها ) أي في السما ، وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال ؛ وبعض فقال : ( من برد ( هو ماء منعقد ؛ وبين أن ذلك بإرداته واختياره بقوله : ( فيصيب به ) أي لابرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة ) من يشاء ( من الناس وغيرهم ) ويصرفه عمن يشاء ( صرفه عنه ؛ ثم نببه على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النار التي ربما نزلت منها صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار فقال : ( يكاد سنا ) أي ضوء ) برقه ( وهو اضطراب النور في خلاله ) يذهب ) أي هو ، ملتبساً ) بالأبصار ( لشدة لمعه وتلألئه ، فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر ، ونذيراً بنزول الصواعق ؛ ثم ذكر ما هو أدل على الاختيار ، فقال مترجماً لما مضى بزيادة : ( يقلب الله ) أي الذي له الأمر كلهه بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً ، والنقص تارة والزيادة أخرى ، مع المطر تارة والصحو أخرى ) الليل والنهار ( فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والينوع واليبس ما يبهر العقول ؛ ولهذا قال منبهاً على النتيجة : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم ) لعبرة لأولي الأبصار ) أي النافذة ، والقلوب الناقدة ، يعبرون منها إلى معرفة ما لمدبر ذلك من القدرة التامة والعلم الشامل الدال قطعاً على الوحدانية .
النور : ( 45 - 51 ) والله خلق كل. .. . .
) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ( )
ولما ذكر أولاً أحوال الخافقين دليلاً على وحدانيته ، وفصل منها الآثار العلوية ، (5/273)
صفحة رقم 274
فذكر ما يسقي الأرض ، وطوى ذكر ما ينشأ عنه منالنبات للعلم به ، ذكر أحوال ما يتكون به من الحيوانات دليلاً ظاهراً على الإعادة ، وبرهاناً قاهراً على المنكرين لها فقال : ( والله ) أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة ) خلق كل دآبة ) أي مما تقدم أنه يسبح له .
ولما ذكر أنواعاً من الحيوان ، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال : ( من ماء ) أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء ( هامر ) كذلك ، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر الذي لا تفاوت فيه ) فمنهم ) أي الدواب .
ولما كان في سياق التعظيم ، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها ، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال : ( من يسمي على بطنه ) أي من غير رجل ؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة ، وسماه مشياً استعارة ومشاكلة ) ومنهم من يمشي على رجلين ) أي ليس غير ) ومنهم من يمشي على أربع ) أي من الأيدي والأرجل ، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك ، وإليه الإشارة بقوله : ( يخلق الله ( وعبر باسم الجلالة إعلاماً بتناهي العظمة ؛ وقال : ( ما يشاء ( دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره ، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم .
ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر ، وكانوا منكرين له ، أكد قوله : ( إن الله ) أي الذي الكمال المطلق ) على كل شيء ( من ذلك وغيره ) قدير ( .
ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص ، وقامت أدلة الوحدانية على ساق ، واتسقت براهين الألوهية أي اتساق ، قال مترجماً لتلك الأدلة : ( لقد أنزلنا ) أي في هذه السورة وما تقدمها ، بما لنا من العظمة ) آيات ) أي من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال ) مبينات ( لا خفاء في شيء منها عند أحد من الخلق ، لأن الله قد أراد هدايتكم ، بعضكم بالبيان ، وبعضكم بخلق الإذعان ) والله ) أي الملك الأعظم ) يهدي من يشاء ( من العابد كلهم ) إلى صراط مستقيم ( بالقوة بإنزال الآيات ، والفعل بخلق الإيمان والإخبات ، فيؤمنن إيماناً ثابتاً .
ولما كان إخفاء هذه الآيات عن البعض بعد بيانها أعجب من ابتداء نصبها ، فكان السياق ظاهراً في أن التقدير : والله يضل من يشاء فيكفرون بالآيات والذك رالحكيم ، وكان الخروج من نورها بعد التلبس بها إلى الظلام أشد غرابة ، عطف على ما قدرته مما دل عليه السياق أتم دلالة قوله دليلاً شهودياً على ذلك مطوي ، كعجباً ممن عمي عن(5/274)
صفحة رقم 275
دلائل التوحيد التي أقامها تعالى وعددها وأوضحها بحيث صارت كما ذكر تعلى أعظم من نور الشمس : ( ويقولون ) أي الذين ظهر لهم نور الله ، بألسنتهم فقط : ( آمنا بالله ( الذي أوضح لنا جلاله ، وعظمته وكماله ) وبالرسول ( الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما أقام عليها من الأدلة ) وأطعنا ) أي أوجدنا الطاعة لله وللرسول ، وعظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال : ( ثم يتولى ) أي يرتد بإنكار القلب ويعرض عن طاعة الله ورسوله ، ضلالاً منهم عن الحق ) فريق منهم ) أي ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة .
ولما كان ينبغي أن يكون وقوع الارتداد منهم - كما أشير إليه - في غاية البعد وإن كان في أقل زمن ، أشار إليه بأداة التراخي ، وأكد ذلك بقوله مثبتاً الجارّ : ( من بعد ذلك ) أي القول السديد الشديد المؤكد ، مع الله الذي هو أكبر من كل شيء ، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق ) وما أولئك ) أي البعداء(5/275)
صفحة رقم 276
البغضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد ) بالمؤمنين ( اي بالكاملين في الإيمان قولاً وعقداً ، وإنما هم من أهل الوصف اللساني ، المجرد عن المعنى الإيقاني .
ولما فضحهم بما أخفه من توليهم ، قبح عليهم ما أظهروه ، فقال معبراً بأداة التحقيق : ( وإذا دعوا ) أي الذين ادعوا الإيمان من أي داع كان ) إلى الله ) أي ما نصب الملك الأعظم من أحاكمه ) ورسوله ليحكم ) أي الرسول ) بينهم ( بما أراه الله ) إذا فريق منهم ) أي ناس مجبولون على الأذى المفرق ) معرضون ) أي فاجؤوا الإعراض ، إذا كان الحق عليهم ، لاتباعهم أهواءهم ، مفاجأة تؤذن بثباتهم فيه ) وإن يكن ) أي كوناً ثابتاً جداً ) لهم ) أي على سبيل الفرض ) الحق ) أي بلا شيهة ) يأتوا إليه ) أي بالرسول ) مذعنين ) أي منقادين أتم انقياد لما وافق من أهوائهم لعلمهم أنه دائر مع الحق لهم وعليهم ، لا لطاعة الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان سبب فعلهم هذا بعد إظهارهم الطاعة مشكلاً ، ناسب أن يسأل عنه ، فقال تعالى مبيناً له بعد التنبيه على ما يحتمله من الحالات : ( أفي قلوبهم مرض ) أي نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال ) أم ارتابوا ( بأن حدثت لهم شبهة أعمتهم عن الطريق ) أم ( ليس فيهم خلل لا أصلي ولا طارىء ، بل الخلل في الحاكم فهم ) يخافون أن يخيف ( اي يجور ) الله ( الغني عن كل شيء ، لأن له كل شيء ) عليهم ( بنصب حكم جائر وهو منزه عن الإغراض ) ورسوله ( الذي لا ينطق عن الهوى ، بضرب أمر زائغ وقد ثبتت عصمته عن الأدناس .
ولما لم يكن شيء ن ذلك كائناً أضرب عنه فقال : ( بل أولئك ) أي البعداء البغضاء ) هم ) أي خاصة ) الظالمون ) أي الكاملون في الظلم ، لأن قلوبهم مطبوعة على المرض والريب ، لا أن فيها نوعاً واحداً منه ، وليسوا يخافون الجور ، بل هو مرادهم إذا كان ا لحق عليهم .
ولما نفى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به ، كان كأنه سئل عن حال المؤمنين فقال : ( إنما كان ) أي دائماً ) قول المؤمنين ( اي العريقين في ذلك الوصف ، وأطبق العشرة على نصب القول ليكون اسم أوغل الاسمين في التعريف ، وهو ( أن ) وصلتها لأنه لا سبيل عليه للتنكير ، ولشبهة كما قال ابن جني في المحتسب بالمضمر من حيث إنه لا يجوز وصفه كما لا يجوز وصف المضمر ، وقرأ على رضي الله عنه بخلاف وابن أبي إسحاق ) قول ( بارفع ) إذا دعوا ) أي من أي داع كان ) إلى الله ) أي ما أنزل الملك الذي لا كفوء له من أحكامه ) ورسوله ليحكم ) أي الله بمما نصب من أحكامه أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بما يخاطبهم به من كلامه ) بينهم ) أي بالإجابة لله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كان التقدير : فأولئك هم المؤمنون ، عطف عليه قوله : ( وألئك ) أي العالو الرتبة ) هم ( خاصة ) المفلحون ( الذين تقدم في أول المؤمنون وصفهم بأنهم يدركون جميع مأمولهم .
النور : ( 52 - 53 ) ومن يطع الله. .. . .
) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما رتب سبحانه الفلاح على هذا النوع الخاص من الطاعة ، أتبعه عموم الطاعة فقال : ( ومن يطع الله ) أي الذي له الأمر كله ) ورسوله ) أي في الإذعان للقضاء وغيره فيما ساءه وسره من جميع الأعمال الظاهرة ) ويخش الله ) أي الذي له الجلال والإكرام ، بقلبه لما مضى من ذنوبه ليحمله ذلك على كل خير ، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا وقع أحد منهم في تقصير يأتي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول : طهرني ، ويلقن أحدهم الرجوع فلا يرجع ، وفي تطهيره الإتيان علىنفسه ، وقع ذلك لرجالهم ونسائهم - رضي الله عنهم أجمعين وأحياناً على منهاجهم وحشرنا في زمرتهم ) ويتقه ) أي الله فيما يستقبل بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعاً .
ولما أفرد الضمائر إشار إلى قلة المطيع ، جمع لئلا يظن أنه واحد فقال : ( فأولئك ( العالو الرتبة ) هم الفائزون ( بالملك الأبدي ولا فوز لغيرهم .(5/276)
صفحة رقم 277
ولما ذكر سبحانه ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن ، ذكر حال المنافقين فيه ، فقال عاطفاً على ) ويقولون ( لأنه ليس المراد منه إلا مجرد القول من غير إرادة تقييد بزمان معين : ( وأقسموا ( وكأنه عبر بالماضي إشارة إلى أنهم لم يسمحوا به أكثر من مرة ، لما يدل عليه من زيادة الخضوع والذل ) بالله ) أي الملك الذي له الكمال المطلق ؛ واستعار من جهد النفس قوله في موضع الحال : ( جهد أيمانهم ) أي غاية الإقسام ) لئن أمرتهم ) أي بأمر من الأمور ) ليخرجن ( مما هم ملتبسون به من خلافه ، كائناً ما كان ، إلى ما أمرتهم به ، وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أينما كنت نكن معك ، إن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا - قاله البغوي .
فكأنه قيل : ماذا تفعل في اختبارهم ؟ فقيل : الأمر أوضح من ذلك ، فإن لكل حق حقيقة ، ولكل فعل أدلة ) قل ) أي لهم : ( لا تقسموا ) أي لا تحلفوا فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى الإقسام ، ولكن المحرك لكم إلى الخروج محبة الامتثال لا إلزام الإقسام ، وفيه إشارة إلى أنهم أهل للاتهام ، وكذا قال المتنبي :
وفي يمينك فيما أنت واعده ما دل أنك في الميعاد متهم
ثم علل ذلك بقوله : ( طاعة ) أي هذه الحقيقة ) معروفة ) أي منكم ومن غيركم ، وإرادة الحقيقة هو الذي سوغ الابتداء بها مع تنكير لفظها لأن العموم الذي تصلح له كما قالوا من أعرف المعارف ، ولم تعرف ب ( الط لئلا يظن أنها لعهد ذكري أو نحوه ، والمعنى أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله ، وكذا المعصية لأنه ) ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ( رواه الطبراني عن جندب رضي الله عنه ، وروى مسدد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : لو أن رجلاً دخل بيتاً في جوف بيت فأدمن هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به ، وما من عامل عمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله ، إن كان خيراً فخير ، وإن كان شراً فشر .
ولأبي يعلى والحاكم - وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لو أن أحدكم في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان ( ثم علل للخبء بقوله : ( إن الله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء ) خبير بما تعلمون ( وإن إجتهدتم في إخفائه ، فهو ينصب عليه دلائل يعرفه بها عباده ، فالحلف غير مغنٍ عن الحالفن والتسليم غير ضار للمسلم .(5/277)
صفحة رقم 278
النور : ( 54 - 56 ) قل أطيعوا الله. .. . .
) قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ( )
ولما نبه على خداعهم ، أشار إلى عدم الاغترار بإيمانهم ، وإلى قبول شهادة التوسم فيهم ، أمر بترغيبهم وترهيبهم ، مشيراً إلى الإعراض عن عقوبتهم فقال : ( قل أطيعوا ( أيها الذين أقروا بالإيمان ) الله ) أي الذي لم الكمال المطلق ) وأطيعوا الرسول ) أي لاذي له الرسالة المطلقة ، ظاهراً وباطناً لا كالمنافقين ) فإن تولوا ) أي توجد منكم التولية عن ذلك عصياناً له ولو على أدنى وجوه التولية - بما أشار إليه حذف التاء ، تضلوا فلا تضروا إلا أنفسكم ، وهو معنى قوله : ( فإنما عليه ) أي الرسول ) ما حمل ) أي من التبليغ ممن إذا حمل أحداً شيئاً فلا بد من حمله له أو حمل ما هو أثقل منه ) وعليكم ما حملتم ( من القبول ، وليس عليه أن يقسركم على الهداية ؛ وأفهم بقوله : ( وإن تطيعوا ( اي بالإقبال على كل ما يأمركم به ) تهتدوا ( اي إلى كل خير أنه لا هداية لهم بدون متابعته ؛ روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال على المنبر : ( من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ) قال : فقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه : عليكم بالسواد الأعظم قال فقال رجل : ما السواد الأعظم ؟ فنادى أبو أمامة هذه الآية في سورة النور ) فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ( .
ولما كان ما حمله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مبهماً ، عينه بقوله : ( ما على الرسول ) أي من جهة غيره ) إلا البلاغ المبين ) أي التبليغ الذي يحصل به البلاغ من غير شك ، إما بالإيضاح وحده أو مضموماً إلى السيف فما دونه من أواع الزواجر .
ولما لا ح بهذا الإذان في الكف عن قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للمنافقين لئلا يقول الناس : إن محمداً استنصر بقوم ، فلما نصره الله بهم أقبل يقتلهم .
فيمتنع من يسمع ذلك من(5/278)
صفحة رقم 279
الدخول في الإسلام ، فتكون مفسدة فتلهم أعظم من مفسدة إبقائهم ، لأن الدين لم يكن حينئذ تمكن تمكناً لا يؤثر فيه مثل ذلك ، تشوفت النفوس إلى أن هذا الحال هل يستمر ؟ فجلى عنهما هذا الكرب بقوله : بياناً لأن تمكن الدين غير مفتقر إليهم سواء أقبلوا أو أدبروا : ( وعد الله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء ) الذين آمنوا ( وهو مع ذلك كالتعليل لما قبله ترغيباً لمن نظر في الدنيا نوع نظر ؛ وقيد بقوله : ( منكم ( تصريحاً بأهل القرن الأول ، ليكون ظاهراً فس إخراج المنافقين المتولين بالإعراض ، إشارة إلى أنهم لا يزالون في ذل وضعة ؛ وقدم هذا القيد اهتماماً به لما ذكر بخلاف ما يأتي في سورة الفتح ) وعملوا ( تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ( من الإذعان للأحكام وغيرها ، وأكد غاية التأكيد بلام القسم ، لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك فقال : ( ليستخلفنهم في الأرض ) أي أرض العرب والعجم ، بأن يمد زمانهم ، وينفذ أحكامهم ) كما استخلف ) أي طلب وأوجد خلافة بإيجادهم ) الذين من قبلهم ) أي من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة ، وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور ) إن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( وكما قال موسى عليه السلام : ( إن الأرض يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ( ) وليمكنن لهم ( اي في الباطن والظاهر ) دينهم ( أضافة إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه وأنه ابديّ لا ينسخ ) الذي ارتضى لهم ( حتى يقيموا الحدود فيه من قتل وغيره على الشريف والوضيع سواء كان الواقعون في ذلك عصبة أم لا ، لا يراعون أحداص ، ولا يخافون لومة لأئم ، لأنه لا يضره إذ ذاك إدباراً مدبر كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحرورية كافة ( إنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد ، بعد أن كف عن قتل رأسهم ونهى عن قتله - وهو واحد في غزوة حنين ) ولما بشرهم بالتمكين ، أشار لهم إلى مقداره بقوله : ( وليبدلنهم ( وأشار غلى عدم استغراق هذا المن العام لجميع الزمان بإثبات الجارّ فقال : ( من بعد خوفهم ( هذا الذي هم فيه الآن ) أمناً ) أي عظيماً بمقدار هذا الخوف ، في زمن النبوة وخلافتها ؛ ثم أتبع ذلك نتيجة بقوله تعليلاً للتمكين وما معه : ( يعبدونني ( اي وحدي ؛ وصرح بالمراد بياناً لحال العابدة النافعة بقوله : ( لا يشركون بي شيئاً ( ظاهراً ولا باطناً ، لأن زانهم يكون زمن عدل ، فلا يتحابون فيه بالرغبة والرهبة ، روى الطبراني في الوسط عن أبيّ بن(5/279)
صفحة رقم 280
كعب رضي الله عنه قال : لما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه رضي الله عنهم المدينة ، وآوتهم الأنصار - رضي الله عنهم أجمعين ، رمتهم العرب من قوس واحدة فنزلت ) ليستخلفنهم في الأرض ( الآية .
ولقد صدق الله سبحانه ومن أصدق من الله حديثاً - ففتح سبحانه لهم البلاد ، ونصرهم على جبابرة العباد ، فأذلوا رقاب الأكاسرة ، واستبعدوا أبناء القياصرة ، ومكنوا شرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) يعرف ذلك من طالع فتوح البلاد ، وأجمعها وأحسنها النصف الثاني من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي ، وكتابشيخه ابن حبيش أيضاً حامع ، ولا أعلم شيئاً أنفع في رسوخ الإيمان ، بعد حفظ القرآن ، من مطالعة السير والفتوح ، وسيرة الكلاعي جامعة للأمرين ، ونظمي للسيرة في القصيدة التي أولها :
ما بال جفنك هامي الدمع هامرة وبحر فكرك وافي الهم وافره
أجمع السير - يسر الله إكمال شرحها ، آمين .
ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه ، وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن رضي الله عنهما ، نع الل ذلك الأمن كما أشير إليه ب ( من ) وتنكير ( أمناً ) وجاء الخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم - والله المستعان .
ولما كان التقدير : فمن ثبت على دين الإسلام ، وانقاد لأحكامه واستقام ، نال هذه البشرى ، عطف عليه قوله : ( ومن كفر ) أي بالإعراض عن الأحكام أو غيرها ؛ أو هو عطف على ) يعبدونني ( لأن معناه : ومن لم يعبدني .
ولما كان الفاسق الكامل إنما هو من مات على كفره فحبط عمله ، فكان بذلك كفره مستغرقاً لزمانه دون من مات مسلماً وإن كان كافراً في جميع ما مضى له قبل ذلك ، أسقط الجار فقال : ( بعد ذلك ) أي الاستخلاف العظيم على الوجه المشروح ) فأولئك ( البعداء من الخير ) هم ( خاصة ) الفاسقون ) أي الخارجون من الدين خروجاً كاملاً ، لا تقبل معه معذرة ، ولا تقال لصاحبه عثرة ، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره ، ولا يراعى فيهم ملام ، ولا تأخذ بهم رأفة عند الانتقام ، كما تقدم في أول السورة فيمن لزمه الجلد ، ولعل الآية مشيرة إلى أهل الردة .
ولما تمت هذه البشرى ، وكان التقدير : فاعملوا واعبدوا ، عطف عليه قوله : ( وأقيموا الصلاة ) أي فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم ، مع أنه يصح عطفه على قوله(5/280)
صفحة رقم 281
( أطيعوا الله ) فيكون من مقول ) قل ( ) وآتوا الزكاة ( فهي نظام ما بينكم وبين إخوانكم ) وأطيعوا الرسول ) أي المحيط بالرسالة في كل ما يأمركم به ، فإنما هو عن أمر ربكم ) لعلكم ترحمون ( اي لتكونوا عند من يجهل العواقب على رجاء من حصول الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره .
النور : ( 57 - 60 ) لا تحسبن الذين. .. . .
) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ ( ( )
ولما كان الكفار من الكثرة والقوة بمكان ، كان الحال جديراً بتأكيد معنى التمكين ، جواباً لسؤال من كأنه قال : وهل ذلك ممكن فقال : ( لا تحسبن ) أي أيها المخاطب ) الذين كفروا ) أي وإن زات كثرتتم على العد ، وتجاوزت عظمتهم الحد ، فإن ذلك الحسبان ضعف عقل ، لأن الملك لا يعجزه من تحت قهره ، ويجوز أن يكون خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لزيادة تحقيقه ، لأنه على قدر عظمة المخاطب يكون إنجاز الوعد ) معجزين ( لأهل ودنا ) في الأرض ( فإنهم مأخذون لا محالة ) ومأوهم ) أي مسكنهم ومنزلهم بعد الأخذ ) النار ( .
ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد الصيرورة إليه قال : ( ولبئس المصير ( مصيرها فكيف إذا كان على وجه السكنى .
ولما كان الملل من شيم النفوس ، فكان تدريج الكلام في المقاصد لا سيما الأحكام شيئاً فشيئاً خلال مقاصد أخرى أوقع في القلب ، وأشهى إلى الطبع ، لا سيما إذا كان على وجه من المناسبات عجيبة ، وضروب من الاتصالات هي مع دقتها غريبة ، زين الله تأصيلها بتفصيلها فابتدأ السورة بطائفة منها ، وفصلها بدر الوعظ ، وجواهر الحكم ، والحث عل معالي الأخلاق ، ومكارم الأعمال ، ثم وصلها بالإلهيات التي هي أصولها ، وعن علي مقاماتها تفرعت فصولها ، فلما ختمها بالتمكين لأهل هذا الدين ، وتوهين أمر المعتدين ، شرع في إكمالها ، بإثبات بقية أحواله ، تأكيداً لما حكم به من التمكين ، وما ختمه من ذلك من التوهين ، وتحذيراً مما ختمه من العذاب المهين ، (5/281)
صفحة رقم 282
وتحقيقاً لما ألزم به من الطاعة ، ولزوم السنة والجماعة ، فقال واصلاً بما ختم به الأحكام الأولى ، من الأمر بإنكام الأيامى ، والكف عن إكراه البغايا ، إثر الذين لم يظهروا على عورات النساء : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي من ا لرجال والنساء ، إما للتغليب ، وإما لأن النساء أولى بحفظ العورة ) ليستأذنكم ( تصديقاً لدعوى الإيمان ) الذين ملكت أيمانكم ( من العبيد والإماء البالغين ، ومن قاربهم ، للدخول عليكم كراهة الاطلاع على عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم ) والذين ( ظهروا على عورات ا لنساء ، ولكنهم ) لم يبلغوا الحلم ( وقيده بقوله : ( منكم ( ليخرج الأرقاء والكفار ) ثلاث مرّات ( في كل دور ، ويمكن أن يرادك ثلاث استئذانات في كل مرة ، فإن لم يحصل الإذن رجع المستأذن كما تقدم : المرة الأولى من الأوقات الثلاث ) من قبل صلاة الفجر ( لأنه وقت اقيام من امضاجع وطرح ثياب النوم ) و ( الثانية ) حين تضعون ثيابكم ) أي التي للخروج بين الناس ) من الظهيرة ( للقائلة ) و ( الثالثة ) من بعد صلاة العشاء ( لأنه وقت الانفصال من ثياب اليقظة ، والاتصال بثياب النوم ، وخص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ، ووضع الثياب ، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه ، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه لأنه غير منضبط ، ثم علل ذلك بقوله : ( ثلاث عورات ) أي اختلالات في التستر والتحفظ ، وأصل العورة - كما قال البيضاوي : الخلل .
لأنه لما كانت العورة تبدو فيها سميت بها ) لكم ( لأنها ساعات وضع الثياب والخلوة بالأهل ، وبين حكم ما عدا ذلك بقوله مستأنفاً : ( ليس عليكم ) أي في ترك الأمر ) ولا عليهم ( يعني العبيد والخدم والصبيان ، في ترك الاستئذان في كل وقت كما مضى بقوله : ( طوافون عليكم ) أي لعمل ما تحتاجونه في الخدمة كما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام ) بعضكم ( طواف ) على بعض ( لعمل ما يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان لأدى إلى الحرج .
ولما أعلى سبحانه البيان في هذه الآيات إلى حد يعجز الإنسان لا سيما وهي في الأحكام ، والكالم فيها يعيي أهل البيان ، وكان السامع لما جبل عليه منالنسيان ، يذهل عن أن هذا هو الشأن ، في جميع القرآن ، قال مشيراً إلى عظم شأنها ، في تفريقها وبيانها : ( كذلك ( اي مثل هذا البيان ) يبين الله ( بما له من إحاطة العم والقدرة ) لكم ( أيتها الأمة الخاصة ) الآيات ( في الأحكام وغيرها وبعلمه وحكمته ) والله ( الذي(5/282)
صفحة رقم 283
له الإحاطة العامة بكل شيء ) عليم ( بكل شيء ) حكيم ( يتقن ما يريده ، فلا يقد أحد على نقضه ، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ كما قال الشعبي وغيره - أفاده ابن كثير ، وحُكي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير .
ولما بين حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر ، وأقبل لكل خير ، أتبعه حكم البالغين من الأحرار فقال : ( وإذا بلغ الأطفال منكم ) أي من أحراركم ) الحلم ) أي السن الذي يكون فيه إنزال المني برؤية الجماع في النوم ، هذا أصله ، والمراد سن مطلق الإنزال ) فليستاذنوا ( على غيرهم في جميع الأوقات ) كما استأذن الذين من قبلهم ( على ما بين في أول الآيات القائلة ) لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا ( ونقل ابن كثير عن يحيى بن أبي كثير وسعيد بن جبير أن الغالم إذا كان رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه ، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال .
ولما كانت آيات الاستئذان أتقن حاسم لماد الشر ، وتركها أعظم فاتح لأبواب الفتن ، وكان إخراج الكلام ، في أحكام الحلال والحرام ، مع التهذيب والبيان ، في النهاية م الصعوبة ، وكان فطم النفوس عما ألفت في غاية منالعسر شديدة ، أشار سبحانه إلى ذلك بتكرير آية البيان ، إشارة إلى أنها - لما لها من العلو - جديرة بالتأكيد ، وإلى أن البلغاء يستبعدون القدرة على البيان كلما أريد على هذا السنن فقال : ( كذلك ) أي مثل ذلك البيان الذي بينه في آيات الأحكام ) يبين الله ( بما له من صفات الكمال ) لكم ( مع ما لكم من خلال النقص ) آياته ) أي العالمات الدالة عليه من هذه الفرعيات وما رقت إليه الأصليات ، فأضافها إليه سبحانه تعظيماً لها ، إشارة إلى أنها مقدمة للآيات الإلهيات ، لأن من لم يتفرغ منمكدرات الأفكار ، لم يطر ذلك المطار ، وحثاً على تدبر ما تقدم منها لاستحضار ما دعت إليه من الحكم ، وفصلت به من المواعظ ، وتنبيهاً على ما فيها من العلوم النافعة ديناً ودنيا ، وزاد في الترغيب في العلم والحكمة إشارة إلى أن ذلك سبب كل سعادة فقال : ( والله ( اي المحيط بكل شيء ) عليم حكيم ( روى الطبراني وغيره عن أنس رضي الله عنه قال : لما كانت صبيحة احتملت دخلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته أني قد احتملت ، فقال : ( ا تدخل على النساء ) ، فما أتى عليّ يومٌ كان أشد منه .
ولما ذكر سبحانه اقتبال الشباب ، ي تغيير حكم الحجاب ، أتبعه الحكم عند إدبار الشباب ، في إلقاء الظاهر من الثياب ، فقال : ( والقواعد ( وحقق ألمر بقوله : ( من النساء ( جمع قاعدة ، وهي التي قعدت عن الولد وعن الحيض كبراً وعن الزوج .
ولما(5/283)
صفحة رقم 284
كان هذا الأخير قطبها قال : ( اللاتي لا يرجون نكاحاً ) أي لعدم رغبتهن فيه أو لوصولهن إلى حد لا يرغب فيهن معه ) فليس عليهن جناح ) أي شيء من الحرج في ) أن يضعن ثيابهن ) أي الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال بدليل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ) من ثيابهن ( قال أبو صالح : تضع الجلباب ، وهو ما يغطي ثيابها من فوق كالملحفة ، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار ) غير متبرجات بزينة ) أي متعمدات - بوضع ما أبيح لهن وضعه إظهار وجوههن مع الزينة ، أو غير متظاهرات بالزينة ، قال في الجمع بين العباب والمحكم : تبرجت المرأة : أظهرت وجهها .
وفي القاموس : تبرجت : أظهرت زينته للرجال - انتهى .
ومادة برج تدور على الظهور كما مضى في الحجر ؛ وقال البيضاوي : وأصل البرج التكلف في إظهار ما يخفى - انتهى .
وكأنه أشير بصيغة التفعل إلى أن ما ظهر منها من وجهها أو زينتها عفواً غير مقصود به الفساد لا حرج فيه .
ولما ذكر الجائز ، وكان إبداء الوجه داعياً إلى الريبة ، أشار إليه بقوله ذاكراً المستحب ، بعثاً على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها : ( وإن يستعففن ) أي يطلبن العفة بدوام الستر وعدم التخفف بإلقاء الجلباب والخمار ) خير لهن ( من الإلقاء المذكور .
ولما كان ما ذكر من حالهن من الخلطة على ذلك الوصف معلوماً أنه لا يخلو عن كلام ، كان التقدير : فالله في وضع الحرج عنهن رؤوف بهن رحيم ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) سميع ) أي لكلامهن إذا خاطبن الرجال هل يخضعن فيه ويتصنعن في ترخيم الصوت به أو يلقينه على الحالة المعروفة غير المنكرة ) عليم ( بما يقصدن به وبكل شيء .
النور : ( 61 ) ليس على الأعمى. .. . .
) لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ( )
ولما أتم سبحانه ما ذكر من حرمات البيوت المستلزمة لصيانة الأبضاع على وجه يلوم منه إحراز الأموال ، أتبعه ما يباح من ذلك للأكل الذي هو من أجلّ مقاصد الأموال(5/284)
صفحة رقم 285
اجتماعاً وانفراداً ، فقال في جواب من كأنه سأل : هل هذا التحجير في البيوت سارٍ في وما يأتي من الأحكام ، وإن كره غيره أكله لمج يده كيفما اتفق فإنه مرحوم ، والاستئذان من أجل البصر ) ولا على الأعرج ( الذي لايرجى ) حرج ( وإن تقذر منه بعض المترفين فإنه يجامعه في أنه يرحم لنقصه ) ولا على المريض ) أي مرضاً يرجى بعرج أو غيره ) حرج ( كذلك لمرضه ، وأخره لرجاء لنقصه ) ولا على أنفسكم ) أي ولا على غير من ذكر ، وعبر بذلك تذكيراً بأن الكل من نفس واحدة ) أن تأكلوا من بيوتكم ) أي التي فيها عيالكم ، وذكرها سبحانه لئلا يحصل من تركها لو تركها ريبة ، وليدخل فيها بيوت الأولاد لأنهم من كسب الأب ( أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) ( أنت ومالك وعيالك لأبيك ) ) أو بيوت آبائكم ( وإن بعدت أنسابكم - ولعله جمع لذلك - فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم ) أو بيوت أمهاتكم ( كذلك ، وقدم الأب لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له ) أو بيوت إخوانكم ( من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع ، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين ، لأنهم أشقاؤكم ، وهم أولياء بيوتهم ) أو بيوت أخواتكم ( فإنهن بعدهم ، من أجل أن ولي البيت - إذا كن مزوجات - الزوج ) أو بيوت أعمامكم ( فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو الأب أو أم ، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط فإنه بالاسم ) أب بيوت عماتكم ( فهن بعد الأعمام لضعفهن ، ولأنه ربما كان أولياء بيوتهن الأزواج ) أو بيوت أخوالكم ( لأنهم شقائق أمهاتكم ) أو بيوت خلاتكم ( أخرهن لما ذكر ) أو ما ملكتم مفاتحه ) أي التصرف فيه بوجه من الوجوه كالوكالة ) أو صديقكم ( الذي تعرفون رضاه بذلك ولو بقرينة كما هو الغالب ، ولذلك أطلقه ، وإن لم يكن أمكنكم من مفاتحه بل كان عياله فيه ، كل ذلك من غير إفساد ولا حمل ولا ادخار ، وقد عدل الصديق هنا بالقريب ، تنبيهاً على شريف رتبة الصداقة ولطيف سرها ، وخفيف أمرها ، وأفرده لعزته ؛ وعن جعفر بن محمد : من عظم حرمة الصديق أن جعله كالنفس والأب ومن معه .
قال الأصبهاني : وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح ، وبما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل .
ولما ذكر الأكل ، ذكر حاله فقال : ( ليس عليكم جناح ) أي شيء من الإثم الذي منشأنه أن يميل بصاحبه عن السواء في ) أن تأكلوا جميعاً ) أي مجتمعين وإن كان بينكم ناقص الخلقة ، لأن من كان معرضاً للآفات جدير بأن يرحم المبتلى ، فلا يستقذره حذراً من انعكاس الحال .(5/285)
صفحة رقم 286
ولما رغب في أول الإسلام - لما كان فيه أكثر الناس من الضيق - في المؤاساة ، والاجتماع مع الضيوف ، ترغيباً ظن به الوجوب ، مع ما كانوا عليه من الكرم الباعث على الجود والاجتماع للأنس بالمحتاج ، خفف عنهم بقوله : ( أو أشتاتاً ) أي متفرقين لغير قصد الاستقذار ، والترفع والإضرار ، وإن كان الأكل في جماعة أفضل وأبرك - كما يفهمه تقديمه ، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنا نأكل ولا نشبع ، قال : ( فلعلكم تأكلون متفرقين ؟ اجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه ) ولابن ماجه عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة ) ولما ذكر مواطن الأكل وكيفيته ، ذكرالحال التي يكون عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرهن فقال مسبباً عما مضى من الإذن ، معبراً بأداة التحقيق ، بشارة بأنهم يطيعون بعد أن كانوا تحرجوا من ذلك حين أنزل تعالى
77 ( ) ا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( ) 7
[ النساء : 29 ] : ( فإذا دخلتم ) أي بسبب ذلك أو غيره ) بيوتاً ) أي مأذوناً فيها ، أيّ بيوت كانت مملوكة أو لا ، مساجد أو غيرها ) فسلموا ( عقب الدخول ) على أنفسكم ( اي أهلها الذين هم منكم ديناً وقرباً ، وعبر بذلك ترغيباً بالإسلام ، والإحسان في الإكرام ، ولتصلح العبارة لما إذا لم يكن فيها أحد فيقال حينئذ ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) فيكون من الاستعمال في الحقيقة والمجاز ) تحية ( مصدر من المعنى دون اللفظ ، أو أوقعوا الدعاء للمحيي بسلامة وحياة وملك بقاء ) من عند الله ) أي هي جديرة لتمام حسنها أن تضاف إلى من له الكمال كله سبحانه ) مباركة ) أي ثابتة أعظم ثبات بكونها موافقة لما شرع الله من خالص قلوبكم ) طيبة ( تلذذ السمع ؛ ثم وصف البيان ، تنبيهاً على ما في هذه آيات من الحسن والإحسانن فقال مستأنفاً كما مر غير مرة : ( كذلك ) أي مثل هذا البيان ، العظيم الشأن ) يبين الله ) أي المحيط بكل شيء ) لكم الآيات ( التي لا أكمل منها .
ولما كان الله تعالى ، بعلمه وحكمته ، وعزه وقدرته ، ولطفه وخبرته ، قد خلق عقلاً نيراً إلى الحق ، وإلى طريق مستقيم ، وقسمع بين عباده ، وخلق فيهم أنواعاً(5/286)
صفحة رقم 287
من العوائق لذلك العقل عن النفوذ على سمت الاستقامة ، من الهوى والكسل ، الفتور والملل ، جعلها حجباً تحجبه عن النفوذ ، وتستر عنه المدارك ، و تمنعه من البلوغ ، إلا برياضات ومجاهدات تكل عنها ا لقوى ، وتضعف عندها العزائم ، فلا يكاد الماهر منهم يرتب قياساً صحيحاً ، لغلطه في المقدمات ، فتكون النتيجة حينئذ فاسدة القاعدة ، واهية الأساس ، فكنوا لا يزالون لذلك مختلفين ، حتى يوصلهم الاختلاف إلى الإجن ، والمشاجرة والفتن ، فيجرهم إلى السيف وذهاب النفوس تلف الأرواح ، فأنزل سبحانه لهم في كل وقت شرعاً يليق بذلك الزمان على لسان رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام ، جعل ذلك الشرع يطابق العقل السوي ، والنر الضوي ، والمنهل الروي ، والسبب القوي ، من تمسك به هدي ولم يزغ ، حد فيه سبحانه حدوداً ، وأقام فيه زواجر ، لتظهر حكمته ، ويتضح علمه وقدرته ، فصارت شرائع متفقة الأصول ، مختلفة الفروع ، بحسب الأزمنة ، إشارة إلى أن الفاعل في تغيير الأحكام بحسب الأزمان واحد مختار ، وامتحاناً للعباد ، تمييزاً لأهل الصالح منهم من أهل الفساد ، وكانت الإغارة على شيء من الأعراض والأموال على غير ما أذن فيه تُذهب العقول ، وتعمي البصائر ، ختم الآية بقوله : ( لعلكم تعقلون ) أي لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من ثبات هذا الوصف لكم ، وهو ضبط النفوس وردها عن الأهوية ، باتباع آيات الشرع التي أنزلها الذي كرر وصفه هنا بأنه عليم حكيم ، فلا تتولوا بعد قولكم ) ) سمعنا وأطعنا ( ) [ المائدة : 7 ] عن الأذعان للأحكام وأنتم معرضون .
النور : ( 62 - 64 ) إنما المؤمنون الذين. .. . .
) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ ( ( )
ولما كان سبحانه قد نفى عنهم الإيمان بالتولي عن الأحكام ، وتلاه بما رأيت أن تظمه أحين نظام ، حتى ختم بما أومأ إلى أن من عمي عن أحكامه بعد هذا البيان مسلوب العقل ، وكرر في هذه السورة ذكر البيان ، تكريراً أشار إلى لمعان المعاني بأمتن بنان حتى صارت مشخصات للعيان ، وبين من حا وصف الإيمان ، بحسن الاستئذان ، (5/287)
صفحة رقم 288
وكان أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أجلّ موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان ، فتصير الأرض برحبها ضيقة لأجله ، محظراً سلوكها مِن جرّاه ، بمنزلة بيت الغير الذي لا يحل دخوله بغير إذن ، قال معرفاً بذلك على طريق الحصر مقابلاً لسلب
77 ( ) وما أولئك بالمؤمنين ( ) 7
[ المائدة : 43 ] مبيناً عظيم الجناية في الذهاب عن مجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المقتضي للجمع من غير إذن : ( إنما المؤمنون ) أي الكاملون الذين لهم الفلاح ) الذين آمنوا بالله ) أي الملك الأعلى ) ورسوله ( ظاهراً وباطناً .
ولما كان الكلام في الراسخين ، كان الموضع لأداة التحقيق فقال : ( وإذا ) أي وصدقوا إيمانهم بأنهم إذا ) كانوا معه ) أي الرسول صلى الله عليه السلام ) على أمر جامع ( اي لهم على الله ، كالجهاد لأعداء الله ، والتشاور في مهم ، وصلاة الجمعة ، ونحو ذلك ) لم يذهبوا ( عن ذلك المر خطوة إلى موضع من الأرض ول أنه يوتهم ، لشيء من الأشياء ولو أنه أهم مهماتهم ، لأنه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ) حتى يستأذنوه ( فيأذن لهم ، لأن المأمور به قد صار منزلهم ومأواهم ومتبوأهم ، وصار كل ما سواه من الأماكن والأمور له عليه الصلاة والسلام دونهم ، لا حظ لهم فيه ، فلا يحل لهم أن يدخلوه حساً أو معنى إلا بإذنه ، وهذا من عظيم النتبيه على عليّ أمره ، وشريف قدره ، وذلك عند الانصارف عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجعل رتبة ذلك تالية لرتبة الإيمان بالله والرسول ، وجعلهما كالتسبيب له مع تصدير الجملة بأداة الحصر ، وإيقاع المؤمنين في مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت وصلته بالرتب الثلاث شرحاً له .
ولما نفى عن المؤمنين الذهاب إلى غاية الاستئذان ، فأفهم أن المستأذن مؤمن ، صرح بهذا المفهوم ليكون آكد ، فقال تشديداً في الإخلال بالأداب بين يديه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتأكيداً لحفظ حرمته والأدب معه لئلا يتشوش فكره في أسلوب آخر ، وبياناً لأن الاستئذان مصداق الإيمان : ( إن الذين يستأذنوك ( اي يطلبون إذنك لهم إذا أرادوا الانصراف ، في شيء من أمورهم التي يحتمل أن تمنع منها ) أولئك ( العالو الرتبة خاصة ) الذين يؤمنون ) أي يوجدون الإيمان في كل وقت ) بالله ( الذي له الأمر كله فلا كفوء له ) ورسوله ( وذلك ناظم لأشتات خصال الإيمان .
ولما قصرهم على الستئذانن تسبب عن ذلك إعلامه ( صلى الله عليه وسلم ) بما يفعل غذ ذاك فقال : ( فإن استأذنوك ) أي هؤلاء الذين صحت دعواهم ؛ وشدد عليهم تأكيداً لتعظيم الأدب معه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( لبعض شأنهم ( وهو ما تشتد الحاجة إليه ) فأذن لمن شئت منهم ( قيل : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صعد المنبر يوم الجمعة فمن اراد أن يخرج لعذر قام بحياله(5/288)
صفحة رقم 289
فيعرف أنه يستأذن فيأذن لمن شاء ، قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده ، وقيل : كذلك ينبغي أن يكون الناي مع أمتهم ومقدميهم في الدين والعلم لا يخذلونهم في نازلة من النوازل .
ولما أثبت له بهذا التفويض منالشرف ما لا يبلغ وصفه ، أفهمهم أن حال المستأذن قاصرة عن حال المفوض الملازم كيفما كانت ، فقال : ( واستغفر لهم الله ( اي الذي له الغنى المطلق ، فلا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، أو يكون الكالم شاملاً لمن صحت دعواه وغيره ؛ ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار ، وتطيباً لقلوب أهل الأوزار ، بقوله : ( إن الله ( اي الذي له صفات الكمال ) غفور ( اي له هذا الوصف فهو جدير بأن يغفر لهم ما قصروا فيه ) رحيم ) أي فكل ما أمرهم به فهو خير لهم وإن تراءى لهم خلافه .
ولما أظهرت هذه السورة بعمومها ، وهذه الآيات بخصوصها ، من شرف الرسول ما بهر العقول ، لأجل ما وقع للمنافق من التجرؤ على ذلك الجناب الأشم ، والمنصب الأتم ، وعلم منه أن له ( صلى الله عليه وسلم ) في كل أمره وجميع شأنه خصوصية ليست لغيره ، صرح بذلك تفخيماً للشأن ، وتعظيماً للمقام ، ليتأدب من ناضل عن المنافق ، أو توانى في أمره فقصر عن مدى أهل السوابق ، فقال منبهاً على أن المصائب سبب لإظهار المناقب أو إشهار المعايب ) لا تجعلوا ) أي ايها الذين آمنوا ) دعاء الرسول ) أي لكم الذي يوقعه ) بينكم ( ولو على سبيل العموم ، في وجوب الامتثال ) كدعاء بعضكم بعضاً ( فإن أمره عظيم ، ومخالفته استحلالاً كفر ، ولا تجعلوا أيضاً دعاءكم إياه كدعاء بعضكم لبعض بمجرد الاسم ، بل تأدبوا معه بالتفخيم والتبجيل والتعظيم كما سن الله بنحو : يا ايها النبي ، ويا أيها الرسول ، مع إظهار الأدب في هيئة القول الفعل بخفض الصوت والتواضع .
ولما كان بعضهم يظهر المؤالفة ، ويبطن المخالفة ، حذر من ذلك بشمول علمه وتمام قدرته ، فقال معللاً مؤكداً محققاً معلماً بتجديد تعليق العلم الشهودي كلما جدد أحد خيانة لدوام اتصافه بإحاطة العلم من غير نظر إلى زمان : ( قد يعلم الله ) أي الحائز لجميع صفات المجد إن ظننتم أن ما تفعلونه من التستر يخفي أمركم على رسوله صلى الله عليه السلام ، فهو سبحانه يعلم ) الذين يتسللون ( وعين أهل التوبيخ بقوله : ( منكم ) أي يتكلفون سلَّ أنفسهم ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء ) لوذاً ) أي تسللاً مستخفين به بتستر بعضهم فيه ببعض ؛ يقال : لاذ بالشيء لوذاً واواذاً وملاوذة : استتر وتحصن ، فهو مصدر لتسلل من غير لفظه ، ولعله أدخل ( قد ) على المضارع ليزيد أهل التحقيق تحقيقاً ، ويفتح(5/289)
صفحة رقم 290
لأهل الريب إلى الاحتمال طريقاً ، فإنه يكفي في الخوف من النكال طروق الاحتمال ؛ وسبب عن علمه قوله : ( فليحذر ) أي يوقع الحذر ) الذين يخالفون ( اي يوقعون مخالفته بالذهاب مجاوزين معرضين ) عن أمره ) أي أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، إلىخلافه ) أن تصيبهم فتنة ( اس شيء يخالطهم في الدنيا فيحل أمورهم إلى غير الحالة المحبوبة التي كاونوا عليها ) أو يصيبهم عذاب أليم ( في الآخرة ، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب حتى يصرف عنه صارف ، اترتيب العقاب على الإخلال به ، لأن التحذير من العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب .
ولما أقام سبحانه الأدلة على أنه نور السماوات والأرضبأ ، ه لا قيام لشيء إلا به سبحانه ، وختم بالتحذير لكل مخالفن أنتج ذلك أن له كل شيء فقال : ( ألا إن لله ( اي الذي له جميع المجد جميع ) ما في السماوات ( ولثبوت أنه سبحانه محيط العلم والقدرة ، لم يقتض المقام التأكيد بإعادة الموصول فقال : ( والأرض ( اي من جوهر وعرض ، وهما له أيضاً لأن الأرض في السماء ، وكل سماء في التي فوقها حتى ينتهي ذلك إلى العرش الذي صرح في غير ىية أنه صاحبه ، وهو سماء أيضاً لعلوه عما دونه ، فكل ما فيه له ، وذلك أبلغ - لدلالته بطريق المجاز - مما لو صرح به ، فدل ذلك - بعد الدلالة على وجوده - على وحدانيته ، وكمال علمه وقدرته .
ولما كانت أحوالهم من جملة ما له ، كان من المعلوم أنها لم تقم في أصلها ولا بقاء لها إلا بعلمه ولأنها بخلقه ، فلذلك قال محققاً مؤكداً مرهباً : ( قد يعلم ما أنتم ( أيها الناس كلكم ) عليه ) أي الآن ، والمراد بالمضارع هنا وجود الوصف من غير نظر إلى زمان ، ولو عبر بالماضي لتوهم الاختصاص به ، والكلام في إخال ( قد ) عليه كما مضى آنفاً باعتبار أولي النفوذ في البصر ، وأهل الكلال والكدر ) ويوم ( اي ويعلم ما هم عليه يوم ) يرجعون ( اي بقهر قاهر لهم على ذلك ، لا يقدرون له على دفاع ، ولا نوع امتناع ) إليه ( وكان الأصل : ما أنتم عليه ، ولكنه أعرض عنهم تهويلاً للأمر ، أو يكون ذلك خاصاً بالمتولين المعرضين إشارة إلى أنهم يناقشون الحساب ، ويكون سر الالتفاف التنبيه على الإعراض عن المكذب بالقيامة ، والإقبال على المصدق ، صوناً لنفيس الكلام ، عن الجفاة الأغبياء اللئام ) فينبئهم ) أي فيتسبب عن ذلك أنه يخبرهم تخبيراً عظيماً ) بما عملوا ( فليعدوا لكل شيء منه جواباً ) والله ( اي الذي له الإحاطة الكاملة ) بكل شيء ( من ذلك وغيره ) عليم ( فلذلك أنزل الآيات البينات ، وكان نور الأرض والسماوات ، فقد رد الختام على المبدأ ، والتحم ىلآخر بالأول والاثنا - والله الهادي .
.. .. .(5/290)
صفحة رقم 291
سورة الفرقان
الفرقان : ( 1 - 3 ) تبارك الذي نزل. .. . .
) تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً ( ( )
مقصودها إنذار عامة المكلفين بما له سبحانه من القدرة الشاملة ، المستلزم للعلم التام ، المدلول عليه بهذا القرآن المبين ، المستلزم لأنه لا موجد على الحقيقة سواه ، فهو الحق ، وما سواه باطل ؛ وتسميتها بالقرقان واضح الدلالة على ذلك ، فإن الكتاب ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبسات ، وتمييز الحق منالباطل ) ) ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ( ) [ الأنفال : 42 ] فلا يكون لأحد على الله حجة ) بسم الله ( الذي له الحجة البالغة ، لإحاطة عظمته ، وشمول علمه وقدرته ) الرحمن ( الذي عم بنعمه الفرقان ، أهلَ الإيمان والكفران ) الرحيم ( الذي خص من شاء من عباده بملابس الرضوان .
لما ختم سبحانه تلك بسعة الملك ، وشمول العلم ، وتعظيم الرسول ، والتهديد لمن تجاوز الحد ، افتتح هذه بمثل ذلك على وجه - مع كونه أضخم منه - هو برهان عليه فقال : ( تبارك ) أي ثبت ثبوتاً مع اليمن والخير الذي به سبقت الرحمة الغضب ، والتعالي في الصفات الأفعال ، فلا ثيوت يدانيه ، ولا يكون ذلك كذلك إلا بتمام قدرته ، ولا تتم قدرته إلا بشمول علمه ، وهذا الفعل مطاوع ( بارك ) وهو مختص بالله تعالى لم يستعمل لغيره ، ولذلك لم ينصرف لمستقبل ولا اسم فاعل ؛ ثم وصف نفسه الشريفة بما يدل على ذلك فقال : ( الذي ( .
ولما كان تكرار الإنذار - الذي هو مقصود السورة - أنفع ، وتفريقه في أوقات(5/291)
صفحة رقم 292
متراسلة أصدع للقلوب وأردع ، وكان إيضاح المشكلات ، في الفرق بين الملتبسات ، أعون بما يكون علة ، عبر بما يدل على الفرق وقدمه فقال : ( نزل الفرقان ( اي الكتاب الذي نزل إلى سماء الدنيا فكان كتاباً ، ثم نزل مفرقاً بحسب المصالح ، فسمي لذلك فرقاناً ، ولأنه الفارق بين ملتبس ، فلا يدع خفاء إلا بينه ، ولاحقاً إلا أثبته ، ولا باطلاً إلا نفاه ومحقه ، فيه انتظام الحياة الأولى والأخرى ، فكان قاطعاً على علم منزله ، ومن علمه الباهر إنزاله ) على عبده ) أي الذي لا أحق منه بإضافته إلى ضميره الشريف ، لأنه خالص له ، لا شائبة لغيره فيه أصلاً ، ولم يحز مخلوق ما جاز من طهارة الشيم ، وارتفاع الهمم ، ولا شك أن الرسول دال على مرسله في مقدار علمه ، وكثرة جنده ، واتساع ملكه
77 ( ) الله أعلم حيث يجعل رسالاته ( ) 7
[ الأنعام : 124 ] ثم علل إنزاله عليه بقوله : ( ليكون ( اي العبد أو الفرقان .
ولما كان العالم ما سوى الله ، وكان ادعى مدع أم المراد البعضن لأنه قد يطلق اللفظ على جزء معناه بدلالة التضمن ، وكان الجمع لا بد أن يفيد ما أفاده المفرد بزيادة ، جمع ليعرف أن المراد المدلول المطابقي ، مع التصريح باستغراق جميع الأنواع الداخلة تحت مفهوم المفرد ، واختار جمع العقلاء تغليباً ، إعلاماً بأنهم المقصودون بالذات فقال : ( للعالمين ( اي المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة .
ولما كان كل من الكتاب والمنزل عليه بالغاً في معناه ، عبر بما يصح أن يراد به المنذر والإنذار على وجه المبالغة فقال : ( نذيراً ) أي وبيراً ، وإنما اقتصر على النذارة للإشارة إلى البشارة بلفظ ) تبارك ( ولأن المقام لها ، لما ختم به تلك من إعراض المتولين عن الأحكام ، ونفى الإيمان عنهم بانتفاء الإسلام ، وفيه إشارة إلى كثرة المستحقين للنذارة ، ولا التفات إلى من قال : إن الرازي والبرهان النسفي نقلاً الإجماع على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يرسل الملائكة ، فإن عبارة الرازي في بعض نسخ تفسيره : لكنا أجمعنا على أنه لم يرسل إلى الملائكة ، وفي أكثر النسخ : بينا - بدل : أجمعنا ، على أنه لو اتفقت جميع النسخ عليها لم تضر ، لأنها غير صريحة في إرادة الإجماع ، ولأن الإجماع لا يثبت بنقل واحد لا سيما في مثل هذا الذي تظافرت الظواهر على خلافه ، ولم يرد مانع منه ، وأما البرهان النسفي فمن الرازي أخذ ، وعبر بعبارته ، فصارا واحداً ، وقد بينت ذلك عند قوله تعالى في سورة الأنعام ) لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] بيناً شافياً لا ارتياب معه ، بل ولو قيل : إن الآية على ظاهرها ، لا خصوص فيها بالعقلاء ، وتكليف كل شيء بحسبه ، لكان وجهاً ، وبذلك صرح الإمام تاج الدين السبكي في أول الترشيح في قوله : ( وأصلي على نبيه نحمد المصطفى المبعوث إلى كل(5/292)
صفحة رقم 293
شيء ) وكذلكا لمحب الطبري في آخر طالقرى لقاصدي أم القرى ( وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما دعا جامداً ولا متحراكاً غير الإنسان إلا أجابه بما هو مقتضى
77 ( ) إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ( ) 7
[ الأحزاب : 72 ] دعا غير مرة عدة من أغصان الأشجار فأتته تسجد له ، ثم أمرها بأن ترجع إلى مكانها ففعلت ؛ ودعا الضب وغيره من الحيوانات العجم فأطاعته ؛ ودعا الأشجار غير مرة فسمعت وسعت إليه ؛ وأمر الجبل لما رجف فأذعن ؛ وأرسل إلى نخل وأحجار يأمرهن بالاجتماع ليقضي إليهن حاجة ففعلن ، ثم أرسل يأمرهن بالرجوع إلى أماكنهن فأجبن ؛ وغمز الأرض فنبع منها الماء ؛ وأرسل سهمه إلى البئر فجاشت بالرواء - إلى غير ذلك مما هو مضمن في دلائل النبوةن بل ولا دعا طفلاً رضيعاً إلا شهد له لكونه على الفطرة الأولى - إلى غير ذلك مما هو دال على ظاعر الآية المقتضي لزيادة شرفه ( صلى الله عليه وسلم ) من غير محذور يلزم عليه ولا نص يخالفة - والله الهادي .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما تضمنت سورة النور بيان كثير من الأحكام كحكم الزنى ، ورمي الزوجات به ، والقذف ، والاتئذان ، والحجاب ، وإسعاف الفقير ، والكتابة ، وغير ذلك ، والكشف عن مغيبات ، من تغاير حالات ، تبين بمعرفتها الاطلاع عليها الخبيث من الطيب ، كاطلاعه سبحانه نبيه والمؤمنين على ما تقوله أهل الإفك ، وبيان سوء حالهم ، واضمحلال محالهم ، في قصة المنافقين في إظهارهم ضد ما يضمرون ؛ ثم كريم وعده للخلفاء الراشدين
77 ( ) وعد الله الذين آمنوا منكم ( ) 7
[ المائدة : 9 ] ثم ما فضح به تعالى منافقي الخندق
77 ( ) قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً ( ) 7
[ النور : 63 ] إلى آخر الآية ، فكان مجموع هذا فرقاناً يعتضد به الإيمان ، ولا ينكره مقر بالرحمن ، يشهد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بصحة رسالته ، ويوضح مضمن قوله
77 ( ) ا تجعلوا دعاء الرسول بينكم ( ) 7
[ النور : 63 ] من عظيم قدره ( صلى الله عليه وسلم ) وعليّ جلالته ، أتبعه سبحانه بقوله
77 ( ) تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ( ) 7
[ الفرقان : 1 ] وهو القرآن(5/293)
صفحة رقم 294
الفارق بين الحق والباطل ، والمطلع على ما أخفاه المنافقون وأبطنوه من المكر والكفر
77 ( ) ليكون للعاالمين نذيراً ( ) 7
[ الفرقان : 1 ] فيحذرهم من مرتكبات المنافقين والتشبه بهم ؛ ثم تناسخ الكلام ، والتحم جليل المعهد من ذلك النظام ، وتضمنت هذه السورة من النعي على الكفار والتعريف ببهتهم وسوء مرتكبهم ما لم يتضمن كثير من نظائرها كقولهم
77 ( ) ما لهذا الرسول يأكل الطعام ( ) 7
[ الفرقان : 7 ] الآيات ، وقولهم
77 ( ) لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ( ) 7
[ الفرقان : 21 ] وقولهم
77 ( ) لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ( ) 7
[ الفرقان : 32 ] وقولهم
77 ( ) وما الرحمن ( ) 7
[ الفرقان : 60 ] إلىما عضد هذه وتخللها ، ولهذا ختمت بقاطع الوعيد ، وأشد التهديد ، وهو قوله سبحانه
77 ( ) فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً ( ) 7
[ الفرقان : 77 ] انتهى .
ولما تقدم ذكر منزل الفرقان سبحانه ، وذكر الفرقان والمنزل عليه على طريق الإجمال ، أتبع ذلك تفصيله على الترتيب ، فبدأ بوصف المنزل سبحانه بما هو أدل دليل على إرادة التعميم في الرسالو لكل من يريد ، فقال : ( الذي له ) أي وحده ) ملك السماوات والأرض ( فلا إنكار لأن يرسل رسولاً إلى كل من فيهما ) ولم يتخذ ولداً ( ليتكبر على رسوله ) ولم يكن له شريك في الملك ( ليناقضه في الرسالة أو يقاسمه إياها ، فيكون بعض الخلق خارجاً عن رسالته ، أو مراعياً لأمر غير أمره .
ولما كان وقوف الشيء عند حد - بحيث لا يقدر أن يتعداه إلى حد شيء آخر سواه ، فهذا حيوان لا يقدر على جعل نفسه جماداً ولا أعلى من الحيوان ، هذا جماد لا يمكنه جعل نفسه حيواناً ولا أسفل من رتبة الجماد إلى غير ذلك مما يعجز الخلق عن شرحه دالاً على أنه مخلوق مربوب ، قال تعالى : ( وخلق ) أي أحدث إحداثاً مراعي فيه التقدير والتسوية ) كل شيء ) أي مما ادعى فيه الولدية أو الشرك وغيره .
ولما كان قد سوى كل شيء لما يصلح له وهيأه لذلك ، قال شارحاً ومحققاً لمعنى ( خلق ) : ( فقدره ( في إيجاده من غير تفاوت ) تقديراً ) أي لا يمكن ذلك الشيء مجاوزته فيما خلق لأجله وهيىء ويسر له إلى غيره بوجه من الوجوه .
ولما ذكر بما ركز في فطرهم من العلم ، عجب منهم لكل ذي عقل في جملة حالية فيما خالفوا ما لهم من المشاهدة ، فقال مضمراً للفاعل إشارة إل استهجان نسبة هذا الفعل إلى الفاعل معين توبيخاً لهم وإرشاداً إلى المبادرة من كل سامع إلى نفيه عنه فقال : ( واتخذوا ) أي كلف أنفسهم عبدة الأوثان أن أخذوا .
ولما كان لا يحد ، فكانت الرتب السافلة لا تحصى ، نبه على ذلك(5/294)
صفحة رقم 295
بالجار فقال ) من دونه ) أي بعد ما قام من الدليل على أنه الإله وحده من الحثيثات التي تقدمت ) آلهة ( المتحدون مشاهدون لأنهم كما قال تعالى : ( لا يخلقون شيئاً ) أي لا أعجز منهم ، لا يكون منهم إيجاد شيء ، فيهم دون من عبدهم .
ولما كانت ربما ادعى أنهم مع ذلك غير مخلوقين قال : ( وهم يخلقون ) أي بما يشاهد فيهم من التغير والطواعية لمشيئته سبحانه ، ومن غير ذلك أن عبدتهم افتعلوهم بالنحت والتصوير .
ولما قرر أنه أنعم على كل شيء ، وكانت النعم أكثر وجوداً ، وكان أدنى نعمة على الشيء خلقه سبحانه له ، أخبر أن ذلك الغير لا يقدر على ضر نفسه ولا بالإعدام ، فقال معبراً بأداة العقلاء تهكماً بعابديهم حيث أقاموهم في ذلك المقام ، أو تغليباً لأنهم عبدوا الملائكة وعزيزاً والمسيح عليهم السلام : ( ولا يملكون ) أي لا يتجدد لهم بوجه من الوججوه أن يملكوا ) لأنفسهم ضراً ( ولذلك قدمه ، ونكره ليعم .
فلما ثبت بذلك أنهم خلقه ، ولكن كان ربما قال متعنت : إنهم يملكن ذلك ولكنهم يتركنه عمداً ، لأن أحداً لا يريد ضر نفسه ، قال : ( ولا نفعاً ( اي ولو بالبقاء على حالة واحدة ، وعبدتهم يقدرون على ما أراد الله م ذلك على وجه الكسب ، فهم أعلى منهم وعبادة الأعلى لمن دونه ليست من أفعال العقلاء .
ولما كان الموت والحياة ما ليس لغيرهما من عظيم الشأن ، أعاد العامل فقال : ( ولا يملكون ( وقدم الموت لأن الحياة أكثر ، فقال مبتدئاً بما هو من باب الضر على نسق م قبله : ( موتاً ) أي لأنفسهم ولا لغيرهم ) ولا حياة ) أي من العدم ) ولا نشوراً ( اي إعادة لما طوي من الحياة بالموت ، وعطفها بالواو وإن كان بعضها مسبباً عما قبله إشارة إلى أن كل واحدة منها كافية في سلب الإلهية عنهم بما ثبت من العجز .
الفرقان : ( 4 - 8 ) وقال الذين كفروا. .. . .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ( ( )
ولما وصف منزل الفرقان بما لا يحيط به علم أحد غيره من الشؤون ، فاتضح بذلك إعجاز المنزل الذي أبام ذلك ، وهو هذا القرآن ، وأنه وحده الفرقان ، عجب من حالا لمكذبين بهه فقال موضع ) وقالوا ( : ( وقال الذين كفروا ( مظهراً الوصف الذي(5/295)
صفحة رقم 296
حملهم على هذا القول ، وهو ستر ما ظهر لهم ولغيرهم كالشمس والاجتهاد في إخفائه : ( إن ) أي ما ) هذا ) أي القرآن ) إلا إفك ) أي كذب مصروف عن ظاهره ووجه هو أسوأ الكذب ) افتراه ( اي تعمد كذبه هذا النذير ، فكان قولهم هذا موضع العجب لكونه ظاهر الخلل .
ولما كان الإنسان مطبوعاً على أنه يتكثر بأدنى شيء من المحاسن فيحب أن تظهر عنه ولا ينسب شيء منها إلى غيره ، كان أ " جب من ذلك وأظهر عواراً قولهم : ( وأعانه ) أي محمداً ) عليه ) أي القرآن ) قوم ) أي ذوو كفاية حبوه بما يتشرف به دونهم ؛ وزادوا بعداً بقولهم : ( آخرون ) أي من غير قومه ؛ فقيل : أرادوا اليهود ، وقيل : غيرهم ممن في بلدهم من العبيد النصارى وغيرهم ، فلذلك تسبب عنه قوله تعالى : ( فقد جاؤوا ) أي ميلاً مع جلافة عظيمة عن السنن المستقيم في نسبة أصدق الناس وأطهرهم خليقة ، وأقومهم طريقة ، إلى هذه الدنايا التي لا يرضاها لنفسه أسقط الناس ، فإنها - مع كنها دنيئة في نفسها - مضمنة الفضيحة ؛ قال ابن جرير وأصل الزور تحسين الباطل وتأويل الكلام .
ولما تبين تناقضهم أولاً في ادعائهم في القرآن ما هو واضح المنافاة لوصفه ، وثانياً بأنه أعين عليه بعد ما أشعرت به صيغة الافتعال منالانفراد ، أتبعه تعالى تناقضاً لهم آخر بقوله معجباً : ( وقالوا ) أي الكفار ) أساطير ( جمع إسطارة وأسطورة ) الأولين ( من نحو أحاديث رستم وإسفنديار ، فصرحوا أنه ليس له فيه شيء ) اكتتبها ) أي تطلب كتابتها له ) فهي ) أي فتسبب عن تكلفه أنها ) تملى ) أي تلقى من ملق ما إلقاء جيداً متجدداً مستمراً ) عليه ( من الكتاب الذي اكتتبها فيه في أوقات الفراغ ) بكرة ( قبل أن ينتشر الناس ) وأصيلاً ) أي وعشياً حين يأوون إلى مساكنهم ، أو دائماً ليتكلف حفظها بعد أن تلكف تحصيلها بالانتساخ أنه أمي ، وهذا كما ترى لا يقوله من له مسكة في عقل ولا مروءة ، فإن من المعلوم الذي لا يخفى على عاقل أن إنساناً لو لازم شيئاً عشرة أيام بكرة وعشياً لم يبق ممن يعرفه ويطلع على أحواله أحد حتى عرف ذلك منه ، فلو أنكره بعد لافتضح فضيحة لا يغسل عنه عارها أبداً ، فكيف والبلد صغير ، والرجل عظيم شهير ، وقد ادعوا أنه مصر على ذلك إلى حين مقالتهم بعدها لا ينفك ، وعيروه بأنه معدم يحتاج إلى المشي في الأسواق ، و هو يدعوهم إلى المعارضة ولو بسورة من مثله ، وفيهم الكتاب والشعراء والبلغاء والخطباء ، وهو أكثر منه مالاً ، وأعظم أعواناً ، فلا يقدرون .(5/296)
صفحة رقم 297
ولما رموه بهذه الأقوال التي هم فيها في خبط عشواء ، وكانت مع مونها ظاهرة العوار ، عند ن له أدنى ااستبصار ، تروج على بعض العرب بعض الرواج ، مع سعة عقولهم ، وصحة أفكارهم ، لشبه واهية مكنهم فيها التقليد ، وشدة الالف لما هم عليه من الزمن المديد ، أمره سبحانه بجوابهم مستأنفاً فقال : ( قل ) أي دالاً على بطلان ما قالوه مهدداً لهم : ( أنزله ) أي القرآن من خزائن علمه خلافاً لجميع ما تقولتموه ) الذي يعلم السر ) أي كله ، لا يخفى عليه منه خافية فكيف بالجهر ) في السماوات والأرض ( فهو يجيبكم عن كل ما تقولتموه فيّ وفي كتابه وإن أسررتموه ، ويبين جميع ما يحتاج إليه العباد في الدارين في كلام معجز لفظاً ومعنى على وجه يتحقق كل ذي لب أنه لا يقوله إلا عالم بجميع المعلومات ، ولا يحيط بجميع المعلومات سواه ، وهذا ظاهر جداً من إخباره بالماضي بما يصدقه العلماء من الماضين ، وحكمه على الآتي بما يكون ضربة لازم ، وإظهاره الخبء وإحكامه لجميع ما يقوله ، وقد جرت عادته سبحانه وتعالى بالانتقام ممن كذب عليه بإظهار كذبه أولاً ، ثم بأخذه ثانياً ، ثم عذابه العذاب الأكبر ثالثاً ، فستنظرون من يفعل به ذلك ، وقد بان لعمري صدقه لما وقع منالأمور الثلاثة .
ولما كان من المعلوم أن العالم بكل شيء قادر على شيء كما مضى تقريره في سورة طه ، وكانت العادة جارية بأن من علم استخفاف غيره به وكان قادراً عليه عاجله بالأخذ ، أجيب من كأنه قال : فما له لا يهلك المكذبين له ؟ بقوله مرغباً لهم في التوبة ، مشيراً غلىقدرته بالستر والإنعام ، ومبيناً لفائدة إنزاله إليهم هذا الذكر من الرجوع عما تمادت عليه أزمانهم من الكفر وأنواع المعاصي : ( إنه كان ( أزلاً وأبداً ) غفوراً ( اي بليغ الستر لما يريد من ذنوب عباده ، بأن لا يعاتبهم عليها ولا يؤاخذهم بها ) رحيماً ( بهم في الأنعام عليهم بعد خلقهم ، برزقهم وتركيب العقول فيهم ، ونصب الأدلة لهم ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب فيهم ، وأمهالهم في تكذيبهم ، أي فليس لإمهالهم ووعظهم بما نزله إليهم سبب إلا رحمته وغفرانه وعلمه بأن كتابه صلاح لأحوالهم في الدارين .
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر المنزل والمنزل ، وأخبر عن طعنهم في المنزل الذي هو المقصود بالذات من الرسالة ، وأقام تعالى ذلك الدليل على كذبهم ، أتبعه الإخبار عن طعنهم في الرسول الآتي به ، فقال معجباً عقولهم التي يعدونها أصفى العقول أفكاراً ، وأعلاها آثاراً ، فيما أبدوه من ذلك مما ظنوا أنه دليل على عدم الرسالة ، ولا شيء منه يصلح أن يكون شبهة لذي مسكة من امره ، فضلاً عن أن يكون دليلاً : ( وقالوا ) أي مستفهمين تهكماً بوصفه ، قادحين فيه بفعله ، قول من هو على ثقة من أن(5/297)
صفحة رقم 298
وصف الرسالة ينافيه : ( مال هذا ( والإشارة على هذا الوجه تفهم الاستهانة والتصغير ؛ ثم أظهروا السخرية بقولهم : ( الرسول ) أي الذي يزعم أنه انفرد عن بقية البشر في هذا الزمان بهذا الوصف العالي ) يأكل الطعام ) أي مثل ما نأكل ) ويمشي في الأسواق ) أي التي هي مطالب الدنيا ، كما نمشي .
ولما كانت ترجمة ما مضى : ما له مثلنا وهو يدعي الاختصاص عنا بالرسالة ؟ أتبعوه التعنيف على عدم كونه على واحد من وجوه مغايرة على سبيل التنزل جواباً لمن كأنه قال : فماذا يفعل ؟ بقولهم : ( لولا ) أي هلا ، وهي تأتي للتوبيخ ، وهو مرادهم ) أنزل ) أي من السماء ، من أيّ منزل كان ، منتهياً ) إليه ) أي على الهيئة التي هو عليها في السماء ) ملك ) أي من الملائكة الله على هيئاتهم المباينة لهيئات الآدميين ) فيكون ( بالنصب جواباً للتحضيض ذلك الملك وإن كان هو إنساناً ) معه نذيراً ( فيكون ممتازاً بحال ليس لواحد منا ، ليكون أهيب في النذارة ، لما له من الهيبة والقوة ، وكأنهم عبروا بالماضي إعلاماً بأن مرادهم كونه ي الظهور لهم على غير الهيئة التي يخبركم بها من تجدد نزول الملك عليه في كل حين مستسراً بحيث لا ينظره غيره ، أو لأن الملك يمكن أن يكون على حالة المصاحبة له للنذارة ، وإنما لا يتحول عنها بصعود إلى السماء ولا غيره ، بخلاف الكنز فإنه للنفقة ، فإن لم يتعهد كل وقت نفد ، زهذا سر التعبير ب ( إلى ) دون ( على ) التي هي للتغشي بالوحي ، ولذلك عبروا بالمضارع في قولهم ، متنزلين عن علو تلك الدرجة : ( أو يلقى ) أي من أي ملق كان .
ولما كان الإلقاء دالاً على العلو ، عدلوا عن أداة الاستعلاء التي تقدم التعبير بها في هود عليه السلام من الإنزال إلى حرف النهاية فقالوا : ( إليه ) أي إن لم تكن له تلك الحالة ) كنز ) أي يوجد له هذا الأمر ويتجدد له إلقاؤه غير مكترث ولا معبوء به ، برفعه عن مماثلتنا العامة من كل وجه ، وأيضاً التعبير في هذا الذي بعده بالمضارع أدل على تكالبهم على الدنيا وأنها أكبر همهم .
ثم تنزلوا أيضاً في قولهم : ( أو تكون له ) أي أن لم تكن له شيء مما مضى ) جنة ) أي بستان أو حديقة كما لبعض أكابرنا ) يأكل منها ( فتفرغه عما يتعاطاه في بعض الأحايين من طلب المعاش ، ويكون غناه أعز له وأجلب للخواطر إليه ، وأحث لعكوف الأتباع عليه ، وأجع فيما يريده - هذا على قراءة الجماعة بالياء التحتية ، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالنون يكون المعنى : أنا إذا أمكنا منها ، كان ذلك أجلب لنا إلى اتباعه ، وما قالوه كله فاسد إذ لم يدّع هو ( صلى الله عليه وسلم ) ولا أحد من أتباعه أنه هو ولا أحد من الأنبياء قبله يباين البشر ، ولا أن وصفاً من أوصاف البشر الذاتية ينافي النبوة والرساله ، وأما الاستكثار من الدنيا فهو عائق في الأغلب عن السفر إلى دار(5/298)
صفحة رقم 299
الكرامة ، ومطن السلامة ، وحامل على التجبر ، ولا يفرح به إلا أدنياء الهمم ، وخفة ذات اليد لا تقدح إلا في ناقص يسأل الناس تصريحاً أو تلويحاً إرادة لتكميل نقصه بالحطام الفاني ، وقد شرف الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك بما له من صفات الكمال ، والأخلاق العوال .
ولما كانوا بهذا واضعين الكلام في غير مواضعه ، بعيدين عن وجه الصواب ، قال معجباً من أمرهم : ( وقال الظالمون ( فأظهر الوصف الموجب لهم ذلك : ( إن ) أي ما ) تتبعون ( إن اتبعتم ) إلا رجلاً مسحوراً ) أي يتكلم بما لا يجديه ، فحاله لذلك حال من غلب على عقله بالسحر ، أو ساحراً صار السحر له طبعاً ، فهو يفرق بما جاء به بين المرء وزوجه وولده ونحو ذلك ، وعبروا بصيغة المفعول إشارة إلى هذا ، وهو أنه لكثرة ما يقع منه من ذلك - صار كأنه ينشأ عنه على غير اختياره .
الفرقان : ( 9 - 14 ) انظر كيف ضربوا. .. . .
) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ( ( )
ولما أتم سبحانه ما ذكر من أقوالعهم الناشئة عن ضلالهم ، التفت سبحانه إلى رسول ( صلى الله عليه وسلم ) مسلياً له فقال : ( انظر ( ثم أشار إلى التعجب منهم بأن ما قالوه يستحق الاستفهام بقوله : ( كيف ضربوا ( وقدم ما به العناية فقال : ( لك الأمثال ( فجعلوك تارة مثلهم في الاحتياج إلى الغذاء ، وتارة نظيرهم في التوسل إلى التوصل إلىالأرباح والفوائد ، بلطيف الحيلة وغريز العقل ، وتارة مغلوب العقل مختلط المزاج تأتي بما لا يرضى به عاقل ، وتارة ساحراً تأتي بما يعجز عنه قواهم ، وتحير فيه أفكارهم ) فضلوا ) أي عن جميع طرق العدل ، وسائر أنحاء البيان بسبب ذلك فلم يجدوا قولاً يستقرون عليه وأبعدوا جداً ) فلا يستطيعون ( في الحال ولا في المآلن بسبب هذا الضلال ) سبيلاً ) أي سلوك سبيل من السبل الموصلة غلى ما يستحق أن يقصد ، بل هم في مجاهل موحشة ، وفيافي مهلكة .
ولما ثبت أنه لا وجود لهم لأنهم لا علم لهم ولا قدرة ، وأنهم لا يمن لهم ولا بركة ، لا على أنفسهم ولا غيرهم ، أثيت لنفسه سبحانه ما يستحق من المال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء فقال : ( تبارك ) أي ثبت ثباتاً مقترناً باليمن(5/299)
صفحة رقم 300
والبركة ، لا ثبات إلا هو ) الذي إن شاء ( فإنه لا مكره له ) جعل لك خيراً من ذلك ) أي الذي قالوه على سبيل التهكم ؛ ثم أبدل منه قوله : ( جنات ( فضلاً عن جنة واحدة ) تجري من تحتها الأنهار ) أي تكون أرضها هيوناً نابعة ، أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى ، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجه في استثمارها إلى سقي .
ولما كان القصر - وهو بيت المشيد - ليس مما يستمر فيه الجعل كالجنة التي هذه صفتها ، عبر فيه بالمضارع إيذاناً بالتجديد كلما حصل خلل يقدح في مسمى القصر فقال : ( ويجعل لك قصوراً ( اي بيوتاً مشيدة تسكنها بما يليق بها من الحشم والخدم ، قال البغوي : والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً .
وهذه العبارة الصالحة لأن يجعل له سبحانه ذلك في الدنيا مما فتت في أعضادهم ، وخافوا غائلتها فسهلت من قيادهم ، لعلهم بأن مراسله قادر على ما يريد ، بلكنه سبحانه أغناه عن ذلك يتأييده بالأعوان ، من الملائكة والإنس والجان ، حتى اضمحل أمرهم ، وعيل صبرهم ، ولم يشأ سبحانه ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية ، وأخره إلى الآخرة الباقية ، وقد عرض سبحانه عليه ما شاء من ذلك في الدنيا فأباه ، روى البغوي من طريق ابن المبارك ، والترميذي - وقالك حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( عرض عليّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً ، فقلت : لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ) وروي عن طريق أبي الشيخ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو شئت لسارت معي الجبال الذهب جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة ) فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً ، ( فنظرت إلى جبريل عليه الصلاة والسلام فأشار إلى أن ضع نفسك ، فقلت : نبياًعبداً ) قال : فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ذلك لا يأكل متكئاً ويقول : ( آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد ) وسيأتي في سورة سبأ عند
77 ( ) وأرسلنا له عين القطر ( ) 7
[ سبأ : 12 ] ما يتم هذا ، ولا يبعد عندي أن يكون أشير بالآية الشريفة - وإن كانت في أسلوب الشرط غلى ما فتح عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من الحدائق التي لم يكن مثلها في بلاد العرب لما فتح الله عليه خبير ووادي القرى ، وتصرف في ذلك بنفسه الشريفة وأكل منه وإلى ما فتح على أصحابه من(5/300)
صفحة رقم 301
بعده من بلاد فارس والروم ذات القصور والجنان التي لا مثل لها ولذلك عبر في الجنات بالماضي ، وفي القصور بالمضارع ، وأتيحوا كنوز كسرى بن هرمز ، فإن اللائق بمقام ا لملوك أن تكون إشارتهم أوسع من عباراتهم ، فإذا ذكروا شيئاً ممكناً على سبيل الفرض كان من إرادتهم إيجاده ، ويحبون أن يكتفي منهم بالإيماء ، وأن يعتمد على تلويحهم أعظم مما يعتمد على تصريح غيرهم ، وأن يعد المفروض منهم بمنزلة المجزوم به من غيرهم ، والممكن في كلامهم كالواجب ، فما ظنك بملك الملوك القادر على كل شيء وهو قد صرف سبحانه الخطاب إلى إعلى الناس فهماً ، وأغزرهم علماً ، وقد أراه سبحانه ما يكون من ذلك من بعده في غزوة الخندق .
روى البيهقي في دلال النبوة عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما خط الخندق ليحفره جعل على كل عشرة اربعين ذراعاً ، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه رجلاً قوياً ، فاختلف فيه المهاجرون والأنصار ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سلمان منا أهل البيت ) فخرجت لهم صخرة بيضاء مدورة ، قال عمرو : فكسرت حديدنا .
وشقت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره خبر هذه الصخرة ، فأخبر فأخذ ( صلى الله عليه وسلم ) المعول من سلمان فضربها ثلاث ضربات صدع فيها في كل ضربة صدعاً ، وكسرها في الثالثة ، وبرقت مع كل ضربة برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم ، وكبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع كل برقة تكبيرة ، ثم أخذ بيد سلمان فرقي فسأله سلمان للقوم : ( هل رأيتم ما يقول سلمان ؟ ) قالوا : نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبر ، لانرى شيئاً غير ذلك ، فقال : ( أضاءت لي من البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، ومن الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني ، جبريل عليه الصلاة والسلام أن أمتي ظاهرة عليها ) فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعود صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر ، فطلعت الأحزاب فقال المسلمون
77 ( ) هذا ما وعدنا الله وروله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ( ) 7
[ الأحزاب : 22 ] وقال المنافقون في ذلك ما أشار إليه لله تعالى في القرآن ؛ ثم إن الله تعالى كذب المنافقين وصدق رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فافتتح أصحابه رضي الله عنهم جميع ما ذكر ، (5/301)
صفحة رقم 302
وغلبوا على سائر مملكة الفرس واليمن وأكثر الروم ، وانتثلوا من كنوز كسرى وقيصر ما يفوت الحصر ، وقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) تصرف في ذلك من ذلك الوقت تصرف الملوك ، لأن وعد الله لا خلف فيه ، بل غائبه أعظم من حاضره غيره ، وموعودة أوثق من ناجز سواه ، فأعطى ( صلى الله عليه وسلم ) تميم بن أوس الداري بلد الخليل عليه الصلاة والسلام من أرض الشام من مملكة الروم ، وأعطى خريم بن أوس - الذي يقال له : شويل - كرامة بنت عبد المسيح ابن بقيلة من سبي الحيرة من بلاد العراق من مملكة فارس ، وكل منهم قبض ما أعطاه عند الفتح كما يعرفه من طالع كتب الفتوح علىأيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وفتحه أجمعين ، فعندي أن هذا مما أشارت إليه الاية الشريفة ، نزه الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عنه وفتحه على أصحابه ، تشريفاً لهم بإزالة أهل الشرك عنه ، وإنعاماً عليهم به تصديقاً لوعده ، وإكراماً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بنصر أوليائه وتكثير أمته ، وحضر ذلك كثير ممن كان من القائلين
77 ( ) ما لهذا الرسول ( ) 7
[ الفرقان : 7 ] إلى آخره ، وقد كان قادراً على أن يقويه بجميع ما ينصر به موته ، ولكنه لم يفعل لأن ذلك أوضح في الأمر ، ولا أموال وافرة ، ولا ملوك معينة قاهرة ، بل أهل الدنيا من غير جنود كثيرة ظاهرة ، ولا أموال وافرة ، ولا ملوك معينة قاهرة ، بل كانت الملوك عليه ، ثم صاروا كلهم أهون شيء عليه ، بيد أصحابه من بعد وأحبابه .
ولما ثبت بما أثبت انفسه الشريفة من الكمال أنه لا مانع من إيجاد ما ساقوه مساق التوبيخ إلا عدم المشيئة ، لا عجز من الجاعل ولا هوان بالمجعول له ، تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) في أسلوب مشير بأنه يعطيه ذلك ، سلاه أيضاً بأن ما نسبوه إليه لا يعتقدون حقيقتهن فأضرب عن كلامهم قائلاً : ( بل ( اي لا تظن أنهم كذبوا بما جئت به لأنهم يعتقدون فيك كذباً وافتراء للقرآن ، أو نقصاناً لأكلك الطعام ومشيك في الأسواق ، أو في شيء من أحوالك ، أو لا تظن أنهم يكذبون بقدرته تعالى على ما ذكر أنه إن شاء جعله لك بل ، أو المعنى : دع التفكر فيما قالوه من هذا فإنهم لم يقتصروا في التكذيب عليه بل ) كذبوا بالساعة ) أي بقدرتنا عليها ، واستقر ذلك في أنفسهم دهوراً طويلة ، وخذوه خلفاً عن سلف ، وأشرب قلوبهم حب هذا الحطام الفاني ، وتقيدت أوهامهم بهذه الظواهر كالبهائم ، فعسر انفكاكهم عن ذلك بما جاءهم من البيان الذي لا يشكون فيه ، فاجترؤوا لذلك على العناد لعدم الخوف من أهوال يوم القيامة كما قال تعالى عن أهل الكتاب
77 ( ) وغرهم في دينهم م اكانوا يفترون ( ) 7
[ آل عمران : 24 ] ) وأعتدنا ) أي والحال أنا أعتدنا أي هيأنا بما لنا من العظمة ) لمن كذب ( من هؤلاء وغيرهم ) بالسعة سعيراً ) أي ناراً شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم ) إذا رأتهم ) أي إذا كانت بحيث يمكن أن يروها(5/302)
صفحة رقم 303
وتراهم لو كانت مبصرة ) من مكان بعيد ( وهو أقص ما يمكن رؤيتها منه وهم يساقون إليها ) سمعوا لها ( اي خاصة ) تغيظاً ) أي صوتاً في غليانها وفورانها كصوت المتغيظ في تحرقه ونكارته إذا غلا صدره من الغضب ) وزفيراً ) أي صوتاً يدل على تناهي الغضب ، وأصله صوت يسمع من الجوف .
ولما وصف ملاقاتها لهم ، وصف إلقاءهم فيها قال : ( وإذا ألقوا ) أي طرحوا طرح إهانة فجعلوا بأيسر أمر ملاقين ) منها ) أي النار ) مكاناً ( ووصفه بقوله : ( ضيقاً ( زيادة في فظاعتها ) مقرنين ( بأيسر أمر ، أيديهم إلى أعناقهم في السلاسل ، أو جبال المسد ، أو مع من أغواهم من الشياطين ، والتقرين : جمع شيء إلى شيء في قرن وهو الحبل ) دعوا هنالك ) أي في ذلك الموضع البغيض البعيد عن الرفق ) ثبوراً ( اي هلاكاً عظيماً فيقولون : يا ثبوراه لأنه لا مندام لهم غيره ، وليس بحضرة أحد منهم سواه ؛ قال ابن جريرك وأصل الثبر في كلام العرب الانصراف عن الشيء .
فالمعنى حينئذ : دعوا انصرافهم عن الجنة إلى النار الذي تسببوا فيه بانصرافهم عن الإيمان إلى الكفر ، فلم يكن لهم سمير إلا استحضارهم لذلك تأسفاً وتندماً ، فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله تعالى : ( لا تدعوا اليوم ( أيها الكفار ) ثبوراً واحداً ( لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب الهلاك ) وادعوا ثبواً كثيراً ( لا يحصره الإحصاء ولا آخر له ، فإنكم وقعتم يما يوجب ذلك لأن أنواع الهلاك لا تبارحكم أصلاً ولكنه لا موت .
الفرقان : ( 15 - 18 ) قل أذلك خير. .. . .
) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ( ( )
ولما كانت عادتهم تجويز الممكن من كل ما يحذرون منه من الخلق ، اقتضى الحال سؤالهم : هل أعدوا لما هددوا بع من الخالق عدة أم لا ؟ في سياق الاستفهام عن المفاضلة بينه وبين ما وعده المتقون ، تنبيهاً على أنه أعلى رتبة من الممكن فإنه واقع لا محالة ، وتهكماً بهم ، فقال تعالى : ( قل أذلك ) أي الأمر العظيم الهول الذي أوعدتموه من السعير الموصوفة .
ولما كانت عادة العرب في بيان فضل الشيء دون غيره الإتيان بصيغة أفعل تنبيهاً على أن سلب الخير عن مقابله لا يخفى على أحد ، أو يكون ذلك على طريق التنزل(5/303)
صفحة رقم 304
و إرخاء العنان ، تنبيهاً للعاقل على أنه يكفيه في الرجوع عن الغي طروق احتمال لكون ما هو عليه مفضولاً قال : ( خير أم جنة الخلد ) أي الإقامة الدائمة ) التي وعد المتقون ( اي وقع اوعد الصادق المحتم بها ، ممن وعده هو الوعد ، للذين خافوا فصدقوا بالساعة جاعلين بينهم وبين أهوالها وقاية مما أمرتهم به الرسل ؛ ثم حقق تعال أمرها تأكيداً للبشارة بقوله : ( كانت ) أي تكونت ووجدت بإيجاده سبحانه ) لهم جزاء ( على تصديقهم وأعمالهم ) ومصيراً ( اي مستقراً ومنتهى ، وذلك مدح لجزائهم لأنه إذا كان في محل أوسع طيب كان أهنأ له وألذ كما أن العقاب إذا كان في موضع ضيق شنيع كان أنكى وأوجع ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ لمن كان يعقل فيجوز الممكنات .
ولما ذكر تعالى نعيمهم بها ذكر ، تنعيمهم فيها فقال : ( لهم فيها ) أي الجنة خاصة لا في غيرها ) ما يشاؤون ( من كل ما تشتهيه أنفسهم ) خالدين ( لا يبغون عنه حولاً ) كان ) أي ذلك كله ) على ربك ) أي المحسن إليك بالإحسان إلى أتباعك ) وعداً ( .
ولما أشار سبحانه إلى إيجاب ذلك على نفسه العظيمة بالتعبير ب ( على ) والوعد ، وكان الإنسان لا سيما مجبولاً على عزة النفس ، لا يكاد يسمح بأن يسأل فيما لا يحقق حصوله ، قال : ( مسؤولاً ( اي حقيقاً بأن يسأل إنجازه ، لأن سائله خليق بأن يجاب سؤاله ، وتحقق ظنونه وآماله ، فالمعنى أنه إذا انضاف إلى تحتيمه الشيء على نفسه سؤال الموعود به إياه ، أنجز لا محالة ، وهو من وادي
77 ( ) أجيب دعوة الداع إذا دعان ( ) 7
[ البقرة : 186 ] وفيه حث عظيم على الدعاء ، وترجية كبيرة للإجابة ، كما وعد بذلك سبحانه في
77 ( ) أجيب دعوة الداع ( ) 7
[ البقرة : 186 ] و
77 ( ) ادعوني أستجب لكم ( ) 7
[ غافر : 60 ] وإن لم ير الداعي الإنجاز فإن الأمر على ما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى المنذري : بأسانيد جيدة - والحاكم وقال : صحيح الإسناد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من مسلم يدعو ليس فيهم إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : أما أن يجعل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ) ، قالوا : إذن نكثر ؟ قال : الله أكثر ( وللحاكم عن جابر رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه بين يديه فيقول : عبدي إ ، ي أمرتك أن تدعوني ، ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني ؟ فيقول : نعم يا ربفيقول : أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجيب لك ؟(5/304)
صفحة رقم 305
أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك ؟ فيقولك نعم يا رب فيقول : إني عجلتها لك في الدنيا ، ودعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً ؟ قال : نعم يا رب فيقول : إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا ، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا فقضيتها ؟ فيقول : نعم يا رب فيقول : إني عجلتها لك في الدنيا ، ودعوتني يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك فلم تر قضاءها ؟ فيقول : نعم يارب فيقول أني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا ، وإما أن يكون ادخر له في الآخرة ، فيقول المؤمن في ذلك المقام : يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه ( ولابن حبان في صحيحه والحاكم وقال : صحيح الإسناد - عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا ) تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد ( وللترميذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ( وللبخاري ومسلم وأبي داود والترميذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي ( .
وفي رواية لمسلم والترميذي : ( يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل ) ، قيل : يا رسول الله ما الاستعجال ؟ قال : ( يقول : قد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ) قال المنذري : يستحسر اي يمل ويعيى فيترك الدعاء - انتهى .
وقد فهم من الآية ومن الحديث في استثناء الإثم وقطيعة الرحم أن ما لا مانع من سؤاله موعود بإجابته ونواله ، فليدع الإنسان به موقناً بالإجابة .(5/305)
صفحة رقم 306
ولما ذكر لهم حالهم في الساعة معه سبحانه ، أتبعه ذكر حالهم مع معبوداتهم من دونه ، فقال بالالتفات إلى مظهر العظمة على قراءة الجماعة : ( ويوم ( اي قل لهم ما أمرتك به ، واذكر لهم يوم ) يحشرهم ) أي المشركين ، بما لنا من العظمة التي نبرزها في ذلك اليوم ، من القبور ؛ وقرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وحفص عن عاصم بالياء التحتية فيكون الضمير للرب ) وما يعبدون ) أي من الملائكة والإنس والجن وغيرهم ممن يعقل وممن لا يعقل ؛ ونبه على سفول رتبتهم عن ذلك وعدم أهليتهم بقوله : ( من دون الله ( اي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، وذكرها بلفظ ( ما ) إشارة إلى أن ناطقها وصامتها جماد بل عدم بالنسبة إليه سبحانه بما أشار إليه التعبير بالاسم الأعظم الدال على جميع الكمال ، مع ان ( ما ) موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم وإن كان أكثر استعماله في غير العقلاء ، وعبر سبحانه بقوله : ( فيقول ( بإعادة ضمير الغيبة بعد التعبير بنون العظمة في ( نحشر ) في قراءة غير ابن عامر لتقدم الجلالة الشريفة ، تحقيقاً للمراد وتصريحاً به ، وإعلاماً بأن المراد بالنون العظمة لا جمع ، وقرأ ابن عامر بالنون موحداً الأسلوب : ( أنتم ) أي أيها المعبودات بإيلاء الهمزة الضمير سؤالاً عن المضل ، لأن ضلال العبدة معروف لا يسأل عنه ) أضللتم ( بالقهر والخداع والمكر ) عبادي هؤلاء ( حتى عبدوكم كما في الآية الأخرى
77 ( ) ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ( ) 7
[ سبأ : 40 ] في أمثالها منالآيات كما في الحديث القدسي : إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالهم الشياطين .
) أم ( .
ولما كان السؤال - كما مضى - عن الفاعل لا عن الفعل ، كان لا بد من قوله : ( هم ) أي باختيار منهم لإهمالهم استعمال ما أعطيتهم من قويم العقل وسديد النظر ) ضلوا ( وأوصل الفعل بدون ( عن ) كما في هداة الطريق بدون ( إلى ) لكثرة الدور ، وللإشارة إلى قوة الفعل فقال : ( السبيل ( اي الذي نهجته ونصبتت عليه الأدلة القاطعة ، البراهين الساطعة ) قالوا ) أي المعبودات الحي منهم والجماد ، المطيع والعاصي : ( سبحانك ) أي تنزهت عن أن ينسب إلى غيرك قدرة على فعل من الأفعال .
ولما أنتج التنزيه أنهم لا فعل لغيره سبحانه ، عبروا عنه بقولهم : ( ما كان ينبغي ) أي يصح ويتصور ) لنا أن نتخذ ) أي نتكلف أن نأخذ باختيارنا من غير إرادة منك ) من دونك ( وكل ما سواك فهو دونك ) من أولياء ( اي ينفعوننا ، فإنا مفتقرون إلى من ينفعنا لحاجتنا وفقرنا ، فكيف نترك من بيده كل شيء وهو أقرب إلينا في كل معنى من معاني الولاية من كل شيء منالعلم والقدرة وغيرهما إلى من لا شيء بيده ، وهو أبعد بعيد من كل من معاتي الولاية ، فلو تكلفنا جعله قريباً لم يكن كذلك ، وهذه عبارة(5/306)
صفحة رقم 307
صالحة سواء كانت من الصالحين ممن عبد من الأنبياء والملائكة أو غيرهم ، فإن كانت من الصالحين فمعناها : ما كان ينبغي لنا ذلك فلم نفعله وأنت أعلم ، كما قال تعالى ) ) ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس ( ) [ آل عمران : 79 ] الآية ؛ وإن كانت من الجمادات فالمعنى : ما كنا في حيز من يقدر على شيء من ذلك ، ولكن فعلوه بطراً ؛ وإن كانت من مثل فرعون فالمعنى : ما كان لنا هذا ، ولكن هم أنزلونا هذه المنزلة بمجرد دعائنا لهم كما يقول إبليس - فما كان لنا عليهم من سلطان إلا أن دعوناهم فاستجابوا ، وذلك لعدم نظرهم في حقائق الأمور ، فألقى الكل إلى الله يومئذ السلم ، فثبت أنهم ليسوا في تلك الرتبة التي أنزلوهم إياها ، وفائدة السؤال مع شمول علمه تعالى تبكيت المعاندين وزيادة حسراتهم وأسفهم ، وتغبيط المؤمنين إذا سمعوا هذا الجواب ، هذا مع ما في حكايته لنا من الموعظة البالغة ، وقراءة أبي جعفر بالبناء للمفعول بضم النون وفتح الخاء واضحة المعن ، أي يتخذنا أحد آلهة نتولى أموره .
ولما كان المعنى : إنا ما أضللناهم ، أما إذا قدر من الملائكة ونحوهم فواضح ، وأما من غيرهم فإن المضل في الحقيقة هو الله ، وفي الظاهر بطرهم النعمة ، واتباعهم الشهوات التي قصرت بهم عن أمعان النظر ، وأوقفتهم مع الظواهر ، حسن الاستدراك بقوله : ( ولكن ) أي ما اضللناهم نحن ، وإنما هم ضلوا بإرادتك لأنك أنت ) متعتهم وآباءهم ( في الحياة الدنيا بما تستدرجهم به من لطائف المنن ، وأطلت أعمارهم في ذلك ) حتى نسوا الذكر ( الذي لا ينبغي أن يطلق الذكر على غيره ، وهو الإيمان بكل ما أرسلت به سبحانك رسلك برهان ما يعرفه كل عاقل من نفسه بما وهبته من غريزة العقل من أنه لايصح بوجه أن يكون الإله إلا واحداً ، ما بين العاقل وبين ذكر ذلك إلا يسير تأمل ، مع البراءة ن شوائب الحظوظ والحاصل أنك سببت لهم أسباباً لم يقدروا على الهداية معها ، فأنت الملك الفعال لما تريد ، لا فعل لأحد سواك ) وكانوا ( في عملك بما قضيت عليهم في الأزل ) قوماً بوراً ( هلكي .
الفرقان : ( 19 - 22 ) فقد كذبوكم بما. .. . .
) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ( ( )(5/307)
صفحة رقم 308
ولما كان هذا أمراً واقعاً لا محالة ، التفت إليهم مبكتاً فقال معبراً بالماضي بعد ( قد ) المقربة المحققة : ( فقد كذبوكم ) أي المعبودون كذبوا العابدين بسبب إلقائهم السلم المقتضي لأنهم لا يستحقون العبادة وأنهم يشفعون لكم مقهورين مربوبين ) بما ) أي بسبب ما ) تقولون ( أيها العابدون من أنهم يستحقون العبادة ، وأنهم يشفعون لكم ، وأنهم أضلوكم ، وفي قراءة ابن كثير بالتحتانية المعنى : بما يقول المعبدون من التسبيح لله والإذعان ، في ادعائكم أنهم أضلوكم .
ولما تسبب عن إلقائهم السلم وتخليهم عمن عبدهم أنه لا نفع في أيديهم ولا ضر ، قال : ( فما تستطيعون ) أي المعبدون ) صرفاً ) أي لشيء من الأشياء عن أحد من الناس ، لا أنتم ولا غيركم ، من عذاب ولا غيره ، بوجه حيلة ولا شفاعة ولا مفاداة ) ولا نصراً ( بمغالبة ، وهو نحو قوله تعالى
77 ( ) فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ( ) 7
[ الإسراء : 56 ] .
ولما كان التقدير : فمن يعل منكم لسماع هذا الوعظ بوضع العبادة في موضعها نثبه ثواباً جليلاً ، عطف عليه ما المقام له فقال : ( ومن يظلم منكم ( بوضعها في غير موضعها ، وباعتقاده في الرسل ما لا ينبغي لهم أن يكونوا مثل الناس في أكل ولا طلب معيشة ونحو ذلك ) نذقه ( في الدنيا والآخرة ، بما لنا من العظمة ) عذاباً كبيراً ( .
ولما أبطل سبحانه ما وصموا به رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر ما جزاهم عليه .
وما أعد لهم وله ولأتباعه ، ونف ما زعموه في معبوداتهم وختمه بتعذيب الظالم ، ذكر ما ظلموا فيه من قولهم ) ما لهذا الرسول ( ونحوه ، فبين أن ما جعلوه من ذلك وصمة في حقه هو سنته سبحانه في الرسل من قبله أسوة لنوعهم البشري ، وأتبعه سره فقال زيادة في التسلية والتعزية والتأسية : ( وما أرسلنا ( بما لنا من العظمة .
ولما كان المراد العموم ، أعراه من الجار فقال : ( قبلك ( اي يا محمد أحداً ) من المرسلين إلا ( وحالهم ) إنهم ليأكلون الطعام ( ما نأكل ويأكل غيرك من الآدميين ) ويمشون في الأسواق ( كما تفعل ويفعلون أي إلا وحالهم الأكل والمشي لطلب المعاش كحال سائر الآدميين ، وهو يعلمون ذلك لما سمعوا من أخبارهم ، وهذا تأكيد من الله تعالى فإ ، هم لا يكذبونه عليه الصلاة والسلام ، ولا يعتقدون فيه نقصاً ، وإبطال لحجتهم بما قالوه من ذلك ، وإقامة للحجة على عنادهم ، وأنهم إنما يقولونه وأمثاله لمما تقدم من رسوخ التكذيب بالساعة في أنفسهم ) وجعلنا ) أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة ) بعضكم لبعض فتنة ( بأ ، جعلنا هذا نبياً وخصصناه بالسالة ، وهذا ملكاً وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيراً وحرمناه(5/308)
صفحة رقم 309
الدنيا ، ليظهر ما نعلمه من كل من الطاعة والمعصية في عالم الغيب للناس في عالم الشهادة ، فنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني أو جزعه ، والملك ومن في معناه من الأشراف بصبرهم على ما أعطيه الرسول منالكرامة والبلوغ بالقرب من الله إلى ما يبلغونه مع ما هم فيه من العظمة ، فلأجل ذلك لم أعط رسولي الدنيا ، وجعلته ممن يختار العبوديه والكفاف بطلب المعاش في الأسواق ، لأبتليكم في الطاعة له خالصة ، فإني لو أعطيته في الدنيا ، وجعلته ممن يختار الملك ، لسارع الأكثر إلى اتباعه طمعاً في الدنيا ، وهذا معنى ) أتصبرون ( فإنه علة ما قبله ، أي لنعلم علم شهادة هل تصبرون فيما امتحنكم به أم لا ؟ كما كنا نعلمه علم الغيب ، لتقوم عليكم بذلك الحجة في مجاري عاداتكم ، زفيها مع العلية تهديد بليغ لمن تدبر ، ويجوز أن يكون الاستفهام استئنافاً للتهديد .
ولما كان الاختبار ربما أوهم نقصاً في العلم ، وكان إحسانه سبحانه إلى جميع الخلق دون إحسانه إلى سيدهم وعينهم ، وخلاصتهم وزينهم : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان أعلمهم بتزيهه وتعظيمه ، وكان امتحانهم بجعله نبياً عبداً مع كونه في غاية الإكرام له ربما ظنوه إهانة ، نفى ما لعله يوهمه كل من الاستفهام والامتحان في حق الله سبحانهوحق نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال صارفاً وجه الخطاب إليه : ( وكان ربك ) أي المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك ، لا سيما بجعلك نبياً عبداً ) بصيراً ( بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان ، لم يفده ذلك علماً لم يكن ، وهو سبحانه يضع الأمور في حاق مواضعها وإن رئي غير ذلك ، فينبغي على كل أحد التسليم له في جميع الأمور فإنه يجر إلى خير كبير ، والتدبر لأقواله وأفعاله بحسن الانقياد والتلقي فإنه يوصل إلى علم غزير ، وما أراد بابتلائك بهم وابتلائهم بك في هذا الأذى الكبير إلا إعلاه شأنك وإسفال أمرهم
77 ( ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( ) 7
[ ص : 88 ] .
ولما ذكر هذا الايتلاء بعد أن ذكر أول السرة ما هو سبحانه عليه من العظمة من سعة الملك ، وكثرة الصنائع ، والإحسان إل جميع الخلق ، وكان منحق كل مربوب أن يتعرف إلىربه ، كائناً من كان ، لا سيما إذا كان بهذه الصفة ، لينال من إحسانه ، ويتعزز به على أقرانه ، أتبع ذلك أنه كشف الابتلاء عن أنه لا بصر لهم فقال تعالى : ( وقال ( وأظهر في موضع الإضمار الوصف الذي قدم أنه موجب لعماهم فقال : ( الذين لا يرجون ) أي ليست لهم عقول لكونهم نسوا ) لقاءنا ( فهم لا يعملون عملاً يطمعون في إثباتنا لهم عليه بعد الموت على ما يعلمون لنا من العظمة التي من رجاها كانت له فسعد ، ومن أعرض عنها كانت عليه فهلك ، فصارت لذلك عقولهم تبعاً لشهواتهم ، (5/309)
صفحة رقم 310
فصاروا يتعرفون إلى جمادات سموها أربابهم ، ويقصدونها ويتمسحون بها رجاء للمحال ، والانهماك في الضلال ، فذكر الرجاء لهذا الغرض مع أنه يلزمه عدم الخوف : ( لولا ) أي هلا ولم لا .
ولما كان مرادهم لجهلهم أن يروهم كلهم دفعة واحدة ، عبر الإنزال فقال : من لا يحد وصف عظمته ، ولا تدرك مقاصد حكمته ، قال مصدراً بحرف التوقع لما أرشد إليه السياق جواباً لمن كأنه سأل : ما حالهم في هذا ؟ ) لقد ) أي وعزتنا لقد ) استكبروا ) أي طلبوا بل أوجدوا الكبر .
ولما لم يكن لكبرهم ثمرة في الظاهر ، لأنه لا يعود بالضرر على أحد غيرهم ، قال : ( في أنفسهم ) أي بطلب رؤية الملائكة .
ولما كان حاصل أمرهم أنهم طلبوا رتبة النبي الذي واستطته الملك ، وزادوا عليه رؤية جميع الملائكة الآخذين عن الله ، وزادوا على ذلك بطلب الرؤية ، قال : ( وعتوا ) أي وجاوزوا الحد في الاستكبار بما وراءه من طلبهم رؤية جميع الملائكة ورؤية الملك الجبار ، وزاد في تأكيد هذا المعنى لاقتضاء المقام له بقوله : ( عتواً كبيراً ( وبيان أنهم ما قالوا هذا إلا عتواً وظلماً أن ما جاءهم من الآيات التي أعظمها القرآن دلهم قطعاً بعجزهم عنالإتيان بشيء منه على صدقه ( صلى الله عليه وسلم ) عن الله في كل ما يقوله ، وفي حسن هذا الاستئناف وفحوى هذا السياق دلالة على التعجب من غير لفظ تعجب فالمعنى : ما أشد استكبارهم وأكبر عتوهم ثم بين لهم حالهم عند بعض ما طلبوا فقال : ( يوم ( وناصبه ما دل عليه ( لا بشرى ) ) يرون الملائكة ) أي يوم القيامة أو قبله في الغزوات أو عند الاحتضار ) لا بشرى ) أي من البشر أصلاً ) يومئذ للمجرمين ) أي لأحد ممن قطع ما أمر الله به أن يوصل ، ولبيان ذلك أظهر موضع الإضمار ) ويقولون ) أي في ذلك الرقت : ( حجراً محجوراً ) أي نطلب منعاً منكم ممنوعاً ، أي مبالغاً في مانعيته ، ويجوز أن يراد بالمفعول الفاعل ، والمعنى واحد في أنهم يريدون أن يمون بينهم وبين الملائكة مانع عظيم يمنعهم منهم ؛ قال أبو عبيدة : وهذا عوذة العرب ، يقوله من خاف آخر في الحرم أو شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة وقال سيبويه : يريد البراءة من الأمر ويبعد عن نفسه أمراً ، فكأنه قال : أحرم ذلك حراماً محرماً ، ومثل ذلك أن يقول الرجل للرجل : أتفعل كذا وكذا ؟ فيقول : حجراً أي ستراً وبراءة من هذا ، فهذا ينتصب على(5/310)
صفحة رقم 311
إضمار الفعل .
وعبر بالمضارع إشارة غلى دوام تجديدهم لهذا القول بعد مفاجأتهم به حال رؤيتهم لهم لعظيم روعتهم منهم ، بخلاف ما بعده فإنه عبر فيه بالماضي إشارة إلى أنه كائن لا محالة .
الفرقان : ( 23 - 30 ) وقدمنا إلى ما. .. . .
) وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ( ( )
ولما كان المريد لإبطال الشيء - لشدة كراهته له لا يقنع في إبطاله بغيره ، بل يأتيه بنفسه فيبطله ، عبر بقوله : ( وقدمنا ) أي بما لنا من العظمة الباهرة في ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة ) إلى ما عملوا من عمل ) أي من مكارم الأخلاق من الجود وصلة الرحم والحلم والنجدة في الخير وإغاثة الملهوف وغيره ) فجعلناه ( لكونه لم يؤسس على الإيمان ، وإنما هو للهوى والشيطان - باطلاً لا نفع فيه ، وهو معنى ) هباء ( وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من الكوة مما يشبه الغبار ، فهو أشبه شيء بالعدم لأنه لا نفع له أصلاً .
ولما كان الهباء يرى مع السكون منتظماً ، فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب ، معظم دخوله في حيز العدم مع أنه محسوس ، قال مبلغاً في وصف أعمالهم : ( منثوراً ( وهو صفة ، وقيل : مفعول ثالث لجعل ، أي جعلنا الأعمال جامعة لحقارة الهباء والتناثر .
ولما علم من هذا أن التقدير : فكاون بحيث إنهم لا قرار لهم إذا كانت النار مقيلهم ، تلاه بحال أضدادهم فقال : ( أصحاب الجنة يومئذ ) أي يوم إذ يرون الملائكة ) خير مستقراً ) أي مكاناً يصلح للاستقرار لطيبه ، ويكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين على سرر متقابلين يتحادثون ، إشارة إلى أن منزل أولئك لا يمكن الاستقرار فيه ) وأحسن مقيلاً ) أي مكاناً يمكن الاستراحة في مثل وقت القيلولة للاسترواح بأزوجهم ، والتمتع بما يكون في الخلوات ، روي أن وقت الحساب على طوله يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين أول النهار إلى وقت القائلة فيقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ الناس من الحساب .
وعبر بأفعل التفضيل تهكماً بهم أو أنه عبر بذلك لما كان(5/311)
صفحة رقم 312
الكلام عاماً لأحوال الدنيا والآخرة ، وهو قاطعون بأ ، هم في الدنيا أحسن حالاً من المؤمنين ، لما هم فيه من السعة في المال والكثرة والقوة ، وبلفظ الحسن إشارة إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحه الصور ونحوه .
ولما كان للكفرة في هذه الدار من العز والقوة والضخامة ما يتعجبون معه من مصير حالهم وحال أخصامهم إلى ما ذكر ، بين أن الأمر في ذلك اليوم على غير ما نعهده ، فقال عاطفاً على ) يوم يرون ( : ( ويوم تشقق ) أي تشققاً عظيماً وإن كان فيه خفاء على البعض - بما أشار إليه حذف تائه ) السماء بالغمام ) أي كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها ، وأشار إلى جهل من طلبوا نزولهم دفعة واحدة بقوله : ( ونزل ) أي بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه ، بأمر من لا أمر لغيره ) الملائكة ( الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد ) تنزيلاً ( في أيديهم صحائف الأعمال ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : تشقق السماء في الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من أهل ممن في الدنيا من الجن والإنس ، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا وأهل الأرض جناً وإنساً ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة ، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ، ثم الكربيون ثم حملة العرش .
ولما كان ذلك اليوم سبباً لانكشاف الأمور ومعرفة أنه لا ملك لسواه سبحانه لأنه لا يقضي فيه غيره قال : ( الملك يومئذ ) أي يوم إذ تشقق السماء بالغمام ؛ ثم وصف الملك بقوله : ( الحق ) أي الثابت معناه ثابتاً لا يمكن زواله ؛ ثم أخبر عنه بقوله : ( للرحمن ) أي العام الرحمة في الدارين ، ومن عمم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل ورده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل ، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة ، ومعنى التركيب أن ملك غيره في ذلك اليوم إنما هو بالاسم الذي تقدم له في تسميته به فقط ، لا حكم له أصلاً ولا ظاهراً كما كان في الدنيا ) وكان ) أي ذلك ايوم الذي تظهر فيه الملائكة الذين طلب الكفار رؤيتهم ) يوماً على الكافرين ) أي فقط ) عسيراً ( شديد العسر والاستعار .
ولما كان حاصل حالهم أنهم جانبوا أشرف الخلق الهادي لهم إلى كل خير ، وصاحبوا غيره ممن يقودهم إلى كل شر ، بين عسر ذلك اليوم الذي إنما أوجب جرأتهم تكذيبهم به بتناهي ندمهم على فعلهم هذا فقال : ( ويوم يعض الظالم ) أي لفرط تأسفه لما يرى فيه من الأهوال ) على يديه ) أي كلتيهما فيكاد يقطعهما لشدة حسرته وهو لا يشعر ، حال كونه مع هذا الفعل ) يقول ) أي يجدد في كل لحظة قوله : ( يا ليتني اتخذت ) أي أرغمت نفسي وكلفتها أن آخذ في الدنيا ) مع الرسول سبيلاً ) أي عملاً(5/312)
صفحة رقم 313
واحداً من الأعمال التي دعاني إليها ، وأطعته طاعة ما ، لما انكشف لي في هذا اليوم من أن كل من أطاعه ولو لحظة حصلت له سعادة بقدرها ، وعض اليد والأنامل وحرق الأسنان ونحو ذلك كناية عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما ، فتذكر الرادفه دلالة على المردوف فيرتفع الكلام في طبقة الفصاحة إلى حد يجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند المكنى عنه .
ولما تأسف على مجانبة الرسول ، تندم على مصادقة غيره بقوله : ( يا ويلتي ) أي يا هلاكي الذي ليس لي منادم غيره لأ ، ه ليس بحضرتي سواه .
ولما كان يريد محالاً ، عبر بأداته فقال : ( ليتني لم أتخذ فلاناً ( يعني الذي أضله - يسميه باسمه ، وإنما كنى عنه وهو سبحانه لا يخاف من المناواة ، ولا يحتاج إلى المداجاة ، إرادة للعموم وإن كانت الآية نزلت في شخص معين ) خليلاً ) أي صديقاً أوافقه في أعماله لما علمت من سوء عاقبتها ، ثم استأنف قوله الذي يتوقع كل سامع أن يقوله : ( لقد ) أي والله لقد ) أضلني عن الذكر ) أي عمّي عليّ طريق القرآن الذي لاذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه ، والجملة في موضع العلة لما قبلها ) بعد إذ جائني ( ولم يكن منه مانع يظهر غير إضلاله .
ولما كان التقدير : ثم ها هو قد خذلني أحوج ما كنت إلى نصرته ، عطف عليه قوله : ( وكان الشيطان ) أي كل من كان شبباً للضلال من عتاه الجن والإنس ) للإنسان خذولاً ( أس شديد الخذلان يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكره ، لا ينصره ، ولو أراد لما استطاع ، بل هو شر من ذلك ، لأن عليه إثمه في نفسه ومثل إثم من أضله .
ولما ذكر سبحانه أقوال الكفار إلى أن ختم بالإضلال عن الذكر ، وكانوا مع إظهارهم التكذيب به وأنه مفتعل في غاية الطرب له ، والاهتزاز به ، والتعجب منه ، والمعرفة بأنه يكون له نباً ، أشار إلى ذلك بقوله : عاطفاً على ) وقالوا ما لهذا الرسول ( معظماً لهذه الشكاية منه ( صلى الله عليه وسلم ) ، مخوفاً لقومه لأن الرسل قبله عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا شكوا أنزل بقومهم عذاب الاستئصال : ( وقال الرسول ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا رب ( أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان الذي أعظمه الرسالة ، وعبر بأداة البعد هضماً لنفسه مبالغة في التضرع ) إن قومي ) أي قريشاً الذين لهم قوة وقيام ومنعة ) اتخذوا ) أي يتكليف أنفسهم ضد ما تجده ) هذا القرآن ) أي المقتضي للاجتماع عليه والمبادرة إليه ) مهجوراً ) أي متروكاً ، فأشار بصيغة الافتعال إلى أنهم عالجوا أنفسهم في تركه علاجاً كثيراً ، لما يرون من حسن نظمه ، ويذقون من لذيذ معانيه ، ورائق أسالبيه ، ولطيف عجائبه ، وبديع غرائبه ، كما تعرّف به قصة أي جهل وأبي سفيان بن حرب(5/313)
صفحة رقم 314
والأخنس بن شريق حين كانوا يستمعون لقراءته ليلاً ، كل واحد منهم في مكان لا يعلم به صاحباه ، ثم يجمعهم الطريق إذا أصبحوا فيتلاومون ويتعاهدون على أن لا يعودوا ، ثم يعودون حتىى فعلوا ذلك ثلاث ليال ثم أكدوا على أنفسهم العهود حتى تركوا ذلك كما هو مشهور في السير .
الفرقان : ( 31 - 36 ) وكذلك جعلنا لكل. .. . .
) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً ( ( )
ولما كان في هذا الكلام معنى الشكاية وشدة التحرق ، وعظيم التحزن كما يشير إليه إثبات يا التي للبعد ، على خلاف ما جرت به العادة في نداء الخواص الذين هو أخصهم ، والاستفهام عن سبب هجرانهم مع ما لهم إليه من الدواعي ، كان كأنه قيل : ذلك بأن من فعله عاداك حسداً لك ، وعطف عليه : ( وكذلك ) أي ومثل ما فعلنا من هذا الفعل العظيم وأنت أعظم الخلق لدنيا ) جعلنا ( بما لنا من العظمة ) لكل نبي ) أي من الأنبياء قبلك ، رفعة لدرجاتهم ) عدواً من المجرمين ( الذين طبعناهم على الشغف بقطع ما يقتضي الوصل فأضللناهم بذلك إهانة لهم فاصبر كما صبروا فإني سأهدي بك من شئت ، وأنصرك على غيرهم ، وأكرم قومك من عذاب الاستئصال تشريفاً لك .
ولما كان موطناً تعلق فيه النفوس متشوقة إلى الهداية بعد هذا الطبع ، والنصرة بعد ذلك الجعل ، كان كأنه قيل : لا تحزن فلنجعلن لك ولياً ممن نهديه للإيمان ، ولننصرنهم على عدوهم كما فعلنا بمن قبلك ، بل أعظم حتى نقضي أممهم من ذلك العجب ، ولا يسعهم إلا الخضوع لكم والدخول في ظلال عزكم ، ولما كان ذلك - لكثرة المعادين - أمراً يحق له الاستبعاد ، قال عاطفاً على ما تقديره ؛ ثم نصر إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على من جعلهم أعداءهم ربُّك الذي أرسلهم : ( وكفى بربك ) أي المحسن إليك ) هادياً ( يهدي بك من قضى بسعادته ) ونصيراً ( ينصرك على من حكم بشقاوته .
ولما ذكر سبحانه شكايته من هجرانهم للقرآن ، وقرر عداوتهم له ونصرته عليهم ، أتبع بما يدل عليه ، فقال عطفاً على ما مضى من الأشباه في الشبه ، وأظهر موضع(5/314)
صفحة رقم 315
الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي حملهم على هذا القول : ( وقال الذين كفروا ) أي غطوا عدواة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أ ، القرآن كلام لإعجازه لهم متفرقاً ، فضلاً عن كونه مجتمعاً ، وغطوا ما وضح لهم من آثاره الظاهرة الشاهد بوحدانيته ، وغير ذلك من صفاته العلية : ( لو لا ) أي هلا .
ولما كانوا لشدة ضعفهم لا يكادون يسمحون بتسمية القرآن تنزيلاً فضلاً عن أن يسندوا إنزاله إلى الله سبحانه وتعالى ، بنوا للمفعول في هذه الشبهة التي أوردها قولهم : ( نُزِّل عليه ( ولما عبروا بصيغة التفعيل المشيرة إلى التدريج والتفريق استجلاباً للسامع لئلا يعرض عنهم ، أشاروا غلى أن ذلك غير مراد فقالوا : ( القرآن ) أي المقتضي اسمه للجمع ؛ ثم صرحوا بالمراد بقولهم : ( جملة ( وأكدوا بقولهم : ( واحدة ) أي من أوله إلى آخره بمرة ، ليتحقق أنه من عند الله ، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه هو الذي يرتبه قليلاً قليلاً ، فتعبيرهم بما يدل على التفريق أبلغ في مرادهم ، فإنهم أرغبوا السامع في الإقبال على كلامهم بتوطينه على ما يقارب مراده ، ثم أزالوا بالتدريج أتم إزالة ، فكان فس ذلك من المفاجأة بالروعن والإقناط مما أمّل من المقاربة ما لم يكن في ( أنزل ) والله أعلم .
ولما كان التقديرك وما له ينزل عليه مفرقاً ، وكان للتفريق فوائد جليلة ، أشار سبحانه إلى عظمتها بقوله معبراً للإشارة إلى ما اشتملت عليه من العظمة بأداة البعد : ( كذلك ) أي أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه ) لنثبت بهه فؤادك ( بالإغاثة بتردد الرسل بيننا وبينك ، وبتكمينك وتمكين أتباعك من تفهم المعاني ، وتخفيفاً للأحكام ، في تحميلها أهل الإسلام ، بالتدريج على حسب المصالح ، واتنافي الحكمة في الناسخ والمنسوخ ، لما رتب من المصالح ، وتسهياً للحفظ لا سيما والأمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ، وتلقيناً للأجوبه في أوقاتهان وتعظيماً للإعجاز ، لأن ما تحدى بنجم منه فعجز عنه علم أن العجز عن أكثر منه أولى ، فالحاصل أن التفريق أدخل في باب الإعجاز وفي كل حكمة ، فعلم أن هذا الاعتراض فضول ومماراة بما لا طائل تحته من ضيق الفطن ، وقلة الحلية ، وحرج الخطيرة ، دأب المقطوع المبهوت ، لأن المدار الإعجاز ، وأما كونه جملة أو مفرقاً فأمر لا فائدة لهم فيه ، وليست الإشارة محتملة لأن تكون للكتب الماضية ، لأن نزولها إنما كان منجماً كما بينته في سورة النساء عن نص التوراة المشير إليه نص كتابنا ، لا كما يتهمه كثير من الناس ، ولا أصل له إلا كذبة من بعض البهود شبهوا بها على أهل الإسلام فمشت على أكثرهم وشرعوا يتكلفون لها أجوبة ، واليهود الآن معترفون بأن التوراة نزلت في نحو عشرين سنة والله الموفق .(5/315)
صفحة رقم 316
ولما كان إنزله مفرقاً أحسنن أكده بقوله عطفاً على الفعل الذي تعلق به طكذلك ( ) ورتلناه ترتيلا ) أي فرقناه في الإنزال إليك تفريقاً في نيف وعشرين سنة ؛ وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : بيناه بياناً ، والنرتيل : التبين في ترسل وتثبت انتهى .
وأصله ترتيل الأسنان وهو تفليجها كنور الأقحوان .
ولما كان التقدير : قد بطل ما أتوا به هذا الاعتراض ، عطف عليه قوله : ( ولا يأتونك ) أي المشركون ) بمثل ) أي باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء بما يجتهدون في تنميقه وتحسينه وتدقيقه حتى يصير عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظاً ومعنى ) إلا جئناك ) أي في جوابه ) بالحق ( ومن الألف واللام الدالة على الكمال يُعرَف أن المراد به الثابت الذي لا شيء أثبت منه ، فيرهق ما أتوا به لبطلانه ، ويفتضح بعد ذلك الستر فضيحة تخجّل القائل والسامع القابل .
ولما كانالتقدير في الأصل : بأحق منه ، وإنما عبر بالحق ، لئلا يفهم أن لما يأتون به وجهاً في الحقيقة ، عطف عليه قوله : ( وأحسن ) أي من مثلهم ) تفسيراً ) أي كشفاً لما غطى الفهم من ذلك الذي خيلوا به وادعوا أنهم أوضحوا به وجهاً من وجوه المطاعن ، فجزم أكثر من السامعين بحسنه .
ولما أنتجت هذه الآيات كلها أنهم معاندون لربهم ، وأنهم يريدن بهذه السؤالات أن يضللوا سبيله ، ويحتقروا مكانته ، ويهدروا منزلته ، علم قطعاً أنه يعمر بهم دار الشقاء ، وكان ذلك أدل على أنهم أعمى الناس عن الطرق المحسوسة ، فضلاً عن الأمثال المعلومة ، والتمثيل للمدارك الغامضة ، وأنهم أحقر الناس لأنه لا ينتقص الأفاضل إلا ناقص ، ولا يتكلم الإنسان إلا فيمن هو خير منه ، قال معادلاً لقوله :
77 ( ) أصحاب الجنة يومئذ خير ( ) 7
[ الفرقان : 24 ] واصفاً لما تقدم أنه أظهره موضع الإضمار من قوله
77 ( ) الذين كفروا ( ) 7
[ الفرقان : 32 ] ) ألذين يحشرون ( اي يجمعون قهراً ماشين مقلوبين ) علةى وجوههم ( أو مسحوبين ) إلى جهنم ( كما أنهم في الدنيا كانوا يعملون ما كأنهم معه لا يبصرون ولا تصرف لهم في أنفسهم ، تؤزهم الشياطين أزاً ، فإن الآخرة مرآة الدنيا ، مهما عمل هنا رئي هناك ، كما أن الدنيا مزرعة الآخرة ، مهما عمل فيها جنيت ثمرته هناك ( روى البخاري عن أنس رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا نبي الله كيف يحشر الكفر على وجهه يوم القيامة ؟ قال : ( أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على ةجهه يوم القيامة ؟ ( قال قتادة : يعني الراوي عن أنس : ( بلى وعزة ربنا .(5/316)
صفحة رقم 317
( ولما وصف المتنعتين في أمر القرآن بهذا الوصف ، استأنف الإخبار بأنهم متصفون بما ألزموا به من أن الإتيام بالقرآن مفرقاً وضع للشيء في غير موضعه فقال : ( أولئك ( اي البعداء البغضاء ) شر ) أي شر خلق ) مكاناً وأضل سبيلاً ( حيث عموا عن طريق الجنة التي لا أجلى منها ولا أوسع ، وسلكوا طريق النار التب لا أضيق منه ولا أوعر ، وعموا عن أن إنزال القرآن نجوماً أولى لما تقدم من اللطائف وغيرهما مما لا يحيط به إلا الله تعالى ، ) وسبيلاً ( تمييز محول عن الفاعل أصله : ضل سبيلهم ، وإسناد الضلال إليه من الإسناد المجازي .
ولما بين كذبوه وعادوه ، وأشار بآية الحشر إلى جهنم إلى أنه لا يهلكهم بعامة ، عطف على عامل ( لنثبت ) تسلية له وتخويفاً لهم قوله : ( ولقد آتينا ) أي بما لنا من ا لعظمة ) موسى الكتاب ( كما أتيناك ، بينا فيه الشرائع والسنن والأحكام ، وجعلناه هدى ورحمة ، وأنزلناه إليه منجماً في نحو عشرين سنة يقال : إنها ثمان عشرة كما أنزلنا إليك هذا القرآن في نيف وعشرين سنة ، كما بينت ذلك في آخر سورة النساء وغيرها ، على أن أحداً ممن طالع التوراة لا يقدر على إنكار ذلك ، فإنه بيّن ن نصوصها .
وزاد في التسلية بذكر الوزير ، لأن الرد للاثنين أبعد ، وفيه إشارة إلى أنه لا ينفع في إيمانهم إرسال ملك كما اقترحوا ليكون معه نذيراً ، فقال : ( وجعلنا ( بما لنا من العظمة ) معه أخاة ( ثم بينه بقوله : ( هارون ( وبين محط الجعل بقوله : ( وزيراً ) أي معيناً في كل أمر بعثناه به ، وهو مع ذلك نبي ، ولا تنافي بين الوزارة والنبوة .
ولما كانت الواو لا ترتب ، فلم يلزم من هذا أن يكون هذا الجعل بعد إنزال الكتاب كما هو الواقع ، رتب عليه قوله : ( فقلنا ) أي بعد جعلنا له وزيراً .
ولما كان المقصود هنا من القصة التسلية والتخويف ، ذكر حاشيتها أولها وآخرها ، وهما إلزام الحجة والتدمير ، فقال : ( اذهبا إلى القوم ) أي لاذين فيهم قوة وقدرة على ما يعانونه وهم القبط ) الذين كذبوا يآياتنا ) أي المرئية والمسموعة من النبياء الماضين قبل إتيانكما في علم الشهادة ، والمرئية والمسموعة منكما بعد إتيانكما في علمنا .
فذهبا إلهيم فكذبوهما فيما أرياهم وأخبراهم به من الآيات ، لما طبعناهم عليه من الطبع المهيىء لذلك .
ولما كان السياق للإنذار بالفرقان ، طوي أمرهم إلا في عذابهم فقال : ( فدمرناهم ) أي لذلك ) تدميراً ( بإغراقهم أجمعين عل يد موسى عليه السلام في البحر ، لم نيق منه أحداً مع ما أصبناهم به قبل ذلك من المصائب ، مع اجتهاد موسى عليه السلام في إحيائهم بالإيمان ، الموجب لإبقائهم في الدارين ، عكس ما فعلنا بموسى عليه السلام من(5/317)
صفحة رقم 318
إنجائه من الهلاك بإلقائه في البحر ، وإبقائه بمن اجتهد في إعدامه ، وجعلنا لكل منهما حظاً من بحره ) هذا ملح أجاج ( هو غطاء جهنم ، ) ) وهذا عذب فرات ( ) [ الفرقان : 53 ] عنصره من الجنة ، فليحذر هؤلاء الذين تدعوهم من مثل ذلك إن فعلوا مثل فعل أولئك .
الفرقان : ( 37 - 39 ) وقوم نوح لما. .. . .
) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ( ( )
ولما هدد المكذبين ، بإهلاك الأولين ، الذين كانوا أقو منهم وأكثر ، وقدم قصة موسى عليه السلام لمناسبة الكتاب في نفسه أولاً ؛ وفي تنجيمه ثانياً ، أتبعه أول الأمم ، لأنهم أول ، ولما في عذابهم من الهول ، ولمناسبة ما بينه وبين عذاب القبط ، فقال : ( وقوم ) أي ودمرنا قوم ) نوح لما كذبوا الرسل ( بتكذيبهم نوحاً ؛ لأن من كذب واحداً من الأنبياء بالفعل فقد كذب الكل بالقوة ، لأن المعجزات هي البرهان على صدقهم ، وهي متساوية الأقدام في كونها خوارق ، لا يقدر على معارضتها ، فالتكذيب بشيء منها تكذيب بالجميع لأنه لا فرق ، ولأنهم كذبوا من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما سمعوه من أخبارهم ، ولأنهم عللوا تكذيبهم بأنه من البشر فلزمهم تكذيب كل رسول من البشر .
ولما كان كأنه قيل : بأيّ شيء دمروا ؟ قال : ( أغرقناهم ( كما أغرقنا ىل فرعون بأعظم مما أغرقناهم ) وجعلناهم ) أي قوم نوح في ذلك ) للناس آية ) أي علامة على قدرتنا على ما نريد من إحداث الماء وغيره وإعدامه والتصرف في ذلك بكل ما نشاء ، وإنجاء من نريد بما أهلكنا به عدوه ) وأعتدنا ( اي هيأنا تهيئة قريبة جداً وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير ؛ وكان الأصل : لهم ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف في الأشياء في غير مواضعها ) عذاباً أليماً ( لاسيما في الآخرة .
ولما ذكر آخر الأمم المهلكة بعامة وأولها ، وكان إهلاكهما بالماء ، ذكر من بينهما ممن أهلك بغيير ذلك ، إظهار للقدرة والاختيار ، وطوى خبرهم بغير العذاب لأنه كما مضى في سياق الإنذار فقال : ( وعاداً ) أي ودمرنا عاداً بالريح ) وثموداً ( بالصيحة ) وأصحاب الرس ) أي البئر التي هي غير مطوية ؛ قال ابن جرير : والرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك .
اي دمرناهم بالخسف ) وقروناً بين ذلك ) أي الأمر العظيم المذكور ، وهو بين كل أمتين من هذه الأمم ) كثيراً ( وناهيك(5/318)
صفحة رقم 319
بما يقول فيه العلي الكبير : إنه كثير ؛ أسند البغوي في تفسير ) ) أمة وسطاً ( ) [ البقرة : 143 ] في البقرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً بعد العصر ، فما ترك شيئاً غلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال : ( أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا ، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل .
( أخرجه الترميذي في الفتن وأحمد والطبراني وابن ماجه في الفتن أيضاً لكن ببعضه وليس عند واحد منهم اللفظ المقصود من السبعين أمة ، وفي بعض ألفاظهم وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء ) وهذا يدل على أن الذي كان قد بقي من النهار نحو العشر من العشر ، وهذا يقتضي إذا اعتبرنا ما مضى لهذه الأمة من الزمان أن يكون الماضي من الدنيا من خلق آدم عليه السلام في يوم الجمعة الذي يلي الستة الأيام التي خلقت فيها السماوات والأرض أكثر من مائة ألف سنة - والله أعلم .
ولما قدم سبحانه أنه يأتي في هذا الكتاب بما هو الحق في جواب أمثالهم ، بين أنه فعل بالجميع نحو من هذا ، فقال تسلية لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وتأسية وبياناً لتشريفه بالعفو عن أمتهك ) وكلاًّ ( اي من هذه الأمم ) ضربنا ( بما لنا من العظمة ) له الأمثال ( حتى وضح له السبيل ، وقام - من غير شبهة - الدليل ) وكلاًّ تبرنا تتبيراً ) أي جعلناهم فتاتاً قطعاً بليغة التقطيع ، لا يمكن غيرنا أن يصلها ويعيدها إلى ما كانت عليه قبل التفتيت .
الفرقان : ( 40 - 44 ) ولقد أتوا على. .. . .
) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ( ( )
ولوما ذكر الإهلاك بالماء وبغيره ، وكان الإهلاك بالماء تارة بالبحر ، وتارة بالأمطار ، وختم بالخسف ، ذكر الخسف الناشىء عن الأمطار ، بحجارة النار ، مع الغمر بالماء ، دلالة على تمام القدرة ، وباهر العظمة ، وتذكيراً بما يرونه كل قليل في سفرهم إلى الأرض المقدسة لمتجرهم ، وافتتح القصة باللام المؤذنة بعظيم الاهتمام ، مقرونة(5/319)
صفحة رقم 320
بحرف التحقيق ، إشارة إلى أنهم لعدم الانتفاع باليات كالمنكرين للمحسوسات ، وغير الأسلوب تنبيهاً على عظيم الشأن وهزاً للسامع فقال : ( ولقد أتوا ) أي هؤلاءالمكذبون من قومك ، وقال : ( على القرية ( - وإن كانت مدائن سبعاً أو خمساً كما قيل - تحقيراً لشأنها في جنب قدرته سبحانه ، وإهانة لمن يريد عذابه ، ودلالة على جمع الفاحشة لهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد كما دل عليه التعبير بمادة ( قرا ) الدالة على الجمع ) التي أمطرت ) أي وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة ، ولذا قال : ( مطر السوء ( وهي قرى قوم لوط ، ثم خسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله في أنواع الخبث ؛ قال البغوي : كانت خمس قرى فأهلك الله أربعاً منها ونجت واحدة وهي أصغرها ، وكان أهلها لا يعلمون العمل الخبيث .
ولما كانوا يمرون عليها في أسفارهمن وكان من حقهم أن أن يتعظوا بحالهم ، فيرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك استحقاقهم للإنكار الشديد في قوله : ( أفلم يكونوا ) أي بما في جبلاتهم من الأخلاق العالية ) يرونها ( أ ] في أسفارهم إلى الشام ليعتبروا بما حل بأهلها من عذاب الله فيتوبوا .
ولما كان التقدير : بل رأوها ، أضرب عنه بقوله : ( بل ) أي لم يكن تكذيبهم بسبب عدم رؤيتها وعدم علمهم بما حل بأهلها ، بل بسبب أنهم ) كانوا ( يكذبون بالقيامة كأنه لهم طبع .
ولماى كان عود الإنسان إلى ما كان من صحته محبوباً له ، كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعلقوا رجاءهم بالبعث لأنه لا رجوع إلى الحياة ، فهو كرجوع المريض لا سيما المدنف إلى الصحة ، فلذلك قال معبراً بالرجاء تنبيهاً على هذا : ( لا يرجون نشوراً ( بعد الموت ليخافوا الله عز وجل فيخلصوا له فيجازيهم على ذلك ، لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة ، واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن تمكناً لا ينفع معه الاعتبار إلا لمن شاء الله .
ولما أثبت تكذيبهم بالآخرة ، عطف عليه تحقيقاً قوله ، مبيناً أنهم لم يقتصروا على التكذيب بالممكن المحبوب حتى ضموا إليه الاستهزاء بمن لا يمكن أصلاً في العادة أن يكون موضعاً للهزء : ( وإذا رأوك ) أي مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك لو لم تأتهم بمعجزة ، فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول ) إن ) أي ما ) يتخذونك إلا هزواً ( عبر بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك ، يقولون محتقرين : ( أهذا ( وتهكموا مع الإنكار في قولهم ) الذي بعث الله ( اي المستجمع لنعوت العظمة ) رسولاً ( فإخراجهم الكلام في معرض التسليم والإقرار -(5/320)
صفحة رقم 321
وهم في غاية الجحود - بالغ الذروة من الاستهزاء ، فصار المراد عندهم أن هذا الذي ادعاه من الرسالة مما لا يجوز أن يعتقد .
ثم استأنفوا معجبين من أنفسهم ، مخيلين غيرهم من الالتفات غلى ما يأتي به م نالمعجزات ، قائلين : ( إن ( اي إنه ) كاد ( وعرّف بأن ( إن ) مخففة لا نافية باللام فقال : ( ليضلنا ( اي بما يأتي به من هذه الخوارق التي لا يقدر غيره على مثلها ، واجتهاده في إظهار النصح ) عن آلهتنا ( هذه التي سبق إلى عبادتها من هو أفضل منا رأياً وأكثر للأمور تجربة .
ولما كانت هذه العبارة مفهمة لمقاربة الصرف عن الأصنام ، نفوه بقولهم : ( لولا أن صبرنا ( بما لنا من الاجتماع والتعاضد ) عليها ( اي على التمسك بعبادتها .
ولما لزم قولهم هذا أن الأصنام تغني عنهم ، نفاه مهدداً مؤكداً التهديد لفظاعة فعلهم بقوله ، عطفاً على ما تقديره : فسوف يرون - أو من يرى منهم - أكثرهم قد رجع عن اعتقاد أن هذه الأصنام آلالهة : ( وسوف يعلمون ( اي في حال لا ينفعهم فيه العمل وإن طالت مدة الإمهال والتمكين ) حين يرون العذاب ) أي في الدنيا والآخرة ) من أضل سبيلاً ( هم أوالدعي لهم إلى ترك الأصنام الذي ادعوا إضلاله بقولهم ) ليضلنا ( .
ولما أخبره تعالى بحقيقة حالهم ، في ابتدائهم ومآلهم ، وكان ذلك مما يحزنه ( صلى الله عليه وسلم ) لشدة حرصه على رجوعهم ، ولزوم ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم ، سلاه بقوله معجباً من حالهم : ( أرأيت من اتخذ ) أي كلف نفسه أن أخذ ) إلهه هواه ) أي أنهم حقروا الإله بإنزاله إلى رتبة الهوى فهم لا يعبدون إلا الهوى ، وهو ميل الشهوة ورمي النفس إلى الشيء ، لا شبهة لهم اصلاً في عبادة الأصنام يرجعون عنها إذا جلت ، فهم لا ينفكون عن عبادتها ما دام هواهم مجوداً ، فلا يقدر علىكفهم عن ذلك إلا القادر على صرف تلك الأهواء ، وهو الله وحده وهذا كما تقول : فلان اتخذ سميره كتابه ، أي أنه قصر نفسه على مسامرة الكتاب في وقت السمر وقد يشاركه في مسامرة الكتاب غيره ، ولو قلت : اتخذ كتابه سميره ، لانعكس الحال فكان المعنى أنه أنه قصر نفسه على مطالعة السمير ولم ينظر في كتاب في وقت السمر وقد يشاركه غيره في السمير ، أو قصر السمير على الكتاب والكتاب على السمير كما قصر الطين على الخزفية في قولك : اتخذت الطين خزفاً ، فالمعنى أن هذا المذموم قصر نفسه عل تأله الهوى فلا صلاح له ولا رشاد وقد يتأله الهوى غيره ، ولو قيل : من اتخذ هواه إلهه ، لكان المعنى أنه قصر هواه على الإله فلا غيّ له ، لأن هواه تابع لأمر الإله ، وقد يشاركه في تأله الإله غيره ؛ قال أبو حيان : والمعنى أنه لم يتخذ إلهاً إلا هواه - انتهى .
فلو عكس لقيل : لم يتخذ هوى(5/321)
صفحة رقم 322
إلا إلهه ، وهو إذا فعل ذلك فقد سلب نفسه الهوى فلم يعمل به إلا فيما وافق أمر إلهه ومما يوضح لك انعكاس المعنى بالتقديم والتأخير أنك لو قلت : فلان اتخذ عبده أباه ، لكان معناه أنه عظم العبد ، ولو قيل : إنه اتخذ اباه عبده ، لكان معناه أنه أهان الأب ، وسواء في ذلك إتيانك به هكذا على وزان ما في القرآ ، أو نكرت أحدهما ، فإنك لا تجد ذوقك فيه يختلف في أنه إذا قدم الحقير شرفه ، وإذا قدم الشريف حقره ، وكذا لو قلت : إتخذ إصطبله مسجداً أو صديقه اباً أو عكست ، ولو كان التقديم بمجرد العناية من غير اختلاف في الدلالة قدم الجاثية الهوى ، فإن السياق والسباق له ، وحاصل المعنى أنه اضمحل وصف الإله ، ولم يبق إلا الهوى ، فلو قدم الهوى لكان المعنى أنه زال وغلبت عليه صفة الإله ، ولم يكن ينظر إلا إليه ، ولا حكم إلا له ، كما في الطين بالنسبة إلى الخزف سواء - والله أعلم .
ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله ، تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله : ( أفأنت تكون ( ولما كان مراده ( صلى الله عليه وسلم ) حرصاً عليهم ورحمة لهم ردهم عن الغي ولا بد ، عبر أداة الاستعلاء في قوله : ( عليه وكيلاً ) أي من قبل الله بحيث يلزمك أن ترده عن هواه إلى ما أمر به الله قسراً ، لست بوكيل ، ولكنك رسول ، ليس عليك إلا البلاغ ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .
ولما انتفى الرد عن الهوى قسراً بالوكالة ، نفى الرد طوعاً بتقبيح الضلالة ، فذكر المانع منه بقوله معادلاً لما قبله ، منكراً حسبانه ، لا كونه هو الحاسب ، أو أنكر كونه هو الحاسب ، مع ما له من العقل الرزين ، والرأي الرصين ، ويكون ) تحسب ( معطوفاً على ( تكون ) : ( أم تحسب أن أكثرهم ) أي هؤلاء المدعوين ) يسمعون ) أي سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم ) أو يعقلون ( ما يرون ولو لم يكن لهم سمع حتى يطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر .
ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي ، أثبت ما أفهمه بقوله : ( إن ) أي ما ) هم إلا كالأنعام ) أي في عدم العقل لعدم الانتفاع به ) بل هم أضل ( اي منها ) سبيلاً ( لأنهم لا ينزجرون بما يسمعون وهي تنزجر ، ولا يشكرون للمحسن وهو وليهم ، لا يجانبون المسيء وهو عدوهم ، ولا يرغبون في الثواب ، ولا يخافون العقاب ، وذلك لأنا حجبنا شموس عقولهم بظلال الجبال الشامخة من ضلالهم ، ولو آمنوا لانقشعت تلك الحجب ، وأضاءت أنوار الإيمان ، فأبصروا غرائب المعاني ، وتبدت لهم خفايا الأسرار
77 ( ) إن الذين آمنوا وعملو الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ( ) 7
[ يونس : 9 ] فكما أن الإنسان - وإن كان بصيراً - لا يميز بين المحسوسات ما لم يشرق عليها نور الشمس ، (5/322)
صفحة رقم 323
فكذلك الإنسان - وإن كان عاقلاً ذا بصيرة - لا تدرك بصيرته المعاني المعلومات على ما هي عليه ما لم يشرق عليها نور الإيمانن لأن البصيرة عين الروح كما أن البصر عين الجسد ؛ ولما كان من المعلوم أنهم يسمعون ويعقلون وأن المنفي إنما هو انتفاعهم بذلك ، كان موضع عجب من صرفهم عن ذلك ، فعبق سبحانه بتصرفه في الأمور الحسية مثالاً للأمور المعنوية ، ولأن عمله في الباطن ينيره إذا شاء بشمس المعارف كعمله في الظاهر سواء ، دليلاً على سلبهمالنفع بما أعطاهموه .
الفرقان : ( 45 - 46 ) ألم تر إلى. .. . .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ( ( )
ولما بين جمود المعترضين على دلائل الصانع ، وتناهي جهاهم ، وفساد طريقتهم ، وكان المراد من العبد في تعرف ذلك أن ينظر في أفعال سيده بعين الحقيقة نظراً تفنى لديه الأغيار ، فلا يرى إلا الفاعل المختار ، خاطب رأس المخلصين الناظرين هذا النظر ، حثاً لأهل وده على مثل ذلك ، فقال ذاكراً لأنواع من الدلائل الدالة على وجود الصانع ، وإحاطة علمه ، وشمول قدرته ، مشيراً إلى أن الناظر في هذا الدليل - لوضوحه في الدلالة على الخالق - كالناظر إلى الخالق ، معبراً بوصف الإحسان تشويقاً إلى إدامة النظر إليه والإقبال عليه : ( إلم تر ( وأشار إلى عظم المقام وعلو الرتبة بحرف الغاية مع أقرب الخلق منزلة وأعلاهم مقاماً فقال : ( إلى ربك ) أي المحسن إليك ، والأصل : إلى فعله ؛ وأشار إلى زيادة التعجب من أمره بجعله في معرض الاستفهام فقال : ( كيف مد الظل ( وهو ظلمة ما منع ملاقاة نور الشمس ، قال أبو عبيد : وهو ما تنسخه الشمس وهو بالغداة ، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال .
والظل هنا الليل لأنه ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نورالشمس بما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه ، وضرب فسطاطه ، كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم ، وغفلة طباعهم نفوذَ أسماعهم ) ولو شاء لجعله ) أي الظل ) ساكناً ( بإدمة الليل لا تذهبه الشمس كما في الجنة لقوله ) ) وظل ممدود ( ) [ الواقعة : 30 ] وإن كان بينهما فرق ، ولكنه لم يشأ ذلك بل جعله متحركاً بسق الشمس له .
ولما كان إيجاد النهار بعد إعدامه ، وتبيين الظل به غبّ إبهامه ، أمراً عظيماً ، وإن كان قد هان بكثرة الإلف ، أشار بأداة التراخي ومقام العظمة فقال : ( ثم جعلنا ) أي لشيء ظلاًّ ، ولولا النور ما عرف الظلام ، والأشياء تعرف بأضدادها .(5/323)
صفحة رقم 324
ولما كانت إزالته شيئاً فشيئاً بعد مدة كذلك من العظمة بمكان .
قال منبهاً على فضل مدخول ( ثم ) وترتبه متصاعداً في درج الفضل ، فما هنا أفضل مما قبله ، وما قبله أجلّ مما تقدمه ، تشبيهاً لتباعد ما بين المراتب الثلاث في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت : ( ثم قبضناه ) أي الظل ، والقبض : جمع المنبسط ) إلينا ( اي إلى الجهة التي نريدها ، لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها ؛ قال الرازي رحمه الله في اللوامع : وهذه الإضافة لأن غاية قصر الظل عند غاية تعالى الشمس ، والعلو موضع الملائكة وجهة السماء التي فيها أرزاق العباد ، ومنها نزول الغيث والغياث ، وإليها ترتفع أيدي الراغبين ، وتشخص أبصار الخائفين - انتهى .
) قبضاً يسيراً ) أي هو - مع كونه في القلة بحيث يعسر إدراكه حق تلإدراك - سهل علينا ، ولم نزل ننقصه شيئاً فشيئاً حتى اضمحل كله ، أو إلا يسيراً ، ثم مددناه أيضاً بسير الشمس وحجبها ببساط الأرض قليلاً قليلاً ، أولاً فأولاً بالجبال والأبينة والأشجار ، ثم بالروابي والآكان والظراب وما دون ذلك ، حتى تكامل كما كان ، وفي تقديره هكذا من المنافع ما لا يحصى ، ولو قبض لتعطلت أكثر منافع الناس بالظل والشمس جميعاً ، فالحاصل أنه يجعل بواطنهم مظلمة بحجبها عن أنوار المعارف فيصيرون كالماشي في الظلام ، ويكون نفوذهم في الأمور الدنيوية كالماشي بالليل في طرق قد عرفها ودربها بالتكرار ، وحديث علي رضي الله عنه في الروح الذي مضى عند ( والطبيات للطيبين ) في النور شاهد حسي لهذا المر المعنوي - والله الموفق .
الفرقان : ( 47 - 50 ) وهو الذي جعل. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ( ( )
ولما تضمنت هذه الآية الليل النهار ، قال مصرحاً بهما دليلاً على الحق ، وإظهاراً للنعمة على الخلق : ( وهو ) أي ربك وحده ) الذي جعل ( ولما كان ما نضى في الظل أمراً دقيقاً فحص به أهله ، وكان أمر الليل والنهار ظاهراً لكل أحد ، عم فقال : ( لكم الليل ) أي الذي تكامل به مد الظل ) لباساً ( اي ساتراً للأشياء عن الأبصار كما يستر اللباس ) والنوم سباتاً ) أي نوماً وسكوناً وراحة ، عبارة عن كونه موتاً أصغر طاوياً لما كان من الإحساس ، قطعاً عما كان منالشعور والتقلب ، دليلاً لأهل البصائر على الموت ؛ قال البغوي وغيره : وأصل السبت القطع .
وفي جعله سبحانه كذلك من الفوائد الدينية والدتيوية ما لا يعد ، وكذا قوله : ( وجعل النهار نشوراً ) أي حياة وحركة(5/324)
صفحة رقم 325
وتقلباً بما أوجد فيه من اليقظة المذكرة بالبعث ، المهيئة للتقلب ، برد ما أعدمه النوم من جميع الحواس ؛ يحكى أن لقمان قال لابنه : كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر .
فالآية من الاحتباك : ذكر السبات أولاً دليلاً على الحركة ثانياً ، والنشور ثانياً دليلاً على الطيّ والكسون أولاً .
ولما دل على عظمته بتصرفه في المعاني بالإيجاد والإعدام ، وختمه بالإماتة والإحياء بأسباب قريبة ، أتبعه التصرف في الأعيان بمثل ذلك ، دالاًّ على الإماتة والإحياء بأسباب بعيدة ، وبدأه بما هو قريب للطافته من المعاني ، وفيه النشر الذي ختم به ما قبله ، فقال : ( وهو ) أي وحده ) الذي أرسل الرياح ( فقراءة ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس ، وقراءة غيره بالجمع أدل على الاختيار بكونها تارة صباً وأخرى دبوراً ، ومة شمالاً وكرة جنوباً وغير ذلك ) بشراً ) أي تبعث بأرواحها السحاب ، كما نشر بالنهار أرواح الأشباح ) بين يدي رحمته ( لعباده بالمطر .
ولما كان السحاب قريباً من اللطافة ، والماء قريباً منهما ومسباً عما تحمله الريح منالسحاب ، أتبعهما به ، ولما كان في إنزاله من الدلالة على العظمة بإيجاده هنالك وإمساكه ثم إنزاله في الوقت المراد والمكان المختار على حسب الحاجة ما لا يخفى ، غير الأسلوب مظهراً للعظمة فقال : ( وأنزلنا من السماء ( اي حيث لا ممسك للماء فيه غيره سبحانه ) ماء ( ثم أبدل منه بياناً للنعمة به فقال : ( طهوراً ) أي طاهراً في نفسه مطهراً لغيره ، اسم آلة كالسحور والسنون لما يتسحر به ويستن به ، ونقل أبو حيان عن سيبويه أنه مصدر لتطهّر المضاعف جرى على غير فعله .
وأما جعله مبالغة لطاهر فلا يفيد غير أنه بليغ الطهارة في نفسه لأن فعله قاصر .
ولما كانت هذه الأفعال دالة على البعث لكن بنوع خفاء ، أتبعها ثمرة هذا الفعل دليلاً واضحاً على ذلك ، فقال معبراً بالإحياء لذلك ، معللاً للطهور المراد به البعد عن جميع ما يدنسه من ملوحة أو مرارة أو كبرتة ونحو ذلك مما يمنع كمال الانتفاع به : ( لنحي به ) أي بالماء .
ولما كان المقصود بإحياء الأرض بالنبات إحياء البلاد لإحياء أهلها قال : ( بلدة ( ولو كان ملحاً أو مراً أو مكبرتاً لم تكن فيه قوة الإحياء .
ولما كره أن يفهم تخصيص البلاد ، أجري الوصف باعتبار الموضع ليعم كل مكان فقال : ( ميتاً ) أي بما نحدث فيه من النبات بعد أن كان قد صار هشيماً ثم تراباً ، ليكون ذلك آية بينة على قدرتنا على بعث الموتى بعد كونهم تراباً .(5/325)
صفحة رقم 326
ولما كان في مقام العظمة ، بإظهار القدرة ، زاد على كونه آية على البعث بإظهار النبات الذي هو منفعة للرعي منفعة أخرى عظيمة الجدوى في الحفظ من الموت بالشرب كما كانت آية الإحياء حافظة بالأكل فقال : ( ونسقيه ) أي الماء وهو من أسقاه - مزيد سقاه ، وهما لغتان .
قال ابن القطاع : سقيتك شراباً وأسقيتك ، والله تعالى عباده وارضه كذلك .
) مما خلقنا ) أي بعظمتنا .
ولما كانت النعمة في إنزال الماء على الأنعام وأهل البوادي ونحوهم أكثر ، لأن الطير والوحش تبعد في الطلب فلا تعدم ما تشرب ، خصها فقال : ( إنعاماً ( وقدم النبات لأن به حياة الأنعام ، والأنعام لأن بها كمال حياة الإنسان ، فإذا وجد ما يكفيها من السقي تجزّأ هو بأيسر شيء ، وأتبع ذلك قوله : ( وأناسيّ كثيراً ) أي بحفظنا له في الغدران لأهل البوادي الذين يبعدن عن الأنهار والعيون وغيرهم ممن أردنا ، لأنه تعالى لا يسقي جميع الناس على حد سواء ، ولكن يصيب بالمطر من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء ، ويسقي بعض الناس من غير ذلك ، ولذا نكر المذكورات - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله قسم ذلك بين عباده علىما يشاء - وتلا هذه الآية .
وقال البغوي : وذكر ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل وبلغوا به ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه قال : ليس من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن الله قسم الأرزاق ، فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم ، فإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، وإذا عصوا جميعاً صرف الله تعالى ذلك إلى الفيافي والبحار - انتهى .
وكان السر في ذلك أنه كان من حقهم أن يطهروا ظواهرهم وبواطنهم ، ويطهروا غيرهم ليناسبوا حاله في الطهورية ، فلما تدنسوا بالقاذورات تسببوا في صرفه عنهم .
ولما ذكر سبحانه أن من ثمرة إنزال القرآن نجوماً إحياء للقلوب التي هي أرواح الأرواح ، وأتبعه ما لاءمة ، إلى أن ختم بما جعله سبباً لحياة الأشباح ، فكان موضعاً لتوقع العود إلىما هو فائدة أخرى لتنجيمه أيضاً : ( ولقد صرفناه ) أي وجهنا القرآن .
كما قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه المراد ههنا ، ويؤيده ما بعده - وجوهاً من البيان ، وطرقناه طرقاً تعيي أرباب اللسان ، في معان كثيرة جداً ) بينهم ( في كل قطر عند كل قوم ) ليذكروا ( بالآيات المسموعة ما ركزنا في فطرهم من الأدلة العقلية والمؤيدة بالآيات المرئية ولو على أدنى وجوه التذكر المنجية لهم - بما أشار إليه الإدغام .(5/326)
صفحة رقم 327
ولما كان القرآن قائداً ولا بد لمن أنصف إلى الإيمان ، دل على أن المتخلف عنه إنما هو معاند بقوله : ( فأبى ) أي لم يرد ) أكثر الناس ) أي بعنادهم ) إلا كفوراً ( مصدر كفر مبالغاً فيه .
الفرقان : ( 51 - 56 ) ولو شئنا لبعثنا. .. . .
) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ( ( )
ولما كان تعنتهم بأن ينزل عليه ملك فيكون معه نذيراً ، ربما أثار في النفس طلب إجابتهم إلى مقترحهم حرصاً على هدايتهم ، فأومأ أولاً إلى أنه لا فائدة في ذلك بأن مؤازرة هارون لموسى عليهما السلام لم تغن عن القبط شيئاً ، وثانياً بأن المدار في وجوب التصديق للنذير الإتيان بما يعجز ، وكان ذلك موجوداً في آيات القرآن ، المصرفة في كل زمان ومكان بكل بيان ، فكانت كل آية منه قائمة مقام نذير ، قال مشيراً إلى أنه إنما ترك ذلك لحكم يعلمها : ( ولو شئنا لبعثنا ) أي بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة ) في كل قرية نذيراً ) أي من البشر أو الملائكة أو غيرهم من عبادنا ، كما قسمنا المطر لأن الملك - كما قدمنا أول السورة - كله لنا ، ليس لنا شريك يمنع من ذلك بما له من الحق ، ولا ولد يمنع بما له من الدلة ، ولكنا لما في آيات القرآن من الكفاية في ذلك ، ولما في انفرادك بالدعوة من الشرف لك - وغير ذلك من الحكمة ) فلا تطع الكافرين ( فيما قصدوا من التفتير عن الدعاء به ، بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة ، أو من القلق من صادع الإنذار ، ويخيلون أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك ) وجاهدهم ) أي بالدعاء ) به ) أي القرآن الذي تقدم التحديث عنه في ) ) ولقد صرفناه ( ) [ الفرقان : 5 ] بإبلاغ آياته مبشرة كانت أو منذرة ، والاحتجاج ببراهينه ) جهاداً كبيراً ( جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة ، لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك ، فيتقوى أمرك ، ويعظم خطبك ، وتضعف شوكتهم ، وتنكسر سورتهم .
ولما ذكر تصريف الفرقان ، ونشره في جمسع البلدان ، بعد إثارة الرياح ونشر السحابن وخلطالماء بالتراب ، لجمع النبات وتفريقه ، أتبعه - تذكيراً بالنعمة ، وتحذيراً من إحلال النقمة - الحجو بين أنواع الماء الذي لا أعظم امتزاجاً منه ، وجمع كل نوع(5/327)
صفحة رقم 328
منها على حدته ، ومنعه من أن يختلط بالآخر مع اختلاط الكل بالتراب المتصل بعضه ببعض ، فقال عائداً إلى اسلوب الغيبة تذكيراً الإحسان بالعطف على ضمير ( الرب ) في آية الظل : ( وهو ) أي وحده ) الذي مرج البحرين ) أي الماءين الكثيرين الواسعين بأن جعلهما مضطربين كما تشاهدونه من شأن الماء ؛ وقال الرازي : خلى بينهما كأنه أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج ، وأصل المرج يدل على ذهاب ومجيء واضطراب والتباس .
ولما كان الضطراب موجباً للاختلاط ، وكانت ( ال ) دائرة بين العهد والجنس ، تشوف السامع إلى السؤال عن ذلك ، فأجيب بأن المراد جنس الماء الحلو والملح ، لأن البحر في الأصل الماء الكثير ، وبأنه سبحانه منعهما من الاختلاط ، مع الموجب له في العادة ، بقدرته الباهرة ، وعظمتهالقاهرة ، فقال : ( هذا عذب ) أي حلو سائغ ) فرات ) أي شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة ، لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض وما كان في بطنها ) وهذا ملح ( شديد الملوحة ) أجاج ) أي مر محرق بملوحته ومرارته ، لا يصلح لسقي ولا شرب ، ولعله أشار بأداة القرب في الموضعين تنبيهاً على وجود الموضعين ، مع شدة المقاربة ، لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب منه جداً خرج الماء عذباً جداً ) وجعل ( اي الله سبحانه ) بينهما برزخاً ( اي حاجزاً من قدرته مانعاً من اختلاطهما .
ولما كانا يلتقيان ولا يختلطان ، كان كل منهما بالاختلاط في صورة الباغي على الآخر ، فأتم سبحانه تقرير النعمة في منعهما الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ ، تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ ، ليكون الكلام - مع أنه خبر - محتملاً للتعوذ ، فيكون من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة فقال : ( وحجراً ) أي منعاً ) محجوراً ) أي ممنوعاً من أن يقبل رفعاً ، كل هذا التأكيد إشارة إلى جلالة هذه الآية وإن كانت قد صارت لشدة الإلف بها معرضاً عنها إلى الغاية ، لتعرف بها قدرته ، وتشكر نعمته .
ولما ذكر تعالى قدرته في منع الماء من الاختلاط ، أتبعه القدرة على خلطه ، لئلا يظن أنه ممتنع ، تقريراً للفعل بالاختيار ، وإبطالاً للقول بالطبائع ، فقال معبراً بالضمير كما تقدمه حثاً على استحضار الأفعال والصفات التي تقدمت ، لتعرف الحيثية التي كرر الضمير لأجلها : ( وهو ) أي وحده ) الذي خلق من الماء ( بخلطه مع الطين ) بشراً ( كما تشاهدونه يخلق منه نباتاً وشجراً وورقاً وثمراً ) فجعله ( اي بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة ، والتدوير في أدوار التربية ) نسباً ) أي ذكراً ينسب إليه ) وصهراً ) أي أنثى(5/328)
صفحة رقم 329
يصاهر - أي يخالط بها إلى الذكر ، فقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين : عذبا وملحاً ، وخلط ماء الذكر بماء الأنثى متى أراد فصور منه آدمياً ، ومنعه من ذلك إذا أراد ، كما أنه ميز بين العذب والملح ويخلط بينهما غذا أراد بعلمه الشامل وقدرته التامة ) وكان ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك ) قديراً ( على كل شيء قدرته على ما ذكر من إبداع هذه الأمور المتباعدة من مادة واحدة فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق ، سهل الأخلاق ، ويخذل من يشاء فيجعله مرير الأخلاق كثير الشقاق ، أو ملتبس الأخلاق ، عريقاً في النفاق ، فارغب إلى هذا الرب الشامل القدرة ، التام العلم .
ولما أثبت له بهذه الأدلة القدرة على كل شيء ، قال معجباً منهم في موضع الحال من ( ربك ) عوداً إلى تهجين سيرتهم في عبادة غيره ، معبراً بالمضارع ، إشارة إلى أنهم لو فعلوا ذلك مرة لكان في غاية العجب ، فكيف وهو على سبيل التجديد والاستمرار ؟ ومصوراً لحالهم زيادة في تبشيعها : ( ويعبدون ( اي الكفرة ) من دون ) أي ممن يعلمون أنه في الرتبة دون ) الله ( المستجمع لصفات العظمة ، بحيث إنه لا ضر ولا نفع إلا وهو بيده .
ولما كان هذا السياق لتعداد نعمه سبحانه ، وكان الحامل للإنسان على الإذعان رجاء الإحسان ، أو خوف الهوان ، وكان رجاء الإحسان مقبلاً به إلى المحسن في السر والإعلان ، قدم النفع فقال : ( ما لا ينفعهم ) أي بوجه .
ولما كان الخوف إنما يوجب الإقبال ظاهراً فقط ، أتبعه قوله : ( ولا يضرهم ) أي أصلاً في إزالة نعمه من نعم الله عنهم ، فلا أسخف عقلاً ممن يترك من بيده كل نفع وضر وهو يتقلب في نعمه ، في يقظته ونومه ، وأمسه ويومه ، ويقبل على من لا نفع بيده ولا ضر أصلاً ؛ وأظهر في موضع الضمير بيناً للوصف الحامل على ما لا يفعله عاقل ، وأفرد تحقيراً لهم فقال : ( وكان الكافر ( مع علمه بضعفه وعجزه .
ولما كان الكافر لا يمكن أن يصافي مسماً ما دان كافراً ، وكانت مصافاته لغيره حاصلة إما بالفعل أو بالقوة ، عدت مصارمته لغيره عدماً ، فكانت مصارمته خاصة بأولياء الله ، وكان ذلك أشد لذمه ، دل عليه بتقديم الجار فقال : ( على ربه ) أي المحسن إليه لا غيره ) ظهيراً ( معيناً لشياطين الإنس والجن على أولياء الله ، والتعبير ب ( على ) دال على أنه وإن كان مهيناً في نفسه حقيراً فاعل فعل العالي على الشيء القوي الغليظ الغالب له ، المعين عليه ، من قولهم : ظهر الأرض لما علا منها وغلظ ، وأمر ظاهر لك ، أي غالب ، والظاهر : القوي والمعين ، وذلك لأنه يجعل لما يعبده من الأوثان(5/329)
صفحة رقم 330
نصيباً مما تفرد الله بخلقه ، ثم يجعل لها أيضاً بعض ما كان سماه لله ، ويعاند أولياء الله من الأنبياء وغيرهم ، وينصب لهم المكايد والحروب ، ويؤذيهم بالقول والفعل ، مع علمه بأن الله معهم لمايشاهدونه من خرقه لهم العوائد ، فكان هذا فعل من لا يعبأ بالشيء ) ) لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً ( ) [ الفرقان : 21 ] ) ) أن لا تعلوا على الله ( ) [ الدخان : 19 ] وهو في الحقيقة تهكم بالكفار ، لأنهم يفعلون ما يلزم عليه هذا اللازم الذي لا يدور في خلد عاقل .
ولما كان التقدير تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) : فالزم ما نأمرك به ولا يزد همُّك بردهم عما هم فيه ، فإنا ما ارسلناك عليهم وكيلاً ، عطف عليه قوله : ( وما أرسلناك ) أي بما لنا من العظمة .
ولما كان سياق السورة للإنذار ، لما ذكر فيها من سوء مقالهم ، وقبح أفعالهم ، حسن التعبير في البشارة بما يدل على كثرة الفعل ، ويفقهم كثرة المفعول ، بشارة بكثرة المطيع ، وفي النذارة بما يقتضي أن يكون صفة لازمة فقال : ( إلا مبشراً ( اي لكل من يؤمن ) ونذيراً ( لكل من يعصي .
الفرقان : ( 57 - 61 ) قل ما أسألكم. .. . .
) قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ( ( )
ولما وقع جوابهم عن قولهم ) ) لولا أنزل إليه ملك ( ) [ الفرقان : 7 ] وكان قد بقي قولهم ) ) أو يلقي إليه كنز ( ) [ الفرقان : 8 ] أشير إلى مزيد الاهتمام بجوابه بإبرازه في صورة الجواب لمن كأنه قال : ماذا يقال لهم إذا تظاهروا وطعنوا في الرسالة بما تقدم وغيره ؟ فقال : ( قل ) أي لهم يا أكرم الخلق حقيقة ، وأعدلهم طريقة محتجاً عليهم بإزالة ما يكون موضعاً للتهمة : ( ما أسألكم عليه ) أي على الإبلاغ بالبشارة والنذارة ) من أجر ( لتتهموني أني أدعوكم لأجله ، أو تقولوا : لولا ألقي إليه كنز ليغتني به عن ذلك ، فكأنه يقول : الاقتصار عن التوسع في المال إنما يكره لمن يسأل الناس ، وليس هذا من شيمي قبل النبوة فكيف بما بعدها ؟ فلا غرض لي حينئذ إلا نفعكم .
ثم أكد هذا المعنى بقوله / مستثنياً لأن الاستثناء معيار العموم : ( إلا من ) أي إلا أجر من ) شاء أن يتخذ ) أي يكلف نفسه ويخالف هواه ويجعل له ) إلى ربه سبيلاً ( فإنه إذا اهتدى(5/330)
صفحة رقم 331
بهداية ربه كان لي مثل أجره ، لا نفع لي من جهتكم إلا هذا ، فإن سيتم هذا أجراً فهو مطلوبي ، ولا مرية في أنه لا ينقص أحداً شيئاً من دنياه ، فلا ضرر على أحد في طي الدنيا عني ، فأفاد هذا فائدتين : إحداهما أنه لا طمع له أصلاً في شيء ينقصهم ، والثانية إظهار الشفقة البالغة بأنه يعتد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثواباً لنفسه .
ولما كان المقصود ردهم عن عنادهم ، وكان ذلك في غاية الصعوبة ، وكان هذا الكلام لا يرد متعنتيهم - وهم الأغلب - الذين تخشى غائلتهم ، عطف على ( قل ) قوله : ( وتوكل ) أي أظهر العجز والضعف واستسلم واعتمد في أمرك كله ، ولا سيما في مواجهتهم بالإنذار ، وفي ردهم عن عنادهم .
ولما كان الوكيل يحمل عن الموكل ثقل ما أظهر له عجزه فيه ويقوم بأعبائه حتى يصير كمن يحمل عن آخر عيناً محسوسة لا يصير له عليه شيء منها أصلاً ، عبر بحرف الاستعلاء تمثيلاً لذلك فقال : ( على الحي ( ولا يصح التوكل عليه إلا بلزوم طاعته والإعراض عما سواها .
ولما كان الأحياء من الخلق يموتون ، بين أن حياته ليست كحياة غيره فقال : ( الذي لا يموت ( اي فلا ضياع لمن توكل عليه أصلاً ، بل هو المتولي لمصالحه في حياته وبعد مماته ، ولا تلتفت إلى ما سواه بوجه فإنه هالك ) وسبح بحمده ) أي نزهه عن كل نقص مثبتاً له كل كمال .
ولما كان المسلى ربما وقع في فكره أن من سلاه إما غير قادر على نصره ، أو غير عالم بذنوب خصمه ، وكان السياق للشكاية من إعراض المبلغين عن القرآن ، وما يتبع ذلك من الأذى ، أشار بالعطف على غير مذكور إلى أن التقدير : فكفى به لك نصيراً ، وعطف عليه : ( وكفى ( وعين الفاعل وحققه بإدخال الجار عليه فقال : ( به بذنوب عباده ) أي وكل ما سواهم عباده ) خبيراً ( لا يخفى عليه شيء منها وإن دق ، ثم وصفه بما يقتضي أنه مع ما له من عظيم القدرة بالملك والاختراع - متصف بالأناة وشمول العلم وحسن التدبير ليتأسى به المتوكل عليه فقال : ( الذي خلق السماوات والأرض ) أي على عظمهما ) وما بينهما ( من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها
77 ( ) إلا يعلم من خلق ( ) 7
[ الملك : 14 ] وقوله : ( في ستة أيام ( تعجيب للغبي الجاهل ، تدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله مقدار ستة من أيامنا ، فإن الأيام ما حدثت إلا بعد خلق الشمس ، الإقرار بأن تخصيص هذا العدد لداعي حكمه عظيمة ، وكذا جميع أفعاله وإن كنا لا ندرك ذلك ، هو الإيمان ، وجعل الله(5/331)
صفحة رقم 332
الجمعة عيداً للمسلمين لأن الخلق اجتمع فيه بخلق آدم عليه السلام فيه في آخر ساعة .
ولما كان تدبير هذا الملك أمراً باهراً ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم استوى على العرش ) أي شرع في تدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده ، وهو وذنوبهم من جملته كما يفعل الملوك في ممالكهم ، لا غفلة عنده عن شيء أصلاً ، ولا تحدث فيه ذرة من ذات أو معنى إلا بخلق جديد منه سبحانه ، رداً على من يقول من اليهود وغيرهم : إن ذلك إنما هو بما دبر في الأزل من الأسباب ، وأنه الآن لا فعل له .
ولما كان المعصى إذا علم بعصيان من يعصيه وهو قادر عليه لم يمهله ، أشار إلى أنه على غير ذلك ، حاضاً على الرفق ، بقوله : ( الرحمن ) أي الذي سبقت رحمته غضبهن وهو يحسن إلى من يكفره ، فضلاً عن غيره ، فأجدر عباده بالتخلق بهذا الخلق رسله ، و الحاصل أنه أبدع هذا الكون وأخذ في تدبيره بعموم الرحمة في إحسانه لمن يسمعه يسبّه بالنسبة له إلى الولد ، ويكذبه في أنه يعيده كما بدأه ، وهو سبحانه قادر على الانتقام منه بخلاف ملوك الدنيا فإنهم لا يرحمون من يعصيهم مع عجزهم .
ولما كان العلم لازماً للملك ، سبب عن ذلك قوله على طريق التجريد : ( فاسأل به ) أي بسبب سؤالك إياه ) خبيراً ( عن هذه الأمور وكل أمر تريده ليخبرك بحقيقة أمره ابتداء وحالاً ومآلاً ، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين ، فإنه ما أرسلك إليهم إلا وهو عالبم بهم ، فسيعلي كعبك عليهم ، ويحسن لك العاقبة .
ولما ذكر إحسانه إليهم ، وإنعامه عليهم ، ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم فقال : ( وإذا قيل لهم ) أي هؤلاء الذين يتقلبون في نعمه ، ويغذوهم بفضله وكرمه ، من أيّ قائل كان : ( اسجدوا ) أي اخضعوا بالصلاة وغيرها ) للرحمن ( الذي لا نعمة لكم إلا منه ) قالوا ( قول عال متكبر كما تقدم في معنى ) ظهيراً ( : ( وما الرحمن ( متجاهلين عن معرفته فضلاً عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل ، وقال ابن العربي : إنهم إما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم الصفة ، دون الموصوف .
ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه ، بقولهم : ( أنسجد لما تأمرنا ( فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره والإنكار على الداعي إليه أيضاً بأداة ما لا يعقل ) زادهم ( هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكراً للنعم وطمعاً في الزيادة ) نفوراً ( لما عندهم من الحرارة الشيطانية التي تؤزهم أزاً ، فلا نفرة توازي هذه النفرة ، ولا ذم أبلغ منه .
ولما ذكر حال النذير الذي ابتدأ به السرة في دعائه إلى الرحمن الذي لو لم يدع إلى عبادته إلا رحمانيته لكفى ، فكيف بكل جمال وجلال ، فأنكروه ، اقتضى الحال أن(5/332)
صفحة رقم 333
يوصل به إثباته بإثبات ما هم عالمون به من آثار رحمانيته ، ففصل ما أجمل بعد ذكر حال النذير ، ثم من الملك ، مصدراً له بوصف الحق الذي جعله مطلع السورة راداً لما تضمن إنكارهم من نفيه فقال : ( تبارك ) أي ثبت ثباتاً لا نظير له ) الذي جعل في السماء ( التي قدم أنه اخترعها ) بروجاً ( وهي اثنا عشر برجاً ، هي للكواكب السيارة كالمنازل لأهلها ، سميت بذلك لظهورها ، وبنى عليها أمر الأرض ، دبر بها فصولها ، وأحكم بها معايش أهلها .
ولما كانت البروج على ما تعهد لا تصلح إلا بالنور ، ذكره معبراً بلفظ السراج فقال : ( وجعل فيها ) أي البروج ) سراجاً ) أي شمساً ، وقرأ حمزة والكسائي بصسغة الجمع للتنبيه على عظمته في ذلك بحيث إنه أعظم من ألوف ألوف من السرج ، فهو قائم مقام الوصف كما قال في الذي بعده : ( وقمراً منيراً ( أتم - بتنقلها فيها وبغير ذلك من أحوالهما - التدبير ، اي انالعلم بوجوبه لا شك فيه ، فكيف يشك عاقل في وجوده أو في رحمانيته بهذا العالم العظيم المتقن الصنع الظاهر فيه أمر الرحمانية .
الفرقان : ( 62 - 66 ) وهو الذي جعل. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يًّبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ( ( )
ولما ذكر الآيتين ، ذكر ما هما آيتاه فقال : ( وهو الذي جعل الليل ) أي الذي آيته القمر ) والنهار ( الذي آيته الشمس ) خلفة ) أي ذوي حالة معروفة في الاختلاف ، فيأتي هذا خلف ذاك ، بضد ما له من الأوصاف ، ويقوم مقامه في كثير من المرادات ، والأشيا المقدرات ، ويعلم قد التسامح فيها ، ومن فاته شيء من هذا قضاه في ذاك ؛ قال ابن جرير : والعرب تقول : خلف والخلفة - بالكسر : المختلف .
فعلى هذا يكون التقدير : جعلهما مختلفين في النور والظلام ، والحر والبرد ، غير ذلك من الأحكام .
وقال الرازي في اللوامع : يقال : الأمر بينهم خلفة ، أي نوبة ، كل واحد يخلف صاحبه ، والقوم خلفة ، أي مختلفون .
ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء كالعادم لذلك الشيء ، خص الجعل بالمجتني للثمرة فقال : ( لمن أراد أن يذكر ) أي يحصل له تذكر ولو على أدنى الوجوه - بما دل عليه الإدغام في قراءة الجماهة بفتح الذال والكاف مشددتين ، لما يدله عليه عقله من أن(5/333)
صفحة رقم 334
التغير على هذه الهيئة العظيمة لا يكون بدون مغير قادر عظيم القدرة مختار ، فيؤديه تذكره إلى الإيمان إن كان كفوراً ، وقراءة حمزة بالتخفيف من الذكر تشير إلى أن ما يدلان عليه من تمام القدرة وشمول العلم الدال قطعاً على الوحجانية على غاية من الظهور ، لا يحتاج إلى فكر ، بل تحصل بأدنى التفات ) أو أراد شكوراً ) أي شكراً بليغاً عظيماً لنعم الله لتحمله إرادته تلك على الشكر إن كان مؤمناً ، بسبب ما أنعم به ربه من الإتيام بكل منهما بعد هجوم الآخر لاجتناء ثمراته ، ولو جعل أحدهما دائماً لفاتت مصالح اللآخرة ، ولحصلت السآمة به ، والملل منه ، والتواني في الأمور المقدرة بالأوقات ، الكسل وفتر العزم الذي إنما يثيره لتداركها دخول وقت آخر ، وغير ذلك من الأمور التي أحكمها العي الكبير .
ولما ذكر عباده خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزب الشيطان ، ولم يصفهم إلى اسم من اسمائه ، إيذاناً بإهانتهم لهةائهم عنده ، وهم الذين صرح بهم قوله أول السورة ) نذيراً ( وختم بالتذكر والشكر إشارة إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه ، وأشار إليهم سابقاً بتخصصيص الوصف بالفرقان ، فأتبع ذلك ذكرهم ، فقال عاطفاً على جملة الكلام في قوله ) وإذا قيل لهم ( لكنه رفعهم بالابتداء تشريفاً لهم : ( وعباد ( ويجوز أن يقال ولعله أحسن : أنه سبحانه لما وصف الكفار في هذه السورة بما وصفهم به من الفظاظة والغلظة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعداوتهم له ، ومظاهرتهم على خالقهم ، ونحو ذلك من جلافتهم ، وختم بالتذكر والشكر ، وكان التقدير : فعباد الشيطان لا يتذكرون ولا يشكرون ، لما لهم من القسوة ، عطف على هذا المقدر أضدادهم ، واصفاً لهم بأضداد أوصافهم ، مبشراً لهم بضد جزائهم ، فقال : وعباد ) الرحمن ( فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان كل الخلق عباده ، وأضافهم إلى صفة وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أؤلئك تبشيراً لهم ؛ ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبين عن السجود ، إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بأمر كبير ، فقال : ( الذين يمشون ( وقال : ( على الأرض ( تذكيراً بما هم منه وما يصيرون إليه ، وحثاً عل السعي في معالي الخلاق للترقي عنه ، وعبر عن حالهم بالمصدر مبالغة في اتصافهم بمدلوله حتى كانوا إياه ، فقال : ( هوناً ) أي ذوي هون ، أي لين ورفق وسكينة ووقار وإخبات وتواضع ، لا يؤذون أحداً ولا يفخرون ، رحمة لأنفسهم وغيرهم ، غير متابعين ما هم فيه من الحرارة الشيطانية ، فبرؤوا من حظوظ الشيطان ، لأن من كان من الأرض وإليها يعود لا يليق به إلا ذلك ، والأحسن أن يجعل هذا خبر ( العباد ) ، ويكون
77 ( ) أؤلئك يجزون الغرفة ( ) 7
[ الفرقان : 75 ] استئنافاً متشوفاً إليه تشوف المستنتج إلى النتيجة .(5/334)
صفحة رقم 335
ولما ذكر ما أثمره العلم من الفعل في أنفسهم ، أتبعه ما أنتجه الحلم من القول لغيرهم فقال : ( وإذا ( دون ( إن ) لقضاء العادة بتحقق مدخولها ، ولم يقل : والذين كبقية المعطوفات ، لأن الخصلتين كشيء واحد من حيث رجوعهما إلى التواضع ) خاطبهم ( خطاباً ما ، بجهل أو غيره وفي وقت ما ) الجاهلون ) أي الذين يفعلون ما يخالف العلم والحكمة ) قالوا سلاماً ) أي ما فيه سلامة من كل سوء ، وليش المراد التحية - نقل ذلك سيبويه عن أبي الخطاب ، قال : لأن الآية فيما زعم مكية ، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ، ولكنه على قولك : تسليماً لا خير بيننا وبينكم ولا شراً - انتهى .
فلا حاجة إلى ادعاء نسخها بآية القتال ولا غيرها ، لأن الإعضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة ، وأسلم للعرض والورع ، وكأنه أطلق الخطاب إعلاماً بأن أكثر قول الجاهل الجهل .
ولما ذكر ما بينهم وبين الخلق من القول والفعل ، وكان الغالب على ذلك أن يكون جلوه نهاراً ، ذكر ما بينهم وبين خالقهم من ذلك خلوة ليلاً ، وذكر هذه المعطوفات التي هي صفات بالواو ، تنبيهاً على أن كل واحدة منها تستقل بالقصد لعظم خطرها ، وكب أثرها ، فقال : ( والذين يبيتون ( من البيتوتية : أن يدرك الليل نمت أو لم تنم ، وهي خلاف الظلول ؛ وأفاد الاختصاص بتقديم ) لربهم ) أي المحسن إليهم برحمانيته ، يحيون الليل رحمة لأنفسهم ، وشكراً لفضله .
ولما كان السجود أشد أركان الصلاة تقريباً إلى الله ، لكونه أنهى الخضوع مع أنه الذي أباه الجاهلون ، قدمه لذلك ويعلم بادىء بدء أن القيام في الصلاة فقال : ( سجداً ( وأتبعه ما هو تلوه في المشقة تحقيقاً لأن السجود على حقيقته فيتمحص الفعلان للصلاة ، فقال : ( وقياماً ) أي ولم يفعلوا فعل الجاهلين منالتكبر عن السجود ، بل كانوا - كما قال الحسن رحمه الله : نهارهم في خشوع ، وليلهم في خضوع .
ولما ذكر تهذيبهم لأنفسهم للخلق والخالق ، أشار إلى أنه لا إعجاب عندهم ، بل هم وجلون ، وأن الحامل لهم على ذلك الإيمان باخرة التي كذب بها الجاهلون ) يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون ) [ المؤمنون : 60 ] وقدموا الدعاء بالنجاة اهتماماً بدرء المفسدة ، وإشعاراً بأنهم مستحقون لذلك وإن اجتهدوا ، لتقصيرهم عن أن يقدروه سبحانه حق قدره فقال : ( والذين يقولن ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) اصرف عنا عذاب جهنم ( الذي أحاط بنا لا ستحقاقناه إياه إلا أن يتداركنا عفوك ورجمتك ، بما توفقنا له من لقاء من يؤذينا بطلاقة الوجه ، لا بالتجهم ، ثم علل سؤالهم يقولهم : ( إن عذابهما كان ) أي كوناً جبلت عليه ) غراماً ) أي هلاكاً وخسراناً ملحاً(5/335)
صفحة رقم 336
محيطا بمن تعلق به مذلاً له ، دائماً بمن غرى به ، لازماً له لا ينفك عنه ونحن كنا نسير على من آذانا .
ولما ثبت لها هذا الوصف ، أنتج قوله : ( إنها سات ) أي تناهت هي في كل ما يحصل منه سوء ، وهي في معنى بئست في جميع المذام ) مستقراً ) أي من جهة موضع استقرار ) ومقاماً ) أي موضع إقامة .
الفرقان : ( 67 - 72 ) والذين إذا أنفقوا. .. . .
) وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ( ( )
ولما ذكر أفعالهم وأقوالهم فيما بينهم وبين الخلق وقدمه ، والخالق وأخره ، لأن وجوبه يكون بعد ذلك ، ذكر أحوالهم في أموالهم ، نظراً إلى قول الكفرة ) ) أو يلقى إليه كنز ( ) [ الفرقان : 8 ] وهداية إلى طريق الغنى لأنه ما عال من اقتصد ، فقال : ( والذين إذا أنفقوا ) أي للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب ) لم يسرفوا ) أي يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير ، فيضيعوا الأموال في غير حقها فيكنوا إخوان الشياطين الذين هم من النار ففعلهم فعلها ) ولم يقتروا ) أي يضيقوا فيضيعو الحقوق ؛ ثم بين العدل بقوله : ( وكان ) أي إنفاقهم ) بين ذلك ( اي الفعل الذي يجب إبعاده .
ولما علم أن ما بين الطرفين المذمومين يكون عدلاً ، صرح به في قوله : ( قواماً ) أي عدلاً سواء بين الخلقين المذمومين : الإفراط والتفريط ، تخلقاً بصفة قوله تعالى ) ) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن نزل بقدر ما يشاء ( ) [ الشورى : 27 ] وهذه صفة أصحاب محمد صلى الله عليه و رضي عنهم - كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ، بل كانوا يأكلون ما يسد الجوعة ، ويعين على العبادة ، ويلبسون ما يستر العورة ، ويكنّ ن الحر والقر ، قال عمر رضي الله عنه : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله .
ولما ذكر ما تحلوا به من أصول الطاعات ، بما لهم من العدل والإحسان بالأفعال والأقوال ، في الأبدان والأموال ، أتبعه ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر ، فقال : ( والذين لا يدعون ( رحمة لأنفسهم واستعمالاً للعدل ) مع(5/336)
صفحة رقم 337
الله ( الذي اختص بصفات الكمال ) إلهاً ( وكلمة ( مع ) وإن أفهمت أنه غير ، لكن لما كانوا يتعنتون حتى أنهم يتعرضون بتعديد الأسماء كما مر في آخر سبحان والحجر ، قال تعالىقطعاً لتعنتهم : ( آخر ) أي دعاء جلياً بالعبادة له ، ولا خفياً بالرياء ، فيكونوا كمن أرسلت عليهم الشياطين فأزتهم أزاً .
ولا نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها ، أتبعه قتل غيرهم فقال : ( ولا يقتلون ) أي بما تدعو إليه الحدة ) النفس ) أي رحمة للخلق وطاعة للخالق .
ولما كان من الأنفس ما لا حرمة له ، بين المراد بقوله : ( التي حرم الله ( اي قتلها ، اي منع منعاً عظيماً الملك الأعلى - الذي لا كفوء له - من قتلها ) إلا بالحق ) أي بأن تعمل ما يبيح قتلها .
ولما ذكر القتل الجلي ، أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد ، فقال : ( ولا يزنون ) أي رحمة لما قد يحدث ن ولد ، إبقاء على نسبه ، ورحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم ، مع رحمته لنفسه ، على أن الزنى جارّ أيضاً إلى القتل والفتن ، وفيه التسبب لإيجاد نفس بالباطل كما أن القتل تسبب إلى إعدامها بذلك ، وقد روي في الصحيح ( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أي الذنب أعظم - وفي رواية : أكبر - عند الله ؟ قال : ( أن تدعو لله نداً هون خلقك ، ( قال : ثم أيّ ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ، ( قال : ثم أيّ ؟ قال : ( أن تزني بحليلة جارك ، ( فأنزل الله تصديق ذلك
77 ( ) والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ( ) 7
الآية وقد استشكل تصديق الآية للخبر من حيث إن الذي فيه قتل خاص وزنى خاص ، والتقييد بكونه أكبر ، والذي فيها مطلق القتل والزنى من غير تعرض لعظم ، ولا إشكال لأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه : الأول : الاعتراض بين المبتدأ الذي هو ) وعباد ( وما عطف عليه ، والخبر الذي هو
77 ( ) أولئك يجزون ( ) 7
[ الفرقان : 75 ] على أحد الرأيين بذكر جزاء هذه الأشياء الثلاثة خاصة ، وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال علىالإعظام .
الثاني : الإشارة بأداة البعد - في قوله : ( ومن يفعل ذلك ( اي الفعل العظيم القبح - مع قرب المذكورات ، فدل على أن البعد في رتبها .
الثالث : التعبير باللقى مع المصدر الميد الدال على زيادة المعنى في قوله : ( يلق أثاماً ( دون يأثم أو يلق إثماً أو جزاء إثمه .
الرابع : التقييد بالمضاعفة في قوله مستأنفاً : ( يضاعف ) أي باسهل أمر ) له عذاب ((5/337)
صفحة رقم 338
جزاء ما أتبع نفسه هواها بما فيه من الحرارة الشيطانية - هذا في قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم بالرفع وهو بدل ) يلق ( في قراءة الجماعة ، لأنهما تؤولان إلى معنى واحد ، ومضاعفة العذاب - والله أعلم - إتيان بعضه في أثر بعض بلا انقطاع كما كان يضاعف سيئته كذلك ، وقراءة ابن كثير وأبي جعفر وابن عامر ويعقوب بالتشديد تفيد مطلق التعظيم للتضعيف ، وقراءة الباقين بالمفاعلة تقضيه بالنسبة غلى من يباري آخر فيه فهو أبلغ .
الخامس : التهويل بقوله : ( يوم القيامة ( الذي هو أهول من غيره بما لا يقايس .
السادس : الإخبار بالخلود الذي هو أول درجاته أن يكون مكثاً طويلاً ، فقال عاطفاً في القراءتين على يضاعف : ( ويخلد فيه ( .
السابع : التصريح بقوله : ( مهاناً ( ولعله للاحتراز عما يجوز من أن بعض عصاة هذه الأمة - الذين يريد الله تعذيبهم - يعلمون أنهم ينجون ويدخلون الجنة ، فتكون إقامتهم - مع العلم بالمآل - ليست على وجه الإهانة ، فلما عظم الأمر من هذه الأوجه ، علم أن كلاًّ من هذه الذنوب كبير ، وإذا كان الأعم كبيراً ، كان الأخص المذكور أعظم من مطلق الأعم ، لأنه زاد عليه بما صار به خاصاً ، فثبت بهذا أنها كبائر ، وأن قتل الولد والزنى بحليلة الجار أكبر لما ذكر ، فوضح وجه تصديق الآية للخبر ، ولا يقال : إن الإشارة ترجع إلى المجموع ، فالتهويل خاص بمن ارتكب مجموع هذه الذنوب لأنا نقول : السياق يأباه ، لأن تكرار ( لا ) أفاد - كما حققه الرضي - ورود النفي على وقوع الخصال الثلاث حال الاجتماع والانفراد ، فالمعنى : لا يوقعون شيئاً منها ، فكان معنى ) ومن يفعل ذلك ( : ومن يفعل شيئاً من ذلك - ليرد الإثبات على ما ورد عليه النفي ، فيحصل التناسب ، وأما عدم منافاة الآية للترتيب فمن وجهين : الأول أن الأصل في التقديم الاهتمام بما سبقت له الآية ، وهو التنفير المفيد للتغليظ ، فيكون كل واحد منها أعلى مما بعده .
الثاني أن الواو لا تنافيه ، وقد وقعت الفعال مرتبة في الذكر كما رتبت في الحديث ب ( ثم ) فيكون مراداً بها الترتيب - والله الهادي .
ولما أتم سبحانه تهديد الفجار ، على هذه الأوزار ، أتبعه ترغيب الأبرار ، في الإقبال على الله العزيز الغفار ، فقال : ( إلا من تاب ) أي رجع إلى الله عن شيء مما كان فيه من هذه النقائص ) وآمن ) أي أوجد الأساس الذي لا يثبت عمل بدون وهو الإيمان ، أو أكد وجوده ) وعمل ( .
ولما كان الرجوع عنه أغلظ ، أكد فقال : ( عملاً صالحاً ( اي مؤسساً على أساس الإيمان ؛ ثم زاد في الترغيب بالإتيان بالفاء ربطاً للجزاء بالشرط دليلاً على أنه سببه فقال : ( فأولئك ) أي العالو المنزلة ) يبدل الله ( وذكر الاسم الأعظم تعظيماً للأمر وإشارة إلى انه سبحانه لا منازع له ) سيئاتهم حسنات ( اي بندمهم(5/338)
صفحة رقم 339
على تلك السيئات ، لكونها ما كانت حسنات فبكتب لهم ثوابها بعزمهم الصادق على فعلها لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا ، بحيث إذا رأى أحدهم تبديل سيائته ما رايتها - رواه مسلم في أواخر الإيمان من صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه رفعه .
ولما كان هذا أمراً لم تجر العادة بمثله ، أخبر أنه صفته تعالى أزلاً وأبداً ، فقال مكرراً للاسم الأعظم لئلا يقيد غفرانه شيء مما مضى : ( وكان الله ( اي الذي له الجلال الإكرام على الإطلاع ) غفوراً ( اي ستوراً لذنوب كل من تاب بهذا الشرط ) رحيماً ( له بأن يعامله بالإكرام كما يعامل المرحوم فيعطيه مكان كل سيئة حسنة ؛ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك ، لما نزل صدرها قال أهل مكة : فقد عدلنا بالله ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش ، فأنزل الله
77 ( ) إلا من تاب - إلى - رحيماً ( ) 7
[ الفرقان : 7 ] ؛ وروي عنه أيضاً أنه قال : هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء .
أي على تقدير كونها عامة في المشرك وغيره ؛ وروي عنه انه قال في آية النساء : نزلت في آخر ما نزل ، ولم ينسخها شيء .
وقد تقدم في سورة النساء الجواب عن هذا ، وكذا ما رواه البخاري عنه في التفسير : إن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا ، فأتوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل
77 ( ) والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ( ) 7
[ الفرقان : 68 ] ونزل
77 ( ) يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( ) 7
[ الزمر : 53 ] .
ولما أشعرت الفاء بالتسبيب ، ودل تأكيد الفعل بالمصدر على الاحتياج إلى عمل كثير ربما جل عن طوق البشر ، وأشار إلى التطريق له بالوصفين العظيمين ، أتبع ذلك بيان الطريق إليه بما أجرى من العادة فقال : ( ومن تاب ) أي عن المعصية كفراً كانت أو ما دونه ) وعمل ( تصديقاً لادعائه التوبة .
ولما كان في سياق الترغيب ، أعراه من التأكيد فقال : ( صالحاً ( ولو كان كل من نيته عمله ضعيفاً ؛ ورغب سبحانه في ذلك بقوله معلماً أنه يصل إلى الله : ( فإنه يتوب ) أي يرجع واصلاً ) إلى الله ) أي الذي له صفات الكمال ، فهو يقبل التوبة عن عباده ، (5/339)
صفحة رقم 340
ويعفو عن السيئات ) متاباً ( اي رجوعاً عظيماً جداً بأن يرغبه الله في الأعمال الصالحة ، فلا يزال كل يوم في زيادة في نيته وعمله ، فيخف ما كان عليه ثقيلاً ، ويتستر له ما كان عسيراً ، ويسهل عليه ما كان صعباً ، كما تقدم في ) ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ( ) [ يونس : 9 ] ولا يزال كذلك حتى يحبه فيكون سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، بأن يوفقه للخير ، فلا يسمع إلا ما يرضيه ، وهكذا ، ومن أجراه على ظاهره فعليه لعنة الله ، لمخالفته إجماع المسلمين .
ولما وصف عباده سبحانه بأنهم تحلوا بأصول الفضائل ، وتخلوا عن أمهات الرذائل ، ورغب التوبة ، لأن الإنسان لعجزه لا ينفك عن النفص ، وكان قد مدحهم بعد الأولى من صفاتهم بالحلم عن الجهل مدحهم قبل الأخرى من أمدحهم وعقب تركهم الزنى بالإعراض أصلاً عن اللغو الذي هو أعظم مقدمات الزنى فقال : ( والذين لا يشهدون ) أي يحضرون انحرافاً مع الهوى كما تفعل النار التي الشيطان منها ) الزور ) أي القول النحرف عن الصدق كذباً كان أو مقارباً له فضلاً عن أن يتفوهوا به ويقروا عليه ؛ قال ابن جرير : وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق ، والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله حتى ظنوا أنه حق وهو باطل ، ويدخل فيه الغنا لأنه أيضاً مما يحسن بترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه ، والكذب أيضاً يدخل فيه بتحسين صاحبه إياه حتى يظن أنه حق .
وعطف عليه ما هو أعم منه فقال : ( وإذا مروا بالغو ) أي الذي ينبغي أن يطرح ويبطل سواء كان من وادي الكذب أو البعث الذي لا يجدي ؛ قال ابن جرير : وهو في كلام العرب كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل ، أو ما يستقبح .
) مروا كراماً ) أي آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر ، إن تعلق بهم أمر أو نهي ، بإشارة أو عبارة ، على حسب ما يرونه نافعاً ، أو معرضين إن كان لا يصلح شيء من ذلك لإثارة مفسدة أعظم ن ذلك أو نحوه ، رحمة لأنفسهم وغيرهم ، وأما حضورهم لذلك وسكوتهم فلا ، لأن النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب لوجوده والزيادة فيه .
الفرقان : ( 73 ) والذين إذا ذكروا. .. . .
) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً خَالِدِينَ(5/340)
صفحة رقم 341
فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ) 73
( ) 71
ولما ذكر وصفهم الذي فاقوا به ، أشار إلى وصف الجهلة الذي سلفوا به ، فقال : ( والذين إذا ذكروا ) أي ذكرهم غيرهم كائناً من كان ، لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله ) بآيات ربهم ) أي الذي وفقهم لتذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة ) لم يخروا ( اي لم يفعلوا فعل الساقطين المستعلين ) عليها ( الساترين لها ؛ ثم زاد في بيان إعراضهم وصدهم عنها فقال منبهاً على أن المنفي القيد لا المقيد ، وهو الخرور ، بل هو موجود غير منفي بصفة السمع والبصر : ( صماً وعمياناً ( اي كما يفعل المنافقون والكفار في الإقبال عليها سماعاً واعتباراً ، والإعراض عنها تغطية لما عرفوا من حقيتها ، وستراً لما رأوا من نورها ، فعل من لا يسمع ولا يبصر كما تقدم عن أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق ، وذلك وصف لعباد الرحمن بفعل ضد هذا ، أي أنهم يسقطون عند سماعها ويبكون عليها ، سقوط سامع منتفع بسمعه ، بصير منتفع ببصره وبصيرته ، سجداً يبكون كما تقدم في أول أوصافهم وإن لم يبلغوا أعلى الدرجات البصيرة - بما أشارت إليه المبالغة بزيادة النون جمع العمى .
ولما ذكر هذه الخصلة المثمرة لما يلي الخلصة الأولى ، ختم بما ينتج الصفة الأولى .
فقال مؤذناً بأن إمامة الدين ينبغي أن تطلب ويرغب فيها : ( والذين يقولون ( علماً منهم بعد اصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة : ( ربنا هب لنا من أزواجنا ( اللاتي قرنتها بنا كما فعلت لنبيك ( صلى الله عليه وسلم ) ، فممدحت زوجته في كلامك القديم ، جعلت مدحها يتلى على تعاقب الأزمان والسنين ) وذريتنا قرة ( ولما كان المتقون - الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها - قليلاً في جنب العاصين ، أتى بجمع القلة ونكر فقال : ( أعين ) أي من الأعمال أو من العمال يأتمون بنا ، لأن الأقربين أولى بالمعروف ، ولا شيء أسر للمؤمن ولا أقر لعينه من أن يرى حبيبه يطيع الله ، فما طلبوا إلا أن يطاع الله فتقر أعينهم ، ف ( من ) إما تكون مثلها في : رأيت منك أسداً ، وإما أن تكون على بابها ، وتكون القرة هي الأعمال ، أي هب لنا منهم أعمالاً صالحة فجعلوا أعمال من يعز عليهم هبة لهم ، وأصل القرة البرد لأن العرب تتأذى بالحر وتستروح إلى البرد ، فجعل ذلك كناية عن السرور ) واجعلنا ) أي إيانا وإياهم ) للمتقين ) أي عامة من الأقارب والأجانب .
ولما كان المطلوب من المسلمين الاجتماع في الطاعة حتى تكون الكلمة في(5/341)
صفحة رقم 342
المتابعة واحدة ، أشاروا إلى ذلك بتوحيد الإمام وإن كان المراد الجنس ، فقالوا : ( إماماً ) أي فنكون علماء مخبتين متواضعين كما هو شأن إمامة التقوى في إفادة التواضع والسكينة ، لنحوز الأجر العظيم ، إذ الإنسان له أجره وأجر من اهتدى به فعمل بعمله ( من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) وعكسه .
ولما وصف سبحانه عباده المؤمنين بضد أوصاف الكافرين من الرفق والسكينة ، والتواضع والحلم والطمأنينة والشكر لربهم والرغبة إليه والرهبة منه .
وقال الرازي : فوصف مشيهم خطابهم وانتصابهم له ودعاءهم ونفقاتهم ونزاهتم وتيقظهم وانتباههم وصدقهم ومحبتهم ونصحهم .
تشوف السامع إلى ما لهم عنده بعد المعرفة بما للكافرين ، فابتدأ الخبر عن ذلك بتعظيم شأنهم فقال : ( أؤلئك ) أي العالو الرتبة ، العظيمو المنزلة .
ولم اكان المقصود إنما هو الجزاء ، بني للمفعول قوله : ( يجزون ) أي فضلاً من الله على ما وفقهم له من هذه الأعمال الزاكية ، والأحوال الصافية ) الغرفة ) أي التي هي لعلوها واتساعها وطيبها لا غرفة غيرها ، لأنها منتهى الطلب ، وغاية الأرب ، لا يبغون عنها حولاً ، ولا يريدون بها بدلاً ، وهي كل بناء عال مرتفع ، والظاهر أن المراد بها الجنس .
ولما كانت الغُرَب في غابة التعب لمنافاتها لشهوات النفس وهواها وطبع البدن ، رغب فيها بأن جعلها سبباً لهذا الجزاء فقال : ( بما صبروا ) أي أوقعوا الصبر على أمر ربهم ومرارة غربتهم بين الجاهلين في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم ، وغير ذلك من معاني جلالهم .
ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالكرامة والسلامة ، قال : ( ويلقون ) أي بجعلهم الله لاققين بأيسر أمر ؛ وهلى قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم بالتخفيف والبناء للفاعل والأمر واضح ) فيها تحية ) أي دعاء بالحياة من بعضهم لبعض ، ومن الملائكة الذين لا يرد دعاؤهم ، ولا يمترى في إخبارهم ، لأنهم عن الله ينطقون ، وذلك على وجه الإكرام والإعظام مكان ما أهانهم عباد الشيطان ) وسلاماً ) أي من الله ومن الملائكة وغيرهم ، وسلامة من كل آفة مكان ما أصابوهم بالمصائب .
ولما كان هذا ناطقاً بدوام حياتهم سالمين بصريحه ، وبعظيم شرفهم بلازمه ، دل على أنهم لا يبرحون عنه بقوله : ( خالدين فيها ) أي الغرفة مكان ما أزعجوهم من ديارهم حتى هاجروا ؛ ودل على علو أمرهان وعظيم قدرها ، بإبراز مدحها في مظهر(5/342)
صفحة رقم 343
التعجب فقال : ( حسنت ) أي ما أحسنها ) مستقراً ) أي موضع استقرار ) ومقاماً ) أي موضع إقامة .
ولما ثبت أمر الرحمانية ، فظهر أمر الرحمن وما عليه عباده من الدعاء الذي هو الخضوع والإخلاص ، ختم أوصافهم الحسنة بالدعاء حقيقة الدال على الإخلاص في الخضوع ، وذكر حسن جزائهم وكريم منقلبهم ، أمر النذير أن يقول لعباد الشيطان الذين تكبروا عن السجود للرحمن ، وعن الاعتراف والإيمان ، ليرجعوا عن العصيان ، ويزداد المؤمنون في الطاعات الإيمان : إن ربه لا يعتد بمن لا يدعوه ، فمن ترك دعاءه فليرتقب العذاب الدائم ، فقال : ( قل ما يعبؤا ) أي يعتد ويبالي ويجعلكم ممن يسد به في موضع التعبئة الآن - على أن ( ما ) نافية ) بكم ( اي أيها الكافرون ) ربي ) أي المحسن إليّ وإليكم برحمانيته ، المخصص لي بالإحسان برحيميته ، وإنما خصه بالإضافة لا عترافه دونهم ) لولا دعاؤكم ( اي نداؤكم له في وقت شدائدكم الذي أنتم تبادرون إليه فيه خضوعاً له به لينجيكم ، فإذا فعلتم ذلك أنقذكم مما أنتم فيه ، معاملة لكم معاملة من يبالي بالإنسان ويعتد به ويراعيه ، ولولا دعاؤه إياكم لتعبدوه رحمة لكم لتزكوا أنفسكم وتصفّوا أعمالكم ولا تكونوا حطباً للنار ) فقد كذبتم ( اي فتسبب عن ذلك لسوء طباعكم ضد ما كان ينبغي لكم من الشكر والخير بأن عقبتم بالإنجاء وحققتم وقرنتم التكذيب بالرحمن بعد رحمتكم بالبيان مع ضعفكم وعجزكم ، وتركتم ذلك الدعاء له وعبدتم الأوثان ، وادعيتم له الولد وغيره من البهتان ، أو ما يعتد بكم شيئاً من الاعتداد لولا دعاؤكم إياه وقت الشدائد ، فهو يعتد بكم لأجله نوع اعتداد ، وهو المدة التي ضربها لكم في الدنيا لا غيرها ، بسب أنكم قد كذبتم ، أو ما يصنع بكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته ، لأنكم قد كذبتم ، فكنتم شراً من البهائم ، فدعاكم فتسبب عن دعائه إياكم أنكم فاجأتم الداعي بالتكذيب ، والحاصل أنه ليس فيكم الآن ما يصلح أن يعتد بكم لأجله إلا الدعاء ، لأنكم مكذبون ، وإنما قلت : ( الآن ) لأن ( ما ) لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال ، عكس ( لا ) ) فسوف ( اي فتسبب عن تكذيبكم أنه يجازيكم على ذلك ، ولكنه مع قوته وقدرته واختياره لا يعاجلكم ، بل ) يكون ( جزاء هذا التكذيب عند انقضاء ما ضربه لكم من الآجال ، وكل بعيد عندكم قريب عنده ، وكل آتٍ قريب ، فتهيؤوا واعتدوا لذلك اليوم ) لزاماً ) أي لازماً لكم لزوماً عظيماً لا انفكاك له عندكم بحال ، وهذا تنبيه على ضعفهم وعجزهم ، وذلهم وقهرهم ، لأن الملزوم لا يكون إلا كذلك ، فأسرهم يوم بدر من أفراد هذا التهديد ، فقد انطبق آخر السورة على أولها بالإنذار بالفرقان ، لمن أنكر حقيقة الرحمن - والله ولي التوفيق بالإيمان .
.. . .(5/343)
صفحة رقم 344
سورة الشعراء
الشعراء : ( 1 - 5 ) طسم
) طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( ( )
مقصودها أن هذا الكتاب بين في نفسه بإعجازه أنه من عند الله ، مبين لكل ملتبس ، ومن ذلك بيان آخر التي قبلها بتفصيلهن وتنزيله على أحوال الأمم وتمثيله ، وتسكين أسفه ( صلى الله عليه وسلم ) خوفاً من أن يعم أمته الهوان بعدم الإيمان ، وأن يشتد قصدهم لأتباعه بالأذى والعدوان بما تفهمه ) سوف ( من طول الزمان ، بالإشارة غلى إهلاك من علم منه دوام العصيان ، ورحمة من أراده للهداية والإحسان ، وتسميتها بالشعراء أدل دليل على ذلك بما يفارق به القرآن الشعر من علو مقامه ، واستقامة مناهجه وعز مرامه ، وصدق وعده ووعيده وعدل تبشيره وتهديده ، وكذا تسميتها بالظلة إشارة إلى أنه أعدل في بيانه ، أو أدل في جميع شأنه ، من المقادير التي دلت عليها قصة شعيب عليه السلام بالمكيال والميزان ، وأحرق من الظلة لمن يبارزه بالعصيان .
) بسم الله ( الذي دل على علو كلامه ، على عظمة شأنه وعز مرامه ) الرحمن ( الذي لا يعجل على من عصاه ) الرحيم ( الذي يحيي قلوب أهل وده بالتوفيق لما يرضاه ) طسم ( لعله إشارة إلى الطهارة الواقعة بذي طوى ن طور سيناء وطيبة ومكة وطيب ما نزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مما يجمع ذلك كله - كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يرشد إلى ذلك ، وإلى خلاص بني إسرائيل بما سمعه موسى عليه السلام من الكلام القديم ، وبإتمام أمرهم بتهيئتهم للملك بإغراق فرعون وجنوده ونصرهم على من نأوأهم في ذلك الزمان بعد تطهيرهم بطول البلاء الذي أوصلهم إلى ذل العبودية ، وذلك كله إشارة إلى تهديد قريش بأنهم إن لم يتركوا لددهم فعل بهم ما فعل بفرعون وجنوده من الإذلال بأي وجه أراد .
وخلص عباده منهم ، وأعزهم على كل من نأوأهم .(5/344)
صفحة رقم 345
ولما فرق سبحانه في تلك بين الدين الحق والمذهب الباطل ، وبين ذلك غاية البيان ، وفصل الرحمن من عباد الشيطان ، وأخبر أنه عم برسالته ( صلى الله عليه وسلم ) جميع الخلائق ، وختم بشديد الإنذار لأهل الإدبار ، بعد أن قال ) فقد كذبتم ( وكان حين نزولها لم يسلم منهم إلا القليل ، وكان ذلك ربما أوهم قرب إهلاكهم وإنزال البطش بهم ، كما كان في آخر سوة مريم ، وأشارت الأحرف المقطعة إلى مثل ذلك ، فأوجب الأسف على فوات ما كان يرجى من رحمتهم بالإيمان ، والحفظ عن نوازل الحدثان ، وكان ذلك أيضاً ربما أوجب أن يظن ظان ، أن عدم إسلامهم لنقص في البيان ، أزال ذلك سبحانه أول هذه فقال ) تلك ) أي الآيات العالية المرام ، الحائزة أعلى مراتب التمام ، المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات لسانكم ) ءايات الكتاب ) أي الجامع لكل فرقان ) المبين ) أي الواضح في نفسه أنه معجز ، وأنه من عند الله ، وأن فيه كل معنى جليل ، الفارق لكل مجتمع ملتبس بغاية البيان ، فصح أنه كما ذكر في التي قبلها ، فإن الإبانة هي الفصل والفرق ، فصار الإخبار بأنه فرقان مكتنفاً الإنذار أول السورة التي قبلها وآخرها - والله الموفق .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين ، وختمت بما ذكر من الوعيد ، كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه الصلاة والسلام وتأسفه على فوات إيمانهم ، لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق ، فافتتحت السورة الأخرى بتسليته عليه الصلاة والسلام ، وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه ) لعلك باخع نفسك ( - الآيتين ، وقد تكرر هذا المعنى عند إرادة تسليته عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى :
77 ( ) ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ( ) 7
[ الأنعام : 35 ] ،
77 ( ) ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ( ) 7
[ السجدة : 13 ] ،
77 ( ) ولو شاء ربك لامن من في الأرض كلهم جميعاً ( ) 7
[ يونس : 99 ] ،
77 ( ) ولو شاء الله ما فعلوه ( ) 7
[ الأنعام : 137 ] ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير ) أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( ، ) وإذ نادى ربك موسى ( وقلّما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا معقبة بقصص موسى عليه السلام وما كابد من بني إسرائيل وفرعون ، وفي كل قصة منها إحرازاً ما لم تحرزه الخرى من الفوائد والمعاني والأخبار حتى لا تجد قصة تتكر وإن ظن ذلك من لم يمعن النظر ، فما من قصة من القصص المتكررة في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر إزالتها لنقص منا لفائدة ما لا يحصل من غيرها ، وسيوضح هذا في التفسير بحول الله ؛ ثم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم على الطريقة المذكورة ، وتأنيساً له عليه الصلاة(5/345)
صفحة رقم 346
والسلام حتى لا يهلك نفسه اسفاً على فوت إيمان قومه ؛ ثم أتبع سبحانه ذلك بذكر الكتاب وعظيم النعمة به فقال ) وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون ( فيها له كرامة تقصر الألسن عن شكرها ، وتعجز العقول عن تقديرها ، ثم أخبر تعالى أنه ) بلسان عربي مبين ( ، ثم أخبر سبحانه بعلى أمر هذا الكتاب وشائع ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء فقال : ( وإنه لفي زبر الأولين ) وأخبر أن على بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة ، وأن تأمل ذلك كاف ، واعتباره شاف ، فقال : ( أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء نبي إسرائيل ( كعبد الله بن سلام وأشباهه ، ثم وبخ تعالى متوقفي العرب فقال : ( ول نزلنه على بعض الأعجمين ( - الآية ، ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن كتاب - مع أن هدى ونور - قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى :
77 ( ) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ( ) 7
[ البقرة : 26 ] ،
77 ( ) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ( ) 7
[ التوبة : 125 ] فقال تعالى في هذا المعنى ) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ( الآيات ، ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله عن أن تتسور الشياطين على شيء منه أو تصل إليه فقال سبحانه ) وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون ) أي ليسوا أهلاً له ولا يقدرون علىاستراق سمعه ، بل هم معزولون عن السمع ، مرجمون بالشهب ، ثم وصى تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) - والمراد المؤمنون - فقال : ( فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين ( ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال : ( وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه ، وأهلية ما تخيلوه ، فقال : ( هل أنبئكم عل من تنزل الشياطين تنزل على كل أفالك أثيم ( ثم وصفهم ، وكل هذا تنزيه لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عما تقولوه ، ثم هددكم وتوعدهم فقال : ( وسيعلم الذين ظلموا اي منلقب ينقلبون ( - انتهى .
ولما كان قد قدم في تلك أنه عم برسالته جميع الخلائق ، وختم بالإنذار على تكذيبهم في تخلفهم ، مع إزاحة جميع العلل ، نفي كل خلل ، وكان ذلك مما يقتضي شدة أسفه ( صلى الله عليه وسلم ) على المتخلفين كما هو مضمونن ) إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ( على ما تقدم .
وذلك لما عنده صلى الله عليه سلم من مزيد الشفقة ، وعظيم الرحمة ، قال تعالى يسليه ، وييل من أسفه ويعزيه ، على سبيل الاستئناف ، مشيراً إلى أنه لا نقص في إنذاره ولا في كتابه الذي به ينذر به يكن سبباً لوقوفهم عن الإيمان .
وإنما السبب في ذلك محض إرادة الله تعالى : ( لعلك باخع نفسك ( اي مهلكها غمّاً .
وقاتلها أسفاً ، من يخع الشاة إذا بالغ في ذبحها حتى قطع البخاع ، بكسر الموحدة ، وهو عرق باطن في الصلب(5/346)
صفحة رقم 347
وفي القفا ، وذلك أقصى حد الذابح ، وهو غير النخاع يتثليث النون فإن الخيط الأبيض في جوف الفقار ) أن ( اي لأجل أن ) لا يكونوا ) أي كوناً كأنه جبلة لهم ) مؤمنين ) أي راسخين في الإيمان ، فكان كأنه قيل : هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير ، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ ، أخاف وتشفق على نفسك من الهلاك عمّاً تأسفاً على عدم إيمانهم والحال أنا لو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً ، والظاهر أن جملة الإشفاق في موضع حال من اسم الإشارة كما أن آية التي بعدها في موضع الحال منها ، اي نحن نشير إلى الآيات المبينة لمرادنا فيهم والحال أنك - لمزيد حرصك على نفعهم - بحال يشفق فيهاا عليك من لا يعلم الغيب منأن تقتل نفسك غمّاً لإبائهم الإيمان والحال أنا لو شئنا اتيناهم بما يقهرهم ويذلهم للإيمان وغيره .
ولا كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه ، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال : ( إن نشأ ( وعبر بالمضارع فيه وفي قوله : ( ننزل ( إعلاماً بدوام القدرة .
ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر ، والجبروت والقهر ، قال : ( عليهم ( وقال محققاً للمراد : ( من السمآء ( آي التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع ، اشار إلى تمام القدرة بتوحيدها فقال : ( آية ) أي قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه ؛ وأشار إلى تحقق أثرها بالتعبير بالماضي في قوله عطفاً على ) ننزل ( لأنه في معنى ) أنزلنا ( : ( فظلت ) أي عقب الإنزال من غير مهلة ) أعناقهم ( التي هي موضع الصلابة ، وعنها تنشأ حركات الكبر وألإعراض ) لها ) أي للآية دائماً ، ولكنه عبر بما يفهم النهار لأنه موضع القوة على جميع ما يراد من التقلب والحيل والمدافعة ) خاضعين ( جمعه كذلك لأن الفعل لأهلها ليدل على أن ذلهم لها يكون مع كونهم جميعاً ، ولا يغني جمعهم وإن زاد شيئاً ، والأصل : فظلوا ، ولكنه ذكر الأعناق لأنها موضع الخضوع يكون بالطبع من غير صلابتها ، وانكسارها بعد شماختها ، وللإشارة إلى أن الخضوع يكون بالطبع من غير تأمل لما أبهتهم وحيرهم من عظمة الآية ، فكأن الفعل االأعناق لا لهم ؛ والخضوع : التطامن والسكون واللين ذلاً وانكساراً ) وما ( اي هذه صفتنا والحال أنه ما ) يأتيهم ) أي الكفار ) من ذكر ( اي شيء من الوعظ والتذكير والتشريع يذكروننا به ، فيكون سبب ذكرهم وشرفهم ) من الرحمن ) أي الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم ) محدث ) أي بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به ؛ وأشار إلى دوام كبرهم بقوله : ( إلا كانوا ) أي كوناً هو كالخلق لهم ؛ وأشار بتقديم الجار والمؤذن بالتخصيص غلى ما لهم من سعة الفكار وقوة الهمم لكل ما يتوجهون إليه ، وإلى أن لإعراضهم عنه من القوة ما يعد الإعراض معه عن غيره عدماً فقال : ( عنه ) أي خاصة ) معرضين ( اي إعراضنا هو صفة لهم لازمة .(5/347)
صفحة رقم 348
الشعراء : ( 6 - 10 ) فقد كذبوا فسيأتيهم. .. . .
) فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ( )
ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال : ( فقد ) أي فتسبب عن هذا الفعل منهم أنهم قد ) كذبوا ( اي حققوا التكذيب وقربوه كما تقدم آخر تلك ، واستهزؤوا مع التكذيب بآياتنا .
ولما كان التكذيب بالوعيد سبباً في إيقاعه ، وكان حالهم في تكذيبهم له ( صلى الله عليه وسلم ) حال المستهزىء لأن من كذب بشيء خف عنده قدره ، فصار عرضة للهزء ، قال مهدداً : ( فسيأتيهم ( سببه بالفاء وحققه بالسين ، وقلل التنفيس عما في آخر الفرقان ليعلموا أن ما كذبوا به واقع .
وأنه ليس موضعاً للتكذيب بوجه ) أنباء ) أي عظيم أخبار وعواقب ) ما ) أي العذاب الذي ) كانوا ) أي كوناً كأنهم جبلوا عليه ) به ) أي خاصة لشدة إمعانهم في حقه وحده ) يستهزؤون ) أي يهزؤون ، ولكنه عبر بالسين غشارة إلى أن حالهم في شدة الرغبة في ذلك الهزء حال الطالب له ، وقد ضموا إليه التكذيب ، فالآية من الاحتباك : ذكر التكذيب أولا دليلاً على حذفه ثانياً ، والاستهزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً .
ولما كانت رؤيتهم للآيات السماوية والأرضية الموجبة للانقياد والخضوع موجبة لإنكار تخلفهم عما تدعو إليه فضلاً عن الاستهزاء ، وكان قد تقدم آخر تلك الحثُّ على تدبر بروج السماء وما يتبعها من الدلالات فكان التقدير : الم يروا غلى السماء كم أودعنا في بروجها وغيرها من آيات نافعة وضارة كالأمطار والصواعق ، عطف عليه ما ينشأ عن ذلك في الأرض في قوله معجباً منهم : ( أو لم يروا ( .
ولما كانوا في عمى عن تدبر ذلك ، عبر للدلالة عليه بحرف الغاية فقال : ( إلى الأرض ) أي على سعتها واختالف نواحيها وتربها ؛ ونبه على كثرة ما صنع من جميع الأصناف فقال : ( كم أنبتنا ( اي بما لنا من العظمة ) فيها ( بعد أن كانت يابسة ميتة لا نبات بها ) من كل زوج ) أي صنف مشاكل بعضه لبعض ، فلم يبق صنف يليق بهم في العاجلة إلا أكثرنا من الإنبات منه ) كريم ) أي جم المنافع ، محمود العواقب ، لا خباثة فيه ، من الأشجار والزروع وسائر النباتات على اختلاف ألوانها في زهورها وأنوارها ، وطعومها وأقدراها ، ومنافعها وأرواحها - إلى غير ذلك من أمور لا يحيط بها حداً ولا يحصيها عداً ، إلا الذي خلقها ، مع كونها تسقى بماء واحد ؛ والكريم وصف لكل ما يرضى في بابه ويحمد ، وهو ضد اللئيم .(5/348)
صفحة رقم 349
ولما كان ذلك باهراً للعقل منبهاً له في كل حال على عظيم اقتدار صانعه ، وبديع اختياره ، وصل به قوله : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم من الإنبات ، وما تقدمه من العظات على كثرته ) لآية ) أي علامة عظيمةجداً لهم على تمام القدرة على البعث وغيره ، كافية في الدعاء إلى الإيمان ، والزجر عن الطغيان ، ولعله وحّدها على كثرتها إشارة إلى أن الدوالّ عليه مساوية الأقدام في الدلاة ، فالراسخون تغنيهم واحدة ، وغيرهم لا يرجعون لشيء ) و ( الحال أنه ) ما كان ( في الشاكلة التي خلقتهم عليها ) أكثرهم ) أي البشر ) مؤمنين ) أي عريقين في الإيمان ، لأنه ( ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ) وإن ) أي والحال أن ) ربك ) أي الذي أحسن إليك بالإرسال ، وسخر لك قلوب الصفياء ، وزوى عنك اللد الأشقياء ) لهو ( .
ولما كان المقام لإنزال الآية القاهرة ، قدم قوله : ( العزيز ) أي القادر على كل من قسرهم على الإيمان والانتقام منهم ) الرحيم ( في أنه لم يعاجلهم بالنقمة ، بل أنزل عليهم الكتاب ترفقاً بهم ، وبياناً لما يرضاه ليقيم به الحج على نم أريد للهوان ، ويقبل بقلوب من يختصه منهم للإيمان ، قال أبو حيان : والمعنى أنه عز في نقمته من الكفار ، ورحم مؤمني كل أمة - انتهى .
ومن هنا شرع سبحانه وتعالى في تمثيلآخر الفرقان في إظهار القدرة بالبطش عندالنقمة حيث لم يشكر النعمة بأن أبى المدعو الإجابة لدعوه الرسل ، وترك الداعي - عقب الانقياد من الشدائد - التضرع للمرسل ، وقص أخبار الأمم على ما هي عليه بحيث لم يقدر أحد من أهل الكتاب الذين هم بين ظهرانيهم على إنكار شيء من ذلك ، ومن ثم قرع أسماعهم ، أول شيء بقصتهم من فرعون ، وموسى عليه السلام ، فصح قطعاً أن هذا الكتاب جلي الأمر ، على القدر ، ليس بكهانة ، ولا شعر ، كما سيؤكد ذلك عند إظهار النتيجة في آخرها ، بل هو من عند رب العالمين ، على لسان سيد المرسلين ، وصح أن أكثر الخلق مع ذلك هالك وإن قام الدليل .
ووضح السبيل .
لأن سلك الذكر في قلوبهم شبيه في الضسق بنظم السهم فيما يرمى به ، وصح أنه سبحانه يملي لهم وينعم عليهم بما فيه حياة أديانهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وما فيه حياة أبدانهم بالإيتاء من كل ما يحتاجونه إظهاراً لصفة الرحمة .
ثم ينتقم منهم بعد طول المهلة / وتماديهم في سكرات الغفلة ، كشفاً لصفة العزة ، كل ذلك تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) وتخفيفاً وإعلاماً بأنه لا قصور في بيانه ، ولا تقصير لديه .
ولما اقتضى وصف العزة الإهلاك ، وصصف الرحمة الإمهال ، وكان الأول مقدماً ، وكانت عادتهم تقديم ما هم به أهم ، وهو لهم أعنى ، خيفت غائلته ، فأتبع ذلك أخبار هذه الأمم ، دلالة على الوصفين معاً ترغيباً وترهيباً ، ودلالة على أن الرحمة سبقت(5/349)
صفحة رقم 350
الغضب ، وإن قدم الوصف اللائق به ، فلا يعذب إلا بعد البيان مع طول الإمهال ، وأخلى قصة أبيهم غبراهيم عليه السلام من ذكر الإهلاط إشارة غلى البشارة بالرفق ببنية العرب في الإمهال كما رفق بهم في الإنزال والإرسال ، ولما كان مع ذلك في هذه القصة تسلية للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يقاسيه من الأذى والتكذيب ، وكانت التسلية بموسى وإبراهيم عليهما السلام أتم ، لما لهما من القرب ، والمشاركة في الهجرة ، والقصد إلى الأرض المقدسة ، وكان قد اختص موسى عليه السلام بالكتاب الذي ما بعد القرآن مثله والآيات التي ما أتى بمثلها أجد قبله ، وإقرار عينه بهداية قومه ، وحفظهم بعده بالكتاب ، وسياسة الأنبياء المجددين لشريعته ، وعدم استئصالهم بالعذاب والانتقام بأيديهم من جميع أعدائهم ، وفتح بلاد الكفرة على أيديهم بعده ( صلى الله عليه وسلم ) إلى غير ذلك مما شابهوا به هذه الأمة مع مجاورتهم للعرب حتى في دار الهجرة ، وموطن النصرة ، ليكون في إقرارهم على ما يسمعون من أخبارهم أعظم معجزة ، وأتم دلالة ، قدمهما مقدماً لموسى - عليهما السلام ، والتحية والإكرام - فإن كان القصد تسكين ما أورثه خر تلك منخوف الملازمة بالعذاب نظراً إلى وصف العزة ، فالتقدير : اذكر أثر رحمتنا بطول إمهالنا لقومك - وهم على أشد ما يكون من الكفر والضلال في ايام الجالهية - برحمتنا الشاملة بإرسالك إليهم وأنت أشرف الرسل ، وإنزال هذا الكتاب الذي هو أعظم الكتب ) هو ( اذكر ) إذ ( وعلى تقدير التسلية يكون العطف على تلك لأن المراد بها التنبيه ، فالتقدير : خذ آيات الكتاب واذكر إذ ) نادى ربك ) أي المحسن إليك بكل ما يمكن افحسان به في هذه الدار ، وعلى تقدير الترهيب يكون التقدير : أو لم يروا إذ نادى ربك ، وعدّوا رائين لذلك لأن اليهود في بلادهم وفي حد القرب منهم ، فإما أن يكونوا عالمين بالقصة بما سمعوه منهم ، أو متهيئين لذلك لإمكانهم من سؤالهم ؛ ثم ذكر المنادى فقال : ( موسى ( وأتبعه ما كان له النداء فقال مفسراً لأن النداء في معنى القول : ( أن أئت القوم ( اي الذين فيهم قوة وأيّ قوة ) الظالمين ) أي بوضعهم قوتهم على النظر الصحيح المؤدي للإيمان في غير موضعها .
الشعراء : ( 11 - 18 ) قوم فرعون ألا. .. . .
) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ( ( )
ولما كان كأنه قيل : أيّ قوم ؟ قال مبدلاً إشارة أن العابرتين مؤداهما واحد لأنهم عريقون في الظلم ، لظلمهم أنفسهم بالكفرة وغيره ، وظلم بني إسرائيل وغيرهم من العباد : ( قوم فرعون ( .(5/350)
صفحة رقم 351
ولما كان المقصود بالرسالة تخويفهم من الله تعالى ، وإعلامهم بجلاله ، استانف قوله معلماً بذلك في سياق الإنكار عليهم ، والإيذان بشديد الغضب منهم ، والتسجيل عليهم بالظلم ، والتعجيب من حالهم في عظيم عسفهم فيه ، وأنه قد طال إمهاله لهم وهو لا يزدادون إلا عتواً ولزماً للموبقات : ( ألا يتقون ( اي يحصل منهم تقوى .
ولما كان من ا لمعلوم أن من أتى الناس بما يخالف أهوائهم .
لم يقبل ، أخبر من تشوف إلى معرفة جوابه أنه أجاب بما يقتضي الدعاء بالمعونة ، لما عرف من خطر هذا المقام ، بقوله ملتفتاً إلى نحو
77 ( ) يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ( ) 7
[ الفرقان : 30 ] ) قال رب ) أي أيها الرفيق بي ) إني أخاف أن يكذبون ) أي فلا يترتب على إتياني إليهم أثر ، ويبغون لي الغوائل ، فاجعل لي قبولاً ومهابة تحرسني بها ممن يريدني بسوء ، ويجوز أن يريد ب ( أخاف ) أعلم أو ( أظن ، فيكون ( أن ) مخففة ، فيكون الفعلان معطوفين على ( يكذبن ) في قراءة الجمهور بالرفع مع جواز العطف على ( أخاف ) فيكون التقدير : ( و ( أخاف أنه ، أو قال : إني ) يضيق صدري ( عند تكذيبهم أو خوفي من تكذيبهم لي انفعالاً كما هو شأن أهل المروءات ، وأرباب علو الهمم ، لما غرز فيهم من الحدة والشدة في العزيمة إذا لم يجدوا مساغاً ) ولا ينطلق ( ونصب يعقوب الفعلين عطفاً على ) يكذبون ( على أن ( أن ) ناصبة ) لساني ( اي في التعبير عما ترسلني إليهم به ، لما فيه من الحبسة في الأصل بسبب تعقده لتلك الجمرة التي لدغته في حال الطفولية ، فإذا وقع التكذيب أو خوفه وضاق القلب ، انقبض الروح إلى باطنه فازدادت الحبسة ، فمست الحاجة إلى معين يقوي القلب فيعين على إطلاق اللسان عند الحبسة لئلا تختل الدعوة ) فارسل ( اي فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر أني أسألك في الإرسال ) إلى هارون ( أخي ، ليكون رسولاً من عندك فيكون لي عضداً على ما أمضى له من الرسالة فيعين على ما يحصل من ذلك ، وليس اعتذاره بتعلل في الامتثال ، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل ، لا على التعلل .
ولما ذكره ما تؤثره الرسالة ، وقدم الإشارة إلى استكشافه لأنه أهم ، أتبعه ما يترتب على مطلق التظاهر لهم فضلاً عن مواجهتهم بما يكرهون فقال : ( ولهم عليّ ) أي بقتلي نفساً منهم ؛ وقال : ( ذنب ( وإن كان المقتول غير معصوم تسمية له بما يزعمونه ، ولذلك قيده ب ( لهم ) وأيضاً فلكونه ما كان أتاه فيه من الله تعالى أمر بخصوصه ) فأخاف ( بسبب ذلك ) أن يقتلون ) أي بذلك ، مع ما أضمه إليه من التعرض لهم ، فلا أتمكن من أداء الرسالة ، فإذا كان هارون معي عاضدني في إبلاغها ، وكل ذلك استكشاف واستدفاع للبلاء ، واستعلام للعافية ، لا توقف في القبول - كما مضى التصريح به في سورة طه .(5/351)
صفحة رقم 352
ولما استشرقت النفس غلى معرفة جوابه عن هذه الأمر المهمة شفى عناءها بقوله ، إعلاماً بأنه سبحانه استجاب له في كل ما سأل : ( قال ( قول كامل القدرة شامل العلم كما هو وصفه سبحانه : ( كلا ( اي ارتدع عن هذا الكلامن فإنه لا يكون شيء مما خفت ، لا قتل ولا غيره - وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام على الصدق من البراهين ، المقوية لصاحبها ، الشارحة لصدره ، المعلية لأمره ، عد عدماً - وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك ) فاذهبا ( اي أنت وهو متعاضدين ، إلى ما أمرتك به ، مؤيدين ) بآياتنا ( الدالة على صدقكما على ما لها منالعظمة بإضافتها إلينا ؛ ثم علل تأمينه له بقوله : ( إنا ( بما لنا من العظمة ) معكم ) أي كائنون عند وصولكما إليهم فبمن اتبعكما من قومكما ؛ ثم أخبر خبراً آخر بقوله : ( مستمعون ( اي سامعون بما لنا من العظمة في القدرة وغيرها من صفات الكمال ، إلى ما تقولان لهم ويقولون لكما ، فلا نغيب عنكم ولا تغيبون عنا ، فنحن نفعل معكما من المعونة والنصر فعل القادر الحاضر لما يفع بحبيبه المصغي له بجهده ، ولذلك عبر بالاستمتاع ؛ قال أبو حيان : وكان شيخاً الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون اريد بصورة الجمع المثنى والخطاب لموسى وهارون فقط ، لأن لفظه ( مع ) تباين من يكون كافراً ، فإنه لا يقال : الله معه ، وعلى أنه أريد بالجمع التثنية حمله سيبويه كأنهما لشرفهما عند الله تعالى عاملهما في الخطاب معاملة الجمع إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته - انتهى .
وهو كلام نفيس مؤيد بتقديم الظرف ، ويكون حينئذ خطابهما مشاكلاً لتعظيم المتكلم سبحانه نفسه ، لأن المقام للعظمة ، وعظمة الرسول من عظمة المرسل ، على انه يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البشارة بمن يتبعها كما قدرته ، ويجوز أن تكون المعية للكل كما في قوله تعالى :
77 ( ) ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ( ) 7
[ المجادلة : 7 ] .
ولمانفى سبحلنه أن يكون شيء مما خافه موسى عليه السلام على هذا الوجه المؤكد ، وكان ظهور ذلك في مقارعة الرأس أدل وأظهر ، صرح به في قوله : ( فأتيا ) أي فتسبب عن ذلك الضمان بالحراسة والحفظ أني أقول لكما : ائتيا ) فرعون ( نفسه ، وإن عظمت مملكته ، وجلّت جنوده ) فقولا ) أي ساعة وصولكما له ولمن عنده : ( إنا رسول ( أفرده مريداً به الجنس الصالح للاثنين ، إشارة بالتوحيد إلى أنهما في تعاضدهما واتفاقهما كالنفس الواحدة ، ولا تخالف لأنه إما وقع مرتين كل واحدة بلون ، أو مرة بما يفيد التثنية والاتفاق ، فساغ التعبير بكل منهما ، ولم يثنّ هنا لأن المقام لا اقتضاء له للتنبيه على طلب نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) المؤازرة بخلاف ما مر في سورة طه ) رب العالمين ) أي المحسن إلى جميع الخلق المدبر لهم ؛ ثم ذكر له ما قصد من الرسالة إليه فقال معبراً(5/352)