صفحة رقم 121
العجل ، ومع ذلك وقع منهم العصيان بطلب ما لا ينبغي لهم من الرؤية على وجه التعنت ، فقال : ( واختار ) أي اجتهد في أخذ الخيار ) موسى قومه ( ثم أبدل منهم قوله : ( سبعين رجلاً ( إشارة إلى أن من عداهم عدم ، لا يطلق عليهم اسم القوم في المعنى الذي أراده ، وهونحو ما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما ( الناس كالإبل المائة ، لا تكاد تجد فيها راحلة ) ثم ذكر علة الاختيار فقال : ( لميقاتنا ) أي فما أختار إلا من رأى أنه يصلح لما نريد من عظمتنا في الوقت الذي حددناه له ، ودنا بهم من الحضرة الخطابية في الجبل هو وهارون عليهما السلام ، واستخلف على بني إسرائيل يوشع بن نونة عليه السلام ، كل ذلك عن امر الله له ، وفي هذا الكلام عطف على قوله
77 ( ) ووعدنا موسى ثالثين ليلة ( ) 7
[ الأعراف : 142 ] فيكون الميقات هو الأول وهو ظلاهر التوارة كما مر بيانه في البقرة ، ويجوز ان يكون عطفاً على قوله
77 ( ) واتخذ قوم موسى ( ) 7
[ الأعراف : 148 ] أو على قوله
77 ( ) أخذ الأولواح ( ) 7
[ الأعراف : 154 ] وحينئذ يكون هذا الميقات غير الميقات الأول ، ويؤيده ما نقل من أن هارون عليه السلام كان معهم ، وكأنهم لما سمعوا كلام الله طلب بعضهم الرؤية جاعليها شرطاً لإيمانهم فقالوا :
77 ( ) لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ( ) 7
[ البقرة : 55 ] كما فعل النقباء الاثنا عشر حين أرسلهم لجس أحوال الجبارين فنقص أكثرهم ، فأخذتهم الرجفة فماتوا فخشى موسى عليه السلام ان يتهمه بنو إسرائيل في موتهم كنفس واحدة ) فلما اخذتهم ) أي أخذ قهر وغلبة ) الرجفة ) أي التي سببتها الصاعقة التي تقدمت في البقرة ، فزلزلت قلوبهم فأماتتهم ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن هؤلاء غير السبعين الذين قالوا
77 ( ) أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ( ) 7
[ النساء : 153 ] وأن أولئك كانوا قبل هؤلاء ، فالظاهر أن سبب الرجفة ما رأوا عند سماع الكلام من جلال الله وعظيم هيبته من الغمام الذي تغشي الجبل والقتار والبروق واصوات القرون وغير ذلك بخحيث كادت الرجفة - وهي رعدة - تفرق اوصالهم بعضها من بعض ) قال ) أي موسى تملقاً لربه سبحانه ) رب ) أي أيها المحسن إليّ ) لو شئت اهلكتهم ) أي أمتّهم ولما لم يكن إهلاكهم مستغرقاً للماضي ، أخل الجارفقال : ( من قبل وإياي ) أي قدرتك عليّ وعليهم قبل أن نقترب من هذه الحضرة المقدسة ونحن بحضرة قومنا كقدرتك علينا حين تشرفنا بها ، وقد أسبلت علينا ذيل عفوك واسبغت علينا نعمتك(3/121)
صفحة رقم 122
ونحن في غيرالحضرة فلم تهلكنا ، فإنعامك علينا ونحن في حضرة القدس وبساط القرب والأنس أولى ثم لما كان الحال مقتضياً لأن يقال : ألم تر إلى ما اجترؤوا عليه ، وكان كأنه قال : إنما قال ذلك قوم منهم سفهاء ، دل على ذلك بقوله استعطافاً : ( اتهلكنا ( وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان رجفتهم كانت بسبب أنهم لم ينهوا عن عبادة العجل مع انهم لم يرضوا بذلك .
وكأن موسى عليه السلام عبر بهذه العبارة المقتضية لإهلاك الجميع لأنه جوز أنه كما أهلك هؤلاء يهلك غيرهم لتقصير آخر بسبب ذلك كعدم الجهاد مثلاً حتى يعمهم الهلاك ) بما فعل السفهاء منا ( فكأنه ( صلى الله عليه وسلم ) رضي أنه إن لم يشملهمالعفو أن يخص العفو بمن لم يذنب بالفعل ويعفو عمن قصر بالسكوت ، وعلى تقدير كون الميقات غير الأول يجوز أن يكون بعد اتخاذهم العجل كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فيكون موسى عليه السلام خاف ان يكون إهلاكهم فتنة لبني إسرائيل وسبباً لكفرهم كما كان إبطاؤه عنهم بزيادة عشرة ايام الثلاثين في الميقات الأول سبباً لاتخاذهم العجل ، ويجوز حيئذ أن يراد بفعل السفهاء اتخاذ العجل ، ويؤيده التعبير بالفعل دون القول وقد تقدم نقله عن ابن عباس رضي الله عنهما ولما كان قوله هذا ربما أفهم رضاه بهلاك المذنبين ، قال معرضاً بالسؤال في العفو عن الجميع : ( إن هي ) أي الفتنة التي أوقعها السفهاء ) إلا فتنتك ) أي ابتلاؤك واختياك ) تضل بها من تشاء ) أي تظهر في عالم الشهادة من ضلاله ما كان معلوماً لك في عالم الغيب ) وتهدي من تشاء ) أي تظهر ما في علمك من ذلك ولما اثبت ان الكل بيده ، استأنف سؤاله في ان يفعل لهم الأصلح فقال : ( أنت ( اي وحدك ) ولينا ) أي نعتقد انه لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك ، وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر ، بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء ، ونحن على بصيرة من أن افعالك لا تعلل بالأغراض ، وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك من يضرنا ، ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك .
ولما اثبت أنه الفعال لما يشاء وأنه لا ولي لهم غيره ، وكان من شأن الولي جلب النفع ودفع الضر ، سبب عن كونه الولي وحده قوله بادئاً بدفع الضرر : ( فاغفر لنا ) أي امح ذنوبنا ) وارحمنا ) أي ارفعنا ؛ ولما كان التقدير : فأنت خير الراحمين ، عطف عليه دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه ، وانت منزه عن ذلك ، وكأنه أحسن العفو عنهم فقال عاطفاً على سؤاله فيه : ( واكتب لنا ) أي في مدة إحيائك لنا ) في هذه(3/122)
صفحة رقم 123
الدنيا ) أي الحاضرة والدنية ) حسنة ) أي عيشة راضية طيبة ) وفي ( الحياة ) الآخرة ) أي كذلك ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إنا هدنا ) أي تبنا ) إليك ) أي عما لا يليق بحنانك كما أمرتنا ان نخبر ما عساه يقع منا بالمبادرة إلى التوبة ، فبدأ بذكر عزة الربوبية وثنى بذلة العبودية وهما أقوى اسباب السعادة ، وهذا تلقين لهم وتعليم وتحذير من مثل ما وقعوا فيه وحث على التسليم ، وكأنه لما كان ذنبهم الجهر بما لا يليق به سبحانه من طلب الرؤية ، عبر بهذا اللفظ أو ما يدل على معناه تنبيهاً لهم على أن اسمهم يدل على التوبة والرجوع إلى الحق والصيرورة إلى الصلاح واللين والضعف في الصوت والاستكانه في الكلام والسكوت عما لا يليق ، وأن يهودا الذي أخذ اسمه من ذلك إنما سموا به ونسبوا إليه تفاؤلاً ليتبادروا إلى التوبة ولما كان في كلامه عليه السلام إنكار إهلاك الطائع بذنب العاصي وإن كان ذلك إ نما كان على سبيل الاستعطاف منه والتملق مع العلم بأنه عدل منه تعالى وله أن يفعل ما يشاء بدليل قوله
77 ( ) ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ( ) 7
[ الأعراف : 155 ] استأنف سبحانه الإخبار عن الطجواب عن كلاوه على وجه منبه للجماهير على ان له التصرف المطلق بقوله : ( قال عذابي ) أي انتقامي الذي يزيل كل عذوبه عمن وقع به ) أصيب به ) أي في الدنيا والآخرة ) من أشاء ) أي اذنب أو لم يذنب ) ورحمتي ( ولما كان الإيجاد من الرحمة فإنه خير من العدم فهو إكرام في الجملة ، قال : ( وسعت كل شيء ) أي هذا شأنها وصفتها في نفس الأمر وإن بلغ في القبائح ما عساه أن يبلغ ، وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيح ( إن رحمتي سبقت ) وفي رواية : غلبت - ( غضبي ) سواء قلنا : إن السبق بمعنى الغلبة ، أو قلنا إنه على بابه ، إما الأول فلأن تعلق الرحمة اكثر ، لأن كل ما تعلق به الغضب تعلقت به الرحمة بإيجاد وإضافة الرزق عليه ، ولا عكس كالحيونات العجم والجمادات وأهل السعادة من المؤمنين والملائكة والحور وغيرهم من جنود الله التي لا تحصى .
ولما أعلم ان رحمته واسعة وقدرته شاملة ، وكان ذلك موسعاً للطمع ، سبب عن ذلك قوله ذاكراً شرط إتمام تلك الرحمة ترهيباً لمن يتوانى عن تحصيل ذلك الشرط : ( فسأكتبها ( اي اخص بدوامها بوعد لا خلف فيه لجل تمكني بتمام القدرة مما أريد مبتوتاً أمرها بالمتابة ) للذين يتقون ) أي يوجد لهم هذا الوصف الحامل على كل خير ولا يخلّ بوسعها أن أمنع(3/123)
صفحة رقم 124
دوامها بعد الإيجاد من غيرهم ، فإن الكل لو دخلوا فيها ما ضاقت بهم ، فهي في نفسها واسعة ولكني أفعل ما أشاء ولما ذكر نظرهم إلى الخالق بالانتهاء عما عنه والاتئمار بما أمر به ، أتبعه النظر إلى الخلائق فقال : ( ويؤتون الزكاة ( ولعله خصها لأن فرضها كان في هذا الميقات كما تقدم في البقرة ولأنها أمانة فيما بين الخلق والخالق كما ان صفات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي كتبها لهم وشرط قبول أعمالهم باتباعه كذلك ؛ ثم عمم بذكر ثمرة التقوى فقال مخرجاً لمن يوجد منه ذانك الوصفان في الجملة على غير جهة العموم : ( والذين هم بآباتنا ( اي كلها ) يؤمنون ) أي يصدقون بالقلب ويقرون باللسان ويعملون تصديقاً لذلك بالأكارن ، فلا يكفرون ببعض ويؤمنون ببعض .
الأعراف : ( 157 ) الذين يتبعون الرسول. .. . .
) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ( )
ولما كان اليهود ربما ادعوا ذلك ذلك مكابرة ، وأضح غاية افيضاح بقوله : ( الذين يبتغون ( اي بغاية جهدهم ) الرسول ( ولما كان هذا الوصف وحده غير مبين للمراد ولا صريح في الرسالة عن الله ولا في كونه من البشر ، قال : ( النبي ) أي الذي يأتيه الوحي من الله فبدأ بالأشراف وثنى بما خصه برسالة الله وكونه من الآدمين لا من الملائكة .
ولما لم يتم المراد ، قال مبيناً لأعظم المعجزات ، وهي أ ؟ ن علمه بغير مفلم من البشر : ( الأمي ) أي الذي هومع ذلك العلم المحيط على صفة الأم ، وأمه العرب لا يكتب ولا يقرأ ولا يخالط العلماء العلماء للتعليم منهم بل لتعليمهم ، فنطبق الوصف على الموصوف مع التنوية بجلالة الأوصاف والتشويق إلى الموصوف ، ولم يعطف لئلا يوهم تعداد الموصوف - والمعنى أني لا أغفر لأحد من بني إسرائيل ولا من غيرهم إلا إن اتبع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهذا الاتباع تارة يكون بالقوة فقط لمن تقدم موته على زمانه وتارة يخرج منة القوة إلى الفعل ممن لحق زمانه دعوته ، فمن علم الله منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك ، وعرفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ولا ريب يتعلل في أمره بعلة ، ولذلك أتبعه بقوله : ( الذي يجدونه ) أي علماء بني إسرائيل ؛ ولما اشتد تشوف بذكر الوجدان ، قال : ( مكتوباً ( ثم قرب الأمر بقوله : ( عندهم ( ثم بين أنه مما لا يدخله شك بقوله : ( في التوارة والإنجيل ( أي(3/124)
صفحة رقم 125
اللذين يعلمون أتهما من عند الله بصفته البينة كما تقدم بيانه عما عللوا عن تبديله منهما في البقرة
77 ( ) وإذا ابتلى إبراهيم ربه ( ) 7
[ البقرة : 124 ] وفي آل عمران عند
77 ( ) إن الله اصطفى أدم ونوحاً ( ) 7
[ آل عمران : 33 ] وفي النساء عند
77 ( ) ما قتلوه يقيناً ( ) 7
[ النساء : 157 ] وفي التوارة أيضاً من ذلك في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس : وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ولا يوجد فيكم من يطلب تعليم العرافين ، ثم قال لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والنمجمين ، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم ، يل يقيم لكم نبياً من إخوانكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي كما طلبتم إلى الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم : لا تسمع صوت الله ربنا ولا تعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت ، فقال الرب : ما احسن ما تكلموا ، إني سأقيم لهم نبياً من إخوانهم مثلك ، اجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به ، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتملم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه - انتهى هكذا رايته مترجماً مترجماً في بعض نسخ التوارة ، ثم رأيت السموأل بن يحي المغربي ترجمه في كتابه الذي ذكر فيه سبب إسلامه وكان من أكابر علمائهم بل العلماء فقال : نبياً أقيم لهم من وسط إخوانهم مثلك ، بع فليؤمنون - انتهى .
وهو يعني أن يكون هذا النبي محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه من بني إسماعيل أخي إسحاق وقد أتى بشريعة مستقله لا تعلق لها بشريعةقبلها ولا توقف لها عليها ، وذلك أن في العبارة كلمتين : مثل وإخوة ، وحقيقة الأ خ ابن أحد الأبوين ، وهو إسماعيل عليه السلام ، فأقرب المجاز إلى حقيقة الحمل على أخي الأب ، وهوإسماعيل عليه السلام ، والشائع في الاستعمال في نحو ذلك على تقدير إرادة أحد منهم أن يقال : ؛ من أنفسهم ، لا من إخوانهم ، وحقيقة المثل المشارك في أخص الصفات ، واخص الصفات ، واخص صفات موسى عليه السلام الرسالة والكتاب بشريعة مستقلة ولم يأتي منهم بعده من هو بهذه الصفة ، لأن عيسى عليه السلام لم ينسخ من شريعة موسى عليه السلام إلا بعض الأحكام ، وعلى تقديره دعوى ذلك فيه لكونه نسخ في الجملة وتسليم ذلك لا يتأتى قصده بهذا النص لوجهين : أحدهما أنه ليس من رجالهم إلا بواسطة أمه فحق العبارة : من بني أخواتهم : أحدهما أنه ليس من رجالهم المجاز فيهم ابعد من المجاز في بني إسماعيل لما تقدم ، ولا ينتقل إلى الأبعد إلا بقرينة تصرف عن الأأقرب - والله أعلم. قال السمؤال بن يحي أحد اخبارهم في سبب إسلامه : إن اليهود يقولون : إن هذه البشارة نزلت في حق سمؤال أحد أنبيائهم الذين بعد موسى لأنه كان السلام في أنه من سبط لاوي ، وقال : إنه رأى سمؤال عليه السلام في المنام وأنه دفع إليه كتاباً فوجد فيه هذه البشارة فقال له : هنيئاً(3/125)
صفحة رقم 126
لك يانبي الله ما خصك الله به فنظر مغضباً وقال : أوإياي أراد الله بهذا يا ذكي ما أفدتك إذن البراهين الهندسية ، فقلت : يابني الله فمن أراد الله بهذا ؟ قال : الذي أراد في قوله : هوفيع ميهار فاران ، وتفسيره إشارة إلى نبوة وعد بنزولها على جبال فاران ، فعرفت أنه يعني المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأنه المبعوث من جبال فاران وهي جبال مكة ، ثم قال : أو ما عملت ان الله لم يبعثني بنسخ شيء من التوارة ، وإنما بعثني أذكرهم بها واحيي شرائعها واخلصهم من أهل فلسطين ، فلت بلى يابني الله قال : فأي حاجة بهم إلى أن يوصيهم بقبول نبوة دانيال أو يرميا أو حزقيل ؟ قلت : لا لعمري فأخذ الكتاب من يدي وانصراف مغضباً فارتعبت لغضبه وازدجرت لموعظته واستيقظت مذعوراً. قال في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود : إن الله يطلق الإخوة على غير بني إسرائيل كما قال في بني العيص بن إسحاق عليه السلام في الجزء الأول من السفر الخامس ما تفسره : أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص فإذا كانوا بنوالعيص إخوة لبني إسرائيل لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق ، فكذلك بنو إسماعيل إخوة على غير إبراهيم عليهم السلام ، قال : وفي الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة في ذكر البشارة لإبراهيم عليه السلام ما تفسره : وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك ، هاقد باركت فيه واثمره واكثره جداً جداً وقال : إن جداً جداً بلسان العبراني مفسر ( بما ماد ) وهاتان الكلمتان إذا عددنا حروفها بحساب الجمل كان اثنتين وتسعين ، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعني فتعين أن يكون مراداً بها لأنها في البشارة بتكثير إسماعيل عليه السلام ، وليس في أولاده من كثره الله به وعدد اسمه هذا العدد غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزاً ، لأنه لو صرح به لبدلته اليهود أو أسقطته من التوراة كما عملوا في غيره - انتهى .
وفي آخرة فصول التوارة : دعا موسى عبد الله لبني إسرائيل قبل وفاته قال : أتى ربنا من سيناء وشرق لنا من جبل ساعير وظهر لنا من جبل - وفي نسخة : جبال فاران ، معه ربوات الأطهار على يمينه ، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع اطهار - وهم يتبعون آثارك ويتناقلون كلماتك .
وفي نسخة بدل : معه ربوات الأطهار - إلى آخره : واتى من ربوات القدس بشريعة نوره من يمنه لهم ، واصفى ايضاً شعباً فجيع خواصه في طاعتك وهم يقفون آثارك وسيتناقلون كلماتك انتهى .
فالذي ظهر من جبال فاران هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأنهم معترفون أنها مكة ، ومهخ ربوات ، أي جماعات الأطهار ، وأمته حببت إلى الشعوب ، لأن كلاَّ من فريقي أهل الكتاب يقدمهم على الفريق الآخر ، ولم يقبل أحد جميع كلام موسى عليه السلام(3/126)
صفحة رقم 127
ويتبع جميع آثاره في بشارته ممن يأتي بعد غيرهم - هذا وأما الإنجيل فالبشارة فيه أكثر وقد تقدم كثير منها ، وهي تكاد أن تكون صريحة في سورة النساء في قصة رفعه عليه السلام ، مما فيه أيضاً ما في إنجيل متى وغيره وأغلب السياق له : كثيراً أولون يصيرون آخرون وآخرون يصيرون أولين ، يشبه ملكوت السماوات إنساناً رب بيت حرج بالغداة يستأخر فعلة الكرمه فشارط الأكرة على دينار واحد في اليوم وأرسلهم إلى كرمه ، ثم خرج في ثالث ساعة فأبصر آخرين قياماً في السوق بطالين ، فقال لهم : امضوا أنتم إلى كرمي وأنا أعطيكم ما تستحقون ، فمضوا خرج أيضاً في الساعة السادسة والتاسعة فصنع كذلك ، وخرج في الحادية عشرة فوجد آخرين قياماً فقال لهم : ما قيامكم كل النهار بطالين ؟ فقالوا له : لم يستأجرنا أحد ، فقال لهم : امضوا أنتم بسرعة إلى الكرم وانا اعطيكم ما تستحقون ، فلما كان المساء قال رب الكرم لوكيله : ادع الفعلة وأعطهم الأخرة وابدأ بهم من الآخرين إلى الأولين ، فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة فأخذوا دينار كل واحد ، فجاء الأولون فظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا دينار كل واحد ، لما أخذوا تعمقوا على رب البيت وقالوا إن هؤلاء الآخرين عملوا ساعة واحدة ، جعلتهم أسوتنا ونحن حملنا ثقل النهار وحرّه فقال لواحد منهم : ياصاحب ما ظلمتك ، ألست بدينار شارطتك ، خذ شيئك وامض ، أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك ، أو ما لي أن افعل ما أردت بمالي ؟ وأن عينك شريره ، كذلك يكون الآخرون اولين ، والأولون آخرين ، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين ، وقال : ودخل إلى الهيكل فجاء إليه رؤساء النكهة وشيوخ الشعب وقالوا له وهويعلم : بأيّ سلطان تغعل هذا ؟ ومن اعطاك هذا السلطان ؟ اجاب يسوع وقال لهم : أنا أسألكم عن كلمة واحدة ، فإن أنتم قلتم لي قلت لكم بأي سلطان أفعل هذا ، معمودية يوحنا من اين هي ؟ من السماء أو من الناس ؟ ففكروا في نفوسهم قائلين : إن قلنا : من السماء قال لنا : لماذا لم تؤمنوا به ؟ وإن قلنا : من الناس ، خفنا من الجمع ، وقال لوقا : وإن قلنا من الناس فإن جميع الشعب يرجمنا لأنهم قد تيقنوا أن يوحنا نبي ؛ وقال لوقا : وإن قلنا من الناس فإن جميع الشعب يرجمنا لأنهم قد تيقنوا أن يوحنا نبي ؛ وقال متى : لأن يوحنا كان عندهم مثل نبي ؛ وقال مرقسس : لأن جميعهم كان يقول : إن يوحنا نبي ؛ قال متى فقالوا : لا نعلم ، فقال ، وقال أنا أيضاً اعلمكم باي سلطان أفعل هذا .
قال مرقس : وبدأ يكلمهم بأمثال قائلاً ؛ قال متى : ماذا تظنون بإنسان كان له ابنان فجاء إلى الأول فقال له : يابني ذهب اليوم واعمل في الكرم ، فأجاب وقال : ماأريد - وبعد ذلك ندم ومضى ، جاء إلى الثاني وقال له مثل هذا فاجاب وقال : نعم يارب أنا امضى - و - لم يمض ، من منهما فعل غرادة الأب ؟ فقالوا له : الول ، فقال لهم يسوع : الحق أقوال لكم إن العشارين والزنا(3/127)
صفحة رقم 128
يسبقونكم غلى ملكوت الله ، جاءكم يوحنا بطريق العدل فلم تؤمنوا به ، والعشارون والزناة آمنوا به ، فأما أنتم فرأيتم ذلك ولم تندموا أخيراً لتؤمنوا به .
اسمعوا مثلاً آخر : إنسان رب بيت غرس كرماً واحاط به سياجاًُ وحفر فيه معصرة وبني فيه برجاً ودفعه إلى فعلة وسافر - قال لوقا : زماناً كثيراً - فلما قرب زمان الثمار أرسل عبيده إلى الفعلة ليأخذوا ثمرته ، فاخذ الفعلة عبيده ، ضربوا بعضاً ورجموا بعضاً ، فأرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثرمن الأولين فصنعوا بهم كذلك ، وفي الآخرة أرسل إليهم ابنه وقال : لعلهم يستحيون من ابني ، فلما رأى الفعلة الابن قالوا : هذا هو الوارث تعالوا نقلته وناخذ ميراثه ، فاخذه واخرجوه خارج الكرم وقتلوه ، فإذا جاء رب البيت ماذا يفعل بهؤلائك الفعلة ؟ قالوا له : يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته في حينه ، قال لهم يسوع : أما قراتم قط في الكتب أن الحجر الذي رذله البناؤون صار رأس الزاوية ، هذا كان من قبل الرب وهو عجب في اعيننا ، من هذا أقول لكم : إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمم يصنعون ثمرتها ، ومن سقط على هذا أقول لكم : إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأم يصنعون ثمرتها ، ومن سقط على هذا الحجر ترضض ، ومن سقط عليه طحنه .
فلما سمع رؤساء الكهنة والفرنسيين امثاله أعلموا انه يقول من اجلهم ، فهموا أن يمسكوه وخافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي .
وقال أيضاً : يشبه ملكوت السماء رجلاً صنع عرساً لابنه ، فأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس ، فلم يريدوا أن ياتوا ، ثم أرسل عبيداً آخرين وقال : قولوا المدعوين : إن طعا مي معد ، وعجولي المعلوفة قد ذبحت وكل شيء معد ، فتعالوا إلى العرس ، فتكاسلوا وذهبوا فمنهم إلى حقله ومنهم إلى تجارته والبقية أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم ، فلما أبلغ الملك غضب وأرسل جنده واهلك هؤلائك القتله واحرق مدينتهم ؛ حينئذ قال لعبيده : أما العرس فمستعد ، والمدعوون فغير مستحق ، اذهبوا إلى مسالك الطريق وكل من وجدوا أشراراً وصالحين ، فامتلأ العرس من المتكئين ، فلما دخل الملك لينظر إلى المتكئين ، فلما دخل الملك لينظر إلى المتكئين رأى هناك رجلاً ليس عليه ثياث العرسفقال : يا هذا كيف دخلت هاهنا وليس عليك ثياب العرس ؟ فسكت ، حينئذ قال الملك للخدام : شدوا يديه ورجليه وأخرجوه إلى الظلمة البرانية ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين وعبارة لوقا عن ذلك : إنسان صنع وليمه عظيمه ودعا كثيراً فأرسل عبده يقول للمدعوين يأتون فهو ذا كل شيء معد ، فبدؤوا بأجمعهم يستعفون ، فالأول قال : قد اشتريت كرماً والضرورة تدعوني إلى الخروج ونظره ، فاسألك أن تعفني فما أجيء ، وقال آخر : قد اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض أجربها ، أسألك أن تعفيني فما أجيء ، وقال آخر :(3/128)
صفحة رقم 129
قد تزوجت امرأة ، لأجل ذلك ما أقدر أجي ، فاتي العبد وأخبره سيده ، فحينئذ غضب رب البيت وقال لعبده : اخرج مسرعاً إلى الطريق وشوارع المدينة وادع المساكين والعور والعميان والمقعدين ، اخرج إلى الطريق والسياجات وألح عليهم حتى يدخلوا ويمتلئ بيتي ولا أجد من هؤلائك يذوق لي عشاء .
وقال يوحنا : الحق اقول لكم إن من لا بدخل من الباب إلى حظيرة الخراف ، بل يتسور من موضع آخر فإن ذلك لص ، الذي يدخل من الباب هو راعي الخراف ، والبواب يفتح له ، ولاخراف تسمع له ، وكباشه تتبعه لأنها تعرف صوته ، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف ، فأما الآخر الذي ليس براع وليست الخراف له ، فإذا راى الذئب قد اقبل يدع الخراف ويهرب ، فيأتي الذئب ويخطف ويبدد الخراف ، وإنما يهرب الأجير لأنه مستأجر وليس وليس يشفق على الخراف أنا الراعي الصالح ، ولي كباش أخر ليست من هذا القطيع ، فينبغي لي أن ىتي بهم ايضاً فتكون الرعية واحدة ، فوقع ايضاً بين اليهود خلف ليست من هذا القطيع ، فينبغي لي أن آتي بهم ايضاً إن به شيطاناً قد جن ، فما استماعكم منه وقال آخرون : إن هذا القول وقا كثير منهم : وفي اوائل السيرة الهشامية : قال ابن إسحاق : وقد كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل من صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مما أثبت يحنس الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل إنه قال : من أبغضني فقد أبغض الرب ، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لمن يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة ، ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزوني وأيضاً للرب ، ولكن لابد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم ابغضوني مجاناً - أي باطلاً ، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس ، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس ، هذا الذي من عند الرب خرج ، فهو شهيد علي وأنتم أيضاً لأنكم قديماً كنتم معي ، هذا قلت لكم لكيما لا تشكو .
فالمنحمنا بالسريانية محمد ، وهو بالرومية البارقليطس - انتهى .
ولما دل سبحانه ( صلى الله عليه وسلم ) بأوصاوفه في نفسه وفي الكتب الإلهيه ، دل عليه بشريعته فقاال : ( بأمرهم بالمعروف ) أي بكل ما يعرفونه من التوراة والإنجيل وما يعرفونه فيهما أنه ينسخ شرعهم ويأتي من عند الله بهذا المذكور ) وينهاهم عن المنكر ( اي عن كل ما ينكرونه فيهما ، فثبت بذلك رسالته ، فأنه لكونه أمياً لا يعرف المعروف والمنكر فيهما إلا وهو صادق عن علام الغيوب ، ثم شرع بعد ثبوت رسالته يبين لهم ما في رسالته من المنة عليهم بالتخفيف عنهم بإباحة ما كانوا قد حملوا ثقل تحريمه ، فكانوا لا يزالون يعصون الله بانتهاك حرماته والإعراض عن تبعاته فقال : ( ويحل لهم الطيبات ) أي التي كانت حرمت عليهم عقوبة لهم كالشحوم ) ويحرم عليهم ( وعبر بصيغة الجموع إشارة(3/129)
صفحة رقم 130
إلى أن الخبيث أكثر من الطيب في كل مائي الأصل فقال : ( الخبائث ) أي كل ما يسنخبثه الطبع السليم أو يؤدي إلى الخبث كالخمر المؤدية إلى الإسكار والشى المؤدية إلى النار بعد قبيح العار ) وضع عنهم إصرهم ( اي ثقلهم الذي كان حمل عليهم فجعلهم لثقلة كالمحبوس الممنوع من الحركة ) والأغلال التي كانت عليهم ) أي جميع ماحملوهمن الأثقال التي هي لثقلها وكراهة النفوس لها كالغل الذي يجمع اليد إلى العنق فيذهب القوة ) فالذين آمنوا به ( اي اجدوا بسببه الأمان من التكذيب بشيء من آيات الله ) وعزروه ) أي منعوه من كل من يرده بسوء وقووا يده تقوية عظيمة على كل من يكيده : قال القاموس : والتعزير : ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب ، والتفخيم والتعظيم ضد ، والإعانة كالعزر والتقوية والنصر - انتهى .
وقال عبد الحق : العزر : النمع ، تقول : عزرت فلاناً عن كذا ، أي منعته - انتهى فالمادة كلها تدور على هذا المعنى والضرب واضح فيه التعظيم وما في معنها منع من يكيده ) ونصروه ) أي أيدوه وقمعوا مخالفة ) واتبعوا النور ) أي الوحي المقتدي به بيان طريق الحق كالماشي في ضوء النهار ) اولئك هم ) أي خاصة ) المفلحون ( اي الفائزو بكل مأمول ولما تراسلت الآي وطال المدى في اقاصيص موسى عليه السلام وبيان مناقبه العظام ومآثره الجسام ، كان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً واعظمهم رتبة ، فساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق على هذا الوجه الذي بين أن أعلاهم مراتب وأزكاهم مناقب الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً ، وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل اهتماماً به وتعجيلاً له مع ما سيذكرمما يظهر أفضليته ويوضح اكمليته بقصة مع قومه في مبدإ أمره وأوسطه ومنتهاه في سورتي الأنفال وبراءة بكمالها .
ذكر شيء من الآصار التي كانت عليهم وخففت عنهم لو دخلوا في الإسلام ببركة ( صلى الله عليه وسلم ) غير ماأسلفته في آخر البقرة عند قوله تعالى
77 ( ) ولا تحمل علينا إصراً ( ) 7
[ البقرة : 286 ] وفي المائدة عند قوله تعالى
77 ( ) وليحكم أهل الإنجيل ( ) 7
[ المائدة : 47 ] قال في السفر الثاني من التوراة : وقال الرب لموسى : اعمد فخذ طيباً - - إلبى أن قال : وليكن مجوناً طيباً للقدس ودقة واسحقه وبخر منه قداق تابوت الشهادة في قبة الزمان لأوعدك إلى هناك ، ويكون عندكم طهراً مخصوصاً ، وأيما رجل اتخذ مثله ليتبخر به فليهلك ذلك الرجل من شعبه ؛ وقال الثالث : ثم كلم الرب موسى قال له ؛ كلم هارون وبنيه وجماعة بني إسرائيل وقل لهم ؛ هذا ما أمرني به الرب ان أخبركم ، أي رجل من بني(3/130)
صفحة رقم 131
إسرائيل يذبح في محلة بني إسرائيل أو يذبح خارجاً من العسكر ولا يجيء بقربانه إلى باب قبة الزمان ليقربه يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً ؛ وكلم الرب موسى وقال له : كلم هارون وقل له : من كان عيب من نسلك - أي من الأحبار - في جميع الأحقاب لا يدنو من مقدسي ، لا يقرب قربانا ً مثل الرجل الأعراج والأعمى والأفطس والأصمع الأذن أو رجل مسكور اليد أو رجل قيصر أو منحن أو رجل له أاشتر حاجباه أو أجهر العين أو من في عينه بياض أإو أبرص أو أحدب أو رجل له خصية واحدة ، أي رجل كان فيه عيب من نسل هارون الكاهن لا يدنو من المذبح ليقرب قربان الرب لأن فيه عيباً ؛ وقال في السفر الرابع وهومن الحجج على أن التوراة لم ينزل جملة : وكلم الرب موسى في برية سيناء في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الأول وقال : وعملوا الفصح ، والقوم الذين تنجسوا بأنفس الناس لم يقدروا أن يعملوا الفصح فقالوا : قد تنجسنا بأنفس الناس ، أي مسسنا ميتاً ، فهل يحرم علينا عمل الفصح ؟ فقال لهم موسى : قوموا في مواضعكم حتى تسمعوا ما يأمر الرب فيكمم ، وكلم الرب موسى وقال له : قل لهم : الرجل إذا تنجس منكم لميت أو كان في مكان بعيد يعمل فصحاً للرب في أربعة عشر يوماً من الشهر الثاني ، ومن كان زكياً ولم يكن مسافراً ولم يعممل الفصح في وقته تهلك تلك النفس من بين بني إسرائيل ، وقال قبل ذلك : وكلم الرب موسى وقال له : مر بني إ " سرائيل أن يخرجوا من عسكرهم كل من به برص أو سلس وكل من كان نجساً بنفسه ذكراً كان أو أنثى ، يخرجونهم خارج العسكر ، ولا تنجسوا عساكركم لأني نازل بينكم ؛ ثم ذكر : الرجل إذا غار على امرأته واتهمها ، إنه يأتي الكاهن فيقيمها ويلقنها لعناً ، فإذا قالته كتبه وأخذ ماء مقدساً في وعاء فخار ووضع فيه من الترب الذي أسفل المذبح وسقاه لها ، فإن كانت خانت انتفخ بطنها وفسد فخذاها وتصير لعنة في شعبها ، وإن كانت لم تخن تطهرت وولت ذكراً ، ثم أمرهم بذبح بقرة وإحراقها حتى تصير رماداً ، ويغسل الحبر الذي ذبحها ثيابه ويديه ، فكل من يقترب إلىميت أو ميته يكون نجساً سبعة أيام ، وينضح عليه من ذلك الماء في اليوم الثالث واليوم السابع ويتطهر ، وإن لم يرش عليه كذلك فلا يتطهر ، وكل من دنا من إنسان ميت ولا ينضح عليه من ذلك الماءفقد نجس جناب الرب ، فلتهملك تلك النفس لأنه لم ينضج عليه من ماء الرش شيء ، فلذلك يكون نجساً ولا يفارقه نجاسته ، وهذه سنة الإنسان إذا مات في قبة الزمان ، فكل من كان هناك في القبة وكل من يخلها يكون نجساً سبعة أيام ، وكل وعاء يكون مكشوفاً غير مغطى نجساً ، وكل من دنا من(3/131)
صفحة رقم 132
قتيل أو يمس عظم إنسان أو يدخل القبر يكون نجساً سبعة أيام ويؤخذ للمنتخبين من رماد البقرة ويصيب في وعاء ماء عذب وينضح منه - على كيفية ذكرها - ليكون زكياً ، ومن تنجس ولم يرش عليه من ذلك الماء تهلك نفسه من جماعتها ، ومن دنا ماء الرش يكون نجساً إلى الليل ، ومن اقترب إلى ذلك الذي تنجس يكون نجساً إلى الليل ثم قال : ثم كلم الرب موسى وقال له : مر بني إسرائيل وقل لهم : قرابتي يكون محفوظة في أوقاتها - ثم ذكر له كثيراً من أمر القرابين ، ثم ذكر من أوقاتها يوم السبت ورؤوس الشهور ، ثم قال : وفي اربع عشرة ليلة من الشهر الأول هو فصح الرب ، ويوم خمسة عشر اتخذوه عيداً وكلوا الفطير سبعة أيام ، وصيّروا أول يوم من السبعة مميزاً مطهراً لا تعملوا فيه عملاً ، واليوم السابع يكون مميزاً مطهراً لا تعملوا فيه عملاً وأول يوم من الشهر السابع يكون مختصاً مطهراً ، لا تعلموا فيه عملاً مما يعمل ، بل صيروه يوماً يهتف فيه بالقرون ، وقربوا ذبائح كاملة - ثم وصفها وكذا غيره من الأيام ثم قال : وكذلك فافعلوا في اول الشهر أبداً ، وفي عشر من الشهر السابع اجعلوه يوماً مختصاً ، مطهراًَ لا تعلموا فيه عملاً ، ولكن قربوا ، ويوم خمسة عشر من هذا الشهر السابع ، ويكون مدعواً ، لا تعملوا فيه عملاً ، بل اتخذوه عيداًللرب سبعة أيام ؛ ثم قال : حتى إذا كان اليوم الثامن فاختلفوا بأجمعكم ، ولا تعملوا شيئاً مما يعمل بها في غاية المشقة ؛ ثم قال قربوا للب في أيام أعيادكم غير نذوركم وغير خواصكم التي يختصون للرب ؛ ثم قال مخاطباً للمجاهدين في مدين : واما أنتم فانزلوا خارجاً من العسكر سبعة أيام ، كل من قتل نفساً أو مس قتيلاً ينضح عليه من ماء التطهير في الثالث والسابع - وأمرهم بأشياء من الآصار ثم قال : وتطهروا بالماء في اليوم السابع ، ثم بعد ذلك تدخلون العسكر ؛ ثم قال في الخامس : هذه السنن والأحكام التي يجب عليكم ان تعملوها وتحفظوها في الأرض التي يعطيكم الله ربكم ميراثاً كل أيام حياتكم ، خربوا كل البلدان التي ترثونها ، والآلهة التي عبدها اهلها فيها على الجبال الرفيعة والآكام وتحت كل شجرة كبيرة تظل ، واستأصلوا مذابحهم وكسروا أنصابهم ، واحرقوا أصنامهم المصنوعة وأثانهم المنحوته ، ولا تصنعوا أنتم مثل ما صنع أولئك في عبادتكم الله ربكم ، / ولكن المواضع التي يختار الله ربكم أن تصيّروا اسمه فيها من جميع قبائلكم ، وافجصوا عن محتله ، وانطلقوا بجمعكم بقرابينكم الكاملة ، كلوا هناك أمام الله ربكم أنتم وأهاليكم ، ولا تعكلوا كما يعمل هاهنا اليوم أي قبل الوصول إلى أرض الميراث ؛ ثم قال : انظروا لا تقربوا قرابينكم في المواضع التي تريدون ، لكن في المواضع الذي يختار الرب ، في حد(3/132)
صفحة رقم 133
سبط من اسباطكم ؛ ثم قال : وإذا بينت بيتاً جديداً فحجر على البيت لئلا يقع إنسان من فوقه فليلزمك دمه ، ولا تزرعن في حرثك خلطاً لئلا تفسد غلة زرعك وكرمك ، لا تحرث بالثور والحمار جميعاً ، ولا تنسج ثوباً من قطن وصوف جميعاً ، اعمل خيوطاً في اربعة أطراف ردائك الذي تلبس ؛ ثم قال : وإن وجد رجل فتاة عذراء لم تملك ، فيظفر بها ويضاجعها ويوجد ، يدفع إلى أبيها خمسين مثقالاً من فضة ، وتصير امرأته لأنه فضحها ، ولا يقدر أن يطلقها ختى تموت .
ولا يدخل ولد الزنا إلى بيت الرب ، ولا يدخل نسلهما من بعدهما إلى عشرة أحقاب ، لأنهم اكتروا بلعام بن بعور من فتورام من وقلب الله لعنة إلى الدعاء ، لأن الله ربكم أحبكم ، فلا تريدون لهم الخير أيام حياتكم لا تدفعوا الأدومي عنكم لأنه أخوكم ، ولا تعبدوا المصري أيضاً لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر ، وإن كان في معسكركم رجل أصابته جنانة ، يخرج خارج العسكر ، ولا يجلس بين أصحابه في العسكر ، وليكن لكم موضع معروف خارج العسكر تخرجون إليه الخلاء ، ويكون على سلاحكم وتد من حديد ، فإذا جلستم للخلاء احفروا موضعاً للخلاء وغطوا رجيعكم ، لأن الله ربكم معكم في العسكر لينقذكم ويدفع عنكم عنكم ولا يصحبكم ؛ ثم قال : وإن سكن أخوان جميعاً ومات أحدهما ولم يخلف ولداً ، لئلا يبيد اسمه من بني إسرائيل ، وإن لم يعجب الرجل أن يتزوج امرأة أخيه ، ترتفع امرأة اخيه إلى المشيخة فيدعونه ، فإن ثبت على قوله تتقدم إليه المرأة بين يدي المشيخة وتخلع خفيه من قدميه وتبصق في وجهه وتقول : كذلك يصنع بالرجل الذي لا يحب أن يبني بيتاً لأخيه ، ويدعي اسمه بين بني إسرائيل : صاحب خلع الخفين ، وإن شاجر الرجل صاحبه فدنت امرأة أحدهما لتخلص زوجها من الذي يقاتله ، فتمد يدها إلى مذاكير الرجل ، يقطع يدها ولا يشفق عليهما ولا يترحم - انتهى .
وكل هذه الآصار على النصارى أيضاً ما لم يرد في الإنجيل نسخها .
الأعراف : ( 158 - 159 ) قل يا أيها. .. . .
) قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ(3/133)
صفحة رقم 134
وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) 73
( ) 71
ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حثاً على الإيمان به وإيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدم زمانه أو تأخراً ؛ أمره سبحانه ان يصرح بما تقدم التلويح إليه ، ويصرّح بما اخذ ميثاق الرسل عليه تحقيقاً لعموم رسالته وشمول دعوته فقال : ( قل ( وأتى باداة البعد لأنه محلها ) يأيها الناس ( وقد مضى في الأنعام أن اشتقاقهم من النوس ، وأن الإمام السبكي قتا : إن ذلك يقتضي دخول الجن والكملائكة فيهم .
وتقدم عند ) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ( في هذه السورة ما ينفع هنا ) إني رسول الله ) أي الذي له جميع الملك ) إليكم جميعاً ) أي لا فرق بين أدركني ومن تاخر عني اوتقدم عليّ في ان الكل يشترط عليهم الإيمان بي والاتباع لي ؛ وهذا المراد بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال : ( أنا سيد الناس يوم القيامة ) وللدرامي في اوائل مسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أنا قائد المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ، وانا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ) وللترمذي في المناقب عن أنس رضي الله عنه ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ؛ ( أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وانا قائدهم إذا فدوا ، وانا خطيبهم إذا أنصتوا ، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا ، وأنا مبشرهم إذا ايسوا لواء الحمد يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد على ربي ولا فخر ) وقال حديث حسن غريب ، وله في المناقب أيضاً عن أبي بن كعب رضي الله عنهما ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامه تحته آدم فمن دونه ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامه ولا فخر ، (3/134)
صفحة رقم 135
وانا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر ) وللترمذي وقال : حسن - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامه ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ آدجم فمن سواه إلا تحت لوائي ) الفخر : ادعاء العظمة والكبر والشرف ، أي لا أقوله تبججاً ، ولكن شكراً وتحديثاً بالنعمة ؛ وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته وبعده ، اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً ، ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً ، وأما يوم الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحمل الكل عليه ويؤمنون بالرسالة ، وما أحال بعض الكابر على بعض إلا علماً منهم بان الختام يكون به .
ليكون اظهر للاعتراف بامانته والانقياد لطاعته ، لأن المحيل على المحيل على الشيء محيل على ذلك الشيء ، ولو أحال أحد ممن قبل عيسى عليه السلام لطرقه احتمال ، والحاصل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) يظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل غلى الخلق كافة ، فيظهر سر هذه الآية ) الذين يتبعون الرسول ( والله الموفق .
ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات الدال على جميع الصفات على عموم دعوته شمول رسالته حتى للجن والملائكة ، أيد ذلك بقوله : ( الذي له ) أي وحده ) ملك السموات والأرض ( ولما كان مما بالغة في الدنيا انه ربما في مملكة الملك من يناظره أو يقرب منه من ولي عهد أو نحوه ، فربما رد بعض امره في صورة نصح أو غيره ؛ نفي ذلك بقوله مبيناً تمام ملكه : ( لا إله إلاهو ) أي فالكل منقادون لأمره خاضعون له ، لأنه لا موجود بالفعل ولا بالإمكان من يصلح للإلهية سواه ، ؛ ثم علل ذلك بقوله ) يحيي ويميت ) أي له هاتان الصفتان مختصاً بهما ، ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر ، وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في اول الفرقان مع ما مضى في اوائل الأنعام ، لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة ولما تقرر انه لا منازع له ، تسبب عن ذلك توجيه الأمر بالانقياد لرسوله فقال : ( فآمنوا بالله أي لما ثبت له من العظمة والإحاطة بأوصاف الكمال وبكل شيء فإن الإيمان به أساس لا ينبني شيء من الدين إلا عليه .(3/135)
صفحة رقم 136
ولما كان اقرب الفروع الأصلية إليه الرسالة قال : ( ورسوله ) أي لأنه رسوله ؛ ثم وصفه بما دل على قربه فثقال : ( النبي ) أي الذي يخبره بما يريد من الأمور العظيمة غبياً وشهادة ، ويعليه عن كل مخلوق بإخباره بإرساله ؛ ولما كان علوه على كل عالم - مع أنه ثم يتعلم من آدمي - أدل شيء على صدقه قال : ( الأمي ) أي الذي هو - مع كونه لا يحسن كتابه ولا قراءة ، بل هو على الفطرة الأولى السليمة التي لم يخالطها هوى ، ولا دنسها حظ ولا شهوة - بحيث يؤم ويقصد للاقتداء به ، لما حوى من علوم الدنيا والآخرة والتخلق باوصاف الكمال ولما أشارة بهذه الصفة إلى أن سبب الإيمان الخلاص من الهوى بالكون على الفطره الأولى ، قال منبهاً على وجوب الإيمان به ، لكونه أول فاعل لما يدعو إليه : ( الذي يؤمن بالله ) أي لأجل ما يقتضية ذاته سبحانه من التعبد له لما له من العظمة ، فكلما تجدد له علم الذات بحسب ترقية في رتب الكمال من رتبة كاملة إلى اكمل منها إلى ما لا نهاية له ، جدد له إيماناً بحسبه ، لا تعتريه غفلة ولا يخالطه سهو ولا شائبة فتور ) وكلماته ( كذلك أيضاً ، كلما تجدد له علم بصفة منها جدد لها إيماناً ، ومنها المعجزات التي جرت على يديه ، كل واحدة منها كلمة لأن ظهور بالكمة ، كما سمى عيسى عليه السلام كلنة لذلك .
ولما تقرر أنه امتثل ما أمر به ، فثبتت بذلك رسالته ، استحق أن يكون قدوة فقال ( ) واتبعوه ) أي في كل ما يقول ويفعل مما ينهى عنه أو يأمر به أو ياذن فيه ) لعلكم تهتدون ) أي ليكون حالكم حال من يرجى له حصول ما سأل في الفاتحة من الاهتداء ، أي خلق الهداية في القلب مع دوامه ولما كثر عد مثالب إسرائيل ، وختم بتخصيص المتبع لهذا النبي الكريم بالهداية والرحمة المسببة عنها ، وكان فيهم المستقيم على ما شرعه له ربه ، المتمسك بما لزمه أهل طاعته وحزبه ، سواء كان من صفات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو غيرهما ، مع افذعان لذلك كله ؛ نبه عليه عائداً إلى تتميم أخبارهم ، ثم ما وقع في ايام موسى عليه السلام وبعدها بعده من ادله
77 ( ) سأصرف عن آياتي ( ) 7
[ الأعراف : 146 ] فقال تعالى عاطفاً على
77 ( ) واتخذ قو موسى من بعده ( ) 7
[ الأعراف : 148 ] ) ومن قوم موسى أمه ) أي قوم يستحقون أن يؤموا لأنهم لا يتكبروا في الأرض بغير الحق ، بل ) يهدون ( اي يوقعون الهداية وهي البيان ) بالحق وبه ) أي خاصه ) يعدلون ) أي يجعلون القضايا المختلفة المتنازع فيها(3/136)
صفحة رقم 137
معادلة الرضى بها ، لا يقع منهم جور في شيء منها ، ومنهم الذين اتبعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كعبد الله بن سلام وخيريق رضي الله عنهما
الأعراف : ( 160 - 163 ) وقطعناهم اثنتي عشرة. .. . .
) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ( )
ولما مدحهم ، شرع يذكرهم شيئاً مما اسبغ عليهم من النعم لجل هؤلاء المهتدين من التكثير بع القلة والإعزاز بعد الذلة بجعلهم ممن يؤم استعطافاً لغيرهم ، ويذكر بعض عقوباتهم ترهيباً فقال : ( وقطعناهم ) أي فرقنا بينهم بالأشخاص بعد ان كانوا ماء واحداً من شخص واحد ، وهو إسرائيل عليه السلام ؛ وصرح بالكثرة بعد أن لوح بها بالتقطيع بقوله : ( اثنتي عشرة ( وميزه - موضع المفرد الذي هو مميز العشرة - بالجمع للأشارة إلى ان كل سبطيشتمل لكثرته على عدة قبائل بقولة : ( أسباطاً ( والسبط - بالكسر : ولد الولد ، والقبيلة من اليهود ، وهذه المادة تدور على الكثرة والبسط ؛ وبين ععظمتهم وكثرة انتشارهم وتشعبهم بقوله : ( أمماً ( أيهم أهل لن يقصدونهم الناس لما لهم من الكثرة والقوة والدين ، أو أن كل أمة منهم تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى من غيرهم ديناً ولما وصفهم بهذه الكثؤرة ، وكان ذلك مجرى لذكر الإنعام عليهم بالكفاية في الكل والشرب ، ذكر نعمة خارقة للعادة في الماء ، وبدأ به لأنه الأصل في الحياة ، وهي من نوع تقسيمهم من نفس واحدة مشيرة إلى ظلمتهم وإسراعهم في المروق فقال : ( واوحينا إلة موسى إذ ) أي حين ) استسقاه قومه ) أي طلبوه منه برية لا ماء بها أن يسقيهم ، وذلك في التيه ، والتعبير بالقوم إشارة إلى تبكيتهم بكونهم أهل قوة ولم يتاسوا بموسى عليه السلام في الصبر إلى أن يأتي الله الذي امرهم بهذا المسير بالفرج ، بل(3/137)
صفحة رقم 138
طلبوا منه ذلك عاى الوجه المذطور في البقرة من إظهار القلق والدمدمة ) أن اضرب بعصاك ) أي التي جعلهنا لك آية وضربت بها البحر فانفلق ) الحجر ) أي أيّ حجر أردته من هذا الجنس ؛ وبين سبحانه سرعة امتثال موسى عليه السلام التأثر عن ضربه بحذف : فضربه ، وقوله مشيراً : ( فانبجست ) أي فانشقت وظهرت ونبعت ، وذلك كاف في تعنيفهم وذمهم على كفرهم بعد المن به ، وهذا السياق الذي هو لبيان إسراعهم في المروق هو لا ينافي أن يكون على وجه الانفجار ، ويكون التعنيف حينئذ أشد ) منه اثنتا عشرة عيناً ( على عدد السباط ، وأشار إلى شدة تمايزها بفوله ؛ ) مشربهم ( ولما لم يتقدم للأكل ذكر ولا كان هذا سياق الامتنان ، لم يذكر ما اتم هذه الاية به في البقرة ولما ذكر تبريد الأكباد بالماء ، أتبعه تبريدها بالظل فقال : ( وظللنا ) أي في التيه ) عليهم الغمام ) أي لئلا يتأذوا بالشمس ؛ ولما أتم تبريد الأكباد ، اتبعه غذاء الجساد فقال : ( وانزلنا عليهم المن ) أي خبراً ) والسلوى ) أي إداماً ؛ وقال السؤال بن يحي : وهوطائر صغير يشبه السماني ، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية ، يموت إذا سمع صوت الرعد كما ان الخطاف يقتله البرد ، فليهمه الله عز وجل أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انفصال أوان المطر والرعد ، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض ولما ذكر عظمته في ذلك نتيجته فقال : ( كلزا من طيبات ما رزقناكم ( اي بصفة العظمة القاهرة لما نريد مما لم تعالجوه نوع معالجة ، ودل على أنهم قابلوا هذا الإحسان بالطغيان والظلم والعدوان بقوله عطفاً على ما تقديره : فعدلوا عن الطبيات المأذون فيها ، واكلوا اخبائث التي حرمناها عليهم بالاصطياد يوم السبت - كما ياتي وفعلوا غير ذلك من المحرمات ، فظلملوا أنفسهم بذلك : ( وما ظلمونا ) أي بشيء مما قابلوا فيه الإحسان بالكفران ) ولكن كانوا ) أي دائماً جبلة وطبعاً ) انفسهم ) أي خاصة ) يظلمون ( وهو - مع كونه من أدلة ) سأصرف عن آياتي ( الآية - دليل على صحة وصف هذا الرسول بالنبي ، فإن من علم هذه الدقائق من اخبارهم مع كونه أمياً ولم يخلط أحداً من أخبارهم ، كان صادقاً عن علام الغيوب من غير مؤيد وكذا ما بعده ولما ذكر ما حباهم في القفار ، أتبعه إنعامه عليهم عند الوصول غلى الدار فقال : ( وإذا ) أي اذكر لهم هذا ليصدقوك أو يصيروا في غاية الظلم كأصحاب السبت فيتو قعوا مثل عذابهم ، واذكر لهم ما لم تكن حاضره ولا اخذته عنهم ، وهو وقت إذ ، وعدل عن الإكرام بالخطاب ونو العظمة ، لأن السياق للأسراع في الكفر فقال : ( قيل لهم(3/138)
صفحة رقم 139
اسكنوا ) أي ادخلوا مطمئنين على وجه الإقامة ، ولا يسمى ساكناً إلا بعد التوطن بخلاف الدخول ، فإنه يكون بمجرد الولوج في الشيء على أيّ وجه كان ) هذه القرية ( فهو دليل آخر على الأمرين : الصرف والصدق ؛ وعبر هنا بالمجهول في ) قيل ( إعراضاً عن تلذيذهم بالخطاب إيذاناً بأن هذا السياق للغضب عليهم بتساقطهم في الكفر وإعراضهم عن الشكر ، من ايّ قائل كان وبأيّ صيغة ورد القول وعلى أيّ حالة كان ، وإظهار للعظمة حيث كانت ، أ ] نى إشارة منه كافية في سكناهم في البلاد واستقرارهم فيها قاهرين لأهلها الذين ملؤوا قلوبهم هيبة حتى قالوا
77 ( ) إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ( ) 7
[ المائدة : 24 ] ولما خلت نعمة الأكل في هذا السياق عما دعا إليه سياق البقرة من التعقيب وهو الاستعطاف ، ذكرت بالواو الدالة على مطلق الجمع ، وهي لا تنافي تلك ، فقال : ( وكلوا منها ) أي القرية ) حيث شئتم ( وأسقط الرغد لذلك ، وقدم ) وقولوا حطة ( ليكون أول قارع للسمع مما أمروا به من العبادة مشعراً بعظيم ما تحملوه من الآثام إيذاناًُ بما سقيت له هذه القصص في هذه السورة المقام .
ولما أمروا بالحطة قولاً ، أمروا أن يشفعوها بفعل ، لتحط عنهم ذنوبهم ، ولا ينافي التقديم هنا التأخير في البقرة ، لأن الواو لا ترتب ، فقال : ( وادخلوا الباب ( اي باب بيت المقدس حال كونكم ) سجداً نغفرلكم ( ولما كان السياق هنالبيان إسراعهمفي الكفر ، ناسب ذلك جمع الكثرة في قوله : ( خطاياكم ( في قؤاءة أبي عمرو ، واما قراءة ابن عامر ) خطيتكم ( بالإفراد وقراءة غيرهما ) خطاياكم ( جمع قلة فللإشارة إلى إنها قليل في جنب عفوة تعالى ، وكذا بناء ) تغفر ( للمجهول تأنيثاً وتذكيراً ، كل ذلك ترجيه لهم واستعطافاً إلى التوبة ، ولذلك ساق سبحانه مابعده مساق السؤال لمن كانه قال : هذا الرجاء قد حصل ، فهل مع مع المغفرة من كرامة ؟ فقال : ( سنزيد ) أي بوعد لا خلف فيه عن قريب ، وهو لا ينافي إثبات الواو في البقرة ) المحسنين ) أي العريقين في هذا الوصف ، وللسياق الذي وصفت قيد قوله : ( فبدل الذين ظلموا ( بقوله : ( منهم ( لئلا يتوهم أنهم من الدخلاء فيهم ) قولاً غير الذي ( ولما كان من المعلوم ان القائل من له إلزامهم ، بناه للمجهول فقال : ( قيل لهم ( وقال : ( فأرسلنا ) أي بما لنا من العظمة ) عليهم ( بالإضمار تهويلاً لاحتمال العموم بالعذاب ) رجزاً من السماء ( ولفظُ الظلم - في قوله : ( بما كانوا يظلمون ( بما يقتضيه من أنهم لا ينفكون عن الكوتن في الظلام إما مطلقاً وإما مع تجديد فعل فعل من(3/139)
صفحة رقم 140
هو فيه - من لفظ الفسق المقتضي لتجديد الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه ، كما أن لفظ الإسال المعدي ب ) على ( كذلك بالنسبة إلى لفظ الإنزال ولما فرغ من هتك أستارهم فيما عملوه أيام موسى عليه السلام وما يليها ، أتبعه خزناً أشد مما قبله ، كان بعد ذلفك بمدة لا يعلمه أحد إلا من جهتهم أو من الله ، وإذا انتفى الأول ثبت الثاني ، فقال : ( وسئلهم ) أي بني إسرائيل مبكتاً لهم ومقرراً ) عن القرية ( اي البلد الجامع ) التي كانت حاضرة البحر ) أي على شاطئه وهي أيله ، ولعله عبر بالؤال ، ولم يقل : وإذ تعدو القرية التي - إلى آخره ، ونحو ذلك ، لأن كراهتهم للإطلاع على هذه الفضيحة اشد مما مضى ، وهي دليل على الصرف والصدق .
ولما كان السؤال عن خبر أهل القرية قال مبدلاً بدل اشتمال من القرية ) إذ ) أي حين ) يعدون ) أي يجوزون الحد الذي أمرهم الله به ) في السبت إذ ) أي العدو حين ) حيتانهم ( إيماء إلى انها مخلوقة لهم ، فلو صبروا نالوها وهم مطيعون ، كما في حديث جابر رضي الله عنه رفعه ( بين العبد وبين رزقه حجاب ، فإن صبر خرج إليه ، وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدر له ) ) يوم سبتهم ) أي الذي يعظمونه بترك الاشتغال فيه بشيء غير العبادة ) شرعاً ) أي قريبة مشرفة لهم ظاهرة على وجه الماءبكثرة ، جميع شارعة وشارع أي دان ) ويوم لا يسبتون ) أي لا يكون سبت ، ولعله عبربهذا إشارة إلى أنهم لو عظموا الأحد على أنه سبت جاءتهم فيه ، وهو من : سبتت اليهود - إذا عظمت سبتها ) لا تأتيهم ) أي ابتلاء من الله لهم ، ولو أنهم صبروا أزال الله هذه العادة فاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولما كان هذا بلاء عظيماً ، قال مجيباً لسؤال من كأنه قال لشدة ما بهره من هذا الأمر : هل وقع مثل هذا ؟ مشيراً إلى أنه وقع ، ولم يكتف به ، بل وقع لهم أمثاله لأظهار ما في عالم الغيب منهم إلى عالم الشهادة : ( كذلك ) أي مثل هذا البلاء العظيم ) نبلوهم ) أي نجدد اختيارهم كل قليل ) بما ) أي سبب ما ) كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) يفسقون ) أي يجددون في علمنا من الفسق ، وهو الخروج مماهو أهل للتوطن من الطاعات
الأعراف : ( 164 - 167 ) وإذ قالت أمة. .. . .
) وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ وَأَخَذْنَا(3/140)
صفحة رقم 141
الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما أخبر أن الفسق ديدنهم ، أكده بقوله عطفاً على
77 ( ) إذ يعدون ( ) 7
[ الأعراف 163 ] ) وإذ ) أي واسألهم عن خبرهم حين ) قالت أمة منهم ) أي جماعة ممن يعتبر ويقصد من الواعظين الصالحين الذين وعظوا حتى أيسوا لأمة أخرى منهم لا يقلعون عن الوعظ تخوفاً للموعوظين بما ينجاوزن به ) لم تعظون قوماً ) أي معتمدين على قوتهم ) الله ) أي الذي له الملك كله ) مهلكهم ) أي لا محالة لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ ) أو معذبهم عذاباً شديداً ) أي بعظيم ما يرتكبوه وتماديهم فيه ) قالوا ) أي الأمة الأخرى من الواعظين : وعظنا ) معذرة إلى ربكم ) أي المحسن إليكم بالحفظ عما وقعوا فيه من الذنب والإقبال على الوعظ حتى إذا سئلنا عن أمرنا في عصيانهم نقول : فعلنا في أمرهم جهدنا ، هذا إن لم يرجعوا ) ولعلهم يتقون ) أي وليكون حالهم حال من يرجى خوفه لله فيرجع عن غيه ولما تراجعوا بهذا الكلام ليكون زاجراً للعاصين فلم يرجعوا ، أخبر أنه صدق ظنهم بإيقاع الأمرين معاً : العذاب الشديد والإهلاك فقال : ( فلما نسوا ما ذككوا به ( اي فعلوا في اعراضهم عنه فعل الناسي وتركوه ترك المنسيّ ، وهو أن الله لا يهملهم كما أن الإنسان لا يمكن أن يهمل أحداً تحت يده ، ليفعل ما يشاء من غير اعتراض ) أنجينا ( أيب بعظمتنا ) الذين ينهون ) أي استمروا على النهي ) بعذاب بئيس ) أي شديد جداً ) بما كانوا ) أي جبلة وطبعلاً ) يفسقون ) أي بسبب استمرارهم على تجديد الفسق ولما ذكر ما هددهم بهمن العذاب الشديد ، أتبعه الهلاك فقال : ( فلما عتوا ) أي تكبروا جلافة ويبساً عن الانتهاء ) عن ما نهوا عنه ) أي بعد الأخذ بالعذب الشديد ، وتجاوزوا إلى الاجتراء على جميع المعاصي عناداً وتكبراً بغاية الوقاحة وعدم المبالاة ، كان مواقعتهم لذلك الذنب وإمهالهم مع الوعظ أكسبتهم ذلك وغلطت أكبادهم عن الخوف بزاجر العذاب ، من عتا يعتو عتواً - إذا قيل على الاثام ، فهو عات ، قال عبد الحق في كتابة الواهي : وقيل إذا أقدم على كل اموره ، ومنه هذه الآية ، وقيل : العاتي هو المبالغ في ركوب المعاصي ، وقيل : المتمرد الذي لا ينفع فيه الوعظ والتنبيه ، ومنه قوله سبحانه
77 ( ) فعتوا عن أمر ربهم ( ) 7
[ الذاريات : 44 ] أي جاوزوا المقدار والحد في(3/141)
صفحة رقم 142
الكفر - انتهى .
وحقيقة : جاوزوا الأمر إلى النهي ، أو جاوزوا الائتمار بأمره ، والمادة ترجع إلى الغلظ والشدة والصلابة ) قلنا لهم ) أي بما لنا من القدرة العظيمة ) كونوا قردة ) أي في صورة القردة حال كونكم ) خا سئين ) أي صاغرين مطرودين بعدين عن الرحمة كما يبعد الكلب .
ولما تبين بما مضى من جرأتهم على المعاصي وإسراعهم فيها استحقاقهم لدوام الخزي والصغار ، أخبر أنه فعل بهم ذلك على وجه موجب للقطع بأنهم مرتكبون في الضلال ، مرتكبون سيئ الأعمال ، ما دام عليهم ذلك النكال ، فقال : ( وإذ ( وهو عطف على ) وسئلهم ) أي واذكر لهم حين ) تأذن ) أي اعلم إعلاماً عظيماً جهراً معتنى به ) ربك ) أي المربي لك والممهد لأدلة شريعتك والناصر لك على من خالفك .
ولما كان ما قيل جارياً مجرى القسم ، تلقى بلامه ، فكان كانه قيل : تاذن مقسماً بعزته وعظمته وعلمه وقدرته : ( ليبعثن ) أي من مكان بعيد ، وأفهم أنه بعث عذاب بأداة الاستعلاء المفهمه لأن المعنى : ليسلطن ) عليهم ) أي اليهود ، ومد زمان التسليط فقال : ( إلى يو القيامة ( الذي هو الفيصل الأعظم ) من يسومهم ) أي ينزظل بهم دائماً ) سوء العذاب ( بالإذلال والاستصغار وضرب الجزية والاحتقار ، وكذا فعل سبحانه فقد سلط عليهم المم ومزقهم في الأرض كل ممزق من حين أنكروا رسالة المسيح عليه السلام ، كما اتاهم به الوعد الصادق في التوارة ، وترجمة ذلك موجودة بين أيديهم الآن في قوله في آخر السفر الأول : لا يزول القضيب من آل يهودا ، لا يعدم سبط يهودا ملكاً مسلطاً واتخاذه نبياً مرسلاً ختى ياتي الذي له الملك - وفي نسخة : الكل - وإياه تنتظر الشعوب ، يربط بالحلبة جحشه ؛ وقال السمؤال في اوائل كتابه غاية المقصود : نقول لهم : فليس في التوارة التي في ايديكم ما تفسره : لا يزول الملك من آل يهودا والراسم بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح فلا يقدرون على جحده ، فنقول لهم : إذا علمتم انكم كنتم اصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح ثم انقضى ملككم - انتهى .
ومن أيام رسالة المسيح سلط الله عليهم الأمم ومزقهم في الأرض ، فكانوا مرة تحت حكم البابليين ، وأخرى تحت أيدي المجوس ، وكرة تحت قهر الروم من بني العيص ، واخرى في أسر غيرهم إلى أن اتى لالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فضرب عليهم الجزية هو وامته من بعده ولما كان السياق وموجباته ، علل ذلك مؤكاً بقوله : ( إن ربك ( اي المحسن إليك بإذلال أعدائك الذين هم أشد الأمم لك ولمن آمن بك عداوة ) لسريع العقاب ( اي يعذب عقب الذنب بالانتقام باطناً بالنكته السوداء في القلب ، وظاهراً - إن أراد - بما يريد ، وهذا بخلاف ما في الأنعام فإنه في سياق الإنعام بجعلهم خلائف(3/142)
صفحة رقم 143
ولما رهب ، رغب بقوله : ( وإنه لغفور ) أي محاء للذنوب عيناًُ وأثراً لمن تاب وآمن ) رحيم ) أي مكرم منعم بالتوفيق لما يرضاه ثم بما يكون سبباً له من الإعلاء في الدينا والآخرة
الأعراف : ( 168 - 169 ) وقطعناهم في الأرض. .. . .
) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ( )
ذكر سيء مما هددوا به التوارة على العصيان والبغي والعدوان غير ما تقدم في المائدة عند ) ) من لعنة الله وغضب عليه ( ) [ المائدة : 60 ] وغيرها من الايات - قال في السفر الخامس : وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتق الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب ، يخصك الرب بضربات موجعة ويبتليك بها ، ويبتلي نسلك من بعدك وتدوم عليك ، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء ، وتجلون عن الأرض التي عملت من الحجارة والخشب ، ولا تسكنون أيضاً بين تلك الشعوب ، ولكن يصير الله قلوبكم هناك فزهة مرتجفة بالغداة تقولون : متى نمسي ؟ وبالعشيّ تقولون : متى نصبح ؟ وذلك من فزع قلوبكم وخوفكم وقلة حيلتكم ، ويردكم الله إلى ارض مصر في الوف في الطريق الذي قال الرب : لا تعودوا أن تروه ، وتباعون هناك عبيداً وإماء ، ولا يكون من يشتريكم - هذه أقوال العهد التيي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في ارض مؤاب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب ؛ ثم دعا موسى جميع بني إسرائيل وقال لهم : قد رأيتم ما صنع الله بأرض مصر بفرعون وجميع عبيده وكل شعبه والبلايا العظيمه التي رات اعينكم وتلآيات والأعاجيب التي شهدتموها ، ولم يعطكم الرب قلوباً تفهم وتلعم ، ولا أعيناً تبصر ولا آذاناً تسمع إلى يومنا هذا ، ودبركم في البرية أربعين سنة ، لم تبل ثيابكم عليكم ولم تخلق خفافكم أيضاً ولم تأكلون خبزاً ، لتعلموا أني أنا الله ربكم ، وانا الذي أتيت بكم إلى هذه البلاد ، فاحفظوا وصايا هذه التوارة واعلموا بها وأتموا جميع الأعمال في طاعة الله وأكملوها ، لأنكم قد عرفتم جميعاً أن كنا سكاناً بأرض مصر وجزنا بين الشعوب ، ورأيتم نجاستهم واصنامهم ، ولعل فيكم اليوم رجلاً أو امرأة أو قبيلة أو سبطاً(3/143)
صفحة رقم 144
يميل قبلة عن عبادة الله ربنا ويطلب عبادة آلهة تلك الشعوب ، فيسمع هذها العهد فيقول : يكون لي السلام فاتبع مسرة قلبي ، هذا لا يريد الرب أن يغفر له ، ولكن هناك يشتد غضب الرب وزجره عليه وينزل به كا اللعن الذي في هذا الكتاب ، ويستاصل الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب من جميع أسباط بني إسرائيل للشر والبلايا ويقول الحقب الآخر بنوكم الذين يقومون من بعدكم والغرباء ، وينظرون إلى ضربات تلك الأرض والأوجاع أنزل الله بها ويقول الشعب : لماذا صنع الرب هكذا ؟ ولماذا اشتد غصبة على هذا الشعب العظيم ؟ ويقولون : لأنهم تركوا عهد الله إله آبائهم ، فاشتد غضب الرب عن بلادهم بغضب وزجحر شديد ويبعدهم إلى أرض غريبه كما ترى اليوم ، فأما الخفايا والسرائر فهي لله ربنا ، والأمور الظاهر المكشوفة هي لنا ولما أخبر سبحانه بالتأذن ، كان كأمه قيل : فاسرعنا في عقابهم بذنوبهم وعثنا عليهم من سامهم سوء العذاب بالقتل والسبي ، فعطف عليه قوله : ( وقطعناهم ) أي بسبب ما حصل لهم من السبي المترتب على العذاب بما لنا من العظمة تقطيعاً كثيراً بأن أكثرناًُ تفريقهم ) في الأرض ( حال كونهم ) أمماً ( يتبع بعضهم بعضاً ، فصار في كل بلدة قليل منهم ليست لهم شوكة ولا يدفعون عن أنفسهم ظلماً ولما كان كأنه قيل : فهل أطبقوا بعد هذا العذاب على الخير ؟ قيل : لا ، بل فرقتهم الأديان نحو فرقة الأدبدان ) منهم الصالحون ) أي الذين ثبتوا على دينهم إلى أن جاء الناسخ له فتبعوه امتثالاً لدعوة كتابهم ) ومنهم دون ذلك ) أي بالفسق تارة وبالكفر أخرى ) وبلوناهم ) أي عاملناهم معاملة المبتلي ليظهر للناس ما نحن به منهم عالمون ) بالحسنات ( اي النعم ) والسئات ( اي النقم ) لعلهم يرجعون ) أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن غبة أو رهبة ولما كان العذاب الذي وقع التاذن بسببه ممتداً إلى يوم القيامه ، تسبب عنه قوله : ( فخلف ) أي نشأ ، ولما كانوا غير مستغرقين لزمان البعد ، أتى بالجار فقال : ( من بعدهم خلف ) أي قوم هم أسوأ حالاً منهم ) ورثوا الكتاب ( اي الذي هونعمة ، وهو التوراة ، فكان لهم نقمة لشهادته عليهم بقبح أفعالهم ، لأنه بقي في أيديهم بعد أسلافهم يقرؤنه ولا يعلمون بما فيه ؛ قال ابن فارس : والخلف ما جاء من بعد ، أي سشواء كان محركاً أو ساكناً ، وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين : ويقال : ؛ خلف سوء - أي بالسكون - وخلف صدق ، وقال الزبيدي في مختصر العين : والخلف : خلف السوء بعد أبيه ، والخلف : الصالح ، وقال ابن القطاع في الأفعال : وخَلَفَ خَلَفُ سوء : صاروا بعد قوم(3/144)
صفحة رقم 145
صالحين ، وخَلَف سوء ، قال الأخفش : هما سواء ، أي بالسكون ، منهم من يسكن ومنهم من يحرك فيهما جميعاً ، ومنهم من يقول : خلف صدق - اي بالتحريك - وخلف سوء - أي بالسكون - يريدبذلك الفرق بينهما ، وكل إذا أضاف ، يعني فإذا لم يضف كان السكون - للفساد ، والتحريك للصلاح ؛ وقال القاموس : خلف نقيض قدام ، والقرن بعد القرن ، ومنه : هؤلاء خلف سوء ، والرديء من القول ، وبالتحريك الولد الصالح ، فإذا كان فاسداً أسكنت اللام ، وربما استعمل كل منهما مكان الآخر ، يقال : هو خلف صدق من أبيه - إذا قام مقامه ، أو الخلف بالسكون وبالتحريك سواء ، الليث : خلف للاشرار خاصة ، وبالتحريك ضده .
والمادة ترجع إلى الخلف الذي هو نقيض قدام ، كما بنيت ذلك في فن المضطرب من حاشيتي على الشرح ألفية العراقي ولما كان المظنون بمن يرث الكتاب الخير ، فكان كأنه قيل : ما فعلوه من الخير فيما ورثوه ؟ قال مستانفاً : ( يأخذون ( أو يجدون الأخذ دائماً ، وحقر ما أخذوه بالإعلام بأنه مما يعرض ولا يثبت بل هو زائل فقال : ( عرض ( وزاده حقارة بإشارة الحاضرفقال ) هذا ( وصرح بالمراد بقوله : ( الأدنى ) أي من الوجودين ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; وهو الدنيا ) ويقولون ) أي دائماً من غير توبة .
ولما كان النافع الغفران من غير نظر إلى معين ، بنوا للمفعول قولهم : ( سيغفرلنا ) أي من غير شك ، فأقدموا على السوء وقطعوا بوقوع ما يبعد وقوعه في المستقبل حكماً على من يحكم ولا يحكم عليه ، وصرح بما افهمه ذلك من إصرارهم معجباً منهم في جزمهم بالمغفرة مع ذلك بقوله : ( وإن ( اي والحال أنه إن ) يأتهم عرض مثله ( في الدناءة ولخسة - والحرمة كالرشى ) يأخذوه ( ولما كان هذا عظيماً ، أنكر عليهم مشدداً - للنكير بقوله مستأنفاً ) ألم يؤخذ عليهم ( بناه للمفعول إشارة إلى أن العهد يجب الوفاء به على كل حال ، ثم عظمه بقوله : ( ميثاق الكتاب ( اي الميثاق المؤكد في التوارة ) أن لا يقولوا ) أي قولاً من الأقوال وإن قل ) على الله ) أي الذي له الكمال العظمة ) إلا الحق ) أي المعلوم ثباته ، وليس من المعلوم ثباته إثبات المغفرة على القطع بغير توبة ، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب ولما كان ربما وقع في الوهم أنه أخذ على أسلافهم ولم يعلم هؤلاء به ، نفى ذلك بقوله : ( ودرسوا ما فيه ) أي ما في ذلك الميثاق بتكرير القراءة للحفظ ) والدار الآخرة ) أي فعلوا ما تقدم من مجانبة التقوى والحال أن الآخرة ) خير ) أي مما يأخذون ) للذين يتقون ) أي هم يعملون ذلك بإخبار كتابهم ، ولذلك أنكر عليهم بقولة : ( أفلا(3/145)
صفحة رقم 146
تعقلون ) أي حين أخذوا ما يشقيهم وينفى بدلاً مما يسعدهم ويبقى ، وعلى قراءة نافع وابن عامر وحفص بالخطاب يكون المارد الإعلام بتناهي الغضب .
الأعراف : ( 170 - 173 ) والذين يمسكون بالكتاب. .. . .
) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( ( )
ولما بين ما للمفسدين من كونهم قالوا على الله غير الحق فلا يغفر لهم ، بين ما للصالحين المذكورين في قوله ) ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( ) [ الأعراف : 159 ] فقال عاطفاً على تقديره : أولئك حبطت أعمالهم فيما داسوا من الكتاب ، ولا يغفر ما أتوا من الفساد : ( والذين يمسكون ( اي يمسكون إمساكاً شديداً يتجدد على كل وجه الا ستمرار ، وهوإشارة إلى إن التمسك بالسنة في غاية الصعوبة لا سيما عند ظهور الفساد ) الكتاب ) أي فلا يقولوعلى الله إلا الحق ، ومن جملة تمسيكهم المتجدد انتقالهم عن ذلك الكتاب عند إتيان الناسخ لأنه ناطق بلك والله الموفق .
ولما كان من تمسيكهم بالكتاب عند نزول هذا الكلام انتقالهم عن دينهم إلى الإسلام كما وقع الأمر به في المواضع التي تقدم بيانها ، عبر عن إقامة الصلاة المعهودة لهم بلفظ الماضي دون المضارع لئلا يجعلوه حجة في الثبات على دينهم .
فيفيد ضد المراد فقال : ( وأقاموا الصلاة ( وخصها إشارة إلى أن الأولين توكوها كما صرح به في آية مريم ، وتنويهاً بشأنها بياناً لأنها من أعظم شعائر الدين ، ولما كان التقدير إخباراًعن المبتدإ : سنؤتيهم أجورهم لإصلاحهم ، وضع موضعه للتعميم قوله : ( إنا لا نضيع ) أي بوجه من الوجوه ) أجر الصالحين ( ولما ذكر الكتاب أنه رهبهم من مخالفته ورغبهم في مؤالفته ، وكان عذاب الآخرة مستقبلاً وغائباً ، وكان ما هذا شأنه يؤثر في الجامدين ، أمره أن يذكرهم بترهيب دنيوي مضى إيقاعه بهم ، لياخذوا مواثيق الكتاب لغاية الجد مع أنه لا يعلمه إلا علماؤهم ، فيكون علم الأمي له من أعلام نبوته الظاهرة فقال : ( وإذ ) أي اذكر لهم هذا ، فإن لمن يتعظوا اذكر لهم إذ ) نتقنا ) أي قلعنا ورفعنا ، واتى بنون العظمة لزيادة الترهيب ) الجبل ( عرفه لمعرفتهم به ، وعبر لدلالة لفظه على الصعوبة والشدة دون(3/146)
صفحة رقم 147
الطور - كما في البقرة - لأن السياق لبيان نكدهم بإسراعهم في المعاصي الدالة على غلط القلب ولما كان مستغفراً لجميع الجهة الموزية لعساكرهم ، حذف الجار فقال : ( فوقهم ( ثم بين أنه كان أكبر منهم بقوله : ( كأنه ظلة ) أي سقف ، وحقق أنه صار عليهم موازياً لهم من جهة الفوق كالسقف بقوله : ( وظنوا ( هو على حقيقة ) أنه واقع ( ولما كان ما تقدم قد حقق العلو ، لم يحتج إلى حرف الاستعلاء ، فقال مشيراً إلى السرعة واللصوف : ( بهم ) أي إن لم يأخذوا عهود التوارة ، قالوا : ولما رأوا ذلك خر كل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر ، وصار ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فزعاً من سقوطه ، وهي سنة في سجودهم إلى الآن ، يقولون : هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة ولما كان كأنه قيل : فقالوا : أخذنا يارب عهودك ، قال مشيراً إلى عظمته ليشتد إقبالهم عليه إشارة إلى أنه علة رفع الجبل : ( خذوا ما آتيناكم ) أي بعظمتنا ، فهو جدير بالإقبال عليه وإن يعتقد فيه الكمال ، وأكد ذلك بقوله : ( بقوة ) أي عزم عظيم على احتمال مشاقة ؛ ولما كان الأخذ للشيء بقوة ربما نسبة في وقت ، قال : ( واذكروا فيه ) أي من الأوامر والنواهي وغيرهما - فلا تنسوه ) بقوة ) أي عزم عظيم على احتمال مشاقة ؛ ولما كان الأخذ للشيء بقوة ربما نسبة في وقت ، قال : ( واذكروا فيه ( اي من الأوامر والنواهي وغيرها - فلا تنسوه ) لعلكم تتقون ) أي ليكون حالكم حال من يرجى تقواه ، فدل سبحانه بهذا على تأكيد المواثيق عليهم في أخذ جميع مافي الكتاب الذي من جملته ألا تقولوا على الله إلا الحق ولا تكتموا شيئاً منه ، قالوا : ولما قرأة موسى عليه السلام الأولواح وفيها كتاب الله لم يبق على الأرض شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز ، فلذلك لا ترى يهودياً يسمع التوارة إلا اهتز وأنقض راسه ولما ذكر أنه ألزمهم أحكام الكتاب على هذه الهيئة القاهرة الملجئة القاسرة التي هي من أعظم المواثيق عند أهل الأخذ وأنه أكد عليهم المواثيق في كثير من فصول الكتاب ، وكان ذلك كله خاصاً بهم ؛ أمره أن يذكر لهم أنه ركب لهم في عموم هذا النوع الآدمي من العقول ونصب من الأدلة الوضحة للأمر إيضاح المشهود للشاهد ما لو عذب تاركه والمتهاون به لكان تعذيبه جارياً على المناهج ملائماً للعقول ، ولكنه لسبق رحمته وغلبة رأفته لم يؤاخذ بذلك حتى ضم إليه الرسل ، وأنزل معهم الكتب وأكثر فيها من المواثيق ، وزاد في الكشف والبيان ، وإلى ذلك الإشارة باسم الرب ، فكأن من عنده علم أشد ملامة من الجاهل ، فقال : ( وإذ ) أي واذكر لهم إذ ) أخذ ) أي خلق بقوله وقدرته ) ربك ) أي المحسن إليك بالتمهيد لرسالتك كما يؤخذ القمل بالمشط من الرأي(3/147)
صفحة رقم 148
ولما كان السياق لأخذ المواثيق والأخذ بقوة ، ذكر أخذ الذرية من أقوى نوعي الآدمي ، وهمالذكور فقال : ( من بني آدم ( وذكر أنه من أمتن الأعضاء فقال : ( من ظهورهم ( كل واحد من ظهر أبيه ) ذرياتهم ( إشارة إلى أنه أكد عليهم المواثيق وشددها لهم وأمرهم - بالقوة في أمرها ، أعطاهم من القوة في التركيب والمزاج ما يكونون به مطيعين لذلك ، فهو تكليف بما في الوسع ، وجعل لهم عقولاً عند من قال : هو على حقيقته كمنلة سليمان عليه الصلاة والسلام ) وأشهدهم على أنفسهم ) أي أوضح لهم من البراهين من الإنعام بالعقول مع خلق السماوات والأرض وما فيهماعلى هذا المنوال الشاهد له بالوحدانية وتمام العلم والقدرة ، ومن إرسال الرسل المؤيدين بالمعجزات ما كانوا كالشهود بأنه لا رب غيره ؛ وقد ذكر معنى هذا الإمام حجة الإسلام الغزالي في الكلام على العقل من باب العلم من الإحياء فإنه قال معنى هذه الآية : والمراد إقرار نفوسهم ، لا إقرار الألسنة ، فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث وجدت الألسنة والأشخاص ؛ ثم ذكر أن النفوس فطرت على معرفة الأشياء على ما هي عليه لقرب الاستعداد للإدراك ولما تبين أنه فرد لا شريك له فلا راد لأمره ، وأنه رب فلا أرأف منه ولا أرحم ، كان ذلك أدعى إلى طاعته خوفاً من سطوته ورجاء لرحمته ، فكانوا بذلك بمنزلة من سئل عن الحق فأقر به ، فلذلك قال : ( ألست بربكم ) أي المحسن إليكم بالخلق والتربية بالرزق وغيره ) قالوا بلى شهدنا ) أي كان علماً شهودياً ، وذلك لأنهم وصلوا بعد البيان إلى حد لا يكون فيه الجواب إلا ذلك فكأنهم قالوه ؛ فهو - والله أعلم - من وادي قوله تعالى
77 ( ) ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً ( ) 7
الرعد : 15 ] - الآية و
77 ( ) لله ما في السموات والأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ( ) 7
[ النحل : 49 ] .
ولما كان كأنه قيل : لم فعل ذلك ؟ قيل : دلالة على أن المتقدم إنما هو على طريق التمثيل يجعل تمكينهم من الاستدلال كالإشهاد ، فعلة كراهة ) أن يقولوا يوم القيامة ) أي إن لم ينصب لهم الأدلة ) إنا كنا هن هذا ) أي وحدانيتك وربوبيتك ) غافلين ) أي لعدم الأدلة فلذلك أشركنا ) أو يقولوا ) أي لو لم نرسل إليهم الرسل ) إنما أشرك آباؤنا من قبل ) أي من قبل أن نوجد ) وكنا ذرية من بعدهم ( فلم نعرف لنا مربياً غيرهم فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر ولم يأتنا رسول منبه ، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم : ( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) أي من آبائنا ؛ قال أبو حيان : والمعنى أن(3/148)
صفحة رقم 149
الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول بما تضمنه العهد م توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان : إحدهما ( كنا غافلين ) والأخرى ( كنا تبعاً لأسلافنا ) فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا - انتهى .
ومما يؤيد معنى التمثيل حديث أنس في الصحيح ( يقول الله لأهون أهل النار عذاباً : لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به ؟ قال : نعم ، قال : فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك شيئاً ، فأبيت إلا الشرك ) وذلك لأن التصريح بالآباء ينافي كون الإقرار على حقيقته ، والأخذ وهو في الصلب إنما هو بنصب الأدلة وتقرير الحق على و جه مهيئ للاستدلال بتركيب العقل على القانون الموصل إلى المقصود عند التخلي من الخطوط والشوائب ، وهذا الذي وقع تأويل الآية به لا يعارضه حديث الاستنطاق في عالم الذر على تقدير صحته ، فإنه روي من طرق كثيرة جداً ذكرتها في كتابي سر الروح ، منها في الموطأ ومسند أحمد وإسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي وأبي يعلى الموصلي ومستدرك الحاكم وكتاب المائتين لأبي عثمان الصابوني عن صحابة وتابعين مرفوعاً وموقوفاً - منهم عمر وأبيّ بن كعب وأبو هريرة وحكيم بن حزام وعبداللهبن سلام وعبد الله بن عمرو وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ، وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وأبي العالية رحمهم الله ، وإنما كان لا يعارضه لأن في بعض طرقه عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه سبحانه قال بعد أن استنطقهم : ( فإني أشهد عليكم السماوان السبع والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، فلا تشركوا بي شيئاً ، فإني إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي ، فقالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ) فالاستنطاق في الحديث على بابه ، عبرة لأبينا آدم عليه السلام ومن حضر ذلك من الخلق ، وإيقافاً لهم على بديع قدرته وعظيم علمه ، وإشهاد من المخلوقات بمعنى أنه نصب فيها من الأدلة ما يكون إقامة الحجة به عليهم بالنقص إن أشركوا كشهادة الشاهد الذي لا يرد ، وليس في شيء من الروايات ما ينافي هذا ؛ والحاصل أنه أخذ علينا عهدان : أحدهما حالي تهدى إليه العقول ، وهو نصب الآدلة والآخر مقالي اخبرت به الرسل ، كل ذلك للإعلام بمزيد الاعتناء بهذا النوع البشري لما له من الشرف الكريم ويراد به من الأمر العظيم - والله الموفق(3/149)
صفحة رقم 150
الأعراف : ( 174 - 178 ) وكذلك نفصل الآيات. .. . .
) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ( )
ولما كان كأنه قيل تبيهاً على جلالة هذه الآيات : ؛ انظر كيف فصلنا هذه الآيات هذه التفاصيل الفائقة وأبرزناها في هذه الأساليب الرائقة ، قال : ( وكذلك ) أي ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع ) نفصل الآيات ) أي كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجانبنا جهلاً لعدم الدليل ) ولعلهم يرجعون ) أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن الضلال إلى ما تدعو إليه الهداة من الكمال عن قرب إن حصلت غفلة فواقعوه ، وذلك من أدلة ) ) والذي خبث لا يخرج إلا نكداً ( ) [ الأعراف : 58 ] و ) ) ما وجدنا لأكثرهم من عهد ( ) [ الأعراف : 102 ] و ) ) سأصرف عن آياتي ( ) [ الأعراف : 146 ] ولما ذكر لهم ما أخذ عليهم في كتابهم من الميثاق الخاص الذي انسلخوا منه ، واتبعه الميثاق العام الذي قطع بع الأعذار ، أتبعها بيان ما يعرفونه من حال من انسلخ من الآيات ، فأسقطه الله من ديوان السعداء ، فأمره صلىالله عليه وسلم أن يتلو عليهم ، لأنه - مع الوفاء بيبكيتهم - من أدلة نبوته الموجبة عليهم اتباعه ، فذكره ما وقع له في نبذ العهد والانسلاخ من الميثاق بعد أن كان قد اعطى الآيات وأفرغ عليه من الروح فقال : ( واتل ) أي اقرأ شيئاً بعد شيء ) عليهم ) أي اليهود وسائر الكفار الخلق كلهم ) نبأ الذي ( وعظم ما عطاه بمظهر العظمة ولفظ الإيتاء بعد ما عظم خبره بلفظ الإنباء فقال : ( آتيناه ( ولما كان تعالى قد أعطاه من إجاه الدعاء وصحة الرؤيا وغيرذلك مما شاء سبحانه أمراًعظيماً بحيث دله تعالى دلالة لا شك فيها ، وكانت الآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة وإن كان بعضها أقوى من بعض ، قال تعالى : ( آياتنا ( وهو بلعام من غير شك للسباق واللحاق ، وقيل : وهو رجل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين فرشاه فتبع دينه فافتتن به الناس ، هو أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي قال(3/150)
صفحة رقم 151
فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( آمن شعره وكفرقلبه ) قال عبدالله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم وقيل : هو أبو عامر الراهب الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق ، وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولما كان الذي جرأهم على عظمته سبحانه ما أنعم عليهم به من إعطاء الكتاب ظناً منهم أنه لا يشقيهم بعد ذلك ، رهبهم ببيان أن الذي سبب له هذا الشقاء هو إتياء الآيات فقال : ( فانسلخ منها ) أي فارقها بالكيلة كما تنسلخ الحية من قشرها ، وذلك بسبب أنه لما كان مجاب الدعوة سأله ملك زمانه الدعاء على موسى وقومه فامتنع فلم يزل يرغبه حتى خالف أمر الله اتباعاً لهوى نفسه ، فتمكن من الشيطان وأشار عليه أن يرسل إليهم النساء مزينات ويأمرهن أن لا يمتنعن من أحد ، فأشقاه الله ، وهذا معنى ) فأتبعه الشيطان ) أي فأدركه مكره فصار قريناً له ) فكان ) أي فتسبب عن إدراك الشيطان له أن كان ) من الغاوين ) أي الضالين الراكبين هوى نفوسهم ، وعبر في هذه القصة بقوله : ( اتل ( دون
77 ( ) وأسألهم عن ( ) 7
[ الأعراف : 163 ] نحو ما مضى في القرية ، لأن هذا الخبر مما يحبون ذكره لأن سلخه من الآيات كان لأجلهم ، فهو شرف لهم ، فلو سألهم عنه لبادروا إلى الإخبار به ولم يتعلثموه فلا تكون تلاوته ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ذلك لما أنزل في شأنه واقعاً موقع موقع ما لو أخبرهم به قبل ، ولعل المقصود الأعظم من هذه الآية والتي قبلها الاستدلال على كذب دعواهم في قولهم
77 ( ) سيغفر لنا ( ) 7
[ الأعراف : 169 ] بما هم قائلون به ، فيكون من باب الإلزام ، وكأنه لتقولون
77 ( ) ليس علينا في الأميين سبيل ( ) 7
آل عمران : 75 ] لذلك ، فما لكم توسعون المغفرة لكم في ترك ما أخذ عليكم به الميثاق الخاص وقد ضيقتموها على غيركم في ترك ما أخذ عليهم فلا يقاس عليه ، قيل لكم ؛ أليسي المعبود قد حرم الجميع ؟ وعلى التنزيل فمن المسطور في كتابكم أمر بالعام وأنه ضل ، وقد كان أعظم من أخباركم ، فإنا آتيناه الآيات من غير واسطة رسول ، وكان سبب هلاكه - كما تعلمون - وخروجه من ربقة الدين وإحلاله دمه مشورته على ملك زمانه بأن يرسل النساء(3/151)
صفحة رقم 152
إلى عسكر بني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن ، وذلك من الفروع التي هي أخف من باب الأموال ، فقد بحتم كذبكم في قولكم ) سيغفر لنا ( وأنكم لم تتبعوا فيه إلا الهوى كما تبعه بلعام فانظروا ما فعل به ولما كان هذا السياق موهماً لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان أن الشيطان له تأثير مستقبل في الإغواء ، نفى ذلك غيره على هذا المقام في مظهر العظمة فقال : ( ولو شئنا ) أي أن نرفعه بها على ما لنا من العظمة التي من دنا ساحتها بغير إذن محق ) لر فعناه ) أي في المنزلة رفعه دائمة ) بها ) أي الآيات حتى لا يزال عاملاً بها ولما علق الأمر بالمشيئة تنبيهاً على أنها هي السبب الحقيقي وإن ما لم يشأه سبحانه لا يكون ، وكان التقدير : ولكنا لم نشأ ذلك وشئنا له الكفر فأخلدناه - إلى آخره ، عبر عنه تعليماً للأدب في إسناد الخير إلى الله والشر إلى غيره وإن كان الكل خلقه حفظاً - لعقول الضعفاء من إيهام نقص أو إدخال لبس بقوله مسنداً نقصه إليه : ( ولكنه أخلد ) أي فعل فعل من أوقع الخلد - وهو الدوام - وأوجده ) إلى الأرض ) أي رمى بنفسه إلى الدنيا رمياً ، تهالكاً على ما فيها من الملاذ الحيوانية والشهوات النفسانية ) واتبع ) أي اتباعاً شديداً ) هواه ( فأعرض عن التمسك بما آتاه من الله من الآيات مقدماً لداعي نفسه على داعي روحه ، لأن القلب الذي هو نتيجتها في عالم المناسبة للعلو ؛ ووجه إلى النفس التي هي العلوي الحيواني الذي هو الأب ، وله الذكورة المناسبة للعلو ؛ ووجه إلى النفس التي هي الروح الحيواني التي هي الأم ولها المناسبة للأض بالأنوثة وبأن لم نشأ رفعه بما أعطيناه من الايات ، وإنما جعلناه وبالاً عليه ، فلا يغتر أحد بما أوتي من المعارف ، وما حاز من المفاخر واللطائف ، فإن العبرة بالخواتيم ، ولنا بعد ذلك أن نفعل ما نشاء ولما كان هذا حاله ، تسبب عنه أن قال تعالى : ( فمثله ) أي مع ما أوتى من العلم في اتباعه لمجرد هواه من غير دليل بعد الأمر بمخالفة الهوى ) كمثل الكلب ) أي في حال دوام اللهث ولما كان كأنه قيل : مثله في أيّ أحواله ؟ قال : في كونه ) إن تحمل عليه ) أي لتضربه ) يلهث أو تتركه يلهث ( فإن أوجب الحمل عليه ظن أن لهثه لما حاول من ذلك التعب ردك عنه لهثه في الدعة ، فتعلم حينئذ أنه ليس له سبب إلا اتباع الهوى ، فتابع الهوى مثل الكلب كما بين ، ومثال هذا المنسلخ الجاهل الذي لا يتصور أن يتبع غير الهوى ، لأنه يتبع الهوى مع إيتاء الآيات فبعد الانسلاخ منها أولى ، فقد وضح تشبيه(3/152)
صفحة رقم 153
مثله بمثل الكلب ، لا تشبيه مثله بالكلب ؛ وهذه القصة تدل على أن من كانت نعم الله في حقة أكثر ، كان عن الله إذا أعرض عنه أعظم وأكبر ولما تقرر المثلان ، وكان منهما منطبقاً على حاله كل مكذب ، كانت النتيجة قوله : ( ذلك ) أي كل من المثلين ) مثل القوم ) أي الأقوياء ما يحاولونه ) الذين كذبوا بآيتنا ) أي في أن تركهم لها إنما هو بمجرد الهوى ، لأن لها من الظهور والعظمة نسبتها إلينا ما لا يخفي على من له أدنى بصيره ) فاقصص القصص ) أي فأخبر الإخبار العظيم الذي تتبعت به مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم ، وهو مصدر قص الشيء - إذا تبع أثره واستقصى في ذلك ) لعلهم يتفكرون ) أي ليكون حالهم حال من يرجى تفكره في هذه الآيات ، فيعلمون أنه لا يأتي بمثلها من غير معلم من الناس إلانبي فيردهم ذلك إلى الصواب حذراً من مثل حال هذا ولما ظهر بهذا أن مثل الكلب الذي اكتبس من ممثوله من السوء والقذارة مالا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى مثل المكذبين بالآيات ، أنتج ذلك قوله تأكيداً لذمهم وزجرهم : ( ساء مثلاً القوم ) أي مثل القوم ) الذين كذبوا بآيتنا ) أي فلو لم يكن عيهم درك في فعلهم أن لا تنزل هذا المثل عليهم لكان أعظم زاجراً له أدنى مروءة ، لأنهم نزلوا عما لمن يتبعها من العظمة إلى ما ظهر بهذا المثل من الخسة ، فكيف وهم يضرون أنفسهم بذلك ولا يضرون إلا إياها ، وذلك معنى قوله : ( وأنفسهم ) أي خاصة ) كانوا يظلمون ) أي كان ذلك في طبعهم جبلة لهم ، لا يقدر غير الله على تغييره ولما كان ذلك محل عجب ممن يميل عن المنهج بعد إيضاحه هذا الإيضاح الشافي ، قال جواباً لمن كأنه قال : فما لهم لا يؤمنون ؟ مفصلاً لقوله ) ولوشئنا لرفعناهبها ) [ الأعراف : 176 ] : ( من يهد الله ) أي يخلق الهداية في قلبه الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ) فهو المهتدي ) أي لا غيره ولما كان في سياق الاستدلال على أن أكثر الخلق هالك بالفسق ونقض العهد ، وحد ) المهتدي ) [ الأعراف : 177 ] نظراً إلى لفظ ) من ( وجمع الضال نظراً إلىمعناها فقال : ( ومن يضلل فأولئك هم ) أي البعداء البغضاء خاصة لا غيرهم ) الخاسرون ( إذ لا فعل لغيره أصلاً ، والآية من فذلكة ما مضى ، وما أحسن ختمها بالخسران في وعظ من ترك الآخرة بإقباله على أرباح الدنيا واعرضها الفانية ، ثم تعقيبها بذرء جهنم الذين لا أخسر منهم .(3/153)
صفحة رقم 154
ذكر قصة بلعام من التوراة - قال في السفر الرابع منها بعد أن ساق قتالهم لسيحون ملك الأمورانبيين : وفرق المؤابيون من الشعب فرقاً شديداً لأنهم رأوه شعباً عظيماً ، فاضطرب المؤابيون ورجفت قلوبهم خوفاً من بني إسرائيل ، وقال ملك مؤاب لأشباح مدين : اعملوا أن هذا الجمع يرتعي حرثنا ، ولا يدع أحداً إلا أهلكه ، ويرتعي كل من حولنا كما يرتعي الثور عشب الأرض ، وكان ملك المؤابيين في ذلك الزمان بالاق بن صفور ، فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور العراف المعبر للأحلام الذي كان ينزل على شاطئ النهر قريباً من أرض بني عمن ليدعوه إليه فيستعين به : أخبرك أنه قد خرج شعب من أرض مصر ، فغشى وجه الأرض كلها ، وقد نزلوا جبالنا ، فأطلب إليك أن تأتي وتلعن هذا الشعب لأنه أقوى وأعز منا ، لعلنا نقدر أن نحاربه ونهلكه عن جديد الأرض ، لأني عارف أن الذي تباركه هو مبارك ، والذي تلعنه هو ملعون ، وانطلق أشياخ مؤاب وأشياخ مدين ومعهم هدايا وجوائز ، فأتوا بلعام فقالوا له قو بالاق ، فقال لهم : بيتوا هاهنا ليلتكم هذه فأخبركم بما يقول الرب ، فأقام أشراف مؤاب عند بلعام ، فأتى ملك الله بلعام وقالله : من القوم الذين أتوك ؟ قال بلعام للملاك : بالاق بن صفور ملك مؤاب أرسل إلي وقال : خرج شعب من أرض مصر فملأ وجه الأرض ، فأقبل إلينا حتى تلعنه ، لعلي أقدر أن أجاهده وأهلكه ، وقال الملاك لبلعام : لا تنطلق مع القوم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك ، فقال بلعامبكرة لعظماء بالاق : انطلقوا إلى صاحبكم ، لأن الرب لم يحب أن يدعني أنطلق معكم ، ونهض عظماء مؤاب فأتوا بالاق وقالوا له : لم يهو بلعام إتيانك معنا ، فعاد بالاق أيضاً فأرسل رسلاً أعظم وأكرم من الأولين ، فأتوا بلعام وقالوا له : هكذا يقول بالاق بن صفور : لا تمتنع أن تأتيني لأني سأعظمك وأكرمك جداً ، وما قلت لي من شيء فعلت ، وأقبل إلينا لتعلن لي - هذاالشعب ، فرد بلعام على رسل بالاق قائلاً : لو أن بالاق أعطاني ملء بيته ذهباً وفضة لم أقدر أن أتعدى قول ربي وإلهي ، ولا أحيد عن قول صغير ولا كبير من أقوله ، فعرجوا أنتم أيضاً عندنا ليلتكم هذه حتى أنظر ما يخبروني ملاك الله من أمركم ، فنزل وحي الله على بلعام ليلاً ، وقال له : إن كان هؤلاء القوم إنما أتوك ليدعوك فقم فانطلق معهم ، ولكن إياك أن تعمل إلاماأقول فنهض بلعام بكرة وأسرج أتانه وانطلق مع عظماء مؤاب ، فقال ملاك الرب في الطريق ليكون له لدداً ، فرات الأتان ملاك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه في يده ، فحادت عن الطريق وسارت في الحرث ، فضربها بلعام ليردها إلى الطريق ، فقام ملاك الرب في طريق ضيق بين كرمين فرأت الأتانه ملك الرب فزحمت الحائط وضفطت رجل بلعام في الحائط فعاد يضربها أيضاً ، ثم عاد ملاك الرب وقام في(3/154)
صفحة رقم 155
موضع ضيق حيث ليس لها موضع تحيد منه يمنة ولا يسره ، فبصرت بملاك الب وربضت تحت بلعام ، وضرب الأتان بالعصا ، وفتح الرب فم الأتان وقالت لبلعام : ما الذي صنعت بك حتى ضربتني ثبلث مرات ؟ قال بلعام : لأنك زريت بي ، ولو أنه كان في يدي سيف كنت قد قلتلك الآن ، فقالت : ألست أتانتك التي تركبني منذ صباك إلى اليوم ؟ هل صنعتمثل هذا الصنع قط ؟ قال لها : لا وحلّى الرب عن بصر بلعام فرأى ملك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه بيده ، فجثا وخر على وجهه ساجداً ، فقال له ملاك الرب : ما بالك ضربت أتانك ثلاث مرات أنا الذي خرجت لأكون لك لداداً ، لأنك اخذت في طريق خلافاً لأمري ، فلما راتني الأتان حادت عني ثلاث مرات ، ولو أنها لم تحد عنيكنت قتلتك وأبقيت عليها ، قال بلعام لملاك الرب : أسأت وأجرمت ، لم أعلم أنك قائم بإزائي في الطريق ، فالآن إن كان انطلاقي مما تكرهه رجعت ، قال ملاك الرب لبلعام : انطلق مع القوم وإياك أن تفعل شيئاً إلا ما أقول لك فانطلق بلعام ، فسمع بالاق فخرج ليتلقاه وقال بالاق : لم تأتني ؟ قال : قد أتيتك الآن لعلك تظن أني أقدر أن أقول شيئاً إلا القول الذي يجريه اللهعلى لساني به أنطق ، فلما كان الغد عمد بالاق إلى بلعام وأصعده إلى بيتبعل الصنم ، فراى من هناك أقاقي منازل شعب إسرائيل ، وقال بلعام لبالاق : ابني لي هاهنا سبعة مذابح ، وهيئ لي سبعة ثيران وسبعة كباش ، وفعل بالاق كما قال له بلعام ، ورفع بالاق الكباش والثيران على المذبح قرباناً ، وقاللبالاق : قم هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا ، لعل الرب يوحي إليّ ما أهواه ، وأنا مظهر لك ما يوحي به ، فانطلق فظهر الله والهمه قولاً وفال له : انطلق إلى بالاق وقل له هذا القول ، فأتاه وهو قائم عند قرابينه وجميع قواد مؤاب معه ، ورفع بلعام صوته بأمثاله وقال : ساقني بالاق ملك المؤابيين من أرام التي في المشرق ، وقال لي : أقبل حتى تلعن يعقوب وتهلك آل إسرائيل ، فكيف ألعنه ولم يلعنه الله ، وكيف اهلكه والرب لا يريد هلاكه ، رأيته من رؤوس الجبال ، ونظرت إليه من فوق الآكام وإذا هو شعب وحده لا يعد مع الشعوب ، ومن يقدر يحصي جميع عدد يعقوب ، أو من يقدر يحصي عدد ربع بني إسرائيل ، تموت نفسي موتاً ويكون آخرى إلى آخرهم ، قال بالاق لبلعام : دعوتك لتلعن أعدائي فإذا أنت تباركهم وتدعوا لهم ، فرد بلعام قائلاً : الذي يلهمني الرب ويجري على لساني إياه أحفظ ، وبه انطق : قال له بالاق : مر معي إلى موضع آخر لنراهم من هناك ، وإنما أسوقك لترى آخرهم ولا تراهم أجمعين ، وانطلق به إلى حقل الربيه وأقامة على رأس الأكمة ، وابتنى هناك سبعى مذابح ، وقرب عليها الثيران والكباش ، قال بلعام : قف هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا الآن ، (3/155)
صفحة رقم 156
فانظر ما الذي يقال ؟ وتجلى الرب على بلعام وأجرى على فيه قولاً وقال له : انطلق إلى بالاق فأخبلاه بهذا القول ، فأتاه وهو قائم عند قرابينه ومعه اشراف مؤاب ، فرفع بلعام صوته بأمثاله وقال ؛ انهض بالاق واسمع قولي وأصع لشهادتي يا ابن صفور اعلم أن الله ليس مثل الرجل يحلف ويكذب ؛ إذا قال الرب قولاً فعله ، وكلامه دائم إلى الأبد ، ساقني لأعود وأبرك ، ولا أرد البركة ولا أخالف ما أمرت به ، لست أرى في آل يعقوب إثماً ولا غدراً عند بني إسرائيل ولا ظلماً ، لأن الله ربه معه الله الذي أخرجهم من مصر بعزة وعظمه قوية ، ولست أرى في آل يعقوب طيرة ، ولا حساب نجوم أوعراف بين بني إسرائيل ، كيف أقول والشعب قائم مثل الضرغام لا يربض حتى يفترس فريسته ويشربدم القتل ، فقال بالاق لبلعام : أطلب أن لا تلعنه ولا تدعوا له ، فرد بلعام على بالاق قائلاً : ألست قلت لك : إني إنما أنطق بما يقول لي الرب ، فقال بالاق : انطلق بنا إلى موضع آخر ، لععل الله يرضى بغير هذا فتلعنه لي هناك ، فأصعده إلى رأس فغور الذي بإزاء إستيمون ، فأمره بمثل ما تقدم من الذبح والقربان ، فرأى بلعام أن الرب يحب أن يدعو لبني إسرائيل ، ولم ينطلق كما كان ينطلق في كل وقت ليطلب الوحي ، ولكن أقبل بوجهه إلى البرية ومد بصره ، فرأى بني إسرائيل نزولاً قبائل قبائل فحل عليه روح الله ، ورفع صوته بأمثاله وقال : قل يابلعام بن بعور ، قل أيها الرجل الذي أجلى عن بصره ، قل أيها الذي سمع قول الله ورأى رؤيا الله وهوملقى وعيناه مفتوحتان ، ما أحسن منزلك يايعقوب ومنازلك يا إسرائيل وخيمك كالأدوية الجارية ، ومثل الفراديس التي على شاطئ النهر ، ومثل الجنى الذي ركزه الله ، ومثل شجر الأرز على شاطئ النهر يخرج رجل من بينه وذريته أكثر من الماء الكثير ، ويعظم على الملك ، وذلك بقوة الله الذي أخرجكم من أرض مصر بغير توقف رثماً ، يأكل خيرات الشعوب أعدائه ويكسر عظامهم ويقطع ظهوهم ، رتع وربض الأسد ومثل شبل اليث ، ومن يقدر أن يبعثه ، يبارك مباركون ويلعن لاعنوك ، فاشتد غضببالاق على بلعام وصفق بيديه متلهفاً وقال : دعوتك للعن أعدائي ، فماذا أنت تباركهم وتدعو لهم ثلاث مرات ، انصرف الان إلى بلادك ، قد كنت عزمت على إكرامك وإجازتك فإذا الرب قد أحرمك ذلك ، فرد بلعام على بالاق قائلاً : قد كنت قلت لرسلك الذين أرسلهم إليّ أنه لو وهب ليبالاق ملء بيته من ذهب وفضة لم أقدر أتعدى عن قول الرب ، ولكن إنما انطق ما يلهمني الرب ، فأنا أنطلق الآن إلى أراضي ، فأسمع ما أشير عليك وأخبرك ما يصنع هذا الشعب بشعبك آخر الأيام ، ثم رفع صوته بأمثله وقال : قل يابلعام بن بعور قل أيها الرجل المجلى عن بصره قل أيها الذي سمع قول الله وعلم علم العلي ورأى رؤيا الله إذ هو ملقى وعيناه(3/156)
صفحة رقم 157
مفتوحتان فإني رأيته وإذا ليس ظهوره الآن وإن كان متدانفاً ، ونظرت في أمره وإذا ليس بقريب ، يشرق نجم من آل يعقوب ، ويقوم رئيس من بني إسرائيل ، ويهلك جبابرة من مؤاب ويبيد جميع بني شيث ، وتثير أدوم ميراثه ، وساعير وراثة أعدائه يصير له ، ويستفيد بنو إسرائيل قوة بقوته - ونحو ذلك من الكلام الذي فيه ما يكون سبباً لا نسلاخه من الآيات ، لكنذكر المفسرون أنه أشار عليه باختلاط نساء بلاده ببني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن منهم ليزنوا بهن فيحل بهم الرجز ، فوقع بهم ذلك ، وهو الصواب لأنه ستأتي الإشارة إليه في التوارة عند فتح مدين بقوله : لماذا أبقيتم على الإثاث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته - وسيأتي ذلك قريباً ، وما فيه من ذكر الوحي فهو محمول على المنام أو غير ذلك مما يليق ؛ ثم قال : وقام بلعام ورجع منصرفاً إلى بلاده وبالاق أيضاً رجع إلى بيته ، وسكن بنو إسرائيل شاطيم ، وبدأ الشعب أن يسفح مع بنات مؤاب ، ودعون الشعب إلى ذبائح آلهتهم ، وأكل الشعب - من ذبائحهم وسجدوا الآلهتهم ، وكمل بنو إسرائيل لعباده بعليون الصنم ، فاشتد غضب الله على بني إسرائيل ، فقال الرب لموسى اعمد إلى جميع بني إسرائيل فافضحهم ، فقال موسى : يقتل كل رجل منكم كل من أخطأ وسجد لبعليون ، وإذا رجل من بني إسرائيل قد أتى بجرأة أمام إخوته من غير أن يستحي ، فدخل على امرأة مدينية وموسى وبنو إسرائيل يبكون في باب قبة الآمد ، فرآه فنحاس بن اليعازربن هارون الحبر فنهض من الجماعة غضباً لله واخذ بيده رمحاً ودخل إلى بيت الذي كانا فيه فطعنها بالرمح فقتلهما ، فكف الموت الفاشي عن بني إسرائيل ، كان اسم المرأة المدينية كزبى بنت صور ، وكان أبوها - من رؤساء أهل مدين ، وقال بعض المفسرين : أنه خرج رافعاً الحربة إلى السماء ، قد اعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحيته ، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاس من كل ذبيحة القبة والذراع واللحي والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنه كان بكراً لعيزار بن هارون ، ثم كلم الرب موسى وقال له : ضيق على أهل مدين وأهلكهم كما ضيقوا عليكم ولحسوكم ، ثم قال : ثم كلم الرب موسى وقال له : إني لمنتقم من المدنيين ما صنعوا بين بني إسرائيل ، ثم كلم الرب موسى وقال له : إني لمنتقم من المدنيين ما صنعوا بين بني إسرائيل ، ثم تقتص إلى شعبك ، ثم قال موسى للشعب : ينسلح منكم قوم للحرب لينتقموا للرب من المدنيين ، وليكونوا اثنى عشر ألفاً ، فانتخب موسى من بني إسرائيل ألفاً من كل سبط ، اثنى عشر أبطالاً متسلحين(3/157)
صفحة رقم 158
وأرسلهم ، وصير قائدهم فنحاس بن العازر الحبر ومعه أوعيه القدس وقرون ينفخ بها ، وتقووا على مدين كما أمر الرب موسى وقتلو كل ذكر فيها وقتلو ملوك مدين مع القتلى ، وقتل بلعام بن بعور معهم في الحرب ، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وانتبهوا مواشيهم وسلبوا جميع دوابهم وأموالهم وأخبروا جميع قرى مساكنهم وأتو بما انتهبوه إلى موسى ، وخرج موسى وجميع عظماء الجماعة فتلقوهم خارج العسكر ، وغضب موسى على رؤساء الأحبار ورؤساء الألوف والمئين الذي أتوه من الحرب فقال لهم : لماذا أبقيتم على الإناث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته ، وفتنوا وغدروا وتمردوا على الرب في أمر فغور - وفي نسخة السبعين : فإن هؤلاء كن شيئاً لبني إسرائيل لقوم بلعام أن يتباعدوا ويتهاونوا بكلمة الرب من أجل فغور - فواقعت السخطة جماعة الرب - وفي النسخة الأخرى : وتسلط الموت على جماعة الرب - بغته ، فاقتلوا الآن جميع الذكورة من الصبيان ، وكل امرأة أدركت وعلقت وعرفت الرجال فاقتلوها وأبقوا على جميع النساء اللواتي لم يعرغن الرجال وأما أنتم فانزلوا خارجاً عن العسكر سبعة أيام - إلى آخر ما مضى قريباً في الآصار
الأعراف : ( 179 - 184 ) ولقد ذرأنا لجهنم. .. . .
) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ( )
ولما انقضت هذه القصص فأسفرت عن أن أكثر الخلق هالك ، صرح بذلك فقال مقسماً لأنه لا يكاد يصدق أن الإنسان يكون - أضل من البهائم ، عاطفاً على ما تقديره : هؤلاء الذين قصصنا عليكم أخباركم ذرأناهم لجهنم : ( ولقد ( وعزتنا وجلالنا ) ذرأنا ) أي خلقنا بعظمتنا وأنشأنا وبثثنا ونشرنا ) لجهنم كثيراً ) أي ألجأناهم إليها ولم يجعل بينهم وبينها حائلاً ولما كانوا يعظمون الجن ويخافون ويضلون بهم ، بدأ بهم فقال : ( من الجن ) أي بنصبهم أنفسهم آلهة بإضلالهم الإنس في تزيين عبادتهم غير الله ، فهم في الحقيقة المعبودون لا الحجارة ، ونحوها ) والإنس ) أي بعبادتهم لمن لا يصلح ، وعلم أن الآية صالحة لأن تكون معطوفة على الجملة التي قبلها فهي من فذلكه ما تقدم(3/158)
صفحة رقم 159
ولما كان كأنه قيل : ما لهم رضوا لأنفسهم بطريق جهنم ؟ قيل : ( لهم ( ولما كان السياق للتفكير ، بدأ بالقلوب فقال : ( قلوب لا يفقهون بها ) أي الفقه الذي كلفوا به ، وهو النظر في أدلة التوحيد وثبوت النبوة وما تفرغ عن ذلك ، وههو الفقه المسعد ، عد غيره عد غيره عدماً لأنه لم ينفعهم النفع المقصود في الحقيقة ، وما أحسن التعبير بالفقه في السياق إقامه الأدلة التي منها إرسال الرسل وإنزال الكتب ولما كان البصر أعم من السمع ، لأنه ينتفع به الصغير الذي لا يفهم القول ، وكذا كل من في حكمه ، قدمه فقال : ( ولهم أعين ( ولما لم يترتب عليهما الإبصار النافع في الآخرة الباقية ، نفى إبصارهم وإن كانوا أحدّ الناس إبصاراً فقال : ( لا يبصرون بها ) أي الآيات المرئية إبصار تفكر واعتبار ) ولهم آذان ( ولما لم يتؤتب على سمعها ما ينفعهم ، نفاه على نحو ما مضى فقال : ( لا يسمعون بها ) أي الآيات المسموعة وما يدل عليها سماع ادكار وافتكار ، ولما سلبت عنهم هذه المعاني كانت النتيجة : ( أولئك ) أي البعداء من المعاني الإنسانية ) كالأنعام ) أي في عدم الفقه ، ولما كانوا قد زادوا على ذلك تفقد نفع السمع والبصر قال : ( بل هم أضل ( لأنهم إما معاند وإما جاهل بما يضره وينفعه ، والأنعام تهرب إذا سمعت صوتاً منكراً فرأت بعينها أنه يترتب عليه ضرها ، وتنتظر ما ينفعها من الماء والمرعى فتقصده ، والأنعام لا قدرة لها على ما يترتب على هذه المدارك من الفقه .
وهؤلاء مع قدرتهم على ذلك أهملوا فنزلوا عن رتبتها درجة كما أن من طلب الكمال وسعى له سعيه مع نزاع الشهوات علا عن درجة الملائكة بما قاسى من الجهاد .
ولما تشاركوا الأنعام بهذه في الغفلة وزادوا عليها ، أنتج ذلك قطعاً على طريق الحصر : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) هم ) أي خاصة ) الغافلون / ( لا الأنعام ، فإنها - وإن كانت غافلة عما يراد بها - غير خالدة في العذاب ، فلم تشاركهم في العمى والصمم عما ينفعها ولا في الغفلة عن الخسارة الدائمة ، فقد أشارت الآية إلى تفصيل الإنسان على الملك كما اقتضيته سورة الزيتون ، لأنه جعل في خلقه وسطاً بين الملك الذي هو عقل صرف والحيوان الذي هو شهوة مجردة ، فإن غلب عقله كان أعلى بما عالجه من جهاد الشهوات فكان في
77 ( ) أحسن تقويم ( ) 7
[ التين : 5 ] وإن غلبت شهوته كان اسفل من الحيوان بما أضاع من عقله فكان
77 ( ) أسفل سافلين ( ) 7
[ التين : 5 ] ولما أنتج هذا أن لهم الأسماء السوأى ولمعبوداتهم أسوأ منها ، عطف عليه دفعاً لوهم من يتوهم بالحكم بالضلال والذرء لجهنم مالا يليق ، وتنبيهاً على أن الموجب لدخول جهنم الغفلة عن ذكر الله ودعائه - قوله : ( ولله ) أي الملك الأعلى المحيط(3/159)
صفحة رقم 160
بجميع صفات الكمال وحده ) الأسماء ( ولما كان الاسم إذالحظت فيه الناسبه كان بمعنى الصفة ، أنث في قوله ) الحسنى ) أي كلها باتصافه دون غيره بصفات الكمال التي كل واحدة منها أحسن شيء وأجمله وتنزهه عن شوائب النقص وسمات الحدث ، فكل أفعاله حكمه وإنما كان مختصاً بذلك لأن الأشياءغيره ممكنه لتغيرها ، وكل ممكن محتاج وأدنى ما يحتاج إلى مرجح يرجح وجوده ، وبذلك نعلم وجود المرجح ونعلم أن ترجيحه على سبيل الصحة والاختيار لا الوجوب ، وإلا لدام العالم بدوامه ، وبذلك ثبتت قدرته ، وتكون أفعاله محمكه ثبت علمه فثبتت حياته وسمعه وبصره وكلامه وإرادته ووحدانية ، وإلالوقع التنازع فوقع الخلل ، فالعلم بصفاته العلى ليس في درجة واحدة بل مترتباً ، وعلم بهذا أن الكمال له لذاته ، وأما غيره فكماله به وهو بذاته غرق في بحر الفناء واقع في حضيض النقصان ) فادعوه ) أي فصفوه وسموه واسألوه ) بها ( لتنجوا من جهنم وتنالوا كل ما تحمد عاقبته ، فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله أقبل على الدنيا وشهواتها فوقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال في رغبة إلى رغبة حتى لا يبقى له مخلص ، وإذا أقبل على الذكر تخلص عن نيران الآفات واستشعر بمعرفة الله حتى تخلص من رق الشهوات فيصير حراً فيسعد بجميع المرادات ، وكثرة الأسماء لا تقدح في التوحيد بل تدل على عظيم المسمى ) وذروا ) أي اتركوا على حالة ذرية ) الذين يلحدون ) أي يميلون عما حد لهم بزيادة فيشبهوا أو نقص فيعطوا ) في أسمائه ) أي فيطلقونها على غيره بأن يسموه إلهاً ، فليزمهم أن يطلقوا عليه جميع أوصاف الإله .
فقد ألحدوا في البعض بالفعل وفي الباقي بالزوم ، أو بأن يسموه بما لم يأذن فيه ، وما لم يأذن فيه تارة يكون مأذوناً فيه في الجملة كالضار فلا يجوز ذكره إلا مع النافع ، وتارة لا ، مثل إطلاق الأب عليه والجسم ، وكذا كل ما أهم نقصاً ، فلم يكن أحسن ، ولوروده إطلاق بعض اشتقاقاته عليه مثل علم لا يجوز أن يقال لأجله : معلم ، وكذا لحبهم لا يجوز لأجله أن يقال : ياخالق الديدان والقردة مثلاً ، وكذا لا يجوز أن يذكر اسم لا يعرف الذاكرمعناه ولو كان الناس يفهمون منه مدحا كما يقول البعض البدو : يا أبيض الوجه يا أبا المكارم فإن ذلك كله إلحاد ، وهذا الفعل يستعمل مجرداً فيقال : لحد في كذا وألحد فيه - بمعنىواحد ، وهو العدول عن الحق والإدخال فيه ما ليس منه - نقله أبو حيان عن ابن السكيت ؛ وقال الإمام أبو القاسم علي بن جعفر بن القطاع في كتاب الأفعال : لحد الميت لحداً وألحده : شق له القبر ، وإلى الشيء وعنه وفي الدين : مال ، وقرئ بهما كذلك .
ولما كان كأنه قيل : فما يفعل بمن ألحد ؟ وكان المرهب إيقاع الجزاء ، لاكونه(3/160)
صفحة رقم 161
من معين ، قال بانياً للمفعول : ( سيجزون ) أي في الدنيا والآخرة بوعد لا خلف فيه ) ماكانوا ( اي بجبلاتهم ) يعملون ) أي فيفعل بهم من أنواع الإهانة والعقوبة ما يوجب وصفهم بأقبح الأصفاف ضد ما كانوا يسمعونه في الدنيا ممن يدانيهم .
ولما أخبر تعالى عن ذرء جهنم من القبلتين ، تشوف السامع إلى معرفة حال الباقين منهما ، فقال مصرحاً بالخبر عنهم عاطفاً على
77 ( ) ولقد ذرأنا ( ) 7
[ الأعراف : 179 ] مشيراً بمن التبعيضية إلى قتلهم تصديقاً لقوله
77 ( ) وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ( ) 7
[ الأعراف : 102 ] ) وممن خلقنا ) أي بما لنا من العظمة ) أمة ) أي جماعة عرفت من هو أهل لأن بؤم ويهتدى به فقصدته فاقتبست من أنواره فصارت هي أهلاً لأن تقصد ويؤم بها .
ولما أفهم لفظ الأمه هذا صرح به في قوله : ( يهدون بالحق ) أي الثابت الذي يطابقه الواقع ) وبه ( اي الحق خاصه ) يعدلون ) أي يجعلون الأمور متعادلة ، لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص ، لأنا وفقناهم فكشفنا عن بصائرهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك ، قال أكثر المفسرين : هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ورواه بعضهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبهم الأمر بعد تعيين قوم موسى عليه السلام تعظيماً لهم ولما بين حال الهادين المهديين ، وكان أصل السياق الضالين المضلين ، أتبعه بقية الحديث عنهم على وجه ملوح بأن علة الهداية التوفيق ، فقال عاطفاً على تقديره : فنحن نعلي أمرهم ونطيب ذكرهم : ( والذين كذبوا ) أي نسبوا الرسل إلى الكذب بسبب إتيانهم ) بآيتنا ( على ما يشاهد من عظمتها ) سنستدرجهم ) أي نستنزلهم ونستدنيهم بوعد لا خلف فيه إلى ما نريد بهم من الشر العظيم درجة درجة بسبب أنهم كلما أحدثوا جريمة أسبغنا عليهم نعمة ، وإذا عملوا طاعة قصرنا عنهم في الإنعام ، أو ضربناهم بسوط الانتقام ، فيظنون أن المعاصي سبب النعم فينسلخون من الدين ، ولذلك قال : ( من حيث لا يعلمون ) أي فيرتكبون ما يتعجب من مداناته فضلاً عن مباشرته ومعاناته من له أدنى بصيرة حتى يكمل ما نريد منهم من المعاصي ، وهو من أدلة ) سأصرف عن آياتي ( وأتى في الاستدراج بأداة العظمة وفي الإملا ء بضمير الواحد فقال ) وأملي لهم ) أي أمهلهم بوعد جازم زماناً طويلاً وأمد لهم وهم يعصون حتى يظنون أن الله يحبهم حتى يزيدون في ذلك لأنهم لا يفعلون شيئاً إلا بمرادي ولا يفوتوني ولم يأت بهما على نهج واحد ، لأن الاستدراج يكون بواسطة وبغيرها ، فكأنه قال : سأستدرجبنفسي من غير واسطة تارة وبمن أتيح لهم النعم على يده من عبيدي وجنودي أخرى ، وأما الإملاء وهو تطويل الأجل - فلا يتصور أن يكون إلا من الله تعالى ولما كان هذا موجباً لهم - ولابد - الإصرار على المعاصي حتى يصلوا إلى ما(3/161)
صفحة رقم 162
حكم عليهم به من النار ، قال مستأنفاً ) إن كيدي ) أي فعلي الذي ظاهرة رفعه وباطنه ضيعه - ظاهره إحسان وباطنه خذلان ) متين ) أي شديد قوي لا يمكن أحداً قطعه ، قال الإمام بعد تأويل للمعتزله حملهم عليه إيجابهم رعاية الأصلح : وأنا شديد التعجب من المعتزله ، يرون القرآن كالبحر الذي لاساحل له مملوءاً من هذه الآيات ، والدلائل العقلية القاهرة مطابقة لها ، ثم يكتفون في تأويلها - أي عن أنه تعالى يريد الشر - بهذه الوجوه الضعيفة إلا أن علمي بما أراد الله كائن ، مزيل هذا التعجب ولما كان السياق من أول السورة لإنذارهم ، وكان لا بد في صحة الإنذار من تصحيح الرسالة ، وختم بأمرالاستدراج ، وكانوا قد واقعوا من المعاصي ما لايجترئ عليه إلا مطموس البصيرة ، وكان عندهم أن من قال : إنهم علىحال سيء ، - مع ماهم فيه من النعم الظاهر - مجنون ، وكان التقدير دلالة على صحة الاستدراج ؛ ألم يروا أنهم يقدمون على مالا يرضاه لنفسه عاقل من عبادتهم للحجر وشماختهم عن أكمل البشر ووصفه بالجنون ووصفهم أفضل الكلام بالسحروالكذب إلى غيرذلك مما يغضب من ليس النفع والضر إلا بيده ، وهو مع ذلك يوالي عليهم النعم ، ويدفع عنهم النقم ، هل ذلك إلا استدراج ؛ قال منكراً عليهم عطفاً على ما أرشد السياق والعطف على غير معطوف عليه إاى تقديره : ( أو لم يتفكروا ) أي يعملوا أفكارهم ويمنعوا في ترتيب المقدمات ليعلموا أنه لا يتوجه لهم طعن يورث شبهة بوجه من الوجوه ، وبين المراد من هذا التفكر وعينه بقوله : ( ما يصاحبهم ) أي الذي طالت خبرتهم لأنه أمنتهم عقلاً وأفضلهم شمائل ولم يقل : ما برسولي ونحوه ، لئلا يقول متعنتهم مالا يخفى ، وأعرق في النفي فقال : ؛ ) من جنة ) أي حالة من حالات الجنون .
ولما نفى أن يكون به شيء مما نسبوه إليه وافتزوه عليه فثبتت رسالته ، حصر أمره في النذارة لأنها النافعة لهم مع أن المقام لها في هذه السورة فقال : ( إن ) أي ما ) هو إلانذير ) أي بالغ في نذارته ) مبين ) أي موضح للطريق إيضاحاً لا يصل إلى غيره ، ومن أدلة ذلك عجز الخلق عن معارضة شيء مما يأتي به من أنه أحسن الناس خلقاً وأعلاهم خُلقاً وأفضلهم عشرة وأرضاهم طريقة وأعدلهم سيرة وأطهرهم سريرة وأشرفهم عملاً وأحكمهم علماً وأرصنهم رأياً وأعظمهم عقلاً وأشدهم أمانة وأظهرهم نبلاً .
الأعراف : ( 185 - 188 ) أولم ينظروا في. .. . .
) أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي(3/162)
صفحة رقم 163
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) 73
( ) 71
ولما كان النظر في امر النبوة مفرعاً على تقرير أدلىة التوحيد ، وكان المقصود من الإنذار الرجوع عن الإلحاد ، قال منكراً عليهم عدم النظر في دلائل التوحيد الراد عن كل حال سيئ : ( أولم ( ولما كان الأمر واضحاً قال : ( ينظرون ) أي نظر تأمل اعتبار ، ودل على أنه بالبصيرة لا البصر بالصلة ، فقال إشارة إلى كل ذرة فيها دلائل جمة ) في ملكوت ( وعظم الأمر بقوله : ( السموات والأرض ) أي ملكها البالغ من حد العظمة أمراً باهراً بظاهرة الذي يعرفونه وباطنه الذي يلوح لهم ولا يدركونه .
ولما كانت ادلة التوحديد تفوت الحصر ، ففي كل ذرة برهان قاهر ودليل ساطع باهر ، قال ؛ ) وما ) أي وفيما ) خلق الله ) أي على ما له من الجلال والجمال ) من شيء ) أي غيرهما ، ليعلموا أنه لا يقدر على شيء من ذلك فضلاً عن ذلك غيره ، ويتحققوا أن كتابه سبحانه مباين لجميع مخلوقاته فيعلموا أنه صفته سبحانه وكلامه ، فلا يلحدون في أسمائه فلا يسموا بشيء منها غيره لما ظهر لهم من تمام قدرته وتمام عجز غيره عن كل شيء ومن شمول علمه وتناهي جهل غيره بكل شيء أنه قهار شديد ، وبعجزه كل شيء عن كل شيء من أمره أنه عزيز ، وبإسباغه النعمة أنه رحيم كريم إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي تنطق الأشياء بها بألسنة الأحوال وتتحدث بها صدور الكائنات وإن لم يكن لها مقال ، ويشرحها كلام التدبير بما له من الكمال ) وأن عسى ) أي وينظرون في الإشقاق والخوف من أنه ممكن وخليق وجدير ) أن يكون قد اقترب ) أي دنا دنوّا عظيماً ) أجلهم ) أي الذي لا شك عندهم في كونه بموته من موتان هذه الأمم التي أسلفنا اخبارهم كنفس واحدة أو بالتدريج فيبادروا بالإيمان به خشية انخرام الأجل للنجاة من أعظم الوجل ، فإن كل عاقل إذا جوزخطراينبغي له ان ينظر في عاقبته ويجتهد في الخلاص منه ولما كان قدم في أول السورة النهي عن التحرج من الإنذار بهذا الكتاب ، وبان بهذه الآيات أنه ( صلى الله عليه وسلم ) اتصف بالإنذار به حق الاتصاف ، وبان أن القرآن مباين لجميع المخلوقات ، فثبت أنه كلام الله ؛ تسبب عن ذلك الإنكار على من يتوقف عن الإيمان به ، والتخويف من إحلال أجله قبل ذلك فيقع فيما لا يمكنه تداركه ، وذلك في أسلوب دال على أن الإيمان بعد هذا البيان مما لا يسوغ التوقف فيه إلا لانتظار كلام آخر فقال :(3/163)
صفحة رقم 164
) فبأي حديث ) أي كلام يتجدد له في كل واقعة بيان المخلص منها ) بعده ) أي بعد هذه الرتبة العظيمة ) يؤمنون ( فقد دلت هذه الآية على أن للإيمان طريقين : أحدهما سمعي ، والآخر عقلي ، قال الحرالي في كتاب له في أصول الفقه : الحكم إنما يتلقى من خطاب الله البالغ على السنة رسله ، وقد اتضح واشتهر ان السمع من طرق تفهم خطاب الله الذي تبلغه الرسل ، وكذلك أيضاً قد تحقق لقوم من أولي الألباب أن الرؤية وسائر الحواس طريق من طرق تفهم خطاب الله أيضاً ، يعي منه اللب العقلي معنى الإرسال في كتابه المخلوق كما يعي العقل معنى الإرسال من مفهوم كلامه المنطوق ، وقوم ممن فهم من مرئي كتاب الله المشهود إرسال ولقن أحكاماً يسمون الحنيفيين كقس ابن ساعده وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقد شهد لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن كل واحد منهم ( يبعث أمه واحدة ) لاهتدائه من نفسه من غير رسالة هاد خارج عنه ، بل من رسول موجدته وإحساسه للعالم ، ولأنه إنما أخذ بكلية حكم الإيمان ووجوب المناصفه مع الخلق كم شهود خلق الله ، وصار مع ذلك يترقب تأكيد ما يحصل له عقلاً من مسموع خطاب الله ، وعلى نحو هذه الحال - وأتم هي - حال الأنبياء والصديقين قبل مورد الوحي على النبي وقبل سماع صديقه وارد وحيه ، وهؤلاء هم - الذين لا يتوقفون عن الإيمان بالنبي عند ابتداء دعوته ، وكما أن النبي لا يلزم ويجكم بل يبلغ عن الله فكذلك نظر العقل لا يلزم ولا يحكم بل يبلغ عن الله فيكون الحكم الذي هو تصرف الحق في أفعال الخلق بهذا على ضربين ، شرعي أي مأخوذ من الإرسال الشرعي ، وعقلي أي مأخوذ من الإرسال العقلي ، وحاصل ذلك أن العالم المشهود مبين عن أمر الله ، وكل مبين مبلغ ، فالعلم مبلغ أي بما يفهمه الفاهم من كلامه عن الله ، فإن النحاة قالوا - كما ذكره ابن عصفور في شرح الإيضاح لأبي علي وكذا غيره : إن الكلام في الإصلاح لا يقع الإعلى اللفظ المركب وجوداً أو تقديراً المفيد بالوضع ، قال : واحترزوا باللفظ عما يقال له كلام لغة وليس بلفظ كالخط والإشارة وما في النفس وما يفهم من حال الشيء ، وقال الحرالي : نحو حال الخجل والغضبان ، وبالفعل نحو الإشارة باليد والعقد بالأنامل وبآثار الفعل كالصنائع والأعمال ، وباللفظ الذي يلفظ به القلب إلى ظاهر اللسان ، وبآثار رقوم يحاذي بها حذو مفهوم اللفظ وهو الخط - انتهى .(3/164)
صفحة رقم 165
ولما كان ذلك كله من أعجب العجب ، كانت فذلكته قطعاً تعليلاً لما قبله من إعراضهم عما لا ينبغي الإعراض عنه دليلاً علىأن الأمر ليس إلا بيد منزلة سبحانه قوله : ( من يضلل الله ) أي الذي له جميع العظمة ) فلا هادي ( أصلاً ) له ( بوجه من الوجوه ؛ ولما دل بالإفراد على أن كل فرد في قبضته ، وكان التقدير : بل يستمر على ضلاله ، وعطف عليه بضمير الجمع دلالة علىأن جمعهم لا يغني من الله شيئاً فقال : ( ويذرهم ) أي يتركهم على حالة قبيحة ، وعبر بالظرف إشارة إلى إحاطة حكمه بهم فقال : ( في طغيانهم ) أي تجاوزهم للحدود حال كونهم ) يعمهون ) أي يتحيرون ويترددون في الضلال لا يعرفونه طريقاً ولا يفهمون حجة وللما بين التوحيد والنبوة والقضاء والقدر ، أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن ، مبيناً ما اشتمل عليه هذا الكلام من تبدلهم في العمه وتلددهم في إشراك الشبه بقوله : ( يسئلونك ) أي مكررين لذلك ) عن الساعة ) أي عن وقتها سؤال استهزاء ) أيان مرساها ) أي أيّ وقت ثبات ثقلها واستقراره ، والمرسى يكون مصدراً وزماناً ومكاناً ، من رست السفينة - إذا ثبتت بالحديدة المتشبعة ، وإنما كان هذا بياناً لعههم فإنهم وقعوا بذلك في الضلال من وجهين : السؤال عما غيره لهم أهم ، وجعله على طريق الاستهزاء مع ما قام عليه من الأدلة ، وسيكرره في هذه السورة ، وكان اللائق بهم أن يجعلوا بدل السؤال عنها اتقاءها بالأعمال الصالحة ولما كان السؤال عن الساعة عاماً ثم خاصاً بالسؤال عن وقتها ، جاء الجواب عموماً عنها بقوله : ( قل إنما علمها ) أي علم وقت إرسالها وغيره ) عند ربي ( اي المحسن إليّ بإقامتها لينعم على تبعني وينتقم ممن تركني ، لم يطلع على ذلك أحداً من خلقه ، ولا يقيمها إلا في أحسن الأوقات وأنفعها لي ، وإخفاؤها أنفع للخلق لأنه أعظم لشأنها وأهيب ، فيكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية وأقرب إلى التوبة ، ثم خصصت من حيث الوقت بقوله مشيراً إلى أن لها أشرطاً تتقدمها : ( لا يجليها ) أي يبينها غاية البيان ) لوقتها إلا هو ( ولما كان قد أشار إلى ثقل الساعة بالإساء ، وكان الشيء إذا جهل من بعض الوجوه أشكل وإذا أشكل ثقل ، قال : ( ثقلت ) أي الساعة فغاضت إلى حيث لم يتغلغل إليها علم العباد فأهمهم كلهم عليّ شأنها ، ولذلك عبر بالظرف فقال : ( غي السموات والأرض ) أي نسبة أهلها إلى خفائها والخوف منها على حد سواء لأن مالكها قادر على ما يشاء ، وله أن يفعل ما يشاء - ثم قرر خفاءها على الكل فقال : ( لا تأتيكم ) أي في حالة من الحالات ) إلا بغتة ) أي على حين غفلة .(3/165)
صفحة رقم 166
ولما كانوا قد ألحفوا في سؤاله ( صلى الله عليه وسلم ) عنها ، وكانت صفة الربوبية المذكورة في الجملة الأولى ربما حملت على سؤاله طمعاً في تعريفها من المحسن إليه ، قطع الأطماع بقوله مؤكداً للمعنى : ( يسئلونك ) أي عن الساعة مطلقاً في وقت وقوعها وما يحصل من أمورها ويحدث من شدائدها ، أي ويلحفون في سؤالك كلما أخبرتهم أنه لا يعلمها إلا الله ) كأنك حفيٌّ ) أي عالم بأمرها مستقص مبالغ في السؤال ) عنها قل ) أي قطعاً لسؤالهم ) إنما علمها عند الله ) أي الذي له جميع العزة والعظمة والكبرياء فلا يستطاع علم شيء مما عنده إلا بإذنه ، ولم يأذن في علمها لأحد من الخلق ) ولكن أكثر الناس ) أي الذين غلبت عليهمصفة الاضطراب ) لايعلمون ) أي ليسوا من أهل العلم فهم بالسؤال عنها يستهزئون ، ولو كانوا من أهله ما كذبوك ، فوقعوا ما لا يعنيهم من السؤال عنها وغيره من أنواع التعنت ، وتركوا ما ينجيهم ويغنيهم من المبادرة إلى الإيمان بهذا القرآن خوف انخرام الآجال وهم يهيمون في أدوية الضلال ولما كان علم الغيب ملزوماً لجلب الخير ودفع الضير ، وكانت الساعة أدق علم الغيب ، أمره بنفي هذا اللازم فينتفي الأعم بانتفائه الأخص ، وقدم النفع لأنه أهم إلى النفس ، وليس في السياق ما يوجب تأخيره بخلاف ما في سورة يونس عليه السلام ، فقال آمراً بإظهار ذل العبودية : ( قل لا أملك ) أي في وقت من الأوقات أصلاً ) لنفسي نفعاً ( اي شيئاً من جلب النفع قليلاً ولا كثيراً ) ولا ضراً ( كذلك ، فإن قدرتي قاصرة وعلمي قليل ، وكل منة كان عبداً كان كذلك ولما كان من المعلوم بل المشاهدة أن كل حيوان يضر وينفع ، أعلم أن ذلك إنما هو بالله فقال : ( إلا ما شاء الله ) أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد سواه أن يقدرني عليه ولما بين لهم بهذا أن سؤالهم عن الساعة وغيرها من المغيبات جهل منهم ، لأن حالة واضح في أنه لا يعلم من ذلك إلا ما علمه الله الذي اختص بعلم الغيب ، دل عليه بقوله : ( ولوكنت ) أي من ذاتي ) أعلم الغيب ( اي جنسه ) لا ستكثرت ) أي أوجدت لنفسي كثيراً ) من الخير ( باستجلاب المنافع بنصب أسبابها ولما كان الضر لا يحتمل منه شيء قال : ( وما مسني السوء ) أي هذه الجنس بإقامة الموانع له عني لأن لازم إحاطة العلم شمول القدرة كما سيقرر إن شاء الله تعالى في سورة طه ، ولما بين أن علم الغيب رتبة الإله ، ختم الآيه ببيان رتبته ، فقال قالباً ما أدعوه فيه من الجنون لما بان بقوله : ( يا بني عبد مناف اتقوا الله ، يا بني فلان يا(3/166)
صفحة رقم 167
بني فلان ) وكذا ما لزم عن إلزامهم له بعلم الساعة من أنه يكون إلهاً : ( إن أنا إلا ( ولما كانت السورة للإنذار ، قدمه فقال : ( نذير ) أي مطلقاً للكافر ليرجع عن كفره ، والمؤمن ليثبت على إيمانه ) وبشير لقوم يؤمنون ) أي خاصة ، أو الصفتان لهم خاصة بالنظر إلى النفع ، وأما ما لا نفع فيه فعدم .
الأعراف : ( 189 - 196 ) هو الذي خلقكم. .. . .
) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( ( )
ولما ذكر سبحانه الساعة هنا كما ذكرها أول السورة بما لم يذكره هناك من تهكمهم واستهزائهم ، وختم هنا بحصر العلم والقدرة في الله الموجب لتفرده بالإلهية ، وكان الذي جرهم إلى ذلك الاستهزاء إشراكهم ، ذكر قلبها أول السورة من ابتداء الخلق على وجه الحصر المستلزم لتمام القدرة الموجب لنفي الشريك واعتقاد القدرة على الساعة وغيرها والصدق في كل ما وقع الإخبار به من أمرها وغيره الموجب للاستقامه في قبول بشارته ونذارته والإقبال بالكلية على الخالق ، فقال مقرراً للتوحيد مؤكداً لأمره : ( هو ) أي وحده ) الذي خلقكم ) أي ولم تكونوا شيئاً ) من نفس واحدة أي خلقها ابتداء من تراب وهي آدم عليه السلام - كما مر بيانه ، ومن قدر على اختراع من شيء ليس له أصل في الحياة ، كان على إعادة حياً من ذلك الشيء بعد أن صار له أصل في الحياة أقدر ولما كان آدم عليه السلام بعد صيرورته لحماً ودماً أقرب إلى السببية لخلق ذات(3/167)
صفحة رقم 168
لحم ودم منه ، قال معبراً بالواو لأنه كاف في نفي الشرك الذي السياق للتحذير منه بخلاف الزمر فإنه للقهر ، وتأجير المسببات عن الأسباب مدة أدل عليه لأنه خلاف الأصل ، ) وجعل ( لأن الجعل - كما قال الحرالي - إظهار أمر عن سبب ونصيير ) منها ) أي لا من غيرها ) زوجها ) أي حواء من لحمها ودمها وعظمها ولما كان المراد بالنفس آدم عليه السلام وكان الزوج يقال على الذكر والأنثى ، استخدم ضميره في المذكر ذكراً علة الجعل بقوله : ( ليسكن ) أي آدم هو المراد بالنفس هنا ، ولما كان الزوج هنا هو المرأة أنث الضمير فقال : ( إليها ( وتنقلهم من ذلك السكون منه إليها - لأن النفس إلى الجنس أميل وعليه أغلب وعليه أقبل ، ولا سيما إن كان بعضاً ، ألا ترى إلى محبة الوالد لولده والقريب لقريبه ، وإنما منع سبحانه من نكاح الأصل والفرع لما في ذلك من الضرار وغيره من الحكم الكبار ، فيغشاهاعند ما يسكن إليها فيحصل الحبل والولادة فتتفرع النفوس من تلك النفس ولما كان السكون هنا كناية عن الجماع ، أعادة بلفظ أقرب منه - فقال مؤذناً بقرب غشيلتها بعد جعلها ، أو ناسقاً له على ما تقديره : فسكن إليها فمالت نفسه إليها فلم يتمالك أن غشيها ) فلما تغشّاها ) أي غشيها آدم عليه السلام المعبر عنه بالنفس بهمة عظيمة ) حملت جحملاً خفيفاً ) أي لأنه نطقه ) فمرت به ) أي فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت ، لم يعقها عن شيء من ذلك ، إعلاماً بأن أمرها فيه كان على عادة النساء التي نعرفها ) فلما أثقلت ) أي صارت ثقيلة بكبره وتحريكه في بطنها ) دعوا الله ) أي آدم وحواء عليهما السلام ولما ذكر الاسم الأعظم استحضاراً لأن المدعو هو الذي له جميع الكمال ، فهو قادر على ما دعوا به لأنه قادر على كل ما يريد ، ذكر صفة الإحسان رجاء القبول والامتنان فقال : ( ربهما ) أي الذي أحسن إليهما ، مقسمين ) لئن آتينا صالحاً ) أي ولداً لا عيب فيه ) لنكونن من الشاكرين ) أي نحن وأولادنا على نعمتك علينا ، وذلك أنهما جوزا أن يكون غير سوى لقدرة الله على كل ما يريد ، لأنه الفاعل المختار لا الطبيعية ولا غيرها ، وأشار بالفاء إلى قرب الولادة من الدعاء فقال : ( فلما آتاهما ) أي أبويكم آدم وحواء ) صالحاً ( اي جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوة وعقلاً ، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراًوإناثاً ) جعلا ) أي النوعان من أولادها الذكوروالإناث ، لأن ( صالحاً ) صفة لولد وهو للجنس فيشمل الذكر والأنثى والفيل والكثير ، فكأنه قيل : فلما آتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناثجعل النوعان ) له شركاء ) أي بعضهم اصناماً وبعضهم ناراً وبعضهم غير ذلك ، هذا(3/168)
صفحة رقم 169
على قراءة الجماعة ، وعلى قراءة نافع وأبي بكر عن عاصم بكسر الشين وإسكان الراء والتنوين التقدير : ذويشرك ) فيما آتاهما ) أي من القوى بالعبادة والرزق بالنذور ونحوها ولما لم يضر المشركون بالإشراك إلا أنفسهم ، سبب عن ذلك قوله : ( فتعالى الله ) أي بما له من صفات الكمال التي ليست لغيره تعالياً كثيرياً ، والدليل على إدراة النوعين قوله : ( عما يشركون ( بالجمع ، وكذا ما بعده من عيب عبادة الأصنام ولما ذكر علوه سبحانه ، شرع من أوصافه عبارة وإشارة ما يدل على ذلك ويقيم الأدلة على عدم صلاحية ما أشركوا به للشركة بعجزها ، بأنها من جملة خلقه ولا تصرف لها تستحق به وجهاً من التعظيم ، فقال منكراً على عبادها دالاًعلى أن المراد الشرك الحقيقي ، لاما ذكر من قصة إبليس في التسمية بعبد الحارث ونحوه : ( أيشركون ) أي المشركون وأولادهما في العبادة ) ما لا يخلق ) أي من الأصتنام والطبائع والكواكب وغيرها ) شيئاً ) أي يوجده من العدم كما يفعل الله الذي أشركوها به ولما كان يلزم أن يكون ما لا يخلق شيئاً مخلوقاً لأنه لا يتكون عاجزاً بغير قادر أوجده صرح به في قوله مجرياً للأوثان مجرى أولي العلم لتنزيلهم منزلتهم في الإعتقاد والعبادة : ( وهم ( ولما كان المصنوع لا يكون صانعاً ، اكتفى بالبناء للمفعول فقال : ( يخلقون ) أي متجدداً خلق أعراضهم وذواتهم وأمثالهم ) ولا يستطيعون ) أي للمشركين الذين يعبدونها ) نصراً ( وهو المعونة على العدو ، ولعله عبر بصيغة العاقل إشارة إلى أنهم لو كانوا يعقلون ، وكانوا بهذه الصفات الخسيسة ما أهلوهم لأن يكونوا أحبابهم فضلاً عن أن يجعلوهم أربابهم ولما كان من لا ينصر غيره قد ينصر نفسه ، نفي ذلك بقوله : ( ولا أنفسهم ينصرون ) أي في وقت من الأوقات عند يصيبهم بسوء ، بل عبدتهم يدافعون عنهم ولما تبين من هذا الاستفهام الإنكاري المعجب من حالهم في ضلالهم في أسلوب الغيبة أن من أشركوه ليس فيه نوع قابلية لما أهلوه ، فإن المعبود يجب أن يكون قادراً ، ومن كان عاجزاً نوع عجز كان مربوباً ، وكان للتنبيه بالخطاب ما ليس له بالغيبة ؛ أتبع ذلك في إسلوبه تعجيباً آخر منهم أشد من الأول ، وذلك أن معبوداتهم التي أشركوا بها كما أنها لا تفعل من تلقاء أنفسها ، لا تفعله عند دعاء الداعي ولا تهتدي إليه فقال تعالى ) وإن تدعوهم ) أي وإن تدعوا أيها المشركون أصنامكم دعاء مستمراً متجدداً(3/169)
صفحة رقم 170
) إلى الهدى ) أي إلى الذي يدل الداعي إليه قطعاً ، على أن المختلف عنه سيئ المزاح ، محتاج إلى العلاج ، لكونه تخلف عما لا يتخلف عنه من له نوع صلاح لكونه أشرف الأشياء ، فالمختلف عنه راض لنفسه بالدون ) لا يتبعوكم ) أي في ذلك الهدى الذي دعوتموهم إليه ولم بالغتم في الاستتباع ، ولعله عبر بصيغة الافتعال إشارة إلى أنها لا يتصور منها قصد التبع فضلاً عن إيجاده ، ثم بين أن ذلك ليس بأمر عارض ، بل هو مستمر دائم بقوله مستأنفاً تأكيداً للمعنى : ( سواء عليكم ( ولما كان السواء لا يكون إلا بين أمرين ، تشوف السامع إليهما فقال ؛ ) أدعوتموهم ) أي وجد منكم ذلك الدعاء الذي أشير إلى استمراره ، وعبر بالاسمية إشارة إلى أنهم لا يدعونهم في وقت الشدائد ، بل يدعون الله فقال : ( أو أنتم صامتون ) أي عن ذلك الدوام على عادتكم في الإعراض عن دعائهم في أوقات الملمات ، فالذين دعون معتقديهم في وقت الضرورات أقبح حالاًفي ذلك من المشركين ويجوز أن تكون الآية من الاحتباك ، فيكون نظمها : أدعوتموهم مرة أو أنتم داعوهم دائماً أم صَمَتُّمْ عن دعائهم في وقت ما أم أنتم صامتون دائماً عن دعائهم ، حاكم في كل هذه الأجوية سواء في عدم الإجابة ، لا اختلاف فيه بوجه ، دل بالفعل أولاً على حذف مثله ثانياً ، وبالاسم ثانياً على حذف مثله أولاً ولما كان اتباع من يدعي أنه أعقل الناس وأبعدهم عن النقائص وأعرقهم في معالي الأخلاق وأرفعهم عن سفسافها لمن هذا سبيله أخزى الخزي وأقبح العار ، وكانوا مع العلم بهذا الذي وصفت به - معبوداتهم يفعلون في الإشراك بهم وفي خوفهم ورجائهم ما هو عين الجهل ؛ كرر تبكيهم باتباعهم في أسلوب آخر أوضح مما قبله في تبيين النقائص والتنبيه على المعايب ملجئ إلى الاعتراف أو التصريح بالعناد أو الجنون فقال مؤكداً : ( إن الذين تدعون ) أي أيها المشركون كون دعاء عبادة ملازمين لذلك ، أو أنه أطلق الدعاء على العبادة إشارة إلى أنه لا تصح عبادة من ليس فيه قابيلة أن يدعى ، والحاصل أن الدعاء يلازم المعبود ولما كان دعؤهم لهم إنما هو على سبيل الإشراك ، قال مشيراً إلى سفوك رتبتهم بإثبات الجار : ( من دون الله ) أي الذي له صفات الكمال والعظمه والجلال ) عباد أمثالكم ) أي في العجز عن كل شيء لا سيما عما وقع بع التحدي من معارضة القرآن وغيرها ، وأنتم تزيدون عليها بالحياة والعقل ، والمعبود لا يصح أن يكون مثل العابد فكيف إذا كان ؛ ولما كانوا لا يسلمون أنهم أمثالهم ، سبب عن ذلك أمرهم بدعائهم لبيان دعوى المثلية بل الدونية فقال : ( فادعوهم ) أي إلى شيء من الأشياء(3/170)
صفحة رقم 171
ولما كان الإله الحق يجيب وليه عند التحدي من غير تخلف ، أشار إلى ذلك بالربط بالفاء فقال : ( فليستجيبوا لكم ) أي يوجدوا لكم إجابة بينة في الإتيان بسورة تماثل شيئاً من القرآن وفي شيء من المنافع ولما كان المقام محتاجاً إلة مزيد توبيخ وإلهاب ، قدم ما رأيت ، ثم زاد في الإلهاب فقال : ( إن كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) صادقين ) أي في دعوى أنهم آلهة ، فأن رتبة الإله تقتضي ذلك ، وقرأ سعيد بن جبير ) إن ( خفيفة و ) عباداً أمثالكم بنصب الدال واللام ، واتفق المفسرون على تخرجهاغ على أن ( إن ) هي النافية أعملت عما ( ما ) الحجازية ، فرفعت الاسم ونصبت الخبر ، وإعمالها هذا العمل فيه خلاف ، أجازه الكسائي وأكثر الكوفيين ، ومن البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني ، ومنع منه الفراء وأكثر البصريين ، واختلف النقل عن سيبوية والمبرد ، والصيحح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النظم والنثر - ذكر ذلك كله أبو حيان وذكر أنه أشبع الكلام فيه في شرح التسهيل ، واعترض على هذا التخريج بأنه يلزم منه منافاتها للقراءة المشهورة ، وإنما يسلم له ذلك لو توارد النفي والإثبات على شيء واحد ، وليس الأمر هنا كذلك ، فالاثبات لمماثلتها لهم في مطلق العجز ، والنفي لمساواتها لهم فيه لزيادتهم عنها بالبطش ونحوه ، أو يكون الأمر - كما قال الزمخشري - أن الإثبات على سبيل التنزل والنفي على الحقيقة ولما أثبت عجزهم وأنهم أمثالهم ، دل عليه وعلى أنهم دونهم بأسلوب إنكار وتعجب مفصلاً لبعض ما نفاه عنهم - فقال مقدماً الأجل لأن أول ما يخشى من الشيء انتقاله : ( ألهم أجل ( ولما كانت لهم جوارح مصنوعة ، بين المراد بقوله : ( يمشون بها ( ولما كان المخشيّ بعد الانتقال مدّ اليد ، قال : ( أم لهم أيد ) أي موصوفة بأنهم ) يبطشون بها ) أي نوعاً من البطش ؛ ولما كان المخوف بعد البطش باليد البصرخوفاً من الدلالة قال : ( أم لهم أعين ) أي منعوته بأنهم ) يبصرون بها ) أي ضرباً من الإبصار ؛ ولما كان الإنسان ربما خاف مما يقصد ضره فتغيب عنه فلا يصل إليه بعد من السمع ولما سواها بهم ونفى عنهم ما تقدم ، لزم نقصانها عنهم وأنه في الحقيقة مسلوب عنهم لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا العدم ، والقدرة فيما يقدرون عليه إنما هي بيد الصانع لهم أشركهم معها ، وقال دالاً على ذلك مستأنفاً : ( قل ) أي لهولاءالمشركين ) ادعوا شركاءكم ) أي هذه التي تقدمت ومها شئتم غيرها ، واستعينوا بها في عداوتي .(3/171)
صفحة رقم 172
ولما كان هذا تحدياً عظيماً يحق لفاعله التمدح به ، نبه عليه بآداة التراخي فقال : ( ثم كيدون ) أي جميعاً أنتم وهم وأنتم أكثر من حصى البطحاء ورمل الفضاء وأنا وحدي ، ولما كان المعنى : وعجلوا ، عطف بفاء السبب قوله : ( فلا تنظرون ) أي تمهلون لحظة فما فوقها لئلا تعتلوا في الإنظار بعلة ، وعلل عدم المبالاة بكيدهم بقوله بالأديان والأبدان ، وقدم الدين إشارة إلى أنه الأهم فقال مؤكداً في مقابلة إنكارهم : ( إنوليّي ) أي ناصري ومتولي جميع أموري ) الله ) أي الجامع لصفات الكمال ) الذي نزل ) أي بحسب التديج متكفلاً بفصل الوقائع ) الكتاب ) أي الجامع لعلوم الأولين والآخرين وأمر المعاش والمعاد وأحوا ل الداريم وكل ما فيه صلاح من أحوال القلوب وغيرها الذي عجزتم بأجمعكم ومن دعيتم شركته عن معارضة شيء منه ولما تكفل هذا التنزيل بجميع الصفات ، وهي الحياة التامه المستلزمه للإدراة والقدرة والعلم والسمع والبصر والكلام ، وكان عجزهم عن المعارضة للكتاب دليلاً شهودياً قولياً على كذبهم ، أتبع ذلك دلياً آخر شهودياً فعلياً فقال : ( وهو ) أي وحده ) يتولى ) أي يلي ولاية تامه ) الصالحين ) أي كلهم بنصرهم على كل مناو وكفايتهم لكل مهم وقد علمتم ما قدمه في هذه السورة من وقائعه بمن كذب أنبياءه واستهزأ برسله وأنه أنجى كل من والاه ، وأهلك جميع من عاداه كمن عدوهم آرلهة ، وهو وما بعده وما قبله متلفت إلى قوله تعالى ) ) اتبعوا ما أنزل إليكم ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ( ) [ الأعراف : 3 ] بالشرح ، وهو دال على أنه الذي فعل ما تقدم لأجل أوليائه بدليل أنه أعجزهم عن معاضة شيء من كتابه ، وعن الوصول إلى جميع ما يريدون من أوليائه وأحبابه .
الأعراف : ( 197 - 201 ) والذين تدعون من. .. . .
) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( ( )
ولما صور بهذا جلاله ، وقرر عظمته وكماله ، باتصافهبجيع الصفات العلى التي منها القدرة التي تكفيهم عنه ؛ كرر التنفير عن أندادهم في أسلوب آخر تأكيداً للمعنى السابق بزيادة بالغة في العجز وهو تصويب النظر من غير إبصار ، مع أن الأول للتقريع ، (3/172)
صفحة رقم 173
وهذا الفرق بين من يعبد بحق ومن يعبد بباطل ليرجعوا عن غيهم وعنادهم ، فقال مبيناً أنهم ليسوا في شيء من صفاته مصرحاً بنفي النصرة التي أثبتها له عنهم مع المواجهة بالخطاب الذي هو أفظع في الجواب : ( والذين تدعون ) أي تديمون دعاءهم ) من دونه ( - فإنهم يدعونه سبحانه في بعض الأوقات - أوتدعونهم تاركين له ) لا يستطعيون نصركم ) أي بوجه من وجوه النصرة بدليل عجزكم عني وأنا وحدي وأنتم أهل الأرض ) ولا أنفسهم ينصرون ( بدليل أن الكلب يبول عليهم فلا يمنعونه .
ولما كان دعاء الجماعة أقرب إلى السماع من دعاء الواحد ، نسق على ما قبله قوله : ( وإن تدعوهم ) أي يا من هم أضل منهم وأعجز ) إلى الهدى ) أي إلى الذي هو أشرف الخلال ليهتدوا في نصر أنفسهم بالنسبة إلى كل أحد على حد سواء ، قال مفرداً للمخاطب : ( وتراهم ) أي أيها الناظر إليهم ) ينظرون إليك ) أي نوعاً من الإبصار ، وما أشبه مضمون هذه الآيات بما في سفر أنبياء بني إسرائيل في نبوة أشعياً : هكذا يقول الرب ملك إسرائيل ومخلصه : أنا الأول وأنا الآخر ، وليس إله غيري .
ومن مثلي يدعي ويظهر قوته ويخبر بما كان منذ بسطت الدنيا إلى الأبد ، والآيات القديمة تظهر للشعوب ، فلا يفزعون ولا يخافون ، ألم أسمعكم منذ أول الدهر وأظهرها لكم وأبين لكم الأمور وأنتم شهدائي أن ليس إله غيري ، وليس في أعمالهم منفعة ، وأن الصناع الذين يعلمونها هم يشهدون عليها أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم ، لذلك يخزي جميع صناع الأوثان المسبوكة لأن جميع ما صنعوا لا عقل له ، فيجمعون كلهم وبخزون ويفتضحون لأن النجار نجت بحديده وهيأ صنماً بمنقاره وسدده بقوة ساعده وجاع وعطش في عمله والنجار اختار خشبة وقدرها وألصق بعضها ببعض بالغراء وركبها وعملها كشبة الإنسان ، أقام من الخشب الذي قطع من الغيضة كشبه رجل الذي نبت من شرب المطر ليصير للناس للوقود فعملوه لهم إلهاً وعبدوه وسجدوا له ، الذي ينصفه خبزوا لهم خبزاً وشووا لهم لحماً على جمرة وأكلوا وشربوا واصطلوا وقالوا : قد حمينا لأنا قد أوقدنا ناراً واصطلينا ، والذي بقي منه اتخذوه إلهاً منحوتاً وسجدوا له وصلوا وقالوا : نجّنا لأنك إلهنا .
ولم يخطر على بالهم فكر أن يقولوا : إنا قد أقدنا نصفه بالنار ، وخبزنا خبزنا وشوينا على جمره اللحم وأكلنا ، ولم يعلموا أن باقيه عمل منه صنم وسجدوا له ، لأن قلوبهم متمرغة في رماده ، وضلت عقولهم فلا يقدرون ينجون أنفسهم ولا يقولون :(3/173)
صفحة رقم 174
إن أيادينا عملت الباطل واتخذت الكذب ، ثم قال : أليس أنا الرب منذ أول ، وليس إله غيري ولا مخلص سواي ، ادنوا إليّ يا جميع الذين في أقطار الأرض لتنجوا لأني أنا الرب وليس إله غيري ، حلفت بيميني وأخرجت كلمة صدق ولست أرجع عنها لأنه لي تنحني كل ركبة ، وبي يحلف كل إنسان ويقول : إنما الرب بالرب ، وإليه تدنو الأعزاء ويخزى جميع المبغضين ، وبي يمتدح ويتبرر ، بمن شبهتموني ؟ وإلى من نسبتموني ؟ بالضالين الذين أخرجوا الذهب من أكياسهم ووزنوا الفضة بالميزان واكتروا الصناع حتى عملوا لهم آلهة يسجدون لها ويحملونها على أكتافهم ويمشون بها ثم يصلون لها ويدعونها لا تجيبهم ولا تخلصهم من شدائدهم ثم يحملونها أيضاً ويردونها إلى مواضعها ، اذكروا هذه الأشياء واعقلوا أيها الأثمة واخطروها على قلوبكم وتذكروا الأيام التي كانت نمن الابتداء ، إني أنا الله الخالق وليس إله غيري ولا مثلي ، فأنا أظهر العتيدات وأخبر بالذي يكون قبل أن يكون ، وأثبت رأيي وأكمل إراداتي وهواي ، وأدعوا من في المشارق فيأتون أسرع من الطير ، وأتاني الرجل الذي قد عمل مسرتي من الأرض البعيدة ، لأني أنا إذا تكملت بشيء فعلته .
أنا خلقت وأنا أخلق ؛ وفي الزبور في المزمور الثالث عشر بعد المائه : إلهنا في الأرض ، كل ما يشاء يصنع ، أوثان الأمم ذهب وفضة عمل أيدي البشر ، لها أفواه ولا تتكلم ، لها أعين ولا تنظر ، لها آذان ولا تسمع ، وآناف ولا تشم ، وأيد ولا تلمس ، وأرجل ولا تمشي ، ولا صوت بحناجرها ولا روح في أفواهها ، فليكن صانعوها مثلها وجميع من يتوكل عليها - انتهى ولما كان محصل أمرهم الإعراض عما أتاهم بالتكذيب والإقبال على ما لم يأتهم بالطلب والتعنت كالسؤال عن الساعة ، والأمر بالمنكر من الشرك وما يلزم منه من مساوي الأخلاق ، والنهي عن المعروف الذي هو التوحيد وما يتبعه من محاسن الشرع ، وذلك هو الجهل ، وختم ذلك بالإخبار بأنه سبحانه أصلح له الدين بالكتاب ، والدنيا بالحفظ من كل ما ينتاب ، وكان حالهم ربما كان موئسا من فلاحهم ، مفتراً عن دعائهم إلى صلاحهم ، كان الداعي لهم ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قال : فما أصبع في أمرهم ؟ فأجابه بالتحذير من مثل حالهم والأمر بضد قالهم وفعالهم والإبلاغ في الرفق بهم فقال : ( خذ العفو ) أي ما أتاك من الله والناس بلا جهد ومشقه ، وهذا المادة تدور على السهولة ، تارة تكون من الكثرة وتارة من القلة ، فعفا المال ، أي كثر ، فصار يسهل إخراجه ويسمح به لزيادته عن الحاجة ، وعفا المنزل ، أي درس ، فسهل أمره حتى صار لا يلتفت إليه .
ولما أمره بذلك في نفسه ، أمره به في غيره فقال : ؛ ) وأمره بالعرف ) أي بكل ما عرفة الشرع وأجازه ، فإنه من العفو سهولة وشرفاً ، وقد تضمن ذلك النهي عن المنكر(3/174)
صفحة رقم 175
فأغنى بذلك عن ذكره لأن السياق للمساهلة ؛ ولما أمره بالفعل في نفسه وغيره ، أتبعه الترك فقال : ( وأعرض عن الجاهلين ) أي فلان تكافئهم بخفتهم وسفههم ولا تمارهم فإن ذلك أسهل من غيره ، وذلك بعد فضيحتهم بالدعاء ، بذلك - لأن محط حالهم اتباع الهوى فيدعوهم إلى تكلف ضد هذه الخصال ، وفيه إشارة إلى النهي عن يذهب نفسه عليهم حسرات مبالغة في الشفقة عليهم ، وعن جعفر الصادق أنه ليس في القرآن ىية أجمع لمكارم الأخلاق منها .
ولما كان الشيطان بعداوته لبني آدم مجتهداً في التنفير من هذه المحاسن والترغيب في أضدادها ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد نزع منه حظ الشيطان بطرح تلك العلقة السوداء من قبله إذ شق جبرائيل عليه السلام صدره وغسل قلبه وقال : هذا حظ الشيطان منك ؛ شرع لأمته ما يعصمهم منه عند نزعه مخاطباً له بذلك ليكون أدعى لهم إلى القبول وأجدر باشتداد الخوف المقتضي للفرار المثمر للنجاة ، لأنهم إذا علموا قصد الشيطان لمن نزع منه حظه وعصم من كل محنة علموا أنه لهم أشد قصداً وأعظم كيداً وصداً ، فقال مؤكداً بأنواع التأكيد إشارة إلى شدة قصد الشيطان للفتنة وإفراطه في ذلك ، ليبالغ في الحذر منه وإن كان بذلك في محل الإنكار لعلمه لعلمه بالعصمة - لذلك عبر بأداة الشك إشارة إلى صعف كيده للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأن الله تعالى أعانه على قرينه فأسلم : ( وإما ) أي أن ، وأكدت ب ) ما ( إثباتاً للمعنى ونفياً لضده ) ينزغنك ) أي ينخسنك نخساً عظيماً ) من الشيطان نزغ ) أي نخس بوسوسته من شأنه أن يزعج فيسوق إلى خلاف ما تقدم من المحاسن في نحو غضب من جهل الجاهل وسفه السفينه أو إفراط في بع ض أوجه كما تساق الدابة بما تنخس به ، فيفسر ويجعل النخس ناخساً إشارة إلى شدته ) فاستعد ) أي فأوجد أو اطلب العوذ وهو الاعتصام ) بالله ) أي الذي له جميع العز والعظمة والقدرة والقهر لا نقطاعك عن الإخوان والأنصار إليه فلا ولي لك ولا ناصر إلا هو ، فإنه إذا أراد إعاذتك ذكرك من عزيز نعمه وشديد نقمة ما يريد عن الفساد رغباً ورهباً ، والآية ناظرة إلى قوله تعالى أولها
77 ( ) لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( ) 7
[ الأعراف : 16 ] ولما أبطل تعالىأن يكون لشركائهم سمع أو علم ، صار إثبات ذلك له كافياً في اختصاصه به من غير حاجه إلى الحصر المتضمن لنفيه عن غير لتقدمه صريحاً بخلاف ما في فصلت ، فقال معللاً : ( إنه سميع ) أي بالغ السمع فهو يسمع استعاذتك فيجيبك إن شاء ) عليم ( شامل العلم بما تريد ويريد منك عدوك ، فلا يعجزه شيء ، وختم بصفة العلم في الموضعين لأن الوسوسة من باب ما يعلم ، وختمها في سورة المؤمن بالبصير المشتق من البصر والبصيرة ، لأن المستعاذ منه أمر الناس ومنه ما يبصر(3/175)
صفحة رقم 176
ولما كان لا يحصل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا شيء خفيف جداً كما نبه عليه بالنزاع ، وهو ليس بمحق كما نبهت عليه أداة الشك ، وكان لا يستعيذ بالله إلا المتقون فكان كأنه قيل : افعل ذلك عند أول نزغة لتكون من الكتقين ، علله بقوله : ( إن الذين اتقوا ) أي حصل لهم هذا الوصف ، وحقق أذاه لهم باداة التحقيق - بخلاف ما مضى عند إفراد الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) - فقال : ( إذا مسهم طائف ( اي طواف على أنه فاعل كميت ومائت ، ويجوز أن يكون مصدراً أيضاً ، وهو إشارة إلى أن الشيطان دائر حولهم لا يفارقهم ، فتارة يؤثرفيهم طوافه فيكون قد مسهم مساً هو أكبر من النزع لكونه أطاف بهم من جميع الجوانب ، وتارة لا يؤثر ) من الشيطان ) أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ) تذكروا ) أي كلفوا أنفسهم ذكر الله بجيع ما ينفعهم في ذلك إقداماً وإحجاماً ولما كانوا بإسراع التذكير كأنهم لم يمسهم شيء من أمره ، أشاره إلى ذلك بالجملة الاسمية مؤكداً لسرعة البصر بإذا الفجائية : ( فإذا هم ) أي بنور ضمائرهم ) مبصرون ( اي ثابت إبصارهم فلا يتابعون الشيطان ، فإن المتقي من يشتهي فينتهي ، ويبصر فيقصر ، وفي ذلك تنبيه على أن من تمادي مع الشيطان عمي لأنه ظالم ، والظالم هومن يكون كأنه في الظلام
الأعراف : ( 202 - 206 ) وإخوانهم يمدونهم في. .. . .
) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( ( )
ولما وصف المفتون الذين هم العلماء ملوحاً إلى نصح وليهم لهم ، وعرف من حالهم أنهم أعداء الشيطان ، وعرف أن أضدادهم أولياؤه ؛ أتبعه وصف الجاهلين وغش أوليائهم لهم والكل غير متقين ، فقال : ( وإخوانهم ) أي وإخوان الجاهلين وغش الأنس والجن ) يمدونهم ) أي يمدون الجاهلين ، من المد وهو الإمهال والإطالة على قراءة الجماعة ، وهوبمعنى قراءة أهل المدينة بالضم من الإمداد ، وقال الواحدي : إن هذا أكثر ما يأتي فيما يحمد كأمددناهم بفاكهه ، فهو من استعمال الشيء في ضده نحو ) فبشرهم بعذاب ( وكأنه يشير إلى أن الشيطان أكثر ما يأتي الإنسان في صورة الناصح الشفيق ، والأوجه أن يكون الإخوان الجاهلين لأنهم في مقابلة ) الذين اتقوا ( ويكون(3/176)
صفحة رقم 177
الضمير للشيطان المراد به الجنس ، أي وإخوانالشياطين - وهم الجاهلون الذين لا يتقون - يمدهم أولياؤهم من الشياطين ) في الغي ( وهو ضد الرشاد ، وأشار إلى مزيد اعتنائهم بالإغواء ومثابرتهم على الإضلال والإغراء بأداة التراخي فقال : ( ثم لا يقصرون ) أي لا يتركون إغواءهم ولو لحظة لجهلهم وشرهم ولما تقررما شرعه من العفف وعدم التنطع والتكلف ، وكان قد أخبر أن من عمههم تكلفهم السؤال عن الساعة ، والشياطين لا يفترون عن إغوائهم ، أخبره عن مطلق تكلفهم تعجباً منهم وإشهاد لتماديهم مع إغواء شياطينهم ، وأمره ( صلى الله عليه وسلم ) بما يجيبهم به فقال عاطفاً على ) يمدونهم ( : ( وإذا لم تأتهم بآية ) أي على حسب اقتراحهم ) قالوا لولا ( اي هلا ) اجتبيتها ( والجبي : الجمع ، والإجباء تركه ، والاختباء : الجد في الجميع ، ويلزم منه الاصطفاء والاختبار ، فمعنى اجتبيتها اجتلبتها ، أي تكلفت من عند نفسك الإتيان بها مختاره ولما كان المقام داعياً إلى السؤال في تعليم الجواب ، أسعف ذلك بقوله : ( قل ( اي قالوا ذلك ) إنما أتبع ) أي أتعمد وأتكلف اتباع ) ما يوحي إليّ ) أي يأتيني به الملك ) من ربي ) أي المحسن إليّ بتعليمي ما ينفعني ، لا أني آتي بشيء من عند نفسي ولا أقترح على ربي ولما حصر حاله في اتباع الوحي كان كأنه قيل : ما هذا الذي يوحي إليك ؟ فقال - ويجوز أن يكون تعليلاً لاتباعه لأنه كاف في إثبات نبوته مغن عن الآيات المقترحه قاهر في وجوب اتباعه - : ( هذا ( مشيراً إلى ما يوحي إليه تنبيهاً على أنه يجب أن يكون مستحضراً في سائر الأذهان ، حاضراً بين عيني كل إنسان ) بصائر ) أي أشياء هي - على حسب ما طلبتم - مجتباه ، بل هي خيار الخيار ، يكون بها نور القلب فيصير للعيون أيضاً بصر يقربه مما يحث الكتاب على نظره من الآيات المرئيات إلى علوم لم تكن لها قبل ذلك ، هي حجج بينه قاهر على تصديقي وقبول كل ما جئت به ، وسماه بذلك لأنه سبب لبصر العقول بدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وجميع الشريعة اصولاً وفروعاً ، فهو تسمية للسبب باسم المسبب ، وعليّ مدحها بقولة : ( من ربكم ) أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم أصلاً ، فهو جدير بأن يلتقي ما أتى منه بكل جميل ولما كانت البصائر جمعاً ، وكانت العادة جارية بأن مفردات الجمع تكون متفاوته ، أكدها بما يشير إلى أنها خارقه للعادة في أنها على حد سواء سواء في أعلى طبقات الهداية فقال : ( وهدى ) أي بيان ؛ ولما كان البيان قد لا يكون على وجه الإكرام ، قال : ( ورحمة ) أي إكرام(3/177)
صفحة رقم 178
ولما كان من لا ينتفع بالشيء يصح أن ينفي عن الشيء النافع النفع بالنسبة إليه ، قال : ( لقوم يؤمنون ) أي يوجدون هذه الحقيقة ويستمرون على تجديدها في كل وقت ، وأما غيرهم فقد يكون عليهم عذاباً .
ولما عظم الله شأن القرآن ، فكان التقدير : فآمنوا به تفلحوا ، عطف عليه قوله : ( وإذا قريء القرآن ) أي وهو هذا الذي يوحي إليّ ، فتأدبوا وتواضعوا لأنه صفة ربكم ) فاستمعوا له ) أي ألقوا إليه أسماعكم مجتهدين في عدم شاغل يشغلكم عن السمع ولما كان بعض الفهاء يسمع وهو يتكلم ، أشار إلى أن الكتاب أعلى قدراً من أن يناله من يشتغل عنه بأدنى شغل فقال : ( وأنصتوا ) أي للتأمل والتدبر لتنجلي قلوبكم فتعلموا حقيقة فتعلموا بما فيه ولا يكون في صدوركم حرج منه ؛ ولما كان ظاهر الآية وجوب الإنصات لكل قارئ على كل أحد ، رغب فيه تعظيماً لشأنه فقال : ( لعلكم ترحمون ) أي لتكون على رجاء من أن يكرمكم ربكم ويفعل بكم كل ما يفعله الراحم مع المرحوم ولما تقدم الأمر بالذكر عند نزغ الشيطان ، ومر إلى أن أمر بالاستماع لأعظم الذكر ، وكان التالي ربما بالغ في الجهر ليكثر سامعه ، وربما أسر لئلا يوجب على غيره الإصغاء ، علمهم أدب القراءة ، وأطلق ذلك في كل حال لأنه ر بما فهم فاهم الاقتصار على ذكر في حالة النزغ ، ورقي الخطاب منهم إلى إمامهم ليكون أدعى لقبولهم مع الإشارة إلى أنه لا يكاد يقوم بهذا الأمر حق قيامه غيره ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( واذكر ) أي بكل ذكر من القرآن وغيره - ) ربك ) أي الذي بلغ الغاية في الإحسان إليك ) في نفسك ) أي ذكراً يكون راسخاً فيك مظروفاً لك لفهمك لمعانية وتخلفك بما فيه ، وليكن سراً لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص واعون على التفكير ، وكونه سراً دال على أشرف الأحوال ، وهو المراقبة مع تحقق القرب ، فإذا كان كذلك أثمر قوله : ( تضرعاً ) أي حال كونك ذا والعلن وبهذا يكمل ذل العبودية لعز الربوبية .
ولما أمر بالسر ، قال مقابلاً له : ( ودون الجهر ) أي لأنه أدخل في الإخلاص ، ومن المعلوم انه فوق السر ، وإلا لم تفد الدجملة شيئاً ، ولما كان قد يكون في الأفعال ، أكده بقوله : ( من القول ) أي فأن ذلك يشعر بالتذلل والخضوع من غير صباح كما يناجي الملوك ويستجلب منهم الرغائب ، وكما قال ( صلى الله عليه وسلم ) للصحابة وقد جهروا بالدعاء(3/178)
صفحة رقم 179
فوق المقدار ( إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ) فإن المقصود حصول الذكر اللساني ليعين الذكر القلبي ، والمقصود حاصل بإسماع النفس فإنه يتأثر الخيال فيتقوى الذكر القلبي ، ولا تزال الأنوار تتزايد فينعكس تراجع بعضها إلى بعض حتى يزداد الترقي من ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام ولما أمر بالذكر مكيفاً بكيفية اللائقة به ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالمداومة عليه ذاكراً أحسن الأوقات له وأحقها به ، لكونها لما فيها من الشغل - أدل على إيثارة لمزيد المحبة والتعظيم فقال : ( بالغدو ) أي أوقات البكر ، ولعله أفرده علىجعله مصدر غداً ، لأنه ما ثم إلا وقيل : الغدو وجمع غدوة ، فيراد حينئذ مع الصبح الضحى ، وآخر كل نهار متصل بأول ليلة اليوم الثاني فسمي آخر اليوم اصيلاً لأنه يتصل بما هو أصل اليوم الثاني ، وخص هذين الوقتين وإن كان المراد الدوام بتسمية كل من اليوم والليل باسم جزئه ، ليذكر بالغدو الانتشار من الموت ، وبالأصل السكون بالموت والرجوع إلى حال العدم فيستحضر بذلك جلال الله عز وجل فيكون ذلك حاوياً على تعظيمه حق تعظيمه .
ولما كان ربما أوهم هذا الخصوص بهذين الوقتين وإن ظاهراً في الدوام ، قال مصرحاً : ( ولا تكن من الغافلين ) أي في غيرهما ، بل كن ذاكره في كل وقت على كل حال ؛ ثم علل الأمر بالمراقبة الدالة على أعظم الخضوع بأنها وظيفة المقربين فقال : ( إن الذين ( وزاد ترغيباً في ذلك بقوله : ( عند ربك ) أي المحسن إليك بتقريبك من جنابه وجعلك أكرم احبابه ، وهم الملائكة الكرام أولو العصمة ، والقرب دنو مكانة لا مكان ) لا يستكبرون ) أي لا يوجدون ولا يطلبون الكبر ) عن عبادته ) أي الخضوع له التلبس بانحاء التذلل مع مزيد قربهم وغاية طهارتهم وحبهم ) ويسبحونه ) أي ينزهونه عن كل مالا يليق خلوصهم عن دواعي الشهوات والخظوظ .
ولما كان هذا يرجع إلى المعارف ، وقدمه دلالة على أنه الأصل في العبادة أعمال القلوب ، أردفه بقوله : ( وله ) أي وحده ) يسجدون ) أي يخضعون بإثباتهم له كل كمال ، وبالمباشرة لمحاسن الأعمال ، وقد تضمنت الآية الإخبار عن الملائكة الأبرار بثلاثة أخبار : عدم الاستكبار الذي هو أجل أنواع العبادة إذ هو الحامل على الطاعة كما أن ضده حامل على المعصية ، والتسبيح الذي هو التنزيه عن كل مالا يليق ، وتخصيصه(3/179)
صفحة رقم 180
بالسجود ، ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار ، وكانت على قسمين : قلبية وجسمانية ، أشار إلى القلبية بالتنزيه ، وإلى الجسمانية بالسجود ، وهو الحال الذي يكون العبد به عند ربه كالملائكه قرباً وزلفى ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) نبه عليه أبو حيان على أن العبادتين مرجعهما القلب ، وإحدهما مدلول عليها بالقول والخرى بالفعل ، وقد رجع آخر السورة في الأمر باتباع القرآن إلى أولها أحسن رجوع ، ولوصف المقربين بعدم الاستكبار والموظبة على وظائف الخضوع إلى وصف إبليس بعصيان أمر الله في السجود لآدم عليه السلام على طريق الاستكبار أيّ التفات ، بل شرع في رد المقطع على المطلع حين أتم قصص الأنبياء ، فقوله
77 ( ) ولقد ذرأنا ( ) 7
[ الأعراف : 179 ] هو قوله
77 ( ) والذي خبث لا يخرج إلا نكداً ( ) 7
[ الأعراف : 58 ] يتضح لك ذلك إذا راجعت ما قدمته في المراد منها
77 ( ) ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ( ) 7
[ الأعراف : 180 ] هو - ) ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ( و
77 ( ) ممن خلقنا أمة يهدون بالحق ( ) 7
[ الأعراف : 180 ] - هو
77 ( ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها اولئك أصحاب الجنة ( ) 7
[ الأعراف : 42 ]
77 ( ) والذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنها ( ) 7
[ الأعراف : 36 ]
77 ( ) وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ( ) 7
[ الأعراف : 185 ] هو
77 ( ) إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ( ) 7
[ الأعراف : 34 ] و
77 ( ) يسئلونك عن الساعة ( ) 7
[ النازعات : 42 ] هو
77 ( ) كما بدأكم تعودون ( ) 7
[ الأعراف : 29 ] و
77 ( ) لكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( ) 7
[ الأعراف : 24 ] و
77 ( ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( ) 7
[ الأعراف : 189 ]
77 ( ) لقد خلقناكم ثم صورناكم ( ) 7
[ الأعراف : 11 ]
77 ( ) إنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي ( ) 7
[ الأعراف : 203 ] - إلى آخرها بعد التنفير من الأنداد - هو كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه - إلى قوله :
77 ( ) ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ( ) 7
[ ٍالأعراف : 3 ] فسبحان من هذا كلامه ، وتعالى حجابه وعز مرامه ، وعلى من أنزل عليه صلاته وسلامه ، وتحيته وإكرامه .
.. . .(3/180)
صفحة رقم 181
سورة الأنفال
الأنفال : ( 1 - 3 ) يسألونك عن الأنفال. .. . .
) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ( )
وتسمى الجهاد ) بسم الله ) أي الذي له جميع الحول والقوة والطول ) الرحمن ( الذي أحاط دائرة العقل بشموس الأدلة من كل منقول ) الرحيم ( الذي منّ على من شاء من الأتباع ؛ ومقصد هذه السورة تبرؤ العباد من الحول والقوة ، وحثهم على التسليم لأمر الله المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين المنتج لكل خير ، والجامع لذلك كله أنه لما ثبت بالسور الماضية وجوب اتباع أمر الإله والاجتماع عليه لما ثبت من تفرده واقتداره ، كان مقصود هذه إيجاب اتباع الداعي إليه بغاية الإذغان والتسليم والرضى والتبرؤ من كل حول وقوة إلى من انعم بذلك ولو شاء سلبه وأدل ما فيها على هذا قصة الأنفال التي اختلفوا في امرها وتنازعوا قسمها فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس وألزمهم الإخبات والتواضع ، وأعطاها نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه الذي هزمهم بما رمى من الخصبات التي خرق الله فيها العادة بأن بثها في أعين جميعهم وبما أرسل من جنوده ، فكأن الأمر له وحده ، يمنحه من يشاء ، ثم لما صار له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، رده فيهم منة منه عليهم وإحساناً إليهم ، واسمها الجهاد كذلك لأن الكفار دائماً أضعاف المسلمين ، وما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم ، وتجب مصابرة الضعف ، فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ماأطيق ذلك ، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد ، وإن كثرت من الأعادي الجموع والأعداد ، وتوالت(3/181)
صفحة رقم 182
إليهم زمر الأمداد من سائر العباد ، كما ذكره الحافظ أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي المغربي في فتوح البلاد من كتابه الاكتفاء في سيرة المصطفى وأصحابه الثلاثة الخلفاء ، وكذا شيخةالخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حبيش في كتابه الذي جمعه في الفتوح ، قالا وقعه اليرموك من فتوح الشام عن حديث سيف بن عمر وهذا لفظ ابن سالم : قال : وكان القارئ يوم ذاك المقداد ، قالوا : ومن السنة التي سن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد بدر أن نقرأ سورة الجهاد عند اللقاء ، وهي سورة الأنفال ، ولم يزل الناس بعد على ذلك ؛ قالا في وقعه القادسية من فتوح فارس واللفظ لابن سالم أيضاً قالوا : ولما صلى سعد - يعني ابن أبي وقاص - رضي الله عنه الظهر أمر غلاماً كان عمر رضي الله عنه ألزمه إياه وكان من القراء يقرأ سورة الجهاد ، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتبية التي تليه ، وقرئت في كل كتيبة ، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها ، قال مصعب بن سعيد : وكانت قراءتها سنة يقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند الزخرف ويستقرئها ، فعمل الناس بذلك - انتهى .
ومناسبتها للأعراف انه لما ذكر تعالى - كما تقدم - قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم في تلك ، ناسب أن يذكر قصة هذا النبي الكريم صلى عليه وسلم مع قومه ، وتقدم أنه لما أطنب سبحانه في قصة موسى عليه السلام كان ذلك ربما أوهم تفضيله على الجميع ، فأتى بقصة المخاطب بهذا القرىن في سورتين كاملتين ، الأنفال في أول أمره وأثانه ، وبراءة في ختام أمره وانتهائه ، وفرق بين القصتين ، وذلك أن قوم مةوسى عليه السلام كانوا في سوء العذاب ، وكانوا يعلمون عن اسلافهم أن الله سيذكرهم وينجيهم من أيدي القبط ، فلما أتاهم موسى عليه السلام وبين لهم الآيات التي أمره الله بها لم يشكوا في انه الموعود به من رحمة الله لهم ، وإتيانه نفع لهم عاجل مع ما فيه من النفع الآجل ، فأطبقوا على أتباعه ، وكانوا أكثر من ستمائة الف مقاتل ، ومع ذلك فقد كانوا يخالفون عليه في كل قليل ، ولا يجدون قلوباً يواجهون بها القبط في الإباء عن امتثال أوامرهم ، وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فاتى قومه ولا حس عندهم من نبوة ولا علم لهم بها ، ولم يكونوا تحت ذل أحد ، بل كانوا ملوك العرب ، فعندهم أنه جاء يسلبهم عزهم ويصيرهم له تبعاً فخالفوا اشد المخالفة ولم يدعوا كيداً حتى باشروه في رده عما جاء به ، ومع ذلك فنصره الله عليهم ولم يزل يؤيده حتى دخل الناس هم وغيرهم في دين الله افواجاً ، واظهر دينه على الدين كله كماوعده سبحانه ، ثم أيد أمره من بعده ولم يزل اتباعه ظاهرين ولا يزالون إلى يوم الدين ، فبين القصتين فرقان لأولى الإبصار والإيقان ، وأما مناسبة أولها لآخر تلك فقد تبين أن آخر الأعراف آخر قصة موسى عليه السلام المختتمة بقصة بلعام وأن ما بعد ذلك إنما هو(3/182)
صفحة رقم 183
تتمات لما تقدم لا بد منها وتتمات للتتمات حتى كان آخر ذلك مدح من أهلهم لعنديته سبحانه بالإذعان وتمام الخضوع ، فلما أضيفوا إلى تلك الحضرة العالية ، اقتضى ذلك سؤالاً عن حال الذين عند المخاطب ( صلى الله عليه وسلم ) فأجيب بقوله تعالى : ( يسألونك ) أي الذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك - وسيأتي بيانه ، فهم المستحقون للأنفال وليس لهم إليها التفات وإنما همهم العبادة ، والذين عندك إنما جعلنهم آلة ظاهرة ومع ذلك فهم يسألون ) عن الأنفال ( التي توليتهم إياها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعادة بالله منها - كما نبه عليه آخر الأعراف - لأن ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداد ، وهو جمع نفل - بالتحريك ، وهو ما يعطاه الغازي زيادة على سهمه ، والمراد بها هنا الغنيمة ، وهي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً ، سميت هنا بذلك لأن اصلها في اللغة الزيادة ، وقد فضل المسلمون بها على سائر الأمم ولما كان السؤال عن حكمها ، كا كأنه قيل : فماذا يفعل ؟ فقال دالاً على انهم سألوا عن مصرفها وحكمها - ليطابق الجواب السؤال : ( قل ) أي لهم في جواب سؤالهم ) الأنفال لله ) أي الذي ليس النصر غلا من عنده لما له من صفات الكمال ) الرسول ) أي الذي كان جازماً بأمر الله مسلماً لقضائه ماضياً فيما أرسله به غير متخوف من مخالطة الردى بموافقة العدى ؛ قال أبو حيان : ولا خلاف أن الآية نزلت في يو بدر وغنائمه ، وقال ابن زيد : لا نسخ ، إنما أخبر أن الغنائم لله من حيث إنها ملكه ورزقه ، وللرسول عليه السلام من حيث إنها ملكه ورزقه ، وللرسول عليه السلام من حيث هو مبين لحكم الله والصادع فيها بأمره ليقع التسليم من الناس ، وحكم القسمة نازل خلال ذلك - انتهى .
ولما أخبر سبحانه أنه لا شيء لهم فيها إلا عن أمر الله ورسوله ، وكان ذلك موحباً لتوقفهم إلى بروز امره سبحانه على لسانه رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت التقوى موجبة للوقوف خوفاً حتى يأتي الدليل الذي يجسّر على المشي وراءه ، سبب عن ذلك قوله : ( فاتقوا الله ( اي خافوا خوفاً عظيماً في جميع أحوالكم من الذي لا عظمة لغيره ولا أمر لسواه ، فلا تطلبون شيئاً بغير أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تتخاصموا ، فإن الله تعالى الذي رحمكم بإرسال رسول لنجاتكم وغنزال كتاب لعصمتكمغير مهمل ما يصلحكم ، فهو يعطيكم ما سبق في علمه الحكم بأنه لكم ، ويمنعكم ما ليس لكم ) وأصلحوا ذات بينكم ) أي الحال التي هي صاحبة افتراقكم واجتماعكم ، فإن أغلب امرها البين الذي هو القطيعة ، وقد أشرفت على الفساد بطلب كل فريق الأثرة على صاحبة فأقبلوا على رعايتها بالتسليم لأمر الله ورسوله الأمرين بالإعراض عن الدنيا ليقسمها بينكم على سواء ، القوي(3/183)
صفحة رقم 184
والضعيف سواء ، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ، لتجتمع كلمتم فيشتد أمركم ويقوى أزركم فتقدروا على إقامة الدين وقمعالمفسدين ) واطيعوا الله ) أي الذي له جميع العظمة ) ورسوله ) أي الذي عظمته من عظمته في كل ما يأمرانكم به من تنتقل لمن يراه وإنفاذ شرط ووفاء عهد لمن عاهده .
ولما أمر ونهى هيج وألهب فقال مبيناً كون الإيمان مستلزماً للطاعة : ( إن كنتم مؤمنين ) أي صادقين في دعوى الإيمان ، فليس كل من يدعي شيئاً يكون صادقاً في دعواه حتى يحصل البيان بالامتحان ، ولذلك وصل به قوله مؤكداً غاية التأكد لأن التخلص من الأعراض الدنيوية عسر : ( إنما المؤمنون ) أي الراسخون في وصف الإيمان ) الذين ( اي يقيمون الدليل على دعوى الإيمان بتصديق أفعالهم لأقوالهم فيكونون ) إذا ذكرالله ) أي الجامع لصفات الكمال من الحجلال والجمال مجرد ذكر في نحو قوله ) الأنفال لله ( ) وجلت ) أي خافت خوفاً عظيماً يتخلل صميم عظامهم ويجول في سائر معانيهم وأجسامهم ) قلوبهم اي بمجرد ذكره استعظاماً له ) وإذا تليت ) أي قرئت على سبيل الموالادة والاتصال من ايّ تال كان ) عليهم آياته ) أي كما يأتي في غقامة الأدلة على ذلك الحكم الذي ورد ذكره فيه ) زادتهم إيماناً ( اي بإيمانهم بها وبما حصل لهم من نور القلب وطمأنينة اليقين بسببها ، فإنها هي الدالة على الله بما تبين من عظيم أفعاله ونعوت جلاله وجماله ، وتظاهر الأدلة اقوى للمدلول عليه ، كمال قدرة الله تعالى إنما يعرف بواسطة آثار حكمته في مخلوقاته ، وذلك بحر لا ساحل له ، ولما كانت المراتب لا نهاية لها ، كانت مراتب التجلي والمعرفة لا نهاية لها ، فالزيادة في أشخاص التصديق ) وعلى ) أي والحال أنهم على ) ربهم ) أي الدائم الإحسان إليهم وحده ) يتوكلون ) أي يجددون إسناد أمورهم إليه مهما وسوس لهم الشيطان بالفقرة أو غيره ليكفيهم من حيث لا يحتسبون ، فغن خزائنه واسعة ، ويده سحاء الليل والنهار ، كما انهم لما توكلوا عليه في القتال نصرهم وقد كانوا في غاية الخوف من الخذلان ، وكان حالهم جديراً بذلك لقلقهم وخوفهم وقتلهم وضعفهم .
ولما وصفهم بالإيمان الحامل على الطاعة والتوكل الجامع لهم الدافع للمانع منها ، منتقلاً من عمل الباطن إلى عمل الظاهر مبيناً ان همتهم إنما هي العبادة والمكارم : ( الذين يقيمون الصلاة ) أي يفترون عن تجديد ذلك ؛ ولما كانت صلة بين الخلق والخالق ، أتبعها الوصلة بين الخلائق فقال : ( ومما رزقناهم ) أي على عظمتنا وهو لنا دونهم ) ينفقون ( ولو كانوا مقلين اعتماداً على ما عندنا فالإنفاق وإهانة الدنيا همتهم ، لا الحرص عليها ، فحيمئذ يكونون كالذين عند ربك في التحلي بالعبادة والتخلي(3/184)
صفحة رقم 185
من الدنيا إعراضاً وزهادة ، وهو تذكبر بوصف المتقين المذكور أول الكتاب بقوله : ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وممارزقنهم ينفقون (
الأنفال : ( 4 - 9 ) أولئك هم المؤمنون. .. . .
) أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ( ( )
ولما حققوا إيمانهم بأفعال القلوب والجوارح والأموال ، فاستوفوا بذلك جميع شعب الدين ، عظم سبحانه شأنهم بقوله : ( أولئك ) أي العهالو الهمم ) هم ) أي خاصة ) المؤمنون ( وأكد مضمون الجملة بقوله : ( حقاً ( ولما كانت صفاتهم الخمس المذكورة المشتملة على الأخلاق ولأعمال لها تأثيراتفي تصفية القلوب وتنويرها بالمعارف الإلهية ، وكلما كان المؤثرأقوى كانت التأثيرات أعلى ، فلما كانت هي درجات كان جزاؤها كذلك ، فلهذا قال سبحانه تعالى في جوابمن كأنه قال : فما جزاؤهم على ذلك ؟ ) لهم درجات ( ولما كثرها بجمع السلامة بما دل عليه سياق الامتنان ، عظمتها بقوله : ( عند ربهم ) أي بتسليمهم لأمره ولما كان قدر الله عظيماً ، وكان الإنسان عن بلوغ ما يجب عليه من ذلك ضعيفاً حقيراً ، وكان بأدنى شيء من أعماله يستفزه الإعجاب ، أشار سبحانه إلى أنه لا يسعه إلا العفو ولو بذل فوق الجهد فقال : ( ومغفرة ) أي لذنوبهم إن رجعوا عن المنازعة في الأنفال وغيرها ، ) ورزق كريم ) أي لا ضيق فيه ولا كدر بوجه ما من منازعة ولا غيرها ، فهو يغنيهم عن هذه الأنفال ، ويملأ أيديهم من الأموال من غنائم فارس والروم وغير ذلك ، هذا في الدنيا ، واما في الآخرة فما لا يحيط به الوصف ؛ قال أبو حيان : لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وهي الوجل وزيادة الإيمان والتوكل - وبدنية ومالية ، ترتب عليها ثلاثة أشياء ، فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات والبدنية بالغفران ، وقوبلت المالية بالرزق الكريم ، وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البديع - انتهى .
ولما كان الإيمان عند الشافعي رحمه الله الإعتقاد والإقراروالعمل جوز أن يقال : مؤمن إن شاء الله ، لأن استيفتاء الأعمال مشكوك فيه وإن كان الإعتقاد والإقرار يقيناً ، وعند أبي حنيفة رحمه الله الإيمان الإعتقاد والإقرار فقط ، فلم الاستثناء ، فالخلاف ، لفظي ، هذا إذا(3/185)
صفحة رقم 186
كان الاستثناء للشك ، وإن كان لغيره كان لكسر النفس عن التمدح ، وللشهادة بالجنة التي هي للمؤمن ، وللحكم على حالة الموت ، على أن هذه الكلمة لا تنافي الجزم ، فهي بمجرد التبرك كقوله تعالى
77 ( ) لتدخين المسجد الحرام إن شاء الله آمنيين ( ) 7
[ الفتح : 27 ] ذكر ذلك الإمام فخر الدين .
ولما كان ترك الدنيا شديداً على النفس ، وترك النزاع بعد الانتساب فيه أشد ، شرع يذكر لهم ما كانوا له كارهين ففعله بهم وأمرهم به لعلمه بالعواقب فحمدوا اثره ، ليكون ادعى لتسليمهم لأمره وازدجارهم بزجره ، فشبه حال كراهتهم لترك مرادهم في الأنفال بحال كراهتهم لخروجهم معه ثم بحال كراهتهم للقاء الجيش دون العير ، ثم إنهم رأوا أحسن العاقبة في كلا الأمرين فقال : ( كما ) أي حالهم في كراهية تسليم الأنفال - مع كون التسليم هو الحق والأولى لهم - كما كانت حالهم إذ ) أخرجك ربك ) أي المحسن إليك بالإشارد إلى جميع مقاصد الخير ) من بيتك بالحق ) أي الأمر الفيصل الفاروق بين الثابت والمزلزل ) وإن ) أي والحال أن ) فريقاً ( عبر به لأن آراءهم كانت تؤول إلى الفرقة ) من المؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان ) الكارهون ( ثم ذكر دليل كراهتهم فقال : ( يجادلونك ) أي يكررون ذلك إرادة أن يفتلوك عن اللقاء للجيش إلى الرجوع عنه ولما كان الجيش امراً قد حتمه الله فلا بد من وقوعه مع أنه يرضيه ، قال : ( في الحق ) أي الذي هو إيثار الجهاد ) بعد ما تبين ) أي وضح وضوحاً عظيماً سهلاً من غير كلفة نظر بقرائن الأحوال بفوات العير وتيسير أمر النفير وبإعلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لهم تارة صريحاً وتارة تلويحاً كقوله ( والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ، هذا مصرع فلان وذلك مصرع فلا ) ولما كان سبحانه قد حكم باللقاء والنصرة تأييداً لوليه وإعلاء لكلمته مع شدة كراهتهم لذلك ، شبه سوقه لهم إلى مراده .
فقال بانياً للمفعول لأن المكروه إليهم السوق لا كونه من معين : ( كأنما يساقون ) أي يسوقهم سائق لا قدرة لهم على ممانعته ) إلى الموت وهم ينظرون ( لأنها كانت أول غزوة غزاها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان لقاء ، كانوا غير متأهبين للقتال غاية التأهب ، إنما خرجوا للقاء العير ، هذا مع أنهم عدد يسير ، وعدد أهل النفير كثير ، وكانوا في غاية الهيب للقائم والرعب من قتالهم ، وكل هذا تذكير لهم لم ينصرهم إلا الله بلا صنع منهم ، بل كانوا في يد قدرته كالآية في يد أحدهم ، لينتج ذلك أنه ليس لهم أن ينازعوا في الأنفال(3/186)
صفحة رقم 187
ولما لانوا بهذا الخطاب ، وأقبلوا على الملك التواب ، أقبل عليهم فقال : ( وإذ ) أي اذكروا هذا الذي ذكره الله لكم وقد كان حالكم فيه ما ذكره ، ثم أقضى إلى سعادة عظيمة وعز لا يشبه عز ، واذكروا إذ ) يعدكم الله ) أي الجامع لصفات الكمال ) إحدىالطائفين ( : العير أو النفير ، وأبدل من الإحدى - ليكون الوعد بها مكرراً - قوله : ( إنها لكم ) أي فتكرهون لقاء ذات الشوكة ) وتودون ) أي والحال أنكم تحبون محبة عظيمة ) أن غير ذات الشوكة ) أي السلاح والقتال والكفاح الذي به تعرف الأبطال ويميز بين الرجال من ذوات الحجال ) تكون لكم ) أي العير لكونها لم يكن فيها إلا ناس قليل ، يقال : إنهم أربعون رجلاً ، جهلاً منكم بالعواقب ، ثم تبين لكم أن ما فعله الله خير لكم بما لا يبلغ كنهه ، فسلموا له الأمر في السر والجهر تنالوا الغنى والنصر ، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير العاصي في مناسبة تعقيب الأعراف بهذه السورة ومناسبة آخر تلك لأول هذه ما نصه : لما قصَّ سبحانه على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في سوة الأعراف أخبار الأمم ، وقط المؤمنون من مجموع ذلك بأنه لا يكون الهدى إلا بسابقه السعادة ، لافتتاح السورة من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام ، وكلاهما كفر على علم ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه ، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتى منه على علم بلعام بقوله سبحانه ( ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فأشار سبحانه إلى اتباع الأهواء اضل كل ضلال ، نبهوا على ما فيه الحزم من ترك الأهواء جملة فقال تعالى
77 ( ) يسألونك عن الأنفال ( ) 7
[ الأنفال : 1 ] الآية ، فكان قد قيل لهم : اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم ، وفوضوا في أمره لله وللرسول ، فذلك أسلم لكم وأحزم في درع أغراضكم وقمع شهواتكم وترك أمور ربكم وقد ألف في هذه الشريعة السمحة البيضاء حسم الذرائع كثيراً وإقامة مظنة الشيء مقامه كتحريم الجرعة من الخمر والقطرة ، والخطبة في العدة واعتداد النوم الثقيل ناقضاً ، فهذه مظان لم يقع الحكم فيها على ما هو لأنفسها ولا بما هي كذا ، بل بما هي مظان ودواع لما منع لعينه أو استوجب حكماً لعينة وعلته الخاصة به ، ولما أمر المسلمون بحل أيديهم عن الأنفال يوم بدر إذ كان المقاتلة قد هموا بأخذها وحدثوا أنفسهم بالأنفراد بها ورأوا أناه من حقهم وأن من لم يباشر قتالاً من الشيوخ ومن انحاز منه لمهم فلا حق له فيها ، ورأى الآخرون أيضاً أن حقهم فيها ثابت لأنهم كانوا فيه للمقاتلين عدة وملجأ وراء ظهورهم ، كان ما أمرهم الله به من تسليم الحكم في ذلك إلى الله رسوله من باب حسم الذرائع لأن تمشية أغراضهم في ذلك - وإن تعلق كل من الفريقين بحجة - مظنة لرئاسة النفوس واستسهال اتباع الأهواء ، فامرهم الله بالتنزه عن ذلك والتفويض الله ولرسوله فإن ذلك أسلم لهم وأوفى لدينهم وأبقى في إصلاح ذات(3/187)
صفحة رقم 188
البين وأجدى في الأتباع
77 ( ) فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ( ) 7
[ الأنفال : 1 ] الآية ، ثم ذكروا بما ينبغي لهم يلتزموا فقال تعالى
77 ( ) إنما المؤمنون - إلى قوله : زادتهم إيماناً ( ) 7
[ الأنفال : 2 ] ثم نبهوا على ان أعراض الدنيا من نفل أو غير لا ينبغي للمؤمن ان يعتمد عليه اعتماداًيدخل عليه ضراراً من الشرك أو التفاتاً إلى غير الله سبحانه بقوله : ( وعلى ربهم يتوكلون ( ثم ذكروا بما وصف به المتقين من الصلاة والإنفاق ثم قال ) أولئك هم المؤمنون حقاً ( تنبيهاً علىأن من قصر في هذه الأحوال ولم يأت بها على كمالها لم يخرج عن الإيمان ولكن ينزل عن درجة الكمال بحسب تقصيره ، وكان في هذا إشعار بعذرهم في كلامهم في الأنفال وأنهم قد كانوا في مطلبهم على حالة من الصواب وشرب من التمسك والأتباع ، ولكن اعلى الدرجات ما بين لهم ومنحوه ، وأنه الكمال والفوز ، ثم نبههم سبحانه بكيفيه أمرهم في الخروج إلى بدر وودهم أن غير ذات الشوكة تكون لهم وهو سبحانه يريهم حسن العاقبة فيما اختاره لهم ، فقد كانوا تمنوا لقاء العير ، واختاروا ذلك على لقاء العدو ولم يعملوا ما وراء ذلك
77 ( ) ويريد اله ان يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ( ) 7
[ الأنفال : 7 ] إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم ونبههم على ما يثبت يقينهم ويزيد في إيمانهم ، ثم أعلم أن الخير كله في التقوى فقال :
77 ( ) ياأيها الذين آمنوا غن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ( ) 7
[ الأنفال : 29 ] الاية ، وهذا الفرقان هو الذي حرمه إبليس وبلعام ، فكان منهما ما تقدم من اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة ، وقد تضمنت الآية حصول خير الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء ، ثم أجمل الخيران معاً في قوله
77 ( ) والله ذو الفضل العظيم ( ) 7
[ الأنفال : 29 ] بعد تفصيل ما إليه إسراع المؤمنين من الفرقان والتكفير والغفران ، ولم يقع التصريح بخيري الدنيا الخاص بها اقتضاء الآية إياه تنزيهاً للمؤمن في مقام إعطاء الفرقان وتكفير السيئات ، والغفران من ذكر متاع الدنيا التي هي لهو ولعب فلم يكن ذكر متاعها الفاني ليذكر مفصلاً مع ما لا يجانسه ولا يشاكله
77 ( ) وإن الدار الآخرة لهي الحياة ( ) 7
[ العنكبوت : 64 ] ثم التحمت الآي ، ووجه آخر وهو أنه تعالى لما قال ) وإذ قرئ القرآن فاستمعوا له ( بيَّن لهم كيفية هذا الاستماع وما الذي يتصف به المؤمن من ضروبه فقال
77 ( ) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله ( ) 7
[ الأنفال : 2 ] الآية : فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط ، ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا قلوب لا يفقهون بها ، ولو كانوا كذا لما وجلت وعمهم الفزع والخشية وزادتهم الايات إيماناً ، فإذا إنما يكون سماع المؤمن هكذ
77 ( ) ولا تكونوا كالذين قالواسمعنا وهم لا يسمعون ( ) 7
[ الأنفال : 21 ] ولما كان هؤلاء إنما أتى عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع اعراضهم وشهواتهم
77 ( ) يأخذون(3/188)
صفحة رقم 189
عرض هذا الأدنى ( ) 7
[ الأعراف : 169 ]
77 ( ) ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ( ) 7
[ الأعراف : 176 ] وهذه بعينها كانت آفة إبليس ، رأى لنفسه المزيد واعتقد لها الحق ثم اتبع هذا الهوى حين قال
77 ( ) لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون ( ) 7
[ الحجر : 33 ] فلما كان اتباع الهوى أصلاً في الضلال وتنكب الصراط المستقيم ، أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء ، والتسليم فيم لهم به تعلق وغن لم يكن هوى مجرداً لكنه مظنه تيسير لا تباع الهوى ، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال وأخبروا أنها لله ورسوله ، يحكم فيها ما يشاء ) فاتقوا الله ( واحذروا الأهواء التي اهلكت من قص عليكم ذكره ) وأصلحوا ذات بينكم ( برفع التنازع ، وسلموا لله ولرسوله ، وإلا لم تكونوا سامعين وقد أمرتم أن تسمعوا السماع الذي عنه ترجى الرحمة ، وبيانه في قوله ) إنما المؤمنون ( - الآيات ، ووجه آخر وهو أن قصص بني إسرائيل عقب بوصاة المؤمنين وخصوصاً بالتقوى وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بني إسرائيل / ففي البقرة أتيع قصصهم بقوله
77 ( ) يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ( ) 7
[ البقرة : 104 ] ولما كان قصصهم مفتتحاً بذكر تفضيلهم ) يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ( افتتح خطاب هذه الأمة بما يشعر بتفضليهم ، وتأمل مابين ) يابني إسرائيل ( ) ويأيها الذين آمنوا ( وأمر أولئك بالإيمان
77 ( ) وآمنوا بما أنزلت ( ) 7
[ البقرة : 41 ] وأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل
77 ( ) وقولوا انظرنا واسمعوا ( ) 7
[ البقرة : 104 ] ثم أعقبت بقوله تعالى ؛
77 ( ) يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ( ) 7
[ آل عمران : 100 ] ثم أعقبت السورة بقوله
77 ( ) يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ( ) 7
[ النساء : 1 ] وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة ، وذلك ان سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار
77 ( ) هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ( ) 7
[ النساء : 51 ] فهذا بهت ، ومنها قولهم
77 ( ) الله فقير ونحن أغنياء ( ) 7
[ آل عمران : 181 ] إلى ما تخلل هاتين من الآيات المنبئة عن تعمدهم الجرائم ، فعدل عن ) يأيها الذين آمنوا ( إلى ) يأيها الناس ( ليكون أوقع في الترتيب وأوضح مناسبة لما ذكر ، ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى ) فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات ( - إلى قوله :
77 ( ) وأكلهم أموالناس بالباطل ( ) 7
[ النساء : 160 - 161 ] أتعبت بقوله تعالى
77 ( ) يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ( ) 7
[ المائدة : 51 ] ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه(3/189)
صفحة رقم 190
أولئك ، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعرافمن قصصهم جملة ، وبين فيها اعتداءهم ، وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأغراض ، طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة ، فقيل في آخر السورة
77 ( ) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشياطين تذكروا ( ) 7
[ الأعراف : 201 ] ثم افتتحت السورة الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تشيت يقيم عذرهم شرعاً فيما كان منهم ، فكان قد قيل لهم : ترك هذا أعلم وأبعد عن اتباع الأهواء ، فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله واتقوا الله ، ثم تناسج السياق والتحمت الآي ، وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه ، والحمد لله - انتهى .
ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم بل ودادتهم إنما كانت منصبة إلى العير لا إلى النفير ، تبين أنه لا صنع لهم فيما وقع إذ لو كان لكان على ما أرادوا ، فلا حظ لهم في الغنيمة إلا ما تقسمه الله لهم لأن الحكم لمراده لا لمراد غيره ، فقال تعالى عاطفاً على ) وتودون ( : ( ويريد الله ) أي بما من العز والعظمة والعلم ) أن يحق الحق ( اي يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب ، وهو هنا إصابة ذات الشوكة ) بكلماته ) أي التي أوحاها إلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون ، وأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، ليعلي دينه ويظهر أمره على كل أمر ) ويقطع دابر ) أي آخر ) الكافرين ) أي كما يقطع أولهم ، اي يستأصلهم بحيث لا يبقى منهم أحد ليكون ما وعدكم به من إعلاء الدين وقمع المفسدين بقطع دابرهم ) ليحق الحق ( ي الذي هو دينه القيم وفيه فوز الدارين ) ويبطل الباطل ( وهو كل ما خالفه ) ولو كره ) أي ذلك ) المجرمون ( اي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويكسر قوتهم بضعفكم ويفني كثرتهم بقلتكم ويمحق عزهم بذلتكم فيظهر علو أمره ويخضع الأعناق لذكره ) إذ ( ظرف ) ليحق الحق ( ) تستغثون ربكم ) أي تطلبون إغاثة المحسن إليكم ، وهو بدل من ) إذ يعدكم ( فهو من البيان لكرامتهم لقاء ذات الشوكة بشدة جزعهم الموجب لهم الاستغاثة مع إسفار العاقبة عن أن الخير فيما كرهوه ، وأنه أحق الحق وأظهر الدين وأوهن أمر المشركين ولما أسرع سبحانه الإجابة ، دل على ذلك بقوله : ( فاستجاب ( اي فأوجد الإجابة إيجاد من هو طالب لها شديد الرغبة فيها ) لكم ( بغاية ما تريدون تثبيتاً لقلوبكم ) إني ) أي بأني ) ممدكم ( اي موجد المدد ( لكم ) اي بإمدادكم ، ولعله حول العبارة لما في التصريح بضميره من العظمة والبركة ) بألف من الملائكة ( حال كونهم ) مردفين ) أي متبعين بأمثالهم .(3/190)
صفحة رقم 191
الأنفال : ( 10 - 13 ) وما جعله الله. .. . .
) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ( )
ولما كانت نصرة المسلمين في هذه الغزوة ظاهرة جداًقال : ( وام جعله الله ( اي الإمداد والوعد به ماله سبحانه من العظمة التي من راقبها لم يهب شيئاً ) إلا بشرى ) أي لتستبشر به نفوسكم ، ولم يحتج إلى تقييد بأن يقال : لكم ، وأما في قصة أحد فقد كان المقتول منهم اكثر من المقتول من الكفار فلولا قوله ( لكم ) لربما طرق بعض الأوهام حين سماع أول الكلام أن الإمداد بشرى للكفار ولما كان الذي وقع الحكم به هنا على الإمداد أنه بشرى نفسه من غير قيد ، علم أن العناية به أشد ، فكان المحكوم به الطمأنينة كذلك ، فكان أصل الكلام : إلا بشرى هو وطمأنينة هو ، فلذلك وبجب تقديم ضميره في قوله ( به ) على القلوب تأكيداً لأمره وتفخيماً لشأنه ، وإشارة إلى إتمامه على عادة العرب في تقديم ماهم به أعنى وهو عندهم أهم فقال : ( ولتطمئن ) أي وطمأنينة لتطمئن ) به ) أي وحده من غير نظر إلى شيء من قوتكم ولا غيرها ) قلوبكم ( فالآية من الاحتباك ، وأما في قصة أحد فلما قيدت البشرى بالإمداد بلكم لما تقدم ، علم الطمأنينة كذلك ، فكان الأنسب تأخير ضميره وتقديم القلوب الملابسة لضميرهم موازنة لقوله ( لكم ) ولما كان ذلك مفهماً أن النصر ليس إلا بيده وأن شيئاً من الإمداد أو غيره لا يوجب النصر بذاته ، صرح به في قوله : ( وما النصر ) أي حاصلاً وموجوداً بالملائكة وغيرهم من الأسباب ) إلا من عند الله ) أي لأن له وحده صفات الكمال ، فما عنده ليس منحصراً في الإمداد بالملائكة فالنصر وإن كان بها فليس من عندها ، فلا تعتمدوا على وجودها ولا تهنوا بفقدها اعتماداً عليه سبحانه خاصة ، فإن ما عنده من الأسباب لا ييحط به علماً ، هذا إذا أراد النصر بالأسباب ، وإن أراد بغير ذلك فعل فكان التعبير بعند الإفهام ذلك ولما كانت هذه الغزوة في أول الأمر ، وكانوا بعد بروز الوعد الصادق لهم بإحدى الطائفتين كارهين للقاء ذات الشوكة جداً ، ثم وقع لهم ما وقع من النصر ، كان المقام(3/191)
صفحة رقم 192
مقتضياً لإثبات عزة الله وحكمته على سبيل التأكد إعلاماً بأن صفات الكمال ثابتة له دائماً ، فهو ينصر من صبر واتقى بعزته ، ويحكم أمره على أتم وجه بحكمته ، هذا فعله دائماً كما فعل في هذه الغزوة فلذلك قال معللاً لما قبله مؤكداً : ( إن الله ) أي الملك الأعظم ) عزيز ) أي هو في غاية الامتناع والقهر لمن يريد قهره أزلاً وأبد .
لا يغلب ولا يحوج وليه إلى زيادة العدد ولا نفاسه العدد ) حكيم ) أي إذا قضى أمراً كان في غاية الإتقان والإحكام ، فلا يستطيع أحد نقص شيء منه ، هذا له دائماً فهو يفعل في نصركم هكذامهما استأنستم إلى بشراه ولم تنظروا إلى قوتكم ولا غيرها مما سواه فلا تقلقوا إذا امركم بالهجوم على البأس ولو كان فيه لقاء جميع الناس ولما أكد هنا ، لم يحتج إلى إعادة تأكيده في آل عمران فقيل
77 ( ) العزيز الحكيم ( ) 7
[ آل عمران : 126 ] أي الذي أخبركم عن عزته وحكمته في غزوة بدر بما يليق بذلك المقام من التأكيد ، وأخبركم أنكم إن فاديتم الأسرى قتل منها في العام المقبل مثل عددهم ، فوقوع الأمر على ما قال مغن عن التأكيد ، ولم يكن أحد من المسلمين في أحد متردداً في اللقاء ولا هائباً له الإ ما وقع من الهم بالفشل نت الطائفتين والعصمة منه في الحال ، وقد مضى في آل عمران لهذا مزيد بيان ولما ذكر البشرى والطمأئنية بالإمداد ، ناسب أن يذكر لهم أنه أتبع القول العفل فألقى في قلوبهم بعزته وحكمته الطمأنينة والأمن والسكينة بدليل النعاس الذي غشيهم في موضع هو أبعد الأشياء عنه وهو موطن الجلاد ومصاولة الأنداد والتيقظ لمخاتلة أهل العناد ، وكذا المطر وأثره ، فقال مبدلاً أيضاً من ) إذ يعدكم ( أو معلقاً بالنصر لمخاتلة أهل قراءة ابن كثير وابي عمرو فالفاعل ) النعاس ( وضم الباقون الياء ، وأسكن نافع الغين وفتحها الباقون وشددوا الشين المكسورة ، فالفاعل في القراءة الأولى مفعول هنا ، والفاعل ضمير يعود على الله ولما ذكر هذه التغشية الغريبة الخارقة للعوائد ، ذكر ما فعلت لأجله فقال : ( أمنة ( ولما كان ذلك خارقاً للعادة ، جاء الوصف بقوله : ( منه ( اي بجكمته لأنه لا ينام في مثل تلك الحال إلا الآمن ، ويمنع عنكم العدو وأنتم نائمون بعزته ، ولم يختلف فاعل ، الفعل المعلل في القراءات الثلاث لأن كون النعاس فاعلاً مجاز ، ويصح عندي نصبها على الحال ولما كان النعاس آية الموت ، ذكر بعده آية الحياة فقال : ( وينزل عليكم ( وحقق كونه مطراً بقوله : ( من السماء ماء ( ووقع في البيضاوي وأصله وكذا تفسيراً أبي حيان(3/192)
صفحة رقم 193
أن المشركين سبقوا إلى الماء وغلبوا عليه ، وليس كذلك بل الذي سبق إلى بدر وغلب على مائها المؤمنون كما ثبت في صحيح مسلم وغيره ، فيكون شرح القصة أنم مطروا في المنزل الذي ساروا منه إلى بدر فحصل للمسلمين منه ما ملؤوا منه اسقيتهم فتطهروا من حدث أو جنانهة ولبد لهم الرمل ذلك سبباً لسبق المسلمين لهم إلى المنزل وتمكينهم من بناء الحياض وتغور ما وراء الماء الذي نزلوا عليه من القلب كما هو مشهور في السير ، ويكون رجز الشيطان وسوسته لهم بالقلة والضعف والتخويف بكثرة العدو ، والربط على القلوب طمأنينتهم وطيب نفوسهم بما أراهم من الكرامة كما يوضح ذلك جميعية قول ابن هشام ) وينزل عليكم من السماء ( ماء للمطر الذي أصابهم تلك الليلة ، فحبس المشركين أن يسبقوا إلى الماء وخلى سبيل المؤمنين إليه ) ليطهركم به ) أي من كل درن ، وابتدأ من فوائد الماء بالتطهير لأنه المقرب من صفات الملائكة المقربين من حضرات القدس وعطف عليه - بقوله : ( ويذهب عنكم ) أي لا عن غيركم ) رجز الشيطان ( بغير لام ما هو لازم له ، وهو العبد الذي كان مع الحدث الذي منه الجنابة المقربة من الخبائث الشيطانية بضيق الصدر والشك والخوف لإبعاد من الحضرات اللائكة ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب ) والرجز يطلق على القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك ، فقد كان الشيطان وسوس لهم ، ولا شك أن وسوسته من اعظم القذر فإنها تجر من تمادى معها غلى كل ما ذكر ؛ ثم عطف عليه ما تهيأ له القلب من الحكم الإلهية وهو إفراغ السكينة فقال : ( وليربط ) أي بالصبر واليقين ولما كان ذلك ربطاً محكماً غالباً عالياً ، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال : ( على قلوبكم ) أي بعد إسكانها الوثوق بلطفه عند كل ملمة حتى امتلأت من كل خير وثبت فيها الربط ، فشبهها بجراب ملئ شيئاً ثم ربط رأسه حتى لا يخرج من ذلك الذي فيه شيء ، وأعاد اللام إشارة إلى أنه المقصد الأعظم وما قبله وسيلة غليه وعطف عليه بغير لام لازمه من التثبيت فقال : ( ويثبت به ) أي بالربط بالمطر ) الأقدام ) أي لعدم الخوف فإن الخائف لا تثبت قدمه في المكان الذي يقف به ، بل تصير رجله تنتقل من غير اختيار أو بتلبيد الرمل ولما ذكر حكمه الإمداد وما تبعه من الآثار المثبتة للقلوب والإقدام ، ذكر ما أمربه المدد من التثبيت بالقول والفعل فقال : ( إذ ( بدلاً ثالثاً من ) إذ يعدكم ( أو ظرفاً ليثبت ) يوحي ربك ) أي المحسن إليك بجميع ذلك ) إلى الملائكة ( وبين النصر منه لا من المدد بقوله : ( أني معكم ) أي ومن كنت معه كان ظافراً بجميع مأموله ) فثبتوا ( اي(3/193)
صفحة رقم 194
بسبب ذلك ) الذين آمنوا ) أي بأنواع التثبيت من تكثير سوادهم وتقوية قلوبهم وقتال اعدائهم وتقليلهم في أعينهم وتحقير شأنهم ؛ ثم بيّن المعية بقوله : ( سألقي ) أي بوعد لا خلف فيه ) في قلوب الذين كفروا ) أي اوجدوا الكفر ) الرعب ( فلا يكون لهم ثبات ) فاضربوا ) أي أيها المؤمنون من الملائكة والبشر غير هائبين بسبب ذلك ولما كان ضرب العنق والراس أوحى مهلك اللأنسان ، وكان النق يستر في الحرب غالباً ، عبر بقوله : ( فوق الأعناق ) أي الرؤوس أو أعالي الأعناق منهم لأنها مفاصل ومذابح ولما كان إفساد الأصابع أنكى ما يكون بعد ذلك لأنه يبطل قتال المضروب أو كمال قتاله ، قال : ( اضربوا منهم كل بنان ) أي فإنه لا مانع من ذلك لكوني معكم ، ثم علل تسليطهم عليهم بقوله : ( فوق الأعناق ( اي الرؤوس أو أعالي الأعناق منهم لأنها مفاصل ومذابح ولما كان إفساد الأصابع أنكى ما يكون بعد ذلك لأته يبطل قتال المضروب أو كمال قتاله ، قال : ( وأضربوا منهم كل بنان ) أي فإنه لا مانع من ذلك لكوني معكم ، ثم علل تسليطهم عليهم بقوله ، ) ذلك ( اي التسليط العظيم ، وأخبر عنه بقوله : ( بأنهم ) أي الذي تلبسوا الآن بالكفر ولو كانوا ممن يقضي بايمانه بعد ) شاقوا الله ) أي الملك الأعلى الذي لا يطاق انتقامه ) ورسوله ) أي طلبوا ان يكونا بمخالفة الأوامر والنواهي في شق غير الذي فيه حزب الهدى في مكر منهم وخداع ، وشاقوه ياشتهار السيف جهراً - ثم بين ما الفاعل ذلك ، فقال عاطفاً على تقديره : فمن شاق الله ورسوله فافعلوا به ذلك ، فإني فاعل به ما فعلت بهؤلاء ، وأظهر الإدغام في المضارع لأن القصة للعرب وأمرهم في عدواتهم كان بعد الهجرة شديداً ومهاجرة ، وادغم في الماضي لأن ما مضى قلبها كان ما بين مساترة بالمماكرة ومجاهرة بالمقاهرة ، وعبر بالمضارع ندباً إلى التوبة بتقييد الوعيد بالاستمرار ، وأدغم في الحشر في الموضعين لأن القصة لليهود وأمرهم كان ضعيفاً ومساترة في مماكرة : ( ومن يشاقق الله ) أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ويشاقه سراً أو جهراً ) ورسوله ( بان يكون في شق غير الشق الذي يرضيانه ) فغن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) شديد العقاب ) أي له هذه الصفة ، فليتوقع مشاققة عذابه ، فالآية من الاحتباك : ذكر الفعل المدغم أولاً دليل على حذف المظهر ثانياً ، والمظهر ثانياً على حذف المدغم أولاً .
ولما ختم الآية ببيان السبب الموجب لإهانة الذين كفروا وبما له من الوصف العظيم ، أتبعه ما يقول لهم لبيان الحال عند ذلك بقوله التفاتاً إليهم لمزيد التبكيت والتوبيخ .
الأنفال : ( 14 - 21 ) ذلكم فذوقوه وأن. .. . .
) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ(3/194)
صفحة رقم 195
الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ) 73
( ) 71
ذلكم ) أي هو سبحانه بما له من هذا الوصف الهائل يذيق عدوه من عذابه ما لا طاقة لهم به ولا يدان ، فيصير لسان الحال مخاطباً لهم نيابة عن المقال : الأمر الذي حذرتكم نه الرسل واتتكم به الكتب وكنتم تستهزئون به أيها الكفرة هو هذا الأمر الشديد وقعه البعيد على من ينزل عليه دفعه دهمكم ، فما لكم لا تدفعونه كلا والله شغل كلاًّ ما قابله ولم يقدر أن يزاوله ولما كان ما وقع لهم في وقعة بدر من القتل والأسر ولبقهر يسيراً جداً بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة ، سماه ذوقاً لأنه يكون بالقليل ليعرف به حال الكثير فقال : ( فذوقوه ( اي باشروه قهراً مباشرة الذائق واعلموا أنه بالنسبة إلى ما تستقبلونه كالمذوق بانسبة إلى المذوق لأجله ) وأنَّ ) أي والأمر الذي اتتكم به الرسل والكتبأن لكم مع هذا الذي ذقتموه في الدنيا ، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال : ( للكافرين ) أي الذي كفرهم وإن لم يظهروا المشاققة ) عذاب النار ( وهو مواقعكم وهو أمبر وسترون ولما قرر إهانتهم في الدنيا والآخرة بما حسر عليهم القلوب ، حسن أن يتبع ذلك نهي من ادعى الإيمان عن الفرار منهم وتهديد من نكص عنهم بعد هذا البيان وهو يدعي الإيمان فقال : ( يأيها الذين آمنوا ) أي بما أتاهم من عند ربهم ) إذا لقيتم الذين كفروا ) أي بآيات ربهم فشاققوه ، وعبر عن حال لقائهم بالمصدر مبالغة في التشبيه فقال : ( زحفاً ) أي حال كونهم زاحفين محاربين وهم من الكثرة بحيث لا يدرك من حركتهم - وغن كانت سريعة - إلا مثلل الزحف ) فلا تولوهم الأدبار ) أي هرباً منهم وإن كنتم اقل منهم ) ومن يولهم ( ولما كان الأغلب في وقوع القتال النهار ، وكان التولية مما لا يكون الظرف معياراً له لأنها مما لا يمتد زمنه ، فالعصيان يقع النهار ، بمجرد الالتفات بقصد الفرار ، والتمادي تكرير بعد الفر مع عدم الالتباس ، فإن الظرف لا يكون معياراً للفعل إلا إذا كان ممتد الزمان كالصوم فقال ) يومئذ ) أي إذ لقيتم على هذه الحالة في ايّ وقت كان من أوقات القتال من ليل كان أو نهار ) دبره ) أي يجعل ظهره إليهم لشيء من الأشياء تولية(3/195)
صفحة رقم 196
لا يريد الإقبال إلى القتال منها ) إلا ( حال كونه ) متحرفاً ( أو الحال التحرف ، وهو الزوال عن جهة الاستواء ) لقتال ) أي لا يتسهل له إلا بذلك يخيل إلى عدوه انه منهزم خداعاً له ثم يكر عليه ) أو متحيزاً ) أي منتقلاً من خيز إلى آخر ومنتجاً ) إلى فئة ) أي جماعة أخرى من أهل حزبه هم أهل لآن يرجع إليهم ليستعين بهم أو يعينهم ولما كان هذا محل توقع السامع للجواب وتفريغ ذهنه له ، أجاب رابطاً بالفاء إعلاماً بان الفعل المحدث عنه سبب لهذا الجزاء فقال : ( فقد باء ) أي رجع ) بغضب من الله ( اي الحائز لجميع صفات الكمال ) ومأواه جهنم ) أي تتجهمه كما أنه هاب تجهم الكفار ولقاء الوجوه العابسه بوجه خكالح عابس ) وبئس المصير ( هذا إذا لم يزيد الكفار عن الضعف - كما سياتي النص به .
ولما تقدم إليهم في ذلك ، علل بتقرير عزته وحكمته ، وأن النصر ليس إلامن عنده ، فمن صح إيمانه لم يتوقف عن امتثال أوامره ، فقال مسبباً عن تحريمه الفرارل وإن كان العدو كثيراً ، تذكيراً بما صنع لهم في بدر ، ليجريهم على مثل ذلك ، ومنعاً لهم من الإعجاب بما كان على أيديهم في ذلك اليوم من الخوارق ) فلم تقتلونهم ) أي حلّ على المدبر الغضب لأنه تبين لكل مؤمن أنه تعالى لا يأمر أحداً إلا بما هو قادر سبحانه على تطويقه له ، فإنه قد وضح مما يجري على قوانين العوائد أنكم لم تقتلوا قتلى بدر وإن تعاطيتم أسباب قتلهم ، لأنكم لم تدخلوا قلوب ذلك الجيش العظيم الرعب الذي كان سبب هزيمتهم التي كانت سبب قتل من قتلتم ، لضعفكم عن مقاومتهم في العادة ، وفيه مع ذلك زجر لهم عن اي يقول أحد منهم على وجه الافتخار : قتلت كذا وكذا رجلا~ً وفعلت كذا ) ولكن الله ) أي الذي له الأمر كله فلا يخرج شيء عن مراده ) قتلهم ) أي بأن هزمهم لكم لما رأوا الملائكة وامتلأت أعينهم من التراب الذي رماهم به ( صلى الله عليه وسلم ) وقلوبهم جزعاً حتى تمكنتم من قتلهم خرق عادة كان وعدكم بها ، فصدق مقاله وتمت أفعاله ولما رد ما باشره إليه سبحانه ، أتبعه ما باشره نبييه ( صلى الله عليه وسلم ) دلالة على ذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما راى قريشاً مقبلة قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، فقال جبرائيل عليه السلام : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، ففعل فملأت أعينهم فانهمزوا فقال : ( وما رميت ) أي ياسيد المؤمنين الرمل في أعين الكفار ) إذ(3/196)
صفحة رقم 197
رميت ) أي اوقعت صورة قذفه من كفك ، لأن هذا الأثر الذي وجد عن رميك خارق للعادة ، فمن الواضح انه ليس فعلك ، وهذا هو الجواب عن كونه لم يقل : فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ، لأن زهوق النفس عن الجراح المثخن هو العادة ، فهم الذين قتلوهم حين باشروا ضربهم ، فلا يصح : فلم تقتلوهم حتى قتلتموهم ، والمنّفي إنما هو السبب المتقدم على القتل الممكن من القتل ، وهوتسكين قلوبهم الناشئ عند إقدامهم وإعاب المفار الناشئ عند ضعفهم اونهزامهم الممكن منهم ، فالمنفي عنهم البداية والمنفي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) الغاية ، أو أن الملائكة عليهم السلام لما باشرت قتل بعضهم صح أن ينفي عنهم قتل المجموع مطلقاً ، أو أنهم لما افتخر بعضهم يقتل من قتل نفاه سبحانه عنهم مطلقاً لأن مباشرتهم لقتل من قتل في جنب ما أعد لهم من الأسباب وأيدهم به من الجنود عدم ، وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه فعل ما أمر به من رمي الرمل ولم يعد فعله ولا ذكره ، فأثبته سبحانه له مع نفي تأثيره عنه وإثباته لمن إليه ترجع الأمور تأديباً منه سبحانه لهذه الأمة ، أي لا عالم مقر بأنه منا فليحذر الذي أوصل أثره بما كان نسب الرمي إليه بقوله : ( ولكن الله ( اي الذي لا راد لأمره ) رمى ( لأنه الذي أوصل أثره بما كان هازماً للكفار ، فعل ذلك كله ليبلي الكفار منه بأيدي من أراد من عبادة بلاء عاقبته سيئة ) وليبلي المؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان ) منه ) أي وحده ) بلاء حسناً ) أي من النصر والغنيمة والأجر ، ومادة بلاء يائية بكثرة ومحالة وعناء وهو أغلب أحوال المادة ، وتارة تكون مطلقة نحو أبلاه عذراً ، وتارة وما أباليه بالة - اظنة من البال الذي هو الخاطر فهو من بول لا بلو ، أجوف لا من ذوات الأربعة ، ومعناه : ما أفاعله بالبال ، اي ما أكثرت به فما أصرف خاطري إلى مخالطة أحواله حيث يصرف خاطره إليّ أي ما أفكر في أمره لهوانه عليّ وسيأتي بسط معاني المادة إن شاء الله تعالى في سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى
77 ( ) ما بال النسوة ( ) 7
[ يوسف : 50 ] وهذه المادة معناها ضد الدعة ، لأن هذه يلزمها شغل الخاطر الذي عنه ينشأ التعب بمدافعة الملابس ، والدعة يلزمها هدوء السر وفراغ البال الذي هو منشأ الراحة ، لأنه يفضي بهم إلى راحة دائمة ، والدعة تقضي إلى تعب طويل - والله موفق .(3/197)
صفحة رقم 198
ولما ثبت بما مضى أن له تعالى الأفعال العظيمة والبطشات الجسمية .
ودلت أقوال من قال من المؤمنين : إنا لم نتأهت للقاء ذات الشوكة ، على ضعف العزائم ؛ ختم الآية بقوله : ( إن الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ) سميع ) أي لأقوالكم من الاستعانة في المعونة على النصرة وغيرها ) عليم ) أي بعزائمكم وإن لم تتكلموا بها ، فهو يجازي المؤمن على حسب إيمانه والكافر على ما يبدي ويخفي من كفرانه ، الأمر ) ذلكم ( العظيم الشأن البعيد المتناول الذي أمركم فيه بأوامره ونهاكم به عن مناهيه وأبلاكم فيه البلاء الحسن ، وأراكم بأعينكم توهينه لهذه الطائفة التي قصدتكم وأنتم عندها أكلة جزور وعصفور بين يدي صقور ، وبين لكم من علل ذلك وعجائب مقدوره مالم يبق معه عذر لمؤمن ، فألزمور طاعته وسابقوا في طاعة رسوله ولا تنظروا في عاقبة شيء مما يأمر به ، فإنه ما ينطق عن الهوى بل إنما يأمر عنا ، ونحن لم نأمر بشيء إلا بعد تدبيره على أحكم الوجوه وأتقنها ) وأنَّ ) أي والأمر أيضاً أن ) الله ) أي الحاوي لجميع صفات العز والعظمة ) موهن ( اي مضعف إضعافاً شديداً ثابتاً دائماً ابداً ) كيد الكافرون ( اي الراسخين في الكفر جميعهم ، فلا تهنوا في ابتغاء القوم وإن نالكم قرح فإنا نجعله لكم تطهيراً وللكافرين تدميراً والعاقبة للتقوى ، فنطلعكم على عوراتهم ونلقي الرعب في قلوبهم ونفرق كلمتهم وننقص ما أبرموا ولما تضمن ذلك إيقاع الإهانة بالكفار بهذه الوقعة ، والوعد بإلزامهم الإهانة فيما يأتي ، كان ذلك مفصلاً للالتفات إلى تهديدهم في قالب استجلائهم والاستهزاء بهم وتفخيم أمر المؤمنين فقال : ( إن تستفتحوا ) أي تسأولوا الفتح أيها الكفار بعد هذا اليوم كما استفتحتم في هذه الحزبين في هذه الوقعة عند أخذكم استار الكعبة وقت خروجكم بقولكم : اللهم انصر أهدى الحزبين ، وأكرم الجندين ، وأعلى الفئتين ، وأفضل الدينين ، ووقت ترائي الجمعين ؛ بقول أبي جهل : اللهم اقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة ؛ أتاكم الفتح كما أتاكم في هذا اليوم ) فقد جاءكم ( اي في هذا اليوم بنصر المؤمنين ) الفتح ( اي الذي استفتحتم له لأنهمك الفئتين وأكرم الطائفتين ) وإن تنتهوا ) أي بعد هذا عن مثل هذه الأقوال والأفعال المتضمنه للشك أو العناد ) فهو خير لكم ( وقد رأيتم دلائل ذلك ) وإن تعودوا ) أي إلى المغالبة لأنكم لم تنتهوا ) نعد ) أي إلى خذلانكم ) ولن تغني عنكم ) أي أبداً ) فئتكم ( اي جماعتكم التي ترجعون إليها للاعتزاز بها ) شيئاً ) أي من الإغناء ) ولو كثرت ( لأن الله على الكافرين ) وأنَّ الله ( اي الملك الأعظم ) مع المؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان ، ولعله عبر المستقبل في الشرط والماضي في الجزاء إشارة إلى أنكم استفتحتم في بدر وجاءكم من الفتح ما رأيتم ، فإن(3/198)
صفحة رقم 199
كان أعجبكم فألزموه في المستقبل ، فإني لا أجيئكم أبداً ما دمتم على حالكم إلا بما جئتكم به يومئذ ، والفتح يحتمل أن يكون بمعنى النصر فيكون تهكماً بهم ، وأن يكون بمعنى القضاء ولما كان سبب ما أحله بالكفار - من الإعراض عن إجابتهم فيما قصدوا من دعائهم ومن خذلانهم في هذه الوقعة وإيجاب مثل ذلك لهم أبداً - هو عصيانهم الرسول وتوليهم عن قبول ما يسمعونه منه من الروح ؛ حذر المؤمنين من حالهم بالتمادي في التنازع في الغنيمة أو غيرها فقال : ( يأيها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك ) اطيعوا الله ) أي الذي له جميع العز والعظمة ) ورسوله ( تصديقاًلدعواتكم الإيمان ولما كانت طاعة الرسول هي طاعة الله لأنه إنما يدعوه إليه وإنما خلقه القرآن ، وحد الضمير فقال : ( ولا تولوا عنه ) أي عن الرسول في حال من الأحوال ، في أمر من الأوامر من الجهاد وغيره ، من الغنائم وغيرها ، خف أو ثقل ، سهل أو صعب ) وأنتم ( اي والحال أنكم ) تسمعون ) أي لكم سمع لما يقوله ، أو وأنتم تصدقونه ، لأنه ارتماب شيء من ذلك يكذب دعوى الإيمان وينطبق علىأحوال الكفار ، وإلى ذلك إشارة بقوله : ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا ) أي بآذاننا ) وهم لا يسمعون ) أي لا يستجبون فكأنهم لم يسمعوا ، لما انتفت الثمرة عد المثمر عدماً .
الأنفال : ( 22 - 24 ) إن شر الدواب. .. . .
) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ( )
ولما كانت حال من هذا شأنه مشابهة لحال الأصم في عدم السماع لعدم الانتفاع به ، والأبكم في عدم كلامه لعدم تكلمه بما ينفع ، والعادم للعقل في عدم عقله لعدم انتفاعه به ، قال معللاً لهذا النهي معبراً بأنسب الأشياء لما وصفهم به : ( إن شر الدواب ( اي التي على وجه الأرض ، جعلهم من جنس الحشرات أو البهائم ثم جعلهم شرها ولما كان لهم من يفضلهم ، وكانت العبرة بما عنده سبحانه ، قال تعالى : ( عند الله ( اي الذي له جميع الكمال من إحاطة العلم والقدرة وغيرها ) الصم البكم ( اي الطرش الخرس طرشاً وخرساً بالغين ) الذين لا يعقلون ) أي لا يتجدد لهم عقل ، ومن لم ينتفع بسماع الداعي كان كذلك(3/199)
صفحة رقم 200
ولما كان ذلك دعا السامع إلى أن يقول .
ما للقادر لم بمن هذا شأنه إلى الخير ؟ أجاب بأنه جبلهم من أول الأمر - وله أن يفعل في ملكه ومُلكه ما يريد - جبلة عريقة في الفساد ، وجعل جواهرهم شريرة كجوهر العقرب التي لا تقبل التأديب بوجه ولا تمر بشيء إلا لبسته ، فعلم سبحانه أنه لا خير فيهم فتركهم على ما علم منهم ) ولو علم الله ( أيب الذي له الكمال كله ) فيهم خيراً ) أي قبولاً للخير ) لأسمعهم ) أي إسماعاً هو الإسماع ، وهو ما تعقبه الإجابة المستمرة ولما كان علم الله تعالى محيطاً ، وجب أن يعلم كل ما كان حاصلاً ، فكان عدم علمه بوجود الشيء من لوازم عدمه ، فلا جرم كان التقدير هنا : ولكنه لم يعلم فيهم خيراً ، بل علم أنه لا خير فيهم فلم يسمعهم هذا الإسماع ) ولو أسمعهم ( وهم على هذه الحالة من عدم القابلية للخير إسماعاً قسرهم فيه على الإجابة ) لتولوا ) أي بعد إجابتهم ) وهو معرضون ( اي ثابت إعراضهم مرتدين على أعقابهم ، ولم يستمروا على إجابتهم لماة جلبوا عليه من ملاءمة الشر ومباعدة الخير ، فلم يريدوا الإسلام وأهله بعد إقبالهم إلا وهناً ، وكما كان لأهل الردة الذين قتلوا مرتدين بعد أن كانوا دخلوا في الإسلام خوفاً من السيف ورغبة في المال وهو من وادي
77 ( ) ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ( ) 7
[ الأنعام : 28 ] فإن علم الله تعالى أربعة أقسام : جملة الموجودات ، وجملة المعدومات ، وأن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً كيف يكون حاله ، وأن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً كيف يكون حاله ، والقسمان الأولان علم بالواقع ، والآخر علم بالقدر ، والآية من القسم الأخير ، ولعمري إنا دفعنا إلى أغلب من فيه على قريب من هذا الأمر ، أجرأ الناس على الباطل ، وأثبتهم في المصاولة فيه ، وأوسعهم حبلاً في التوصيل إليه ، وأجبنهم عند الدعوة إلى الحق ، وأسرعهم نكوصاً عند الإقدام بعد جهد عليه ، وألكنهم عند الجدال له ، فصار ما كان مقدراً مفروضاً حاصلاً وموجوداً ، وكلمة ) لو ( هنا يحتمل أن تكون هي التي يعلق بها أمر على آخر هو بضده أولى فيكون المراد ان المعلق .
وهو الثاني - موجود دائماً مثل قول عمر رضي الله عنه : نعم العبد صهيب رضي الله عنه لو لم يخف الله لم يعصه ، فالمراد هنا على هذا أنهم إذا كانوا يتولون مع الإسماع والإجابة ، فتوالهم مع عدمهما أولى - نبه على ذلك الرازي ، ويحتمل أن يكون على بابها من أن الجزءين بعدها منفيان ، وانتفاء التولي إنما يكون خيراً إذا نشأ عن الإسماع المترتب على علم الخير فيهم ، وأما عدمه لعدم إسماعهم الإسماع الموصوف لأنه لا خير فيهم فليس من الخير في شيء بل هو مخص ، التولي المنفي عنهم ليس هو الموجود منهم ، بل هو الناشئ عن الإسماع الموصوف فلا يناقض(3/200)
صفحة رقم 201
ادعاؤه عنادهم وعدم انقيادهم ، وتحقيقه أن النفي إنما هو زيادة التولي الناشئة عن الإسماع ، فالمعنى : ولو أسمعهم لزادوا إعراضاً ، فالمنفي في هذا السياق تلك الزيادة - والله الموفق ولماكان ما مضى من نكال الكافرين مسبباً عن عدم الاستجابة ، أمر المؤمنين بها تحذيراً من الكون الكفرة في مثل حالهم فيحشروا معهم في مآمهم فقال : ( يأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ) استجيبوا ) أي صدقوا دعواكم ذلك بإيجاد الإجابة إيجاد من هو في غاية الرغبة فيها ) الله ) أي واجعلوا إجابتكم هذه خاصة للذي له جميع صفات الكمال ) وللرسول ( الذي أرسله إلى جميع الخلق ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) يدعوهم لا محالة لأن الله تعالى أمره بدعائهم ، وكان لا يدعوهم إلا إلى ما أمره الله به ، وكان سبحانه لا يدعون إلا إلى صلاح ورشد ؛ عبر بأداة التحقيق ووحد الضمير وشوق بإثمار الحياة فقال : ( إذا دعاكم ) أي الرسول بالندب والتحريض ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب ، نبه على ذلك باللام دون ( إلى ) فقال : ( لما يحييكم ( اي ينقلكم بعز الإيمان والعلم عن حال الكفرة من الصمم والبكم وعدم العقل الذي هو الموت المعنوي إلى الحياة المعنوية ، ولا يعوقكم عن الاستجابه في أمر من الأمور أن تقولوا : إنا استجبنا إلى الإيمان وكثير من شرائعه ، فلولا أن ربنا علم فينا الخير ما أسمعنا ، فنحن ناجون ؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي سعيد ابن المعلي رضي الله عنه قال ( كنت أصلي فمر بي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتي ؟ فقلت كنت أصلي ، فقال : ( ألم يقل الله ) يأيها الذين آمنوا استجيبوا ( ( - الآية ، ثم قال : ( لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ، ( فذهب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليخرج فذكرت له فقال : ( هي ) الحمد لله رب العلمين ) [ الفاتحة : 1 ] ( هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) وللترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج على أبي بن كعب رضي الله عنه فقال رسول الله صلى الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : السلام عليك يارسول الله فقال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا أبيّ ( وهويصلي ، فالتفت ابيّ فلم يجبه وصلى أبيّ فخفف ، ثم انصرف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وعليك السلام ، ما منعك ياأبيّ أن تجيبني إذ دعوتك ، ( فقال : رسول الله إني كنت في الصلاة ، قال : ( فلم تجد فيما أوحي الله إليّ أن ) استجيبوا الله وللرسول غذا دعاكم لما(3/201)
صفحة رقم 202
يحييكم ( ) [ الأنفال : 24 ] قال : بلى ولا أعود إن شاء الله قال : ( تجب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ؟ ( قال : نعم ، يا رسول الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كيف تقرأ في الصلاة ؟ ( قال : فقرأ أم القرآن ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ( - هذا حديث حسن صحيح ولما كان الإنسان إذا كان على حالة يستعبد جداً أن يصبر على غيرها ، قال تعالى مرغباً مرهباً : ( واعلموا أن الله ) أي الذي له جميع العظمة ) يحول ) أي بشمول علمه وكمال قدرته ) بين المرء وقلبه ( فيرده إلى ما علم منه فيصير فيما كشفه الحال كافراً معانداً بعد أن كان في ظاهر الحال مؤمناً مستسلماً فيكون ممن علم الله أنه لا خير فيه وقسره على الإجابة فلم يستمر عليها ، ويرد الكافر بعد عناده إلى الإيمان بغاية ما يرى من سهولة قيادة ، فكنى سبحانه بشدة القرب اللازم للحيلولة عن شدة الاقتدار على تبديل العزائم والمرادات ، وهو تحريض على المبادرة إلى اتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما دامت القلوب مقلبة على ذلك خوفاً من تغييرها ولما خوفهم عاقبة الحال ، حذرهم شأن المآل فقال : ( وأنه ) أي واعلموا أنه تعالى ) إليه تحشرون ( لا إلى غيره ، فيحشر المستجيبين في زمرة المؤمنين ، والمعرضين في عداد الكافرين وإن أبوا حكماً واحداً ، لأن الدين لا يتجرأ ، وقدم علم أن ) إذا ( ليست قيداً وإنما هي تنبيه على وجوب اتباعه في كل ما يدعو إليه لعصمته ، وحكمه الإتيان بها الإعلام بأنه ما ترك خيراً إلا دعا إليه ؛ قال الحرالي في أواخر كتاب له في أصوال الفقه : ولها - أي العصمة - معنيان : أحدهما عصمة الحفظ ، وهومعنى ينشأ من التزام الحكم عليه بماضي شرعته ، وهي العصمة العامة للأنبياء ، وفي هذه الرتبة يقع الكلام في الحفظ من الصغائر بعد الاتفاق على الحفظ عما يخل بالتبليغ ويحط الرتبة والكبائر ، وحقيقة الصغائر مقدمات الذنوب التي لم تتم ، فيكون تمامها كبيرتها ، وعلى ذلك بنى قوم احتمال وقوع الفعل محظوراً من نبي ، وكل ذلك - وإن كان من أحوال انبياء - فإن المتحقق من أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما هو علو عن هذا المحل ؛ المعنى الثاني من العصمة رفع الحكم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما حفظه الحافظ من ماضي ظاهر شرعته وبما بلغ إليه فهمه من مبادئ التنشؤ من سننه ، واتخاذ فعله مبدأ للأحكام في كل آن من غير(3/202)
صفحة رقم 203
التفات لما تقرر في ماضي الزمان ، وهذه هي العصمة الخاصة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) الجامع ، فلا يكون لفعله حكم إلا ما يفهمه إنباؤه عن حال وقوعه ، ويكون الأحكام تبعاً لفعله ، لا أن فعله يتبع حكماً فهذا وجه عصمته الخاصة الممتنع عليها جواز الخروج عنها ، فمن كان يسبق إليه من أكبار الصحابة نحو من هذا المعنى لا يتوقف في سيء من أمره من كالصديق رضي الله عنه وكما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في اقتدائه حتى في إدارة راحلته وصبغة بالصفرة ولبسه النعال السبتية ونحو ذلك من أمره من جذا منهم هذا الحذو ، ومن كان يتوهم الحكم عليه بمقتضى علمه وفهمه عن الله عنه لما كان يصلي بإمضاء عمل الصلاة إذ دعاه حتى بين له قصور قهمه عن الله في حقه أي بقوله : ألم تسمع الله يقول ) استجيبوا لله وللرسول ( وكالذي قال : انزل فاجدع لنا ، فقال : إن عليك نهاراً ، فقال له في الثالثة أو الرابعة : انزل فاجدع لنا ويلك أو ويحك فإذا وضح أن فعله مبدأ الحكم ومعلم الإنباء لزم صحة التأسي به على مطلق التأسي مع إبهام رتبة الحكم والاتكال على ما عنده هو ( صلى الله عليه وسلم ) من العلم ، فنية التأسي به على إبهام في الحكم ربما كان أتم من العمل بما تبين حكمه ، أحرم علي رضي الله عنه وهو باليمن ، توجه إلى مكه بإحرام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يتطرق لشيء من أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بما وقع من كونه يفتي بأمرثم يوافق في غيره ، لأن الآخذ في ذلك عن قصور في العلم بمكانته من علم رحمانيهة الله وكلمته وتنزيله إلى موافقة أمر سنة الله وحكمته نحو الذي أفتاه بتفكير الجهاد كل ذنب بناء على علمه برحمانية الله وإمضاء كلمته ، ثم ذكر له ما قال جبرائيل عليه السلام من استثناء الدين الدين مما أنزل على حكم أمر الله في محكم شرعته وسنته ، يعني - والله أعلم - أن من صح جهاده تكفر كل ذنوبه ، وأن توقف الدين على إرضاء الله لخصمه ، فالإخبار بالكفارة ناظر إلى الله ، وردهم ، إلى وردهم غلى عادة دنياهم حين حين لم يتجشموا الصبر إلى ظهور كلمة الله على مستمر عادته ، فقد عمل بأول فتياه غير واحد ممن لم يتسرب في نفاد حكمه وصحته فأحق ثمرات ثلاث سنين ثم عاد - في غنى عن التلقيح - إلى أحسن من حاله في متقدم عادته ، ولا يتقاصر عن إدراك ذلك من أمره في كل نازلة من نحوه إلا من لم يسم به التأييد إلى معرفة حظ من مكانته ، فإذا وضح ذلك فكل فعل فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كان بياتاً لواجب فهو منج من عقاب الله ، وإن كان تعليماً لقربي من الله فهو وصلة إلى محبة الله كما قال تعالى
77 ( ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( ) 7
[ آل(3/203)
صفحة رقم 204
عمران : 31 ] وإن لم يتضح له مجمل منهما تأسى بها على إبهام بغنيه علمه وتعلموا به نيته ، وما كان مختصاً به فلا بد من إظهار أمر اختصاصه بخطاب من الله سبحانه أو منه عليه السلام كما قال تعالى ) ) خالصة لك من دون المؤمنين ( ) [ الأحزاب : 50 ] - انتهى .
الأنفال : ( 25 - 27 ) واتقوا فتنة لا. .. . .
) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( ( )
ولما كان لمجيب ربما قال : ليس عليّ إلا الإجابة في خاصة نفسي ، وليس عليّ تعلايض نفسي اللأذى بالأحد على يد غيري ، نَّبه سبحانه على أن ذلك منابذة للدين واجتثاث له من أصله ، لأن ترك العاصي على عصيانه كترك الكافر على كفرانه ، وذلك موجب لعموم البلاء ، ومزيد القضاء فقال تعالى : ( ةاتقوا فتنة ) أي بلاء مميلاً محيلاً إن لا تتقوه يعمكم ، هكذا كان الأصل ، لكن لما كاننهي الفتنة على إصابتهم أروع من سوق ذلك مساق الشرط ومن نهيهم عن التعريض لها لما فيه من تصوير حضورها وفهمها للنهي اتى به ، ولما كان نهيها عن تخصيص الظالم أشد روعة لإفهامه ، أمرها يأن تعم ؛ قال مجيباً للأمر : ( لا تصيبن ( ولحقه نون التأكيد لأن فيه معنى النهي ) الذين ظلموا ( اي فعلوا بموافقة المعصية ما لا يفعله إلا من لا نور له ) منكم ( أيها المأمورن بالتقوى ) خاصة ( اي بل تعمكم ، فهو نهي للفتنة والمراد نهي مباشرتها ، أي لا يفعل أحد منكم الذنب يصبكم أثره عموماً أو لا يباشر أسباب العذاب بعضكم والبعض الاخر مقر له يعمكم الله به ، وذلك مثل : لا أرينك هاهنا ، والمعنى فكن هاهنا فأراك فالتقدير : واجعلوا بينكم وبين البلاء العام وقاية بإصلاح ذات بينكم واجتماع كلنتكم على أمر الله ورد من خالف إلى أمر الله ولا تختلفواكما اختلفتم في أمر الغنيمة فتفشلوا فيسلط عليكم عذاب عام من أعدائكم أو غيرهم ، فإن كان الطائع منكم أقوى من العاصي أو ليس أضعف منه فلم يرده فقد اشترك الكل في الظلم ، ذلك بفعله وهذا برضاه ، فيكون العذاب عذاب انتقام للجميع ؛ روى أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترميذي عن أبي الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها : أيها الناس إنكم تقرؤن هذه الآية وتأولونها على خلاف تأويلها ) ) يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسهم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم ( ) [ المائدة : 105 ] إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله(3/204)
صفحة رقم 205
بعذاب من عنده ) وللترمذي وحسنه عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيد لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ) وللأمام أحمد عنه رضي الله عنه أنه قال : لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتخاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعاً بعذاب أو ليؤمرن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم .
وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي ، فإن كان الطائع أضعف من العاصينزل على ما روى أبو داود والترمذي - وحسنه - وابن ماجه عن أبي ثعلبه الخشني رضي الله عنه أنه قيل له : ( كيف تقول في هذه الآية
77 ( ) عليكم أنفسكم ( ) 7
[ المائدة : 105 ] فقال : أما والله لقد سألت عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودينا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر ، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خميسين رجلاً يعملون مثل عمله ، ( قال : يارسول الله أجر خمسين رجلاً منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ( والأحاديث في مثله كثيرة ، وحينئذ يكون العذاب للعاصي نقمة وللطائع رحمة ويبعثون على نياتهم ولما حذرهم سبحانه عموم البلاء ، أتبعه الإعلام بأنهه قادر مربوب ليلزموا سبيل الاستقامه فقال : ( واعلموا أن الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات العظمة ) شديد العقاب ( ولما كان من أشد العقاب الإذال ، حذروهموه بالتذكير بما كانوا فيه من الذل ، لأنه أبعث على الشكر وأزجر عن الكفر فقال : ( واذكروا ( وذكر المفعول به فقال : ( إذ أنتم ) أي في أوائل الإسلام ) قليل ) أي عددكم(3/205)
صفحة رقم 206
ولما كان وجود مطلق الاستضعاف دالاً على غاية الضعف بنى للمفعول قوله : ( مستضعفون ) أي لا منفذ عندكم ) في الأرض ( أطلقها والمراد مكة ، لأنها لعظمها كأنهات هي الأرض كلها ، ولأن حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك ، ولذلك عبر الناس في قوله : ( تخافون ) أي في حال اجتماعكم فكيف عند الانفراد ) أن يتخطفكم ) أي على سبيل التدريج ) الناس ) أي كما تتخطف الجوارح الصيود ، فحذرهم سبحانه - بالتنبيه على قادر علىأن يعيدهم إلى ما كانوا عليه - من هذه الأحوال بالمخالفة بين كلمتهم وترك التسبب إلى اجتماعها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أنهم لما كانوا في تلك الحالة التي هي في غاية الضعف ، وكانت كلمتهم مجتمعه على أمر الله الذي هو توحيده وطاعة رسوله ، أعقبهم الإيواء في دار منيعة ، قد ايدهم بالنصر وأحسن رزقهم ، وذلك معنى قوله تعالى مسبباً عما قلبه : ( فآوكم ) أي في دار الهجرة رحمة لكم ) وأيدكم بنصره ) أي بأهلها مع الملائكة ) ورزقكم من الطيبات ( اي الغنائم الكاملة الطيبة بالإحلال وعدم المنازع التي لم تحل لأحد قبلكم وغيرها ) لعلكم تشكرون ) أي ليكون حالكم حال من يرجى شكره ، فيكون بعيداً عن المنازعه في الأنفال ، وذلك إشارة إلى أنهم مهما استمروا على تلك الحالة ، كان - بإقبالهم على مثل ما أتاهمبه وزادهم من فضله - أن جعلهم سادة في الدارين بما يهب لهم من الفرقان الآتي في الآية بعدها والتوفيق عند إتيانه ، فالآية منصبة إلى الصحابه بالقصد الأول وهي صالحة للعرب عاش شقياً ومن مات منهم تردى في النار معكوفين على رأس الحجرين الشديدين : فارس والروم ، يؤكلون ولا يأكلون ، وما في بلادهم شيء عليه يحسدون حتى جاء ملوكاً على قارب الناس ، وبالسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم يحب شكره والشاكر في مزيد من الله تعالى ولما ختم الآية هو في غاية النصيحة منه تعالى لهم من الإيواء والنصر والرزق الطيب المشار به إلى الامتنان بإحلال المنعم ، وختم ذلك بالحث على الشكر ؛ نهانا عن تضيع الشكر في ذلك بالخيانة في أوامره بالغلول أو غيره فقال : ( يأيها الذين آمنوا ( الأعظم ، فإن أصل الخون النقص ثم استعمل في ضد الأمانه والوفاء فصارت نقصاً خاصاً ) والرسول ( بغلول ولا غيره ، بل أدوا الأمانه في جميع ذلك ، ولعله كرر العامل(3/206)
صفحة رقم 207
في قوله : ( وتخونوا آماناتكم ( من الفرائض والحدود والنوافل وغيرها إشارة إلى أن الخيانتين مختلفان ، فخيانتهم لله حقيقة ، وخيانتهم للأمانه استعارة ، لأن حاملها لما أخلَّ بها كان كأنه خانها ؛ وخفف عنهم بقوله : ( وأنتم تعلمون ( حال الغفلة ونحوها ، ويجوز أن يكون المفعول غير مراد فيكون المعنى : وأنتم علما ، ويكون ذلك مبالغة في النهي عنها بأنهم جديرون بأن لا يقبل منهم عذر بجهل ولا نسيان لأنهم علماء ، والعالم هو العارف بالله ، والعارف لا ينبغي أن ينفك عن المراقبة .
الأنفال : ( 28 - 30 ) واعلموا أنما أموالكم. .. . .
) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ( )
ولما كان سبب الخيانة غالباً محبة المال أو الولد ، وكان سبب التقاول المسبب عنه إنزال هذه السورة - كما سلف بيانه أولها - الأموال من الأنفال ، وكان من أعظم الخيانة في الأنفال الغلول ، وكان الحامل على الغلول المحنة بحب جمع المال إما استلذاذاً به أو لإنفاقه على محبوب ، وكان الولد أعز محبوب ؛ حسن كل الحسن إيلاء ذلك قوله : ( واعملوا ( وهي كلمة ينبه بها السامع علىأن ما بعدها مهم جداً ) أنما أموالكم ( قلّت أو جلّت هانت أو عزّت ) وأولادكم ( كذلك ) فتنة ) أي سببها ، يفعل الله بها فعل المختبر لينكشف للعباد من يغتر بالعاجل الفاني ممن تسمو نفسه عن ذلك ، فلا يحملنكم ذلك على مخالفة أمر الله فتهلكوا ) وأن الله ) أي الميحط بكل كمال ) عنده أجر عظيم ( عاجلاً وآجلاً لمن وقف عند حدوده ، فيحفظ له ماله ويثمر أولاده ويبارك له فيهم مع ما يدخر له في دار السعادة ، وعنده عذاب أليم لمن ضيعها ، فأقبوا بجميع هممكم إليه تسعدوا ، وزاد وضعها هنا حسناً سبب نزول التي قبلها من قصة أبي لبابة رضي الله عنه الحامل عليها ماله وولده ، وكانت قصته في قريظة سنة خمس وغزوة بدر في السنة الثانية ولما ذكرهم ما كانوا عليه قبل الهجرة من الضعف ، وامتنّ عليهم بما أعزهم به ، وختم هذه بالتحذير من الأموال والأولاد الموقعة في الردى ، ويتعظيم ما عنده الحامل على الرجاء ، تلاها بالأمر التقوى الناهية عن الهوى بالإشارة إلى الخوف من سطواته إشارة إلى أنه يجب الجمع بينهما ، وبين تعالى أنه يتسبب عنه الأمن من غيره في الأولى والنجاة من عذابه في الأخرى فقال تعالى : ( يأيها الذين آمنوا ( تكريراً لهذا الوصف(3/207)
صفحة رقم 208
تذكيراً بما يلزم بادعائه ) إن تتقوا الله ( بإصلاح ذات بينكم ، وذلك جامع لأمر الدين كله ) يجعل لكم فرقاناً ) أي نصراً ، لأن مادة ( فرق ) ترجع إلى الفصل ، فكأن الشيء إذا كان متصلاً كان كل جزء منه مقهوراً على ملازمة صاحبه ، فإذا جعل له قوة الفرق قدر على الاتصال والانفصال ، فحقيقة : يجعل لكم عزاً تصيرون به بحيث تفترون ممن اردتم متى اردتم وتتصلون بمن أرتم متى أردتم لما عندكم من عزة الممانعة ، وتفرقون بين من أردتم متى أردتم لما لديكم من قوة المدافعة ، اي يجعل لكم ما يصير لكم به قوة التصرف فيما تريدون من الفصل والوصل الذي هو وظيفة السادة المرجوع إلى قولهم عند التنازع ، لا كما كنتم في مكة ، لا تأمنون في المقام ولا تقدرون على الكلام - فضلاً عن الخصام - إلا على تهيب شديد ، ومع ذلك فلا يؤثر كلامكم اضراً يسمى به فارقاً والفاروق من الناس الذي يفرق بين الأمور ويفصلها ، وبه سمي عمر رضي الله عنه لأنه أظهر الإسلام بمكة إظهاراً فيه عز وقوة ، جعل فيه الإيمان مفارقاً للكفر لا يخافه ، وفرق - بالكسر بمعنى خاف - يرجع إلى ما دارت عليه المادة ، فإن المراد به : تفرقت همومه من اتساع الخوف ، والفرق الذي هو المكيال الكبير كأنه هو الفارق بين الغني والفقير ، قال الهروي : هو اثنا عشر مداً : وأفرق من علته - إذا برئ ، اي صارت له حالة فرقت بين صحته ومرضه الذي كان به ، ومنه الفريقه وهي تمر وحلبة يطبخ للنفساء ؛ وقرفت الشيء - بتقديم القاف : قشرته ، والقرف : الخلط ، كأنه من الإزالة ، لأنهم قالوا : إن ( فعل ) يدخل في كل باب ، ومنه : قرف الشيء واقترافه : اكتسبه ، والاقتراب بمعنى الجماع ، ويمكن أن يرجع إلى الوعاء لأن القرف الوعاء ، لأنه يفصل مظروفه عن غيره ، وفلان قرفني ، اي موضع ظني منه كأنه صار وعاء لذلك ، وفرس مقرف ، أي بيّن القرفة ، أي هجين لأنه واضح التميز من العربي ، وقرف بسوء : رمى به ، أي جعل وعاء له أو فرق همومه ؛ والقفر - بتقديم القاف : المكان الخالي لانفصاله من الناس ، وأقفر المكان : خلا ، وأقفر الرجل من أهله : انفرد عنهم ، وقفر الطعام : خلا من الأدم ، ورجل قفر الرأس : لا شعر عليه لانفصاله عنه ، وقفر الجسد : لا لحم عليه ، والقفار : الطعام لا أدم له ، وافتقرت الأثر : حفرتها حفراً ، فصارت كل واحدة منفصلة من الأخرى ، والفاقرة : الداهية الكاسرة للفقار ، ومنه الفقر والافتقار للحاجة ، وأفقرني دابته : أعارني ظهرها ، وراميته من أدنى فقرة : من أدنى معلم لأن المعالم منفصل بعضها عن بعض ، والتفقر في رجل الدابة بياض لا نفصاله عن بقية لونها ، ورفقت بالأمر : لطفت به ، ولا(3/208)
صفحة رقم 209
يكون ذلك إلا بفصله عما يضره ، ومنه الرفيق للصاحب من الرفقة ، والمرفق من ذلك لما يحصل به من اللطف ولما كان الإنسان محل النقصان فلا يخلو من زلة أو هفوة ، أشار إلى ذلك بقوله : ( ويكفّر عنكم سيئاتكم ) أي يسترها ما دمتم على التقوى ) ويغفر لكم ) أي يمحو ما كان منكم غير صالح عيناً وأثراً ، وفيه تنبيه لهم على أن السادات على خطر عظيم لأنهم مأمورون بالمساواة بين الناس ، والنفس مجبولة على ترجيح من لاءمها على من نافرها ، وإشارة إلى أن الحكم بالعدل في اعلى الدرجات لا يتسمنه إلا الفرد النادر ، وقوله : ( والله ( اي المحيط بجيع صفات الكمال ) ذو الفضل العظيم ( مرّج للزيادة على الكفارة والمغفرة من فضلة ، ومعلم بأنه لا يمتنع عليه شيء ، فمن الممكن ان يلزم كلاً منهم طريق العدل وإن كانت من خرق العادة في أعلى محل ، وفي الاية أعظم مناسبة لقصة أبي لبابة رضي الله عنه لأنه لما كان الحامل له على ما فعل بنفسه من العقوبة التقوى ، فكفرت عنه خطيئته وغفر له ، عقبت بها ترغيباً لغيره في الإسراع بالتوبة عند مواقعة الهفوة ، وختم هذه الآية بالفضل على ما كان من نقص ، إشارة إلى تفضيله سبحانه بما رزق أهل الإسلام من علو المنزلة وانتشار الهيبة وفخامة الأمر في قلوب المخالفين كما هو مشاهد ، وختم الآية المحذورة من المداهنة بشديد العقاب ، إشارة غلى ما ألبسهم من الأحوال المذكروة في التي تليها من قلة منعتهم واستضعافهم وخوفهم من تخطف المخالفين لهم ، ولكنه تعالى رحمهم بأن جعل ذلك من بعضهم ممن يشمله اسم الإسلام لبعض ، لا من غيرهم فلبسهم شيعاً وأذاق بعضهم باس بعض ، فكل خائف من الآخر ، وصار المتقي من كثرة المخالف لا يزال من المعاطب والمتالف خائفاً يترقب ، ومباعداً لا يقرب ، على أنهم لا يعدمون أنصاراً يؤيدهم الله بهم ، ولا يزال أهل الظلم يختلفون فيما بينهم فيرجع الفريقان إليهم ويعولون عليهم ، فمن نصره فهو المنصور ، فكلامهم عند المضايق هو الفرقان ، ولهم في قلوب الظالمين هيبة وإن نزلت بهم الحال أكثر مما لظلمة في قلوبهم من الهيبة ليتيقن الكل أنهم على الحق الذي الله ناصره ، وأن أهل الشر على الباطل الذي الله خاذله ، قال الحسن البصري رحمه الله في حق العالين في الأرض : أما واللع إن للمعصية في قلوبهم لذلاً وإن طفطف بهم اللحم ، فقد انقسم الخوف بينهم نصفين وشتان ما بين الحزبين ، فخوفهم يزيدهم الله به أجراً ويجعله لهم ذخراً ، وخوف أهل الباطل يزيدهم به وزوراً ويجعله لدينه أزراً ، فهذه حقيقة الحال في وصف أهل الحق والمحال ولما وعد سبحانه بهذا الفضل العظيم والنبأ الجسيم ، ذكرهم من أحوال داعيهم(3/209)
صفحة رقم 210
وقائدهم وهاديهم عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام بما يدعوهم إلى ملازمة أسبابه في سياق المخاطبة له ( صلى الله عليه وسلم ) تذكيراً بنعمته وإشارة إلى دوام نصيبه فقال تعالى عاطفاً على ) إذ أنتم ( ) وإذ يمكر بك ( اي يدبر في أذاك على وجه الستر ) الذين كفروا ( اي أوجدوا هذا الوصف ، وفيهم من لم يكن راسخ القدم ؛ ثم بيّن غاية مكرهم فقال : ( ليثبتوك ( اي ليمنعوك من التصرف بالحبس في بينت يسدون عليك بابه - كما هو واضح من قصة مشاورتهم في دار الندوة في أمره ( صلى الله عليه وسلم ) في السير ، ومن قرأها بالموجدة ثم التحتانية من البيات الذي معناه إهلاك العدو ليلاً ، فعطفُ ) أو يقتلوك ( عنده بمعنى القتل نهاراً جهاراً ، وكأنه عد البيات للاستخفاء به عدماً بالنسبة غلى المجاهرة ) أو يخرجوك ) أي من مكة ) ويمكرون ) أي والحال أنهم يمكرون بإخفاء ما يريدون بك من فعل من يكر بإخفاء لأنه الملك الأعلى المحيط بالجلال والجمال ، فالنافذ إنما هو مكرُه ، والعالي إنما هو نصره ، فكأنه تعالى يقول : انظروا إلى مصداق ما وعدتكم به في أحوال نبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه كان وحده وجميع الناس يخالفونه فثبت على أداء الرسالة إليهم وإبلاغ النصيحة لهم على ما يصله منهم من الأذى ولا يزيده أذاهم له إلا اجتهاداً في أداء ما ينفهم إليهم .
الأنفال : ( 31 - 35 ) وإذا تتلى عليهم. .. . .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( ( )
ولما ذكر مكرهم بالرسول ، ذكر مكرهم بما ارسل به ، فقال عاطفاً على ( إذ أنتم ) : ( وإذا تتلى ) أي من أي تال فرض ) عليهم آياتنا ) أي التي هي الفرقان جلالة وعظماً لم يدعوها تؤثر في تلك الحالة ، بل ) قالوا ( غظهار لعنادهم لها وتشيعاً بما لم يعطوا وادعاء لما لمن ينالوا ) قد سمعوا ( ولما لم يتأثر عن سماعهم الإذعان ، تشوف السامع إلى علة إعراضهم فقال معللاً أو مستأنفاً : ( لو نشاء ( اي في أيّ وقت أردنا(3/210)
صفحة رقم 211
) لقلنا مثل هذا ) أي لأنه ليس قول الله كما يزعم محمد ) إن ) أي ما ) هذا ( الذي يتلى عليكم ) إلا أساطير ( جمع سطور وأسطار جمع سطر ) الأولين ( اي من بني آدم ، سطروافيها علومهم وأخبارهم فهو من جنس كلامنا وقائله من جنسنا ، وهذا غاية المكابرة لأنه قد تحداهم بقطعة من مثله إن كان له - كما يزعمون - مثل ، وبالغ في تقريعهم فما منعهم - من إبراز شيء مما يدعون وليس بينهم وبينه بزعمهم إلا أن يشاؤوا ، مع انتقالهم إلى أشد الأمور : السيف الماحق على تهالكهم على قهره ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى ما لهم من فرط الأنفه من العار والبعد مما يقضي عليهم بالغلب أو أن يوصفوا بالكذب - إلا علمهم بأن ذلك فاضحهم ، ومخزيهم مدى الدهر وقائحهم ، والمعنى أني أثبت هذا النبي الكريم على صبره على ذلك ومثابرته على أداء الأمانة بالاجتهاد في النصيحة على ما يلقي إن نجيته منهم ومنعته من جميع ما كادوا به ، وكنت لا أزل أؤيده باتباع من أعلم فيه الخير إلى أن هيأت له داراً وخبأت له أنصاراً ، وجعلت داره بالأصحاب منيعة ، وبنيت لها أعمدة بصوارم الأحباب ثابيته رفيعة ، نقلته غلى ذلك مع اجتهاد أهل العناد وهم جميع أهل الأرض في المنع ، فلم يؤثر كيدهم ، ولا أفادهم مع أيدي أيدهم ، وجعلت نفس نقلته له فرقاناً يفرق بها بين الحق والباطل ، وصار إلى ما ترون من قبول الأمر وجلالة القدر ونفاذ الفصل بين الأمور وظهر دينه أيّ ظهور ، فلا زموا التقوى ملازمته وداوموا على الطاعة مدوامته أهب لكم من سيادته وأحملكم بملابس إمامته .
ولما كان ذلك موضع عجب من عدم إعجال الضلاُ بالعذاب وإمهالهم إلى أن أوقع بهم في غزوة بدر لا سيما مع قوله ) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ( بيّن السر في ذلك وإن بالغوا في استعجاله فقال : ( وإذ قالوا ) أي إرادة المكابر بالنخييل إلى الناس أنهم على القطع من أنه باطل وإلا لما دعوا بهذا الدعاء ) اللهم ) أي يا من له تمام المُلك وعموم الملك ) إن كان هذا ) أي الأمر الذي أتانا به محمد ) هو ) أي لا ما نحن عليه ) الحق ( حال كونه منزلاً ) من عندك ( وقال الزجاج : إنه لا يعلم أحداً قرأ ) الحق ( بالرفع - أفاده أبو حيان ) فأمطر علينا حجارة ( ولعل تقييده بقوله : ( من السماء ( مع أن الأمطار لايكون إلا منها - لإزالة وهم من يتوهم أن الإمطار مجاز عن مطلق الرجم وأنه إنما ذكر لبيان أن الحجارة المرجوم بها في الكثرة مثل المطر ) أو ائتنا بعذاب أليم ) أي غير الحجارة ، ولعل مرادهم بقولهم ذلك الإشارة إلى أن مجئ الوحي إليك منها فأتنا بحجارة منها كما أتت الحجارة منها أصحاب الفيل صوناً من الله لبيته الذي أراد الجيس انتهاك حرمته وإعظاماً له - أشار إلى ذلك أبو حيان ، وهذه(3/211)
صفحة رقم 212
الآية والتي قبلها في النصر بن الحارث اسره المقداد يوم بدر فأمرالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله فقال المقداد : أسيري يا رسول الله فقال : ( إنه كان يقول في كتاب الله تعالى ما يقول ) ، فعاد المقداد رضي الله عنه لقوله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللهم أغن المقداد من فضلك ) ، فقال : ذاك الذي أردت يا رسول الله فقتله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنشد أخته قتيله أبياتاً منها :
ما كان ضرك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيط المخنق
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه ) .
وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة قال : أجهل من قومي قومك قالوا
77 ( ) إن كان هذا هو الحق من عند ( ) 7
[ الأنفال : 32 ] وما قالوا : فاهدنا به ، والسر الذي بينه في هذه الآية في أمهالهم هو أنه ما منعه من الإسراع في إجابة دعائهم كما فعل في وقعة بدر إلا إجلال مقامه ( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهرهم فقال : ( وما كان الله ) أي مع ما له من صفات الكمال والعظمة والجلال ، وأكد النفي بقوله : ( ليعذبهم ) أي ليجدد لهم ذلك في وقت من الأوقات ) وأنت ) أي يا أكرم الخلق ) فيهم ( فإنه لعين
تجازي ألف عين وتكرم
) وما كان الله ) أي الذي له الكمال كله ) معذبهم ) أي مثبتاً وصف تعذيبهم بحيث يدوم ) وهم يستغفرون ) أي يطلبون الغفران بالدعاء أو يوجدون هذا اللفظ فيقولون : أستفغر الله ، فإن لفظه وإن كان خبراً فهو دعاء وطلب ، فوجوده ( صلى الله عليه وسلم ) في قوم أبلغ من نفي العذاب عنهم ، وهذا الكلام ندب لهم إلى الاستغفار وتعليم لما يدفع العذاب عنهم كما تقول : ماكنت لأضربك وأنت تطيعني ، أي فاطيعني - نبه عليه الإمام أبو جعفر لبنحاس ، وفي ذلك حث عظيم لمن صار ( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهرهم من المسلمين صادقهم ومنافقهم على الرغبة في مواصلته والرهبة من مفارقته ، وتعريف لهم بما لهم في حلول ذاته المشرقه في ساحتهم من جليل النعمة ترغيباً في المحبة لطول عمره والاستمساك بعزره في نهيه وأمره إذ لمره - والله أعلم - بالاستغفار طلب المغفرة بشرطه من الإيمان والطاعة ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان في هذه الأمة أمانان ، أما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقد مضى ، وأما الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يو القيامه ولما كان هذا ليس نصاً في استحقاقهم العذاب ، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره :(3/212)
صفحة رقم 213
وليعذبهم الله إذ هاجرت عنهم ولم يؤمنوا فيستغفروا : ( وما لهم ( قال أبو حيان : الظاهر أن ( ما ) استفهامية ، أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب ، وهواستفهام معناه التقرير ، اي كيف لا يعذبون وهم متصفون بهذه الصفة المقتضية للعذاب وهي صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت - انتهى .
وتقدير الكلام : وأيّ حظ لهم في ) ألا يعذبهم الله ) أي الذي له كمال العز والعظمة على الظالم والإكرام وارفق بالطائع عاجلاً ) وهم ) أي والحال أنهم مستحقون للعذاب فهو واقع بهم لا محالة وإن تأخر مدة إبانه وأبطاناً عنهم أوانه وقوعاً ينسيهم ما نالوه من اللذات وإن عظم عندهم شأنها وامتد طويلاً زمانها لأنهم ) يصدون ( اي يوجدون الصد ) عن المسجد ) أي من أراد تعظيمه بالصلاة التي وضع المسجد لها وغيرها ) الحرام ) أي العظيم حرمته عند كل أحد فلا اختصاص به لشخص دون آخر ، أي شأنهم فعل حقيقة الصد في الماضي والحال والمآل ، لا ينفكون عن ذلك ، كما كانوا يمنعون من شاؤوا من دخول البيت ويقولون : نحن ولاته ، نفعل ما نشاء ، ويصدون المؤمنين عن الطواف به التعذيب والفتنة وصدوا رسول الله عليه وسلم ومن معه بالإخراج ثم صدوهم عام الحديبية عن الوصول إلى البيت وعام القضية عن الإقامة بعد الثلاثة الأيام ) وما ( اي والحال أنه لم يكن لهم ذلك لأنهم ما ) كانوا أولياء ) أي أهلاً لولايته بحيث إن صدهم ربما يقع موقعه ؛ روى البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه قال : قال أبو جهل :
77 ( ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( ) 7
[ الأنفال : 32 ] فنزلت
77 ( ) وما كان الله ليعذبهم ( ) 7
إلى
77 ( ) عن المسجد الحرام ( ) 7
[ الأنفال : 33 ] ولما نفى عنهم الولاية .
ذكر أهلها فقال ؛ ) إن ) أي ما ) أولياء ) أي بالاستحقاق ) إلا المتقون ) أي العريقون في هذا الوصف بما يجعلون بينهم وبين سخط الله من وقايات الطاعات ، لا كل من آمن بل خاصة المؤمنين ، وهم ليسوا كذلك لتلبسهم الآن بالكفر ) ولكن أكثرهم لا يعملون ( اي ليس لهم علم بالأمور ليميزوا بين الحق والباطل والمتقي والفاسق وحسن العواقب وسيئها ، ولعله عبر بالأكثر إعلاماً بأن فيهم المعاند ، ولأنه كان منهم من آمن بعد ذلك فصار من أولي العلم ولما كانوا يفعلون عند البيت البيت ما ينزه البيت عنه مما هو غاية في الجهل ، قال مبيناً لجهلهم واستحقاقهم للنكال وبعدهم عن استحقاق ولايته : ( وما كان صلاتهم ) أي التي ينبغي أن تكونمبينة على الشخوع ، وزاد في التبشيع عليهم بقوله : ( عند البيت ( أي(3/213)
صفحة رقم 214
فعلهم الذي يعدونه صلاة أو يبدلونها به ) إلا مكاء ) أي صفيراً يشبه صفير الطير والدبر بريح الحدث - من مكا يمكو مكواً ومكاء - إذا صفر بفيه أو شبك أصابعه ونفخ فيها ، ومكت الشجرة بريحها : صوتت ، والدبر بريح الحدث : صوت - قال أبو حيان : وجاء على فعال اي بالضم ويكثر فعال في الأصوات كالصراخ - انتهى .
) وتصدونه ) أي و تصفيفاً ، كان أهل الجاهلية يطوفون عراة ويصرفون بأفواههم ويصفقون بأيديهم مقصورة ، فيكون تصويتهم ذلك يشبه الذي رحعّ الصوت في المكان الخالي ، فهو كناية عن أن صلاتهم لا معنى لها ، وأصله صددد - مضاعف - إذا أعرض ومال مثل التظني من ظنن - ، فهذا لهو لا عبادة وهزء لا جد مع أن الأمر جد وأيّ جد كما قال تعالى :
77 ( ) أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون ( ) 7
[ النجم : 59 - 61 ] أي ولا تبكون في حال جدكم بدأبكم في العمل الصالح ، فهذا الذي يعلمونه مناف لحال البيت فهو تخزين لا تعمير ، قال مقاتل : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صلى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمينه يصفران ويصفقان ، ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا عليه صلاته ، وتقدير الكلام على قراءة الأعمش : صلاتهم - بالنصب : وما كان شيء إلا مكاء وتصدية صلاتهم ، فنفى هما يجعلونه صلاة كل شيء إلا المكاء والتصدية ، فالصلاة مقصورة عليهما بهذا الاعتبار فقد صارت بهذا الطريق بمعنى القراءة المشهورة سواء فتأمله فإنه نفيس جداً ، وخرج عليه الخلاق في آية الأنعام ) ثم لم تكن فتنتهم ) [ الأنعام : 23 ] زغيره ، وقد مضى هناك ما ينفع هنا ، ومما يجب أن يعلم أن هؤلاء لم يذمهم الله لأنه أعلى الذم ، بل ذمهم لكونهمو اتخذوا العبادة لعباً لينبه بذلك على ذم من كيف إذا كان حراماً ، فقبح الله قوماً ادعوا أنهم أعرضوا عن الدنيا ثم اتخذوا الطبول الجاهلية الرقص الذي ابتدعه قوم السامري لما عبدوا العجل ، فأخذوا أنواعاً من أفعال أنواع من الكفرة وجعلوها عادتهم وشعارهم وديانتهم ، فلقد انتهكوا حرمات الشريعة وبدلوها واستهانوا بها واسترذلوها ولما كان مساق الكلام لبيان استحقاقهم العذاب ، وأنه لا مانع لهم منه وكان قد أوقع بهم في هذه الغزوة مباديه ، وكانت المواجة بالتعنيف وقت إيقاع مالا يطاق بالعدو إنكاء ، قال مسبباً عن قبيح كا كانوا يرتكبونه : ( فذوقوا العذاب ) أي الذي توعدكم الله والذي رأيتموه ببدر وطلبتموه في استفتائكم حكم الاستهانة به ) بما كنتم تكفرون ( اي إنكم قد صرتم بهذا الفعل أهلاً لذوقه بما تسترون مما دلتكم عليه عقولكم من هذا الحق الواضح .(3/214)
صفحة رقم 215
الأنفال : ( 36 - 40 ) إن الذين كفروا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( ( )
ولما أخبر سبحانه عن أحوال الكفار في الأعمال البدنية ، وكان غلبهم مع كثرتهم وقوتهم مستعبداً ، أخبر بما يقربه مبيناً لأعمالهم المالية فقال : ( إن الذين كفروا ) أي مع كثرتهم لأنهم ستروا امرائي عقولهم التي هي الإنسان بالحقيقة فنقصوا بذلك نقصاً لا يدرك كنهة ) ينفقون أموالهم ) أي يعزمون على إنفاقها فيما يأتي ) ليصدون ) أي بزعمهم أنفسهم وغيرهم ) عن سبيل الله ( اي عن سلوك طريق - الذي لا يدني عظمته عطمة مع اتساعه ووضوحه وسهولته ) فيسنفقونها ) أي بحكم قاهر لهم لا يقدرون على الأنفاك عنه ) ثم تكون ( أب بعد إنفاقها بمدة ، وعبر بعبارة ظاهرة في مضرتها فقال : ( عليهم ( وأبلغ في ذلك بأن أوقع عليها المصدر فقال : ( حسرة ) أي لضياعها وعدم تأثيرها ) ثم يبلغون ) أي كما اتفق لهم في بدر سواء ، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوة ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً مما أراد الله بهم ، وهذا الكلام مكنطق على ما كان سبب نزوله الآية للمؤمنين فما كانفي الحقيقة إلا لهم ، وهذا الكلام منطبق على ما كان سبب نزوله الآية وعلى كل ما شاكله ، وذلك أنهم لما قهروا في بدر قال لهم أبو سفيان : إنه ينبغي أن تنفقوا مال تلك شاكله ، وذلك أنهم التي كانت معه - ونحث على حرب محمد ، فأجابوا وأنفقوا على غزوة أحد فحصل لهم فيها بعض ظفر ثم تعقبه الحسرة والمغلوبية في بدر الموعد وكل ما بعدها ؛ ثم أظهر وصفهم الذي استحقوا به ذلك تعليقاً للحكم به وتعميماً منذراً لهم بما هو أشد من ذلك فقال : ( والذين كفروا ) أي حكم بدوام كفرهم عامة سواء زادوا على الكفر فعل ما تقدم أم لا ) إلى جهنم ) أي لا إلى غيرها ولما كان المنكى هو الحشر ، لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : ( يحشرون ) أي بعد الموت فهم في خزي دائم دنيا وأخرى ، ويجوز أن يتجوزظ بجهنم عن أسبابها فيكون المعنى أنهم يستدرجون بمباشرة أسبابها إليها ويحملون في الدنيا(3/215)
صفحة رقم 216
عليها ، وهذه الآيات - مع كونها معلمة بما لهم في الدنيا وما لهم في الآخرة من أن آخر أمرهم في الدنيا الغلب كما كشف عنه الزمان علماً من أعلام النبوة وفي الآخرة جهنم - هي مبينة لكذبهم في قولهم
77 ( ) لو نشاء لقلنا مثل هذا ( ) 7
[ الأنفال : 31 ] فإنهم لو كانوا صادقين في دعواهم لقالوا مثله ثم قالوا : لو كان هذا هو الحق لا غيره لما قلنا مثله ، موضع قولهم
77 ( ) إن كان هذا هو الحق ( ) 7
[ الأنفال : 32 ] إلى آخره ، وأما آية المكاء والتصدية فكأنها تقول : هذا القرآن في أعلى درج البلاغة ولم تؤهلوا أنتم - مع ادعائكم السبق في البلاغة - لأن تعارضوا بشيء له أهليه لشيء من البلاغة ، بل نزلتم إلى أصوات الحيوانات العجم حقيقة ، فلا أجلى من هذا البيان على ما ادعيتم من الزور والبهتان ، وأما آية الإنفاق فقائله : لو قدرتم في معارضته على إنفاق الأقوال لما عدلتم عنه إلى إنفاق الأموال المفضي إلى مقاساة الأهوال وفساد الأشباح ونفوق ما حوت من الأرواح المؤدي إلى الذل السرمد بالعذاب المؤبد ولما ذكر حشر الكافرون ذكر علته فقال معلقاً بيحشرون : ( ليميز الله ) أي الذي له صفات الكمال بذلك الحشر ) الخبيث من الطيب ( اي إنما جعل للكفار دراً يتميز بها عدلاً في الكافرين وفضلاً عاى المؤمنين ، فيجعل الطيب في مكان واسع حسن ) ويجعل الخبيث ( اي الفريقالمتصف بهذا الوصف ) بعضه على بعض ( والركم : جمع الشيء بعضه فوق بعض ، فكأن قوله : ( فيركمه جميعاً ( عطف تفسيره يؤكد الذي قلبه في إرادة الحقيقة مع إفهام شدة الاتصال حتى الكل كالشيء الواحد كالسحاب المركوم ، والنتيجة قوله : ( فيجعله في جهنم ) أي دار الضيق والغم والتهجم والهم ولما كان هذا أمراً لا فلاح معه ، استأنف قوله جامعاً تصريحاً بالعموم : ( أولئك ( اي البعداء البغضاء الذين أفهمهم اسم الجن في الخبيث ) هم الخاسرون ) أي خاصة لتناهي خسرانهم ، لأنهم اشتروا بأموالهم إهلاك أنفسهم بذلك الحشر ولما بين ضلاهم في عبادتهم البدنية والمالية ، وكان في كثير من العبارات السالفة القطع للذين كفروا بلفظ الماضي بالشفاء ، كان ذلك موهباً لأن يراد من أوقع الكفر في الزمن الماضي وإن تاب ، فيكون مؤيساً من التوبة فيكون موجباً للثبات على الكفر ، قال تعالى متلطفاً بعباده مرشداً لهم إلى طريق الصواب مبيناً المخلص مما هم فيه من الوبال في جواب من كأنه قال : أما لهم من جبلة يتخلصون بها من الخسارة ) قل للذين ( اي لأجل الذين ) كفروا ( أني أقبل توبة من تاب منهم بمجرد انتهائه عن حاله ) إن ينتهوا ) أي يتجدد لهم وقتاً ما الانتهاء عن مغالبتهم بالانتهاء عن كفرهم فيذلوا الله(3/216)
صفحة رقم 217
ويخضعوا لأوامره ) يغفر لهم ( بناه للمفعول لأن النافع نفس الغفران وهو محو الذنب ) ما قد سلف ( اي مما اجتراه كائناً ما كان فيمحي عيناً وأثراً فلا عقاب عليه ولا عتاب ) وإن ( اي وإن يثبتوا على كفرهم و ) يعودوا ( إي المغالبة ) فقد مضت سنة ) أي طريقة ) الأولين ) أي وجدت وانقضت ونفذت فلا مرد لها بدليل ما سمع من أخبار الماضين وشوهد من حال أهل بدر مما أوجب القطع بأن الله مع المؤمنين وعلى الكافرين ، ومن كان معه نصر ، ومن كان عليه خذل وأخذ وقسر
77 ( ) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ( ) 7
[ المجادلة : 21 ]
77 ( ) و لينصرن الله من ينصره ( ) 7
[ الحج : 40 ]
77 ( ) والعاقبة للمتقين ( ) 7
[ القصص : 128 ] وإن كانت الحرب سجالاً .
ولما أشار ختم الآية قتالهم إن أصروا ، وكان التقدير فأقدموا عليهم حيثما عادوكم إقدام الليوث الجريئة غير هائبين كثرتهم ولا قوتهم فإن الله خاذلهم ، عطف عليه قوله مصرحاً بالمقصود : ( وقاتلوهم ) أي دائماً ) حتى لا تكون فتنة ) أي سبب يوجب ميلاً عن الدين أصلاً ) ويكون الدين ( ولما كانت هذه الوقعة قد سرت كتائب هيبتها في القلوب فوجبت ايما وجبت ، فضاقت وضعفت صدور الكافرين ، وانشرحت وقويت قلوب المؤمنين ؛ اقتضى هذا السياق التأكد فقال ، ) كله لله ( اي الملك الأعظم خالصاً غير مشوب بنوع خوف أو إعضاء على قذى ، وأصل الفتن : الخلصة المحلية ، ويلزم ذلك أن يكون السبب عظيماً لأن الشيء لا يحول عن حاله إلا لأمرعظيم لأن مخالفة المألوف عسرة ، ومنه النتف ، وكذا نفت القدر ، وهو أن يغلي المرق فليزق بجوانبها ، والتنوفه : القفر ، لأنه موضع ذلك ، ويلزمه الإخلاص ، من فتنت اذهب - إذا اذبته فتميز جيده من رديئه ، وتارة يكون الميل إلى جهة الردئ وهو الأغلب ، وتارة إلى الجيد ، ومنه
77 ( ) وفتناك فتوناً ( ) 7
[ طه : 40 ] ولما كان لهم حال اللقاء حالان : إسلام وإقبال ، وكفر وإعراض وإخلال ، قال مبيناً لحكم القسمين : ( فإن انتهوا ) أي عن قتالكم بالمواجهة بالأسلام فاقبلوا منهم وانتهوا عن مسهم بسوء ولا تقولوا : أنتم متعوذون بذلك غير مخلصين ، تمسكاً بالتأكيد بكله ، فأنه ليس عليكم إلا ردهم عن المخالفة الظاهرة ، وأما الباطن فإلى الله ) فإن الله ( اي المحيط علماً وقدرة ، وقدم المجرور اهتماماً به إفهاماً لأن العلم به كالمختص به فقال : ( بما يعملون ) أي وإن دقَّ ) بصير ( فيجاريهم عليه ، وأما أنتم فلستم عالمين بالظاهر والباطن معاً فعليكم قول الظاهر ، والله بما تعلمون أنتم أيضاً - من كف عنهم وقتل لله أو لحظّ نفس - بصير ، فيجازيكم على حائق الأمور وبواطنها وإن أظهرتم للناس(3/217)
صفحة رقم 218
ما يقيم عذركم ، ويكمل لكل منكم أجر ما كان عزم على مباشرته من قتالهم لو لم ينتهوا ، وإن لم ينتهوا بل أقدموا على قتالكم ، هكذا كان الأصل ، ولكنه سبحانه عبر بقوله : ( وإن تولوا ( أيعن الإجابة تبشيراً لهم بهزيمتهم وقلة ثباتهم لما ألقى في قلوبهم من الرعب ، ويؤيد ذلك قوله : ( فاعلموا أن الله ( أسي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ) مولاكم ) أي متولي أموركم فهو يعمل معكم ما يعمل من يتولى امر من يحبه من الاجتهاد في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره فهو لا محالة ناصركم ؛ ثم استأنف مدحه بما هو أهله تعريفاً بقدره وترغيباً في تولية فقال : ( نعم المولى ( ولم يدخل فاء السبب هنا لأن المأمور به العلم ، واعتقاد كونه مولى واجب لذاته لا الشيء آخر ، بخلاف ما في آخر الحج ، فإن المأمور هناك الاعتصام ) ونعم النصير ) أي تخافون اصلاً وإن ذادت كثرتهم وقويت شوكتهم فلا تبارحوهم حتى لا يكون إلا كلمة الله .
الأنفال : ( 41 - 46 ) واعلموا أنما غنمتم. .. . .
) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ( )
ولما كان التقدير : فغذا اعانكم مولاكم عليهم وغلبتموهم وغنمتم فيه فلا تنسوا إلى أنفسكم فعلاً ، بل اعلموا انه هو الفاعل وحده لأن جميع الأفعال متلاشية بالنسبة إلى فعله فلا تنازعوا في المغنم تنازع من أخذه بقوته وحازه بقدرته ، عطف عليه قوله : ( واعلموا ( ابتداء بهذا الأمر إشارة إلى أن ما بعدها من المهمات ليبذلوا الجهد في تفريغ أذهانهم لوعيه وتنزيله منازله ورعيه ) أنّما ( اي الذي ) غنمتم ( الغنيمة لغة : الفوز بالشيء ، وشرعاً ما دخل في أيدي الملسمين من مال الكفار قهراً بالخيل والركاب ، وزاد(3/218)
صفحة رقم 219
في التعميم حتى لأقل ما يمكن بقوله : ( من شيء ) أي حتى الخيط والمخيط فإنه كله له ، لأنه الناصر وحده وإنما أنتم آلة لا قدرة لكم على مقاومة الأعداء لأنهم جميع أهل الأرض ولا نسبة لكم منهم في عدد ولا قوة أصلاً ، فالجاري على منهاج العدل المتعارف عندكم أن يأخذه كله ولا يمكنكم من شيء منه كما كان فيمن قبلكم ، يعزل فتنزل نار من السماء فتأكله ، ولكنه سبحانه - علم ضعفكم فمنّ عليكم به ورضي منكم منه بالخمس فسماه لنفسه ورده عليكم ، وهو معنى قوله : ( فان لله ) أي الذي له كل شيء ) خمسه ( ولما كان من المعلوم ان الله تعالى اجلّ من أن يناله نفع أو ضر ، كان من المعلوم أن ذكر اسمه سبحانه إنما هو للإعلام بأن إيلام هذا الخمس والتخلي عنه لا حظ للنفس فيه ، وإنما هو لمخص الدين تقرباً إليه سبحانه ، فذكر مصرفه بقوله : ( وللرسول ( اي يصرف إليه خمس هذا الخمس ما دام حياً ليصرفه في مصالح المسلمين ، ويصرف بعده إلى القائم مقامه ، يفعل فيه ما كان ( صلى الله عليه وسلم ) يفعله ) ولذى القربى ) أي من الرسول ، وهم الال الذين تحرم عليهم الزكاة : بنوهم هاشم وبنوالمطلب ) واليتامى ) أي لضعفهم ) والمساكين ( لعجزهم ) وابن السبيل ) أي المسافر لأن الأسفار مظنات الافتقار ، فالحاصل انه سبحانه لم يرزأكم من المغنم شيئاً ، فاعرفوا فضله عليكم ألاً بالإنعام بالنصر ، وثانياً بحل المغنم ، وثالثاً يالإمكان من الأربعة الأخماس ، ورابعاً برد الخمس الخامس فيكم ، فاشتعلوا بشكره فضلاً عن أن تفعلوا من المنازعة في المغنم فعل القاطع بالاستحاق ، اعلموا ذلك علم المصدق المؤمن المذعن لما علم لتنشأ عنه ثمرة العمل ) إن كنتم ( صادقين في أنكم ) آمنتم بالله ) أي الذي لا امر لأحد معه ) وما ( اي ويالذي ) انزلنا ) أي إنزالاً واحداً سريعاً لأحل التفريج عنكم من القرآن والجنود والسكينة في قلوبكم وغير ذلك مما تقدم وصفه ) على عبدنا ) أي الذي يرى دائماً ان الأفعال كلها لنا فلا ينسب لنفسه شيئاً إلا بنا ) يوم الفرقان ) أي يوم بدر الذي جعلنا لكم فيه عزاً ينفذ به أقوالكم وأفعالكم في فصل الأمور ولما وصفه سبحانه بالفرقان تذكيراً لهم بالنعمة ، بينه بما صور حالهم إتماماً لذلك - أو ابدال منه - فقال : ( يوم التقى ) أي عن غير قصد من الفرقين بل بمخص تدبير الله ) الجامعين ) أي اللذان احدهما أنتم وكنتم حين الترائي - لولا فضلنا - قاطعن بالموت ، وثانيهما أعداؤكم وكانوا على اليقين بأنكم في قبضتهم ، وذلك هو الجاري على مناهج العوائد ، ولو قيل : يوم بدر ، لم يفد هذه الفوائد(3/219)
صفحة رقم 220
ولما كان انعكاس الأمر في النصر محل عجب ، ختم الآية بقوله : ( والله على كل شيء ) أي من نصر القليل على الكثير وعكسه وغير ذلك مت جميع الأمور ) قدير ( فكان ختمها بذلم كاغشفاً للسر ومزيلاً للعجب ومبنياً أن ما فعل هو الجاري على سنن سنته المطرد في قديم عادته عند من يعلم ايامه الماضية في جميع الأعصر الخالية ولما ذكر لهم يو ملتقاهم ، صور لهم حالتهم الموضحه للأمر المبينة لما كانوا فيه من اعترافهم بالعجز تذكيراً لهم بذلك ردعاً عن المنازعة ورداً إلى المطاوعة فقال مبدلاً من ) يوم الفرقان ( ) إذ أنتم ( نزول ) بالعدوة الدنيا ( اي القربى إلى المدينة ) وهم ( اي المشركون نزول ) بالعدوة القصوى ) أي البعدى منها القريبة إلى البحر ، والقياس قلب واوه ياء ، وقد جاء كذلك إلا أن هذا أكثر كما كثر استوصب وقلّ استصاب ، والعدوة - بالكسر في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب ، وبالضم في قراءة غيرهم : جانب الوادي وشطه ، ومادتها - بأي ترتيب كان - تدور على الاضطراب ويلزمه المجاورة والسكون والإقبال والرجوع والاستباق والمحل القابل لذلك ، فكأنها الموضع الذي علا عن محل فكان السيل موضعاً للعدو ) والركب ) أي العير الذي فيه المتجر الذي خرجتم لاقتطاعه ورئيس جماعته أبو سفيان ، ونصب على الظرف قوله : ( اسفل منكم ( اي أيها الجمعان إلى جانب البحر على مدى من قرية تكادون تقعون عليه وتمدون أيديكم إليه مسافة ثلاثة أميال - كما قال البغوي ، وهوكان قصدهم وسؤلكم ، فلو كانت لكم قوة على طرقه لبادرتم إلى الطرف وغالبتم عليه الحتف ، ولكن منعكم من إدراك مأمولكم منه من كان جاثماً بتلك العدوة جثوم الأسد واثقاً بما هو فيه من القوى والعدد كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) لسلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه - لما قال في تحقيرهم بعد قتلهم وتدميرهم : إن وجدنا إلا عجائز صلعاً ، ماهو إلا أن لقيناهم فمنحونا اكتافهم - جواباً له ( أولئك يا ابن أخي الملأ لو رأيتم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم ) مع استضعافهم لأنفسهم عن مقاومتهمك لولا رسولنا يبشركم زجنزدنا تثبتكم ، وإلى مثل هذه المعاني أشار تصوير مكانهم ومكان الركب إيماء إلى ما كان فيه العدو من قوة الشوكة وتكامل العدة وتمهد أسباب الغلبة وضعف حال المسلمين وأن ظفرهم في مثل هذا الحال ليس إلا صنعاً من الله ، وما في البيضاوي تبعاً للكشاف من أن العدوة الدنيا كانت تسوخ فيها(3/220)
صفحة رقم 221
الأقدام ولا ماء بها تقدم زده أول السورة بأن المشهور في صحيح مسلم والسير وغيرها أن المؤمنين هم السابقون إلى الماء ، وأن جميع أرض ذلك المكان كانت زملاً تسوخ فيه الأقدان ، فأتى المسلمين به من المطر ما لبد لهم الأرض ، وأتى المشركين منه ما لم يقدروا معه على الحركة ) ولو تواعدتم ) أي أنتم وهم على الموافاة إلى تلك المواضع في آن واحد ) لاختلفتم في الميعاد ) أي لأن العادة قاضية بذلك لأمرين : أحدهما بعد المسافة التي كنتم بها منها وتعذر توقيت سير كل فريق بسير صاحبه ، والثاني كراهتكم للقائهم لما وقر في أنفسهم من قوتهم وضعفكم ، وقد كان الذي كرّه إليكم لقاءكم قادر على أن يكره إليهم لقاءكم ، فيقع الاختلاف من جهتهم كما كان في بدر الموعد ، وأما في هذه الغزوة فدعاهم من حماية غيرهم داع لم يستطيعوا التخلف معه ، وطمس الله بصائرهم وقسى قلوبهم مع قول أبي جهل الذي كان السبب الأعظم في اللقاء لمن عرض عليه المدد بالسلاح والرجال : إن كنا نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم ، وإن كنا إنما نقاتل - كما يزعم محمد - الله فما لأحد بالله من طاقة ، وقوله أيضاً في هذه الغزوة للأخنس بن شريق : غن محمداً صادق وما كذب قط ، فعل الله ذلك لما علم في ملاقاتهم لكم من إعلاء كلمته وإظهار دينه ) ولكن ) أي دبر ذلك لما علم في إلى موطن اللقاء كلكم في يوم واحد من غير ميعاد ولم تختلفوا في موافاة ذلك الموضع مع خروج ذلك عن العادة لكونه أتقن اسبابه ، فأطمعكم في العير أولاً مع ما أتنم فيه من الحاجة ثم وعدكم إحدى الطائفتين مبهاً وأخرج قريشاً لحماية عيرهم إخراجاً لم يجدوا منه بداً ، ولما نجت عيرهم أوردهم تارياء والسمعة والبطر بما هم فيه من الكثرة والقوة كما قال أبو جهل : لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر بها الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب فلا يزالون يهابوننا مدى الزمان - ) ليقضي الله ) أي الذي له جميع الأمر من إعزاز دينه بإعرازكم زإذلالهم ) أمراً كان ( كما تكون الجبلات والطبائع في التمكن والتمام ) مفعولا ) أي مقدراً في الأزل من لقائهم وما وقع فيه من قتلهم وأسرهم على ذلك الوجه العظيم فهو مفعول لا محالة ليتبين به إيمان من آمن باعتماده على الله وتصديقه بموعده وكفر من كفر ولما علل ذلك التدبير في اللقاء بقوله : ( ليقضي الله ) علل تلك العلة بقوله : ( ليهلك ( اي لعد رؤية ذلك القضاء الخارق للعادة ) من هلك ) أي من القريقين : الكفار في حالة القتال وبعدها ، والمسلمين هلاكاً متجاوزاً وناشئاً ) عن ( حالة ) بينة ( لما بان من صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الوقعة في كل ما وعد به وكذب الكفار في كل ما كانوا يقولونه قاطعين به مع ان ظاهر الحال يقضي لهم ، فكان ذلك من أعظم المعجزات ) ويحيى من حيّ ) أي بالإسلام حياة هي في أعلى الكمال بما تشير إليه قراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بإظهار الياءين ، أو في أدنى الكمال بما يشيرإليه إغام الباقين تخفيفاً حياة متجاوزة وناشئة ) عن ( حالة ) بينة ) أي كائنة(3/221)
صفحة رقم 222
بعد البيان في كون الكافرين على باطل ولالمؤمنين على حق لما سيأتي من أنهم كانوا يقولون
77 ( ) غر هؤلاء دينهم ( ) 7
[ الأنفال : 49 ] فيحنئذ تبين المغرور وكشفت عجائب المقدور عن أعين القلوب المستور .
ولما كان التقدير : فإن الله في فعل لعزير حكيم ، عطف عليه قوله : ( وإن الله لسميع ) أي لما كنتم تقولونه وغيره ) عليم ( بما كنتم تضمرونه وغيره فاستكينوا لعظمة وارجعوا عن منازعتكم لخشية ، ثم أتم سبحانه تصوير حالتهم بقوله مبيناً ما الذي له صفات الكمال فهو يفعل ما يشاء ) في منامك قليلاً ( تأكيداً لما تقدم إعلامه به من أن المصادقه - فضلاً عما نشأ عنها - ما كان إلا منه وأنهم كانوا كالآية التي لا اختيار لها ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رآهم في منامكة قليلاً فحدث اصحاب رضي الله عنه بذلك فاطمأنت قلوبهم وشجعهم ذلك ؛ وعين ما كان يحصل من الفساد لولا ذلك فقال : ( ولو أركهم ( اي في منامك أو غيره ) كثيرا ( ولما كان الإخبار بعد الوقعة بضد ما وقع فيها مما يقتضي طبع البشر التوقف فيه ، اكد قوله : ( لفشلتم ( اي جبنتم ) ولتنازعتم ( اي اختلفتم فنزع كل واحد منزعاً خلاف منزع صاحبه ) في الأمر ) أي فو هنتم فزادكم ذلك ضعفاً وكراهة للقائهم ) ولكن الله ( اي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ) سلم ) أي ولكن لم يركهم كذلك فحصلت السلامة عما كان يتسبب عنها من النكوص ، ثم بين العلة في تربية ذلك وإخباره بهذا الأمر المضروض بقوله : ( إنه عليم ) أي بالغ العلم ) بذات الصدور ) أي ضمائرها من الجراءة والجبن وغيرهما قبل خطورها في القلوب ولما بين ما نشأ عن رؤيته صلى الله عليه والسلام من قلتهم وما كان ينشأ رؤيته الكثرة لو وقعت ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) - لما هو عليه من النصيحة والشفقة - كان يخبرهم بما رأى كما أخبرهم في غزوة أحد بالبقر المذبحة ؛ أتبعه ما فعل من اللطف في رؤيتهم بأنفسهم يقظة فقال : ( وإذ ) أي واذكروا أيضاً إذ ) يريكموهم ) أي يبصركم إياهم ) إذ ) أي حين ) التقيتم ( ونبه على أن الرؤية ليست على حقيقة ما هم عليه بقوله : ( في أعينهم ) أي لا في نفس الأمر حال كونهم ) قليلاً ) أي عددهم يسيراً أمرهم مصدقاً لما أخبركم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن رؤياه لتجترئوا عليهم ؛ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال : لقد قللوا في أعينا يوم بدر ختى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً ، قال الحرالي في آل عمران : فجعل القليل وصفاً لهم لازماً ثابتاً دائماغً عليهم بما أوجب فيهم من نقص ذواتهم بخفاء فطرتهم وما وراء خلق(3/222)
صفحة رقم 223
الفطرة من الذوات ، قال تعالى : ( ويقللكم ( صيغة فعل واقع وقت لا وصفاً لهم من حيث إنه لو اراهم إياهم على الإراة الحقيقية لزادهم مضاعفين بالشعر ، فكانوا يرونهم ثلاثة آلاف ومائتين وثلاثين - انتهى .
) في أعينهم ( قبل اللقاء ليجترئوا على المصادفه حتى انهزموا حين فاجأتهم الكثرة فظنوا الظنون ؛ قال الحرالي : قللهم حين لم يرهم إياهم على الإراءة - الحقيقية العشرية ، ولا أراهم إياهم على الصورة الحسية ؛ فكان ذلك آية للمؤمنين على قراءة ياء الغائب - اي في آل عمران - وكانت آية للكفار على قراءة ) ترونهم ( - بتاء الخطاب ، فكان في ذلك في إظهار الإراءة في اعين الفئتين نحو مما كان من الإراءتين الواقعة بين موسى عليه السلام والسحرة في أن موسى عليه السلام ومن معه خيل إليهم من سحرهم أنها تسعى وأن فرعون ومن معه رأوا ثعباناً مبيناً يلقف ما يأكفون رؤية حقيقة ، فتناسب ما بين الأيات الماضية القائمة لهذه الآية بوجه ما ، وكان هذه الآية أشرف وألطف بما هي في مدافعة بغير آلة من عصى ولا حبل في ذوات الفئتين وإحساسهم - انتهى .
ولما ذكر ما أحاله سبحانه من إحساس الفئتين ، علله بقوله : ( ليقضى الله ) أي الذي له العزة البالغة والحكمة الباهرة من نصركم وخذلانهم بأن تفاجئهم كثرتهم بعد رؤيتكم قليلاً فيشجعهم ذلك ، ويهزمهم ) أمراً كان مفعولاً ( اي من إعجابهم - بما فجمعهم من الكثرة بعد القلة - عن الحذر والاستعداد لذلك وبما فعل بأيديكم في هذه الغزوة من القتل والأسر والهزيمة المثمر لذل جميع أهل الكفر ، كان مقدراً في الأزل فلا بد من وفوعه على ما حده لأنه لا راد لأمره ولا يبدل القول لديه ، فعل ذلك كله وحده .
ولما كان التقدير : فيبده سبحانه ابتداء الأمور بتقديره إياها في الأزل لا بيد أحد غيره ، عطف عليه قوله : ( وإلى الله ) أي الملك الأعلى الذي بيده وحده كل أمر ) ترجع الأمور ) أي كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفذه ، فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد ، وهو من قولك : هذا الأمر راجع إليك ، اي مهما اردته فيه مضى ، ولو فرض أن قوة الرجوع بهذا الاعتبار وإن لم يكن هناك رجوع بالفعل ، وفي هذا تنبيه على ان أمور الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المارد منها ما يصلح ان يكون زاداً ليوم المعاد ، ولما تقرر ذلك ويم على هذا السبيل الأحكم والنهاج الأقوم ، كان علة لمضمون قوله : ( ياأيها الذين آمنوا ( الآيتين ، فكانتا نتيجة ، لأنه إذا علم أن الأمر كله له ولا أثر لقلة ولا كثرة أثمر لمن هو في أدنى درجات الإيمان فضلاً عن غيره قلة المبالاة بالظالمين وإن(3/223)
صفحة رقم 224
تجاوزت قواهم الحد ، وزادوا كثرة على العد ، والآتيان تذكّرهم بحالتهم التي أوجبت نصرهم ليلزموها في كل معترك ولا يتنازعوا كما تنازعوا في المغنم ) إذا لقيتم ) أي قاتلتم لأن اللقاء اسم للقتال غالب ) فئة ) أي طائفة مستحقة للقتال كما أغنى عن وصفها بذلك وصفهم بالإيمان ) فاثبتوا ) أي في لقائها بقتالها كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار ) واذكروا الله ) أي في لقائها بقتالها كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا ) كثيراً ) أي كما صنعتم ثَمَّ ، لأن ذلك أمارة الصدق في الاعتماد عليه وحده ، وذلك موجب للنصر لا محالة كما في الحديث القدسي ( إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه ) ولما أمر بذلك ، علله بأداة الترجي ، ليكون أدل على أنه سبحانه لا يجب عليه شيء فيكون للإيمان فقال : ( لعلكم تفلحون ) أي لتكونوا على رجاء من الفلاح وهو الظفر بالمراد من النصر والأجر وكما كنتم إذ ذاك ) وأطيعوا الله ) أي الذي له الغنى المطلق فلا يقبل إلا الخالص والكمال الأكمل فلا يفعل إلا ما يريد ) ورسوله ) أي في الإقدام والإقدام والإحجام لجهلكمبالعواقب ، وتلك الطاعة امارة إخلاصكم في الذكر ) ولا تنازعوا ( بأن يريد كل واحد نزع مال صاحبه من رأى وغيره وإثبات ما له ، وأشار إلى عظيم ضرر التنازع ببيان ثمرته المرة فقال ؛ ) فتفشلوا ) أي تضعفوا ؛ قال في القاموس : فشل كفرح ، فهو فشل ، كسل وضعف وتراخي زجبن - انتهى .
والمادة راجعة إلى الفيشلة وهي الحشفة ، ومن لازمها الرخاوة وينشأ عن الرخاوة الجبن مع الصلف والخفة والطيش ولما كان الفشل ربما كان الظفر لفشل في العدو أكثر منه أو غير ذلك ، عطف ما يلزمه غالباً بالواو دون الفاء فقال : ( وتذهب ريجكم ( اي غلبتكم وقوتكم ، واصله أن الريح إذا كانت في الحرب من جهة صف كانت في وجوه أعدائهم وقوتكم ، وأصله يريدون فخذلوا فصارت كأنها قوة من أتت من عنده ، فصارت يكنى بها عنها ؛ ثم ختم هذه الأسباب بالجامع لشملها الناظم لمقاصد أهلها فقال ؛ ) واصبروا ) أي على ما يكون من تلك المشاق فإنكم إن تكونوا تألمون فإن أعداءكم كذلك ، وأنتم ترجون من الله ما لا يرجون ؛ ثم علله بما يكون النصر في الحقيقة فقال : ( إن الله ) أي الميحط(3/224)
صفحة رقم 225
بصفات الكمال ) مع الصابرين ) أي لأنهم يصبرون إلا اعتماداً
عليه ، ومن كان معه عز ، وهذه الجملة فيها - كما قال الإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية في آخر كتاب الفروسية المحمدية - تدبير الحروب أحسن جمع على أتم وجه ، فأمر فيها بخمسة اشياء ما اجتمعت قط في فئة إلا انتصرت وإن قلت في جنب عدوها ، وخامسها ملاك ذلك وقوامه وأسامه وهو الصبر ، فعلى هذه الدعائم الخمس تبنى قبة النصر ، ومتى زالت أو بعضها زال من النصر بحسبه ، وإذا اجمتعت قوى بعضها بعضاً وصار لها أثر عظيم ، لما اجتمعت في الصحابه رضي الله عنهم لم تقم لهم امة من الأمم ، ففتحوا البلاد شرقاً وغرباً ودانت لهم العباد سلماً وحرباً ، ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت آل الأمر قليلاً موجبة لتأييد المطيع بقوة من هو في طاعته ، وذلك سر قول أبي الدرداء رضي الله عنه الذي رواه البخاري في باب ( عمل صالح قبل القتال ) : إنما تقاتلون الناس بأعمالكم ؛ وهو شرع قديم ، قال في أثناء السفر الخامس من التوارة : وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وتحفظتم وعملتم بكل هذه الوصية التي آمركم بها اليوم يبارك عليكم الله ربكم كما قال لكم ، وترزقون إن تفرضوا شعوباً كثيرة ولا تفرضون ، وتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلطون عليكم .
الأنفال : ( 47 - 48 ) ولا تكونوا كالذين. .. . .
) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ( )
ولما ذكرهم سبحانه ما أوجب نصرهم آمراً لهم بالثبات عليه ، ذكر لهم حال اعدائهم الذي أوجب قهرهم ناهياً عنه تعريضاً بحال المنازعة في الأنفال وأنها حال من يريد الدنيا ، ويوشك - إن تمادت - أن تجر إلى مثل حال هؤلاء الذي محط نظرهم الدنيا فقال : ( ولا تكونوا ) أي يا معشر المؤمنين ) كالذين ( وصور قبح عملهم من أوله إلى آخره فقال : ( خرجوا من ديارهم ) أي كل واحد من داره وهم أهل مكة ، وكل من عمل مثل عملهم كان مثلهم ، ولذا عبر بالوصف ليعم ) بطراً ) أي طغياناً وتكبراً على الحق ، ومادة بطر - بأيّ ترتيب اتفق - تدور على اللين القابل للعمل حتى ربط ، فإنه لولا الضعفما استوثق من المربوط ، ومنه بطر الجرح - وهو شقه - والبيطار ، وتارة يكون(3/225)
صفحة رقم 226
ذلك اللين عن دهش .
ومنه أبطرت حلمه أي أدهشته عنه ، وذهب دمه بطراً أي باطلاً للضعف عنه للحيرة في الأمر الموصل إليه ، وتارة يكون عن مجاوزة الحد في الصلابة ، ومنه بطر النعمة - إذا لم يشكرها فتجاوز الحد في المرح ، فإن فاعل ذلك يمكنه الحكيم من مقاتله فيأخذه وهو يرجع إلى عدم احتمال القوى للشكر ، ففاعل ذلك ضعيف وإن ظهر منه خلاف ذلك ما قال عمر رضي الله عنه : العدل وإن رئي ليناً أكف عن الظلم من الجور وإن رئي شديداً - أو كمال قال رضي الله عنه .
وأقرب من ذلك أن تكون المادة دائرة على الخلطة الناقلة من حال إلى حال ولما ذكر الحامل لهم على الخروج من أنفسهم ، ذكر ما أوجبه لهم من غيرها فقال : ( ورئاء الناس ) أي خرجوا يرون الناس خروجهم وما يتأثر عنه ليروهم ما يقولون فيه ، فإنهم لما قيل لهم ؛ قد نجى الله عيركم فارجعوا ، بطروا النعمة تبعاً لأبي جهل حيث قال : والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنشرب الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان فتسمع بنا العرب فلا تزال أبداً فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا الحمر ، وناحت عليهم نوائح الزمان مكان العزف والقيان ، ولما ذكر نفس الخروج وما فيه من الفساد وذكر ثمرته الخبيثة الناشئة عن ذينك الخلقين ، وعبر عنهما بالاسم إشارة إلى الثبات كما هو شأن الأخلاق ، وعن الثمرة بالمضارع تنبيهاً على أنهم لا يزالون يجدودنها فقال : ( ويصدون ) أي يوجدون الصد وهو المنع لأنفسهم وغيرهم ) عن سبيل الله ( اي الملك الأعظم في ذلك الوجه وهم عازمون على تجديد ذلك في كل وقت ، فلما كانت هذه مقاصدهم كان نسجهم هلهلاً وبنيانهم واهياً ، فإنها من عمل الشيطان ، وكل عمل لا يكون لله إذا صدم بما هو لله اضمحل ، بذلك سبحانه أجرى سنته ولن تجد لسنته تحويلاً ، فإن العالمين عبيد الله ) والله ) أي فعلوا ذلك والحال أن المحيط بكل شيء الذي عادوا أولياءه ) بما ( أو يكون ذلك معطوفاً على تقديره : فأبطل الله بجلاله وعظمته أعمالهم وهو بكل ما ) يعملون محيط ( فهم في قبضته ، فأرادهم - إذ خرجوا يحادونه - بدراً فنحر مكان الجزور رقابهم وسقاهم مكان الخمور كؤوس المنايا ، وأصاح عليهم مكان القيان صوائح النوائح ، ولعله قدم الجار إشارة إلى أنه لشدرة إحاطته بأعمالهم كأنه لا نظر له إلى غيرها فلا شاغل له عنها ، ولما كان بين لهم فساد أعمالهم لفساد نياتهم تنفيؤراً منها ، زاد في التنفير بالإشارة إلى الأمر بدوام تذكرها بعاطف على غير معطوف عليه مذكور فقال ؛ ) وإذ ( فعلم أن التقدير قطعاً : اذكروا ذلك واذكروا إذ ، وزاد في التنفير بذكر العدو المبين والتنبيه على أن كل ما(3/226)
صفحة رقم 227
يأمر به إنما هو خيال لا حقيقة له كما كان ما سول لهم في هذا الأمر فقال : ( زين لهم الشيطان ( اي العدو الممحترق البعيدمن الخير ) أعمالهم ( التي اتقنوها بزعمهم في معاداة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني حين خافوا من قومه بني كنانة أن يخلفوهم في أهليهم بسوء لما كان بينهم مما يوجب ذلك ، فكاد ذلك ان يثبطهم عن الميسر ) وقال ( عارّاً لهم في انفسهم ) لا غالب لكم ( والجار خبر ) لا ( وإلاّ لا انتصب اسمها لكونه يكون إذ ذاك شبيهاً بالمضاف ) اليوم من الناس ( وغارّاً لهم فيمن خلفوه بقوله : ( وإني جار لكم ( من أن تخلفكم كنانة بشيء تكرهونه ، وسار معهم إلى بدر ينشطهم وينشدهم ويسلطهم بهذا القول الظاهر إلى ما يوسوس لهم به في الصدور ) فلما تراءت الفئتان ) أي رأت كل فئة الأخرى ورأى جبريل عليه السلام في جنود الله ) نكص ) أي رجع يمشي القهقري وبطل كيده وآثاره وسوسته ) على عقبيه ) أي إلى ورائه ، فقالوا أين اي سراق ؟ ولا يظنون إلا سراقة ، فمر ولم يجبهم ولا عرج عليهم ) وقال ) أي بلسان الحال أو القال وهو يسمعونه أو لا يسمعونه ) إني بريء منكم ( ثم علل براءته منهم بقوله : ( إني أرى ) أي بعين بصري ) وما لا ترون ) أي من الملائكة والغضب الذي هو نازل بكم ، فقال له الحارث بن هشام وكانت يده في يده : والله ما نرى إلا جواسيس يثرب فاستأنف قوله مؤكداً لإنكارهم لذلك : ( إني أخاف الله ) أي الملك الأعظم ) شديد العقاب ( فكانوا يقولون : انهزام بنا سراقة ، فقال ؛ بلغني أنكم تقولونكذا والله ما علمت بمسيركم هذا يقولون : انهزم بنا انهزامكم فكانوا يكذبونه حتى اسلموا فعملوا أن الذي غرهم الشيطان ، وذلك مشهور في السير ، وهوأولى من أن يحمل على مجرد الوسوسة ، وفي الحديث ( ما رئي إبليس يوماً أصغر ولا أحقر ولا أغبظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رئي يوم بدر )
الأنفال : ( 49 - 52 ) إذ يقول المنافقون. .. . .
) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ( )(3/227)
صفحة رقم 228
ولما استوفى ما كان يقطع به في حق أولئك مما هو من أنفسهم ومما هومن تزيين الشيطان ، أبدل منه ما كان يقطع به في حقهم من أهل الجهل بالله وبأيامه الماضية وآثاره عند أوليائه وأعدائه فقال : ( إذ يقول المنافقون ) أي من العرب وبني إسرائيل قولاً يجدونه كل وقت لما لهم فيه من الرغبة ) والذين في قلوبهم مرض ( اي ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه ممن آمن ولم يهاجر أمن اليهود المصارحين بالكفر حين يرون الكفار وقوتهم وكثرتهم والمؤمنين وضعفهم وقتلهم ) غرَّ هؤلاء ( مشرين إليكم ) دينهم ) أي في إقدامهم على ما يقطع فيه بهلاكهم ظناً منهم أن الله ناصرهم وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء الف ملوك العرب ، فيغيظكم ذلك ، فكذبهم الله وصدق أمركم بتوكلكم عليه وصبركم على دينكم ) ومن ) أي قالوا ذلك عالمين بأنكم متوكلون عليه وصبركم على دينكم ) ومن ) أي ذلك الذي له الإحاطة الشاملة ، فهو يفعل ما يشاء منكم ومن غيركم بشرطه من الإيمان والسعي في الطاعة كما فعلتم فإنه معز ومكرم .
ولما كان سبحانه محيطاً بكل صفة كمال على الإطلاق من غير قيد توكل ولا غيره ، أظهر تعالى فقال عاطفاً على تقديره : فإن الله قادر على نصره : ( فإن الله ) أي الذي له كمال الكمال المطلق ) عزيز ) أي غالب لكا من يغالبه فهو جدير بنصره ) حكيم ( اي مقتن لأفعاله فهو حقيق بأن يأخذ عدو المتوكل عليه من الموضع الذي لا ينفعه فيه حيلة ولما ذكر ما سرّهم من حال اعدائهم المجاهرين والمساترين في الدنيا مرصعاً ذلك بجواهر الحكم وبدائع الكلم التي بملازمتها تكون السعادة وبالإخلال بها تحل الشقاوة ، أتبعه ما يسرهم من حال اعدائهم عند الموت وبعده ، فقال مخاطباً لمن لو كشف الغطاء لم يزدد يقيناً ، حادياً بتخصيصه بالخطاب كل سامع على قوة اليقين ليؤهل لمثل هذا الخطاب حكاية لحالهم في ذاك الوقت ) ولو ) أي يقولون ذلك والحال أنك ) الذين كفروا ( اي من هؤلاء القائلين ومن غيرهم ممن قتلتموهم ببدر ومن غيرهم بعد ذلك وقبله ) الملائكة ) أي جنودها الذي وكلناهم بهم حال كونهم ) يضربون ( ولما كان ضرب الوجه والدبر أدل ما يكون على الذل والخزي ، قال : ( وجوههم وأدبارهم ) أي اعلى اجسامهم وأدناها فغيره اولى ) و ( حال كونهم يقولون لهم : ذوقوا(3/228)
صفحة رقم 229
ما كنتم به تكذبون ) ذوقوا عذاب الحريق ) أي لرأيتم منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً .
فسركم ذلك غاية السرور ، وما اثر كلامهم في غيظهم ، فإنهم يعملون حينئذ من الذي غره دينه و ( لو ) وإن كانت تقلب المضارع ماضياً فلا يخلو التعبير بالمضارع في حيزها من فائدة ، وهي ما ذكر من الإشارة إلى أن هذا لا يخص ميتاً منهم دون ميت ، بل لا فرق بين متقدمهم ومتأخرهم ، من مات ببدر أو غيرها وليس في الكلام ما يقتضي أن يكون القائلون ) غرهؤلاء دينهم ( حضروا بدراً ، بل الظاهر أن قائليه كانوا بالمدينة وتعبيرهم ب ) هؤلاء ( التي هي اداة القرب للتحقير واستسهال اخذهم كما ان أداة البعد تستعمل للتعظيم ببعد الرتبة ، وعلىمثل هذا يتنزل قول فرعون بعد أن سار بنو إسرائيل زماناً اقله ليلة وبعض يو كما حكاه الله عنهم
77 ( ) إن هؤلاء لشرذمة قليلون ( ) 7
[ الشعراء : 54 ] على أن البغوي قد نقل في تفسير قوله تعالى
77 ( ) يرونهم مثليهم رأي العين ( ) 7
[ آل عمران : 13 ] أن جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة .
وإذا تأملت هذا مع قوله تعالى ) كدأب آل فرعون ( علمت أن جلّ المقصود من هذه الآيات إلى قوله ) ذلك بأنهم قومك لا يفقهون ( اليهود ، وفي تعبيره ب ) لا يفقهون ( تبكيت شديد لهم كما قال تعالى في آية الحشر
77 ( ) لأنتم اشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ( ) 7
[ الحشر : 13 ] ولما عذبوهم قولاً وفعلاً ، عللوا لهم ذلك زيادة في تأسيفهم : ( ذلك ) أي هذا الفعل العظيم الذي يفعله بكم من العذاب الأليم ) بما قدمت أيديكم ( اي من الجراءة على الله ) وأن ) أي وبسبب أن له أن يفعل ذلك وإن لم تقدموا شيئاً فإن ) الله ( اي الذي له صفات الكمال ) ليس بظلام ) أي بذي ظلم ) للعبيد ( فإن ملكه لهم تام .
والمالك التام المُلك على ما يملكه المِلك الذي لا شيء يخرج عن دائرة ملكه ، وهو الذي جبلكم هذه الجبلة الشريرة التي تأثرة عنها هذه الأفعال القبيحة ، وهو لا يُسال عما يفعل ، من الذي يسأله ويجوز أن يكون المعنى : وليس بذي ظلم لأنه لا يترك الظالم يبغي على المظلوم من غير جزاء لكم على ظلمكم لأهل طاعته ، وسيأتي في ( فصلت ) حكمه التعبير بصيغة تحتمل المبالغة .
ولما بين بما مضى ما يوجب الاجتماع عليه والرجوع في كل أمر إليه ، وبين أن من خالف ذلك هلك كائناً من كان ؛ أتبعه بما يبين ان هذا من العموم والاطراد بيحيث لا يخص زماناً دون زمان ولا مكاناً سوى مكان فقال تعالى : ( كدأب ) أي عادة هؤلاء الكفار وشأنهم الذي دأبوا فيه وداموا وواظبوا فمونوا عليه كعادة ) آل فرعون ) أي الذين هؤلاء اليهود من أعلم الناس بأحوالهم ) والذين ( ولما كان المهلكون لأجل(3/229)
صفحة رقم 230
تكذيب الرسل بعض أهل الزمان الماضي ، أدخل الجار فقال : ( من قبلهم ( وهو مع ذلك من أدلة ) فلم تقتلوهم ( لأن هؤلاء الذين اشار إليهم كان هلاكهم بغير قتال ، بل بعضهم باليح وبعضهم بالصحية وبعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف الذي هو غرق في الجامد ، فكأنه يقول : لا ينسب أحد لنفسه فعلاً ، فإنه لا فرق عندي في إهلاك أعدائي بين أن يكون إهلاكهم بتسليط من قتال أو غيره ، لاكل بفعلي ، لولا أنا ما وقع ، وذلك زاجر عظيم لمن افتخر بقتل نت قتله الله على يده ، أو نازع في النفل ، وهو راجع إلى قوله تعالى ) ) لكيلا تأسوا على ما فاتكمولا تفرحوا بما آتاك ( ) [ الحديد : 23 ] وفي ذلك حث على التمرن على عدم الاكتراث بشيء يكون للنفس فيه أدنى حظ ليصير ذلك خلقاً كما هو دأب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لا يضيف شيئاً من محاسنه إلا إلى خالقه إلا إن كان مأكوراً فيه بالتشريع ، بل يقول : قتلهم الله ، صرفهم الله ، نصرنا الله ، كفى الله ، فإذا صار ذلك للمستمسكين به خلقاً أفضى بهم إلى مدح الخالق والمخلوق لهم كما قال كعب بن زهير رضي الله عنه في مدحهم :
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
ثم بين تعالى الحال الذي شابهوا فيه من قلبهم بقوله : ( كفروا بآيات الله ) أي ستروا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من دلالات الملك الأعلى وغطوها لأنهم لم يعملوا بها وصدوا عن ذلك من تبعهم ، فكان جزاؤهم ما تسبب عن ذلك من قوله : ( فأخذهم الله ( اي الذي له مجامع الكبر ومقاعد العظمة والعز أخذ غلبة وقهر وعقوبة ) بذنوبهم ( كما أخذهم فإنهم تجرؤوا على رتبة الألوهية التي تخسأ دون شوامخها نوافذ الأبصار ، وتظلم عند بوارق أشعتها سواطع الأنوار ، وتضمحل بالبعد عن أول مراقبها القوى ، وتنقطع بتوهم الدنو من فيافيها الأعناق ، فنزلت بهم صواعق هيبتها ، وأناخت عليهم صروف عظمتها ، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ولا تخس إلا ملاعبهم وأمكاكنهم ولما أخبر بأخذهم ، علله بقوله : ( إن الله ) أي الذي له الإحاطة الشامله ) قوي ) أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ) شديد العقاب (
الأنفال : ( 53 - 57 ) ذلك بأن الله. .. . .
) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ( )(3/230)
صفحة رقم 231
ولما كان كأنه قيل : فما له يمهلهم ولا يعالجهم بالأخذ قبل النكاية في أوليائه وأهل وده وأصفيائه ؟ قال : ( ذلك ) أي الأخذ على هذه الحالة ) بأن الله ) أي بسبب أنهم غيروا ما في أنفسهم ، وقد كان له سبحانه أن ياخذهم قبل أن يغيروا لعلمه بما في ضمائرهم الكمال بأنه ) لم يك ( هكذا كان الأصل ، ولكن حذف اختصار تقريباً لبيان تعميم العلة وإبعاد للسامع من مثل ذلك ، وحذف نون ( يكن ) إرشاد إلى قلت أو جلت ، عظيم المنفعة ، لأن من خالفها جدير بتعجيل الانتقام ) مغيراً نعمة ) أي قلت أو جلت ، وبين أنه لا نعمة على أحد إلا منه فقال : ( أنعمها على قوم ) أي من أيّ طائفة كانوا ) حتى يغيروا ) أي يبدلوا ) ما ( يعتقدونه ) مغيراً نعمه ) أي قلت أو جلت ، حفي عنهم ، يظنون اتصافهم بضده مما هو ظاهر لهم اتصافاً غريزياً ) وأنّ ) أي وبسبب أن ) الله ) أي الذي له الكمال كله ) سميع ) أي لما يكذبون به الرسل ولأقوالهم : إن ما يظهرون وصفهم الحقيقي ) عليم ) أي بما تكّن ضمائرهم من غيره وإن جهلوه هم فيبتليهم ببلاء يظهر به ذلك المكنون ويبرز به كل سر مصون ، فإذا تعلق به العلم ظاهراً علق به الحكم قاهراً لتمام قيام الحجة ، ولتمام علمه بحالهم أمهلهم ، وإنما يستعجل من يخاف ان تخيب فراسته أو يتغير علمه ، وأما الذي علمه بالظواهر والضمائر على حد سواء فالحالتان عنده سيان ، فهو يمهل لإتمام الحكمة ولا يهمل من استحق النقمة ، وذلك التغيير الذي اظهره البلاء هو التكذيب بالحق عناداً والبعد عما كانوا يدعونه من العدل والمشي على مهاهيج العقل والاستحياء من العناد ، والتنزه من طرق الفساد ، هكذا كانت كل أمة أرسلت إليها الرسل تدعي وما عندهامن خلاف ذلك مستور في ضمائرها مكنون في سرائرها ، لا تعلمه كما تشاهد أكثر من تعاشره ، يظن في نفسه ما ليس فيها ، وعند الامتحان يكذبه العيان ، فلما جاءتهم الرسل وأوضحوا لهم الأمر إيضاحاً ليس معه ، لبس فكذبوهم ، غيروا ما كان في نفوسهم مما كانوا يزعمون ؛ ثم كرر قوله : ( كدأب آل فرعون ) أي فرعون وقومه فإنهم اتباعه فلا يخيل انهم يفعلون شيئاً إلا وهو قائدهم فيه ) والذين من قبلهم ( - لدقيقة ، وهي أنه قدم تقدم أنه ما من أمة إلا ابتليت بالضراء والسراء ، فالأولى ينظر إليها مقام الإلهية الناظر إلى العظمة والكبرياء والقهر والانتقام ، والثانية ثمرة مقام البربوبية الناشئ عنه التودد والرحمة والرأفه والإكرام ، لذا عبر في الأولى باسم الذات الجامع لجميع الصفات الذي لفظه - عند من يقول باشتقاقه - موضع لمعنى الإلهية إشارة إلى أنهم أعرضوا في حال الضراء عن التصديق وعاملوا بالتجلد(3/231)
صفحة رقم 232
والإصرار ، ولذا عبر في هذه الثانية باسم الرب فقال : ( كذبوا ) أي عناداً زيادة على تغطية ما دل عليه العقل بالتكذيب بالنقل ) بآيات ربهم ( فأشار بذلك إلى بطرهم بالنعم وتكذيبهم أنها بسبب دعاء الرسل ولما أشار بالتعبير به إلى أنه غرهم معاملته بالعطف والإحسان ، قال : ( فأهلكناهم ) أي جميعاً ) بذنوبهم واغرقنا ( فاتى بنون العظمه إشارة إلى أنه أتاهم بما انساهم ذلك البر ) آل فرعون وإشارة إلى أنهم نسوا أن الرب كما أنه يتصف بالرحمة فلا بد أن يتصف بالعظمة والنقمة وإلا لم تتم ربوبيته ، وهذا واضح مما تقدم في الأعراف عن التوراة في شرح
77 ( ) فأرسلنا عليهم الطوفان ( ) 7
[ الأعراف : 133 ] - إلى آخرها ، من أن فرعون كان يسال موسى عليه السلام عند كل نازلة الدعاء برفعها معتلاً بأن الرب ذو حلم وأناة ورحمة ، وقدم الأولى إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في الجرأة ، والتعبير فيها ، ب ) كفروا ( يؤيد لذلك ، اي أن مجرد الستر للآيات بالإعراض عنها كافٍ في إيجاب الانتقام ولو لم يصرح بتكذيب لعظم المقام ، ومادة كفر - بأيّ ترتيبة كان - تدور على الخلطة المميلة المحلية ، وبخصوص هذا الترتيب تدور على الستر ، أي غطوا التصديق بآيات بآيات ربهم ، ويجوز - وهوالأحسن - أن يكون دورانها - مطلقاً لا بقيد ترتيب - على الفكر ، وهو إرسال عين البصيرة في طلب أمر ويلزمه الكشف والستر لأنه تارة يرفع اذيال الشبه عن ذلك الأمر فينجلي ويتحقق ، وتارة يسلط قواطع الأدلة عليه فينعدم ويمتحق ، وربما أرخى أذيال الشبه عليه فأخفى بعد أن كان جلياً كما كان شمرها عنه فألقى وقد كان خفياً .
ولما أخبر سبحانه بهلاكهم ، أخبر بالوصف الجامع لهم بالهلاك فقال : ( وكل ( اي من هؤلاء ومن تقدمهم من آل فرعون ومن قبلهم ) كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) ظالمين ) أي لأنفسهم وغيرهم واضعين الآيات في غير مواضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل ؛ ثم علل اتصافهم بالظلم أو استأنف بياناً له بقوله : ( إن شر الدواب ) أي ظلموا لأنهم كفروا بآيات ربهم الذي تفرد بالإحسان إليهم وشر الدواب ) عند الله ) أي في حكم الحكم العدل الذي له الأمر كله وفي علمه ) الذين كفروا ) أي منهم ومن غيرهم ، أي حكم عليهم بلزوم الكفر لما ركب فيهم من فساد الأمزجة لعدم الملاءمة للخير ، فكانوا بذلك قد نزلوا عن رتبة الإنسان إلى رتبة مطلق الحيوان ، ثم إلى دركه الحشرات والديدان بل العجلان ، لأن شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم ، وشر المصرين الناكثون للعهود ) فهم ) أي بسبب ذلك ) لا يؤمنون ( اي لا يتجدد منهم إيمان يستمرون عليه لما سبق من علم الله فيهم ، فلم ينتفعوا بما أتاهم من صفة الربوبية(3/232)
صفحة رقم 233
فمحقتهم صفة الإلهية ، ولعله إنما خص آل فرعون تذكيراً - لأكثر من كان يقول ) غرَّ هؤلاء دينهم ( وهم - اليهود - بأنهم كانوا بالنسبة غلى فرعون وآلة اضعف من الصحابة رضوان الله عليهم بالنسبة إلى قريش وأتباعهم ، فإن اليهود مع قلتهم عندهم كانوا قد دانوا لهم بذل العبيد لمواليهم بل أعظم ، ومع ذلك فإنهم نصروا عليهم لما كان الله معهم ، وإعلاماً لهم بأنهم الآن كآل فرعون في العناد مع ما هم من القلة والذلة ، فقد جوعوا من كل قوم أخس صفاتهم وأردأ حالاتهم ، ولذلك أبدل من عموم ) الذين كفروا ( ) الذين عاهدت منهم ( وهم اليهود بلا شك ، إما بنو قينقاع أو النضير أو قريظة أو الجميع بحسب التوزيع ، فكل منهم نقض ما كان اخذ عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من العهود ، وأخلف ما كان أكده من الوعود .
ولما كان العهد جديراً بالوفاء ولا سيما من العلماء ، عبر بقوله : ( ثم ينقضون عهدهم ( اي يجدون نقضه كلما لاح لهم خلب برق أو زَور بطل يغير في وجه الحق ؛ ثم عظم الشناعة عليهم بقوله : ( في كل مرة ( ثم نبه على رضاهم من رتبة الشرف العلية القدر وهدةَ السفه والسرف بعدم الخوف من عاقبة الغدر بقوله : ( وهم لا يتقون ( اي الناس في الذم لهم على ذلك ولا الله في الدنيا بأن يمكن منهم ، ولا في الآخرة بأن يخرجهم ثم يركسهم بعد المناداة بالعار في النار ولما أيأسه من تقواهم بما اشتملوا عليه من تكرير النقض الناشئ عن غاية الحسد وصلابة الرقاب وقساوة القلوب والقساوة على الكفر ، أمره بما يوهن قواهم ويحل عراهم من إلياس اليأس بإنزال البأس كما جرت عادته سبحانه أنه يوصيه بالرفق ببعض الناس لعلمه أن عمله يزكو لبنيانه على أحسن أساس ، فقال مؤكداً لأجل ما جبل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من محبة الرفق : ( فإما تثقفهم ) أي تصادفنهم وتظفرن بهم ) في الحرب ( اي التي من شأنها أن يحرب فيها المبطل ، ويربح المحق المجمل ) فشرد بهم من خلفهم ) أي فنكل بهم تنكيلاً يصدع ويفرق عن محاربتك من وراءهم ممن هو على مثل رأيهم في المنافرة لك ولا تتركنهم اصلاً لأن أتباعك أمهر منهم وأحذق ، فهم لذلك أثبت وأمكن ، فإذا أوقعت بهم ذلك لم يجسر عليك أحد بعده اتعاظاً بهم واعتباراً بحالهم ؛ ومادة شرد بكل ترتيب تدور على النفوذ ، فإن كان على قصد وسنن فهو رشد ويلزمه الاجتماع ، وإن كان غير سنن وجامع استقامة فهو شرود ، فأما قوله لجاحة يلزمه التفرق ؛ قال ابن فارس : شرد البعير شروداً وشردت به تشؤيداً ، فأما قوله ) فشرد بهم فالمراد نكل بهم وسمّع ، قال القزاز : شردت الرجل تشريداً - إذا طردته ، وشردت به - إذا سمّعت به وذكرت عيوبه للناس ، وقوله تعالى ) فشرد بهم ) أي اجعلهم(3/233)
صفحة رقم 234
مطردين - انتهى .
فالمراد المبالغة في الإيقاع بهم لأنهم إذا ضربوا ضربة تفرقوا فيها على غير وجه ولا انتظام علم من شردوا إليه ممن وراءهم انه قد تناهى بهم الذعر فذعر هو فوقع في الشرود قوة أو فعلاً ، فعلى قراءة من جعل ( من ) حرف جر يكون المفعول محذوفاً ، والتقدير : أوقع - بما سمعوا أو رأوا من حال هؤلاء حين واجهوك للقتال ، وعلى قرلءة من جعلها اسماً موصولاً تكون هي المفعول ، فالمعنى : شرد الذين خلفهم من أمكانهم إما بالفعل أو بالقوة بأن تفترق قلوبهم بما تفعل بهولاء فتصير - بما ترى من قبيح حالهم - قابلة للشرود ، ويكون اختلاف المعنى بالتبعيض في جعل ( من ) حرف جر والتعميم في جعلها موصولاً بالنظر إلى القوة أو الفعل .
ولما ذكر الحكم ، ذكر ثمرته بأداة الترجي إدارة له على الرجاء فقال : ( لعلهم ) أي المشردين والمشرد بهم ) يذكرون ( ما يبق من أيام الله فيعلموا أن هذه أفعاله ، وهؤلاء رجاله ، فينفعهم ذلك فلا ينقضوا عهداً بعده ولقد بهم ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك فإنهم إن كانوا بني قريظة فقد ضربهم ( صلى الله عليه وسلم ) ضربة لم يفلت منهم مخبر ، بل ضرب أعناقهم في حفائر في سوق المدينة وكانوا نحو سبعمائة على دم واحد .
إلا من أسلم منهم وهم يسير ، وسبى ذراريهم ونساءهم وغنم أموالهم ، وإن كانوا قينقاع فقد نزل بساحتهم بعد نقضهم وإظهارهم غاية الاستخفاف والعناد فلم يكبتهم الله أن جعلهم في قبضته وما بقي إلا ضرب أعناقهم كما وقع لبني قريظة فسأله فيهم عبد الله بن أبي المنافق وألح عليه ( صلى الله عليه وسلم ) في أمرهم وكان يألفه ويتألف به فتركهم له ( صلى الله عليه وسلم ) وأجلاهم من المدينة ، وكانت واقعتهم أول وقائع اليهود بالمدينة ، وإن كانوا بني النضير فقد نقضوا ايضاً فأحاط بهم ، ومنّاهم المنافقون الغرور فقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوه ( صلى الله عليه وسلم ) ان يجليهم ويكف عن دمائهم ففعل ، ثم أتم الله له الأمر فيهم في خيبر ووادي القرى وغيرهما إلى أن لم يدع منهم في جزيرة العرب فريقاً إلا ضربه بالذل وأجرى عليه الهوان والصغار ، ووقائعه فيهم مشهورة الخبر معروفه في السير .
الأنفال : ( 58 - 63 ) وإما تخافن من. .. . .
) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ(3/234)
صفحة رقم 235
حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما أمره بما يفعل تحقق نقضه ، أرشده إلى ما يفعل خاف غدره فقال : ( وإما تخافن ( وأكده إشارة ظهور القرائن ووضوح الأمارت ) من قوم ) أي ذوي قوة ، بينك وبينهم عهد ) خيانة ) أي في ذلك العهد ) فانبذ ) أي اطرح طرح مستهين محتقر ) إليهم ( اي ذلك العهد نبذاً كائناً ) على سواء ) أي أمر مستو في العلم بزواله بينكم وبينهم وعدل ونصفه ولا تناجزوهم وهم على توهم من بقاء العهد ، وهذا إشارة إلى يكونوا على غاية الحدذر والفحص عن أخبار العدو بيحيث لا يتركونه إلى أن ينقض ثم يعملون ميله إلى النقض فينبذون إليه عهده لأن ذلك أردع له ، فهو أدعى إلى السلم ؛ ثم علل جواز النبذ ووجوب النصفة بقوله : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) لا يحب الخائنين ) أي لا يفعل بهم فعل المحب لا منكم ولا من غيركم .
ولما كان بنذ العهد مظنة الخوف من تكثير العدو وإيقاظه ، وكان الإيقاع أولى بالخوف ، أتبع سبحانه ذلك ما يجري عليه ويسلي عن فوت من هرب من الكفار في غزوة بدر فلم يقتل ولم يؤسر فقال : ( ولا يحسبن ( بالياء غيباً على قراءة الباقين بالخطاب أن أمر الرئيس ونهبه أوقع في نفوس الأتباع وأدعى لهم إلى السماع ) الذين كفروا ( اي عامة من نبذ ومن لم ينبذ ) سبقوا ) أي وقع لهم السبق ، وهو الظفر في وقت ما ، فإنهم لم يفوتوا شيئاً من أوامرنا ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إنهم لا يعجزون ( اي لا يفوتون شيئاً مما يزيد تسليطه عليهم ، أي لا يغرنك علوهم وكثرتهم وجرى كثير من الأمور على مرادهم فكل ذلك بتدبيرنا ، ولا يخرج شيء عن مرادنا ، ولا بد أن نهلكهم فإنهم في قبضتنا ، لم يخرجوا منها ولا يخرجون فضلاً عن أن يفوتوها فاصبر ولما كان هذا ربما أدى إلى ترك المناصبة والمحاربة والمغالبة اعتماداً على الوعد الصادق المؤيد بما وقع لهم في بدر من عظيم النصر مع نقص دعوى العِدة والعُدة ، أتبعه ما يبين أت اللازم ربط الأسباب بمسبباتها ، وليتبين الصادق في دعوى الإيمان من غيره فقال : ( وأعدوا لهم ) أي للأعداء ) ما استطعتم ) أي دخل في طاعتكم وكان بقوة جهدكم تحت مقدروكم وطاقتكم ) من قوة ) أي قوة كانت ، وفسرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالرمي إشارة إلى أنه أعظم عدده على نحو ( الحج عرفة ) وفي أمرهم بقوله ) ومن رباط(3/235)
صفحة رقم 236
الخيل ( إيماء إلى باب من الامتنان بالنصر في بدر لأنهم لم يكن معهم فيه غير فرسين ، والرباط هو الخيل التي تربط في سبيل الله الخمس منها فما فوقها ، وخصها مع دخولها فيما قبل إشارة إلى عظيم غنائها ، والرباط أيضاً ملازمة تغر العدو وربط الخيل به إعداداً للعدو ؛ ثم أجاب من كأنه قال : لم نفعل ذلك وما النصر إلا بيدك ؟ بقوله : ( ترهبون ( بذلك الذي أمرتكم به من المستطاع أو من الرباط ) عدو الله ) أي الذي له العظمة كلها لأنه الملك الأعلى ) وعدوكم ) أي المجاهدين ، والأليق بقوله - : ( وآخرين ) أي وترهبون بذلك آخرين ) منن دونهم ( - أي يحمل على المنافقين لوصفهم بقوله : ( لا تعلمونهم ( كما قال تعالى
77 ( ) وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردواعلى النفاق لا تعلمهم ( ) 7
[ التوبة : 101 ] ولأنهم لا يكونون دونهم إلا إذا لم يكونوا في العدواة مثلهم ، وكل من فرض غير المنافقين مظهرون للعدواة ، وأما المنافقون فإنهم مدعون بإظهار الإسلام أنهم أولياء لا أعداء ) الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) يعلمهم ) أي فهو يكفيكم ما يظن من أمرهم ، وليس عليكم إلا الجهد بحسب ما تعلمون ، والآية بالنسبة إلى ما تقدمها من باب ( اعقلها وتوكل ) والمعنى لا تظنوا أن الكفار فاتونا وأفلتوا من عذابنا بامتناعهم منكم فإنهم يحملنكم الاتكال على قوتنا على ترك أسباب مغالبتهم بما أعطيناكم من القوى بل ابذلوا جهدكم وطاقتكم في إعداد مكايد الحرب وما يتعلق بالرمي من القوة وبالخبل من الطعن والضرب والفروسيه لنلقي بذلك رعبكم في قلوب عدوكم القريب والبعيد من تعلمونه منهم ومن لا تعلمونه .
ولما كان أغلب معاني هذه الآية الإنفاق ، لأن مبنى إعداد القوة عليه ، رغب فيه بقوله : ( وما تنفقوا من شيء ) أي من الأشاء وإن قلَّ ) في سبيل الله ) أي طريق من له صفات الكمال من الجهاد وغيره ) يوف إليكم ) أي آجره كاملاً في الدنيا والآخرة أوفي ما يكون مضاعفاً أحوج ما تكونون إليه ) وأنتم لا ((3/236)
صفحة رقم 237
ولما كان المخوف مطلق النقص ، بنى للمفعول قوله : ( تظلمون ) أي لا تنقصون شيئاً منه ، وأما الزيادة فلا بد منها وهي على قدر النية .
ولما كان ضمان النصر والحلف في النفقة موجباً لدوام المصادمة والبعد من المسالمة ، أتبعه قوله أمراً بالاقتصاد : ( وإن جنحوا ( اي مالوا وأقبلوا في نشاط وطلب حازم ) للسلم ) أي المصالحة ، والتعبير باللام دون ( إلى ) لا يخلو عن إيماء إلى التهالك على ذلك ليتحقق صدق الميل ) فاجنح ( ولما كان السلم مذكراً يجوز تأنيث غشارة إلى أنه يقتصر فيه على أقل ما يمكن من المدة بحسب الحاجة ، هذا إذا كان الصلاح للمسلمين في ذلك بأن يكون بهم ضعف ، وأقصى مدة الجواز عشر سنين اقتداء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا تجوز الزيادة ولما كان ذلك مظنة أن يقال : إنه قد عهد منهم من الخداع ما أعلم انهم مطبوعون منه على ما لا يؤمنون معه فمسالمتهم خطر بغير نفع ، لوح إلى ما ينافي ذلك بقوله : ( وتوكل على الله ) أي الذي له مجامع العظمة فيما تعهده من خداعهم فإنه يكفيك أمره ويجعله سبباً لدمارهم كما وقع في صلح الحديبية فإن غدرهم فإنه يكفيك أمره وحرف الاستعلاء في هذا وأمثاله معلم بأنه يفعل مع المتوكل فعل الحامل لما وكل إليه المطيق لحمله ؛ ثم علل الأمر بالتوكل الذي معناه عدم الخوف من عاقبة أمرهم في ذلك بقوله : ( إنه هو ( اي وحده ) السميع ) أي البالغ السمع ، فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك وغيره سراً كما يسمعه علانية ) العليم ) أي البالغ العلم وحده فهو يعلم كل ما أخفوه كما أنه يعلم ما أعلنوه ؛ ثم صرح بالاستهانة بكيدهم فقال : ( وإن يريدوا ( اي الكفار ) أن يخدعوك ( اي بما يوقعونمن الصلح أو بغيره ) فإن حسبك ) أي كافيك ) الله ) أي الذي له صفات العز كلها ، ثم علل كفايته أو استأنف بيانها بقوله : ( هو ( اي وحده ) الذي أيدك بنصره ) أي إذ كنت وحدك ) وبالمؤمنين ) أي بعد ذلك في هذه الغزوة التي كانت العادة قاضية فيها بأن من معك لا يقومون للكفار فواق ناقة ، ولعل هذا تذكير بما كان من الحال في أول الإسلام ، أي إن الذي أرسلك مع وحدتك في مكة بين جميع الكفار وغربتك فيهم - وإن كانوا بني عمك - بسبب دعوتك إلى هذا الدين وعلوك عن أحوالهم البهيمية إلى الأخلاق الملكية ، هو الذي قواك وحده بالنصر عليهم حتى لم يقدروا على أذى يردك عن الدعاء إلى الله مع نصب جميعهم لك ولمتبعيك شباك الغدر ومدهم إليكم أيدي الكيد ثم سلّكم من بين أظهرهم كما تسل الشعرة من العجين مع اجتهادهم في منعكم من ذلك ، وأيدكم بالأنصاروجمع بين كلمتهم بعد شديد(3/237)
صفحة رقم 238
العدواة ) وألف بين قلوبهم ( بعد غاية التباغض ، فصار البعيد منهم قريباً والبغيض حبيباً والعدو صديقاً ، وكانوا على قلب واحد ؛ ثم استأنف الإخبار بما دل على تعذر ألفتهم لولا هو فقال : ( لو أنفقت ) أي وأنت أتقن الخلق لما تصنعه ) ما في الأرض جميعاً ) أي في إرادة ذلك ) ما ألفت بين قلوبهم ( ثم أكد ذلك بقوله : ( ولكن الله ) أي وهو الذي له جميع صفات الكمال ) ألف بينهم ( ثم علل نفوذ فعله وأمره فيه بقوله : ( إنه عزيز حكيم ( اي لأنه لولا عزته التي تغلب كل شيء ولا يغلبها شيء وحكمته التي يتقن بها ما أراد بحيث لا يمكن لأحد أن يغير شيئاً منه لما تألفوا بعد أن كان قبل كل أحد من فريقهم للآخر أشهى من لذيذ الحياة وصافي العيش لما بينهم من الإحن التي لا تزال تثور فتغلي لها الصدور حتى تفور بقتل الأحباب من الوالدين والأولاد والقهر بأنواع الأذى مع المجاورة المقتضية لدوام المنتشر مع ما لهم من الحمية والأنفة الحاملة على الانتقام .
والذي امدك بهذه الألطاف حي لا يموت باق على ما كان عليه من القدرة والقوة ، فهو الكفيل بحراستك ممن يريد خداعك ، فإذا امركم بأمركم بأمر فامثلوه غير مفكرين في عاقبته ، فإنه قد بينه بعزته وأتقنه بحكمته وستعلمون .
الأنفال : ( 64 - 67 ) يا أيها النبي. .. . .
) يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ( )
ولما صرح بأن الله كافيه ، وكانت كفاية الله للعبد اعظم المقاصد ، والتفتت الأنفس إلى أنه هل يكفيه مطلقاً أو هو فعل مع المؤمنين أيضاً مثل ذلك ، فأتبعها بقوله معبراً بوصف النبوة الذي معناه الرفعه والاطلاع من جهة الله على ما لا يعلمه العباد ، لأنه في سياق الإخبار ببعض المغيبات والتصرف في الملكوت : ( يأيها النبي ) أي العالي القدر الذي نعلمه بعواقب أموره ) حسبك ) أي كافيك ) الله ) أي الذي بيده كل شيء ) ومن ) أي مع من ) اتبعك من المؤمنين ( يجوز أن يكون الميعه من ضميره ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون المؤمنون مكفيفين ، وأن يكون من الجلالة فيكونوا كافين ، حتى يكون المعنى : فهو كافيهم أيضاً وهم كافوك لأنه معهم ، وساق سبحانه هذا هكذا تطبيقاً لقوبهم وجبراً(3/238)
صفحة رقم 239
لخواطرهم وبالمعنى الثاني - لتضمنه الأول وزيادته عليه - قال ابن زيد والشعبي : حسبك الله وحسبك من اتبعك ، وساقها سبحانه على وجه مكرر لفكاية نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) محتمل لأن فيمن كان على اتباعه في ذلك الوقت لئلا يستقلوا بالنسبة إلى كثرة أعدائهم .
ولما بين أنهم كافون مكفيون ، وكان ذلك مشروطاً الكيس والحزم وهو الهيبة للأبطال في حال من الأحوال ، فقال معبراً بالوصف الناظر إلى جهة التلقي عن الله ليشتد وثوق السامع لما يسمعه : ( يأيها النبي ) أي الغريقين في الإيمان ) على القتال ) أي بالغ في حثهم عليه وندبهم بكل سبيل إليه ، ومادة حرض - بأيّ ترتيب كان - حرض ، حضر ، رحض ، رضح ، ضرح ؛ ترجع إلى الحضور ويلزمه الخفض والدعة ، ويلزم الكسل فيلزمه الضعف فيلزمه الفساد ، ومنه الحرض الذي اشفى على الهلاك ، اي حضر هلاكه وحضر هو موضعه الذي هو فيه فصار لما به لا يزايله ما دام حياً ، ورخص الثوب ، اي غسله ، من الدعه التي هي شأن الحضور غير المسافرين ، والرحضاء عرق الحمى تشبيه بالمغسول ، والمرضاح الحجر الذي لا يزال حاضراً لرضح النوى ، والضريح شق مستطيل يوضع فيه الميت فيكون حاضره لازماً له دائماً إلى الوقت المفلوم ، ويلزمه الرمي والطول ، ومنه المضرحي للطويل الجناحين من الصقور لأن كل صيد عنده حاضر لقوة طيرانه ، والرجل الكريم لعلو همته ، وأحضرت الدابة : عدت فجعلت الغائب حاضراً ، والتحريض الحث على حضور الشيء ، فحضر على القتال : حث على الطيران إليه بتعاطي أسبابه والاستعداد لحضوره حتى يصير المحثوث كانه حاضر ، متى قيل : يا صباحاه طار إلى المنادي ، وكان اول حاضر إلى النادي ، لأنه لا مانع له من شيء من الأشياء بل استعداده استعداد الحاضر في الصف ؛ وقال الإمام أبو الحسن علي ابن عيسى الرماني في تفسيره : والتحريض : الدعاء الوكيد لتحريك النفس على امر من الأمور ، والحث والتحريض والتحضيض نظائر ، ونقيضه التفسير ، والتحريض ترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه مع الصبر عليه - انتهى .
فهذه حقيقته ، لا ما قال في الكشاف وتبعه عليه البيضاوي .
ولما ندبهم إلى القتال ، أعلمهم بأنهم منصورون فيه إن لازموا آلة النصر ، فقال استئنافاً جواباً لمن قال : ما عاقبتهم إذا رغبوا فبادروا إلى ذلك ؟ : ( إن يكن ( ولما كان لذة الخطاب تثير الهمم وتبعث العزائم وتوجب غاية الوثوق بالوعد ، عدل عن الغيبة فقال : ( منكم عشرون ) أي رجلاً : ( صابرون ) أي الصبر المتقدم ) يغلبوا مائتين ( اي(3/239)
صفحة رقم 240
من الكفار ، والآية من الوعد الصادق الذي حققه وقائع الصحابه رضي الله عنهم ) وإن يكن منكم مائة ( اي صابرة ) يغلبوا ألفاً ) أي كائنين ) من الذين كفروا ( فالآية من الاحتباك : أثبت في الأول وصف الصبر دليلاً على حذفه ثانياً ، وفي الثاني الكفر دليلاً على حذفه اولاً ؛ ولعل ما أوجبه عليهم من هذه المصابرة علة للأمر بالتحريض ، أي حرضهم أولاً ؛ ولعل ما أوجبه عليهم من هذه المصابرة علة للأمر بالتحريض ، اي حرضهم لأني اعنت كلاً منهم على عشرة ، فلا عذر لهم في التواني ؛ وعلل علوهم عليهم وغلبتهم لعن على هذا الوجه بقوله : ( بأنهم ) أي هذا الذي أوجبته ووعدت بالنصر عنده بسبب انهم ، أي الكفار ) قوم لايفقهون ( اي ليس لهم فقه يعلمون به علم الحرب الذيدربه اهل الإيمان وإن كنتم ترونهم أقوياء الأبدان فيهم كفاية للقيام بما ينوبهم من أمر الدنيا لأنهم ابدان بغير معان ، كما أن الدنيا كذلك صورة بلا روح ، لأنهم لم يبنوا مصادقتهم على تلك الدعائم الخمس التي قدمتها لكم وألهمتكم إياها في بدر ، فمن لم يجمعها لم يفقه الحرب ، لأن الجيش إن لم يكن له رئيس يرجع إليه لم يفلح ، وذلك الرئيس إن لم يكن أمره مستنداً إلى الملوك كان قلبه ضعيفاً ، وعزمه - وإن كثرت جموعه - مضطرباً ، فإنهم يكونون صوراً لا معاني لها ، والصور منفعله لا فعالة ، والمعاني هي الفعالة ، ةالمعتمد على الله صورته مقترنه بالمعنى ، فأقل ما يكون في مقابلة اثنين من أعدائه كما حط عليه الأمر في الجهاد ، ولعل هذا هو السر فيانتصار الخوارج - من أتباع شبيب وأنظاره على قلتهم - على الجيوش التي كانوا يلقونها عن ملوك زمانهم على كثرتهم ، فإن الخوارج معتقدون أن قتالهم لله مستندين في هذا الإعتقاد إلى ظلم أولئك الملوك وخروجهم عن أمر الله ، والذين يلقونهم عن أولئك الملوك وإن اعتقدوا أنهم أهل طاعة لطاعتهم الإمام الواجب طاعته ، لكنهم يعلمون أن استناد إمامهم إلى الله ضعيف لمخالفته لمنهاج الاستقامه ، وذلك الرئيس نفسه معتقد ذلك وأن ولا يته مفسدة ، وأن تحريم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقتاله إنما هو درء لأعظم المفسدين ، فصار استناد الخوارج إلى الملك الملوك اعظم من استناد ألئك ، ولهذا نشأ عن استناد الخوارج الزهد الذي هو أعظم الموجبات للخذلان ، مصداق ذلك أنهم لما خرجوا على علي رضي الله عنه فسار فيهم بسنة الله من اللطف بهم وتقديم وعظهم والإعذار إليهم وردهم إلى الله فلما لم يقبلوا قصدهمم في ساعة ، قال له بعض من كان يعتني بالنجوم : إنها ساعة نحس ، أن سار فيها حذل ، فقال : سيروا فيها فإنه ما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ك منجون ، فلما لقي الخوارج لم يوافقوهحلب ناقه ولا أفلت منهم أحد ولا قتل من جماعته إنسان ؛ وفهم الإيجاب في قوله تعالى ) إن يكن منكم عشرون ( - الآية وأن الخبر فيه بمعنى الأمر من قوله : ( الآن(3/240)
صفحة رقم 241
خفف الله ) أي الملك الذي الذي له الغنى المطلق صفات الكمال ) عنكم ) أي رحمه لكم ورفقاً بكم ) وعلم ) أي قبل التخفيف وعده ) أن فيكم ضعفاً ) أي في العَدد والعُدد ، ولكنه أوجب عليكم ذلك ابتلاء ، فبعد التخفيف علم ضعفهم واقعاً وقبله علم أنه سيقع ، وتصديره هذه الجملة ب ) الآن ( يشير إلى ان النسخ كان قبل أن تمضي مدة يمكن فيها غزو ، وفائدة الأمر المعقب بالنسخ حيازة الأجر بقبوله والعزم على امتثاله ، وقيل : ما كان النسخ إلا بعد مدة بعد أن سألوا في التخفيف ؛ وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت ) إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ( شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، فجاء التخفيف فقال : ( الآن خفف الله عنكم ( - الآية ؛ فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم ، والمعنى أنه كان كتب مقدراً من الصبر لكل مؤمن ، فلما خفف أزال ذلك بالنسبة إلى المجموع ، وهذا لا يمنع استمرار البعض على ما كان كما فعل سبحانه بالصحابة رضوان الله عليهم في غير موضع منها غزوة مؤته ، فقد كانوا فيها ثلاثة آلاف ، وكان من لقوا من جموع هرقل مائتي الف : مائة من الروم ومائة من العرب المستنصرة ، فصبروا لهم ونصروا عليهم كما في الصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال مخبراً عنهم في هذه الغزوة ( ثم أخذ الراية عن غير إمرة سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه ) ولما توفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ارتد عامة الناس حتى لم يثبت على الإسلام عشر العشر فصبر الصحابة رضوان الله لهم ونصروا عليهم ، بلالذي صبر في الحقيقية أبو بكر رضي الله عنه وحده ، ثم أفاض الله من صبره ونوره على جميع الصحابة رضي الله عنهم فصبروا ، ثم جهز الجيش وأميرهم الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سيف الله ، فأخمد الله به نار الشرك وقطع بصبره وحسن نيته جاذرة الكفر فلم تمض سنة وفي بلاد العرب مشرك .
فلما جمع الله العرب بهذا الدين على قلب رجل واحد قصدوا الأعاجم من الفرس والروم والقبط ، فقاتلوا اهل فارس في عدة وقائع منها القادسية ، وكان الصحابة رضي الله عنهم فيها دون أربعين ألفاً ، وكان المجوس أكثر من أربعمائة ألف - إلى غير ذلك من الوقائع وقد صروا في أكثرها ونصروا ، ثم كانت لهم العاقبة فطردوا الشرك وأهله ، وأظهر الله لهم دينه كما وعد به سبحانه ، وما اجتمع أهل الإسلام وأهل الضلال قط في معرك إلا كانت قتلى المسلكين غير أن الله تعالى جده وتبارك اسمه وتمت كلمته ألطف بالعرب علماً منه بأنهم خلاصة الناس بما طبعهم(3/241)
صفحة رقم 242
سبحانه عليه من الخصال الحميدة والأخلاق السديدة فاسلم كل من اشتملت عليه جزيرتهم بعد وقائع في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وزمان الردة ، ولم تبلغ قتلاهم فيما أظن عشرة الآف إنسان ، ثم لما جاهدوا الأعاجم من فارس والروم وغيرهم كانت قتلى الكفار تبلغ في المعركة الواحدة مائة ألف ومائتي الف - كما هو مشهور في كتب الفتوح للمدائني وسيف وابن عبد الحكم والبلاذري وغيرهم ، وقد جمع أشتات ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي وشيخة ابن حبيش ، ولعله حذف في الثانية التقييد بالكفار ليشمل كا ما استحق القتال من البغاة وغيرهم ، فقال تعالى مسبباً عن التخفيف المذكور راداً الأمر من إيجاب مصابرة عشرة إلى الأمر بمصابرة الضعف ، فإن زاد العدد على الضعف جاز الفرار والصبر أحسن : ( فإن يكن منكم مائة صابرة ) أي الصبر هو كل التنبيه عليه ) يغلبوا مائتين ) أي من غيركم بإذن الله ) وإن يكن منكم الف ) أي على النعت المذكور وهو الصبر ) يغلبوا الفين ( ثم ارشد إلى ان المراد بالصبر هو كل المأمور به في آية
77 ( ) إذا لقيتم فئة فاثبتو ( ) 7
[ الأنفال : 45 ] فقال : ( بإذن الله ) أي بإرادة الذي له جميع الأمر ، ذلك وإباحة لكم وتمكينه ، فإن لم يقع الإذن دليلاً على حذفه أولاً ؛ ثم نبه على عموم الحكم بقوله : ( والله ) أي المحيط بصفات الكمال ) مع الصابرين ( اي بنصره ومعونتع ، ومن ثم قال ابن شبرمة : وأنا أرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك .
زمادة ( إذن ) - مهموزة وغير مهموزة وواوية ويائية بتقاليبها الأربعة : إذن ذان ذون ذين - ترجع إلى العلم الناشئ عن حاسة السمع المتعلق بجارحة الأذن ، وتارة يثمر الإباحة وتارة المنع ، فأذن بالشيء - كسمع : علم به ( فأذنوا بحرب ) أي كونوا على علم من أن حربكم أبيح .
وأذن له بالشيء - كسمع أيضاً : أباحه له ، وآذنه الأمر وبه : اعلمه - وزناً ومعنى ، فجعله مباحاً له أو ممنوعاً منه ، وأذّن فلاناً تاذيناً : عرك أذنه ، وأذّنه : رده عن الشرب فلم يسقه ، كأن التفعيل فيه للإزالة ، وآذن النعل وغيرها : جعل لها أذناً ، وفعله بإذني : بعلمي وتمكني ، وأذن إليه وله - كفرح : استمع باذنه ، اي أباح ذلك سمعه وقلبه ، وأذن لراتحة الطعام : اشتهاه كأنه أباحه لنفسه ، وآذنه إيذاناً : أعجبه ، مثل ذلك سواء ، وآذنه ايضاً : منعه ، كأنه الهمزة للإزالة ، والأذن : الجارحة المعروفة - بضمة وبضمتين - والمقبض والعروة من كل شيء وجبل ، لأن كلاً من ذلك سبب للتمكن من حمل ما هو فيه ، والأذن : الرجل المستمع القابل كل ما يقال له كأنه لما قبله اباحه ومكنه منه ، والأذان : النداء إلى الصلاة لأنه إعلام بإباحتها والمكنةمنها ، وتأذن : أقسم وأعلم ، وتارة يتأثر عنه إباحة ومكنه من الشيء وتارة منع(3/242)
صفحة رقم 243
وحرمة ، فيكون من الإزالة ، وآذن العشب : بدأ يجف فبعضه رطب وبعضه يابس كأنه أمكن من جره وجمعه ببدو صلاحه ، والآذن : الحاجب ، لأنه للتمكن والنمع ، والأذنة محركة : صغار الإبل والغنم كأنها تبيح كل أحد ما يريد منها ، وطعام لا أذنة له : لا شهوة لريحة ، فكأنه ممنوع منه لعدم اشتهائه ، وتأذن الأمير في الناس : نادى فيهم بتهدد ، فهو يرجع إلى المنع والزجر عن شيء تعزيراً ، والذين - بالكسر والياء : العنب ، وكذا الذان - بالألف منقلبة عن واو : العنب ، كأنه لسهولة تناوله ولذة مطعمه أمكن من نفسه ، والتذوّن - ب بالواو مشددة : الغنى والنعمة ، كأنهما سبب للإمكان مما يشتهي ، والذؤنون - مهموزاً كزنبور : نبت من نبات الأرض ؛ والمعنى أنه إنما أذن لكم في ذلك إذا فعلتم الشرط المذكور لأنكم فقهتم على الحرب وبنيتم أمركم فيه على دعائمها الخمس التي ملاكها والداخل في كل منها الصبر ، فكان الله معكم ، وهو مع كل صابر هذا الصبرالمثبت في الدعائم الخمس في كل أوان ، ومما يسأل عنه في الآية أنه ابتدئ في العشرات بثاني عقودها ، وفي المئات والآلاف بأولها .
سالت شيخاً الإمام انتفى وعلم محقق زمانه شمس الدين محمد بن علي القاياتي قاضي الشافعية بالديار المصرية : ما حكمته ؟ فقال : الأصل الابتداء بأول العقود ، لكن لو قيل : إن يكم منكم عشرة صابرة يغلبوا مائة ، لربما توهم انه لا تجب مصابرة الواحد للعشرة إلا عند بلوغ المؤمنين هذا العقد ، فعدل إلى الابتداء بثاني عقود هذه المرتبة لينتقي هذا المحذور ، فلما انتقى وعلم أنه يجب مصابرة كل واحد لعشرة ، ذكر باقي المراتب في الباقي على الأصل المعتاد ، وأما تكرير المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين : قبل التخفيف وبعده فللدلالة - كما قال في الكشاف - على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت وإن كان قد يظن تفاوته ، وكأنه لم يذك الآحاد بشارة بكثرة هذه الأمة واجتماعها وبدأ بالعشرات وختم بالألوف ليستوفي مراتب الأعداد الأصلية - والله أعلم ولما تقدم الأمر بالإثخان في ) فشردبهم ( ثم بإعداد القوة ، ثم التحريض على القتال بعد الإعلام بالكفاية ثم إيجاب ثبات الواحد لعشرة ثم إنزال التخفيف إلى اثنين ؛ كذن ذلك مقتضياً للإمعان في الإثخان ، فحس عتاب الأحباب في اختيار غير ما أفهمه هذا الخطاب ، لكون ذلك أقعد في الامتنان عليهم بالعفو والغفران بسبب أن أكثرهم مال إلى الفداء الأساري فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استشارهم فيهم فاشار أبو بكر رضي الله عنه بالمفاداة ومال معه الأكثر ، وأشار عمر رضي الله عنه بضرب أعناقهم ، وروري أنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو نزل من السماء عذاب - اي في هذا - ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ ) رضي الله(3/243)
صفحة رقم 244
عنهما .
فقال تعالى استئنافاً واستنتاجاً : ( ماكان ) أي ما صح وما استقام ) لنبي ( اي في شرع نبي الأنبياء مستقل ولا مقر ، ولعله عبر بوصف النبوة ليفيد مع العموم أن كلاً من رفعه القدر والإخبار من الله يمنع من الإقدام على فعل بدون إذن خاص ) أن يكون له أسرى ) أي أن ياح له أسر العدو ) حتى يثخن في الأرض ) أي يبالغ فيقتل أعدائه ، فهو عتاب لمن أسر من الصحابة غير من نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتله من المشركين أو رضي بذلك ، وإنما أسند إلى نبي - وقرئ شاذاً بالتعريف - ولم يقل : ما كان في شرع نبي ، تهويلاً للأسر تعظيماً للعفو للمبالغة في القيام بالشكر ، وهذا كان يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله سبحانه وتعالى ) ) فإما منّاً بعد وإما فداء ( ) [ محمد : 4 ] قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، ومادة ثخن تدور على الضخامة ، وتارة يلزمها اللين والضعف ، وتارة الصلابة والقوة ، فحقيقته : يبالغ في القتل فيغلط أمره فيقوى ، ويلين له أعداؤه ويضعفوا ؛ ثم بين لهم ان الميل عن ذلك إنما هو لإرداة الأعراض الدنيوية المبكت به اليهود في آخر التي قبلها بقوله تعالى ) ) يأخذون عرض هذا الأدنى ( ) [ الأعراف : 196 ] كما ان النزاع في الأنفال ميل إلى الدنيا ، وكل ذلك بمعزل عن معالي الأخلاق وكرائم السجايا ، معللاً لعدم الكون المذكور بما تقديره : لأن الأسر إنما يراد به الدنيا ، هكذا الأصل ولكنه ابرز في اسلوب الخطاب لأنه أوقع في النفس فقال : ( تردون ) أي أنها المؤمنون المرغبون في الأنفاق لا في الجمع ، باستبقائهم ) عرض الدنيا ( قال الراغب : العرض ما لا ثبات له ، ومنه استعارة المتكلمون لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون ، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة ، أي المتاع الفداء بأخذ الرجال ) والله ) أي الذي له الكمال كله ) يريد ) أي لكم ) الاخرة ( اي جوهرها لأنه يأمر بذلك لأمراً هو في تأكيده ليمتثل كالإدراة التي لا يتخلف مرادها ، وذلك بالإثخان في قتلهم لظهور الدين الذي تريدون إظهاره والذي به تدرك الآخرة ، ولا ينبغي للمحب أن يريد إلا ما يريد حبيبه ) والله ) أي الملك العظم ) عزيز ) أي منزه جنابه العلي عن لحاق شيء مما فيه ادنى سفول ) حكيم ) أي لا يصدر عنه فعل إلا وهو في غاية الإتقان فهو يامر بالإثخان عند ظهوره قوة المشركين ، فغذا ضعفت وقوي المسلمون فأنتم بالخيار ، ولا يصح ادعاء ولا يته إلا لمن ترقى في معارج صفاته ، فيكون عزيزاً في نفسه فلا يدنسها بالأطماع الفانية ، وفعله فلا يحطه عن أوج المعالي إبى حضيض المهاوي ، وحكيماً فلا ينشأ عنه فعل إلا وهو في غاية الإتقان .
الأنفال : ( 68 - 71 ) لولا كتاب من. .. . .
) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ(3/244)
صفحة رقم 245
الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما علم من الآية ما أشرت إليه ، فكان كأنهم قالوا رضي الله عنهم : تقتضي عزته وحكمته سبحانه من تطهيرنا عما تدنسنا به ؟ استأنف تعالى الجواب عن ذلك ممتناً غاية لا متنان ومحذراً من التعرض لمواقع الخسران فقال : ( لولا كتاب ( اي قضاء حتم ثابت مبرم ) من الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء قدرة وعلماً ) سبق ) أي في أم الكتاب من الحكم بإسعادكم ، ومن أنه لا يعذب التقدم إليه بالنهي ، ومن أنه سيحل لكم الفداء والغنائم التي كانت حراماً على من قبلكم تشريفاً لكم - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ) لمسكم فيما أخذتم ( اي من الأسرى المراد بهم الفداء ) عذاب عظيم ( ولكن سبق حكمي بأن المغنم - ولو بالفداء - لكم حل وإن تعجلتم فيه أمري .
ولما سبق سبحانه هذه البشارة في النذارة ، سبب عنها قوله : ( فكلوا مما غنمتم ) أي من الفدية وغيرها حال كونه ) حلالاً ) أي لا درك ولا تبعة فيه من جهتي ) طيباً ) أي شهياً لكم ملائماً لطباعكم ، وهذا إذا كان مع الشرط التي اقمتها لكم من عدم الغلول والخيانة بوجه من الوجوه والاستثار وشديد الرغبة السائقة إلى ما لا يليق من التنازع وغيره ، ذلك فيما تقدمت فيه إليكم ) واتقوا الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال في جميع ذلك فلا تغلوا ولا تنازعوا ولا تقدموا إلا على ما يبيحه لكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن الله ) أي المتصف بالجلال والإكرام ) غفور ) أي لمن يعلم من قبله أنه من أهل التقوى ) رحيم ) أي له ، فلأجل ما علم في قلوبكم من الخير غفر لكم فلم يعذبكم بتسرعكم إلى غسار من لم يامركم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) للمفاداة دون توقف على غذانه ، ورحمكم فأحسن إليكم فأحل لكم الغنائم ، انظر إلى قوله تعالى ) ان تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سياتكم ويغفر لكم ( تعرف حسن تعليل الأمر بالتقوى بالمغفرة وارحمة ، ويجوز ان يكون علة اللأكل ، اي كلوا فإن الله قد غفر لكم ما عاتبكم عليه ، وفائدة الأمر بالتقوى التحذير من العود اعتماداً على سعة الحلم ، وايضاً فقد تقدم تهديد ومغفرة فناسب ان يدلهم على أن علة المغفرة التقوى ، فكان ترجمة ذلك انه لما رهبهم بمس العذاب عند اخذ الفداء لولا سبق الكتاب ، رغبهم بأنه كلما صدهم عن جنابه صارف ذنب فردهم إليه عاطف تقوى ، أسبل عليهم ذيل المغفرة والرحمة ، ولما علم من هذا إباحة ما يؤخذ من السر من الفداء ، وكان ما يؤخذ منهم تعظم مشقته عليهم ، (3/245)
صفحة رقم 246
أقبل عليهم مستعطفاً لهم ترغيباًفي الإسلام ، فأقبل على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالأمر بمخاطبتهم تنبيهاً على أنهم ليسوا لخطابه سبحانه بما أبعدوا أنفسهم عنه من اختيارهم الكون في زمرة الأعداء على الكون في عداد الأولياء ، فقال معبراً بالوصف الناظر إلى تلقي العلم ترغيباً في التلقي منه ( صلى الله عليه وسلم ) ) يأيها النبي ) أي الذي أنبئه بكل معنى جليل ، يظهر دينه ويزكي أمته مع رفع مقداره وإتمام أنواره ) قل لمن في أيديكم ) أي في أيدي أصحابك وأهل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) من الأساري ( ترغيباً لهم فيما عند الله ) إن يعلم الله ( بما له من صفات الجلال والجمال ) في قلوبكم خيراً ) أي شيئاً من تقواه الحاملة على الإيمان الذي هو رأس الخير وعلى كل خير ) يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ) أي مما يفتح به عليكم من المغانم في الدنيا ويدخره لكم من الثواب في الأخرى ) ويغفر لكم ) أي ما سلف من ذنكوبكم ) والله ) أي الذي بيده كل شيء ) غفور رحيم ) أي من شأنه ذلك ، والمعنى على ما علم من قصة العباس الآتيه رضي الله عنه أنه سبحانه يعاملكم وأمثالكم في غير ما ياخذ منكم جنده بالكرم ، وأما إنه يحكم بإسقاط الفداء عنكم ويأمركم بتركه وإطلاقكم مجاناً بما يعلم في قلوبكم من خير وإيمان كنتم تكتمونه فلا تطمعوا فيه لأن ذلك يفتح باب الدعاوى الباطلة المانعة من الغنائم الموهنة للدين ؛ قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في سيرته : قال ابن عباس وسعيد المسيب : ( كان العباس رضي الله عنه في الأسرى فقال له الرسول صلى الله عنه وسلم : ( افد نفسك وابني أخيك عقيلاً ونوفلاً وخليتك فإنك ذو مال ، ( فقال : يارسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الله أعلم بإسلامك ، إن كان حقاً ما تقول فالله يجريك به ، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا ، ( قال : ليس لي مال ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وأين المال الذي وضعت عند أم الفضل حين خرجت وليس معك أحد ؟ ثم قلت : إن أصبت في سفري هذا فأعطي الفضل كذا وعبد الله كذا ( فقال : والذي بعثل بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها ، فقدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين اوقية وقال : تركتني أسأل الناس ، وأسلم وأمر عقيلاً فأسلم ، ولم يسلم من الأساري غيرهما ) .
ولما كان التقدير : فإن صدقوك وقلبوا - بشرىالله ، وفي لهم ، عطف عليه قوله : ( وإن يريدوا ) أي الأسرى والكفار كلهم أو واحد منهم كأبي عزة ) خيانتك ) أي وأنت أعلى الخلق في عهد من إسلام أو غيره يوثقونه لك ترضى به في المن على أحد(3/246)
صفحة رقم 247
منهم ، بغير فداء ، يرد الله أن يكون وبال ذلك راجعاً إليهم فيمكن منهم ، فلا تخشمن أمرهم ) فقد خانوا الله ) أي الملك الأعظم ؛ ولما كانت خيانتهم غير مستغرقة للزمن ، أدخل الجار فقال : ( من قبل ) أي من قبل هذا الوقت بالكفر وغيره من أنواع الفسق ) فأمكن ) أي فأوجد الإمكان منهم ، وقصره ليدل على أنهم صاروا سلماً لكل أحد ) منهم ) أي يوم بدر بسبب خيانتهم ، فمثل ما أمكن منهم عند وقوع الخيانة سيمكنك منهم إذا أرادوا الخيانة ، فإن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) والله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء ) عليم ) أي بالغ العلم مطلقاً فهو الأشياء كلها التي منها أحوالهم ) حكيم ) أي بالغ الحكمة فهو يتيقن كل ما يريده فهو يوهن كيدهم ويتقن ما يقابلهم به فيلحقهم لا محالة ، وكذا فعل سبحانه في أبي عزة الجمحي فإنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المن عليه بغير شيء لفقره وعياله وعاهده على أن لا يظاهر عليه أحداً ومدحه ثم خان ضظهر به في غزوة حمراء الأسد عقب يوم أحد أسيراً ، فاعتذر له وسأله في العفو عنه فقال : ألا تسمح عارضيك بمكة وتقول : سخرت بمحمد مرتين ، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ، وأمر به فضربت عنقه ، وقال أبو حيان في الخيانه : هي كونهم اظهر بعضهم الإسلام رجعوا إلى دينهم .
الأنفال : ( 72 - 73 ) إن الذين آمنوا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ( ( )
ولما بين للأسرى أن الخير الذي لم يطلع عليه من قلوبهم غير الله لا ينفعهم في إسقاط الفداء عنهم لأنه لا دليل عليه ، وكل ما لا دليل عليه فحكمه حكم العدم ، لأن مبنى الشرع على ما يمكن المكلف معرفته وهو الظواهر ، وختم بصفتي العلم والحكمة ، شرع يبين الخير الخبر الذي يفيد القرب الذي تنبني عليه المناصرة وكل خير ، فقال مقسماً أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أربعة أقسام : قسم جمع الإيمان والهجرة أولاً والجهاد ، وقسم آوى ، وقسم آمن ولم يهاجر ، قسم هاجر من بعد : ( إن الذين آمنوا ) أي بالله ورسوله(3/247)
صفحة رقم 248
) وهاجروا ) أي واقعوا الهجرة من بلاد الشرك ، وهم المهاجرون الأولون ، هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حباً لله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) واجاهدوا ) أي واقعوا الجهاد ، وهو بذل الجهد في توهين الكفر وأهله .
ولما كانت الآيات المتقدمه في آلات الجهاد من النفس والمال تارة بالحث على إنفاقه وأخرى بالنهي عن حبه وتارة بالتسلية للأسرى عند فقده ، كان الأنسب تقديم قوله : ( بأموالهم ) أي بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعهضها بالهجرة من الديار والنخيل وغيرها ) وأنفسهم ( بإقدامهم على القتال مع شدة الأعداء وكثرتهم ؛ وقدم المال لأنه سبب قيام النفس ، وكان في غاية العزة في أول الأمر ، وأخر قوله : ( في سبيل الله ) أي الملك الأعظم لذلك ، ( وفي ) سببية أي جاهدوا بسببه حتى لا يصد عنه صاد فتظهر محاسنه ويسهل المرور فيه من غير قاطع ، ولعله عبر ب ( في ) إعلاماً بأنه ينبغي أن يكون متمكناً من السبيل تمكن المظروف من ظرفه حتى يكون الدين غالباً عليه لا يخرج عنه بوجه من الوجوه ، وأما في سةرة نزلت في أوائل الأمر بعد وقعه بدر في السنة الثانية من الهجرة ، وكان الحال إذ ذاك شديداً جداً ، والأموال في غاية القلة ، والأعداد لا يحصون ، فناسب الاهتمام بشأن المال والنفس فقدما ترغيباً في بذلهما ، وأما براءة فنزلت في غزوة تبوك في أواخر سنة تسع ، فكان المال قد اتسع ، والدين قد عز وضخم وقي وعظم ، وأسلم غالب الناس ، فبعدت مواضع الجهاد فعظمت المشقة ، وتواكل الناس بعضهم على بعض ورغبوا في الإقبال على إصلاح الأموال ، فناسب البداءة هناك بالسبيل .
ولما ذكر أهل الهجرة الأولى ، أتبعهم أهل النصرة ، وهم القسم الثاني من المؤمنين الذين كانوا على زمنه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( والذين آمنوا ) أي من هاجر إليهم من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه رضي الله عنهم فأسكنوهم في ديارهم ، وقسموا لهم من أموالهم ، وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوجوهن ، وأنما قصر الفعل إشارة إلى تعظيم فعلهم بحيث كأنه لا إيواء في الوجود غير ما فعلوا ، وكذا قوله : ( ونصروا ) أي الله ورسوله والمؤمنين ، وهم الأنصار رضي الله عنهم ، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من كليتي الحسنيين ، ولولا إيواؤهم ونصرهم لما تم المقصود ، والمهاجرون الأولون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأوطان والعشائر .
وأشار إلى القسمين بأداة البعد لعلو مقامهم وعز مرامهم فقال : ( اولئك ) أي العالو الرتبة(3/248)
صفحة رقم 249
) بعضهم أولياء بعض ) أي في الميراث دون القرب العارى عن ذلك ، فبين أن الإيمان إن لم يقترن بشهيدين هما الهجرة والجهاد من الغرب عن المدينة وشهيدين هما الإيواء والتصرة من أهل المدينة ، كان عائقاً عن عائقاً عن مطلق القرب بل مانعاً من نفوذ لحمه النسب كل النفوذ ، فكأن من آمن ولم يهاجر لم يرث ممن هاجر قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، ومادة ولي بجميع تصاريفها ترجع إلى الميل ، ويلزم منه القرب والبعد ، وربما نشأ عن كل منهما الشدة ، وترتيب ولي بخصوصه يدور على القرب والبعد ، وربما النصرة ، فالمعنى بعضهم أقرباء بعض ، يلزم كلاً منهم في حق الآخر من المناصرة وغيره ما يلزم القريب لقربيه ، فمتى جمعهم وصف جعلهم شركاء فيما يثمره ، فوصف الحضور في غزوة يشرك بينهم في الغنائم ، لأن أنواع الجهاد كثيرة ، وكل واحد منهم باشر بعضها ، فعن حضور الكل نشأت النصرة ، والمهاجر فب الأصل من فارق الكفار بقلبه ولاواهم ، ورافق المؤمنين بحبه ولبه ووالاهم ، لكن لما كان هذا قد يخفى ، نيط الأمر بالمظنة وهي الدار ، لأنها أمر ظاهر ، فصار المهاجر من باعد دار المشركين فراراً بدينه ، ثم صار شرط ذلك بعد هجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن تكون النقلة إلى دار هجرته : المدينة الشريفة هذا حكم كل مهاجر إلا ما كان من خزاعة فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد علم من مؤمنهم وكفرهم حبه ونصحه وبغض عدوه فلم يلزم مؤمنهم النقلة ؛ قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتاب المدخل إلى الاستيعاب ؛ ويقال لخزاعة حلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنهم حلفاء بني هاشم وقد ادخلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في كتاب القضية عام الحديبية - إلى ان قال : وأعطاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منزلة لم يعطها أحداً من الناس أن جعلهم مهاجرين بارضهم وكتب لهم بذلك كتاباً - انتهى .
وقال شاعرهم نجيد بن عمران الخزاعي يفخر بذلك وغيره مما خصم الله به على يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
وقدأنشأ الله السحاب بنصرنا ركام سحاب الهيدب المتراكب وهجرتنا في أرضنا عندنا بها كتاب أتىمن خير ممل وكاتب ومن اجلنا حلت حرمة لندرك ثأراً بالسيوف القواضب
ذكر ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في غزوة الفتح من سيرته ، والذي تولى حلفهم أولاً هو عبد المطلب جد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال الواقدي في اول غزوة الفتح : وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب ، وكان رسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك عارفاً ، لقد جاءته يومئذ - يعني يوم الحديبية - خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه وهو ( باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذ قدم عليه وسراتهم وأهل الراي ، غائبهم مقر بما قضى عليه شاهدهم ، إن بيننا وبينكم عهد الله وعقوده ، ما لا ينسى ابداً ، اليد واحدة والنصر واحد ، (3/249)
صفحة رقم 250
ما أشرف ثبير حراء وما بل بحر صوفة ، لا يزداد فيما بينهما وبينكم إلا تجدداً أبداً ابداً ، الدهر سرمداً ) فقرأة عليه أبّي بن كعب رضي الله عنه فقال : ( ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما اسلمتم عليه من الحلف ، وكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة ولا حلف في الإسلام ) ؛ قال الواقدي : ( وجاءته أسلم هو بغدير الأشطاط ) جاء بهم بريده بن الحصيب فقال : يارسول الله هذه أسلم وهذه محالّها وقد هاجر إليك من هاجر منها وبقي قوم منهم في مواشيهم ومعاشهم ، فقال النبي صلى اله عليه وسلم : ( أنتم مهاجرون حيث كنتم ) ودعاء العلاء بن الحضرمي فأمره أن يكتب لهم كتاباً فكتب ( هذا كتاب من محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأسلم آمن منهم بالله وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فإنه آمنبامان الله ، وله ذمة الله وذمة رسوله ، وإن أمرنا وأمركم واحد على من دهمنا من الناس بظلم ، اليد واحدة والنصر واحد ، ولأهل باديتهم مثل ما لأهل قرارهم وهم مهاجرون حيث كانوا ) زكتب العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله نعم الرجل بريدة بن الحصيب لقومه عظيم البركه أسلم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نعم الرجل بريده لقومه وغير قومه يا أبا بكر إن خير القوم من كان مدافعاً عن قومه ما لم يأثم ، فإنة الإثم لا خير فيه ) انتهى. وأسلم معه منقومه من ألابعة شعوب من خزاعة .
ولما فتحت مكة ، انقطعت الهجرة لظهور الدين وضعف المشركين ، وقام مقام الهجرة النية الخالصة المدلول عليها بالجهاد كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) فإن كان المؤمن لا يتمكن من إظهار دينه وجبت عليه النقلة .
ولما بين سبحانه تعالى امر من جمع الشروط ، شرع يبين حكم من قعد عن بعضها وهو القسم الثالث فقال ؛ ) والذين آمنوا ) أي اشتهر إيمانهم ) ولم يهاجروا ) أي قبل الفتح بل استمروا في بلادهم ) ما لكم من ولايتهم ( واغرق في النفي فقال : ( من شيء ) أي في التوراث ولا في غيره ؛ ورغبهم في الهجرة بقوله : ( حتى يهاجرون ( أي(3/250)
صفحة رقم 251
يواقعوا الهجرة لدار الشرك ومن فيها ) وإن استنصرهم ) أي طلبوا نصركم ) في الدين ) أي بسبب امر من أموره وهم متمكنون من الدين تمكن المظروف من الظرف ) فعليكم النصر ) أي واجب عليكم ان تنصروهم على المشركين ، فالمعنى انه ليس لهم عليكم حق القريب إلا في الإستنصار في الدين ، فإن ترك نصرهم يجر إلى مفسده كما أن موالاتهم تجر إلى مفاسد ؛ ثم استثنى من الوجوب فقال : ( إلا على قوم ( وقع وكان ) بينكم وبينهم ميثاق ) أي لأن استنصارهم يوقع بين المفسدين : ترك نصرة المؤمن ونقض العهد وهو اعظمهما فقدمت مراعاته وتركت نصرتهم ، فإن نصرهم الله على الكفار فهو المراد من غير أن تدنسوا بنقض ، وغن نصر الكفار حصل لمن قتل من إخوانكم الشهادة ولمن بقي الضمان بالكفاية ، وكان ذلك داعياً لهم إلى الهجرة ، ومن ارتد منهم أبعده الله ولن يضر إلا نفسه والله غنى حميد ، فقد وقع - كما ترى - تقسيم المؤمنين إلى ثلاثة اقسام : أعلاها المهاجر ، ويليه الناصر ، وادناها القاعد القاصر ، وبقي قسم رابع ياتي ؛ قال أبو حيان : فبدأ بالمهاجرين - أي الأولين - لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب لله تعالى ، فهاجر قوم إلى المدنية ، وقوم إلى الحبشة ، وقوم إلى ابن ذي يزن ، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدين ( من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يو القيامه ) وثنى بالأنصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال ، لكنه عادل بالهجرة الإيواء والنصرة ، وانفراد المهاجرين بالسبق ، وذكر ثالثاً من آمن ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجرين ، ولا توارث بينه قربية المسلم غير المهاجرين ، قال ابن زيد : واستمر امرهم كذلك بوقعه بدر أولى للآية الآتية آخر السورة مع ما يؤيد ذلك من ىية الأحزاب ولما كان التقدير : فالله بمصالحهم خبير ، وكان للنفوس دواع إلىى مناصرة الأقارب والأحباب ومعاداة غيرهم خفية ، ولها دسائس تدرك ، حذرمن ذلك بقوله عاطفاً على هذا المقدر : ( والله ) أي المحيط علماً وقدرة ، ولما كان السياق لبيان المصالح التي تنظم الدين وتهدم ما عداه ، وكان للنفوس - كما تقدم - أحوال ، اقتضى تأكيد العلم بالخفاوة فقدم الجار الدال على الاختصاصالذي هو هنا كناية عن إحاطة(3/251)
صفحة رقم 252
العلم فقط مرهباً : ( بما تعلمون بصير ( وفي ذلك ايضاً ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة والنصرة والإنفاق والتحري في جميع من ذلك وترهيب من العمل بأضدادها ، وفي ( البصير ) إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً ، ففيه مزيد حث على الإخلاص .
ولما بين شرط موالاة المسلم ، بين مولاة الكافر وما يجب من مناظرتهم ومبارتهم فيها ، وأنه لا شرط لها غير مطلق الكفر فإنه وإن اختلفت انواعه وتباعدت انحاؤه - يجمعه عداوه الله و ولاية الشيطان فقال : ( والذين كفروا ) أي أوجدوا هذا الوصف على أي حال كانوا فيه ) بعضهم أولياء بعض ) أي في الميراث والنصرة وغيرهما ، وهو خبر محض مشير إلى نهي المسلم عن موالاتهم ، وأما الذي مضى في حق المؤمنين فهو أمرصورة الخبر وصيغته ، يعني ان في كل من الكفار قوة الموالاة للآخر عليكم والميل العظيم الحاث وهم حزب ، يجمعهم داعي الشيطان بوصف الكفران كما يجمعكم داعي الرحمن بوصف الإيمان ، قال أبو حيان : كانوا قبل بعثة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعادي أهل الكتاب منهم قريشاً ويتربصون بهم الدوائر ، فصاروا بعد بعثه النبي صلى الله عليع وسلم يوالي الأثر ) إلا تفعلوه ( اي مثله من تولي المؤمنين ومعاداة االكافرين كما يفعل الكفار بالتعاضد والتعاون بالنفس والمال كما ارصدوا مال العير الذي فاتكم حتى استعانوا به على قتالكم في أحد ، فاللائق بكم أن تكونوا أعظم منهم في ذلك ، لأنهم يريدون بذلك رم واهي دنياهم الفانية وأنتم تبنون آخرتكم الباقية ، وداعيكم ولي غنى وداعيهم عدو دنى فضلاً عن ان تنزلوا إلى حضيض التنازع في الغنائم ) تكن فتنة ) أي عظيمة ) في الأرض ( اي خلطة مميلة للمقاصد عن وجوهها ) وفساد كبير ) أي ينشأ عن تلك الفتنة ، والكبير ناظر إلى العظم ، وقرئ شاذاً بالمثلثة فيكون عظمة حينئذ مخصوصاً بالأنواع ، وبيان الفسادأنه غذا قارب المؤمن الكافر والكافر المؤمن وتناصروا أو ترك المؤمنون التناصر فيما بينهم انخّل النظام فاختل كل من النقض والإبرام ، فاختلف الكلام فتباعدت القلوب ، فتزايدت الكروب ، فالواجب عليكم أن تكونوا إلباً واحداً ويداً واحدة في الموالاة وتقاطعوا الكفار بكل اعتبار ليقوم أمركم وتطيب حياتكم ، وتصلح غاية الصلاح دنياكم وآخرتكم ، والآية شاملة لكل ما يسمى تولياً حتى في الإرث وقتال الكفار ومدافعة المسلمين بالأمر والإنكار ، ولما ترك بعض العلماء إعانة بعض فئة حصل ما خوف الله تعالى منه من الفتنة والفساد حتى صار الأمر إلى ما ترى من علو المفسدين(3/252)
صفحة رقم 253
وضعف أهل الدين ، فالأمر بالمعروف فيهم في غاية الذل والغربة ، يرد عليه أدنى الناس فلا يجد له ناصراً ، ويجد ذلك الآخر له على الرد أعواناً كثيرة ، وصار أحسن الناس حالاً مع الأمراء وأعظمهم له محبة من يقنع بلومه على فعله ظناً منه أن ذلك شفقة عليه - واللع المستعان .
الأنفال : ( 74 - 75 ) والذين آمنوا وهاجروا. .. . .
) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ( )
ولما تقدمت انواع المؤمنين : المهاجر والنصر والقاعد ، وذكر أحكام موالاتهم ، اخذ يبين تفاوتهم في الفضل فقال : ( والذين آمنوا ) أي بالله وما أتى منه ) وهاجروا ) أي فيه من يعاديه سابقين مع نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وجاهدوا ) أي بما تقدم من المال والنفس أو بأحدهما ) في سبيل الله ) أي الذي له صفات الكمال فبذلوا الجهد في إذلالهم كما بذل الأعداء الجهد في إذلالهم ، ولم يذكر آلة الجهاد لأنها - مع تقدم ذكرها لازمة ) والذين آووا ) أي من هاجر إليهم ) ونصروا ) أي حزب الله ، وأعلم بقوله : ( أولئك ) أي الصنفين الأولين خاصة ) هم المؤمنين حقاً ) أي حق الإيمان ، لأنهم حققوا إيمانهم : المهاجر بالانسلاخ من كل ما يحبه من الأمور الدنيوية ، والناصر من جميع أهل الكفر بإيواء أهل الله ونصرتهم .
ولما بين وصفهم ، بين ما حباهم به بقوله دالاً على أن الإنسان محل النقصان ، فهو - وإن اجنهد حتى كان من القسم الأعلى - لا ينفك عن مواقعه ما يحتاج فيه إلى الغفران : ( لهم مغفرة ) أي لزلاتهم وهفواتهم ، لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عنه التقصير وإن اجتهد ، والدين متين فلن يشاده أحد إلا غلبه ؛ _ ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة ، ذكر تزكيتهم بالرحمة فقال : ( ورزق ) أي من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة ) كريم ) أي لا كدر فيه بوجه ، لا في قطعه ولا في نقصانه ولا في شيء من شأنه .
ولما حصر المؤمنين حقاً في الموصفين ، بين أن من ترك ماهو عليه من لزوم دار الكفر والقعود عن الجهاد ، لحق بمطلق درجنهم وإن كانوا فيها أعلى منه فقال ذاكراً القسم الرابع : ( والذين آمنوا ( ولما كانوا قد تأخروا عن دعوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مدة ، ادخل للسابقين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم من هاجر بعد الحديبة ، قال : وهي الهجرة الثانية ) وجاهدوا معكم ) أي من تجاهدوا من حزب الشيطان ) فأولئك منكم ((3/253)
صفحة رقم 254
أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها ، لأن الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم كما أفهمته أداة البعد .
ولما بين أنهم ، بين أنه متى جمعهم الوصف المحصل للولاية ، كان القرب في الرحم أولى من غيره فقال : ( وألو الأرحام ) أي من المؤمنين الموصوفين ) بعضهم أولى بعض ) أي في الإرث وغيره من المتصفينبولاية الدين الخالية عن الرحم ) في كتاب الله ) أي القرآن أو في حكمه وقسمة الذي أنزله إليكم الملك الأعظم في آيات الإرث ، وهي مقيدة بالعصبات فنسخت الولاية فبل دلالة على توريث غيرهم ، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة النمذر بن عمرو أن بدراً قطعت المواخاة بين الصحابة رضي الله عنهم ، يعني فتمون هذه الآية ناسخة آية ) بعضهم أولياء بعض ( وتكون تلك حينئذ مبينة أمر ما كان قبل غزوة بدر - وهوحسن ، والآية التي في سورة الأحزاب مؤيدة له ، ثم علل سبحانه ما ذكر بما يرغب فيه فقال : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال كلها ) بكل شيء عليم ( فهو يعلم أن هذا هو الذي تدور عليه المصلحة وتدوم به الألفة كما علم في أول الأمر أن نوط الإرث وغيره من لوازم القرب بالأخوة الإسلامية أولى لما في ذلك من تكثير قلتكم ونصر ذلتكم وجمع شتاتكم وجعل ما بينكم من الأخوة كلحمة النسب ، فاما الآن فقد ضرب الدين بجزانه ، وثبت بقواعده وأركانه ، وولى الكفر بسلطانه ، ونكص مدبراً بأعوانه ، فتورثوا بالإسلام والقرابة وتقاطعوا الكفار ، وقربوا وبعدوا ، وانحازوا عنهم كما انحازو عنكم ، وتبرؤوا منهم كما تبرؤوا منكم ، فقد انطبق آخر السورة بالإعراض عن الدنيا وإصلاح ذات البين وبيان المؤمنين حقاً وتقليد العليم في جميع الأعمال من غير اعتراض - على أولها ، وببيان من يوالي ومن يعادي على أول براءة - والله الموفق .(3/254)
صفحة رقم 255
( سورة التوبة )
مقصودها معاداة من أعرض عما دعت إليه السورة الماضية من اتباع الداعي إلى
الله في توحيده وأتباع ما يرضيه ، وموالاة من أقبل عليه ، وأدل ما فيها على الإبلاغ في هذا المقصد فصة المحلفين فإنهم - لاعترافهم بالتخلف عن الداعي بغير عذر في غزوة تبوك المحتمل على وجه بعيد منهم رضي الله عنهم للاعراض بالقلب - هجروا ، وأعرض عنهم بكل اعتبار حتى بالكلام ، فذلك معنى تسميتها بالتوبة ، وهو يدل على البراءة لأن البراءة منهم 0 بهجرانهم حتى رد السلام ، كان سبب التوبة ، فهو من إطلاق المسبب على السبب وتسميتها براءة واضح أيضا فيما ذكر من مقصودها ، وكذا الفاضحة لأن من افتضح كان أهلا للبراءة منه ، والبحوث لأنه لا يبحث إلا عن حال البغيض ، والمبعثرة هو المنفرة والمثبرة والحفارة والمخزية والمهلكة والمشردةة والمدمدمة والمنكلة لأنه لا يبعثر إلا حال وكذا بعده ، والمشردة عظيمة المناسبة مع ذلك عظيمة المناسبة مع ذلك لما أشارت إليه الأنفال في ) فشرد بهم من خلفهم ْ [ الأنفال : 57 ] وسورة العذاب أيضا واضحة في مقصودها ، وكذا المقشقشة لأنهم قالوا : إن معناه المبرئة من النمفاق ، من تقشقشت قروحه ، إذا تقشرت للبرء ، وتوجيهه أن من عرف أن الله برئ منه ورسوله والمؤمنون لأمر فهو جدير بأن يرجع عن ذلك الأمر
، وعندي أيضا أنه مضاعف القش الذي معناه الجمع ، لأنها جمعت أصناف المنافقين وأحوالهم وعليه خرج ما في وصف أبي جهم بن حذيفة لمن أراد نكاحها : أخاف عليك قشقاشته ، أي تتبعه لمذاق الأمور ، أخذا من القش الذي هو تطلب المأكول من هنا هنا وها هنا ، أو عصاه التي هي غاية ذلك ، ومادة قش ومقلوبها شق ةمضاعفهما قشقش وشقشق تدور على الجمع وتلازمه الفرقة فإنه لا يجتمع إلا ما كان مفرقا ولا يفرق إلا ما كان مجتمعا ، وقد اقتسم هذان المثالان المعنيين إلا قليلا ، فقش القوم : صلحوا وأحبوا بعد الهزال يجمع اللحم ، والرجل : أكل من ها هنا ولف ما قدر عليه مما على الخوان ، واضح في ذلك ،(3/255)
صفحة رقم 256
وأفشوا وانفشوا - إذا انطلقوا فجفلوا ومروا ذاهبين - وقد انقشوا إذا مروا وذهبوا مسرعين لاجتماعهم في ذلك وجمعهم ما قدروا عليه من متاعهم ، والقش والإقشاش : طلب المأكول من ها هنا وها هنا لجمعه ، والقشة - بالكسر : القردة كأنها لجمعها ما رأت مما يؤكل في فيها ، والصبية الصغيرة الجثة التي لا تكاد تثبت كأنها لاجتماعها في نفسها ، وكذا القشيش : الصغير من الصبيان ، ودويبة كالجعل إما لاجتماعها في نفسها أو لجمعها القاذورات ، والقشيش كأمير : الفقاطة لأنها بجمعها اللقاطون ، وصوت جلد الحية يحك بعضها ببعض ، لأنه لا يكون إلا عند التثني والتجمع ، وقش من الجدري : برئ منه كتقشقش يصلح أن يكون من الفرقة لآنه فارقه ، ومن الجمع لأن البرء جمعه كله فأزاله ، ويمكن أن تكون همزته للإزالة ، وتقششت القروح وتقشقشت - إذا تقشرت للبرء ، إما من الجمع لاجتماع القوى للصحة ، وإما من الفرقة والزوال ، وكذا تقشقش البعير - إذا برئ من الجرب ، ويقال : قششهم بكلامه - إذا تكلم بقبيح الكلام وآذاهم ، أي لجمعه همومهم على بغضه أو معايبهم ، وكذا قش الشيء : جمعه بيده حتى يتحات ، أي قشره جميعه ، فهو يصلح للفرقة والجمع ، وقش : مشى مشى المهزول أي اضطرب ، وهو يوجب الإسراع والتثني فيصلح للجمع ةالفرقة ، وقش : أكل مما يلقيه الناس على المزابل أو أكل كسر الصدقة ، لأن ذلك غاية في الجمع ، وقش النبات : يبس ، فاستحق أن يمجع ، والقش : ردئ التمر كالدقل ونحوه لأنه ، يجمع في نفسه ، والدلو الضخم لكثرة ما يجمع ، وفي الحديث ) قل يا أيها الكافرون ( و ) قل هو الله أحد ( المقشقشان ، أي المبرئتان من الشرك لما في الحديث : اقرأ ) قل يا أيها الكافرون ( عند منامك فإنها براءة من الشرك ، فالمعنى أنهما تجمعان كل شركط ونفاق دقيق أو جليل فتنزيلاته ، والقشقشة يحكى بها الصوت قبل الهدير في محض الشقشقة قبل أن نرعد بالهدير ، لأن مبادئ صوت الهدير زائد الضخامة ، فكأنه جامع ، فكذا ما يحكيه ، والقشقاشة : العصا ، لجمعها ما يراد بها أو لأنها يقشر عنها لحاؤها كما يقشر جلد الحية وأما مقلوبة فيقال فيه : شقة : صدعة أي فرقة ، وقال الخليل : الصدع ربما كان في أحد الوجهين غير نافذ ، والشق لا يكون إلا نافذا ، وشق ناب البعير : طلع ، لأنه فرق اللحم ،(3/256)
صفحة رقم 257
وشق العصا : فرق باثنيتين وفرق بين الجماعة ، وشق عليه الأمر : صعب ففرق نفسه ، وشق عليه : أوقعه في مشقة ، وشق بصر المحتضر : نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه ، لأنه لتصويبه إلى جهة واحدة مفترق من بقية الجهات ، والشق واحد الشقوق ، والصبح لأنه يفرق جيش الظلام ، وجوبة ما بين الشفرين من جهاز المرأة ، والتفريق ومنه شق عصا المسلمين ، واستكالة البرق إلى وسط السماء من غير أن يأخذ يمينا وشمالا لأنه يشق السحاب مستقيما كما يشق اللوح والعصا ، - بالكسر : الجانب لأنه مفارق للجانب الآخر ، واسم لما نظرت إليه لأنه في جانب واحد ، وجنس من أجناس الجن لأنه فرقة منهم ، ومن كل شيء نصفه - ويفتح - ويفتح ، والمال بيني وبينك شق الشعرة - ويفتح : نصفان سواء ، والشقة - بالكسر : شظية من لوح ، ومن العصا والثوب وغيره ما شق مستطيلا ، والشقية : ضرب من الجماع كأنه على شق واحد ، والشقة بالضم والكسر : البعد والناحية يقصدها المسافرؤ ، والسفر البعيد ، وكله واضح في الفرقة ، والمشقة أيضا لأنها تأخذ أحد شقى النفش ، والفرس البعيد ما بين الفروج والطويل ، كأن أجزاءه تفرقت فطال ضد ما تقدم في الصبية الصغيرة ، والأشق أيضا : العجل إذا استحكم كأنه لما تأهل من شق الأرض بالحراثة ، وكل ما اشتق نصفين ، والشقيقة كسفينة : الفرجة بين الجبلين تنبت العشب ، لأنها فرقت بين الجبلين وفرقت عشبها بين ملتم أرضها ، والمطر ، الوابل المتسع لأن الغيم نشقق عنه ، ومن البرق ما نتشر من الأفق لأنه يشق السحاب ، ووجع يأخذ نصف الرأس والوجه ، وشقائق النعمان معروف سميت لحمرتها تشبيها بشقيقة البرق ، كذا قالوا ، وعندي أنها سميت لتفرق أوراقها وتصفقها فكأنها مشققة مع التجمع ، والشقاق كغراب : تشقق يصيب أرساغ الدواب - والشقشقة بالكسر : شيء كالرثة يخرجه البعير من فيه إذا هاج ، كأنه بشق حلقه فيخرج ويوجب هديره الذي يشق الطباق تجويفه ليصوت ، ومنه شقشق الفحل : هذر ، والعصفور : صوت ، وشقق الكلام : أخرجه أحسن مخرج ، وشقق الحطب : فرق كل واحدة باثنتين أو أكثر ، وانشقت العصا : تفرق الأمر ، والاشتقاق : أخذ شق الشيء والأخذ في الكلام وفي الخصومة يمينا وشمالا مع ترك القصد ، لأنه يشق جهات المعاني ، وه أيضا أخذ الكلمة من الكلمة ، فكأنه فرق بين أجزائها ، وهذا أخي وشق نفسي وشقيقي كأنه يشق نسبه من نسبه أو كأنه شقه منه ، وهذه السورة آخر سورة نزلت روى البخاري في التفسير وغيره من صحيحه عن البراء رضي الله عنه قال : آخر آية نزلت ) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ( وآخر سورة نزلت براءة .(3/257)
صفحة رقم 258
ولما كانت مناسبة أولها - الداعي إلى البراءة مم ن يخشى نقضه - لآخر الأنفال المبين لمن يصلح للولاية المختتم بشمول العلم في حد عظيم من الظهور مع ما تقدم من بيان مناسبة آخر الأعراف لأول الأنفال ، قدمت الأنفال مع قصرها على براءة مع طولها واشتباه أمرها على الصحابة في كونها سورة مستقلة أو بعض سورة كما قدمت آل عمران مع قصرها على النساء لمثل ذلك من المناسبة ، فكان ما ذكر في براءة من البراءة والتولي شرحا لآخر الأنفال ، روى الإمام أحمد يفي المسند وأبو داود في السنن والترمذي في الجامع وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى والبزار والبيهق يوالإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستس القاضي في تفسيره - بسند الترمذي والبيهقي - والإمام أبو جعفر النحاس بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه : ما حملكم على أن عندتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطرا بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطول ؟ ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان رضي الله عنه : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مما - وقال الستي : ربما - يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، وكانت فصتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها ، فقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبين لنا أنها منها ، قال النحاس : وذهب عني أ ، أسأله عنعا ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر ) بسم الله الرحمن الرحيم ( فوضعتها في السبع الطول - زاد ابن راهويه : وكانتا تدعيان القرينتين - انتهى. فبين أنهما اشتبها عليه وأنه وضعهما في الطول لمناسبتهما لها على تقدير كونها سورة واحدجة ، قال في القاموس : والسبع الطول - كصرد - من البقرة إلى الأعراف ، والسابعة سورة يونس أو الأنفال وبراءة جميعا لأنهما سورة واحدة - انتهى. وقال في الكشاف : وقيل : سورة الأنفال والتوية سورة واحدة كلتاهما نزلت في القتال تعدان اتلسابعة من الطول ةبعدها المئون ، وهذا قول ظاهر لأنهما معا مائتان وست فهما بمنزلة سورة واحدة ، وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من يقول : هما سورتان ، وتركت " بسم "(3/258)
صفحة رقم 259
لقول من يقول : هما سورة واحدة. انتهى. وعن أبي كعب رضي الله عنه أنه قال : إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود ، ووضعت إحداهما بجنب الأخرى ، والمراد بالمثاني هنا ما دون المئين وفوق المفصل ، قال أبو عبيد الهروي : قيل لها مثاني لأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني - انتهى. والأحسن كون ذلك بالنسبة إلى اغلمفصل من وجهين : الأول أن المفصل أول لقب جامع للسور باعتبار القصر وفوقه المثاني ثم المئون ثم الطول ، فالمثاني ثانية له حقيقة ، وما هي ثانية للمئين إلا أن ألفينا البداءة بالطول من الطرف الآخر ، الثاني أنها لما زادت على المفصل كانت قسمة السورة منها في ركعتين من الصلاة كقراءة سورتين من المفصل فكانت مثاني لتثنيتها في مجموع الصلاة باعتبار قراءة بعضها في كل من الركعتين ، قال أبو جعفر النحاس : قال أبو إسحاق : جدثني بعض أصحابنا عن صاحبنا محمد بن يزيد أنه قال : لم تكتب في أولها بسم الله ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سألت عليا رضي الله عنه : لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ها هنا ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم " أمان - انتهى. وبهذا أخذ الإمام أبو القاسم الشاطبي في قصيدته حيث قال :
ومهما تصلها أو بدأت براءة
تنزيلها بالسيف لست مبسملا
وقال في الكشاف : وسئل ابن عيينة فقال : اسن الله سلام وأمان ، فلا يكتب في النبذ والمحاربة ، قال الله تعالى ) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) [ النساء : 94 ] قيل : فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم " قال : إنما ذلك ابتداء ، يدعوهم ولم ينبذ إليهم ، ألا تراه يقول " سلام على من اتبع الهدى " فمن دعى إلى الله فأجاب ودعى إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى ، وأما النبذ فإنما هو البراءة واللعنة - انتى. ولا يعارض هذا خبر ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهما ، بل هو شبيه لما نزلت من غير بسملة للمعنى المذكور ، اشتبه أمرها على الصحابة رضوان الهل عليهم ، ولم يقع سؤال عنها حتى توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكانت موافقتهم للسور في تسميتها باسم يخصها دليلا على أنها سورة برأسها ، ومخلفتهعم في ترك إنزال البسملة في أولها مع احتمال أنها تركت للمعنى المذكور أو لغيره دليلا على أنها بعض سورة ، فقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يعرف فصل السورة - وفي رواية : لا يعلم انقضاء السورة(3/259)
صفحة رقم 260
حتى ينزل عليه ) بسم الله الرحمن الرحيم ( قال الحافظ أبو شامة : هذا حديث حسن وللحاكم في المستدرك أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهعما قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاؤء السورة حتى ينزل " : بسم الله الرحمن الرحيم " فلما نزل علم أن السورة قد انقضت فلما اشتبه أمرها تركوا كتابة البسملة في أولها وفصلوها عن الأنفال قليلا - والله الموفق. هذا وقد مضى بيان تشابه فصتيهما في أول الأنفال وأثناء الأعراف إجمالا ، وأما تفصيلا فلما في كل منهمت من نبذ العهد إلى من خيف نقضه ، وأن المسجد الحرام لا يصلح لولايته إلا المتقون ، وأن المشركين نجس لا صلاحية فيهم لقربانه ، وأن قلة حزب الله لا تضرهم إذا لزموا دعائم النصر الخمس وكثرتهم لا تغنيهم إذا حصل في ثباتهم لبس ، والحث على الجهاد في غيبر موضع ، وضمان الغنى كما أشار إليه في الأنفال بقوله ) لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) [ الأنفال : 4 ] وذك أحكام الصدقات التي هي من وادي الغنائم ، وعد أصناف كل ، والأمر بالإنفاق المشار إليه في الإنفاق وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذي أرصدوه حتى به على غزوة أحد المشار إليهفي الأنفال بقوله ) ) والذين كفروا ينفقون أموالهم ) [ الأتفال : 73 ] أي بالتناصر في الأنفال وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذي أرصدوه حتى استعانوا به على غزوة أحد المشار إليه بآية ) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ) [ الأنفال : 36 ] مع آية ) إلا تفعلوه ) [ الأنفال : 49 ] والأمر الجامع للكل أنهما معا في بيان حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أول أمره وأثنائه ومنتهاه ، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في كتابه : اتصالها بالأنفال أوضح من أن يتكلف بتوجيهه حتى أن شدة المشابهة والالتئام - مع أن الشارع عليه السلام لم يكن بين انفصالهما - أوجب أن لا يفصل بينهما [ ) بسم الله الرحمن الرحيم ( ، وذلك أن الأنفال قد تضمنت الأمر بالقتال ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) [ الأنفال : 39 ] وبين أحكام الفرار من الزحف وحكم النسبة المطلوب فيها بالثبوت ولحوق التأثيم للفار وأنها على حكم الضعف وحكم الأسرى وحكم ولاية المؤمنين وما يدخل تحت هذه الولاية ومن يخرج عنها ، ثم ذكر يفي السورة الأخرى حكم من عهد إليه من المشركين والبراءة منهم إذا لم يوفوا ، وحكم من استجار منهم إلى ما يتعلق بهذا ، وكله باب واحد ، وأحكام متواردة على قصة واحدة ، وهو تحرير حكم المخالف ، فالتحمت السورتان(3/260)
صفحة رقم 261
أعظم التحام ، ثم عاد الكلام إلى حكم المنافقين وهتك أستارهم ، انتهى. وأما تطابق آخر الأنفال مع أولها فقد ظهر مما مضى ، وأيضا فلما ذكر في آخر التي قبلها أمر العهد تارة بنبذه إلى من خيفت خيانته كائنا من كان يفي قوله ) فانبذ إليهم على سواء ) [ الأنفال : 58 ] وتارة بالتمسك به عند الأمن من ذلك في وقه ) إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) [ الأنفال : 72 ] وبين من يصلح للموالاة ومن لا يصلح ، وختمت بالإخبار بشمول علمه ، ابت
ئت هذه السورة بالأمر بالنبذ إى ناس بأعيانهم نقضوا أو خيف منهم ذلك وذلك تصريح بما أفهمته آيات الموالاة في التي قبلها من أن إحدى الفرقتين لا تصلح لموالاة الأخرى فقال تعالى :
التوبة : ( 1 - 2 ) براءة من الله. .. . .
) بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( ( )
براءة ) أي عظيمة ، ثم وصفها بقوله : ( من ) أي حاصلة واصلة من ) الله ( المحيط بصفات الكمال ، فهو العالم بمن يستحق الولاية ومن يستحق البراءة ) ورسوله ( اي المتابع لمر لعلمه به .
ولما كانوا قد توقفوا في الحديبة كلهم أو كثير منهم تارة في نفس العهد وتارة في التأخر عن الأمر بالحلق ، ثم تابعوا في كل منهما ، وكان الكفار بمحل البعد عن كل خير ، أشار إلى ذلك بأداة الغاية ، وجعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع الله إشارة إلى أنه لا يخالفه أصلاً ، وأسندت المعاهدة إليهم إشارة إلى ذلك التوقف تحذيراً من أن يقع مثله ، فقال مخبراً عن النبذ الموصوف : ( إلى الذين عاهدتم ) أي أوقعتم العهد بينكم وبينهم ) من المشركين ) أي وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله ، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما ، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع الانتظام ان العهد إنما هو لأجل المؤمنين ، وأما الله ورسوله لأنه ما فعل ذلك به إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب ، وعلم أن ذلك فيمن نقض أو قارب من قوله بعد ) الاالذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئاً ( - الآية ؛ قال البغوي : لما خرج رسو الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صبى الله عليه وسلم ، فأمر الله بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى ) ) وإماتخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم ( ( الأنفال : 58 ] انتهى .
وذكر ذلك ابن غسحاق وغيره ، ولعله اطلق هنا ولم يقيد ممن خيخ نقضه ليكون ذلك اول السورة مؤذناً بان الخيانة وهو النقض سأن أكثرهم ولا سيما مشركو قريش ، وهم - لكون قريش رؤوس(3/261)
صفحة رقم 262
الناس والناس تبع لهم في الخير والشر - يستحقون أن يعبر عنهم بما يفهم الكل ومبني هذه السورة على البراءة من المشركين والموالاة للمؤمنين الدال على إيمانهم طاعة الله بالصلاة والزكاة والجهاد لمن أمر بالبراءة منه قل أو كثر قرب أو بعد في المنشط والمكره والعسر واليسر .
ولما كان ظاهر الحال وقت تكامل نزولها - وهوشوال أو ذو العقدة أو ذو الحجة سنة تسع بعد مرجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من تبوك - أن الحرب قد وضعت أوزارها وأطفئت نارهم ببسط الإسلام في الخاص والعام ، ومابين اليمن والشام ، وانتشار ألويته وأعلامه ، وتأيد رئيسه وإمامه بقهر جيوش الكفار ، وقصد الناس له بالاتباع من جميع الأمصار ، أكد أمر الجهاد ومصادقة الأنداد في هذه السورة تأكيداً لم يؤكد في غيرها ؛ ذكر الواقدي في أواخر غزوة تبوك كلاماً ثم قال : قالو : وقدم رسول الله صلى لله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال : ( لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال ) وإنما قلت : إن تكامل نزولها كان في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة لأن البغوي نقل عن الزهري أن أولها نزل في شوال ، وقال ابن اسحاق - ونقله عنه البيهقي في دلائل النبوة - : ثم أقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد منصرفه من تبوك بقية شهر رمضان وشوالاً وذا القعدة ثم بعث أبا بكر رضي اله عنه أميراً على الحج في سنة تسع ليقيم للمؤمنين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم - وأسند البيهقي في دلائله إلى عروة قال : فلما أنشأ الناس الحج تمام سنة تسع بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر اميراً على الناس وكتب له سنن الحج - انتهى .
فخرج أبو بكر والمؤمنون رضي الله عنهم ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينهم وبينه أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد في الشهر الحرام ؛ وكان أماناً مستيقضاً من بعضهم لبعض على غير مدة معلومة ؛ رجُع إلى ما رأيته أنا في سيرته : وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه(3/262)
صفحة رقم 263
وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك وفي قول من قال منهم ، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون ؛ ثم قال ابن هشام : قال ابن اسحاق : وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال : ( لما نزلت براءة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج قيل له : يارسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : ( لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ، ( ثم دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له : ( اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يجح بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهد فهو له إلى مدته ( .
فهذا فيه أنها نزلت بعد سفر أبي بكر رضي الله عنه ، وإنما قيدت أنا بتكامل نزولها لأنه ورد ان الذي في النقض فبعث به علياً رضي الله عنه ، ففي زيادات مسند الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال : ( لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا أبا بكر رضي الله عنه فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ، ثم دعاني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( أدرك أبا بكر ، فحيث ما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم ) فذكره ، وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعدما رجع : أنزل فيّ شيء ؟ قال : ( لا ، ولكن جبريل عليه السلام جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ) ونقل البغوي عن ابن إسحاق انه ( صلى الله عليه وسلم ) بعث مع أبي بكر بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث بعده علياً على نافته الغضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة .
وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يارسول الله أنزل في شأني شيء ؟ قال : ( لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا الأمر إلا رجل من أهلي ) .
فتبين أن الأول من إطلاق الكل على الجزء لا سيما وهو الذي فيه البراءة ، وما سميت السورة براءة إلا به ؛ وأن المعنى : لا يؤدي عني في العهود ، لا مطلقاً ، فقد أرسل رسلاً للأداء إلا به ؛ وأن أهل بيته ؛ وقالالمهدوي في تقسير ) فسيحوا في الأرض ( : وروي ان هذه الآية نزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد خروج أبي بكر(3/263)
صفحة رقم 264
بالناس ليحج بهم سنة تسع ، فبعث بها النبي صلى الله صلى عليه وسلم علياً رضي الله عنه ليتلوها على الناس بالموضع الذي يجتمع فيه افريقان وهو منى ، وأمره أن أن ينادي : أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، فنادى عليّ أعانه أبو هريرة وغيره رضي الله عنهم ، وكان على مكة حينئذ عتاب بن أسيد رضي الله عنه ، استخلفه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام الفتح وهو عام ثمان ، وكان حج عتاب وأبي بكر سنة تسع في ذي العقدة - كذا قال وسيأتي بيان بطلانه ، وتقدم خلافه عن ابن اسحاق في دلائل النبوة ؛ وقال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره : حدثنا قتيبة عن الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين فرغ من تبوك فأراد الحج فقال : إنه يحضر البيت المشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ، فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما ، فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتابعون بها كلها وبالمواسم كله ، وآذنوا اصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر - يعني اشهر الحرم المنسلخات المتواليات : عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، فآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا ، فآمن الناس اجمعون .
وفي سيرة ابن اسحاق : حدثنا يونس - يعني ابن كثير - عن اسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي ) فسيحوا في الأرض أربعة اشهر ( قال : عشرين من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلى السيف أو الإسلام ؛ وقال ابن هشام : حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي امره به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأجل الناس أربعة اشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم ؛ وللترمذي عن زيد بن أثيع قال : سألت علياً رضي الله عنه : بأيّ شيء بعثت ؟ قال : باربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر ونقل ابن سيد الناس عن ابن عائذ انه لما ضرب للمشركين هذا الأجل قالوا : بل تلآن لا ينبغي تلك المدة ، نبرأ منك ومن ابن(3/264)
صفحة رقم 265
عمك إلا بالضرب والطعن ؛ فحج الناس عامهم ذلك ، فلما رجعوا رغب الله المشركين فدخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً .
وصدق الله ورسوله فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان .
وقد وردت نصوص وظواهر في كثير من سورة براءة أنهنزل قبل الرجوع عن تبوك أو قبل الاعتذار ، فمن النصوص قوله تعالى ) لو كان عرضاً قريباً وسفر قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو ستطعنا لخرجنا معكم ( وقوله ) فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخروجوا معي أبداً ( إلى أن قال :
77 ( ) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ( ) 7
[ التوبة : 94 ] أما الظواهر فإن الواقدي قال في سيرته فأنزل من القرآن في غزوة تيوك ، ثم ذكر اكثر سورة براءة وقال هو وغيره من اصحاب السير : وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في تبوك منهم وديعة بن ثابت - فذكر القصة التي فيها ان بعضهم قال ترهيباً للمؤمنين : اتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم ؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، وقال كل منهم شيئاً إلى أن قال : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعماربن ياسر ( أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا ) إلى ان قال : ( إن بعضهم ) قال : إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيه ) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب - إلى قوله - بأنهم كانوا مجرمين ( ثم قال : وجاء الجلاس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحلف ما قال من ذلك شيئاً ، وكان قد قال : إن كان محمد صادقاً فنحن شر من الحمير ، فأنزل الله عزل وجل فيه ) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ( - إلى آخرها ، فاعترف الجلاس حينئذ وتاب وحسنت توبته ، وذكر فاعتذر إليهم بشغله بالسفر ووعدهم أن يصلي فيه إذا رجع " فلما نزل صلى اله عليه وسلم بذي أوان - قال ابن هشام : بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - اتاه خبره وخبر أهله من السماء ، فدعا اثنين من اصحابه فأمرهما به فأحرقاه ، وتفرق أهله ونزل فيه من القرآن ما نزل ) والذين اتخذوا مسجداً ضراراَ وكفراً ( - إلى آخر القصة ؛ قال الواقدي : وكان عاصم ابن عدي يقول : كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرايت عبد الله بن نبتل وثعلبة بن حاطب قائمين على المسجد الضرار - إلى ان قال : فو الله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه وذم أهله
77 ( ) والذين اتخذوا مسجداً ضراراً ( ) 7
[ التوبة : 107 ] - إلى آخرها ، ومن ذلك تسميتها بالفاضحة ، فلولا نزولها قبل معرفة اخبارهم لم تكن فاضحة ، وهي في(3/265)
صفحة رقم 266
الظاهر للمعاهدين وفي الباطن مشيرة إلى أهل الردة وأن لا يقبل منهم إيمان ما لم يجمعوا بين الصلاة والزكاة كما فهم أبو بكر رضي الله عنه ، وأقيمت على ذلك قرائن منها تكرير الجمع بين الصلاة والزكاة في سياق الإيمان تكريراً لم يكن في غيرها من السور ، فهي من أعلام النبوة ؛ وروى أبو محمد إسحاق بن إبراهيم القاضي البستي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن هذا الإسلام ثلاثون سهماً : عشر منها في براءة ، وعشر في الأحزاب ، وعشر في المؤمنين وسأل سائل ولما أعلمهم سبحانه بأنه رد إليهم عهدهم ، وكانوا مختلطين مع أهل الإسلام ، جعل لهم مخلصاً إن آثروا البقاء على الشرك مع إعلامهم بأنه لا خلاص لهم لأنهم في قبضته ، فقال مخاطباً لهم ولكل مشرك مسبباً عن البراءة : ( فسيحوا ( والسياحة : الاتساع في السير ةالبعد عن المدن والعمارة مع الإقلال من الطعام ، والشراب ، ولذلك يقال للصائم : سائح : والمراد هنا مطلق السير ولما كانت السياحة تطلق على غيره ، حقق المعنى بقوله : ( في الأرض ( اي في ايّ جهة شئتم ) أربعة أشهر ) أي من أيام الحج ، فيكون آخرها عاشر شهر ربيع الآخر ، تأمنون فيها امناً لا نعرض لكم بسوء ، بل تذهبون فيها حيث شئتم ، أو ترمون حصونكم وتهيئون سلاحكم وتلمون شعثكم لا نغدركم ، لأنديننا مبني على المحاسن ، ولولا أن الأمر يتعلق بنفوسنا ما نبذل عهدكم ولا نقضنا عقدكم ، ولكن الخطر في النفس وقد ظهرت منكم أمارات الغدر ولوائح الشر ( وعن أيّ بعد نفسي اقاتل ) فإذا نقضت الأربعة الشهر فتهيؤوا لقتالنا وتدرعوا لنزالنا ولما كان الإسلام قد ظهر بعد أن كان خفياً ، وقوي بعد أن كان ضعيفاً ، افتتح وعظهم بالكلمة التي تقال اولاً لمن يراد تقريع سمعه وإيقاض قلبه وتنبيهه على أن ما بعدها أمر مهم ينبغي مزيد الاعتناء به فقال : ( واعلموا أنكم ) أي أيها الكفرة وإن كثرتم ) غير معجزي الله ( لأن علمه محيط بكل شيء فهو قادر على كل ممكن ) وأن الله ( اي لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام ) مخزي الكافرين ) أي كلهم منكم ومنوغيركم في الدنيا والآخرة لأن قوله قد سبق بذلك ، ولا يبدل القول لديه ، والإخزاء : الإذلال مع إظهار الفضيحة والعار - وأظهر الوصف موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم به ؛ ولعل الالفات إلى الخطاب إشارة إلى أن من ترك أمر الله حدباً على قريب أو عشير فهو منهم ، وقد برئت منه الذم " ، فلينج بنفسه ولا نجاء له ، أو يكون لا ستعطاف الكفار تلذيذ الخطاب وترهيبهم بزواخر العقاب .(3/266)
صفحة رقم 267
التوبة : ( 3 - 5 ) وأذان من الله. .. . .
) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما أنزل البراءة ، أمر بالإعلام بهافي المجمع لأعظم ليقطع الحجج ، فقال عاطفاً ظهرة الجملة إلى مضمونها : الإخبار بوجوب الإعلام بما ثبت بالجملة الأولى المعطوفة عليها من البراءة : ( وأذان ) أي وهذا إعلام وإعلان واقع وواصل ) من الله ) أي المحيط بجميع صفات العظمة ) ورسوله ) أي الذي عظمته من عظمته ، فلا يوجهه إلى شيء إلا أعلاه عليه ؛ ولما كان المقصود الإبلاغ الذي هو وظيفة الرسول ، عداه بحرف الانتهاء فقال : ( إلى الناس ( اي كلهم من اهل البراءة وغيرهم ) يوم الحج الأكبر ( قيده لأن العمرة تسمى الحج الأصغر .
ولما كان كأنه قيل : ماهذا الأعلام ؟ قال مفسراً له مصرحاً بما هو المقصود لئلا يقع فيه نوع لبس حاذفاً الصلة إعلاماً بأن هذا مستأنف على تقدير سؤال سائل ، لا معمول الأذان : ( إن الله ( اي الذي له الغنى المطلق والقوة الباهرة ) بريء من المشركين ) أي الذين لا عهد لهم خاص فلا مانع من قتالهم ، قبل : والذين وقعت البراءة منهم صنفان : أحدهما كانت مدته دون أربعة اشهر فرفع إليها ، والآخر مدته بغير حد فقصر عليها ، ومن لم يكن له عهد فهو أولى ، ومن كان عهده محدوداً بأكثر من أربعة أشهر ولم يحدث شراً أمر بإتمام عهده إلى مدته ) ورسوله ) أي بريئ منهم ، فهو موفوع عطفاً على المنوي في ( بريء ) أو على محل ) أن ( أو لأن الواو بمعنى مع ، وبالجر على الجوار ، وقيل : على القسم - قال في الكشاف ، قال : ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه فحكى الأعرابي قراءته فعندما أمر عمر رضي الله عنه بتعليم العربية ، وروى الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في مقدمة كتاب الوقف والابتداء بسنده عن ابن أبي ملكية قال : قدم أعرابي في زمان عمر رضي الله عنه فقال : من يقرئني مما أنزل(3/267)
صفحة رقم 268
الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فأقرأه رجل براءة فقال : ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ( بالجر ، فقال : أوقد بريء الله من رسوله ؟ إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه ، فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي فدعاه - يعني فسأله فأخبره - فقال عمر رضي الله عنه : ليس هكذا يا أعرابي قال : فكيف هي يا أمير المؤمنين ؟ فقال ) أن الله بريء من المشركين ورسولُه ( فقال الأعرابي : وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه ، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة .
وأمر أبا الأسود فوضع النحو ، ونحو ذلك في الاهتمام بشأن العربية ما حكاه الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة في كتابه في الأنساب في ترجمة أبي الأسود الؤلي بسنده إليه أنه قال : دخلت على امير المؤمنين علي رضي الله عنه فرايته مطرقاً مفكراً فقلت : فيم تفكر يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني سمعت ببلدكم هذا بقيت فينا هذه اللغة ، ثم أتيته بعد أيام فألقى إليّ صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، الكلام كله اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما انبأ عن المسمى ، الفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف نا أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل : ثم قال : تتبعه وزد فيه ما وقع لك ، واعلم أن الأشياء ثلاثة : ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر ، وإنما يتفاضل الناس في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر ، قال أبو الأسود الدؤلي : فجمعت اشياء فعرضتها عليه ، فكان من ذلك حروف النصب ، فذكرت منها إن وأن وليت ولعل وكأن ولم أذكر لكن ، فقاللي : لم تركتها ؟ فقلت : لم أحسبها فيها ، فقال بل هي منها فزدها فيها ، وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في طبقات النحويين : وقال أبو العباس محمد بن زيد : سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه ، فقال : تلقنته من علي بن أبي طالب ، وفي حديث آخر : ألقى إليّ اصولاً احتذيت عليها ؛ وفي مختصر طباقهم للحافظ محمد بن عمران المرزباني : كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد رسم لأبي الأسود الدؤلي حروفاً يعلمها الناس لما فسدت ألسنتهم فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضناً به بعد علي رضي الله عنه ، فلما كان زياد وجه إليه أن عمل شيئاً تكون فيه إماماً وينتفع به الناس فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس ، فدافع بذلك حتى مر يوماً بكلإ البصرة وإذا قارئ يقرأ ) ان الله بريء من المشركين ورسوله ( وحتى سمع رجلاً قال : سقطت عصاتي ، فقال : لا يحل لي بعد هذا ان اترك الناس فجاء إلى زياد فقال :(3/268)
صفحة رقم 269
أنا أفعل ما أمر به الأمير فليبتغ لي كا تباً حصيفاً ذكياً يعقل ما أقول ، فاتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضيه ، فأتي بآخر من ثقيف ؛ وقال ابن الأنباري في كتاب الوقف : حدثني أبيقال : حدثنا أبو عكرمه قال : قال العتبي : كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه ، فلما قدم عليه كلمه فوجده يلحن ، فرده إلى زياد وكتب إليه كتاباً يلومه فيه ويقول : أمثل عبيد الله يضيع ؟ فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال : يا أبا الأسود إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب ، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويعربون به كتاب الله ، فأبى ذلك أبو الأسود وكره إجابة زياد إلى ما سأل ، فوجه زياد رجلاً فقال له : اقعد في طريق أبي الأسود ، فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن وتعتمد اللحن فيه ، ففعل ذلك .
فلما مر به أبو الأسود رفع الرجل صوته يقرأ ) أن الله بريء من المشركين ورسولِه ( فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال : عز وجه الله أن يبرأ من رسوله ، ثم رجع من فوره إلى زياد فقال : يا هذا ، قد أجببتك إلى ما سألت ، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن ، فابعث إليّ ثلاثين رجلاً ، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة ، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس ، فقال : خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد ، فإذا فتحت شفتيّ فانقط واحده فوق الحرف ، وغذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف ، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله ، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين ، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره ، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك - انتهى .
ويوم الحج المذكور هنا للجنس ، أي في جميع أيام الحج - قاله سفيان الثوري - كيوم صفين والجمل بعاث يراد به الحين والزمان الذي كان فيه ذلك ، ولذلك نادى علي رضي الله عنه بنفسه ومن ندبه لذلك في جميع تلك الأيام ، وقال أبو حيان : الظاهر أنه يوم واحد فقال عمر رضي الله عنه وجماعة : ؛ هو يو عرفة ، وروي مرفوعاً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال أبو موسى رضي الله عنه وجماعة : هو يوم عرفة ، النحر ، وقيل : أيام الحج كلها - قاله سفيان بن عيينة قال ابن عطية : والذي تظاهرت به الأحاديث ان علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه ، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها أيضاً يوم أيضاً يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره رضي الله عنهم ويتبعوا ايضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره ؛ وبهذا يترجح قول سفيان - انتهى .
وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه أن يو النحر ، وقال في تفسيره أيضاً : أخبرنا معمر عن(3/269)
صفحة رقم 270
الحسن قال : إنما سمي الحج الأكبر لأنه حج أبو بكر رضي الله عنه الحجة التي حجها ، واجتمع فيها المسلمون والمشركون ، ووافق ذلك عيد اليهود والنصارى - ولما أعلم سبحانه بالبراءة عنها ، سبب عنها مرغباً مرهباً قوله التفاتاً إلى الخطاب : ( فإن تبتم ) أي عن الكفر والغدر ) فهو ( اي ذلك الأمر العظيم وهو المتاب ) خير لكم ) أي لأنكم تفوزون في الوفاء بالأمان في الدنيا ، وفي الإسلام بالسلامة في الدارين .
ولما كانت التوبة محبوبة بالطبع لما لها من النفع قال : ( وإن توليتم ) أي كلفتم أنفسكم خلاف ما يشتهي من التوبة موافقة للفطرة الأولى ، وأصررتهم على الكفر والغدر اتباعاً للهوى المكتسب من خباثة الجبلة ورداءة الأخلاط التي قعدت بالوح عن أوجها الأول غلى لأنكم الحضيض الأسفل ) فأعلموا ) أي علماً لا شبهة فيه ) أنكم غير معجزيالله ) أي لأن له صفات الكمال من الجلال والجمال ، والالتفات هنا مثله في ) فسيحوا ( والإشارة به إلى ما ذكر في ذلك .
ولما واجههم بالتهديد ، أعرض عنهم وجه الخطاب تحقيراً لهم مخاطباً لأعلى خلقه مبشراً له في أسلوب التهكم بهم ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فبشر الغادرين بالخدلان ، أو فبشر التائبين بنعيم مقيم : ( وبشر الذين كفروا ) أي أوقعوا هذا الوصف ) بعذاب أليم ) أي في الدنيا والآخرة أو فيهما .
ولما أعلمهم بالبراءة وبالوقت الذي يؤذن بها فيه ، وكان معنى البراءة منهم أنه لا عهد لهم ، استثنى بعض المعاهدين فقال : ( إلا الذين عاهدتم ) أي أوقعتم بينكم وبينهم عهداً ) من المشركين ثم ) أي بعد طول المدة اتصفوا بأنهم ) لم ينقصوكم شيئاً ) أي لخزاعة حلفاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولم يظاهروا ) أي يعانوا معاونة تظهر ) عليكم أحداً ) أي من أعدائكم كما ظاهرت قريش حلفاءهم من بني الدليل على حلفائكم من خزاعة ) فاتموا ( واشار إلى بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال : ( إليهم عهدهم إلى مدتهم ) أي وإن طالت ؛ قال البغوي : وهم بنو ضمرة حي من كنانة ، وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر ، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا ؛ وقال النحاس : ويقال : إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة ؛ وقال أبو محمد البستي : حدثنا قتيبة قال : ثنا الحجاج عن ابن(3/270)
صفحة رقم 271
جريج عن مجاهد قال : كان بين بني مدلج وخزاعة عهد ، وهم الذين قال الله ) فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ( ولما كانت محافظتهم على عهدهم من افراد التقوى ، وكان الأمر بالإحسان إلى شخص من أفعال المحب ، قال تعالى معللاً : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) يحب المتقين ) أي يفعل بهم وبكم افعال المحب ، فهو قول حاث للكل على التقوى ، وكل ينزله على ما يفهم ، فهو من الإعجاز الباهر .
ولما قرر أمر البراءة إثباتاً ونفياً ، أمر بما يصنع بعد ما ضربه لهم من الأجل فقال : ( فإذا ) أي فتسبب عن ذلك انه إذا ) انسلخ ) أي انقضى وانجرد وخرج ومضى ) الأشهر الحرم ) أي التي حرمت عليكم فيها قتالهم وضربتها أجلاً لسياحتهم ، والتعريف فيها مثله
77 ( ) فارسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ( ) 7
[ المزمل : 16 ] ) فاقتلوا المشركين ) أي الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً ؛ قال البغوي : قال الحسن بن الفضل : هذه الاية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء - انتهى .
ومعنى ) حيث وجدتموهم ) أي في حل أو حرم في المسجد والتصرف في بلاد الإسلام وكل مقصد ) واقعدوا لهم ) أي لأجلهم خاصة فغن ذلك من افضل العبادات ) كل مرصد ( اي ارصدوهم وخذوهم بكل طريق يمكن ولو على غرة أو غتيالاً من غير دعوة ، وانتصابه على الظرف لأن معنى اقعدوا لهم : ارصدوهم ، ومتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة ( في ) فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان الترصد فكذلك إلى الظرف - ذكره أبو حيان ، والتعبير بالقعود للارشاد إلى التأني ، وفي الترصد والاستقرار والتمكن وإيصال الفعل إلى الظرف إشارة إلى أن يشغلوا في الترصد كل جزء من أجزاء كل مرصد إن قدروا على ذلك بخلاف ما لو عبر ب ( في ) فإنه إنما يدل على شغل كل مرصد الصادق بالكون في موضع واحد منه أيّ موضع كان .
ولما أمر تعالى بالتضييق عليهم ، بين ما يوجب الكف عنهم فقال : ( فإن تابوا ) أي عن الكفر ) وأقاموا ) أي وصدقوا دعواهم التوبة بالبينه العادلة بأن أقاموا ) الصلاة وآتوا الزكاة ) أي فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق خضوعاً لله تعالى وتركاً للفساد ومباشرة للصلاح على الوجه الذي امر به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا وجد هذان الشاهدان العدلان ) فخلوا ) أي بسبب ذلك ) سبيلهم ) أي بأن لا تعرضوا لشيء(3/271)
صفحة رقم 272
مما تقدم لأن الله يقبل ذلك منهم ويغفر لهم ما سلف ) إن ) أي لأن ) الله ) أي الذي له الجلال والإكرام ) غفور رحيم ) أي بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها والاتباع له بالإكرام .
التوبة : ( 6 - 9 ) وإن أحد من. .. . .
) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ( )
ولما سد عليهم طريق مخالطتهم ما لم يتصفوا بالتوبة المدلول عليها بالشهيدين المذكورين سداً مطلقاً ، وفتحه عند الاتصاف بها فتحاً مطلقاً ، عطف على ذلك طريقاً آخر وسطاً مقيداً فقال : ( وإن أحد من المشركين ) أي الذين أمرناكم بقتالهم ) استجارك ) أي طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدة السياحة ) فأجره ) أي فآمنه ودافع عنه من يقصده بسوء ) حتى يسمع كلام الله ) أي الملك الأعظم بسماع التلاوة الدالة عليه ، فيعلم بذلك ما يدعو إليه من المحاسن ويتحقق انه قد ذكر ، بين ما يفعل به إن أصر فقال : ( ثم أبلغه ) أي إن أراد الانصراف ولم يسلم ) مأمنه ) أي الموضع الذي يأمن فيه ثم قاتله بعد بلوغه المأمن إن شئت من غير غدر ولا خيانه ؛ قال الحسن : هي محكمة إلى يوم القيامة ؛ ثم علل ذلك بما يبين غدرهم بقوله : ( ذلك بأنهم ) أي الأمر بالإجازة للغرض المذكور بسبب أنهم ) قوم لا يعلمون ) أي لا علم لهم لأنه لا عهد لهم بنبوة ولا رسالة ولا كتاب ، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم .
ولما كان الأمر بالنبذ مظنة لأن يعجب منه ، عجب فقال : فمن يتعجب منه ؟ وأنكر عليه فقال : ( كيف يكون للمشركين ) أي اهل العراقة في الشرك الذين توجب عراقتهم فيه ومحبتهم لظهوره نكثَ العهد الذي لا أقبح منه عند العرب ولا أشنع ) عهد عند الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ، فهو لا يحب النقض من أوليائه فكيف به من اعدائه ) وعند ورسوله ) أي الذي هو أكمل الخلق واوفاهم وأحفظهم للعهود وأرعاهم فهم أضداده فأعمالهم اضداد اعماله ، وقد بدا منهم الغدر .(3/272)
صفحة رقم 273
ولما كان استفهام الإنكار في معنى النفي ، صح الاستثناء منه ، فكأنه قيل : لا يكون للمشركين عهد ) إلا الذين عاهدتم ) أي منهم كما تقدم ) عند المسجد الحرام ) أي الحرم يوم الحدبية ، وهذا مما يدل على أن الاستثناء المتقدم من ) الذين ( في قوله ) براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( ؛ قال البغوي ؛ قال السدي والكلبي وابن اسحاق : هم من قبائل بكر : بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ، فلم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض ، ولما استثنى ، بين حكم المستثني فقال : ( فما استقاموالكم ) أي ركبوا الطريق الأقوام في الوفاء بعهدهم ) فاستقيموا لهم ( والقول في ) إن الله ) أي المحيط بالجلال والجمال ) يحب المتقين ( كما سبق .
ولما انكر سبحانه ان يكون للمشركين غير المستثنين عهد ، بين السبب الموجب للانكار مكرراً أداة الإنكار تأكيداً للمعنى فقال : ( كيف ) أي يكون لهم عهد ثابت ) وإن ) أي والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة فهم إن ) يظهروا عليكم ) أي ان يعل أمر لهم على أمركم بان يظفروا بكم بعد العهد والميثاق ) لا يرقبوا ) أي لا ينظروا ويرعوا ) فيكم ) أي في أذانكم بكل جليل وحقير ) إلاّ ) أي قرابة محققة ) ولا ذمة ) أي عهداً ، يعني أن الأمر المبيح للنبذ خوف الخيانة ، وعلام الغيوب يخبركم أنهم في غاية الخيانة لكم ، والإل هذا : القرابة - وهو قول ابن عباس ، والمادة تدور على الألة وهي حربة في نصلها عرض ، ويلزمها الصفاء والرقة والبريق ، ويشبه به الإسراع في العدو ، والثبات في نفسها ، ومنه القرابة والعهد والتغير في وصفها ، ومنه تغير رائحة الإناء وفساد الأسنان والصوت ، ومنه الأنين والجؤار في الدعاء مع البكاء وخرير الماء والطعن والقهر - ومنه : إن هذا - أي كلام مسيلمة - ما يخرخ من إل ، أي من ربوبية ، وفي إل الله ، أي قدرته وإلهيته .
ولما كان ذلك مظنة لأن يقال : قد أكدوا لنا الأيمان وأوثقوا العهود ، ولم يدعوا باباً من ابواب الاستعطاف ، قال معللاً لما مضى مجيباً لمن استبعده : ( يرضونكم ( وعبر باقصى ما يمكن الكلام به من القلوب تحقيقاً لأنهم ليس في قلوبهم شيء منه فقال : ( بافواههم ) أي بذلك التأكيد ، وصرح بالمقصود بقوله : ( وتابى قلوبهم ) أي العمل بما ابدته ألسنتهم ، وقليل منهم من يحمله الخوف ونحوه على الثبات أو يرجع عن الفسق ويؤمن ) وأكثرهم فاسقون ) أي راسخوا الأقدام في الفسق خارجون - لمخالفة الفعل للقول - عما تريدونه ، وإذا نقض الأكثر الأقل إلى موافقتهم .(3/273)
صفحة رقم 274
ولما دام ما ترى من كشف سرائرهم ، شرع سبحانه يقيم لهم الدليل على فسقهم وخيانتهم ما بدا من بعضهم من النقض بعد أن أثبت فيما مضى انهم شرع واحد بعضهم أولياء بعض ، وفيما يأتي أنهم بعضهم من بعض ، فقال معبراً بما يفيد انهم تمكنوا من ضد الإيمان تمكناًصار به كأنه في حوزتهم : ( اشتروا ) أي لجوا في أهويتم بعد قيام الدليل الذي لا يشكون فيه فاخذوا ) بآيات الله ( اي الذي لجوا في اهويتهم جلال ولا جمال على مالها من العظم في انفسها وبإضافتها إليه ) ثمناً قليلاً ( من أعراض الدنيا فرفضوا بها مع مصاحبة الكفر ، وذلك وأداهم إلى أن صدوا ) عن سبيله ) أي من يريد السير عليه ومنعوا من الدخول في الذين أنفسهم ومن قدروا على منعه .
ولما دل على ما اخبر به من فساد قلوبهم ، استأنف بيان ما استحقوا من عظيم الذم بقوله معجباً منهم : ( إنهم ساء ما ( وبين عراقتهم في القبائح وأنها في جبلتهم بذكر الكون فقال : ( كانوا يعملون ) أي يجدون عمله في كل وقت ، وكأنه سبحانه يشير بهذا إلى ما فعلت عضل والقارة بعاصم بن ثابت وخبيب بن عدي ، ذكر ابن اسحاق في السيرة عن عاصم بن عمر رضي الله عنه - والبخاري في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه - ، كل يزيد على صاحبه وقد جمعت بين حديثيهما أنه قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا : يارسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من ستة - وقال البخاري : عشرة - وأمر عليهم عاصم هذيلاً ، فلما أتوهم أخذوا أسيافهم ليقاتلوهم ، فقالوا : إنا والله لا نريد قتلكم ، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من اهل مكة ، ولكن عهد الله وميثاقه أن لا نقتل منكم أحداً ، فأما عاصم فلم يقبل وقاتل حتى قتل هو ناس من اصحابه ، ونزل منهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق ، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها ، فقال رجل منهم : هذا اول الغدر ، والله لا أصحبكم ، إن لي بهؤلاء أسوة - يريد القتلى ، فجروره وعالجوه فابى ان يحبهم فقتلوه ؛ فانطلقوا بخيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة فقتلوهما .
وقصة العرنيين الذين قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاظهروا الإسلام ثم خرجوا إلى لقاح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقتلوا الراعي واستاقوا اللقاح بعد ما راوا من الآيات ، فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في آثارهم فقتلهم(3/274)
صفحة رقم 275
وفي تاريخ ابن الفرات عن القتبي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عبد الله بن عوسجة البجلي إلى بني حارثة بن عمرو بن قرط بكتاب فرقعوا دلوهم بالكتاب فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما له أذهب الله عقولهم ، فهم أهل رعدة وكلام مختلط ؛ ولما خرج أهل مكة بعد أن عاملهم ( صلى الله عليه وسلم ) بغاية الإحسان اعتقهم وعفا عنهم بعد تلك الحروب والأذى في المبالغة في النكايات التي لا يعفو عن مثلها إلا الأنبياء ، خرجوا معه إلى حنين غير مريدين لنصره ولا محبين لعلو أمره ، بل هم الذين انهزموا بالناس - كما نقلة البغوي عن قتادة ؛ وقال أبو حيان ويقال : إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة - انتهى .
وقال الواقدي : وخرج رجال مكة مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يتغادر منهم أحد على غيرد دين ركباناً ومشاة ، ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم ، ولا يكرهون أن تكون الصدمة بمحمد واصحابه ، وقال هو وغيره : فلما كانت الهزيمة حيث كانت والدائرة على المسلمين تكلم قوم بما في أنفسهم من الكفر والضغن ما غدر فيه كفار العرب ، وأما اليهود فكلهم نقض : بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة ثم أهل خيبر ، حتى كان ذلك سبب إخراجهم منها وإجلائهم إلى بلاد الشام ، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أنهم قد تلبين لهم مثل الصبح جميعاً ما اخبرهم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما لم يرجعوا لمجرد أهوائهم قد تبين لهم مثل الصبح جميعاً ما اخبرهم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما لم يرجعوا لمجرد صاروا إليه من سفول الكلمة وإبار الأمر ، فمن قاده هواه إلى ترك السعادة العظمى لهذا العرض الزائل اليسير كان غير مأمون على شيء لأنه رهينة داعي الهوى وأمر الشيطان ، لأنه أول ما بدأ بنفسه فغدر بها وغشها غير ناظر في مصلحة ولا مكفر في عاقبة .
التوبة : ( 10 - 14 ) لا يرقبون في. .. . .
) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( } )(3/275)
صفحة رقم 276
ولما أخبر تعالى بعراقتهم في الفسق ، دل عليه بأن خيانتهم ليست خاصة بالمخاطبين ، بل عامة لكل من اتصف بصفتهم من الإيمان ، فمدار خيانتهم على الوصف ، فقال : ( لايرقبون في مؤمن إلاّ ) أي قرابة وأصلاً خيداً ثابتاً ) ولاذمة ) أي عهداً أكيداً ) وأولئك ) أي البعداء من كل خير ) هم ) أي خاصة لتناهي عدوانهم ) المعتدون ) أي عادتهم المبالغة في حمل أنفسهم على ان يعدوا الحدود لعدم ما يردهم عن ذلك من وازع إلهي ورادع شرعي كما فعل عامر بن الطفيل بأهل بئر معونة مع أنهم في جوار عمه وكان من خبرهم أن عمه أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له : لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبوبراء : أنا لهم جار .
فبعث رسول اله ( صلى الله عليه وسلم ) : المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في سبعين رجلاً من اصحاب من خيار المسلمين ، فما نزلوا بئر معونه بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه وعدا عليه فقتله ، ثم استصرخ عليهم بني عامر فابوا وقالوا : لن نخفر أب براء ، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم : عصية ورعلاً وذكوان فقتلوهم فلم يفلتمنهم إلا ثلاثة نفر عمرو بن أمية الضمري أحدهم ، فعظم ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودعا على قتلتهم شهراً ؛ قال البغوي : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن أهل الطائف أمدوهم - يعني قريشاً - بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فهذا الذي أحكمه تعالى من نبذ العهد نظر للدين ، لأنه نظر لجميع أهله الذين لا يوجد إلا بهم .
ولما بين ما أوجب بعدهم منهم ومعادتهم لهم ، بين ما يصيرون به أهلاً فقال ) فإن تابوا ) أي بالإيمان بسبب ما أبديتم لهم من الغلطة ) وأقاموا ) أي أيدوا ذلك بأن أقاموا ) الصلاة ) أي بجميع حدودها ) وآتواالزكاة ) أي كما حدة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فإخوانكم ( أيهم ، وبين أنها ليست أخوة النسب فقال : ( في الدين ( لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، فلا تعرضوا لهم بما يكرهونه .
ولما كان كأنه قيل بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل : قد فصلنا لكم أمرهم في هذه الآيات تفصيلاً ، عطف عليه قوله : ( ونفصل ) أي في كلأمر يحتاجون جميع ) الآيات ( وعظم هذه الآيات وحثم على تدبرها بقوله : ( لقوم يعلمون ) أي صار العلم لهم صفة فلهم ملكة يتصرفون بها في أصوله وفروعه ، لا يغترون بمجرد كلام من شأنه الرداءة والمخالفة بين القول والعمل ، والاعتراض بهذا بين هذه الجمل المتلاحمة(3/276)
صفحة رقم 277
إشارة إلى عظم الأمر الذي نبه عليه وتحريض على إنعام النظر فيه ليعلم أن مدخوله جليل الأمر عظيم القدر لئلا يظن أنه تكرار ولما بين السبب الموجب لمجازاتهم بجنس عملهم ، وهو البراءة منهم وما يتبع ذلك إلى أن ختم بتقدير توبتهم ، رجع إلى قسم قوله ) فما استقاموا لكم ( فقال : ( وإن نكثوا أيمانهم ) أي التي حلفوها لكم ؛ ولما كان النقض ضاراً وغن قصر زمنه ، اتى بالجار فقال : ( من بعد عهدهم ) أي الذي عقدوه ) وطعنوا ) أي اوقعوا الطعن ) في دينكم ) أي بقول أو فعل ولما كان هذا الفعل لا يستقل به في الأغلب إلا الرؤساء ، اشار إلى ذلك بقوله : ( فقاتلوا ( ووضع موضع ضميرهم تحريضاً على قتالهم وإشارة إلى أنهم ما نكثوا واقدموا على هجنة الكذب ولم يستهجنوا الخروج عن عادات الكرام إلا وقد رسخوا في الكفر فقال : ( أئمة الكفر ( ثم أشار - بقوله معللاً لجواز المقاتله : ( إنهم لا أيمان لهم ( إلى أن ذلك ولو فعله الأتباع ولم يكفهم الرؤساء فهو عن تمال منهم فابدؤوا بالرؤوس فاقطعوها تنقطع الأذناب ، وقراءة ابن عامر بالكسر معناها : لا امان لهم لأنهم قد نقضوا العهد الموجب له بما وقع منهم ، ومن طعن من أهل الذمة في الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله ، فإن العهد مأخوذ عليه أن لا يطعن ، ثم علل المقاتله بقوله : ( لعلهم ينتهون ) أي اجعلوا قصدكم لقتالهم أن يكون حالهم حال من ينتهي عن غيه بما يرى منكم من صادق الجد بماضي الحد ، روى البخاري في التفسير عن حذيفة رضي الله عنه قال : ما بقي من اصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة احدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده .
ولما نفى ايمانهم بنفي إيمانهم ، شرع يقيم الدليل على ذلك بأمور ارتكبوها ، كل منها بسبب باعث على الإقدام عليهم ، ويحث على قتالهم في صورة تعجيب ممن يتواني فيه فقال : ( الا ( وهو حرف عرض ، ومعناه هنا الحض لدخول همزة الإنكار على النافي فنفته فصار مدخولها مثبتاً على سبيل الحث عليه فهو ابلغ مما لو اثبت بغير هذا الأسلوب ) تقاتلون قوماً ) أي وإن كانوا ذوي منعة عظيمة ) نكثوا ايمانهم ) أي في قصة عاصم واصحاب والمنذر واصحاب والإعانة على خزاعة وغير ذلك ، فكان النكث لهم عادة وخلقاً ، وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم ليكون ذلك زاجراً عن النقض ، وكانت قصة خزاعة أنه كان كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة قتل(3/277)
صفحة رقم 278
في الجاهلية ، وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبة لما كان لهم فيه من المجبة من مسلمهم وكافرهم لما بينهم من الحلف - كما تقدم آخر الأنفال ، ودخلت بنو بكر في عهد قريش فمرت على ذلك مدة ، ثم إن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فاراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم ، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها ، فكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً فاعانوهم بالسلاح والكراع والرجال ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي وهو يومئذ قائدهم ؛ قال ابن إسحاق : وليس كل بني بكر بايعة - وقال الوافدي : اعتزلت بنو مدلج فلم ينقضوا العهد - حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهمن فأصبوا منهم رجلاً وتجاوزوا واقتتلوا وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفاً متنكرين منتقبين : صفوان بن أمية ومكرز بن حفص بن الأحنف وحويطب بن عبد العزى وعكرمة بن أبي جهل وأجلبوا معهم أرقابهم ، وكانت خزاعة آمنة لمكان العهد والموادعة ولما ذكرهم بمطلق نكثهم في حقهم عامة ، وذكرهم بما خصوا به سيدهم بل سيد الخلق كلهم فقال : ( وهموا بإخراج الرسول ) أي من مكة في عمرة القضاء ، بل أمروه بالخروج عند انقضاء الثلاثة الأيام وألحو في ذلك وهو وإن كان قاضاهم على ذلك ، لكن قد نقل ابن اسحاق وغيره في قصة النداء بسورة براءة أنه كان في القضية والعهد الذي كان بينه وبينهم أن لا يمنع من البيت أحد جاءه زائراً ، ولعلهم هموا بإخراجه قبل الثلاثة الأيام لما داخلهم من الحسد عند ما عاينوا من نشاط أصحابه وكثرتهم وحسن حالهم ، وذلك غير بعيد من أفعالهم ، وإظهارهم التبرؤ به ( صلى الله عليه وسلم ) حتى اجترؤوا - وهو أعلى الخلق مقداراً ، وأظهرهم هيئة وأنواراً وأطهرهم رسوماً وآثاراً - على الإلحاح عليه في الخروج من بلد آبائه وأجداده الذين هم أحقهم بها ومسقط رأسه وموضع مرباه ، ولكن لم أراه مصرحاً به ، وهوعنمدي على ما فيه أولى مما ذكروه من الهم بإخراجه عند الهجرة على ما لا يخفي ، أو يكون المراد ما همّ به ابن أبي المنافق ومن تابعه من اصحابه من إخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة حيث قال في غزوة المريسيع : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل بعد إعطائهم العهود على الإيواء والنصرة والإسلام ، وذلك لتذكير المؤمنين بمسارعتهم إلى النقض بعد أن أثبت أنهم في الالتحام في كيد الإسلام كالجسد الواحد ، فكأنه يقول : إذا ترك هؤلاء إيمانهم فاولئك أحرى أن ينقضوا أيمانهم ، وهو بعث للمؤمنين على التبرؤ من الكافرين منافقين كانوا أو مجاهرين مقاربين أو مباعدين(3/278)
صفحة رقم 279
ولما ذكرهم بالخيانة عامة وخاصة ، أتبعها ما حققها بالقتال فقال : ( وهم بدؤوكم ( اي بتطابق من ضمائرهم وظواهرهم ) أول مرة ( اي بالقتال والصد في الحديبية بعد إخباركم إياهم بأنكم لم تجيئوا للقتال وأنكم ما جئتم إلا زواراً للبيت الحرام الذي الناس فيه سواء وأنتماحق به منهم ، وذلك أول بالنسبة إلى هذا الثاني مثل قوله ) أنكم رضيتم بالعقود أول مرة ( وقال بعض المفسرين : المراد بأول مرة قتالهم خزاعة ، وهو واضح لأنه بعد عقد الصلح ، وقيل : في بدر بعد ما سلمت عيرهم وقالوا : لا نرجع حتى نستأصل محمداً واصحابه ، وقيل : المراد به مطلق القتال لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جاءهم بالكتاب المنير ودعاهم بغاية اللين ، وتحداهم به عند التكذيب ، فعدلوا عن ذلك إلى القتال فهم البادئ أظلم .
ولما أمرهم بالقتال وكان مكرهاً إلى النفوس على كل حال .
شرع يبين الأسباب الحاملة على التواني عن قتالهم ، وحصرها في في الخشية والعاطفة ، وقسم العاطفة إلى ما سببه القرب في محاسن الأفعال وإلى ما سببه القرب في النسب والصهر ، ونقض الكل وبين أنه لا شيء منها يصلح للسببية ، فقال بادئاً بالخشية لأنها السبب الأعظم في ترك المصادمة منكراً عليهم موبخاً لهم ليكون أبلغ في الحث على قتالهم منبهاً على أن التواني عنهم مصحح للوصف بالجبن ورقة الدين : ( أتخشونهم ) أي أتخافون أن يظفرون بكم في القتال بان يكونوا على باطلهم أشد منكم على حقكم ) فالله ) أي الذي له مجامع العظمة ) أحق ) أي منهم ) ان تخشوة ) أي بأن يكون مخشياً لكم لما تعلمون من قدرته في أخذه لمن خالفه ولو بعد طول الأناة ) إن كنتم مؤمنين ) أي فإن من صدق بانه الواحد الذي تفرد بصفات العظمة لم ينظر إلى غير هيبته ولما بكت في التواني عنهم ، وعدهم بما يزيل خشيتهم منهم ، بل يوجب إقدامهم عليهم ورغبتهم فيهم ، فقال مصرحاً فيهم ، فقال مصرحاً بما تضمنه الاستفهام الإنكاري في ) ألاتقاتلون ( من الأمر : ( قاتلوهم ) أي الله لا لغرض غيره ) يعذبهم الله ) أي الذي أنتم مؤمنون بانه المتفرد بصفات الجلال والجمال ) بأيديكم ) أي بأن تقتلوهم وتأسروهم وتهزموهم ) ويخزهم ( اي بالذل في الدنيا والفضيحة والعذاب في الأخرى .
ولما كان ذلك قولاً لا يقتضي النصر الذي هو علو العاقبة قال : ( وينصركم عليهم ( اي فترضوا ربكم بذلك لإذلالة من يعاديه بكم ؛ ولما كان نكالهم بما بعد ثباته على لبعض المؤمنين سروراً لهم فيه حظ ، بين تعالى أنه لا يؤثر في العمل بعد ثباته على أساس افخلاص فقال : ( ويشف ) أي بذلك ) صدور قوم مؤمنين ( اي راسخين في(3/279)
صفحة رقم 280
الإيمان ، أسلفوا إليهم مساوئ أوجبت ضغائن وإحناً كخزاعة وغيرهم ممن أعانوا عليه أو اساؤوا إليه .
التوبة : ( 15 - 18 ) ويذهب غيظ قلوبهم. .. . .
) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ( )
ولما كان الشفاء قد لا يراد به الكمال ، أتبعه تحقيقا لكماله قوله ) ويذهب غيظ قلوبهم ) أي يثبت بها من اللذة ضد ما لقوه منهم من المكروه ، وينف يعنها من الألم بفعل من يريد سبحانه من أعدائهم وذل الباقين م كان قد برح بها ، ولقد وفى سبحانه بما وعد به ، فكانت الآية من ظواهر الدلائل .
ولما كان التقدير : قاتلوهم فإنكم إن قاتلتموهم كان كذا ، عطف سبحانه على أصل هذه الجملة قوله : ( ويتوب عليهم ) أي الملك الذي له صفات الكمال ) على من يشاء ( أب منهم فيصيروا إخوانا لكم أولياء ، والمعنى قاتلوهم يكن القتال سببا لهذه الخمسة الأشياء ، وأما التوية فتارة تسبب عنه وتارة عن غيره ، ولأجل احتما لتسببها عنه قرئ شاذا بالنصب على أن الواو للصرف ، ولما كان ما تضمنه هذا الوعد الصادق يدور على القدرة والعلم وكان - العلم يستلزم القدرة ، فكان التقدير فالله على كل شيء قدير ، عطف عليه قوله ) والله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء علما وقدرة ) عليم ) أي بكل شيء وبمن يصلح للتوبة ومن لا يصلح وما في قلوبكم من الإقدام والإحجام لو برز إلى الخارج كيف كان يكون ) حكيم ) أي أحكم جميع أموره ، ولم يعلق الأحكاك الشرعية من أفعالكم الكسبية إلا بما تعلق العلم به في حال ظهوره .
ولما كاتن التقدير - لما أرشد إليه تقاعدهم عن القتال وإدخال " أم " المرشد " إلى ا ، مدخوله وسط الكلام فإن الابتداء له الألف وحدها : وهل حسبتم أنه تعالى لا يعلم ذلك أو لا يقدر على نصركم ؟ بنى عليه قوله موبخا لمن تثاقل عن ذلك بنوع تثاقل : ( أم حسبتم ) أي لنقص في العقل أنه يبني الأمر فيه على غير الحكمة ، وذلك هو المراد بقوله : ( أن تتركوا ) أي قارين غلى ما أنتم عليه من غير أن تبتلوةا بما يظهر به المؤمن من المنافق ) ولما ( عبر بها لدلالتها. مع استغراق الزمان الماضي - على أن يتبين ما(3/280)
صفحة رقم 281
بعدها متوقع كائن ) يعلم الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ) الذين جاهدوا منكم ) أي علما ظاهرا تقوم به الحجة عليكم يفي مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل .
ولما كان المعنى : جاهدوا مخلصين ، ترجمه وبسطه بقوله : ( ولم ) أي ولما يعلم الذين لم يتخذوا ( ويجوز أن يكون حالا ، ودل على تراخي الرتب عن مكانته سبحانه بقوله : ( من دون الله ) أي الذي لا يعدل عنه ويرغب في غيره من له أدنى بصيرة - كما دل عليه الافتعال - لأنه المنفردج بالكمال ، وأكد النفي بتكرير ) لا ( فقال : ( ولا رسوله ) أي الذي هو خلاصة خلقه ) ولا المؤمنين ) أي الذين أصطفاهم من عباده ) وليجة ) أي بطانة تباطنونها وتسكنون إليها فتلج أسراركم وأسرارها إليكمن ن فإن الوليجة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه ، والرجل يكون في قوم وليس منهم وليجة ، فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أرمه دون الناس ، يقال : هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع نقل ذلك البغوي عن أبي عبيدة وقال أبن هشام وليجة : دخيلا ، وجمعها ولائج ، يقول : لم يتخذوا دخيلا من دونه يسرون إليهفير ما يظهرون نحو ما يصنع المنافقون ، يظهرون الإيمان للذين آمنوا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، والحاصل أنه لا يكون الترك بدون علم الأمرين حاصلين ، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، فالمعنى : ولما يكن مجاهدون مخلصون .
ولما كان ظاهر ذلك مظنة أ ، يتمسك به من لم يرسخ قدمه في المعارف ، ختم بقوله : ( والله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) خبير بما تعلمون ) أي سواء برز إلى الخارج أو لا .
ولما حذرهم من اتخاذ وليجة من دونه ، شرع يبين أن الوليجة التي يتخذها بعضهم لا تصلح للعاطفة بما اتصفت به محاسن الأعمال ما لم توضع تلك المحاسن على الأساس الذي هو الإيمان ، فقال سائقا له مساق جواب قائل قال : إن فيهم من أفعال الخير ما يدعو إلى الكف عنهم من عمارة من عمارة المسجد الحرام وخدمته وتعظيمه ) ما كان للمشركين ( عبر بالوصف دون الفعل لأن جماعة ممن أشرك أسلم بعد ذلك فصار أهلا لما نفي عنهم ) أن يعمروا مساجد الله ) أي وهو المنزه بإحاطته بصفات الكمال ، قال البغوي : قال الحسن : ما كالن للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام ، ثم قال في توجيه قراءة الجمع : قال الحسن : إنما قال : مساجد الله ، لأنه قبلة المساجد كلها - يعني فعامره عامر جميع المساجد ، ويجوز أن يراد الجنس ، وإذا لم يصلحلوا لعمارة الجنس دخل المسجد الحرام لأنه صدر الجنس ، وذلك آكد لأنه(3/281)
صفحة رقم 282
بطريق الكناية - قال الفراء : وربما ذهب العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد ، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول ، أخذت في ركوب البراذين ، ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار - انتهى .
فتحرر أن المعنى : منعهم من إقامة شعائره بطواف أو زيارة أو عبر ذلك لأنهم نجس - كما ياتي ) شاهدين على أنفسهم ) أي التي هي معدن الأرجاس والأهوية ) بالكفر ) أي بإقرارهم ، لأنه بيت الله وهم يعبدون غير الله وقد نصبوا فيه الأصنام بغير إذنه وادعوا أنها شركاؤه ، فإذن عمارتهم تخريب لتنافي عقدهم وفعلهم ، قال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، شهادتهم سجودهم للأصنام ، وذلك أنهم كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، كلما طافوال شوطا سجدوا لأصنامهم .
ولما نفي قبيح ما يفعلون حسن ما يعتقدون ، أشار إلى بعدهم عن الخير بقوله : ( أولئك حبطت أعمالهم ) أي من العمارة والحجابة والسقاية غي ذلك ، فسدت ببطلان معانيها لبنائها على غير أساس ) وفي النار هم ) أي خاصة ومن فعل كطفعلهم فهو منهم ) خالدون ) أي يجعلهم الكفر مكان الإيمان .
ولما نفي عنهم أهلية العمارة ، بين من يصلح فقال : ( إنما يعمر مساجد الله ) أي إنما يؤهل لذلك القرب ممن له الأسماء الحسنى والصفات العلى حسا بإصلاح الذات ومعنى بالتعظيم بالقربات من قمها وتنظيفها ورم ما تهدم منها وتنويرها بالمصابيح الحسية وبالمعنوية من الذكر والقراءة - ودرس العلم أجل ذلك - وصيانتها مما لم تبن له من أحاديث الدنيا ) من آمن بالله ) أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ) واليوم الآخر ) أي فكان من أهل المعرفة الذين تصح عبادتهم وتفيدهم ، فإنها إنما تفيد في ذلك اليوم ، ولم يذكر الإيمان بالرسول لأنه هذه البراءة عن لسانه أخذت ، فالإيمان بها إيمان به لا محالة ، فعدم أقعد في إيجاب الإيمان به ) وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) أي وايد دعغواه الإيمان بهذين الشاهدين ، وذلك أن عمارة المساجد ليست مقصودة لذاتها ، بل الدلالة على رسوخ الإيمان ، والصلاة أعظم عمارتها ، والزكاة هي المعين لعمدتها على عمارتها .
ولما كان ربما فهم من قوله : ( آمن ( أنه يكفي في الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، أعلم أنه لا بد في ذلك من إيجاد التصديق حقيقة المثمر لخشية الله فلذلك قال : ( ولم يخش ) أي الأعمال الدينية ) إلا الله ) أي ولم يعمل بمقتضى خشية غير الملك الأعظم من كف عما يرضي الله بما فيه سخطه ، بل تقدم على ما انحصر رضي الله فيه(3/282)
صفحة رقم 283
ولو أن فيه تلفه ، وحاصله أنه يقدم خشيته من الله على خشيته من غيره ، فهو يرجع إلى قوله ) فالله أحق أن تخشوه ( ولكن هذا أبلغ لكونه نفي نفس الخشية وإن كان المراد نفي لازمها عادة ، وفيه تعريض لهم بأنهم لا يصلحون لخدمته لأنهم يخافون الأصنام ويفعلون معها بعبادتها فعل من يخافها ، ولما سبب عما مضى نفيا وإثباتا أن المتصف بهذه الأوصاف يكون جديرا بالهداية وحقيقا بها ، قال تعالى : ( فعسة أولئك ) أي العالو الهمم ) أن يكونوا ) أي جبلة ورسوخا ) من المهتدين ( فأقامهم - مع ما قدم لهم من الكمال بالمعارف والأفعال - بين الرجاء والخوف مع الإشارة بإفراد الخشية إلى ترجيح الخوف على الرجاء إيذانا بعلو أمره وعظيم كبره إشارة إلى أنه لا حق لأحد عليه وأنه إن شاء أثاب ، وإن أراد حكم - وهو الحكم العدل - بالعقاب ، لا يسأل عما يفعل ، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وعزة المرام ، ومادة عسى بجميع تصاريفها تدور على الحركة ، وهذه بخصوصها للأطماع ، والحاصل أن من اتصف بالأوصاف الأربعة كان صالحا وخليقا وجديرا وحقيقا بأن يتحرك طعمه ويمتد أمله إلى أن يكون من جملة أهل الهدى ، فكيف توجبون أنتم لمن لم يتصف بواحد منها ما يختص به المهتدون من الموالاة ، هكذا كان ظهر لي أولا في مدار المادة ، ثم ظهر لي أن ذلك في أكثر تقاليبها ، مع إمكان أن يكون غيره للإزالة ، وأن الشامل لها - يائية وواوية بتقاليبها العشر : عسى ، عيس ، سعى يسع ، عسو ، عوس ، سعو ، سوع ، وسع ، وعس - أنها لما يمكن أن يكون ، وهوجدير وخليق بأن يكون ، من قولهم : أعس به - أي أخلق. وبالعسى أن يفعل - أي بالحري ، وأنه لمعساة بكذا - أي مخلقة ، وبهذا فسرها سيبويه : قال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح لأبي علي : وقال سشيبويه : إن عسى بمنزلة اخلولق ، والمعساء كمكسال : الجارية المراهقة لأنها جديرة بقبول النكاح ، ومن ثم أتت للطمع والإشفاق ، وقد يزيد الرجاء فيطلق على القرب فيكون مثل كاد ، وقد يشتد فيصل إى اليقين فنستعمله حينئذ في معنى كان ، ومنه : عسى الغوير ابؤسا لكن قال الرضى : وأنا لا أعرف عسى في غير كلامه تعالى لليقين. وقد يضعف الرجاء فيصير شكا ، ومنه المعسية كمحسنتة للناقة ، قد شك أبها لبن أن لا ، وعسى النبات - كفرح ودعا : غلظ ويبس ، أي صار خليقا لأن يرعى وأن يقطع ، واليد
من العمل مثله ، أي قصارت جديرة بالصبر على المشاق ، والعاسي ، النخل : لأنه جدير بكمال ما يطلب منه من المنافع ، وعسى السيخ كرضي عساء وعسا كدعا يعسو : كبر ، أي صار خليقا بالموت وبأن لا يتعلم ما لم يكن في غريزته ، وكذا عسى وعسا عن الأدب ، أي كبر عنه ، والعود يبس وصلب واشتد أي فصار خليقا لما يراد منه ، والليل : اشتدت ظلمته ، فصار(3/283)
صفحة رقم 284
جديرا بمطابقة لمسماه وبتغطية الأمور ، والعسو : الشمع ، كأنه لإزالته ظلمته الليل بنوره إذا أحرق ، وعسى بالشيء كفرح : لزمه ، أي فصار جديرا بإضافته إليه ، والعيس - بالفتح : ضراب الفحل ويقال : ماؤه لأنه جدير بالإنتاج ، والعيس - بالكسر ، بالإبل البيض يخالط بياضها شقرة ، وجمل وظبي أعيس وناقة عيساء ، لأنها خليقة بكل محمدة لحسن لونها ، وتعيست الإبل صارت بياضا في سواد كذلك أيضا وعيساء : امرأة والأنثى من الجراد ، والعوس - بالفتح - والعوسان ا : الطوفان بالليل ، لأنه جدير ببلوغ المقاصد ، وبالضم : ضرب من الغنم وهو كبش عوسي ، إلحاقا لها بالعيس لكنها لصغرها اختير لها الضم جبرا لها وتقوية وتفاؤلا بالكبر ، واختير بللإبل الكسر تفاؤلا بسهولة القياد ، وبالتحريك : دخول الشدقين عند الضحك وغيره : تشبيها بالغنم ، فكأنه جدير بأن يترك ما يحدث منه ذلك من الضحك وغيره ، والنعت أعوس وعوساء ، وعاس على عياله : كد عليهم وكدح ، وعياله : قاتهم ، وماله عوسا وعياسة : أحسن القيام عليه فعمل بما هو الأليق به في كل ذلك والعواسة - بالضم : الشربة من اللبن وغيره ، لأنها جديرة بالري ، والأعوس : الصيقل والوصاف للشيء ، لأنه جدير بإظهار الخبء ، والعواساء كبراكاء : الحامل من الخنافس ، لأنها يفي تلك الحالة أجدر بما تفهمه مادتها من الكراهة فإنه يقال : خنفس عن القوم : كرههم وعدل عنهم ن والخنافس - بالضم : الأسد ، لأنه جدير بأن يكره ويعدل عنه ، والسعي : عدو دون الشد وكل عمل سعي ، قال في القاموس : سعى كرعى : قصد وعمل ومشى وعدا ونم وكسب ، وكل ذلك يكون جديرا بدرك حاجته ، والسعاية : مباشرة عمل الصدقات التي بها يدرك الإمام أخذ الحقوق ، فيكون خليقا بإغناء الفقراء ، وسعت الأمة : بغت ، فكانت خليقة بعمل الإماء عند العرب وساعاها : طلبها للبغاء وأسعاه : جعله يسعى ، والمسعاة : المكرمة والمعلاة في أنواع المجد ، لأنها جديرة بأن يسعى لها ، واستسعى العبد : كلفه من العمل ما يؤدي به عن نفسه إذا اعتق بعضه ليعتق به ما بقي لأنه جدير بذلك ، والسعاية - بالكسر : ما كلف من ذلك ، والسيع : الماء الجاري على وجه الأرض ، وقد انساع - إذا جرى ، لأن الماء خليق بالجري والحركة ، ساع الماء والشراب : اضطرب على وجه الأرض ، وسيعاء من الليل وكسيراء : قطع منه ، كأنه ينظر إلى الساعة وهي جزء ، هو لنفاسته خليق بأن يحفظ ولا يضيع وأن يتدارك إن ضيع ، والسياع - بالفتح : ما يطين به ، والشحم تطلى به المزادة ، كأنه يمنع ما هو خليق بالجري ، وقد سيعت الجب - إذا طينته بطين أو جص ، وكذلك الزق والسفن إذا طليت بالقار ، والمسيعة : خشبة مملسة يطين بها تكون مع حذاق(3/284)
صفحة رقم 285
الطيانين ، والتسييع : التطيين بها تكون مع حذاق التدهين ، وقال القزاز : والسياع : تطيينك بالجص أو الطين أو القير ، تسيع به السفن ، والسياع : شجر العضاه له ثم ركهيءة الفستق وشجر اللبان ، وكل منها خليق بالرغبة فيه ، والمسياع ، الناقة تذهب إلى المرعى ، كأنها شبهت بالماء الجاري ، وهي أيضا خليقة السمن ، والتي تحمل الضيعة ، وسوء القيام عليها ، والتي يسافر عليها ويعاد ، لأنها خليقة بأن يرغب فيها وأساعه : أهمله ، أي أزال ما هو خليق به من الحفظ فصار خليقا بالهلاك ، والسعوة - بالكسر : الساعة كالسعواء بالكسر والضم - وقد تقدم تخريجها - والمرأة البذية الخالعة ، كأنها جديرة بسرعة الفراق كالساعة ، والساعي : الوالي على أي أمر وقوم كان ، ولليهود والنصارى : رئيسهم ، لأنه خليق بان يسعى عليهم ويذب عنهم ، والسعاة : التصرف ، لأن الإنسان جدير به ، وسعية علم للعنز لأنها خليقة بالسعي ، والسعاوي - بالضم : الصبور على السهروالسفر ، نسبة إلى السعي على وجه بليغ وه خليق بأن يرغب فيه ، وأسعوا به ، أي طلبوه بقطع همزتها ، والسعة : جزء من أجزاءها الجديدين والوقت الحاضر والقيامة ، لأن كل ذلك جدير وحقيق بالاحتفاظ من إضاعته ، والهالكون كالجاعة للجياع ، كأنهم أضاعوا ساعتهم فكانوا جديرين بما حصل لهم ، وساعة سوعاء : شديدة ، وساعت الإبل تسوع : بقيت بلا راع ، فصارت جديرة بالهلاك والضياع ، وأساعه : أهمله وضيعه ، فصار كذلك ، ومنه ناقة مسياع : تدع ولدها حتى تأمله السباع ، وبعد سوع من الليل وسواع أي هدوئه ، وأسوع : انتقل من ساعة إلى ساعة فصار جديرا بأن يتحفظ فيتدارك في الثانية ما فاته في الأولى ، وأسوع الحمار : أرسل غرموله ، فصار جديرا بالنزوان ، وسواع : اسم صنم عبد في عهد نوح عليه السلام ، غرقه الطوفان فاستثار إبليس حتى عبد أيضا ، لأنه كان خليقا - عندهم وفي زعمهم - بما أهلوه له - تعالى الله عن ذلك ، والوسع المثلثة : الجدة والطاقة كالسعة ، ومعناها الخلاقة بالاحتمال ، وسعة الشيء بالكسر - يسعه كيضعه سعة كدعة وزنة : كان جديرا باحتماله ، واللهم سع علينا ، أي وسع ، وليسعك بيتك ، أمرا بالقرار فيه ، وهذا الإناء يسع عشرين كيلا ، أي يتسع لها ، والواسع : ضد الضيق - كالوسيع ، وفي الأسماء الحسنى : الكثير العطاء الذي يسع لما يسأل ، أو المحيط بكل شيء أوالذي وسع رزقه جميع خلقه ورحمته كل شيء ، والوساع كسحاب : الندب ، وه الخفيف في الحاجتة الظريف النجيب ، لأنه جدير بما يندب له ، ومن الخيل : الجواد أ ، الواسع الخطو والدرع كالوسيع ، وقد وسع ككرم وساعة وسعة وأوسع : صار ذا سعة ، والله عليه : أغناه ، توسعوا في المجلس تفسحوا ، فصاروا جديرن باحتمال الداخل بينهم ، ووسعهخ توسيعا ضد ضيقه ، ورحمة(3/285)
صفحة رقم 286
الله وسعت كل شيء ، أي أحاطت به ، ووسع كل شيء علما ، أي أحاط به وأحصاه ، والوعس كالوعد : شجر تعمل منه البرابط والعيدان ، لأنه أحق الأشجار بذلك ، والرمل السهل يصعب فيه المشي ، لأنه يرى لسهولته خليقا بأن يمشي فيه ، وإذا حقق النظر كان خليقا بصعوبة المشي لكونه رملا ، وأوعس ركبه ، والوعساء : رابية من رمل لينة تنبت أحرار البقول ، لأنها للينها حقيقة من بين رواب يالرمل بالنبت ، ومكان أوعس وأمكنة وعس ، والميعاس : ما تنكب عن الغلظ ، فهو جدير بالمشي فيه ، والأرض ، لم تؤطا ، فهي جديرة بالكف عن سلوكها ، والطريق ، لأنه جدير بأن يسلك ، قال في القاموس : كأنه ضد ، والمواعسة : ضرب من سير الإبل ، كأنه وسط فهو جدير بالخير والمباراة في السير ، أو لا تكون إلا ليلا ةقال القزاز : توعست في وججه حمرة أو صفرة ، أي كانت خليقة بالظهور ، قال : وإذذكروا الرملة قالوا : وعساء ، وإذا ذكروا الرمل قالوا : أوعس ، هذا ما في تنزيل الجزيئات من اللغة على مدار هذه المادة ، وأما كلام أهل العربية يفي قواعد " عسى " الكلية فقال أبو عبد الله القزاز : هو فعل لا ينصرف فلا تقول ، يعسى ، ولا هو عاس ، وقال عبد الحق الإشبيلي : ولا يأتي منه مستقبل ولا فاعل ولا مفعول ولا مصدر قال القزاز : ويصحبه " أن " ويجوز حذفها ، و " أن " وما بعدها بمعنى المصدر وهي في موضع نصب ، ولا يقع بعدها المصدر ولا اسم الفاعل ، وإنما جاء هذا في مثل العرب : عسى الغوير أبؤسا ، وأبؤس جمع بأس ، وهذا يدل على أن خبر عسى في موضع نصب ، وقال في القاموس : والأبؤس : الداهية ، ومنه عسى الغوير أبؤسا ، أي داهية ، قال أبو عبيد في الغريب : كأنه أراد : عسى الغوير أن يحدث أبؤسا وأن يأتي بأبؤس ، فهذا طريق النصب ، ومما يبينه قول الكميت :
قالوا أساء بنو كرز فقلت لهم
عسى الغوير بإبآس وإغوار
وقال شارح الجزولية أبو محمد بن الموفق : لما كانت للرجاء دخلها معنى الإنشاء فلم تتصرف ، لأن تصرفها ينافي الإنشاء لأنها إذا تصرفت دلت على الخبر فيما مضى والحال والاستقبال ، وذلم يناف معنى الإنشاء الذي لا يصلح لماض ولا مستقبل ، وقال بعض المتأخرين : عسى موضوعة لفعل يتوهم كونه في الاستقبال وهو على حرف لعدم تصرفها ولا معناها في غيرها ، والصحيح أنها فعل لفظا ومعنى ، أما لفظا فظاهر ، أي للحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة ، وأما معنى فلأنه إخبار عن طمع وقع للمتكلم وجعل لفظها بلفظ الماضي لأن الطمع قد وقع ، وإنما المطموع هو الذي يتوقع وينتظر ، وأدخل " أن " على المطموع يفيه لأنه لم يقع بعد ، وجردت أخواتها عن " أن " لأن خبرها محقق(3/286)
صفحة رقم 287
في الحال إذ قد شرع فيه إلا " كاد " للمقارنة في الجملة ، وقال ابن هشام المصري في توضيحه : ويجب كونه مفردا نحو عسى الغوير أبؤسا ، ويكون الاسم مرفوعا بعسى وأن ، والفعل في موضع نصب على الخبر ، وقال الرضي : إنما لم يتصرف في عسى لتضمنها معنى الحرف ، أي إنشاء الطمع والرجاء ، وقوله : أبؤسا وصائما ، لتضمن عسى معنى الحرف ، أي إنشاء الطمع والرجاء ، وقوله : أبؤسا وصائما ، لتضمن ، عسى معنى كان فأجرى مجراه ومذهب المتأخرين أن عسى ترفع الاسم وتنصيب الخبر ككان ، وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي : الأفعال موضوعة للتصرف من حيث كانت مقسمة بأقسام الزمان ، ولولا ذلك لأغنيت المصادر عنها ، ولهذا قال سيبويه فأما الأفعال فأمثلة فأخذت من لفظ أحداث الأسماء فبنيت لما مضى ولما يكون ولما هو كائن لم ينقطع ، ولما خالفت هذه الأفعال - يعني عسى ونعم وبئس وفعل التعجب - سائر الأفعال في الدلالة ترك تصرفها أبدا بما أريدت له من المبالغة فيما جعلت دالة عليه ، فمعنى عسى الطمع والإشفاق ، كذا قال سبيويه ، ولما اختصت بهذا المعنى ترك تصرفها ، وقال الرمان ي : منعت ذلك حملا على " لعل " كما حملت " ما " على " ليس " والأول أولى لأنه ليس ينبغي أن يحمل باب الأفعال على الحروف ، ولأن الأفعال في بابها بمنزلة الحروف في بابها في لزوم البناء ، وإنما الأسماء تحمل عليها كما تقول في قطام وحزام : إنه بنى لوقوعه موقع الفعل ، وأن أسماء الاستفهام بينيت لوقوعها موقع الحرف ولا تقول في الأفعال إنها بنيت حملا على الحروف ولا الحروف بينت حملا على الأفعال ، بل كل منهما أصل فكذلك التصرف ، ليس امتناعه لحمله على الحرف وجريه مجراه ، وعسى من أخوات " كان " وإنما لم تذكر معها للمخالفة بترك التصرف وبلزوم " أن " الخبر وبكونه فعلا ، ويدل على أنها من أخوات " كان " عسى الغوي رأبؤسا ، فقد انكشف الأصل كما انكشف أصل أقام وأطال ونحوه بقوله :
صددت وأطولت الصدود وقلما
وصل على طول الصدود يدوم
ولزوم الفعل بخبرها لجعله عوضا من التصرف الذي كان ينبغي أن يكون لها ، وأما لزوم " أن " فلما أريد من صرف الكلام إلى تأويل الاستقبال لأن " أن " تخلص إليه ، والبيت الممثل به فيه شيء طريف ، وهو مصدر مجموع واقع موقع مصدر واقع موقع فعل ، والمصادر في أصلها لا تجمع ولكنه ضرورة ومثل فالأصل أن " بأس " ثنم أبؤسا ، انتهى كلام العبدي ، وعنجي أنه عند ما يقوى المعنى الذي سبقت له من طمع أو إشفاق يجعل خبرهااسما تنبيها على أنها الآن بمنزلة كان لما اشتد من شبهها لها بذلك ، قال(3/287)
صفحة رقم 288
أبو طالب : وإذا وليها " أن " والفعل كان في موضع رفع ، وسد طول الكلام مسد الخبر ومعناها الذي هزو الإشفاق والطمع قريب من المقاربة في كاد ، فلذلك حذف " أن " من خبرها حملا لها على كاد كما جوزوا دخول " أن " في خبر كاد حملا على عسى ، وقال شارح الجزولية : وحذف " أن " من خبر عسى أكثر من إلحاق " أن " في خبر " كاد " لمقاربة كاد ذات الفعل ، و " أن " تنافي ذلك ، قال : ومن الفرق بينهما أن عسى ا يضمر فيها ضمير الشأن والقصة لشبهها بالحرف لعدم تصرفها وتضمر في كاد لتصرفها ، ثم رجح أنه يضمر فيها وإن لم تتصرف كما أضمر في نعم وبئس وقال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح أيضا : إن سبيويه قدر عسى بقارب ، أي فترفع وتنصب لأن قار بمتعد ، وقدرها بقرب ، أي يفلا تنصب لعدم تعديه ، قال : ولا تدخل عسى على الماضي ، قال أبو علي : لأنها للاستقبال المحض ولذلك وقع بعدها " أن " فلا تصلح للماضي بوجه ، وقال شارح الجزولية : عسى لها الظاهر مذهبان : أحدهما أن تكون ناقصة بمعنى كان الناقصة ، تحتاج إلى اسم وخبر إلا أنه يشترط في خبرها أن يكون فعلا ، وأصله أن يكون اسما مثل خبر كان إلا أنه عدل عنه إلى الفعل تنبيها على الدلالة على ما هو المقصود من ارجاء وتقوية لما يفيده الرجاء من الاستقبال ، وشبهت في هذا الوجه ، ب " قارب زيد الخروج " تحقيقا لبيان الإعراب لا في المعنى ، لأن " قار بزيد الحروج " ليس فيه إنشاء رجاء ولا غيره ، وإنماهو تمثيل لتقدير الإعراب اللفظي لأنه أصلها أن تكون كذلك وإنما طرأ عليها إنشاء الرجاء كما كان ذلك في التعجب ونعم وبئس وغيرهما ، والمذهب الثاني أن تأتي تامة فتستعمل استعمال " قرب " فتدخل على " أن " مع الفعل فتقول : عسى أن يقوم زيد ، واستغنى فيها - بأن والفعل - عن الخبرين كما استغنى في " ظننت أن يقوم زيد " عن المفعولين ، وذلك لاشتماله على مسند ومسند إليه ، وهو المقصوج بهذه الأفعال ، فإذا قلت : زيد عسى أن يقوم احتمل أن تكون ناقصة فيكون فيها ضمير يعود على زيد هو اسمها و " أن " مع الفعل خبرها ، ويحتمل أن تكون التامة فلا يكون فيها ضمير وتكون " أن " مع الفعل فاعلها ، وقال ابن الخباز الموصلي في كتابه النهاية في شرح كفاية الكفاية ، عسى للطمع للمبالغة في الطمع ، فلا يكون خبرها ماضيا لأن معناها الرجاء والطمع ، والماضي لا يطمع فيه ولا يرجى حصوله ، واستدل على أنها لا تستعمل إلا في المستقبل بقول بعض شعراء الحماسة :
عسى طيئ من طيئ بعد هذه
ستطفئ غلات الكلى و الجوانح
فإنى بالسين لأنه لم يمكنه الإتيان ب " أن " في الشعر ، وقال شارح الجزولية ما معناه : إنه التزم في خبرها الفعل للدلالة على الاستقبال وألزم " أن " تقوية لذلك ، ولهذا(3/288)
صفحة رقم 289
لم يكن خبرها اسما إذا لا دلالة للاسم على الزمان ، ولم يوضع مكانها السين وسوف لأنهما يدلان على تنفيس في الزمان والغرض هنا تقريبه ، وقد يجئ في الشعر قليلا - وأنشد البيت المذكور ، وقال ابن الخباز : دخول الاستفهام عليها يؤذن بأنها ليست للطمع لأت الاستفهام لا يدخل على الطمع ولاعلى ما ليس بخبر ، فدخول هل على مما يؤذن بأنها خبر - انتهى. فتفسيرها بما ذكرته - من أنها لما يمكن أن يكون وهو خليق بأن يكون - أول ، ويكون الطمع لازما لمضمون الكلام لا أنه مدلولها بالمطابقة والله الموفق
التوبة : ( 19 - 24 ) أجعلتم سقاية الحاج. .. . .
) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ( )
ولما بين سبحانه الصالح لذلك من غيره ، أنكر على لم يفرق بين الصنفين فقال : ( اجعلتم سقاية الحاج ) أي مجردة عن الإيمان ) وعمارة المسجد الحرام ( اي كذلك كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد ، وأهل السقاية والعمارة من غير إيمان في موالاتهم والكف عن معادتهم ) كمن من بالله ) أي الحامل اعتقاد كماله على كل كمال ) واليوم الآخر ) أي الحاث خوفه على كل خير ) وجاهد في سبيل الله ) أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء ، فالآية على قراءة الجماعة من الاحتباك : حذف أولاً المشبه به لدلالة المشبه عليه وثانياً المشبه لدلالة المشبه به عليه ، وأما على رواية نسي بن وردان عن أبي جعفر شاذاً : سقاة وعمرة - بالجمع فلا يحتاج إلى تقدير ولما كان كأنه قيل : كنا نظن ذلك فماا حالهم ؟ قال : ( لا يستون عند الله ) أي الذي له الكمال كله لأن المشركين ظلموا بترك الإيمنا ) والله ) أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ) لا يهدي الظالمين ) أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها ، والكفر أعظم الظلم ، فلا توجبوا لهم الهداية ولا المساواة بالمهتدين وإن(3/289)
صفحة رقم 290
باشروا جميع افعال المهتدين ما عدا الإيمان ، ومن فعل ذلك منكم كان ظالماً وخيف عليه سلب موجب الهداية .
ولما نفى عنهم المساواة من غير تصريح بأهل الترجيخ ليشتد التشوف إلى التصريح فيكون اثبت في النفس وأوقر في القلب ، كان كأنه قيل : فمن الراجح ؟ فقال : ( الذين آمنوا ) أي وقعوا هذا الفعل ، وهو إيمان المخاطب من ان يكذبوه بشيء مما يخبر به عن الله ، وقصر الفعل وهوفي الأصل متعد ليفيد أنه لا إيمان غير هذا ، وإن وجد غيره فهو عدم بالنسبةإليه ، وكذا كل فعل قصر فهو على هذا المنوال ليشار به إلى أنه لعظيم نفعه لا فعل من جنسه غيره ) وهاجروا واجاهدوا ( ولما كان المحدث عنه فيما قبل المجاهد في سبيل الله ، اقتضى المقام تقديمه على الآلة بخلاف ما في آخر الأنفال فغن المقام اقتضى هناك تقديم المال والنفس لما تقدم من موجبه في غيرآية - كما سلفت بيانه ، وأيضاً ففي هذا الوقت كان المال قد كثر ، ومواضع الجهاد قد بت ، فناسب الاهتمام بالسبيل فلذا قدم ) في سبيل الله ) أي مخلصين له لأنه الملك الذي لا كفؤ له ، ثم أتبعه قوله : ( باموالهم وأنفسهم ( فصرح بالنفس ترغيباً في المباشرة بها ) أعظم درجة ) أي من جهة ارتفاع الدرجة ، وهي الفضيلة المقربة غلى الله .
ولما لم يكن العبرة إلا بما عنده سبحانه ، لا بما عند الناس ، قال تعالى : ( عند الله ( اي الملك الأعظم من أهل السقاية وما معها من غير إيمان مدلول عليه بشواهده ، حملة المدلول عليه ، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وصعوبة المرام ؛ وأفهم هذا أت تلك الأفعال شريفة في نفسها ، فمن باشرها كان على درجة عظيمة بالنسبة إلى من لم يباشرها ، ومن بناها على الأساس كان أعظم ؛ ثم بين ما يخص أهل حزبه فقال : ( وأولئك ) أي العالو التربة ) هم ) أي خاصة لا أنتم أيها المفاخرون مع الشرك ) الفائزون ) أي بالخير الباقي في الدارين دون من عداهم وإن فعل من الخيرات ما فعل ، لأنهم ترقوا من العبدية إلى العندية .
ولما بين أن جزاء أولئك الخلود في النار ، بين ما لهؤلاء ، فقال مفسراً لفوزهم : ( يبشرهم ربهم ) أي المحسن إليم بهدايتهم واجتبائهم. وناهيك بهذه البشارة الدالة على علو مقامهم لأنها بلا واسطة ، وكون البشارة على قدر المبشر دال أنه هذه البشارة بشارة عظيمة لا نهاية لها ولا يحاط بمعرفة مقدارها ) برحمة ( اي عظيمة ، وزادها عظماً بقوله : ( منه ( وذلك إشارة إلى أنه لا نجاة بدون العفو ؛ ثم أخبر بان الرحمة كما اثمرت(3/290)
صفحة رقم 291
العفو الذي هو أدنى المنازل أسعدت بأعلاها فقال : ( ورضوان ) أي بأن يكون راضياً عن الله للرضى بقضاء الله وذلك يكون إذا قصر نظره على الله فإنه لا يتغير أبداً بقضاء من أقضيته كما أن الله - الذي هو راحمه - لا يتغير ، ومن كان نظره لطلب حظ له كان أبداً في تغير من الفرح غلى الحزن ومن السرور إلى الغم ومن الراحة إلى الجراحة ومن اللذة إلى الألم ، فثبت أن الرحمة التانة لا تحصل إلا للراضي بقضاء الله ويكون الله راضياً عنه فتكون نفسه راضية مرضية ، ولهذا لم يقيده ب ( منه ) وهذان في الدنيا والآخرة ولما ذكر هذه الجنة الروحانية المنعم بها في الدنيا ، أتبعه بيان الجنة الروحانية البدنية الخاصة بالدار التي فيها القرار فقال : ( وجنّات ) أي بساتين كثيرة الأشجار والثمار ) لهم فيها نعيم ) أي عظيم جداً خالص عن كدر ما ، ودل على الخلود بقوله : ( مقيم ( ثم صرح بخلودهم فيها بلفظ الخلود ليكون أقر للنفس فقال : ( خالدين فيها ( وحقق أمره بقوله : ( أبداً ( ثم استأنف المدح لذلك مؤذناً بالمزيد بقوله : ( إن الله ) أي الذي له الغنى المطلق والقدرة الكاملة ) عنده أجر عظيم ( وناهيك بما يصفيه العظيم دالاًّ بالعظم ، وخص هؤلاء المؤمنين بهذا الثواب المعبر عن دوامه بهذه العبارات الثلاث المقرونه بالتعظيم والاسم الأعظم ، فكان أعظم الثواب ، لأن إيمانهم أعظم الإيمان .
ولما فرغ من العاطفة بمحاسن الأعمال ، شرع في العاطفة بالأنساب والأموال ، وقدم الأول إشارة إلى أن المجانسة في الأفعال مقدمة على جميع الأحوال ، ولما كان محط الموالاة المناصرة ، وكانت النصرة بالآباء والإخوان اعظم من النصرة بغيرهم ، لأن مرجعها إلى كثرة الأعوان والأخدان ، اقتصر عليها فقال : ( يأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بألسنتهم بالإيمان بربهم معرضين عما سواه من الأنداد الظاهرة صدقوا ادعاءكم ذلك بأن ) لا تتخذوا ) أي تتعمدوا وتتكلفوا أن تأخذوا ) آباءكم وإخوانكم أولياء ) أي على ما يدعو إليه الطباع وتقوية الأطماع فتلقوا إليهم أسراركم وتؤثروا رضاهم والمقام عندهم ) استحبوا ( اي طلبوا وأوجدوا ان أحبوا ) الكفر ( وهو تغطية الحق والتكذيب ) على الإيمان ( نبه بصيغة الاستفعال على أن الإيمان لكثرة محاسنه وظهور دلائله معشوق بالطبع ، فلا يتركه أحد إلا بنوع معالجة ومكابرة لعقله ومجاهدة .
ولما كان أعز الأشياء الدين ، وكان لا ينال إلا بالهداية ، وكان قد تقدم سلبها عن الظالم ، ورهبهم من انتزاعه بقوله : ( ومن يتوالهم ) أي يتكلف أن يفعل في أمرهم ما يفعل القريب مع قريبه ) منكم ) أي بعد ما أعلمكم الله في أمرهم مما أعلم ) فأولئك ) أي المعبدون عن الحضرات الربانية ) هم الظالمون ) أي لوضعهم الموالاة في غير موضعها بعد تقدم إليهم سبحانه بمثل هذه الزواجر ، وهذا رجوع بالاحتراس إلى(3/291)
صفحة رقم 292
77 ( ) وأولو الأرحام بعضهم أولى بعض ( ) 7
[ الأنفال : 75 ] - الآية الوالية لبيان المؤمنين حقاً وإشارة إلى أنه يضلهم ولا يهديهم لما تقدم من الخبر بأنه لا يهدي الظالمين .
ولما كانت الأنفس مختلفةالهمم متباينة السجايا والشيم ، كان هذا غير كافٍ في التهديد لكلها ، فأتبعه تهديداً أشد منه بالنسبة إلى تلك النفوس فقال متنقلاً من أسلوب الإقبال إلى مقام الإعراض المؤذن بزواجر الغضب : ( قل ) أي يا أعظم الخلق شفقة ورفقاً ونصيحة لمن لم يُزعمه ما تقدم من الزواجر أنه يجب تحمل جميع هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سالماً ولا ينثلم ) إن كان آباؤكم ) أي الذين أنتم أشد شيء توقيراً لهم ) وأبناؤكم ) أي الذين هم اعز الناس لديكم وأحبهم إليكم ) وإخوانكم ( اي الذين هم من اصولكم فهم كأنفسكم ) وأزواجكم ) أي اللاتي هن سكن لكم ) وعشيرتكم ) أي التي بها الراحة وقيام العز والمنعة وهم أهل الإنسان الأدنون الذين يعاشرونه .
ولما تقدم سبحانه ما هو مقدم على المال عند أولي الهمم العوال قال : ( وأموال اقترفتموها ) أي اكتسبتموها بالمعالجة من الأسفار وغيرها لمعاشكم ) وتجارة تخشون كسادها ) أي لفوات أوقات نفاقها بسبب اشتغالكم بما ندب الله سبحانه إليه فيفوت - على ما تتوهمون - ما به قوامكم ) ومساكن ترضونها ) أي لأنها مجمع لذلك كله ، ولقد رتبها سبحانه أحسن ترتيب ، فإن الأب أحب المذكورين لما هنا من شائبة النصرة ، وبعده الابن ثم الأخ ثم الزوج ثم العشير الجامع بالمسكن لأنه الغاية التي كل ما تقدم أسباب للاسترواح فيه والتجمل به ) أحب إليكم من الله ) أي الجامع لصفات الكمال الذي أنعم عليكم بجميع ماذكر ، ومتى شاء سلبكموه ) ورسوله ) أي الذي أتاكم بما به حفظ هذه النعم في الدارين ) وجهاد في سبيله ) أي الرد الشارد من عباده إليه وجمعهم عليه ، وفي قوله - : ( فتربصوا ) أي انتظروا متربيصين - تهديد بليغ ) حتى يأتي الله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء ) بأمره ) أي الذي لا تبلغه اوصافكم لا تحتمله قواكم. ولما كان من آثر حب شيء من ذلك على حبه تعالى ، كان مارقاً من دينه راجعاً إلى دين من آثره ، وكان التقدير : فيصيبكم بقارعة لا تطيقونها ولا تهتدون إلى دفعها بنوع حلية ، لأنكم اخترتم لأنفسكم منابذة الهداية ومعلوم أن من كان كذلك فهو مطبوع في الفسق ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الجامع لصفات الكمال ) لا يهدي القوم ( اي لايخلق الهداية في قلوب ) الفاسقين ( اي الذين استعملوا ما عندهم من قوة القيام فيما يريدون من الفساد حتى صار الفسق - وهو الخروج مما حقه لالمكث فيه و التقيد به وهو هنا الطاعة - خلقاً من أخلاقهم ولازماً من لوازمهم ، بل يكلمهم إلى نفوسهم فيسخروا الدنيا والآخرة .(3/292)
صفحة رقم 293
التوبة : ( 25 - 27 ) لقد نصركم الله. .. . .
) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
في بعض النفوس من الغرور بالكثرة ما يكسبها سكرة تغفلها عن بعض مواقع القدرة ، ساق قصة حنين دليلاً على ذلك الذي أبهمه من التهديد جواباً لسائل كان كأنه قال : ما ذاك الأمر الذي يتربص لإتيانه ويخشى من عظيم شأنه ؟ فقيل : الذل والهوان والافتقار والانكسار ، فكأنه قيل : وكيف يكون ذلك ؟ فقيل : بأن يسلط القدير عليكم - وإن كنتم كثيراً - أقوياء غيركم وإن كانوا قليلاً ضعفاء كما سلطكم - وقد كنتم كذلك - حتى صرتم إلى ما صرتم إليه : ( لقد نصركم الله ) أي الملك الأعلى مع شدة ضعفكم ) في مواطن أي مقامات ومواقف وأماكن توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم ) كثيرة ( اي من الغزوات التي تقدمت لكم كبدر وقريظة والنضير وقينقاع والحديبية وخيبر وغيرها من مخاصمات الكفار ، وكنتم من الذلة والقلة والانكسار بحال لا يتخيل معها نصركم وظهوركم على جميع الكفار وأنتم فيهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، وما وكلكم إلى مناصرة من تقدم أمره لكم بمقاطعتهم ، فدل ذلك على أن من أطاع الله ورجع الدين على الدنيا ىتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه وإن عاداه الناس أجمعون ، ودل بما بعدها من قصة حنين على أن من اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا إلا يتداركه الله برحمته منه فيرجع به. فقال تعالى : ( ويوم ) أي ونصركم بعد أن قواكم وكثركم هو وحده ، لا كثركم وقوتكم يوم ) حنين ( وهو واد بين مكة والطائف إلى جانب ذي المجاز ، وهو إلى مكة أقرب ، وراء عرفات إلى الشمال ولما كان سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري رضي الله عنه قد قال حين التقى الجمعان وأعجبته كثرة الناس : لن نغلب اليوم من قلة فساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه وأن يعتمد إلا على الله ، وكان الإعجاب سمّاً قاتلاً للأسباب ، أدبنا الله سبحانه في هذه الغزوة بذكر سوء اثر لنحذره ، ثم عاد سبحانه بالإنعام لكون الذي قاله شخصاً واحداً كره غيره مقاتله. فقال : ( إذ ) أي حين ) أعجبتم كثرتكم ) أي فقطعتم لذلك أنه لا يغلبها غالب ، وأسند سبحانه الفعل للجمع إشارة إلى أنهم لعلو مقامهم ينبغي ان لا يكون منهم من يقول مثل ذلك ) فلم تغن عنكم شيئاً ) أي من الإغناء ) وضاقت عليكم الأرض ) أي الواسعة ) بما رحبت ( اي مع اتساعها فصرتم لا ترون ان فيها مكاناً يحصنكم مما(3/293)
صفحة رقم 294
أنتم فيه لفرط الرعب ، فما ضاق في الحقيقة إلا ما كان من الآمال التي سكنت إلى الأموال والرجال ، ولعل عطفه - لتوليهم بأداة التراخي في قوله : ( ثم وليتم ) أي تولية كثيرة ظهوركم الكفار ، وحقق ذلك بقوله : ( مدبرين ) أي انهزاماً مع أن الفرار كان حين اللقاء لم يتأخر - إشارة إلى ما كان عندهم من استعباده اعتماداً على القوة والكثرة ) ثم أنزل الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ) سكينته ) أي رحمته ، وهي الأمر الذي يسكن القلوب عن أن تتأثر يدهمها من البلاء من الوثوق به سبحانه ومشاهدة جنابة الأقدس والغناء عن غيره .
ولما كان المقام للرسالة ، وكان تأييد مدعيها من أمارات صدقه في دعوى أنه رسول ، وأن مرسله قادر على ما يريد لا سيما إن كان تأييده على وجه خارق للعادة ، عبر به دون وصف النبوة فقال : ( على رسوله ) أي زيادة على ما كان به من السكينة التي لم يحز مثلها أحد ، ثبت بها الثلاثين ألفاً أو عشرين أو أربعة آلاف على اختلاف الروايات في عشرة أنفس أو مائة أو ثلاثمائة - على الاختلاف ايضاً ، لم يكن ثباتهم إلا به ، ثم لم يزده ذلك إلا تقدماً حتى أن كان العباس عمه وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه رضي الله عنهما ليكفيان بغلته عن بعض التقدم ، ولعل العطف ب ( ثم ) إشارة إلى علو رتبة ذلك الثبات واستبعاد أن يقع مثله في مجاري العادات ) وعلى المؤمنين ) أي أما من كان منهم ثابتاً فزيادة على ما كان له من ذلك ، وأما غيره فأعطي ما لم يكن في ذلك الوقت له ، وذلك انه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمه العباس رضي الله بعدما فر الناس : ناد فيهم يا عباس فنادى وكان صيتاً : ياعباد الله يا اصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فكروا عنقاً واحداً يقولون : لبيك لبيك ويحتمل أن يكون ذكر الرسول عليه السلام لمجرد التبرك كما في ذكر الله في قوله :
77 ( ) فإن الله خمسة ( ) 7
[ الأنفال : 41 ] وزيادة في تعظيم الامتنان به لأن النفوس إلى ما أعطى منه الرسول أميل والقلوب له اقبل لاعتقاد جلاله وعظمته وكماله ) وأنزل ) أي من السماء ) جنوداً لم تروها ) أي من الملائكة عليهم السلام ) وعذب ) أي بالقتل والأسر والهزيمة والسبي والنهب ) الذين كفروا ( عبر بالفعل لأن فيهم من آمن بعد ذلك .
ولما كان ما عذب به من اوجد مطلق هذا الوصف عظيماً ، اتبعه بيان جزاء العريق في ذلك ترهيباً لمن آثرحب شيء مما مضى على حب اله فقال : ( وذلك ) أي العذاب(3/294)
صفحة رقم 295
الذي منه ما عذب به هؤلاء وغيره ) جزاء الكافرين ( اي الراسخين في وصف الكفر الذين آثروا حب من تقدم من الاباء وغيرهم على الله فثبتوا على تقليد الآباء في الباطل بعدما رأوا من الدلائل ما بهر الشمس ولم يدع شيئاً من لبس ، وأما الذين لم يكن كفرهم راسخاً فكان ذلك صلاحاً لهم لنه قادهم إلى الإسلام ، فقد تبين أن المنصور من نصره الله قليلاً كان أو كثيراً ، وأن القلة والكثرة والقوة والضعف بالنسبة إلى قدرته سواء ، فلا تغتروا بما الزمكم من النعم فإنه قادر على نزعها ، لا تستحق أحد عليه شيئاً ، ولا يقدر أحد على رد قضائه ، وفي ذلك إعلام بأنه لا يرتد بعد إيمانه إلا من كان عريقاً في الكفر ، وفيه أبلغ تهديد لأنه إذا عذب من أوجد الكفر وقتاً ما فكيف بمن رسخ فيه الكفر ، وفيه ابلغ تهديد لأنه إذا عذب من اوجد الكفر وقتاً ما فكيف بمن رسخ فيه ولما بين أن العذاب جزاء الكافرين ، بين أنه يتوب على من يريد منهم ، وهم كل من علم منه قابيلة للإيمان وإن كان شديداً وصف الكفران ، فقال عاطفاً على ) وعذب ( : ( ثم يتوب الله ) أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة ، ولما لم يكن أحد تستغرق توبته زمان البعد أدخل الجار فقال : ( من بعد ذلك ) أي العذاب العظيم ) على من يشاء ( اي فيهديه إلى الإسلام ويغفر له جميع ما سلف من الآثام ) والله ) أي الذي له صفات الكمال ) غفور رحيم ) أي محاء للخطايا عظيم افكرام لمن تاب ، وفي ذلك إشارة إلى أنه جعل هذه الوقعة ، لحكمته التي اقتضت ربط المسببات يأسبابها - سبباً لإسلام من حضرها من كفار قريشوغيرهم من المؤلفة بما قسم فيهم ( صلى الله عليه وسلم ) من غنائم هوزان وبما رأوا من عز الإسلام وعلوه ، فكان في ذلك ترغيب لهم بالمال ، وترهيب بسطوات القتال ، ولإسلام وفد هوزان بما حصل لهم من القهر وما شاهدوا للنبي صلى اله عليه وسلم من عظيم النصر ، ولإسلام غيرهم من العرب بسبب علم كل منهم بهذه الوقعة أنهم اضعف ناصراً وأقل عدداً ، كل ذلك رحمة منه سبحانه لهم ورفقاً لهم ، وقد كان جميع ذلك كما اشار إليه سبحانه ، فاسلم الطلقاءوحسن إسلامهم ، وقدم وفد هوزان وسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جبرهم برد ما أخذ لهم فقال لهم : إني استأنيت بكم ، فلما ابطأتم قسمت بين الناس فيئهم ، فاختاروا المال أو السبي فاختاروا السبي فشفع لهم عند الناس فاجابوه فرد إليهم ابناءهم ونساهم رحمة منه لهم ، وذل العربى لذلك فدخلوا في الدين أفواجاً ، وختم هذه الآية بالمغفرة والرحمة على ما هو النسب لسياق التوبة بذلك على انه ما عدل إلى ختم الأولى ب ( عليم حكيم ) إلا لما قررته من جعل أم في ) أم حسبتم معادلة للهمزة. والله أعلم(3/295)
صفحة رقم 296
التوبة : ( 28 - 29 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ( )
ولما تقدم في الأمر والنواهي وبيان الحكم المرغبة والمرهبة ما لم يبق لمن عنده أدنى تمسك بالدين شيئاً من الالتفات إلى المفسدين ، بين أن العلة في مدافعتهم وشديد مقاطعتهم أنهم نجس وأن الواضع - التي ظهرت فيها انوار عظمته وجلالته واشرقت عليها شموس نبوتهورسالته ، ولمعت فيها بروق كبره وجالت صوارم نهية وأمره - مواضع القدس ومواطن الأنس ، من دنا إليها من غير أهلها احترق بنارها ، وبهرت بصره أشعة أنوارها ، فقال مستخلصاً مما تقدم ومستنتجاً : ( يأيها الذين آمنوا ( اي أقروا بألسنتهم بالإيمان وهم ممن يستقبح الكذب ) إنما المشركون ) أي العريقون في الشرك بدليل استمرارهم عليه .
ولما كانوا متصفين به ، وكانوا لا يغتسلون - ولا يغسلون - ثيابهم من النجاسة ، بولغ في وصفهم بها بأن جعلواعينها فقال : ( نجس ) أي وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس عن النجس حساً ومعنى ، فيجب أن يقذروا وأن يبعدوا ويحذروا كما يفعل بالشيء النجس لما اشتملوا عليه من خلال الشر واتصفوا به من خصال السوء ، وأما أبدانهم فاتفق الفقهاء على طهارتها لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شرب من أوانيهم ولم ينه عن مؤاكلتهم ولا أمر بالغسل منها ولو كانت نجسة ما طهرها الإسلام. ولما تسبب عن ذلك إبعادهم ، قال : ( فلا تقربوا ) أي المشركون ، وهذا نهي للمسلمين عن تمكنهم من ذلك ، عبر عنه بنهيهم مبالغة فيه ) المسجد الحرام ) أي الذي أخرجوكم منه وأنتم أطهر الناس ، واستغرق الزمان فأسقط الجار ونبههم على حسن الزمان واتساع الخير فيه بالتعبير بالعام فقال : ( بعد عامهم ( وحقق الأمر وأزال اللبس بقوله : ( هذا ( وهو آخر سنة تسع سنة الوفود مرجعه ( صلى الله عليه وسلم ) من غزوة تبوك ، فعبربقربانه لا بإتيانه بعد التقدم إليهم بان لا يقبل من مشرك إلا الإسلام أو القتل إشارة غلى إخراج المشركين من جزيرة العرب وانها لا يجتمع بها دينان لأنها محل النبوة العربية وموطن الأسرار الإلهية ، فمن كان فيها - ولو في أقصاها - فقد قارب جميع ما فيها ، وتكون حينئذ بالنسبة إلى الحرم كأفنية الدور ورحاب المساجد ؛ وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج بعد رجوعه من تبوك ثم أردفه بعلي رضي الله عنه(3/296)
صفحة رقم 297
فأمره ان يؤذن ببراءة ، قال أبو هريرة : فاذن معنا عليّ يوم النحر في أهل منى ببراءة وان لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وهذه سنة قديمة فقد امر الله تعالى بني إسرائيل في غير موضع من التوارة بأن لا يبقوا في جميع بلاد بيت المقدس احداً من المشركين بخلاف غيرها من البلاد التي يفتحها الله عليهم ، منها ما قال المترجم في أواخر السفر الخامس : وإذا تقدمتم إلى قرية أو مدينة لتقابلوا اهلها ادعوهم إلى الصلح ، فإن قبلوه وفتحوا لكم من كان فيها من الرجال يكونوا عبيداً لكم يؤدوا إليكم الخراج ، وإن لم يقبلوا الصلح وحاربوكم فحاربوهم وضيقوا عليهم فإن الله ربكم يدفعها إليكم وتظفرون بمن فيها ، فإذا ظفرتم بمن فيها فاقتلوا الذكور كلهم بالسيف ، كذلك اصنعوا بجميع القرى البعيدة النائية التي ليست من قرى هذه الشعوب فأما قرى هذه الشعوب التي يعطيكم الله ميراثاً فلا تبقوا من أهلها احداً ولكن اقتلوهم قتلاً كالذي أمركم الله ربكم لئلا يعلموكم النجاسة التي يعلمونها لآلهتهم ، ومثل ذلك كثير فيها ، وقد مضى بعده فيما ذكرته عن التوارة .
والله الموفق ، وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة اقسام : احدها الحرم ، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال لظاهر هذه الآية ، الثاني الحجاز وما في حكمه وهو جزيرة العرب ، فيدخله الكافر بالإذن ولا يقيم أكثر من مقام السفر ثلاثة أيام لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وهي من اقصى عدن أبين ، وهي في الجنوب إلى أطراف الشام وهي في الشمال طولاً ، ومن جدة وهي أقصى الجزيرة غرباً على شاطئ بحر الهند إلى ريف العراق وهوفي المشرق عرضاً ، والثالث سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر الإقامة فيها بذمة وأمان ما شاء ، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم. ذكر ذلك البغوي ، قال ابن الفرات في تاريخه عند غزو بخت نصر لبني إسرائيل ولأرض العرب : إنما سميت بلاع العرب جزيرة لإحاطة البحار والأنهار بها ، فصارت مثل الجزيرة من جزائر البحر ، وذلك ان الفرات أقبل من بلاد الروم وظهر من ناحية قنسرين ثم انحط على الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر من نحاحية البصرة والأبلة وامتد البحر من ذلك الموضع مطيفاً ببلاد العرد ، فأتى منه عنق على كاظمة وتعدى إلى القطيف وهجر وعمان والشجر ، ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبهر وعدن ، واستطال ذلك العنق فطعن في تهامة اليمن ومضى إلى ساحل جدة ، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلاً معارضاً(3/297)
صفحة رقم 298
للبحر معه حتى وقع في بحر مصر والشام ، ثم اقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها ، واتى على بيروت ونفد إلى سواحل حمص وقنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطاًعلى أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق ، واقبل جبل السراة من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف الشام فمسته العرب حجازاً لأنه حجز بين الغور ونجد فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه الغور وهو تهامة ، وما دونه في شرقيه نجداً .
انتهى .
ولما كان ماوالاها من ارض الشام ونحوها كله انهاراً أو جداول ، جعل كأنه بحر لأنه في حكم شاطئه ، ولما كان قوامهم بالمتاجر ، وكان قوام المتاجر وانعدام الرباح المفضي إلى الحاجة وكان قد أمر بنفيهم رعاية لأمر الدين ، وكان سبحانه عالماً بأن ذلك يشق على النفوس لما ذكر من العلة ولا سيما وقد قال بعضهم لما أقرأ علي رضي الله عنه آيات البراءة على اهل الموسم : يأهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة بانقطاع السبيل وبُعد الحمولات ، وعد سبحانه - وهو الواسع العليم - بما يغني عن ذلك ، لأن من ترك الدنيا لأجل الدين اوصله سبحانه إلى مطلوبه من الدنيا مع ما سعد به من أمر الدين ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ) فقال : ( وإن خفتم ( اي بسبب منعهم به قربان المواطن الإلهية ) علية ) أي فقراًوحاجة ) فسوف يغنيكم الله ) أي هو ذو الجلال والإكرام ) من فضله ( وهو ذو الفضل والطول والقوة والحول ولما كان سبحانه الملك الغني القادر القوي الذي لا يجب لحد عليه شيء وتجب طاعته على كل شيء ، نبه على ذلك بقوله : ( إن شاء ( ولما كان ذلك عندهم مستعبداً ، علل تقريباً بقوله : ( إن الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) عليم ( اي بوجوه المصالح ) حكيم ( اي في تدبير استجلابها وتقدير إدرارها ولقد صدق سبحانه ومن اصدق منه قيلاً فإنه اغناهم - بالمغانم التي انتثلها بأيديهم بعد نحو ثلاث سنين من إنزالها من كنوز كسرى وقيصر - غنى لم يطرق أوهامهم قط ، ثم جعل ذلك سبباً لاختلاط بعض الطوائف من جميع الناس ببعض لصيرورتهم إخواناً في الدين الذي كان سبباً لأن يجتمع في سوق منى وغيره في ايام الحج كل عام من المتاجر مع الغرب والعجم ما لا يكون مثله في بقعة من الأرض ، والعلية : الفاقة والافتقار ، ومادتها بهذا الترتيب تدور على الحاجة وانسداد وجوه الحلية وقد تقدم أول النساء انها - لا بقيد ترتيب - تدور تقاليبها الثمانية على الارتفاع ويلزمه الزيادة زالميل ، ومنه تأتي الحاجة ، وبرهن على ذلك في جميع الجزيئات .(3/298)
صفحة رقم 299
ولما كان ذلك موضع تعجب يكون سبباً لأن يقال : من اين يكون ذلك الغنى ؟ أجاب بقوله : ( قاتلوا ) أي أهل الأموال والغنى ) الذين لا يؤمنون بالله ( اي الذي له جميع صفات الكمال إيماناً هو على ما أخبرت به عنه رسله ، ولو آمنوا هذا الإيمان ما كذبوا رسولاً من الرسل ، وايضاً فالنصارى مثلثة وبعض اليهود مثنية ) ولا باليوم الآخر ( الملك الأعلى الذي له الأمر كله ) ورسوله ) أي من الشرك واكل الأموال بالباطل وغير ذلك وتبديل التوراة والإنجيل ) ولا يدينون ) أي يفعلون ويقيمون ، واشتق من الدين فعلاً ثم اضافة إلى صفته إغراقاً في اتخاذه بذلك الوصف فقال : ( الدين الحق ( اي الذي اخذت عليهم رسلهم العهود والمواثيق باتباعه ، ثم بين الموصل مع صلته فقال : ( من الذين ( ودل على استهانته سبحانه بهم وبراءته منهم بأن بني للمفعول قوله : ( اوتوا الكتاب ) أي من اليهود والنصاري ومن ألحق بهم ) حتى يعطوا الجزية ) أي هي ما قرر عليهم في نظر سكناهم في بلاد الإسلام آمنين ، فعله من جزى يجزي. إذا قضى ما عليه ) عن يد ) أي قاهرة إن كانت يد الآخذ أو مقهورة إن كانت يد المعطي ، من قولهم : فلان أعطى بيده ) وهم صاغرين ( ففي ذلك غنى لا يشبه ما كنتم فيه من قتال بعضكم لبعض لتغنم ما في يده من ذلك المال الحقير ولا ما كنتم تعدونه غنى من قتال بعضكم لا يبلغ أكبرها واصغرها ما أرشدناكم إليه مع ما في ذلك العز الممكن من الإصلاح والطاعة وسترون ، وعبر باليد عن السطوة التي ينشأ عنها الذل والقهر لأنها الآلة الباطشة ، فالمعنى عن يد قاهرة لهم ، اي عن قهر منكم لهم وسطوة بأفعالهم التي أصغرتهم عظمتها وألتهم شدتها ، قال أبو عبيدة : يقال لكل من اعطى شيئاً كرهاً عن غير طيب نفس ، اعطاه عن يد .
انتهى. وعبرب ( عن ) التي هي للمجاوزة لأن الإعطاء لا يكون إلا بعد البطش المذل ، هذا إذا اريد باليد يد الآخد ، ويمكن أن يراد بها يد المعطي ، وتكون كناية عن النفس لأن مقصودالجزية المال ، واليد أعظم أسبابه ، فالمعنى حتى يعطي كل واحد منهم الجزية عن نفسه .
التوبة : ( 30 - 33 ) وقالت اليهود عزير. .. . .
) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ(3/299)
صفحة رقم 300
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) 73
( ) 71
ولما كان المراد التعمييم أتى بها نكرة لتفيد ذلك ، ويؤيد هذا ما نقل العلماء عن الوارة لفتوح البلاد منهم الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي ، قال في كتابه الاكتفاء في وقعة جلولاء من بلاد فارس : قالوا : قال بعضهم : فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدلالة مع الجزي عن ايديهم على قدر طاقتهم ، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة ، وإنما أخذوا الجزية من المجوس لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذها من مجوس هجر وأخذها منهم لأنهم أهل كتاب في الأصل ، قال الشافعي في بابالمجمل والمفسر من كتاب اختلاف الحيث : والمجوس اهل كتاب غير التوراة والإنجيل وقد نسوا كتابهم وبدلوه ، فأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في اخذ الجزية منهم ؛ أخبرنا سفيان عن أبي سعد بن مرزبان عن نصر بن عاصم قال : قال فروة بن نوفل الأشجعي : علام تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب ؟ فقالم إليه المستورد فأخذ بلببه فقال : ياعو الله تطعن على أبي بكر وعلى عمر وعلي أمير المؤمنين - يعني علياً - البدا البدا فجلسا في ظل القصر فقال علي : أنا أعلم الناس بالمجوس ، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه ، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو اخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته ، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع عليهم فدعا أهل مملكته فقال : تعلمون ديناً خيراً من دين آدم وقد كان آدم ينكح بينه من بناته ، فأنا على دين آدم ، فبايعوه قاتلوا الذين خالفوا حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم ، وهم أهل كتاب وقد اخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما منهم الجزيةز .
ولما امر بقتالهم ووصفهم بما هو السبب الباعث على ذلك ، عطف عليه بعض أقوالهم المبيحة لقتالهم الموجبة لنكالهم فقال : ( وقالت ) أي قاتلوا أهل الكتاب لأنهم كفروا بما وصفناهم به وقالت ) اليهود ( منهم كذباً ويهتاناً ) عزير ( تنوينُ عاصم والكسائي له موضحٌ لكونه مبتدأ ، والباقون منعوه نظراً إلى عجمته مع العلمية وليس فيه تصغير ، والخبر في القراءة قولهم : ( ابن الله ) أي الذي(3/300)
صفحة رقم 301
له العلو المطلق فليس كمثله شيء ، وعزير هذا هو المسمى عندهم في سفر الأنبياء ملاخيا ، ويسمى أيضاً العازر وهو الأصل والعزير تعريبه ، وأما الذي جمع لهم هذه التوراة التي بين ايديهم فقال السمؤال بن يحيى المغربي الذي كان يهودياً فأسلم : إنه شخص آخر اسمه عزرا ، وإنه ليس بنبي. ذكر ذلك في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود - وهو كتاب حسن جداً ، وكان السموأل هذا مع تمكنه من المعرفة بشريعة اليهود واخبارهم متمكناً من علوم الهندسة وغيرها ، وكان فصيحاً بليغاً وكان حسن الإسلام يضرب المثل بعقله ، ورأيت اليهود في غاية النكاية منه ، وأراني بعضهم رسالته إليه لبعض أحبارهم يسفه فيها رايه في إسلامه ويشبه عليه بأشياء خطابيه وشعرية ، فأجابه بجواب بديع افتتحه بقوله تعالى :
77 ( ) سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليه ( ) 7
[ البقرة : 142 ] ثم رد كلامه احسن رد ثم قال له ما حاصله : دع عنك مثل هذه الخرفات ، وأجب عن الأمور التي ألزمتكم بها في كتاب غاية المقصود ، فما أحار جواباً ، ثم القائل لهذا القول منهم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أربعة ، وقيل : قائله واحد وأسند إلى الكل كما يقال : فلان يركب الخيول وقد لا يكون له إلا فرس واحد ، وهو كقوله تعالى
77 ( ) الذين قال لهم الناس ( ) 7
[ آل عمران : 173 ] وقيل : كان فاشياً فيهم فلما عابهم الله به تركوه وهم الآن ينكرونه ، والله تعالى أصدق حديثاً ) وقالت النصارى ( اي منهم إفكاً وعدواناً ) المسيح ( وأخبروا عنه بقولهم : ( ابن الله ) أي مع أن له الغنى المطلق والكمال الأعظم ، والمسيح هذا هو ابن الله مريم بنت عمران ؛ ثم استأنف قوله مترجماً قولي فريقيهم : ( ذلك ) أي القول البعيد من وهو مع ذلك قول لا تجاوز حقيقته الأفواه إلى العقول لأنه لا يتصوره عاقل ، بل هو قول مهمل كأصوات الحيوانات العجم لا يتحقق له المعنى ؛ قال : وعناه الحال ان قائله لا عقل له ، ليس له معنى وراء ذلك ، ولبعده عن أن يكون مقصوداً لعاقل عبر فيه بالأفواه التي هي ابعد من الألسنة إلى القلوب ولما كان كأنه قيل : فما لهم إذا كان هذا حالهم قالوه ؟ قال ما حاصلة : إنهم قوم مطبوعات على التشبه بمن يفعل المفاسد كما أنهم تشبهوا بعبدهة الأوثان ، فعبدوها غير مرة والأنبياء بين أظهرهم يدعونهم إلى الله وكتابهم ينادي بمثل ذلك وينذرهم اشد الإنذار ) يضاهئون ) أي حال كونهم يشابهون بقولهم هذا ) قول الذين كفروا ) أي بمثله وهو العرب حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، كما أنهم لما رأوا الذين يعكفون على أصنام لهم قالوا : ( يا موسى اجعل لنا غلهاً كما لهم آلهة ((3/301)
صفحة رقم 302
ولما كان لا يمتنع أن يكون الذين شابهوهم إنما كانوا بعدهم أو في زمانهم من قبل أن يبين فساد قولهم ، نفى ذلك بقوله مشيراً بحرف الجر إلى أن كفرهم لم يستغرق زمن القبل : ( من قبل ) أي من قبل ان يحدث منهم هذا القول ، وهذا دليل على أن العرب غيروا دين إسماعيل عليه السلام ، اجترؤوا على مثل هذا القول قبل إيقاع بخت نصر باليهود أو في حدوده ، وليس ذلك ببعيد مع طول الزمان وإغواء الشيطان ، فقد كان بين زمان إبراهيم وعزير عليهما السلام نحو ألف وخمسمائة سنة - هذا على ما ذكره بعض علماء أهل الكتاب عن كتبهم وأيده ما ذكره المسعودي من مروج الذهب في تاريخ ملوك بابل من نمرود إلى بخت نصر : وذكر بعض المؤرخين ان بين الزمنين زيادة على ألفي سنة علىأنهم قد نقلوا ما هو صريح في كفر العرب إلى أرض العراق الذين لا أغلاق لبيوتهم ويطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم وأعلمه بكفرهم بي واتخاذهم الآلهة دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي ، وعن غير ابن الكلبي أنه نظم ما بين أبلة والايلة خيلاً ورجالاً ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح قدروا عليه ، وأوصى الله برخيا وإرميا بمعد بن عدنان الذي من ولده نمحمد المختوم به النبوة ، وكان ذكر مشابهتهم لأهل الشرك تحقيراً لشأنهم تجرئة على الإقدام عليهم إذ جعلهم مشابهين لمن دربوا قتالهم وضربوا عليهم فاذلوهم بعد ان كانوا في عزة لا يخشون زوالها ، وعزائم شديدة لا يخافون انحلالها ، كل ذلك بطاعة الله في قتالهم وطلب مرضاته بنزالهم لأنه عليهم ، ومن كان عليه لم يفلح ، وإلى مثل ذلك إشارة بقوله في حق هؤلاء : ( قاتلهم الله ) أي أهلكهم الملك الأعظم ، لأن من قاتله لم ينج منه ، وقيل : لعنهم ؛ روي عن ابن عباس قال : وكل شيء في القرآن مثله فهو لعن ) أنى يؤفكون ) أي كيف ومن أين يصرفون عن الحق مع قيام الأدلة القاطعة عليه ، ثم زادهم جرأة عليهم بالإشارة إلى ضعف مستندهم حيث كان مخلوقاً مثلهم بقوله : ( اتخذوا ) أي كلفوا أنفسهم العدول عن الله القادر على كل شيء وأخذوا ) أحبارهم ) أي من علماء اليهود ، والحبر في الأصل العالم من أيّ طائفة كان ) ورهبانهم ( اي من زهاد النصارى ، واراهب في الأصل من تمكنتة الرهبة في قلبه فظهرت آثارها على وجهه ولباسه ، فاختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع ) أرباباً ( اي آلهة لكونهم يفعلون ما يختص به الرب من تحريم ما حرموا وتحليل ما حللوا ؛ وأشار إلى سفول أمرهم بقوله : ( من دون الله ) أي الحائز لجميع صفات الجلال ، فكانوا يعولون(3/302)
صفحة رقم 303
عليهم ويسندون أمرهم إليهم حتى أن كانوا ليتبعونهم في الحلال والحرام ) المسيح ) أي المبارك الذي هو أهل لأن المسيح بدهن القدي وأن يمسح غيره ) ابن مريم ( اي اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابناً فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية ، ومع تصريحه لهم بأنه عبد الله ورسوله ، فتطابق العقل والنقل على أنه ليس بإله .
ولما قبح عليهم ما اختاروه لأنفسهم ، قبحه عليهم من جهة كخالفة لأمره تعالى فقال : ( وما ) أي فعلوا ذلك والحال انهم ما ) أمروا ) أي من كل من له الأمر من أدلة العقل والنقل ) إلا ليعبدوا ( اي ليطيعوا على وجه التعبد ) إلهاً واحداً ) أي لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة ، وذلك معنى وصفة بأنه ) عما يشركون ( في كونه معبوداً أو مشروعاً ؛ ذكر أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره وغيره عن عدي ابن حاتم رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى اله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : اقطعه ، فقطعته ثم اتيته وهويقرأ سورة براءة ) اتخذوا احبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله المسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( قلت : يا رسول إنا لم نكن نعبدهم قال : أجل .
أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله فتستحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه ؟ قلت : بلى ، قال : تلك عبادتهم .
ولما هي سبحانه أمرهم من جهة استنادهم ، زاد توهية من جهة مرادهم بالإعلام بأنهم بقتالهم لأهل الطاعة إنما يقاتلون الله وأنه لا ينفذ غرضهم بل يريد غير ما يريدون ، ومن المقرر أنه لا يكون إلا ما يريد ، فقال مستأنفاً أو معللاً لما مضى من أقوالهم وأفعالهم : ( يريدون أن يطفئوا ( اي بما مضى ذكره من أحوالهم ) نور الله ( اي دين الملك الأعلى الذي له الإحاطة العظمى ، وشرعه الذي لعباده على ألسنة الأنبياء(3/303)
صفحة رقم 304
والرسل ، كل ذلك ليتمكنوا من العمل بالأغراض والأهوية ، فأن اتباع الرسل حاسم للشهوات ، وهم أبعد الناس عن ذلك ولما حقر شانهم ، هدمه بالكلية بقوله : ( بأفواههم ( اي بقول خال عن شيء يثبته أو يمضيه وينفذه ، وفي تسمية دينه نوراً ومعاندتهم إطفاء بالأفواه تمثيل لحالهم بحال من يريد إطفاء نور الشمس بنفخه ) ويأبى ) أي والحال أنه يفعل فعل الأبيّ وهو أنه لا يرضي ) الله ) أي الذي له جميع العظمة والعز ونفود الكلمة ) إلا أن يتم نوره ( اي لا يقتصر على مجرد إشراقه ، بل وعد - وقوله الحق - بأنه لا بد من إكماله وإطفائه لكل ما عداه وإحراقه .
ولما في ( يابى ) من معنى الجحد والاستمرار ) ولو كره الكافرون ) أي العريقون في الكفر فكيف بغيرهم .
ولما اخبر انه معل لقوله ومكمل ، ومبطل لقولهم مسفل ، علل ذلك بما حاصله أنه شأن الملوك ، وهو أنهم إذا برز لهم أمر شيء لم يرضوا أن يرده أحد فإن ذلك روح الملك الذي لا يجازي الطاعن فيه إلا بالهلك فقال : ( هو ) أي وحده ) الذي ارسل رسوله ) أي محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالهدى ) أي لبيان الشافي بالمعجزات القولية والفعلية ) ودين الحق ) أي الكامل في بيانه وثباته كمالاً ظاهراً لكل عاقل ؛ ثم زادهم جرأة على العدو بقوله معللاً لإرساله : ( ليظهره ) أي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والدين - أدام الله ظهوره ) على الدين كله ( وساق ذلك كله الجواب لمن كأنه قال : كيف نقاتلهم وهم في الكثرة والقوة على ما لا يخفي ؟ فقال : لم لا تقاتلونهم وأنتم لا تعتمدون على أحد غير من كل شيء تحت قهره ، وهم إنما بعتمدون على مخاليق مثلكم ، كيف لا تجسرون عليهم وهم في قتالكم إنما لينصركم ويظهر آياته ؟ ولعل الختم بقوله : ( ولو كره المشركون ( أبلغ لأن الكفر قد لا يكون فيه عناد ، والشرك مبناه على العناد باتخاذ الأنداد ، اي لا بد من نصركم خالف من خالف مجرد مخالفة أو ضم إلى ذلك العناد بالاستعانة بمن أراد .
التوبة : ( 34 - 36 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ(3/304)
صفحة رقم 305
السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) 73
( ) 71
ولما حقر أمرهم بتقسيم اعتمادهم على رؤسائهم ، وحالهم معروف في أنه لا نفع عندهم ولا ضر ، وأعلى أمر أهل الله باجتماعهم عليه وهو القادر على كل شيء ، وكان الإقبال على الدنيا أعظم أمارة على الخذلان ولو أنه بحق فكيف إذا بالباطل أقبل سبحانه وعز شأنه على أهل وده مستعطفاً متلطفاً منادياً باسم الإيمان الذي بنى أمره في اول هذا الكتاب على الإنفاق لا على التحصيل ولو كان بحق ، فكيف إذا كان بباطل ، ويؤتون الزكاة وممارزقناهم ينفقون ، منبهاً على سفه من ترك من لا يسأله على بذل الهدى والدعوة إلى دين الحق أجراً وهو سفير محض لا ينطق عن الهوى ، ولم يعتقده رسولاً واتخذ مربوباً مثله وهو يأخذ ماله بالباطل ربواً ، وذلك من لا يسأله على بذل لمطلق تعظيمهم فضلاً عن الرتبة التي أنزلوهم بها وأهلوهم لها مع الترفع عليهم لقصد أكل أموالهم بالباطل فقال : ( يأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بإيمان داعيهم من التكذيب ومما يؤول إليه ) إن كثيراً من الأحبار ( اي من علماء اليهود ) والرهبان ) أي من زهاد النصارى ) ليأكلون ) أي يتناولون ، ولكنه عبر به لأنه معظم المراد من المال ، وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأنهم يفعلون ما ينافي مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه ) أموال الناس بالباطل ) أي بأخذها بالرشى وأنواع التصيد بإظهار الزهد والمبالغة في التدين المستجلب لها بالنذور ونحوها فكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله من أتاهم بها بالإقبال بقلوب عبادة إليهم ولما أخبر عن إقبالهم على الدنيا ، أتبعه الإخبار عن إعراضهم عن الآخرة فقال : ( يصدون ) أي يحتالون في صرف من يأتيهم بتلك الأموال وغيرهم ) عن سبيل الله ( ا ؟ ي دين الملك الذي له الأمر كله بإبعادهم عنه بإخفاء الآيات الدالة عليه عنهم خوفاً على انقطاع دنياهم بزوال رئاستهم لو أقبل أولئك على الحق ولما كان أكثرهم يكنزون تلك الأموال ، شرع سبحانه على مطلق الكنز ، ففهم من باب الأولى الصد الذي هو سبب الجمع الذي هو سبب الكنز فقال : ( والذين ( اي يفعلون ذلك والحال أنهم يعلمون أن الذين ) يكنزون ) أي يجمعون تحت الأرض أو فوقها من قولهم للمجتمع اللحم : مكتنز ) الذهب والفضة ) أي منهم ومن غيرهم من غير تزكية .
ولما كان من المعلوم أنهما أجل ما الناس ، وكان الكنز دالاً على المكاثرة(3/305)
صفحة رقم 306
فيهما ، أعاد الضمير عليهما بما يدل على الأنواع الكثيرة فقال : ( ولا ينفقونها ) أي ينفقون ما وجب عليهم من هذه الأموال التي جمعوها من هذين النوعين مجتمعين أو منفردين ، ولو ثنى لأوهم أن اجتماعها شرط للترهيب ، وإنما أعاد الضمير عليها من غير ذكر ( من ) - وهي مرادة - لمزيد الترغيب في الإنفاق والترهيب من تركه ، ويجوز أن يعود الضمير إلى الفضة لأن الذم على كنزها ، والحاجة إليها لكثرتها أقل ، فالذم على كنز الذهب من باب الأولى لأنه أعلى منها وأعز بخلاف الذم على كنز الذهب ؛ وقال الحرالي في آل عمران : فأوقع الإنفاق عليهما ولم يخصه من حيث لم يكن ، ولا ينفقون منها كما قال في المواشي [ خذ من أموالهم ] لأن هذين الجوهرين خواتم ينال بها أهل الدنيا منافعهم وقد صرف عنهم الانتفاع بهما فلم يكن لوجودهما فائدة إلا بإنفاقهما لأنهما صنما هذه الأمة ، فكان كسرهما بإذهابهما - انتهى .
) في سبيل الله ) أي الوجه الذي أمر الملك الأعلى بإنفاقها فيه ) فبشرهم ) أي نقول فيهم بسبب ذلك تهكماً بهم : بشرهم ) بعذاب أليم ( عوضاً عما أرادوا من السرو بإنجاح المقاصد ولما كان السياق دالاًّ دلالة واضحة على أن هذا العذاب يحصل لهم ويقع بهم ، فنصب بذلك قوله : ( يوم يحمى ) أي يحصل الإحماء وهو الإيقاد الشديد ) عليها ) أي الأموال التي جمعوها ) في نار جهنم ) أي التي لا يقاربها ناركم ، وتلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى بذلك الفقراء وغيرهم من أهل الله لا سيما من منعه ما يجب له من النفقة ) فتكوى بها ) أي بهذه الأموال ) جباههم ( التي هي أشرف أعضائهم لأنها مجمع الوجوه والرؤوس وموضع الجاه الذي يجمع المال لأجله لتعبيسهم بها في وجوه الفقراء ) وجنوبهم ( التي يحوونه لملئها بالمآكل المشتهاة والمشارب المستلذة ولازورارهم بها الفقراء ) وظهورهم ( التي يحوونه لتقويتها وتحميلها بالملابس وتجليتها ولتوليتهم إياها إذا اجتمعوا مع الفقراء في مكان .
ثم يقال لهم : ( هذا ما كنزتم ( وأشار إلى الحامل على الجمع المنافي للعقل بقوله : ( لأنفسكم ) أي لتنافسوا به وتلتذوا فلم تنفقوه فيما أمر الله ) فذوقوا ما ) أي وبال وعذاب ما ) كنتم تكنزون ) أي تجددون جمعه على سبيل الاستمرار حريصين عليه ، وأشار بفعل الكون إلى أنهم مجبولون على بالربذة قلت : ما أنزلك بهذه الأرض قال : كنا بالشام فقرأت ) والذين يكنزون الذهب والفضة ( - الآية ، قال معاوية : ماهذه فينا ، ما هذه إلا في أهل الكتاب قلت : إنها لفينا وفيهم ؛ وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أه قال : هذا قبل ان تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال ، يعني فما أعطى صاحبه ما وجب عليه فيه فليس بكنز(3/306)
صفحة رقم 307
ولما تقدم كثير مما ينبني عى التاريخ : الحج في غير موضع والأشهر وإتمام عهد من له مدة إلى مدته والزكاة والجزية ، وختم ذلك بالكنز الذي لا يطلق شرعاً إلا على ما لم تؤد زكاته ، وكان مشركو العرب - الذين تقدم الأمر بالبراءة منهم والتأذين بهذه الآيات يوم الحج الأكبر فيهم - قد أحدثوا في الأشهر - بالنسيء الذي أمروا أن ينادوا في الحج بإبطاله - ما غير السنين عن موضوعها الذي وضعها الله عليه ، فضاهوا به فعل أهل الكتاببالتدين بتحليل أكابرهم وتحريمهم كما ضاهى أولئك قول أهل الشرك في النبوة والأبوة ، قال تعالى : ( إن عدة الشهور ( اي منتهى عدد الشهور السنة ) عند الله ) أي كلام الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وحكمه الذي هو مجمع الهدى ، فهو الحقيق بأن يكتب ، وليست الشهور الشهور ثلاثة عشر ولا أكثر كما كان يفعل من أمرتكم بالبراءة منهم كائنين منة كانوا في النسيء ) يوم ) أي كان ذلك وثبت يوم ) خلق السموات والأرض ) أي اللذين نشأ عنهما الزمان .
والمعنى أن الحكم بذلك كان قبل ان يخلق الزمان ) منها ) أي الشهور ) أربعة حرم ) أي بأعيانها لا بمجرد العدد ) ذلك ) أي الأمر العظيم والحكم العالي الرتبة في الإتقان خاصة ) الدين القيم ( اي الذيلا عوج فيه ولا مدخل للعباد ، وإنما هو بتقدير الله تعالى للقمر ؛ روى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال - يعني في حجة الوادع : ( إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاث تواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان ) .
ولما بين الأمر سبب عنه قوله : ( فلا تظلموا فيهن ( اي الأشهر الحرم ) أنفسكم ) أي بسبب إنساء بعضها وتحريم غيره مكانة لتوافقوا العدد - لا العين - اللازم عنه إخلال كل منها بإيقاع الظلم فيه وتحريم كل من غيرهل ، قال قتادة : العمل الصالح واالفاسد فيها اعظم منه في غيرها وإن كان ذلك في نفسه عظيماً فإن الله تعالىلعظم من أمره ما شاء ؛ وقال أبو حيان ما حاصله : إن العرب تعيد الضمير على جمع الكثرة كالواحدة المؤنثة فلذا قال : ( منها أربعة ) أي من الشهور ، وعلى جمع القلة لما لا يعقل بنون جمع المؤنث فلذا قال ) فلا تظلموا فيهن ) أي في الأربعة ولما كان إنساؤهم هو لتحل لهم المقاتلة على زعمهم قال : ( وقاتلوا(3/307)
صفحة رقم 308
المشركين كافة ( اي كلكم في ذلك سواء ، في الائتلاف واجتماع الكلمة ) كما يقاتلونكم ) أي كلهم في ذلك سواء وذلك الحكم في جميع السنة ، لا أنهاكم عن قتالهم في شهر منها ، فأنتم لا تحتاجون إلى تغيير حكمي فيها لقتال ولا غيره إن اتقيتم الله ، فلا تخافوهم وإن زادت جموعهم وتضاعفت قواهم لأن الله يكون معكم ) واعلموا ان الله ) أي الذي له جميع العظمة معكم ، هكذا كان الأصل ولكنه اظهر الوصف تعليقاً للحكم به وتعميماً فقال : ( مع المتقين ( جميعهم ، وهم الذين يثبتون تقواهم على ما شرعه لهم ، لا على النسيء ونحوه ، ومن كان الله معه نصر لا محالة .
التوبة : ( 37 ) إنما النسيء زيادة. .. . .
) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ( )
ولما فهم من هذا إبطال النسيء لنه فعل أهل الجاهلية فلا تقوى فيه ، كان كأنه قيل : أفما في النسيء تقوى فإن سببه إنما هو الخوف من انتهاك حرمة الله بالقتال في الشهر الذي جرمه ؟ وذلك أنهم كانوا أصحاب غارات وحروب ، وكانوا يحترمون الأشهر الحرم عن القتال حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه لا مانع منه لم يعرض له ، فكان إذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم تركه ، وكان يشق عليهم ترك ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، فجعلوا النسيء لذلك ، فقيل تصريحاً بما أفهمه ما مضى : ليس نسيئاً - إذا أخره ، أو هو اسم مفعول ، اي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها ) زيادة في الكفر ( اي لأنه على خلاف ما شرعه الله ، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه ولما بين ما في النسيء من القباحة ، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير خارجين عن دائرة التقوى بالكلية ، فإذا هم بتحليله قد صاروا خارجين عن دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباًُ ، فكان يقول : إني لا أجاب ولا أعاب ، وإنه لا مراد لقضائي ، وإني حللت المحرم وحرمت صفراً - إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله ؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله : ( يضل به ) أي بهذا التأخير الذي هو النسيء ) الذين كفروا ( اي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله - هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص - بالبناء للمفعول : يضلهم مضل من قبل الله ، وعلى قراءة يعقوب - بالضم : يضلهم الله ؛ ثم بين ضلالهم بقوله : ( يحلونه ) أي ذلك الشهر ، وعبر(3/308)
صفحة رقم 309
عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان ، بل بمجرد التشهي فقال : ( عاماً ويحرمونه عاماً ( هكذا دائماً كلما أرادوا. وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير إجلال لسنة من السنين ، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين ) ليواطئوا ) أي يوافقوا ) عدة ما حرم الله ) أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم اربعة ) فيحلوا ) أي فيتسبب عن هذا الفعل ان يحلوا ) ما حرم الله ) أي الملك الأعظم منها كلها ، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة غلا انتهكوها ، فما ابعده من ضلال ولما انهتكت بهذا البيان قباحة فعلهم ، كان كأنه قيل : إن هذا لعجب ما حملهم على ذلك ؟ فقيل : ( زين ) أي زين مزين ، وقرئ شاذاً الفعل إلى الله ) لهم سوء اعمالهم ( علم من طبعهم على الكفر فلم يهدهم ) والله ) أي الذي له صفات الكمال ) لا يهدي ( اي يخلق الهداية في القلوب ) القوم الكافرين ) أي الذي طبعهم على الكفر فهم عريقون فيه لا ينفكون عنه ؛ والنسيء - قال في القاموس - : الاسم من نسا الشيء بمعنى زجره وساقه وأخره ، قال : وشهر كانت تؤخر العرب في الجاهلية فنهى الله عزوجل عنه ؛ وقال ابن الأثير في النهاية ؛ والنسيء فعول بمعنى مفعول ، وقال ابن فارس في المجمل : والنسيء في كتاب الله التأخير ، وكانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول : أنا الذي لا يرد لي قضاء فيقولون : أنسئنا شهراً ، اي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر - انتهى .
ومادة نسأ تدور على التغريب ، وسبب فعلهم هذا انهم كانوا ربما أرادوا قتالاً في شهر حرام فيحلونه ، ويحرمون مكانه شهراً من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ؛ قال ابن فارس : وذلك أنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها ، لأن معاشهم في الغارة فيحل لهم الكناني المحرم - انتهى. وكان النسأة من بني فقيم من كنانة ، وكان أول من فعل ذلك منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد بن فقيم ، وآخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن امية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. نسأ اربعين سنة ، كانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فحرم الأشهر الحرم الأربعة ، فإذا ارادوا ان يحل منها شيئاً أحل المحرم فأحلوه ، وحرم مكانه صفراً فحرموه ، ليواطئوا عدة الأربعة الشهر الحرم ، فغذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال : اللهم إني قد أحللت لهم أحد الصفرين الصفر الأول ، ونسأت الاخر للعام المقبل - ذكر ذلك اهل السير ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ان أول من نسأ عمرو بن لحي .(3/309)
صفحة رقم 310
وتحقيق معنى ما كانت العرب تفعله واختلاف اسماء الشهور به حتى يوجب دوران السنين فلا تصادف أسماء الشهور مسمياتها إلا الحين بعد الحين عسر قل من اتى فيه بما يتضح به قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حجة الواداع كما مضى ( إن الزمان قد استدار كهيئته بوم خلق الله السماوات والأرض ) وها أنا أذكر فيه ما لا يبقى بعده لبس إن شاء الله تعالى ، فمعنى قوله : ونسأت الآخر للعام المقبل ، أنه إذا أحل المحرم وسماه صفراً ابتدأ السنة بعده بالمحرم ثم صفر إلى آخرها فيصير بين صفر وذي الحجة الذي وقع النسيء فيه شهران ، وقد كان ينبغي ان يكون بينهما شهر واحد ، فاخر هذا الذي ينبغي إلى العام المقبل ، فالمعنى : وأخرت الصفرالآخر عن محله ، ويمكن أن يتنزل على هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام ، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم ، فيحرمون ويستجلون المحرم ، وهذا هو النسيء الذي قال الله
77 ( ) إنما النسيء ( ) 7
[ براءة : 37 ] الاية ، وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسؤون الشهور على العرب ، والنسيء هو التاخير ، فكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرمون صفراً وهم يريدون بذلك المحرم ويقولون : هو أحد الصفرين ، وقد تأول بعض الناس قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لاصفر ) على هذا ، ثم يحتاجون ايضاً إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع ، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك ، فكذلك يتدافع شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها ، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به ، وذلكبعد دهر طويل ، فذلك قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الزمان قد استدار كهيئته يمو خلق الله السماوات والأرض ) يقول : رجعت الأشهر الحرم إلى موضعها وبطل النسيء ، وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاماً ، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه ، قال أبو عبيد : الأول أحب إليّ لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الزمان قد استدار ) وليس في التفسير الأخير استدارة ، (3/310)
صفحة رقم 311
وعلى هذا التفسير الذي فسرناه قد يكون قوله ) يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ( مصدقاً له لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفراً ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضاً أحلوه وحرموا الذي بعده ، فهذا تاويل قوله في التفسير ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً. وقال أبو حيان في النهر ما حاصله : كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات ، فيشق عليهم توالي الأشهر الحرم ، وكان بنو فقيم أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم ، فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه علىذلك ابنه عباد ثم خلفه ابنه قلع ثم خلفه ابنه أمية ثم خلفه ابنه عوف ثم ابنه جناده بن عوف وعليه قام الإسلام ، كانوا إذا فرغوا من حجهم جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا : انسئنا شهراً ، فيحل المحرم ، ثم يلزم حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ويسمون ذلك الصفر المحرم ويسمون ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول - وهكذا سائر الشهور ، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ؛ وقال البغوي : قال مجاهد : كانوا يحجون في كل شهر عامين وكذلك في الشهور ، فوافقت حجة أبي بكر السنة الثانية من ذي القعدة ، ثم حج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في العام المقبل حجة الوادع ، فوافق حجه اشهر الحج المشروع وهو ذو الحجة ، وقال عبد الرزاق في تفسيره : اخبرنا معمرعن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ) إنما النسيء زيادة في الكفر ( قال : فرض الله الحج في ذي الحجة ، فكان المشركون يسمون الشهر : ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة ، ثم يحجون فيه مرة أخرى ، ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ، فيسمونه - أحسبه قال - المحرم صفر ، ثم يسمون رجب بجمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ورمضان شوالاً .
ثم يسمون ذا القعدة شوالاً .
ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه ، واسمه عندهم ذو الحجة ، ثم عادوا كمثل هذه الصفة فكانوا يحجون عامين في كل شهر حتى وافق حجة أبي بكر الاخر من العامبين في ذي القعدة ، ثم حج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حجته التي حج ، فوافق ذلك ذا الحجة ، فلذلك يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خطبيته ( إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض ) وقال ابن إسحاق في السيرة ؛ سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ؛ كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً ، وإنما كانوا يوافقون ذا الحجة كل اثنتي عشر سنة مرة ، (3/311)
صفحة رقم 312
فوفق الله عز وجل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في حجته التي حج ذا الحجة ، فحج فيها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض ) فقلت لابن أبي نجيح : فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن اسيد ؟ فقال : على ما كان الناس يحجون عليه ، حتى يبلغوا اثنى عشر شهراً - انتهى .
وقوله هذا يوهم أن في حج أبي بكر وعتاب رضي الله عنهما اختلالاً ، وتقدم عن المهدوي وغيره التصريح بانه كان في ذي القعدة - وفيه نظر - لت السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه نودي فيها بتحريم النسيء وغيره من أمور الجاهلية ، فلا شك أنه لم يكن في ذلك العام غنساء ، ولما مضى من الشهر الذي حج فيه عشرة أشهر ، وكان الحادي عشر وهو ذو القعدة سار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في اواخره إلى الحج موافياً لهلال ذي الحجة ، فلما وقف بعرفة أخبر أن الزمان قد استدار ، فعلم قطعاً بالمسلمين ، وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يعتبرون حساب أهل الجاهلية لا نسأتهم ، لأنه يلزم من القول بأنهم اعتبروا امر النسأة أنهم اعتبروا ماهو زيادة من الكفر ، وهذا ما لا يقوله ذو مسكة ، وقد تقدم النقل ان االنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ارسل أبا بكر رضي الله عنه غلى الحج في أواخر ذي القعدة أو بعد انقضائه من سنة تسع ، ووافاه العرب في ذي الحجة : الكفار وغيرهم ، فوقع إعلامهم ببراءة في أيام الحج وأماكنه ، فلو كان حصل في سنة عتاب اختلال في ذي القعدة بنسيء لكان ذو الحجة بحساب الكفار وهو المحرم بحساب الإسلام ، فكان يتأخر مجيء الكفار للحج عن مجيء المسلمين ، فثبت بهذا ايضاً ان حجه رضي الله عنه كان في ذي الحجة ، فحفظ الله أهل الإسلام من أن يقع في حجهم اختلال في سنة من السنين ، وما هي بأول نعمة عليهم - والله الموفق ؛ وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد المشهور بابن القاص من أكابر متقدمي اصحاب الشافعي رحمه الله في كتابه دلائل القبلة في باب معرفة عدد أيام السنة : فالسنة اثنا عشر شهراً بالأهلية ، وربما كان الشهر ثلاثين وربما كان تسعاً وعشرين ، فمبلغ السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثماني ساعات واربعة أخماس وقالت الهند : السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وست ساعات وخمس ساعة وجزء من أربعمائة جزء من ساعة ، وذلك من دخول الشمس برأس الحمل إلى ان تدخل فيه من قابل ، ففضل ما بين الستة الهلالية والسنة الشمسية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة ، فغذا زيدت عليها هذه الساعات والأيام استقام حسابه مع دوران الشمس ، وكانت العرب تزيده في الجاهليه ، وكان الذي أبدع لهم ذلك(3/312)
صفحة رقم 313
رجل من كنانة يقال له القلمس ، وذلك انه يجمع هذه الزيادة فإذا تمت شهراً زاده في السنة وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهراً ، وسماه بسيئاً ، ويحج بهم تلك السنة في المحرم ، فأنزل الله تعالى ) إنما النسيء زيادة في الكفر ( فلما كانت السنة التي حج فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حجة الوداع وافق الحج في تلك االسنة ذا الحجة لما أراد الله تعالى بإثبات الحج في تلك السنة ، فخطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( : أيها الناس ألا إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق الله السموات والأرض ) ) منها اربعة حرم ذلك الدين القيم ( يعنى به الحساب القيم ، فاالحرم رجب جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، فسمي ذلك الحج الأقوم ، وقال الشاعر :
وأبطل ذو العرش النسي وقلسما وفاز رسول الله بالحج الأقوم
انتهى والقلمي بفتح اللام وتشديد الميم ، فالنسيء في البيت متروك الهمز ليصح الوزن ، والأقوام منقول حركة الهمزة ، وقوله : إن علة النسيء التطبيق بين السنة الشمسية والقمرية - فيه نظر ، والظاهر أن علته ما ذكر في السير من اضطرارهم إلى القتال ، وأمر الاستدارة في كل من هذه الأقوال واضح الاستنارة ، وليس المراد بها مصادفة كل فصل من فصول السنة لموضعه من الحر والبر ، ومصادفة اسم كل شهر لمسماه بحسب اشتقاقه حتى يكون رمضان في شدة الحر مثلاً وكذلك غيره وإن كان الواقع أن الأمر كان في هذه الحجة كذلك ، لما تقدم من أن غزوة تبوك كان ابتداؤها في شهر رجب ، وكان ذلك كما تقدم في شدة الحر وحين طابت الثمار ، وإنما المراد الأعظم بالاستدارة مصادفة اسم كل شهر آخر لأجل الدوران بالنسيء بدليل انه ( صلى الله عليه وسلم ) ما ذكر إلا لأجله ، فقال في بعض طرق حديث جابر الطويل رضي الله عنه ( إن النسيء زيادة في الكفر ، وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ) .
فانظر إلى تعقيبه بحصر الأشهر في الاثنى عشر نفياً لجعلهم إياها سنة النسيء ثاثة عشر شهراً ، وقال : منها اربعة حرم ، وعينها وقال : أيّ شهر هذا ؟ فلما سكتوا قال : ذو الحجة شهر حرام ، كل هذا لبيان أن المراد بالاستدارة رجوع كل شهر(3/313)
صفحة رقم 314
عما غيره اهل الجاهلية إلى موضعه الذي وضعه الله به موافقاً اسمه لمسماه ، وجعلت أشهرنا هلالية مع المنع من النسيء لتحصيل الاستدارة فيحصل بسببها كل عبادة تعبدنا بها من صوم وعيد وحج وغيره في كل فصل من فصول السنة بخلاف من شهوره بالحساب ، فغن عباداتهم خاصة بوقت من السنة لا تتعداه - والله الموافق له ، وقال القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره ، حثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوي قال ؛ الشهر الذي انتزعه الله من الشيطان المحرم .
والحاصل أنه لا شك في أن النسيء لم يكن قط إلا للمحرم لما تقدم ، وان الحج لم يكن قط في جاهلية ولا إسلام إلا في شهر يسمى ذا الحجة لما قاله نقلة اللغة والحديث والأخبار ، قال ابن الأثير في النهاية ونشوان اليمني في شمس العلوم والقزاز في ديوانه وابن مكتوم في ترتيب العباب والمحكم : ذو الحجة بالكسر : شهر الحج ، زاد المحكم : سمي بذلك للحج ، وقال القزاز ؛ إن الفتح فيه أشهر ، وفي النهاية : يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة ، سمى به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده ، أي يستقون ويسقون ؛ وقال المجد في القاموس : يوم عرفة التاسع من ذي الحجة ، وفي كتاب اسواق العرب لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي رواية أبي سعيد السكري أن عكاظ كانت من اعظم اسواق العرب .
فإذا أهل أهلها هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز وهي قريب من عكاظ ، وعكاظ في أعلى نجد ، فأقاموا بها حتى التروية ، ووافاهم بمكة حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج بمن لم يكن شهد تلك الأسواق .
قال الأزرقي في تاريخ مكة : فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة ، ثم يخرجون يوم التروية في ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز ، وإنما سمي يوم التروية لترويتهم الماء بذي المجاز ، ينادي بعضهم بعضاً : ترووا من الماء ، إنه لا ماء بعؤفة ولا بالمزدلالفة يومئذ ، ثم ذكر أنه لا يحضر ذلك إلا التجار ، قال : ومن لم يكن له تجارة فإنه يخرج من أهله متى أراد ، ومن كان منن أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية .
ورور البيهقي في دلائل النبوة بسندة عن عروة وموسى بن عقبة - فرقهما - قالا : وأهل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة ، ثم أسند عن ابن إسحاق انه قال : فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة ، واستخلف عتاب بن اسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم ، فكانت عمرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذي القعدة أو في الحجة ، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب يحج عليه ، وحج تلك السنة عتاب بن أسيد سنة ثمان ، وحديث(3/314)
صفحة رقم 315
اعتماره ( صلى الله عليه وسلم ) في ذي العقدة رواه الشيخان ومضى على ما كانت العرب من الطواف عراة ونحوه ؛ وذكره الواقدي عن مشايخ قالوا : وانتهى رسول اله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الجعرانه ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة ، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة ، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً فأحرم - فذكرعمرته ثم قال : واستعمل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عتاب بن أسيد على مكة ، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما يعلمان الناس القرآن والقفقه في الدين ، وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد رضي الله عنه عن تلك السنة وهي سنة ثمان ، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم ، وقدم رسول اله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة يمو الجمعه لثلاث بقين من ذي القعدة ، قال الواقدي : فأقام بقية ذي القعدة وذا الحجة ، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين - انتهى .
إذا تقرر هذا علم أن الحج لم يكن قط إلا في شهر يسمونه ذا الحجة ، وهو مما لا يدور في خَلَدَ ولا يقع في وهم فيه تردد ، ولا يحتاج إلى تطويل بذكره ولا إطناب في أمره ، وتارة يوافق اسمه مسماه وتارة لا يوافقه لأجل النسيء ، وعلم ايضاً أن حج عتاب بن أسيد كان في ذي الحجة بعد رجوع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الجعرانه إلى المدينة الشريفة ، أنه ما تأخر عن ذي الحجة إلا لنقل ، وان حج أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان ذي الحجة لذلك ولما تقدم من أن سفره له من المدينة الشريفة كان آخر ذي القعدة أو أول ذي الحجة ولقولهم : إن الأربعة الأشهر التي ضربت للمشركين من يوم النحر ولقولهم : إن الأربعة الأشهر كان آخرها عاشر ربيع الآخر ، وعلم ان ذا الحجة تلك السنة لو كان وافق مسمى ذي القعدة لم يقع ذو الحجة سنة عشر شهراً بنسيء أو غيره ، وكل من الأمرين باطل ، أما الأول فلأن الله تعالى ابطل النسيء في تلك السنة فيما ابطله من أمور الجاهلية في هذه السورة ، وأرسل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمناداة بها كما مر ، وأما الثاني فهو أمر خارق للعادة لم يكن مثله من حين خلق الله السماوات والأرض ، والخارق مما تتوفر الدواعي [ على ] نقله ، ولا ناقل لهذا أصلاً فبطل ، وإذا بطل ثبت أن سنة عشر كانت اثنى عشر شهراً ولا سيما بعد إنزال الله تعالى في ذلك ما أنزل في هذه السورة ، وإذا كان الأمر كذلك كان الشهر الذي وقف فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في موضع الشهر الذي وقف فيه الصديق رضي الله عنه سواء(3/315)
صفحة رقم 316
بسواء ، وقد ثبت ان الزمان كان فيه قد استدار كهيئته يو خلق الله السماوات والأرض ، فثبت من غير مرية أن شهر الصديق رضي الله عنه كذلك كان ، وثبت أيضاً أن سنة عتاب ابن أسيد رضي الله عنه كذلك كانت بما قدمتُ من أنه لم يكن فيها نسيء لتوافق حج المسلمين والمشركين في سنة تسع .
فدل ذلك على أنها كانت اثنى عشر شهراً ، فكان ذو الحجة فيها في موضع الذي وضعه الله به كما كانت سنة تسع ، بل ظاهر قوله أبي عبيد : فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه - كما مضى - ان الله حفظ زمن الإسلام كله عن نسيء ، وهو الذي اعتقده ، وقد لاح بذلك أن السبب في قول من قال : إن حج الصديق رضي الله عنه وافق ذا العقدة ، أنه فهم من قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الزمان قد استدار ) أن الاستدارة لم تكن إل في تلك السنة وليس ذلك مدلول هذا التركيب مالا يخفي والله الوفق : ثم وجدت النقل الصريح في زوائد معجمي الطبراني : الأوسط والأصغر للحافظ نور الدين الهيثمي بمثل ما فهمته ، قال في تفسير براءة : حدثنا إبراهيم - يعني ابن هشام - البغوي ثنا الصلت بن مسعود الجحدري ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا دواد بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين ولا يصبون الحج إلا في كل ست وعشرين سنة مرة ، وهو النسيء الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ، فلما كان عام حج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العام المقبل الناس الأهلة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ) .
لم يروه عن عمرو إلا داود تفرد به الصلت - انتهى .
وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى ، ثم رايت الهيثمي في مجمع الزوائد قال : رجاله ثقات ، فأكد ذلك الجزم بما فهمت من أنه حسن ، وإنما أطلت هذا بما قد لا يحتاج في إيضاحه إليه لكثرة جدال المجادلين المعاندين ومحال المماحلين الجامدين .
التوبة : ( 38 - 41 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ(3/316)
صفحة رقم 317
إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) 73
( ) 71
ولما أوعز سبحانه في امر الجهاد ، وأزاح جميع عللهم وبين أن حسنه لا يختص به شهر دون شهر وأن بعضهم كان يحل لهم ويحرم فيتبعونه بما يؤدي إلى تحريم الشهر الحلال وتحليل الشهر الحرام بالقتال فيه ، عاتبهم الله سبحانه على تخلفهم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآمر لهم بالنفر في غزوة تبوك عن امره سبحانه ، وكان ابتداؤها في شهر جب سنة تسع ، فقال تعالى على سبيل الاستعطاف والتذكير بنعمة الإيمان بعد ختم التي قبلها بأنه لا يهدي الكافرين - الذي يعم الحرب وغيره الموجب للجرأة عليهم [ لأن لا هداية له أعمى ، والأعمى لا يخشى ] : ( يايها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك ) ما لكم ( اي ما الذي يحصل لكم في أنكم ) إذا قيل لكم ) أي من أيّ قائل كان ) انظروا ) أي اخرجوا مسرعين بجد ونشاط جماعات ووحداناً إمداداً لحزب الله ونصراً لدينه تصديقاً لدعواكم الإيمان ، والنفر : مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاج على ذلك ) في سبيل الله ) أي بسبب تسهيل الطريق إلى الملك الذي له جميع صفات الكمال ، وقال أبو حيان ( بني ) قيل ( للنفعول والقائل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره إذ اخلد غلى الهوينا والدعة من أخلد وخالف أمره - انتهى .
) اثاقلتم ) أي تثاقلتم تثاقلاً عظيماً ، وفيه ما لم يذكروا له سبباً ظاهراً بما اشار إليه الإدغام إخلاداً وميلاً ) إلى الأرض ) أي لبرد ظلالها وطيب هوائها ونضج ثمارها ، فكنتم أرضيين في سفول الهمم ، لا سائيين بطهارة الشيم .
ولما لم يكن - في الأسباب التي تقدم انها كانت تحمل على التباطؤ عن الجهاد - ما يحتمل القيامبهم في هذه الغزوة إلا الخوف من القتل والميل إلى الأموال الحاضرة وثوقاً بها والإعراض عن الغنى الموعود به الذي ربما يلزم على ذلك - ولا بد - من الزهد في الأجر المثمر لسعادة العقبى بهذا الشيء الخسيس ؛ قال مبيناً خسة ما اخلدوا إليه تزهيداً فيه(3/317)
صفحة رقم 318
وشرف ما أعرضوا عنه ترغيباً منبهاً على أن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر عظيم منكراً على من تثاقل موبخاً لهم : ( أرضيتم بالحياة النيا ( اي بالخفض والدعة في الدار الدنية الغارة ) من الآخرة ) أي الفاخرة الباقية ؛ قال أبو حيان : و ( من ) تظافرت اقوال المفسرين انها بمعنى بدل ، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل - انتهى .
والذي يظهر لي أنهم لم يريدوا أنها موضوعة للبدل ، بل إنه يطلق عليها لما قد يلزمها في مثل هذه العبارة من ترك ما بعدها لما قبلها فإنها لا بتداء الغاية ، فإذا قلت : رضيت بكذا من زيد ، كان المعنى أنك اخذت ذلك أخذاً مبتدئاً منه غير ملتفت إلى ما عداه ، فكأنك جعلت ذلك بدل كل شيء يقدر أنه ينالك منه من غير ذلك الماخوذ .
ولما كانوا قد أعطوا الآخرة على الأتباع فاستبدلوا به الامتناع ، كان إقبالهم على الدنيا كانه مبتدئ مما كانواقد توطنوه من الآخرة مع الإعراض عنها ، فكأنه قيل : أرضيتم بالميل إلى الدنيا من الاخرة ؟ ويؤيد ما فهمته ان العلامة علم الدين أبا محمد القاسم بن الموفق الأندلسي ذكر في شرح الجزولية انهم عدوا ل ) من ( خمسة معان كلها ترجع إلى ابتداء الغاية عند المحققين ، وبين كيفية ذلك حتى البيانة ، فمعنى
77 ( ) فاجتنبوا الرجس من الأوثان ( ) 7
[ الحج : 30 ] الذي ابتداؤه من الأوثان ، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها .
ولما كان الاستفهام إنكارياً كان معناه النهي ، فكان تقدير : لا ترضوا بها فإن ذلك أسفه رأي وأفسده فقال تعالى معللاً لهذا النهي : ( فما ( اي بسبب أنه ما ) متاع الحياة الدنيا في ) أي مغموراً في جنب ) الآخرة إلا قليلاً ( والذي يندب هم المتجر ويدعي البصر به ويحاذر الخلل فيه يعد فاعل ذلك سفيهاً .
ولما كان طول الاستعطاف ربما كان مدعاة للخلاف وترك الإنصاف ، وتوعدهم بقوله : ( إلا تنفروا ) أي فب سبيله ) عذاباً اليماً ) أي في الدارين ) ويستبدل ) أي يوجد بدلاً منكم ) قوماً غيركم ) أي ذوي بأس ونجدة مخالفين لكم في الخلال التي كانت سبباً للاستبدال لولايته ونصر دينه .
ولما هددهم بما يضرهم ، أخبرهم انهم لا يضرون بفتورهم غير انفسهم فقال : ( ولا تضروه ) أي الله ورسوله ) شيئاً ( لأنه متم امره ومنجر وعده ومظهر دينه ؛ ولما اثبت بذلك قدرته على ضره لهم وقصورهم عن الوصول غلى ضره ، كان التقدير : لأنه قادر على نصر دينه ونبيه بغيركم ، فعطف عليه تعميماً لقدرته ترهيباً من عظيم سطوته قوله : ( والله ) أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة ) على كل شيء قدير ( ولما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة ، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم - وهو نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) - غير محتاج إليه(3/318)
صفحة رقم 319
ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم - بحياطة القادر له - فيما مضى من الهجر التي ذكرها ، وأن نفع ذلك إنما هو لهم باستجلاب ما عدوه واستدفاع ما اوعدوه في الدارين المشار إلى ذلك كله بقوله ) فما متاع الحياة الدنيا ( الاية وقوله ) إلا تنفروا ( - الآية ، فقال : ( إلا تنصروه ) أي أنتم طاعة لأمر الله ، والضمير للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إما على طريق الاستخدام من سبيل الله لأنه الموضح له الداعي إليه ، أو لتقدم اسمه الشريف إضماراً في قوله ) إذا قيل لكم ) أي من رسول الله صلى عليه وسلم استنصاراً منه لكم ، وإظهاراً في قوله تعالى
77 ( ) هو الذي أرسل رسوله ( ) 7
[ التوبة : 34 ] الاية وقوة ما في كل جملة من المناسبة المقتضية لأن تعانق التي بعدها ولا تنفك عنها قصر الفصل بين الظاهر وضميره ، وذكر الغاز والصاحب اوضح الأمر. وذلك أنه سبحانه لما عابهم باتخاذالرؤساء أرباباًُ اشتدت الحاجة إلى بيان أنهم في البعد عن ذلك على غاية لا تخفى على متأمل ، فوصفهم بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة ، وبأن مأكولهم أموال غيرهم باطلاً ، بأنهم يغشونهم لصدهم إياهم عن السبي التي لا يخفى حسنها على من له أدنى نظر ؛ ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلى السؤال عن العرب : هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم ؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أشهر الحل والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء ولما أمر بقتال المشركين كافة وحثم على التقوى ، وكان بعضهم قد توانى في ذلك ، اشتد اقتضاء الحال لمعاتبة على التثاقل عن النفر ، فلما تم ذلك في هذا الأسلوب البديع والطراز الرفيع حث على نصر الرسول الذي ارسله ليظهره على الدين كله فقال جواباً للشرط : ( فقد ) أي غن لم يتجدد منكم له نصر فإن الله قادر على نصره وسينصره ويغنيه عنكم ولا تضرون إلا أنفسكم فقد ) نصره الله ) أي الملك الأعظم وحده والأمر في غاية الشدة ، ولا شك عند عاقل ان المستقبل عنده كالماضي ) إذ ) أي حين ) أخرجه الذين ( وعبر بالماضي لأن فيهم من أسلم بعد ذلك فقال : ( كفروا ) أي من مكة وهم في غاية التمالؤ عليه حين شاوروا في قتله أو إخراجه أو إثباته ، فكان ذلك سبباً لإذن الله له في الخروج من بينهم حال كونه ) ثاني اثنين ) أي احدهما أبو بكر رضي الله عنه ولا ثالث لهما ينصرهما إلا الله ) إذ هما في الغار ( اي غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لمّا كمنا به ثلاث ليال لفتر عنهما الطلب ، وذلك قبل ان يصلا إليكم أو يعولا في النصر عليكم ) إذ يقول ) أي رسول اله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لصاحبه ( اي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء ) لا تحزن ( والحزن : هم غليظ بتوجع يرق له القلب ، حزنه واحزنه(3/319)
صفحة رقم 320
بمعنى ؛ وقال في القاموس : أو أحزنه : جعله حزيناً ، وحزّنه : جعل فيه حزناً ؛ ثم علل نهيه لصاحبه بقوله معبراً بالاسم الأعظم مستحضراً لجميع ما جمعه من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تخضع دونها صلاب الرقاب وتندك بعظمتها شوامخ الجبال الصلاب ) إن الله ) أي الذي له الأمر كله ) معنا ) أي بالعون والنصرة ، وهو كاف لكل مهم ، قوي على دفع ملم ، فالذي تولى نصره بالحراسة في ذلك الزمان كان قادراً على أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير ان يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أخر ، وكما أنه كان موجوداً في ذلك الزمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو على ذلك في هذا الزمان وكل زمان ، فتبين كالشمس ان النفع في ذلك إنما هو خاص بكم ، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله على هذا المنوال إلا لفوزكم ، وفي هذه الآية من التنويه بمقدار الصديق وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلو منصبه وفخامة امره ما لا يعلمه إلا الذي اعطاه إياه ؛ قال أبو حيان وغيره : قال العلماء : من انكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه كفر لإنكاره كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة .
ولما كان رضي الله عنه نافذ البصيرة في المعارف الإلهية ، راسخ القدم في ذلك المقام لذلك لم يتلعثم من أول الأمر في عناد جميع العباد بخاع الأنداد ، ثم تدرب فيه متر قياً لثلاث عشرة سنة ، وكان الذي به من القلق إنما هو الخوف من أن يحصل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أذى فيدركه من الحزن لذلك ما يهلكه قبل سروره بظهور الدين وقمع المعتدين ، ولم يكن جنباً ولا سوء ظن ، لما كان ذلك كذلك كان رضي الله عنه حقيقاً لحصول السكينة له عند سماع أسم الشريف الأعظم الدال على ذلك المقام المذكر بتلك العظمة التي يتلاشى عندها كل عظيم ، ويتصاغر في جنبها كل كبير ، ولذلك ذكر هذا الاسم الأعظم وقدم ، وأشرك الصديق في المعية وبدأ بالنهي عن الحزن لأنه المقصود بالذات ومابعده علة له .
وأما بنو إسرائيل فلم يكن عندهم من المعرفة إلا ما شاهدوا من مما كانوا فيه ، ومنع موسى عليه السلام مع وحدته من سطوات فرعون على عظمته وما كان يواجهه به من المكروه ، فلما رأوا جموعه مقبله كان حالهم مقتضياً للسؤال عن ذلك المحسن بإظهار تلك الآيات : هل هو مع موسى عليه السلام على ما كان عليه فيمنعهم أم لاظ فلذلك قد إنكار الإدراك ثم إثبات المعية على سيبل الخصوص به ، وعبر عن افله باسم الرب الدال على ذلك الإحسان المذكر به فقال
77 ( ) كلا إن معي ربي ( ) 7
[ الشعراء : 62 ] فكأن قيل : ماذا يفعل والبحر امامنا والعدو وراءنا ؟ فقال ( سيهدين ) أي(3/320)
صفحة رقم 321
إلى ما أفعل ، يعرف ذلك من كان متضلعاً بالسير وقصص بني إسرائيل على ما ذكرتها في الأعراف عن التوارة ، مستحضراً لأن الصديق رضي الله عنه كان في صعودها إلى الغار يذكر الرصد فيتقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما ، ويقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن قتلت أنا فأنا رجل واحد ، إن قتلت انت هلكت الأمة ، وأنه كان عافاً بأن الله تعالى تكفل بإظفار الدين على يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المتضمن لحراسة نفسه الشريفة قبل ذلك ، ولذلك كان به في هذا اليوم من القلق ما ذكر ، وكان عند وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اثبت الناس ، ولذلك أتى بالفاء المعقبة في قوله .
) فأنزل الله ) أي الملك الأعظم ) سكينته ( اي السكون المبالغ فيه المؤثر للنسك ) عليه ) أي الصديق - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما - لأن السكينة لم تفارق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم عطف على نصره الله قوله : ( وأيده ( اي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واختلاف الضمائر هنا لا يضر لأنه غير مشتبه ) بجنود لم تروها ) أي من الملائكة الكرام ) وجعل كلمة ) أي دعوة ) الذين كفروا ) أي أوقعوا الكفر من آمن منهم بعد ذلك وغيره ) السفلى ( فخيّب سعيهم ورد كيدهم ، ثم ابتدأ الإخبار بما له سبحانه على الدوام من غير انقطاع أصلاً في يعقوب عطفاً على ماسبق ) هي العليا ) أي وحدها ، لايكون إلا ما يشاءه دائماً ابداً ، فالله قادر على ذلك ) والله ) أي المحيط يكل شيء قدرة وعلماً ) عزيز ( اي مطلقاً يغلب كل شيء من ذلك وغيره ) حكيم ( لا يمكن أن ينقض شيء من مراده لما ينصب من الأسباب التي لا مطمع لأحد في مقاومتها فلا محيص عن نفوذها ولما بلغت هذه الماعظ من القلوب الواعية مبالغاً هيأها به للقبول ، اقبل عليها سبحانه بالأمر فقال : ( انفروا خفافاً وثقالا ( والمراد بالخفة كل ما يكون سبباً لسهولة الجهاد والنشاط إليه ، وبالثقل كل ما يحمل على الإبطاء عنه ؛ وقال أبو حيان : والخفة والقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا - انتهى .
قال البغوي : قال الزهري : خرج سعيد بن المسيب رحمه الله الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع ؛ وروى أبو يعلى الموصلي في مسند بسند صحيح عن أنس ان أبا طلحة رضي الله عنهما قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال : لا أرى ربي يستنفرني شاباً وشيخاً جهزوني ، فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة ايام فما تغير ، ) وجاهدوا ) أي أوقعوا جهدكم ليقع جهد الكفار(3/321)
صفحة رقم 322
ولما كانت هذه الآية في سياق المعاتبة لمن تثاقل إلى الأرض عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك ، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك ما كان في ذلك الوقت امن العسرة في المال والشدة بالحر وما كان من طيب الظلال في أراضي الجنان وقت الأخذ في استواء الثمار - كما هو مشهور في السير ؛ اقتضى المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضى فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول المفارقة للاموال ، والأولاد وقدم المال لأن النظر إليه من وجهيين : قتله ، ومحبة الإقامة في الحدائق إيثار للتمتع بها وخوفاً من ضياعها مع ان بها قوام الأنفس ، فصار النظر إليها هو الحامل على الشح بالأنفس فقال تعالى : ( بأموالكم وأنفسكم أي بهما معاً على ما امكنكم أو باحدهما ) في سبيل الله ) أي الملك الأعلى اي حتى لا يبقى منه مانع ) ذلكم ) أي الأمر العظيم ) خير ) أي في نفسه حاصل ) لكم ) أي خاص بكم ، ويجوز ان يكون أفعل تفضيل بمعنى أن عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغير كائناً ما كان ، تفتر وتصوم فلا تفطر ؟ وختم الآية بقوله : ( إن كنتم تعلمون ( إشارة إلى ان هذا الأمر وغن كان عاماً فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية ، فإن العلم - ولا يعد علماً إلا النافع - يحث على العمل وعلى إحسانه باخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم وغير ذلك وضده يورث ضده .
التوبة : ( 42 - 43 ) لو كان عرضا. .. . .
) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ( )
ولما كان هذا العتاب مؤذناً فيهم من تباطأ عن الجهاد اشتغالاً بنحو الأموال والأولاد ، وكان ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأوامر والزواجر والمواعظ جدير : بأن يخفف كل متثاقل وينشط كل متكاسل ، تشوفت النفوس إلى ما اتفق بعد ذلك فأعلم سبحانه به في أساليب البلاغة المخبرة عن أحوال القاعدين وأقاصيص الجامدين المفهمة ان هناك من غلب عليه الشقاء فلم ينتفع بالمواعظ ، فالتفت من لطف الإقبال إلى تبكيت المتثاقلين بأسلوب الإعراض المؤذن الغضب المحقق للسخط المبين لفضائحهم المبعثر لقبائحهم المخرج لهم ما دخلوا فيه من عموم الدعاء باسم الإيمان فقال : ( لو كان ( اي ما تدعوا إليه ) عرضاً ( اي متاعاً دنيوياً ) قريباً ) أي سهل التناول ) وسفراً قاصداً ( أي(3/322)
صفحة رقم 323
وسطاً عدلاً مقارباً ) لا تبعوك ) أي لأجل رجاء العرض مع سهولة السفر لأن هممهم قاصرة ومنوطة بالحاضر ) ولكن ) أي لم يتبعوك تثاقلاً إلى الأرض ورضي بالفاني الحاضر من الباقي الغائب لأنها ) بعدت عليهم الشقة ) أي المسافة التي تطوى بذرع الأرجل بالمسير فيحصل بها النكال والمشقة فلم يواز ما يحصل لهم بها من التعب ما يرجونه من العرض ، فاستأذنوك ، وفي هذا إشارة إلى ذمهم بسفول الهمم ودناءة الشيم بالعجز والكسل والنهم والثقل ، وإلى أن هذا الدين متين لا يحمله إلا ماضي الهم صادق العزم كما قال الشاعر :
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
فلله در اولي العزائم والصبر على الشدائد والمغارم ولما ذمهم بالشح بالدنيا ، أتبعه وصمهم بالسماح بالدين فقا مخبراً عما سيكون منهم علماً من أعلام النبوة : ( وسيحلفون ) أي المختلفون باخبار محقق لا خلف فيه ) بالله ) أي الذي لا أعظم منه عند رجوعكم إليهم جمعاً إلى ما انتهكوا من حرمتك بالتخلف الذي يريدون به حياتها لأنهم كذبوا فيه فانتهكوا حرمة اسم الله ) والله ) أي والحال ان الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة سبحانه ) يعلم إنهم لكاذبون ( فقد جمعوا بين إهلاك انفسهم والفضيحة عند الله بعلمه بكذبهم في انهم غير مستطيعين ، وجزاء الكاذب في مثل ذلك الغضب المؤيد الموجب للعذاب الدائم المخلد .
ولما بكتهمعلى وجه الإعراض لأجل التخلف والحلف عليه كاذباً ، اقبل إليه ( صلى الله عليه وسلم ) بالعتاب فبي لذيذ الخطاب على الاسترسال في اللين لهم والائتلاف وأخذ العفو وترك الخلاف إلى هذا الحد ، فقال مؤذناً بأنهم ما تخلفوا إلا بإذنه ( صلى الله عليه وسلم ) لأعذار ادعوها كاذبين فيها كما كذبوا في هذا الحلف ، مقدماً للدعاء على العتاب لشدة الاعتناء بشأنه واللطف به ( صلى الله عليه وسلم ) : ( عفا الله ) أي ذو الجلال والإكرام ) عنك ( وهذا كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا : أصلح الله الأمير ، والملك - ونحو ذلك ولما كان من المعلوم أنه لا يأذن إلا لما يرى أنه يرضي الله من تألفهم ونحوه ، بين أنه سبحانه يرضى منه ترك الإذن فقال كناية عن ذلك : ( لم اذنت لهم ) أي في التخلف عنك تمسكاً بما تقدم من الأمر باللين لهم والصفح عنهم موافقاً لما جلبت عليه من محبة الرفق ، وهذا إنما كان في أول الأمر لخوف التنازع والفتنة ، وأما الآن فقد علا(3/323)
صفحة رقم 324
الدين وتمكن أمر المؤمنين فالمأمور به الإغلاط على المنافقين فهلا تركت الإذن لهم ) حتى يتبين لك ) أي غاية البيان ) الذين صدقوا ) أي في التزام الأوامر بما أقروا به من كلمة التوحيد ) وتعلم الكاذبين ) أي فيما اظهروا من الإيمان باللسان ، فإنك إن لم تأذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ؛ قال أبو حيان : و ) حتى ( غاية الاستفهام - انتهى .
وذلك لأنه وإن كان داخلاً على فعل مثبت فمعناه النفي ، أي ما لك لم تحملهم على الغزو معك ليتحقق بذلك الحمل من يطيع ومن يعصي ، فالحاصل ان الذي فعله ( صلى الله عليه وسلم ) حسن موافق لما أمره الله به فإنه لا ينطبق عن الهوى بل عن أمر الله إما بإيحاء واصل جديد ، أو استناد إلى وحي سابق حاصل عتيد ، والذي اشار إليه سبحانه احسن مثل
77 ( ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ( ) 7
[ الفتح : 2 ] من باب ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ومن باب الترقية من مقام عال إلى مقام اعلى تسييراً فيهم بالعدل لما انكشف انهم ليسوا بأهل الفضل ؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في آخر كتاب العروة في تفاوت وجه الخطاب فيما بين ما انزل على وفق الوصية أو أنزل على حكم الكتاب : اعلم ان الله سبحانه بعث محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالرحمة لجميع العالمين وخلقه بالعفو والمعروف ، كما ورد في الكتب السابقة من قوله تعالى : ( وأجعل العفو والمعروف خلقه ) وبذلك وصاه كما ورد عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( أوصاني ربي من غير ترجمان ولا واسطة بسبع خصال : بخشية الله في السر والعلانية ، وأن أصل من قطعني ، وأصفح عمن ظلمني ، وأعطي من حرمني ، وأن يكون نطقي ذكراً ، وصمتي فكراً ، ونظري عبرة ) فكان فيما أوصاه به ربه تبارك وتعالى من غير ترجمان ولا واسطة أن يصل من قطعة ويصفح عمن ظلمه ، ولا أقطع له ممن كفر به وصد عنه ، فكان هو ( صلى الله عليه وسلم ) - يحكم ما بعث به وجبل عليه ووصى به - ملتزماً للعفو عمن ظلمه والوصل لمن قطعه إلا أن يعلن عليه بالإكراه على ترك ذلك والرجوع إلى حق العدل والاقتصاص والانتصاف المخالف لسعة وصيته الموافق لما نقل من أحكام سنن الأولين في مؤاخذتهم بالحق والعدل إلى جامع شرعته ليوجد فيها نحو مما تقدم من الحق والعدل وإن قل ، ولتفضل شرعته بما اختص هو به ( صلى الله عليه وسلم ) من البعثة بسعة الرحمة والفضل
77 ( ) إن الله يأمر بالعدل والإحسان ( ) 7
[ النحل : 9 ] ،
77 ( ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( ) 7
[ الأنفالك 33 ] فمن القرآن ما أنزل(3/324)
صفحة رقم 325
على الوجه الذي بعث له وجبل عليه ووصى به نحو قوله تعالى :
77 ( ) ادفع بالتي هي احسن السيئة ( ) 7
[ المؤمنون : 96 ] وقوله تعالى :
77 ( ) ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ( ) 7
[ آل عمران : 159 ] وقوله تعالى :
77 ( ) فاصفح الصفح الجميل ( ) 7
[ الحجر : 85 ] وقوله تعالى
77 ( ) فاصفح عنهم وقلم سلام ( ) 7
[ الزخرف : 89 ] وأصل معناه في مضمون قوله تعالى :
77 ( ) لقد جاءكم رسول من انفسكم عزير عليه ما عنتم حريص عليكم ( ) 7
[ التوبة : 128 ] فما كان من المنزل على هذا الوجه تعاضدت فيه الوصية والكتاب وقبله هو ( صلى الله عليه وسلم ) جبلة وحالاً وعملاً ولم تكن له عنه وقفة لتظافر الأمرين وتوافق الخطابين : خطاب الوصية ، وخطاب الكتاب ؛ وهذا الوجه من المنزل خاص بالقرآن العظيم الذي هو به ( صلى الله عليه وسلم ) ، لم يؤته أحد قبله
77 ( ) ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ( ) 7
[ الحجر : 87 ] ومن القرآن ما أنزل على حكم العدل والحق المتقدم فضله في سنن الأولين وكتب المتقدمين وإمضاء عدل الله سبحانه في المؤاخذين والاكتفاء بوصل وإبعاد المستغني وإلاقبال على القاصد والانتقام من الشارد ، وذلك خلاف ما جبل الله عليه نبيه وما وصى به حبيبه ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فكان ( صلى الله عليه وسلم ) إذا انزل حتى يعلن عليه بالإكراه في أخذه والتزام حكمه فحينئذ يقوم لله به ويظهر عذره في إمضائه فيكون له في خطاب التشديدعليه في أخذه أعظم مدح وأبلغ ثناء من الله ضد ما يتوهمه الجاهلون ، فمما انزل إنباء عن مدحه بتوقفه على إمضاء حكم العدل والحق رجاء تدارك الخلق واسنعطاف الحق ما هو نحو قوله تعالى :
77 ( ) فلعلك باخع نفسك عل آثارهم إن لم بهذاالحديث أسفاً ( ) 7
[ الكهف : 6 ] ونحو قوله تعالى
77 ( ) لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ) 7
[ الشعراء : 3 ] نحو قوله تعالى :
77 ( ) ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون ( ) 7
[ الحجر : 97 ] ومما انزل على وجه الإعلان عليه بما هو عليه من ارحمة وتوقفه على الأخذ بسنن الأولينحتى يكره عليه ليقوم عذره ليقوم عذره في الاقتصار على حكم الوصية وحال الجبلة ما هو نحو قوله تعالى :
77 ( ) ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلاتك في مرية منه أنه الحق من ربك ( ) 7
[ هود : 17 ] ونحو قوله تعالى :
77 ( ) ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى حتى يكونوا مؤمنين ( ) 7
[ يونس : 99 ] ونحو قوله تعالى :
77 ( ) فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قلبك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ( ) 7
[ يونس : 94 ] أي لا تتوقف لطلب الرحمة لهم كما - يتوقف الممتري في الشيء أو الشاك فيه لما(3/325)
صفحة رقم 326
قد علم أنه لا بد لأمته من حظ من مضاء كلمة العدل فيهم وحق كلمة العذاب عليهم وإجراء بعضهم دون كلهم على سنة من تقدمهم من اهل الكتب الماضية فب المؤاخذة بذنوبهم وإنفاذ حكم السطوة فيهم فأخذهم الله بذنوبه
77 ( ) فكلاً أخذنا بذنبه ( ) 7
[ العنكبوت : 40 ] ولم ينفعهم الرجوع عند مشاهدة الآيات
77 ( ) الأن وقد عصيت قبل ( ) 7
[ يونس : 91 ]
77 ( ) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم ( ) 7
[ الأنبياء : 13 ] وذلك أن كل مطالع بالعذاب راجع - ولا بد - عن باطله حين لا ينفعه
77 ( ) وحرام على قرية أهلكناها إنهم لا يرجعون ( ) 7
[ الأنبياء : 95 ]
77 ( ) إلا قوم يونس لما آمنوا كسفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ( ) 7
[ يونس : 98 ] لما أبطن تعالى في قلب نبيهم عليه السلام عزماً على هلاكهم ، أظهر تعالى رحمة عليهم ، ولما ملأ نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) رحمه لأمته : كافرهم ومؤمنهم ومنافقهم ، أشار بآي من إظهار مؤاخذاتهم وأعلم بكف نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن تألفهم وأحسبه بمؤمنهم دون كافرهم ومنافقهم
77 ( ) يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( ) 7
[ الأنفال : 64 ] وكل ذلك معلوم عنده ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وقوعه بمضمون قوله تعالى : ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا (
77 ( ) سنة الله التي قد خلت من قبل ( ) 7
[ الفتح : 23 ] ،
77 ( ) فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ( ) 7
[ يونس : 94 ] ،
77 ( ) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ( ) 7
[ ٍالحجر : 12 - 13 ] ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) حين أنزل عليه
77 ( ) فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ( ) 7
[ يونس : 94 ] : ( أما أنا فلا أشك ولا أسأل ) ، لأنه قدعلم جملة أمر الله أن منهم من يتداركه الرحمة ومن يحق عليه كلمة العذاب ، ولكنه لا يزال ملتزماً لتألفهم واستجلابهم حتى يكره على ترك ذلك بعلن خطاب نحو قوله تعالى :
77 ( ) عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك إلا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلاً إنها تذكره فمن شاء ذكره ( ) 7
[ عبس : 1 - 12 ] ونحو قوله تعالى :
77 ( ) ما كان لنبي أنة يكون له أسرى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم ( ) 7
[ الأنفال : 67 - 69 ] فهذه الآي ونحوها يسمعها العالم بموقعها على إكراه لنبي الرحمة حتى يرجع إلى عدلنبي الملحمة من جملة امداح القرآن له والشهادة بوفائه بعهد ووصية حتى تحقق له تسميته بنبي الرحمة ثابتاً على الوصية ونبي الملحمة إمضاء في وقت لحكم الحق وإظهار العدل ، فهو ( صلى الله عليه وسلم ) بكل القرآن ممدوح وموصوف بالخلق العظيم جامع لما تضمنته كتب(3/326)
صفحة رقم 327
الماضين ولما اختصه الله به من سعة القرآن العظيم ، فهذا وجه تفاوت ما بين الوصية والكتاب في محكم الخطاب ؛ والله سميع عليم - انتهى .
التوبة : ( 44 - 47 ) لا يستأذنك الذين. .. . .
) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ( )
ولما فاته ( صلى الله عليه وسلم ) معرفتهم بهذا الطريق ، شرع العالم بما في الضمائر يصفهم له بما يعوض عن ذلك ، فقال على طريق الجواب للسؤال : ( لا يستأذنك ( اي يطلب إذنك بغاية ارغبة فيه ) ثالذين يؤمنون بالله ) أي يجدون الإيمان كل وقت حقاً من أنفسهم بالملك الذي له صفات الكمال ) واليوم الآخر ) أي الذي يكون فيه الجزاءبالثواب والعقاب ) أن ) أي في أن ) يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ( بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن ان نستأذنه ( صلى الله عليه وسلم ) ابداً في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد مرة فأيّ فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا ، وكانوا بحيث لو امرهم ( صلى الله عليه وسلم ) بالعقود شق عليهم كما وقع لعلي رضي الله عنه غزوة تبوك حتى قال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ) ولما كان التقدير : فمن اتصف بذلك فاعلم أنه متق بأخبار الله ، عطف عليه قوله : ( والله ( اي الذي له الإحاطة الكاملة ) عليم بالمتقين ( اي الذين يخافون الله كلهم .
ولما أخبر بالمتقين ، عرف بغيرهم على وجه الحصر تأكيداً لتحقيق صفة العلم بما أخبر به سبحانه ، فصار الاستئذان منفياً عن المؤمنين مرتين ، فبثت للمنافقين على أبلغ وجه ) إنما يستأذنك ) أي في مثل ذلك فكيف بالاستئذان في التخلف ) الذين لا يؤمنون ( اي يتجدد لهم إيمان ) بالله ) أي الملك الأعلى الذي له نهاية العظمة إيماناً مستجمعاً للشرائط ) واليوم الاخر ( لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً وإن ادعوا ذلك بألسنتهم(3/327)
صفحة رقم 328
ولما كانت [ هذه ] صفة المصارحين بالكفر ، بين أن المراد المنافقون بقوله : ( وارتابت قلوبهم ) أي تابعت الوساوس وتعمدت المشي معها حتى تخلفت بالشك ؛ ولما كان الشاك لا يزال يتجاذبه حسن الفطرة وسوء الوسوسة ، قال : ( فهم ) أي فتسبب عن ذلك أنهم ) في ريبهم يترددون ) أي بين النفي والإثبات دأب المتحير لا يجزمون بشيء منهما وإن صدقوا ان الله موجود فإن المشركين يصدقون بذلك ولكنه لا ينفعهم للإخلال بشرطه ، وليس استئذانهم في أن يجاهدوا لإدارة الجهاد بل توطئة لأن يقولوا إذا أمرتهم به : إنه لا عدة لنا في هذا الوقت فائذن لنا في التخلف حتى نستعد وقد كذبوا ، ما ذلك بهم ، إنما أنهم لا يريدون الخروج معك ) ولو أرادوا الخروج لأعدوا له ) أي قبل حلوله ) عدة ) أي قوة واهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون متصفين بما قدمت إليهم من التحريض على نحو ما وقع الأمر به في الأنفال فيكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها ) ولكن ( لم يريدوا ذلك قط فلم يعدوا له عدة ، فملا أمرت به شرعوا يعتلون بعدم العدة وما ذاك بهم ، إنما مانعم كراهتهم للخروج وذلك بسبب أن ) كره الله ) أي ذو الجلال والإكرام بأن فعل فعل الكاره فلم يرد ) انبعاثهم ) أي سيرهم معك مطاوعة لأمرهم بذلك لما علم من عدم صلاحيتهم له ) فثبطهم ) أي حسبهم عنه حسباً عظيماً بما شغلهم بما بما حبب إليهم من اتكاب المشقات بسبب انهم لا البهيمية ، فلما استولت عليهم الشهوات وملكتهم الأنفس الدنيات نودوا من قبلها : إلى أين تخرجون ؟ ) وقيل ) أي لهم لما أسرعوا الإقبال إليها ) اقعدوا ) أي عن جندي لا تصحبوهم ، وفي قوله - : ( مع القاعدين ) أي الذين شانهم ذلك كالمرضى والزمنى والصبيان والنساء - من التبكيت مالا يعلم مقداره إلا أولو الهمم العلية والأنفس الأبية ، وعبر بالمجهول إشارة إلى أنهم يطيعون الأمر بالقعود حقيقة ومجازاً كائناً من كان كما انهم يعصون الأمر بالنفر كائناً من كان لأن انفسهم قابلة للدناياغير صالحة للمزايا بوجه .
ولما كان كأنه قيل : ما له ثبطهم وقد كنا قاصدين سفراً بعيداً وعدواً كثيراً شديداً فنحن محتاجون إلى الإسعاد ولو بتكثير السواد قيل : ( ولو ) أي فعل ذلك بهم لأنهم لو ) خرجوا فيكم ( اي كانوا قليلاً معمورين بجماعاتكم ) ما زادوكم ) أي بخروجهم شيئاً من الاشياء ) إلا خبالا ) أي ما أتوكم بشيء زائد على ما عنكم من الأشياء غير الخبال ، والاستثناء مفرغ والمستثنى منه - المقدر الثابت لهم الاتصاف به - هو الشيء ، (3/328)
صفحة رقم 329
وذلك لا يقتضي اتصاف أحد منهم بالخبال قبل خروج المنافقين ، والخبال : الفساد ، وهو ينظر على الخداع والأخد على غزوة ) ولأوضعوا ) أي اوقعوا الإيضاع ، حذف المفعول إشارة إلى أن مرادهم الأيضاع نفسه لا بقيد دابة ، وعبر بالإيضاع لأنه للراكب وهو اسرع من الماشي ) خلالكم ) أي لأسرعوا في السير ذهاباً وإياباً بينكم في تتبع عوراتكم وانتظار زلاتكم ليجدوا منها مدخلاً إلى الفساد بالنميمة وغيرها إن لم يجدوها ، والإيضاع في السير يكون برفق ويكون بإسراع ، والمراد به هنا الإسراع ، ومادة وضع بجميع تراكيبها تدور على الحركة ، وتارة تكون إلى علو وتارة إلى سفول ، ويلزم ذلك السكونُ والمحلُ القابل لذلك ، وعلى ذلك يتمشى العضو والعوض ، وعَوض الذي هو بمعنى الدهر ، وضوع الريح والتصويت بالبكاء ، والضعة لشجرة في البادية ، والوضع للطرح في مكان والسير اللين والسريع ؛ والخلال جمع الخلل وهو الفرجة ) يبغونكم ) أي حال كونهم يريدون لكم ) الفتنة ) أي بتشتيت الشمل وتفريق الأصحاب وتقدم عند ) ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ( ) [ الأنفال : 39 ] أنها الخلطة المميلة المحلية ، أي يريدون لكم الشيء الذي يصيبكم فغي حالتكم إلى ما يسوءكم فيسرهم ) وفيكم ) أي والحال أنه فيكم ) سامعون لهم ) أي في غاية القبول لكلامهم لضعف معارفهم وآرائهم .
وربما كان سماعهم منهم مؤدياً إلى مطلوبهم ) والله ) أي الذي أخبركم بهذا من حالهم وله الإحاطة بكل شيء ) عليم ( بهم ، فثقوا بأخبارهم .
هكذا كان الأصل وإنما قال : ( بالظالمين ( إشارة إلى الوصف الذي اوجب لهم الشقاء بمنعهم عن موطن الخير ، وتعميماً للحكم بالعلم بهم وبمن سمع لهم ظالم ، والحاصل انه شبه سعيهم فيهم بالفساد بمن يوضع بعيره في أرض فيها أجرام شاخصة متقاربة ، فهو في غاية الالتفات إلى معرفة ما فيها من الفرج والتأمل لذلك حذراً من أن يصيبه شيء من تلك الأجرام فيسقيه كأس الحمام ، فلا شغل لهم إلا بغية فسادكم بعدم وصولكم إلى شيء من مرادكم .
التوبة : ( 48 - 51 ) لقد ابتغوا الفتنة. .. . .
) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ( )(3/329)
صفحة رقم 330
ولما أخبر سبحانه بذلك ، وحث على قبول أخبارهم بما وصف به ذاته الأقدس من إحاطة العلم ، شرع يقيم الدليل على ما قال بتذكيرهم بأشياء تقدمت مشاهدتها منهم ، فقال معللاً لما أخبر به : ( لقد ابتغوا ( أ أي طلبو طلباً عظيماً كلهم لكم ) الفتنة ) أي لتشتيتكم ) من قبل ) أي قبل هذه الغزوة في يوم أحد بكسر قلوب بكسر العسكر بالرجوع عنه حتى كاد بعضهم أن يفشل وفي المريسيع بما قال ابن أبيّ
77 ( ) ليخرجن الأعز منها الأذل ( ) 7
[ المنافقون : 8 ] وفي غزوة الخندق بما وقع منهم من التكذيب في أخذ كنوز كسرى وقيصر والإرجاف بكم في نقض بني قريظة وغير ذلك كما صنعوا قبله في غزوة قينقاع والنضير في قصدهم تقوية كل منهم عليكم وفي غير ذلك من ايام الله التي عكس فيها قصودهم وأنعكس جدودهم ) وقلبوا ( اي تقليباً كثيراً ) لك الأمور ) أي التي لك فيها اذى ظهراً لبطن بإحالة الآراء وتدبير المكايد والحيل لعلهم يجدون فرصة في نقض امرك ينتهزونها أو ثغرة في حالة يوسعونها ، وامتد بهم الحال في هذا المحال ) حتى جاء الحق ) أي الثابت الذي لا مراء في مزاولته مما تقدم به وعده سبحانه من إظهار الدين وقمع المفسدين ) وظهر امر الله ) أي المتصف بجميع صفات الكمال من الجلال ةالجمال حتى لا مطمع لهم في ستره ) وهم كاهرون ) أي لجميع ذلك فلم يبق لهم مطمع في محاولة بمواجهة ولا مخاتلة فصار همهم الآن الاعتزال والمبالغة في إخفاء الأحوال وستر الأفعال والأقوال .
ولما أجملهم في هذا الحكم ، وكان قد اشار إلى منهم من كان قد استأذن في الخروج توطئة للاعتذار عنه ، شرع فصلهم ، وبدأالمفصلين بمن صرح بالاستئذان في القعود فقال عاطفاً على ( لقد ابتغوا ) : ( ومنهم من يقول ) أي في جبلته نتجديد هذا فتنتى بالحزم بالأمر بالنفر فأفتتن إما بأن أتخلف فأكون مصارحاً بالمعصية أو أسافر فأميل إلى نساء بني الأصفر فأرتد عن الدين فأنه لا صبر لي عن النساء ، وقائل ذلك هو الجد ابن قيس ، كان من الأنصار منافقاً .
ولما أظهروا أنهم قصدوا البعد من شيء فغذا هم قد ارتكبوا فيه ، انتهزت فرصة الإخبار بذلك على أبلغ وجه بإدخال ناف على ناف لتحصيل الثبوت الأكيد بإقرار المسؤول فقيل : ( ألا في الفتنة سقطوا ) أي بما قالوا وفعلوا ، فصارت ظرفاً لهم فوضعوا انفسهم بذلك في جهنم ، وفي التعبير بالسقوط دلالة على انتشابهم في أشراك الفتنة انتشاباً سريعاً بقوة فصار يعسر خلاصهم معه ) وإن جهنم لمحيطة ( اي بسبب(3/330)
صفحة رقم 331
إحاطة الفتنة - التي اسقطوا انفسهم فيها - بهم ، وإنما قال : ( بالكافرين ( تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي حملهم على ذلك .
ولما كان كأنه قيل : ما الفتنة التي سقطوا فيها فاحاطت بهم جهنم بسببها ؟ قيل : ( إن ) أي هي كونهم أن ، ويجوز أن يكون علة لإحاطة جهنم بهم ، وكأنهم - لأجل أنهم من الأوس والخزرج فالأنصار إقاربههم - خصوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالعدواة وشديد الحنق ، وكذا ايضاً كان لا يسوءهم ويسرهم من الحسنة والسيئة إلا ما له وقع - بما اذن له التعبير بالإصابة دون المس - لا ما دونه ، حفظاً لقلوب أقاربهم ورعياً لأسرار نسائهم ، فقال إشارة إلى ذلك : ( تصبك ) أي بتقدير الله ذلك ) حسنة ) أي بنصر أو غيره ) تسؤهم ) أي لما في قلوبهم من الضغن والمرض ) قد اخذنا أمرنا ) أي عصينا الذي امرنا ولم نسلم قيادنا لأحد فنكون كالأعمه ، لأن الأمر الحادثة وضد النهي ، ومنه الأمير ، رجل إمرّ وإمرة - بتشديد الميم المفتوحة مع كسر الهمزة وتفتح : ضعف الرأي ، يوافق كل أحد على ما يريد من امره كله ، وهو الأعمه وزناً ومعنى ) من قبل ) أي قبل ان تكون هذه المصيبة ، فلم نكن مؤتمرين بأمر فيصيبنا بيد الآمر ، فلما عصوه كانوا كأنهم قد أخذوه منه .
ولما كان قولهم هذه بعيداً عن الاستقامة ، فكانجديراً بأن لا يقال ، وإن قيل كان حقيقاً بأن يستقال بالمباراة إلى الرجوع عنه والاستغفار منه ، اشار تعالى إلى تماديهم فيه فقال : ( ويتولوا ) أي عن مقامهم هذا الذي قالوا فيه ذلك وإن طال إلى أهاليهم ) وهم فرحون ) أي لمصيبتهم لكفرهم ولخلاصهم منها .
ولما كان قولهم هذا متضمناً لتوهم القدرة على الاحتراس من القدر ، قال تعالى معلماً بجوابهم مخاطباً للرأس لعلو المقام : ( قل ) أي إنا نحن لا نقول مقالتكم لمعرفتها بأنا لا نملك ضراً ولا نفعاً ، بل نقول : ( لن يصيبنا ( اي من الخير والشر ) إلا ما كتب ) أي قدر ) الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، ولما كان قضاء الله كله خيراً للمؤمن إن اصابته سراء شكر وإن اصابته ضراء صبر ، عبر باللام فقال : ( لنا ) أي لا يقدر على رده عنا إلا هو سبحانه ) هو ) أي وحده ) لنا ) أي لا جميع امورنا ، لا قريب منا سواه ، فلو أراد لدفع عنا كل مصيبة لأنه أقرب إلينا منها ، لا نصل إلينا بدون علمه وهو قادر ، فنحن نعلم ان له في ذلك لطيف سرية تتضاءل دونها ثواقب الأفكار وتخسأ عن الإحاطة بتحقيقها نوافذ الأبصار فنحن لا نتهمه في قضائه لأنا(3/331)
صفحة رقم 332
قد توكلنا عليه وفوضنا امورنا إليه ، والموكل لا يتهم الوكيل ) وعلى الله ) أي الملك الأعلى لا غيره ) فليتوكل المؤمنون ) أي كلهم توكلاً عظيماً جازماً لا معدل عنه ، فالفصيل بين المؤمن والكافر هو إسلام النفس إليه وحده بلا اعتراض عليه يقلبها كيف يشاء ويحكم فيها بما يريد .
التوبة : ( 52 - 54 ) قل هل تربصون. .. . .
) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ( )
ولما تضمن ذلك ان سراءهم وضراءهم لهم خير من حيث إن الرضى بمر القضاء موجب لإقبال القاضي على المقتضي عليه بالرأفة والرحمة ، صرح بذلك في قوله : ( قل هل تربصون ( اي تنتظرون انتظاراً عظيماً ) بنا إلا إحدى الحسنيين ) أي وهي أن نصيب أعداءنا فنظفر ونغنم ونؤخر أو يصيبونا بقتل أو غيره فنؤجر ، وكلا الأمرين حسن : أما السراء التي توافقوننا على حسنها فأمرها واضح ، وأما الضراء فموجبة لرضى الله عنا ومثوته لنا بالصبر عليها ورضانا بها إجلالاً له وتسليماً لأمره فهي حسنى كما نعلم لا سوأى كما تتوهمون ) ونحن نتربص بكم ) أي ننتظر إحدى السوأيين وهي ) إن يصيبكمالله ) أي الذي له جميع القدرة ونحن من حزبه ) بعذاب من عنده ) أي لا تسبب لنا فيه كما أهلك القرون الأولى بصائر للناس ) أو بأيدينا ) أي بسببنا من قتل أو نهب وأسر وضرب وغير ذلك لأن حذركم لا يمنعكم من الله ، وكل ذلك مكروه عندكم .
ولما تسبب عن هذا البيان ان السوء خاصة بحزب الشيطان ، حسن ان يؤمروا تهكماً بهم بما أداهم إلى ذلك تخسيساً لشأنهم فقال : ( فتربصوا ) أي أنتم ) إنا ) أي نحن ) معكم متربصون ) أي بكم ، نفعل كما تفعلون ، والقصد مختلف ، والآية من الاحتباك : حذف اولاً الإصابة للدلالة عليها بما أثبت ثانياً ، وثانياً إحدى السوأيين للدلالة عليها إثبات الحسنيين أولاً .
ولما كان جملة ما يصبيهم منهم من العذاب الإتفاق بتزكية ما طهر من أموالهم بالإعانة في سبيل الله خوفاً من اتهامهم بالنفاق في اقوالهم ليفتدوا أإنفسهم به من السفر ، قال : ( قل أنفقوا ) أي أوجدوا الإنفاق لكل ما يسمى إنفاقاً ) طوعاً أو كرهاً ) أي مظهرين الطواعية أو مظهرين الكراهية ؛ ولما كان الإعراض عنهم غنما سببه كفرهم لا(3/332)
صفحة رقم 333
إنفاقهم ، لم يربط الجواب بالفاء بل قال : ( لن ينتقل منكم ) أي يقع تقبل لشيء يأتي من قبلكم أصلاً من أحد له أن يتقبل كائناً من كان ، ولذلك بناه للمفعول ، لأن قلوبكم كارهة ليست لها نية صالحة في الإنفاق ولا في غيره ، فانقسام إنفاقكم إلى طوع وكره إنما هو باعتبار الظاهر ، وكأنه عبر بالتفعل إشارة إلى قبوله منهم ظاهراً ولما كان غير مقبول باطناً على حال من الأحوال علل بقوله : ( إنكم كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) قوماً فاسقين ) أي عريقين في الفسق بالغين انهى غاياته .
ولما علل بالعراقة في الخروجعن الطاعة ، بينه في قوله : ( وما منعهم أن تقبل ( اي باطناً ، ولذا عبر بالمجرد ، ولذا بناه للمفعول لأن النافع القبول في نفس الأمر لا كونه من معين ) منهم نفقاتهم ) أي وإن جلت ) إل أنهم كفروا بالله ) أي الذي له جميع صفات الكمال من الجلال والجمال لفساد جبلاتهم وسوء غرائزهم .
ولما كان قبول النفقات مهيئاً للطهارة التي تؤثرها الصلاة ، كان السياق لعدم قبولها - ليتسبب عنه النهي عن الصلاة عليهم - أبلغ لأنه أدل على الخبث ، فأكدج كفرهم بزيادة الجار إشعاراً بأن الكفر بكل منهما على حياله مانع فقال : ( وبرسوله ) أي فسقهم بانهم غير مؤمنين وهو السبب المانع بمفرده من القبول : ثم قدح في شاهدي ما يظهرون من الإيمان وهما الصلاة والزكاة وغيرهما من الإنفاق في الخيرات بما هو لازم للكفر ودال عليه فقال : ( ولا يأتون الصلاة ) أي المفرضة وغيرها ) إلا هم كسالى ) أي في حال كسلهم ، لا يأتونهم قط بنشاط ) ولا ينفقون ) أي نفقة من واجب أو غيره ) إلا هم كاهرون ) أي في حال الكراهة وإن ظهر لكم خلاف ذلك ، وذلك كله لعدم النية الصالحة واعتقاد الآخرة ، وهذا لا ينافي طوعاً لأن ذلك بحسب الفرض أو الظاهر وهذا بحسب الواقع .
التوبة : ( 55 - 59 ) فلا تعجبك أموالهم. .. . .
) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ( ( )
ولما انتفى عن أموالهم النفع الأخرن الذي هو النفع ، تسبب عن ذلك الزهد فيها الموجب لعدم الالتفات إليها وعدم اعتقاد أن فيها بركة ودلالة على خير ، فقال - مبيناً ما(3/333)
صفحة رقم 334
فيها من الفساد الذي يظن أنه صلاح : ( فلا ( - بفاء السبب ، فالسياق ابلغ من سياق الآتية بعد النهي عن الصلاة عليهم ) تعجبك أموالهم ) أي وإن أنفقوها في سبيلي وجهزوا بها الغزاة. فإن ذلك عن غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية ، وإنما هو لما اذلهم من عزة الإسلام واخافهم من سطوة الانتقام فهو من جملة العذاب ، وعطف عليها الأولاد لمشاركتها لها في الملاذ والقوة والاستعمال في الجهاد ، فقال مؤكداً للنفي بإعادة النافي : ( ولا أولادهم ( فكأنه قيل : فماذا يراد بإعطائهم ذلك ؟ ولو منعوها واعطيها المخلصون لكان قوة للدين ، فقال : ( إنما يريد الله ( اي يوقع الإرادة لهم بها الملك الذي له الإحاطة بجميع الحكمة كما أن له الإحاطة بتمام القدرة ، وأبلغ في الحصر بإدخال اللام في قوله : ( ليعذبهم ) أي لأجل ان يعذبهم ) بها في الحياة ) أي وإن كان يتراءى أنها لذيذة ، لأن ذلك من شأن الحياة فإنما هي لهم موت في الحقيقة ) الدنيا ) أي تارة بجمعها وتربتها وتارة ببذلها كرهاً في سبيل الله أو في تزكيتها وتارة بغيرذلك ) وتزهق ) أي وغنما يريد بتمكنهم منا لأجل أن يخرج وقت الموت بغاية الصعوبة ) أنفسهم ) أي بسببها ) وهم ( اي والحال انهم ) كافرون ( اي عريقون في الكفر ، وهكذا كل من اراد استدراجه سبحانه فإنه في الغالب يكثر اموالهم وأولادهم لنحو هذا لأنهم إذ رأوا زيادتهم بها على بعض المخلصين ظنوا لدليله وأوضح لسبيله ؛ فالحاصل أنه ظهر لهم أنهم اكرموا بها وخفي عنهم أنها سبب لعذابهم في الحياة باتكالهم عليها ، وفي الممات بصعوبته عليهم المشار إليه بالزهوق ، وفي الآخرة بسبب موتهم على حال الكفر باستدراجهم بها ، وأما المؤمن فلا يموت حتى يرى من الثواب ما يسليه عن كل شيء فيشتاق غلى لقاء الله وتخرج نفسه وهو في غاية المحبة لخروجها لأن البدن عائق له عما يرى .
ولما وضح بهذه الأمور منابذتهم للمؤمنين وخروجهم من ربقة الدين المصحح لوصفهم بالفسق ، أوضح لبساً آخر من احوالهم يقيمونه بالأيمان الكاذبه فقال : ( ويحلفون ) أي طلبوا لكم الفتنة والحال انهم يجدون الإيمان ) بالله ) أي على ما له من تمام العظمة ) إنهم ) أي المنافقين ) لمنكم ) أي أيها المؤمنون على اعتقادكم ياطناً كما هم ظاهراً ) وما ) أي والحال انهم ما ) هم ( صادقين في حلفهم انهم ) منكم ولاكنهم ) أي مع أن لهم قوة وقياماً يحاولونه ) يفرقون ) أي يخافون منكم على دمائهم خوفاً عظمياً يفرق همومهم فهو الملجئ لهم غلى الحلف كذباً على(3/334)
صفحة رقم 335
التظاهر بالإسلام ، فكأنه قيل : فما لهم يقيمون بيننا والمبغض لا يعاشر من يبغضه ؟ فقيل : لأنهم لا يجدون ما يحميهم منكم ) لو يجدون ملجأً ) أي شيئاً يلجؤون إليه من حصن أو جبل أو قوم يمنعونهم منكم ) أو مغارات ( في الجبال تسعهم ، جمع مغارة - مفعلة من غار في الشيء - غذا دخل فيه ، والغور : ما انخفض من الأرض ولما كانت الغيران - وهي النقوب في الجبال - واسعة والوصول إليها سهلاً ، قال : ( أو مدخلاً ) أي مكاناً يدخلونه يغاية العسر والصعوبة لضيقه أو لمانع في طريقه أو قوماً يداخلونهم وإن كانوا يكرهونهم - بما أرشد إليه التشديد : ( لولوا إليه ) أي لا شتدوا في الدابة اليت كانت مسرعة في ظواعية راكبها فإذا هي قد نكصت على عقبها ثم أخذت في غير قصده بغاية الإسرلع ونهاية الرغبة والدعية لا يردها بئر تقع فيه ولا مهلكة ولا شيء .
ولما قرر حال من يتخلف عن الجهاد ، وربما بذل ماله افتداء لسفره ، شرع في ذكر من يشاركه في الإنفاق ولالنفاق ويخالفه فقال : ( ومنهم من يلمزك ( اي يعيبك عند مشاكليه على طريق الملازمة في ستر وخفاء أو تظاهر وقلة حياء ) في الصدقات ( اي اللاتي تؤتيها لأتباعك ، ولما اخبر عن اللمز ، أخبر انه لحظ نفسه لا للدين فقال : ( فإن أعطوا منها رضوا اي عنك ) وإن لم يعطوا منها ( فاجؤوا السخط الذي يتجدد في كل لحظة ولم يتخلفوا عنه أصلاً ، وعبر عن ذلك بقوله : ( إذا هم يسخطون ( فوافقوا الأولين في جعل الدنيا همهم ، وخالفوهم في أن أولئك أنفقوا ليتمتعوا بالتخلف وهؤلاء طلبوا ليتنعموا بنفس المال الذي يأخذون ؛ قيل : إنها نزلت في ذي الخويصره لما قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقسم غنائم حنين : اعدل يامحمد فإني لم ارك تعدل ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ويلك ومن يعدل غذا لم أعدل ؟ ) وسيأتي حديثة .
ولما أخبر تعالى عن حالهم السيئ الدنيء الذي لا يجديهم في الدنيا ويهلكهم في الأخرى ، نبههم على ما هو الأصلح لهم من الحال الشريف السني فقال : ( ولو أنهم ) أي المنافقين ) رضوا ما آتاهم الله ) أي المنعم بجميع النعم لن له جميع الكمال اي مع الرضى ) حسبنا الله ( الذي عظمته من عظمته قل ذلك الؤتى أو كثر طال زمنه أو قصر ) وقالوا ( اي مع الرضى ) حسبنا الله ) أي كافينا لأن له جميع العظمة فهو الغنى المطلق ولما كانت الكفاية تارة بالتنجيز العاجل وتارة بالوثوق بالوعد الاجل ، بين(3/335)
صفحة رقم 336
أن الثاني هو المراد لأنه أدل على الإيمان فقال : ( سيؤتينا الله ( اي الملك الأعظم بوعد لا خلف فيه واعتقدوا أن لا حق لأحد فقالوا : ( من فضله ورسوله ( اي الذي لا يخالف أمره ، على ما قدر لنا في الأزل ؛ ثم عللوا ذلك بقولهم : ( إنا إلى الله ) أي المستنتج لصفات الكمال وحده ) راغبون ) أي عريقون في الرغبة ، فلذلك نكتفي بما يأتي من قبله كائناً ما كان ، أي لكان ذلك خيراً لهم لأنه لا ينالهم إلا ما قسم سبحانه لهم شاؤوا أو أبوا
التوبة : ( 60 - 62 ) إنما الصدقات للفقراء. .. . .
) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( ( )
لما أخبر عن لمزهم في الصدقات وقرر ما هو خير لهم إرشاد إلى النجاة ، علل فعل رسول الله عليه وسلم فيها وبين أنه لا يفعل غيره لأنه الحق الذي لا يجوز في شرعه الأكمل غيره لمزوا أو تركوا زهدوا أو رغبوا فقال معبراً باداة القصر على ما ذكر : ( إنما الصدقات ) أي هذا الجنس بجميع ما صدق من أفراده ، والظاهر أنه قدم الأهم فالأهم ، فلذا قال الشافعي : إن الفقير اشدهم حاجة لكونه ابتدأ به ، والظاهر أنه قدم الأهم ، فلذا قال الشافعي : إن الفقير أشدهم حاجة لكونه ابتدأ به ، فقال : ( للفقراء ( اي الذين لا شيءء لهم أو لهم شيء يقع موقعاً من كفايتهم ) والمساكين ) أي الذين لا كفاية لهم بدليل ) ) أما السفينة ( ) [ الكهف : 79 ] وأما ) ) مسكيناً ذا متربة ( ) [ البلد : 16 ] فتقييده دل على أن المطلق بخلافة ) والعالمين عليها ( اي المؤتمنين في السعاية والولاية على روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : ( بعث إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشيء فقسمه بين اربعة وقال : أتألفهم ، فقال رجل : ما عدلت فقال : ( يخرج من ضئضىء هذا اليوم يمرقون من الدين ( .
وفي رواية : فاستأذنه رجل في ضرب عنقه فقال : ( لا ، دعه فإن له اصحاباً يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم ) - الحديث. ( ولئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ولا يقال : إن العلة مقتضية لا للكف عنهم فإن عمله بالمقام(3/336)
صفحة رقم 337
الخضري - كما تقدم - انه ما من كرامة لنبي إلا وله ( صلى الله عليه وسلم ) مثلها أو أعلى منها بنفسه أو بأحد من أمته ولما فرغ من هذه الأصناف الأربعة الذين يعطون الصدقة في أيديهم يتصرفون فيها كيف شاؤوا ، كما دل عليه التعبيرباللام ، ذكر الذين يعطون الصدقة لقضاء ما بهم كما دل عليه التعبيرب ( في ) فقال : ( وفي الرقاب ) أي والمكاتبين بسبب فك رقابهم من الرق ) والغامرين ) أي الذين استدانهوا في غير معصية ، يصرف ما يعطونه إلى قضاء ديونهم فقط ) وفي ( اي والمجاهدين في ) سبيل الله ) أي الذي له الأمر كله بالنفقة والحمل والإعانة بالسلاح وغير ذلك ، ونقل القفال عن بعض الفقهاء انه عمم السبيل فأجاز صرفه إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وعمارة المساجد ونحوها ) وابن السبيل ( وهو المسافر المنقطع عن بلده ، يعطى ما يوصله غليه ، ففيه إشارة إلى ان رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) لم يفعل ما أدى إلى لمزهم له بسببه إلا بأمر حقاً ، فإنا قد عينّا له أهل الصدقات فهو لا يعدل عنهم لشيء من الأشياء لأنه واقف عند ما يرضينا ، فإن كانوا منهم أعطاهم وإلا منعهم رضي من رضي وسخط من سخط ، وقد فرض ذلك ، أو ثابته لفقراء حال كونها ) فريضة ( كائنة ) من الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لعلمه بان في ذلك اعظم صلاح ، وهذا كالزجر عن مخالفة الظاهر ) والله ( اي الذي له جميع صفات الكمال ) عليم ) أي بالغ العلم بما يصلح الدين والدنياويؤلف بين قلوبالمؤمنين ) حكيم ( اي فهو يجعل افعاله من الإحكام بحيث لا يقدر غيره على نقضها ؛ قال أبو حيان : ( إنما ) إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها ، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به ، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه .
وحكمه الزكاة من جهة المالك ان المال محبوب لأنه يحصل المحبوب والتمادي في حبه يوجب الإعراض عن الله المعطي له ، فكان من الحكمة تذكير المالك له بالمالك الحقيقي في أنه اوجب عليه إخراج طائفة منه ليكف منه انصباب النفس بالكلية إليه ويطهر النفس عن محبتها له ويطهره عن محض الإنفاق في الشهوات ، ومن جهة الآخذ أنه لما اجتمعت حاجته إليه وحاجة المالك - ولو احتملاً - كان هناك سببان للتسلط على المال : احدهما اكتساب المالك له ، والثاني احتياج الآخذ إليه ، فروعي السببان بقدرالإمكان ، ورجح المالك بغبقاء الكثير ، وصرف إلى الآخذ اليسير. وأجرى الشافعي الآية على ظاهرها فقال : إن اخراجها ذو المال سقط سهم العامل مع سهم المؤلفة وصرف غلى الستة الأصناف ، وإن قسم الإمام فعلى سبعة ، ويجب أن يعطى من كل صنف ثلاثة أنفس ، ومن لم يوجد من الأصناف رد نصيبه على(3/337)
صفحة رقم 338
الباقين ويستوي بين الصناف لا بين آحاد الصنف .
وقال أبو حنيفة : يجوز صرف الكل لواحد من الأصناف لأن الآية اوجبت ان ل تخرج الصدقة عنهم ، لا ان تكون في جميع الأصناف - وهو قول عمر بن الخطاي وحذيفة وابن علباس رضي الله عنهم وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية وميمون بن مهران .
ولما بين الصنفين السالفين ، وختم امرهما بصفتي العلم والحكمة ، أتبعهما بصنف آخر يؤذي بما يجعله نقصاً في صفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فليزم الطعن في علم مرسله وحكمته فقال : ( ومنهم الذين يؤذون النبي ) أي الذي أعلى الله مقداره ، فهو ينبئه بما يريد سبحانه من خفايا الأسرار ؛ ولما أخبر بمطلق الأذى الشامل للقول والفعل ، عطف عليه قوله : ( ويقولون هو ) أي من فرط سماعه لما يقال له ) أذن ( ومرادهم أنه يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد - كما سمي الجاسوس عيناً ؛ قال أبو حيان : كان خذام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخرين يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف ان يبلغه فيوقع بنا ، فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا فإن محمداً اذن سامعة ، ثم نأتيه فيصدقنا ، فنزلت ، وقيل غير ذلك .
رجل أذن - أذا كان يسمع مقال كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع - انتهى. ومرادهم انه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يعرف مكر من يمكر به وخداع من يخادعه وكذبوا ، وهو اعرف الناس بذلك ، ولكنه يعرض عند المصالح ، لا يليق بمحاسن الدين يأتونه بمحاسن الدين غيرها ، بينها تعالى بقوله : ( قل أذن خير ( ثم بين ان نفع ذلك عائد إليهم بقوله : ( لكم ( ثم فسر ذلك بقوله : ( يؤمن ( اي يوقع الإيمان للملائكة الذين يأتونه عن الله من التكذيب بأن يصدقهم معترفاً ) بالله ) أي بسبب ما يخبرونه عنه به حق الإيمان لما له من كمال العلم بما له سبحانه من صفات الجلال والإكرام ؛ وحاصله ان فعل افيمان ضمن فعل التصديق ثم حذف وانتزعت منه حال أقيمت مقامه ثم حذفت واتى بصلة تدل عليها كما قالوا في قوله تعالى
77 ( ) ولتكبوا الله على ما هداكم ( ) 7
[ البقرة : 185 ] أن التقدير : حامدين على ما هداكم ، فالتقدير هنا : يؤمن مصدقاً بالله ، فهدذا حقيقته وهويثمر محبة المؤمنين وولايتهم ، ولذا اتبعه قةله : ( ويؤمن للمؤمنين ) أي الراسخين ، يوقع الإيمان لهم من التكذيب بأن يصدقهم في كل ما يخبرونه به مما يحتمل التصديق ، وذلك لأجل مصالحهم والتأليف بينهم مع ما ثبت من صدقهم ، فإنه لو حملهم على عقله ومبلغ علمه يحبه الكاذب وعاقب الخائن بمجرد علمه وتفرسه ، لقصرت عن ذلك غالب الأفهام وتاهت بسببه اكثر الأوهام ، فنفرت القلوب ووقع من الأغلب الاتهام .
ولما كان التصديق بوجود الإله على ما له من صفات الكمال المقتضي للأمر والنهي عدي بالباء ، وهنا كان التصديق إنما هو للإخبار بأي(3/338)
صفحة رقم 339
شيء كان عدي باللام وأشير - بقصر الفعل وهو معتد - إلى مبالغة في التصديق بحيث كأنه لا تصديق غيره .
ولما بين سبحانه أن تصديقه ظاهراً وباطناً إنما هوللراسخين في الإيمان ، بين ان تصديقه لغيرهم إنما هو الظاهر فقال : ( ورحمة ) أي هو رحمته ) للذين آمنوا ) أي اظهروا الإيمان بألسنتهم ) منكم ( فهو - والله أعلم - إشارة إلى المنافقين ومن في حكمهم ممن جزم لسانه وقلبه مزلزل ، أي أن إظهار تصديقهم قبولاً لما ظهر منهم وستر قبائح اسرارهم سبب للكف عن دمائهم ، وإظهار تصديقهم قبولاً لما ظهر منهم وستر قبائح أسرارهم سبب للكف عن دمائهم ، وإظهار المؤمنين لمقتهم ربما كان ذلك سبباً لصدق إيمانهك بما يرون من محاسن الإيمان بتمادي الزمان ، ولا تستبعد كون التعبير بالماضي إشارة إلى المنافقين لا سيما بعد التعبير باسم الفاعل ، فقد قال الإمام أبو الحسن احرالي في كتابه المفتاح ما نصه : الباب الرابع في رتب البيان عن تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان وترديه في درك الكفران : اعلم أن الله محيط بكل شيء خلقاً وأمراً اولاً وآخراً ظاهراً وباطناً وهو حمده ، وله علو في ظهور أمره وكبير خلقه ، واحتجاب في مقابل ذلك من خلقه وأمره بما أبداه من حكمته وأسباب هداه وفتنته ، وذلك العلو هو إلهيته ، والاحتجاب هو ملكه ، وبينهما إقامة كل خلق لما خلق له تأييد كل أمر من الأكرين لما أقيم له ، وذلك هو ربانيته ولكل أقرب في مدد الحجاب اختصاص وذلك هي نقمة ، ولكل من تنزلاته العلية ظاهراً وباطناً أمر خاص ، ولكل امر خلق ، يرد بيان القرآن بناء على جملة ذلك ، فاردأ الأحوال لهذا المشستخلف المحل الذي سمي فيه بالإنسان ، وهو حيث أنس بنفسه وغيره ونسي عهد ربه ، فيرد لذلك بناؤه بالذم في القرآن
77 ( ) قتل الإنسان ما أكفره ( ) 7
[ عبس : 17 ]
77 ( ) إت الأنسان لربه لكنود ( ) 7
[ العاديات : 6 ] ثم المحل الذي تداركه فيه تنبه لسماع الزجر من ربه ، وهو له بمنزلة سن الميّز لابن سبع ، ولا يقع غلا عن اجتماع وتراء ، وذلك هو السن المسمون فيه بالناس لنوسهم ، أي ترددهم بين سماع الزجر من ربهم وغلبة أهوائهم عليهم ، فيرد لذلك بناؤهم بذم اكثرهم في القرآن
77 ( ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون - ولا يشكرون ( ) 7
[ الأعراف : 187 ] ثم المحل الذي يتحقق لهم قبول وسماع وإيمان لغائب الأمر والخلق ، لكنهم يتزلزلون عنه كثيراً عند كل عارضة نيل خادعةرفعة ، وهو لهم بمنزلة سن المحتلم الذي قد ذاق طعم بدو النطفة من باطنه(3/339)
صفحة رقم 340
الناجم العقل للنظر في حقائق المحسوسات ، وذلك هو السن الذي يسعون فيه ) الذينآمنوا ( وهوأول سن التلقي ، فلذلك جميع آداب القرىن وتعليمه إنما مورده أهل هذا السن ، كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : إذا سمعت الله عزل وجل يقول ) يأيها الذين آمنوا ( فأعرها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهي عنه ، وكما ان ما يخص البالغ ، كذلك خطاب ) الذين آمنوا ( لم يصل إليه الناس بعد ، وخطاب الناس قد جاوزه ) الذين آمنوا ( لأنهم قد انزجروا بما قبلت قلوبهم عما ينزجر عنه الناس ، وقد ائتمروا بما يأتمر به الناس ؛ وهذه الأسنان الخالية عند اولي البصائر ، وخاص خطابها أشد ظهوراً من اسنان الأبدان عند أصحاب الأبصار ، وعدم التبصرة بهذه المراتب في الأحوال والبيان هي أقفال القلوب المانعة من تدبر القرآن ، وكذلك ما فوق سن ( الذين آمنوا ) من سن ) الذين يؤمنون ( وهم في أول حد القرب منزلة بلوغ الأشد ، وسن ) الذين آمنوا ( و ) الناس ( في مدد حد البعد ولذلك يخاطبون بحرف ( يا ) المرسلة إلى حد البعد :
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم تؤمنون بالله ورسوله ( ) 7
[ الصف : 10 ] وفوق ذلك سن المؤمنين وأدنى قرباً ، ولذلك لم يرد في القرآن في خطابهم ) يا ( البعد ، وهذا السن بمنزلة الاكتهال وسن الشيب ، وتمام سنهم ) المؤمنون حقاً ( وكذلك إلى سن ) المحسنين ( إلى غيب سن ) الموقنين ( إلى ما وراء ذلك ، فإن أسنان الجسم أرابيع ، وأسنان القلب اسابيع ، يعرفها من تطور فيها ، ويجهلها من نبت سن قلبه على الجهل وتطور سن جسمه إلى الهرم ( يهرم ابن آدم ويشيب منه اثنتان : الحرص والأمل ) فالحرص فقره ولو ملك الدنيا ، والأمل همه وتعبه ، فمن لم يتحقق اسنان القلب وتفاوت خطابها لم ينفتح له الباب إلى فهم القرآن ، ومن لم يتضح له انتهى .
ولما بين ما لمن صدقه باطناً أو ظاهراً من الرحمة ، بين ما على من كذبه فآذاه من النفقه فقال : ( والذين يؤذون ) أي هؤلاء ومن غيرهم ) رسول الله ) أي الذي اظهر - وهوالملك الأعلى - شرفه وعظمته بالجمع بين الوصفين وأعلاه بإضاففته إليه ، وزاد في رفعته بالتبير باسمه الأعظم الجامع ، وهو واسطة بين الحق والخلق في إصلاح أحوالهم فغنما يستحق منهم الشكر والإكرام لا الأذى والإيلام ولما كان أذاهم مؤلماً جعل جزاءهم من جنسه فقال : ( لهم عذاب أليم ( ثم علل ذلك باستهانتهم بالله ورسوله ، واخبر يخشون على دمائهم فيصلحون ظواهرهم(3/340)
صفحة رقم 341
حفظاً لها بالإيمان الكاذبة فقال : ( يحلفون بالله ) أي الذي له تمام العظمة ) لكم ( اي انهم ما آذوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خصوصاً ولا أولادكم بالمخالفة عموماً ؛ وبين غاية مرادهم بقوله : ( ليرضوكم ( ولما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بأذن بالمعنى الذي أرادوه ، بين أنه لم يكن راضياً بإيمانهم لعدم وقوع صدقتهم في قلبه ولكنه اظهر تصديقهم لما تقدم من الإصلاح فقال : ( الله ) أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ) ورسوله ) أي الذي هو اعلى خلقه ، وبلغ النهاية في تعظيمة بتوحيد الضمير الدال على وحدة الراضي لأن كل ما يرضي أحدهما يرضي الآخر فقال : ( أحق ان ) أي بأن ) يرضوه ( ولما كان مناط الإرضاء الطاعة ومدار الطاعة الإيمان ، قال معبراً رالوصف لأنه مجزأه : ( إن كانوا مؤمنين ( اي فهم يعلمون انه أحق بالإرضاء فيجتهدون فيه ، وذلك إشارة إلى أنهم إن جددوا إرضاء كل وقت كان دليلاً على إيمانهم ، وإن خالفوه كان قاطعاً على كفرانهم .
التوبة : ( 63 - 67 ) ألم يعلموا أنه. .. . .
) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ( )
ولما بين أن حلفهم هذا إنما هو لكراهة الخزي عند المؤمنين عند المؤمنين وبين من هو الأحق بأن يرضوه ، أقام الدليل على ذلك في استفهام إنكار وتوبيخ مبيناً أنهم فرّوا من خزى منقض فسقطوا في خزي دائم ، والخزي : استحياء في هوان ، فقال : ( ألم يعلموا ( اي لدلاتهم على الأحق بالإرضاء. ولما كان ذكر الشيء مبهماً ثم مفسراً أضخم ، أضمر للشأن فقال : ( أنه ) أي الشأن العظيم ) من يحادد الله ( وهو الملك الأعظم ، ويظهر المحاددة - بما أشار إليه الفك ) ورسوله ) أي الذي عظمته ، بأن يفعل معهما فعل من يخاصم في حد أرض فيريد أن يغلب على حد خصمه ، يلزمه أن يكون في حد غير حده ) فإن له نار جهنم ( اي فكونها له جزاء له على ذلك حق لا ريب فيه ) خالداً فيها ) أي دائماً من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة ابداً ؛ ثم نبه على عظمة(3/341)
صفحة رقم 342
هذا الجزاء بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العبيد الوصف العظيم الشأن ) الخزي العظيم ( ولما علل فعل المسنهينين ، اتبعه تعليل أمر صنف آخر أخف منهم نفاقاً بما عندهم مما يقارب التصديق فقال : ( يحذر المنافقون ( وعبر بالوصف الدال على الرسوخ تحذيراً لهم من أدنى النفاق فإنه يجر إلى اعلاه ) أن تنزل ( ولما كانت السورة الفاضحة لهم داهية ونائبة من نوائب الدهر وشدائده ، عدى الفعل بعلى فقال : ( عليهم سورة ) أي قطعة من القرآن شديدة الانتظام ) تنبئهم ) أي تخبرهم إخبار عظيماً مستقصي ) بما في قلوبهم ( لم يظهروا عليه أحداً من غيرهم أو أحداً مطلقاً ، لعل هذا الصنف كانوا يسلفون الأيمان لعلها تشكك بعض الناس أو تخفف عنهم إذا نزل ما يهتكهم ، روي أنهم كانوا يقولون ما يؤدي ويدل على النفاق ويقولون : عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا ، وقال بعضهم بعد كلام قالوه : والله إني لأرانا شر خلق الله ولوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا .
ولما كان حذرهم مع العمل ينافه من كلام النفاق فعل المستهزئ ، قال مهدداً : ( قل استهزءوا ) أي افعلوا فعل المستهزئ بغاية الرغية ) إن الله ) أي المحيط بكمال العلم وتمام القدرة ) مخرج ( اي كانت له وصف إخراجه ) ما تحدون ( اي إخراجه من قبائحكم ؛ وعن الحسن : كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة ، حفرت ما في قلوب المنافقين وأظهرته .
ولما وصفهم بالنفاق ، حققه بعدم مبادرتهم إلى التوبة التي هي فعل المؤمنين ، وباجترائهم على الإنكار مع كون السائل لهم منْ بلغ الغاية في الجلال والوقار والكمال فقال : ( ولئن سألتهم ) أي وأنت من يجب أن يصدفه مسؤوله عماعما أخرجت السورة مما أظهروا بينهم من الكفر ، وذلك حين قال بعضهم : انظروا إلى هذا ارجل يظن انه يفتح قصور الشام وحصونها هيهات فأعلمه الله فقال : احسبوا عليّ الركب فسألهم ) ليقولن إنما ) أي ما قلنا شيئاً من ذلك ، إنما ) كنا نخوض ) أي نتحدث على غير نظام ) ونلعب ) أي بما لا خرج علينا فيه ويحمل عنا ثقل الطريق ، فكأنه قيل : فماذا يقال لهم إذا حلفوا على ذلك على العادة ؟ فقال : ( قل ( اي لهم تقريراً على استهزائهم متوعداً لهم معرضاً عما اعتذروا إعلاماً بانه غير أهل لأن يسمع جاعلاً لهم كأنهم معترفونبالاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير ، وذلك إنما يستقيم(3/342)
صفحة رقم 343
بعد وقوع الاستهزاء وثيوته تكذيباً لهم في قولهم : إنك إذن ، بالمعنى الذي أرادوه ، وبياناً لما في إظهارك لتصديقهم من الرفق بهم ) أبالله ) أي هو المحيط بصفات بصفات الكمال ) وآياته ) أي التي لا يمكن تبديلها ولا تخفى على ذي بصر ولا بصيرة ) ورسوله ) أي الذي عظمته من عظمته وهو مجتهد في إصلاحكم وتشرفكم وإعلائكم ) كنتم ) أي دائماً ) تستهزءون ( ولما حقق استهزاءهم ، أنتج قوله : ( لا تعتدروا ) أي لا تبالغوا في إثبات العذر ، وهو ما ينفي الملام ، فإن ذلك لا يغنيكم وإن اجتهدتم لأن القطع حاصل بأنكم ) قد كفرتم ) أي بقولكم هذا ، ودل - على أن كفرهم احبط ما كان لهم من عمل - بنزع الخافض تشديداً على من نكث منهم تخويفاً له تحقيقاً بحال من أصر فقال : ( بعد إيمانكم ) أي الذي ادعيتموه بألسنتكم صدقاً من بعضكم ونفاقاً من غيره .
ولما كان الحال مقتضياً لبيانما صاروا إليه بعد إكفارهم من توبتهم أو إصرارهم ، بين أنهم قسمان : أحدهما مطبوع على قلبه ومقضي توبته وحبه ، وهذا الأشرف هو المراد بقوله بانياً للمفعول إعلاماً بأن المقصود الأعظم هو الفعل ، لا بالنظر إلى فاعل معين : ( إن يعف ( لأن كلام الأعلى والأدنى ) عن طائفة منكم ) أي لصلاحيتها للتوبة ) تعذب طائفة ) أي قوم ذوو عدد فيهم أهلية الاستدارة ، وقرأ عاصم ببناء الفعلين للفاعل على العظمة ) بأنهم ) أي بسبب أنهم ) كانوا مجرمين ) أي كسبهم للذنوب القاطعة عن الخير صفة لهم ثايته لا تنفك ، فهم غير من المنافقين : اثبان يستهزئان بالقرآن والرسول ، والآخر يضحك ، قيل : كانوا يقولون : إن محمداً يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ، ما أبعده من ذلك وقيل : كانوا يقولون : إن محمداً يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين في المدينة قرآن ، وإنما هو قولهوكلامه ، فأطلع الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك فقال : احسبوا الركب عليّ ، فدعاهم وقال لهم : قلتم كذا وكذا ؟ فقالوا : ( إنما كنا نخوض ونلعب ( اي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق باحديث واللعب ، قال ابن اسحاق : والذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأسجعي ، يقال : هو الذي كان يضحك ، ولا يخوض زكان يمشي مجانباً لهم وينكر بعض مايسمع ، فلما نزلت هذه الآية تاب. قال : اللهم لا أزال أسمع آية تقرأ ، تقشعر(3/343)
صفحة رقم 344
منها الجلود ، وتجب منها القلوب ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً فيب سبيلك لا يقول أحد : أنا غسلت أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره رضي الله عنه .
ولعل إطلاقاً الطائفة عليه تعظيماً له وستراً عليه وتبشيراً بتوبة غيره ، ولعل مخشياً كان مؤمناً ولكن كان إيمانه مزلزلاً فلذا عبر هنا بقوله ) أكفرتم بعد إيمانكم ( والتعبير بذلك أشنع في الذم ولا سيما عند العرب لأنهم يتمادحون بالثبات على أيّ أمر اختاروه ويتذامون بالطيش ، ولعل الجلاس المعنيّ بالقصة الآتية وحده أو مع غيره لم يكن آمن كغيره ممن عنى بها ، وما آمن إلا حين تاب ، فلذا عبر هناك بقوله : ( وكفروا بعد إسلامهم ( ؛ قال أبو حيان : قال ابن عمر : رأيت وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول ) إنما كنا نخوض ونلعب ( والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( أبالله وآياته ) - الآية .
ولما بين سبحانه افعالاً واقوالاً الطوائف من المنافقين - منهم من كان معه ( صلى الله عليه وسلم ) في العسكر - هي في غاية الفساد ، كان ذلك ربما اقتضى ان يسأل عن المختلفين لو خرجوا ما كان يكون حالهم ؟ فقال جواباًُ عن ذلك واستدلالاً على أن إجرام الذين لم يعف عنهم ما كان يكون حالهم ؟ فقال جواباً عن ذلك واستدلالاً على أن إجرام الذين لم يعف عنهم منهمو خلق لازم : ( المنافقون والمنافقات ( اي الذين أظهروا الإيمان وابطنوا الكفران ) بعضهم ( ولما كان مرجعهم الجمود على الهوى والطبع والعادة والتقليد من التابع منهم للمتبوع ، قال : ( من بعض ) أي في صفة النفاق هم فيها كالجسد الواحد ، أمورهم متشابهة في أقوالهم وافعالهم وجميع احوالهم ، والقصد ان حالهم يضاد حال أهل الإيمان ولذلك بينه بقوله : ( يأمرون بالمنكر ) أي مما تقدم من الخبال والإيضاع في الخلال وغير ذلك من سيء الخصال ) وينهون عن المعروف ( اي من ما يكون فيه تعظيم الإسلام وأهله ، يبغون بذلك الفتنة ) ويقبضون أيديهم ) أي يحشون فلا ينفقون إلا وهم كارهون .
ولما كان كأن قيل : اما خافوا بذلك من معالجة العقاب ؟ أجاب بقوله : ( نسوا الله ) أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ، ويصلح ان يكون علة لما تقدم عليه ؛ ولما اقدموا على ذلك ، سبب عنه قوله ) فنسبهم ) أي فعل بهم فعل الناسي لما استهان به بأن تركهم من رحمة ، فكان ذلك الترك سبباً لحلول نقمته ؛ ولما(3/344)
صفحة رقم 345
تطبعوا بهذه النقائض كلها ، اختصوا بكمال الفسق فشرح ذلك في اسلوب التعجب من حالهم فقال مظهراً موضع الإضمار وتعليقاً للحكم بالوصف : ( المنافقين هم ) أي خاصة ) الفاسقون ) أي الخارجون عن دائرة ما ينفعهم من الطاعة الراسخون في ذلك ، فقد علم أنهم لو غزوا فعلوا هؤلاء سواء لأن الكل من طينة واحدة .
التوبة : ( 68 - 69 ) وعد الله المنافقين. .. . .
) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ( )
ولما بين كثيراً من احوالهم فاشتد التشوق إلى مآلهم وكان مقصودها بإظهار الإيمان والاعتذار عن النقائض بتأكد الأيمان إنما هو التقرب غلى المؤمنين والتحبب طمعاً في العيش في اكنافهم وفرقاً من المعالجة بما يستحقون من إتلافهم ، بين أن لهم على هذا الخداع العذاب الدائم والطرد اللازم ، وجمع معهم امصارحين بالكفر إعلاماً بأنهم إن لم يكونوا أعظم عناداً منهم فهم سواء ، فقال : ( وعد الله ( وساقه بصيغة البشارة تهكماً بهم وإبلاغاً في مساءتهم ) المنافقين والمنافقات ( اي المساترين باعتقادهم ) والكفار ) أي المجاهرين في عنادهم ولما كانوا مجبولين على تجهم المؤمنين والانقاض عنهم ، وإن اظهروا خلاف ذلك فهو تصنع ، قال : ( نار جهنم ) أي النار التي من شأنها تجهم أهلها ولقاؤهم بالعبوسة الزائدة ) خالدين فيها ( اي لا براح لهم عنها ) هي حسبهم ) أي كافيتهم في العذاب ، لكن لما كان الخلود قد يتجوز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج ، قال : ( ولعنهم الله ) أي طردهم وأبعدهم من رحمته وهو الملك العليم الحكيم الذي لا أمر لأحد معه فأفهم أنه لا فرج لهم ، ثم نفي كل احتمال بقوله : ( ولهم ) أي بالأمرين ) عذاب مقيم ( اي لا وصف له غير الإقامة في الدنيا بما هم مقهورون به من سطوة الإسلام وجنوده الكرام الأعلام ، وفي الآخرين بما لا تعلمه حق عليمه إلا الله الملك العلام .
ولما كان حالهم غفي الإقبال على العالجة لكونها حاصلة والإعراض عن العاقبة لأنها غائبة متشابهاً لحال من كان قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية ، بين لهم ذلك وختم ببيان سوء أحوالهم وقبح مآلهم بتلاشي اعمالهم فقال ملتفتاً إلى أسلوب الخطاب(3/345)
صفحة رقم 346
لأنه أوقع في باب العتاب وأقعد في استجلابالمصالح للمتاب : ( كالذين ( اي حاصل ما مضى من أمركم أيها المنافقون أنكم مثل الذين ؛ ولما كان فاعل ما يذكر إنما هو بعض من مضى اثبت الجارّ فقال : ( من قبلكم ) أي من الأمم اخالية ، ثم شرع في شرح حالهم وذكر وجه الشبه فقال : ( كانوا اشد منكم قوة ( لأن الزمان كان إذ ذاك أقرب إلى سن الشباب ) وأكثر أموالاً وأولاداً ( وهذا ناظر إلى قوله : ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) فاستمعوا ( اي طلبوا المتاع والانتفاع في الدنيا بغاية الرغبة معرضين عن العقبى ) بخلاقهم ) أي نصيبهم الذي قدره الله وخلقه لهم ، وكان الأليق بهم أن يتبلغوا به في السفر الذي لا بد منه إلى الآخره ) فاستمتعتم بخلاقكم ) أي كالمقتفين لآثارهم والقاصدين لنارهم ) كما استمتع ( وفي الإتيان بقوله : ( الذين ( ولما كانوا لم يستغرقوا الزمن الماضي ، أثبت الجارّ فقال : ( من قبلكم بخلافكم ( ظاهراً غير مضمر تنبيه على ذمهم بقلة النظر لنفسهم المستلزم لقلة عقولهم حيث كانوا دونهم في القوة ابداناً وأموالاً وأولاداً لم يكفوا عن الاستمتاع والخوض خوفاً مما محق أولئك الأحزاب على قوتهم من العذاب من غير ان ينفعهم سبب من الأسباب ) وخضتم ) أي ذهبتم في أقوالكم وافعالكم خبطاً على غير ان سببسنن قويم ) كالذي ) أي كخوضهم الذي من الخوض فب الماء ولا يستعجل غلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة ( ولما آذن هذا النظم لهم بالخسارة ، حصل التشوف إلى عاقبة امرهم فأخبر عن ذلك بقوله : ( اولئك ) أي البعداء من الخير ، والظاهر أنه إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد ) حبطت ) أي فسدت فبطلت ) اعمالهم في الدنبا ( اي بزوالها عنهم ونسان لذاتها ) والآخرة ( اي في الدار البااقية لأنهم لم يسعوا لها سعيها ؛ وزاد في التنبيه على بعدهم مما قصدوا لأنفسهم من النفع فقال : ( وأولئك هم ) أي خاصة ) الخاسرون ) أي لا خاسر في الحقيقة غيرهم لأنهم خسروا خلاقهم في الدارين فخسروا أنفسهم فلا أخسر ممن تشبه بهم ، ولعل في الالتفات إلى مقام الخطاب(3/346)
صفحة رقم 347
أيضاً إشارة غلى تحذير كل سامع من مثل هذه الحال لصحة أن يكون مراداً بهذا المقال ، فإن من أسرار القرآن في إعجازه ان تكون عبارته متوجهة إلى شيء وإشارته شاملة لغيره من حيث اتصافه بعلة ذلك الحال أو غير ذلك من الخلال ؛ قال الإمام أبو الحسن الحرالي في آخر عروة المفتاح في بيان تناول كلية القرآن لكلية الآية ولكل قارئ يقرؤه من أهل الفهم والإيقان : اعلم ان الله سبحانه وتعالى انزل القرآن نبأ عن جميع الأكوان ، وأن جميع ما أنبا عنه من أمر آدم إلى زمان محمد عليهما السلام من أمر النبوات والرسالات والخلافات وأصناف الملوك والفراعنة والطغاة وأصناف الجناة وجميع ما اصابهم من المثوبات والمثلات في يوم آدم عليه السلام إلى زمان محمد صلى الله عليهوسلم الذي هو ستة الآف سنة ونحوها كل ذلك يتكرر بجملته في يوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو ألف سنة أو نحوها اعداداً باعداد وأحوال في خير أو شرف ، لكل من الماضين مثل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) لكل نبي قبلي في امتي نظير ( ثم ذكر ( صلى الله عليه وسلم ) نظراء ) مثل عيسى كأبي ذر ( وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني لأعرف النظراء من أمتي بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم كافرهم ومؤمنهم ممن كان وممن كان وممن هو كائن وممن سيكون بعد ، ولو شئت أن اسميهم لفعلت ( فما صد اكثر هذه الأمة عن فهم القرآن ظنهم أن الذي فيه من قصص الأولين وأخبار المثابين والمعاقبين من أهل الأديان اجمعين ان ذلك إنما مقصوده الأخبار والقصص فقط ، كلاً وليس كذلك إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار حتى يسمع السامع جميع القرآن من أوله إ ؟ لى خاتمته منطبقاً على هذه الأمة وأئمتها هداتها وضلالها ، فحينئذ ينفتح له باب الفهم ويضيء له نور العلم ويتجه له حال الخشية ويرى في اصناف هذه الأمة ما سمع من أحوال القرون الماضية وإنه كما قيل في مثل السائر .
إياك اعني واسمعي ياجرة ثم إذا شهد انطباق القرآن على كلية الأمة فكان بذلك عالماً ينفتح له باب ترق ، (3/347)
صفحة رقم 348
فيرتقي سمعه إلى أن يجد جميع كلية القرآن المنطبق على كلية الأمة منطبقاً على ذاته في احوال نفسه وتقلباته وتصرفاته افعاله وازدحام خواطره حتى يسمع القرآن منطبقاً عليه فينتفع بسماع جميعه ويعتبر بأي آية سمعها منه فيطلب موقعها في نفسه فيجدها بوجه ما رغبة كانت أو رهبة تقريباً كانت أو تبعيداً إلى أرفع الغايات أو إلى أنزل الدركات ، فيكون بذلك عارفاً ، هذا مقصود التنبيه في هذا الفصل جملة ، ولنتخذ لذلك مثالاً يرشد لتفهم ذلك الانطباق على كلية الأمة علماً وعلى خصوص ذات القارئ السامع عرفاناً ، فاعلم أن اصول الأديان المزدوجه التي لم تترق غلى ثبات حقائق المؤمنين فمن فوقهم من المحسنين والموقنين التي جملتها تحت حياطة الملك والجزاء والمدانية ، الذين تروعهم رائعة الموت اولاً ثم رائعة القيامة ثانياً حقائق المؤمنين فمن فوقهم المواقف الخمسين التي كل موقف منها ألف من السنين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فعدد هذه الأديان سبعة ، ما من دين منها إلا ويوجد في صنف من أصناف هذه الأمة ، وتجده المعتبر في نفسه في وقت ما بقلة أو كثرة بدوام أو خطرة بضعف أو شدة على إثر دين غالب أو عن لمح عين زائل ، وهذه الأديان السبعة هي دين ) الذين آمنوا ( من هذه الأمة ولم يتحققوا لحقيقة الإيمان فيكونوا من المؤمنين الذين صار الإيمان وصفاً ثابتاً في قلوبهم ، الموحدين المتبرئين من الحول والقوة ، المتحققين لمعناه ، إقداراً لله عليهم بما شاء لا بما يشاؤون
77 ( ) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذتا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون - أولئك هم المؤمنون حقاً ( ) 7
[ الأنفال : 2 - 4 ] ، وأما الذين ىمنوا فهم الذين لا يثبتون على حال غيمانهم ولكن تارة وتارة ، ولذلك هم المنادون والمنهيون والمأمورون في جميع القرآن الذين يتكرر عليهم النداء في السورة الواحدة مرات عديدة من نحو بين قوله تعالى
77 ( ) يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( ) 7
[ التوبة : 119 ] إلى قوله تعالى
77 ( ) يأيها الذين آمنوا من ترتد منكم عن دينه ( ) 7
[ المائدة : 54 ] إلى ما بين ذلك من نحو قوله تعالى
77 ( ) إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ( ) 7
[ النساء : 137 ] فهؤلاء هم أهل دين ثابت ينتظمون به مع من ليس له ثبات من ماضي الأيان المنتظمين مع من له أصل في الصحة من الأديان الثلاثة في نحو قوله تعالى
77 ( ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الاخر ( ) 7
[ البقرة : 62 ] المنتظمين ايظاً مع المغيرين لأديانهم والمفترين لدين لم ينزل الله به من سلطان في نحو قوله تعالى :
77 ( ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبين والمجوس والذين اشركوا ( ) 7
[ الحج : 17 ] فهذا هو الدين الأول ؛ وأما الدين الثاني فهو دين الذين هادوا والذين منهم الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها والذين ورثوا الكتاب ياخذون عرض(3/348)
صفحة رقم 349
هذا الأدنى ويقولون : سيغفرلنا ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون : هذا من عند الله ، والذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، والذين يأكلون الربا وقد نهوا عنه ، والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباًمن دون الله والمسيح ابن مريم ، وأما الدين الثالث فدين الذين قالوا : إنا نصارى ، الذين منهم الذين ضلوا عن سواء السبيل الذين غلوا في دينهم وقالوا على الله غير الحق واتخذوا رهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم ، وأما الدين الرابع فدين الصابئة الذين منهم متألهو النجوم عباد الشمس والقمر والكزاكب ومغيروهم ، وهم بالترتيب أول من عبد محسوساً سماوياً ؛ وأما الدين الخامس فدين المجوس الثنوية الذين جعلوا إلهين اثنين : نوراً وظلمة ، وعبدوا محسوساً آفاقياً ، وأما الدين الساد فدين الذين أشركوا وهم الذين عبدوا محسوساً أرضياً غيرمصور ، وهم الوثنية أومصوراً وهم الصنمية - فهذه الأديان الستة الموفية لعد الست لما جاء فيه ؛ وأما الدين السابع فاعلم أن الله سبحانه حعل السابع أبداً جامعاً لستة خيراً كانت أو شراً ، فالدين السابع هو دين المنافقين الذين ظاهرهم مع الذين إذا لقوا الذين ىمنوا قالوا : ىمنا واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم - فهذه الأديان السبعة متكررة بكليتها في هذه الأمة بنحو مما وقع قبل في الأمم الماضية ، وهو مضمون الحديث الجامع لذكر ذلك في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لتأخذنَّ كما اخذت الأمم من قبلكم ذراعاً بذراع وشبراً بشبر وباعاً بباع حتى لو أن احداً من أولئك دخل في حجر ضب لدخلتموه ، قالوا : يارسول الله كما صنعت فارس والروم ؟ قال : فهل الناس إلا هم ) وما بينه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الحديث هو من مضمون قوله تعالى ) كالذين من قبلكم كانوا اشد منكم قوة وأكثر امولاً وأولاداً فاستمعوا بخلاقهم فاستمعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ( ، وأهل هذه الأديان السبعة - أو منهم - عمرة دركات جهنم السبع على ترتيبهم ، والناجون بالكلية الفائزون هم المؤمنون فمن فوقهم من المحسنين والموقنين ، ومزيد تفضيل في ذلك وتثنية قول بما ينبه عليه بحول الله تعالى من جهات تتبع طوائف من هذه الأمة سنن من تقدمهم في ذلك ، اما وجه تكرار دين الذين أشركوا في هذه الأمة فباتخاذهم اصناماً وآلهة يعبدونها من دون الله محسوسة جمادية كما اتخذ المشركون الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب واتخذت هذه الأمة بوجه ألطف وأخفى أصناماً(3/349)
صفحة رقم 350
وأوثاناً فإنها اتخذت الدينار والدرهم اصناماً والسبائك والنقر اوثاناً من حيث إن الصنم هو ما له صورة والوثن ما ليس له صورة ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( صنم أمتي الدينار والدرهم ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لكل أمة عجل وعجل امتي الدينار والدرهم ) فلا فرق بين ظن المشرك أن الصنم الذي صنعه بيده ينفعه وظن المفتونين من هذه الأمة ان ما اكتسبوا من الدينار والدهم ينفعهم حتى يشير مثلهم : ما ينفعك إلا درهمك ) يحلفون بالله ماقالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) [ التوبة : 74 ] فما من آية نزلت ف ي المشركين في ذكر أحوالهم وتبيين ضلالهم وتفاصيل سرهم وإعلانهم إلا وهي منطبقة على كل مفتون بديناره ودرهمه ، فموقع قول المشركين في أصنامهم ) ما نعبدهم إلا لقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر : 3 ] مثله موقع نظيره من قول المفتون : ما أحب المال إلا لأعمل الخير وأستعين به على وجوه البر ، ولو أراد البر لكان ترك التكسب والتمول له أبر : قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنما أهلك من كان قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم ) فكل من أحبهما وأعجب بجمعها فهو مشرك هذه الأمة وهما لاته وعزاه اللتان تبطلان عليه قول لا إله إلا الله لأنه تأله ماله ؛ قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا إله إلا الله نجاة لعباد الله من عذاب الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم ) فمن وجد من هذا مسة فليسمع جميع ما أنزل في المشركين من القرآن منطبقاً عليهومنزلاً إليه وحافاًبه حتى يخلصه الله من المشرك بما له من ظلمته التي غشيت ضعيف إيمانه إلى صفاء نور الإيمان في مضمون قوله تعالى
77 ( ) ليخرج الذين ىمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ( ) 7
[ الطلاق : 11 ] فهذا وجه تفضيل يبين نحواً من تكرر دين الشرك في هذه الأمة ، وأما وجه وقوع المجوسية ، ونظيرها في هذه الأمة فإطباق الناس على رؤية الأفعال من أنفسهم خيرها وفلاناً فاعل شر وفلاناً يعطي وفلاناً يمنع وفلاناً خير مني وفلناً اعطاني ، حتى ملؤوا الدواوين من الأشعار والخطب والرسائل أمداحاً لخلق الله على ما لم يفعلوا وذماً لهم على ما لم يمنعوا يحمدون الخلق على رزق الله ويذمونهم على ما لم يؤته الله ويلحدون في أسمائه حتى يكتب بعضهم لبعض ( سيدي وسندي وأسنى عُددي عبدك ومملوكك ) يبطلون بذلك أخوة الإيمان(3/350)
صفحة رقم 351
ويكفرون تسوية خلق ارحمن ويدعون لأنفسهم افعال الله فيقولون : فعلنا وصنعنا واحسنا وعاقبنا - كلمة نمرودية ، آتاهم ما لم يشعروا باختصاص الله فيه بأمر كالذي حاج إ براهيم في ربه ان آتاه الله الملك حين قال : أنا أحيي وأميت ، هذه هي المجوسية الصرف والقدرية المخضة التي لا يصح دين الإسلام معها ، لأن المسلم من أسلم الخلق والأمر لربه
77 ( ) أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ( ) 7
[ آل عمران : 20 ] ،
77 ( ) ألا له الخلق والأمر ( ) 7
[ الأعراف : 54 ] وما سوى ذلك قدرية وهي مجوسية هذه الأمة حيث جعلوا للعبد شركة في قعل الرب وجعلوا له معه تعالى هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ؛ قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( القدرية مجوس هذه الأمة ) فكل ما انزل الله عز وجل في القرآن الجامع لذكر جميع الملل والأديان مما عزاه لمن وزع الأفعال بين الحق والخلق من كلام ذي فرعنة أو نمرودية أو ذي سلطان فللمعتقد المدح والذم حظ منه على حسب توغلهم واستغراقهم في الذين زعموا أنهم فيهم شركاء فخافوهم ورجوهم ، فكل خائف من الخلق أو راج منهم من عداد الذين آمنوا والذين اسلموا في هذه الأمة فهم من مجوس هذه الأمة ، فليسمع السامع ما يقرؤه من ذلك حجة عليه ليسأل الله تعالى التخلص منها وليعلم ان ذلك لم يزل حجة عليه وإن كان لم يشعر به قبل .
فهذا وجه من وقوع المجوسية في هذه الأمة ، وأما وجه وقوع الصائبة ونظيرها في هذه الأمة - فما غلب على أكثرهم وخصوصاً ملوكها وسلاطينها وذوو الرئاسة منها من النظر في النجوم والعمل بحسب ما تظهره هيئتها عندهم من سعد ونحس والاستمطار بانجوم والاعتماد على الأنواء وإقبال القلب على الآثار الفلكية قضاء بها وحكماً بحسب ما جرى عليه الخليون الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون - من العناية بها ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أربعة من أمتى هن بهم كفر وليسوا بتاركيهن ) - فذكر منها الاستمطار بالنجوم فالمتعلق خوفهم ورجاؤهم بالآثار الفلكية هم صائبة هذه الأمة كما أن المتعلق خوفهم ورجاؤهم بدرهمهم ودينارهم هم مشركو هذه الأمة وما انطوى عليه سر كل طائفة منهم مما تعلق به خوفهم(3/351)
صفحة رقم 352
ورجاؤهم فهو ربهم ومعبودهم الذي غليه تصرف جميع اعمالهم ، وايم كل امرئ مكتوب على وجه ما اطمأن به قلبه فكل ما أنزل في القرآن من تزييف أراء الصائبة فهو حجة عليه وجه يقؤه أو يسمعه من حيث لا يشعر حتى يقرأ قوم القرآن وهو نذير لهم بين يدي عذاب شديد وهم لا يشعرون ويحسبون انهم يرحمون به وهم الأخسرون
77 ( ) ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ( ) 7
[ الإسراء : 82 ] فمما يختص بهذه الطائفة المتصبئة ما هو نحو قوله تعالى
77 ( ) وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السوات والأرض وليكون من الموقنين ( ) 7
[ الأنعام : 75 ] - الآيات في ذكر الكوكب والقمر والشمس إلى آيات ذكر التسخير لهن نحو قوله تعالى
77 ( ) وهوالذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ( ) 7
[ إبراهيم : 33 ]
77 ( ) هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الإ بالحق ( ) 7
[ يونس : 5 ]
77 ( ) وإنه هو رب الشعرى ( ) 7
[ النجم : 49 ] كل ذلك ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاؤهم عن الأفلاك والنجوم المسخرة إلى المسخر القاهر فوق عبادة الذي استوى على جميعها ، فهذا وجه من قوع الصائبة في الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة ، وأما وجه وقوع ما غلب على هذه الأمة وكثر فيها وفشا في أعمالها وأحوالها من تمادي طوائف منهم على نظير ما كان عليه اليهود والنصارى في اختلافهم وغلبة أحوالهم - ملوكهم وسلاطينهم - على أحوال أنبيائهم وعلمائهم وأوليائهم فهو الذي حذرته هذه الأمة وأشعر أولو الفهم بوقوعه فيهم بنحو ما في مضمون قوله تعالى :
77 ( ) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ( ) 7
[ آل عمران : 105 ] وما انبأ به ( صلى الله عليه وسلم ) ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو ذخلوا حجر ضب لا تبعتموهم ) وفي بعض طرقة ( حتى لو كان فيهم من أتى امه جهاراً لكان فيكم ذلك ، قلنا : يارسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ ) وإنما قوي وكثر في هذه الأمة حال هاتين الملتين لما آتاهما الله من الكتاب والعلم والحكمة فاختلفوا فيها بالأغراض والأهواء وإثيار عرض الدنيا ، وسامحوا الملوك والولاة وحللوا لهم ما حرم الله وحرموا لهم ما حلل الله ، وتوصلوا بهم إلى اغراضهم في الاعتداء على من حسدوه من اهل الصدق والتقوم ، وكثر البغي بينهم فاستقر حالهم(3/352)
صفحة رقم 353
على مثل حالهم ، وسلطت عليهم عقوبات مثل عقوباتهم ، وتمادى ذلك فيهم منذ تبدلت الخلافة ملكاً إلى أن تضع الحرب اوزارها وتصير الملل كلها ملة واحدة ويرجع الافتراق إلى ألفة التوحيد ، فكل من اقتطع واقتصر من هذه الشريعة المحمدية الجامعة للظاهر والباطن حظاً مختصاً من ظاهر أو باطن ولم يجمع بينهما في علمه وحاله وعرفانه فهو بما لزم الظاهر الشرعي دون حقيقة باطنه من يهود هذه الأمة كالمقيمين لظاهر الأحوال الظاهر التي بها تستمر الدنيا على حسب مايرضى ملوك الوقت وسلاطينهم ، المضيعين لأعمال السرائر ، المنكرين لأحوال أهل الحقائق الشاهد عليهم تعلق خوفهم ورجائهم بأهل الدنيا ، المؤثرين لعرض هذا الأدنى ، فبهذا ظهرت أحوال اليهود في هذه الأمة ، مر الأعراب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسدره خضراء نضرة ، وكان لأهل الجاهلية سدره يعظمونها ويجتمعون عندها وينيطون بها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقالوا : يا سول الله اجعل لنا هذه السدرة ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قلتموها ورب الكعبة كما قالت بنو إسرائيل : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنها السنن ) .
فحيث ظهرت أحداث اليهود من البغي والحسد وتعظيم ما ظهر تعظيمه من حيث الدنيا واستحقار ضعفاء المؤمنين فهنالك أعلام اليهودية ظاهرة ، وكذلك ايضاً من اقتصر من هذه الشريعة الجامعة وتعاضد الإسلام واكتفى بما استبطن وتهاون بما استظفر فهو من نصارى هذه الأمة ، ليس بصاحب فرقان فكيف ان يكون صاحب قرآن ، ذلك أن هذا الدين الجامع إنما يقوم بمعالم إسلام ظاهرة وشعار إيمان في القوب وأحوال نفس باطنه وحقائق إحسان شهودية ، لا يشهد المحسن مع الله سواه ولا يؤمن المؤمن مع الله بغيره ، ولا يخضع المسلم إلى شيء دونه ، فبذلك يتم ، وقد التزم بمعالم الإسلام طوائف يسمون المتفقهة ، والتزم بشعائر الإيمان طوائف يسمون الأصوليين والمتكلميين ، وترامى إلى الإحسان طوائف يسمون المتصوفه ، فمتى كان المتفقه منكراً لصدق أحوال الصوفية لما لعله يراه من خلل في أحوال المتصوفه ، فمتى كان المتفقه منكراً لصدق أحوال الصوفية لما لعله يراه من خلل في أحوال المتصوفة فقد تسنن بسنن اليهودية ، ومتى كان المتصوف غير مجل للفقهاء لما لعله يراه من خلل في أحوال المتفقه فقد تسنن بسنن النصارى ، وكذلك حال المتكلم بين الفرقتين لأيهما مال ، وإنما أئمة الدين الذين جمع الله لهم(3/353)
صفحة رقم 354
إقامة معالم الإسلام وإيمان أهل الإيمان وشهود أهل الإحسان ، تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فتألم بهم الصوفية ، وتظهر انوار قلوبهم على ظلم المتشابهات فيأتم بهم أهل الإيمان ، وتبدو في أعمالهم معالم الإسلام تامة فيأتم بهم أهل الإسلام
77 ( ) عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ( ) 7
[ الفرقان : 63 ] ( أفضل الناس مؤمن في خلق حسن وشر الناس كافر في خلق سيء ) فأولو الفرقان جامعون ومستبصرون فمن اقتصر على ظاهر وأنكر باطناً لزمته مذام اليهود فيما أنزل من القرآن فيهم بحسب توغله واقتصاره ، ومن اقتصر على باطن دون ظاهر لزمته مذام النصارى فيما أنزل من القرآن فيهم ؛ يذكر أن رجلاً من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهبفيها : دلني على موضع طاهر اصلي فيه ، فقال الراهب : طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت ، قال ذلك الصالح المسلم : فخجلت منه ، فالعلم ان كل واحد من هذين الحالين ليس حال صاحب فرقان ولا حال صاحب قرآن لأن صاحب القرآن لا يخجل لهذا القول لأنه حاله ، وقلبه مطهر مما سوى الله ، ومع ذلك لابد أن ينظف ظاهره ، لأن الله سبحانه كما أنه الباطن فيجب صفاء باطن اجاب ولم يتعلثم وغذا دعي إلى صلاح ظاهر اجاب ولم يتلكأ لقيامه بالفرقان وحق القرآن ، يذكر أم ملكاً رحمه الله دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى اركوع ولم يحاجه بما يراه مذهباً ، فقيل له في ذلك فقال : خشيت أن أكون من
77 ( ) الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ( ) 7
[ المرسلات : 48 ] ووقف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على سقاية زمزم وقد خاضوا فيه بأيديهم ، فأهوى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يشرب من شرابهم ، فقال له العباس رضي الله عنه : يارسول الله ألا نسقينك من شراب لنا في اسقية ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أشرب من هذه ألتمس بركة أيدي المسلمين ) فشرب منه ( صلى الله عليه وسلم ) فصاحب القرآن يعبد الله تعالى بقلبه وجسمه لا يقتصر على ظاهر دون باطن ، ولا على باطن دون ظاهر ، ولا على أول دون آخر ولا على آخر دون اول ؛ قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أو آخره ) فمن حق القارئ ان يعتبر القرآن نفسه ويلحظ(3/354)
صفحة رقم 355
مواضع مذامه للفرق ويزن به أحوال نفسه من هذه الأديان الستة في هذه الأمة ، وأما وجه وقوع النفاق وأحوال المنافقين فهي داهية القراء وآفة الخليفة ؛ قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكثر منافقي أمتى قراؤها ) وقال بعض كبار التابعين : أدركت سبعين ممن رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلهم يخاف النفاق على نفسه .
وأصل مداخله على الخلق من إيثار حرمة الخلق على حرمة الحق جهلاً بالله عز وجل واغتراراً بالناي ، فليزم لذلك محاسنة أولى البر والصدق ظاهراً وتكرههم بقلبه باطناً ، ويتبع ذلك من الذبذبة بين الحالين ما وصف الله تعالى من احوالهم وما بينه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من علاماتهم حتى قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما ) وكما قال تبارك وتعالى ) لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ( ينظر المنافق غلى ما يستسقط يه فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم ، كما روي أن الله يبغض التارك لحسنه المؤمن الآخذ لسيئته ، والمؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله ، وعن ذلك المنافق غماز لماز بخيل جبان مرتاع ، مستثقل في مجامع الخير أجنبي منها ، مستخف في مواطن الشر متقدم فيها ، طلق اللسان بالغيبة والبهتان ، ثقيل اللسان عن مداومة ذكر الله تبارك وتعالى ، عم عن ذكر الله عز وجل في كل حال ، ناظر إلى الناس بكل وجه ، وهو مع ذلك يصانعهم ولا يصادقهم ، يأخذ م الدين ما ينفعه في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى ، ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر ، في في العقبى مما لا يضر في الدنيا ، فهذا وجه من وقوع شياع النفاق في هذه الأمة ، فلذلك من حق القارئ ان يستشعر مواقع آي القرآن من نفسه في ذات قلبه وفي أحوال نفسه وأعمال بدنه وفي سره مع ربه وفي علانبيته مع خلقه ، فإنه بذلك يجد القرآن كله منطبقاً عليه خاصاً به حتى كأن جميعه لم(3/355)
صفحة رقم 356
ينزل إلا إليه حتى إذا رغب في أمر رغب هو فيه من وجه ولا يقول : هذا إنما أنزل في كذا ، وغذا رهب القرآن من أمر رهبه من وجه ماظن وإذا أعلى فكذلك وإذا أسفل فكذلك ، ولا يقول : هذا إنما أنزل في كذا حتى يجد لكل حتى يجد لكل القرآن موقعاً في عمله أيّ عمل كان ومحلاً في نفسه أيّ حال كان ومشعراً لقلبه أيّ ملحظ كان ، فيستمع القرآن بلاغاً من الله سبحانه وتعالى إليه بلا واسطة بينه وبينه ، فعند ذلك يوشك أن يكون ممن يقشعر له جلده ابتداء ثم تلين له جلده وقلبه انتهاء ، وربما يجد من الله سبحانه وتعالى نفخ رحمة يفتح له باباً إلى التخلق بالقرآن أسوة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت ، كانخُلق القرآن وبذلك هو ذو الخلق العظيم - والله واسع عليم - انتهى .
التوبة : ( 70 - 71 ) ألم يأتهم نبأ. .. . .
) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ( )
ولما قرر سبحانه بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل ، وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام ، اتبع ذلك بتخويفهم من متشابهنهم فيما حل بطوائف منهم ملتفتاً إلى مقام الغيبة لأنه أوقع في الهيبة ، فقال مقرراً لخسارتهم : ( ألم يأتهم ) أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق ) نبأ الذين من قبلهم ) أي خبرهم العظيم الذي هو جدير بالبحث عنه ليعمل بما يقتضيهة حين عصوا رسلنا ؛ ثم أبدل من ذلك قوله : ( قوم نوح ) أي في طول اعمارهم وامتداد آثارهم وطيب قرارهم بحسن التمتع في أرضهم وديارهم ، أهلكهم بالطوفان ، لم يبق عن عصاتهم إنسان ، وعطف على قوم القبيلة فقال ؛ ) وعاد ) أي في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم ومصانعهم وبنيانهم وتجبرهم في عظيم سلطانهم ، أهلكهم بالريح الصرصر ، لم يبق ممن كفر منهم بشر ) ثمود ) أي في تمكنهم من بلاد الحجر عرضها وطولها ، جبال ها وسهولها ، أهلكوا بالرجفة لم يبق من الكفار منهم ديار ) قوم إبراهيم ) أي في ملك جميع الأرض بطولها والعرض ، سلب الله منهم الملك بعد شديد الهلك ) وأصحاب مدين ) أي في جمع الأموال ومد الآمال إلى أخذها(3/356)
صفحة رقم 357
من حرام وحلال ونقص الميزان والمكيال فعمهم الله بالنكال ) والمؤتفكات ( اي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم ، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم .
ولما كان كأنه قيل : ما نبأهم ؟ قال : ( أتتهم رسلهم ) أي أتى كل أمة منهم رسولها ) بالبينات ) أي المعجزات الواضحات جداً بسبب أنهم ارتكبوا من القبائح ما أوجب دمارهم ) فما ) أي فتسبب عن ذلك أنه ) ما ( ) كان الله ) أي مع ما له من صفات الكمال مريداً ) ليظلمهم ) أي لأن يفعل بهم في الإهلاك قبل الإنذار وإنارة البينات فعل من تعدونه فيما بينكم ظالماً ، ولكنه أرسل إليهم الرسل فكذبوا ما أتوهم به من البينات ، فصار العالم بحالهم غذا سمع بهلاكهم وبزوالهم يقول : ما ظلمهم الله ) ولكن كانوا ) أي دائماً في طول أعمارهم ) أنفسهم ) أي لاغيرها ) يظلمون ) أي بفعل ما يسبب هلاكها ، فإن لم ترجعوا أنتم فنحن نحذركم مثل عذابهم ، ولعله خص هؤلاء بالذكر من بين بقية الأمم لما عند العرب من أخبارهم وقرب ديارهم من ديارهم مع أنهم كانوا أكثر الأمم عدداً ، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء - نبه على ذلك أبو حيان. لعله قدم أصحاب مدين على قوم لوط وهم فيه بعدهم في الزمان لأن هذا في شأن من وصفوا بأنهم لم يجدوا ما يحميهم مما هم فيه من العذاب بمشاهدة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من ملجأ أو مغارات أومدخل كما أن من قبل المؤتفكات جمعهم هذا الوصف ، فقوم نوح عليه السلام لم يمنعهم لما أتاهم الماء معقل منيع ولا جبل رفيع مع أنه يقال ؛ إنهم هم الذين بنوا الأهرامات ، منها ما هو بالحجارة ليمنعهم من الحادث الذي هددوا به إن كان ماء ، ومنها ما هو بالطوب التي لتحميهم منه إن كان ناراً ، وعادلما أتتهم الريح بادروا إلى البيوت فقلعت الأبواب وصرعتهم في أجواف بيوتهم ، ولم يغنهم ما كانوا يبنون من المصانع المتقنة والقصور المشيدة والحصون الممنعة ، وحال ثمود معروف في توسعهم في البيوت جبالاً وسهولاً فما منعتهم من الصيحة التي اعقبت الرجفة ، وقوم إبرهيم عليه السلام بنوا الصرح ، ارتفاعه خمسة آلاف ذراع أو فرسخان ليتوصل به نمرود كما زعم - إلى السماء فأتى الله بنيانهم من القواعد ، ألقت الريح رأسه في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وأصحاب مدين لما أتاهم العذاب فأخذتهم الرجفة الرجفة لما تغن عنهم مدنيتهم ، وإن كانوا هم أصحاب الأيكة فإنهم لما اشتد عليهم الحر يوم الظلة قصدوا المغارات فوجدوها أحر من وجه الأرض فخرجوا منها هاربين ، فجمعتهم الظلة بنسيم بارد خليته إليهم ولبست به عليهم ، فلما اجتمعوا تحتها أحراقتهم نارها وبقي عليهم عارها ، وأما قوم لوط فأتاهم الأمر بغته ، لم يشعروا(3/357)
صفحة رقم 358
حتى قلبت مدائنهم بعد أن رفعت إلى عنان السماء ، واتبعت حجارة الكبريت تضطرم ناراً ، ولعله خص قوم لوط بالذكر من بين من ليس له هذا اوصف لأن العرب كانوا يمرون على مواضع مدائنهم ويشاهدونها ، وعبر عنهم بالمؤتفكات لأن القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب وصرف الأمور عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها ، فالمعنى أن أولئك لما قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه ، ومادة ( إفك ) بكل ترتيب تدور على القلب ، فإذا كافأت الرجل فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفته عنك ، وأكاف الدابة شبه بالإناء المقلوب ، والكذب صرف الكلام عن وجهه فهو إفك لذلك - والله أعلم .
ولما بين سبحانه أن المنافقين بعضهم من بعض وما تواعدهم بعه وما استتبعه من تهديدهم بإهلاك من شابهوه ، وختم بما سبب هلاكهم من إصرارهم وعدم اعتبارهم ، عطف ببيان حال المؤمنين ترغبياً في التوبة طعماً في مثل حالهم فقال : ( والمؤمنون ( ) والمؤمنات ) أي بما جاءهم عن ربهم ) بعضهم اولياء ( ولم يقل : من ، كما قال في المنافقين : من ) بعض ( دلالة على ان أحداً منهم لم يقلد أحداً في أصل الإيمان ولا وافقة بحكم الهوى ، بل كلهم مصوبون بالذات وبالقصد الأول إلى اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالدليل القطعي على حسب فهم كل أحد منهم ، فذلك دليل على صحة إيمانهم ورسوخهم في تسليمهم وإذعانهم ؛ ثم بين ولا يتهم بأنهم يد واحدة على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فقال : ( يأمرون ) أي كلهم على وجه التعاضدد والتناصر ) بالمعروف ( وهو كل ما عرفه الشرع وأجازه ) وينهون ) أي كذلك ) عن المنكر ( لا يحابون أحداً .
ولما ذكر الدليل القطعي على صحة الإيمان ، أتبعه أفضل العبادات فقال : ( ويقيمون الصلاة ) أي يوجدونها على صفة تقتضي قيامها بجميع أركانها وشروطها وحدودها مراقبة لربهم واستعانة بذلك على جميع ما ينوبهم ) ويؤتون الزكاة ) أي مواساة منهم لفقرائهم صلة للخلائق بعد خدمة الخالق ، وذلك مواز لقوله في المنافقين ) ويقبضون أيديهم ( ولما خص أمهات الدين ، عم بياناً لأنهم لا ينسون الله طرفق عين بل يذكرونه في كل حال بقوله : ( ويطيعون الله ) أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه ) ورسوله ( إشارة إلى حسن سيرتهم وجميل عشرتهم .
ولما ذكر مكارم أفعالهم ، أتبعه حسن مآلهم فقال : ( أولئك ) أي العظماء الشأن ) سيرحمهم الله ) أي المستجمع لصفات الكمال بوعد لا خلف فيه ، وهذا مع الجملة(3/358)
صفحة رقم 359
قبله مواز لقوله في المنافقين ) نسوا الله فنسيهم ( وهو إشارة إلى أن الطريق وعر والأمر شديد عسر ، فالسائر مضطر إلى الرحمة ، وهي المعاملة بعد الغفران بالإكرام ، لا قدرة له على قطع مفاوز الطريق إلا بها ، ولا وصول له أصلاً من غير سببها ولما بين ان حال المؤمنين مبني على المولاة وكانت المولاة فقيرة إلى الإعانة قال : ( إن الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) عزيز ) أي غالب غير مغلوب بوجه ، فهو قادر على نصر من يوالي حزبه وأن ينيله من ثمرات الرحمة ما يريد من غير أن يقدر أحد على أن يحول بينه وين شيء من ذلك ) حكيم ) أي فلا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل يبرمه ، وفي ذلك أن المؤمنين لا يزالون منصوورين على كل مفسد ما داموا على هذه الخلال من الموالاة وما معها من حميد الخصال .
التوبة : ( 72 - 74 ) وعد الله المؤمنين. .. . .
) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ( ( )
ولم ختم الآية بوصف العزة والحكمة المناسب لافتتاحها بالمولاة وتعقيبها بآية الجهاد ، وذلك بعد الوعد بالرحمة إجمالاً ، أتبعها بما هو أشد التئاماً بها بياناً للرحمة وتفصيلاً لها ترغيباً للمؤمنين بالإنعام عليهم بكل ما رامه المنافقون بناقهم في الحياة الدنيا ، وزادهم بأنه دائم ، وأخبر بأن ذلك هو الفوز لا غير فقال : ( وعد الله ) أي الصادق الوعد الذي له الكمال كله ) المؤمنين والمؤمنات ( اي الراسخين في التصديق بكل ما أتاهم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) جنات تجري من تحتها الأنهار ) أي فهى لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة ؛ ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام ، قال : ( خالدين فيها ( كانت الجنان لا تروق إلا بالمنازل والدور الفسيحة والمعازل قال : ( ومساكن طيبة ( ولما كان بعض الجنان أعلى من بعض ، وكان أعلاها ما شرف بوصف العندية المؤذن بالقربمن بنائه مما يؤكد معنى الدوام ، قال : ( في جنات عدن ) أي إقامة دائمة وهناء وصحة جسم وطيب مقر وموطن ومنبت ، وذلك كما قال في حق أضدادهم ) عذاب مقيم ( وما أنسب ذكر هذه الجنة في سياق التعبير بالوصف المؤذن بالرسوخ فإنه ورد في الحديث أنها خاصة بالنبيين والصديقيين والشهداء .
ولما كان ذلك لا يصفو عن الكدر مع(3/359)
صفحة رقم 360
تجويز نوع من الغضب قال مبتدئاً إشارة إلى نهى التعظيم - : ( ورضوان ) أي رضى لا يبلغه وصف واصف بما تشير إليه صيغة المبالغة ولو كان على أدنى الوجوه بما أفاده التنوين - ) من الله ) أي الذي لا أعظم منه عندهم ) أكبر ( اي مطلقاً ، فهو أكبر من ذلك كله لأن رضاه سببب كل فوز ، ولا يقع السرور الذي هو اعظم النعيم إلا برضى السيد ، وإذا كان القليل منه أكبر فما ظنك بالكثير .
ولما تم ذلك على ا ؟ حسن مقابلة بما وصف به أضدادهم ، قال يصفه زيادة في الترغيب فقه : ( ذلك ) أي الأمر العالي الرتبة ) هو ) أي خاصة لا غيره ) الفوز العظيم ) أي الذي يستصغر دونه كل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وفي كون ذلك وعداً لمن اتصف لأجل ما اتصف به ترغيب في الجهاد المأكور به بعدها لكونه من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي الأعظم إلى الموالاة .
ولما ثبتت موالاة المؤمنين ومقاطعتهم للمنافقين والكافرين ، وكان ما مضى من الترغيب والترهيب كافياً في الإنانة ، وكان من لم يرجع بذلك عظيم الطغيان غريقاً في الكفران ، أتبع ذلك الأمر بجادهم بما يليق بعنادهم فقال آمراً بالمعروف والنهي عن المنكر : ( يأيها النبي ) أي العالي المقدار بما لا يزال يتجدد له منا من الأنباء وفينا من المعارف ؛ ولما كان الجهاد أعرف في المصارحين ، وكانوا أولى به لشدة شكائمهم وقوة نفوسهم وعزائمهم بدأ بهم فقال ؛ ) جاهد الكفار ) أي المجاهرين ) والمنافقين ) أي المسائرين كلاَّ بما يليق به من السيف واللسان ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مطبوعاً على الرفق موصى به ، قال تعالى : ( واغلط عليهم ( اي في الجهادين ولا تعاملهم بمثل ملا عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في العقود ، وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال ) المنافقين زالمنافقات والكفار ( فقدم في كل سياق الأليق به ؛ ولما كان المعنى : فإنك ظاهر عليهم وقاهر لهم وهم طعام السيف وطوع العصا ، عطف عليه قوله : ( ومأواهم ( اي في الآخرة ) جهنم وبئس المصير ( ولما أتى بالدليل العام على إجرمهم ، اتبعه الدليل الخاص عليه وهو ايضاً دليل على دليل فقال : ( يحلفون بالله ( اي لملك الأعلى الذي لا شيء اعظم منه قدراً ) ما قالوا ) أي ما وقع منهم قول ، فقصر الفعل تعميماً للمفعول إعلاماً بأنهم مهما عنفوا على قول كائناً ما كان بادروا إلى الحلف على نفيه كذباً لنهم مردوا على النفاق فتطبعوا بأعلى الكذب ومرنوا على سيء الأخلاق ، فصار حاصل هذا أنهم اطعموا في العفو .(3/360)
صفحة رقم 361
وحذروا من عذاب الباقين بسبب إجرامهم لأنهم يأمرون بالمنكر وما يلائمه مقتفين ىثار من قبلهم في الانهماك في الشهوات غير مقلعين خوفاً من الله أن يصيبهم بمثل ما اصابهم ولا رجاء له أن ينيلهم مما أعد للمؤمنين مجترئين على الإيمان الباطلة بأعظم الحلف على أيّ شيء فرض سواء كان يستحق اليمين أو لا غير خائفين من الله أن يتهكم كما هتك غيرهم ممن فعل مثل أفعالهم ؛ ثم دل على عظيم إجرامهم وما تضمنه قوله ) المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ( - الآية ، من كبائر آثامهم ، ويجوز ان تكون هذه الاية واقعة موقع التعليل للآية التي قبلها بأنهم يقدمون على ما يستحقون به الجهاد والغلطة والنار من الحلف كذباً على نفي كل ما ينقل عنهم استخفافاً به وبأسمائه
77 ( ) اتخذوا إيمانهم جنة ( ) 7
[ المجادلة : 6 ] فتكون جواباً لمن كأنه قال : أما جهاد الكفار فالأمر فيه واضح ، وأما المنافقون فكيف يجحاهدون وهم يتكلون بلفظ الإيمان ويظهرون أفعال اهل الإسلام فقال : لأنهم يحلفون ) ولقد ) أي والحال أنهم كاذبون لقد ) قالوا كلمة الكفر ) أي الذي لا أكبر في الكفر منه ، وهي تكذيب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولما كان هذا السيافق لصنف يجددون الاستخفاف بالله تعالى - بما دل عليه الكمضارع كل وقت ، دل على أن إقرارهم بالإيمان كذب وأفعالهم صور لا حقائق لها ، فعبر بالإسلام فقال : ( وكفروا ) أي اظهروا الكفر ) بعد إسلامهم ) أي بما ظهر من أفعالهم وأقوالهم ، وذلك غاية الفجور ؛ ولما كان أعلى شغف الإنسان بشيء ان تحدثه نفسه فيه بما لا يصل إليه ، فيكون ذلك ضرباً من الهرس قال : ( وهموا بما لم ينالوا ( اي من قتل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو إخراجه من المدينة ، فجمعوا بين أنواع الكفر القول والفعل والاعتقاد ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في ) مأوهم ( والتقدير على هذا : يدخلون جهنم حالفين بالله : ما قالوا كلمة الكفر ، ولقد قالوها ، فيكون كقوله
77 ( ) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ( ) 7
[ الأنعام : 23 ] ولما بين من أحوالهم التي لا يحمل علىفعلها إلا أمر عظيم ، قال : ( وما ) أي قالوا وفعلوا والحال انهم ما ) نقموا ) أي كرهوا شيئاً من الأشياء التي أتتهم من الله ) إلا أن أغناهم الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال وهو غني عن العالمين ) ورسوله ) أي الذي هو أحق الخلق بأن يجوز عظمة الإضافة إليه سبحانه ، وكان أذاهم هذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهمهم بقتله مع إعطائه لهم ما أغناهم بخلاف الآية السابقة ، فكان الأقعد في ذمهم تأخير قوله : ( من فضله ( فهو من باب : ولا عيب فيهم ولما نبه على أن هذه المساوئ قابلوا بها المحسن إليهم ، رغبهم بانه قابل المتاب(3/361)
صفحة رقم 362
عليهم ، ورهبهم بأنه لا مرد لما يريد من العذاب بقوله : ( فإن يتوبوا ( ولما كان المقام جديراً بأن يشتد تشوف السامع إلى معرفة حالهمفيه ، حذف نون الكون اختصاراً تبيهياً على ذلك فقال ) يك ( اي ذلك ) خيراً لهم ( من إصرارهم .
ولما كان للنفوس من اصل الفطرة الأولى داعية شديدة إلى المتاب ، وكان القرآن في وعظه زاجراً مقبول العتاب عظيم الأخذ بالقلوب والعطف للألباب ، أشار إلى ذلك بصيغة التفعيل فقال : ( وإن يتولوا ) أي يكلفوا أنفسهم الإعراض عن المتاب ) يعذبهم الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بحوله وقوته ) عذاباً أليماً ) أي لا صبر لهم عليه ) في الدنيا ) أي بما هم فيه من الخوف والخزي والكلف وغيرها ) والآخرة ) أي بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه ) وما لهم في الأرض ) أي التي لا يعرفون غيرها لسفول هممهم ) من وليّ ) أي يتولى أمورهم فيصلح ما أفسد العذاب منهم أو يشفع لهم ) ولا نصير ) أي ينقذهم ؛ وأما السماء فهم أقل من أن يطمعوا منها بشيء ناصر أو غيره وأغلط أكباداً من أن يرتقي فكرهم إلى ما لها من العجائب وما بها من الجنود ؛ وسبب نزول الآية على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان جالساً في ظل شجرة فقال : سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله صلى اله عليه وسلم فقال : علام تشتمني انت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله .
ما قلوا ، فأنزل الله الآية ؛ وقال الكلبي : نزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجساً وعابهم فقال الجلاس : لئن كان محمداً لصادق وأنتم شر من الحمير ، فلما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قاله الجلاس ، فقال الجلاس : كذب عليّ يا رسول الله فأمرهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب علي عامر ، وقام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد ثم رفع عامر رضي الله عنه يديه إلى السماء فقال : اللهم انزل على نبيك تصديق الصادق منا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون آمنين فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ ) فغن تبوبوا يك ( اي التوب ) خيراً لهم ( فقام الجلاس فقال : يا رسول الله اسمع الله قد عرض عليّ التوبة ، صدق عامر بن قيس فيما قاله ، لقد قلته ، (3/362)
صفحة رقم 363
وانا أستغفر الله وأتوب إليه ، فقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ثم تاب وحسنت توبته ولا مانع من أن يكون كل ذلك سبباً لها كما تقدم ويأتي ، والأوفق لها في السببية الخبر الأول للتعبير في الكفرب ( أل ) المؤذنة بالكمال ، ومن شتم نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فقد ارتكب كل كفر ، وفي الاية دليل على قبول توبة الزندقة المسر للكفر المظهر للايمان - كما قال أبو حيان وقال : وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وقا لمالك : لا تقبل ، فإن جاء تائباً من قبل نفسه من قبل أن يعثر عليه قبلت توبته .
التوبة : ( 75 - 80 ) ومنهم من عاهد. .. . .
) وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ( )
ولما اقام سبحانه الدليل على ما ذكر بهذه الآية التي ختمها بانه أغناهم من فضله ، أتبها بإقامة الدليل عليها وعاى أنهم يقبضون أيديهم وعلى اجترائهم على اقبح الكذب فقال : ( ومنهم من عاهد الله ) أي الذي لا اعطم منه ) لئن آتانا ) أي من خير ما عنده ، واعتراف بأنه لا حق لأحد عليه بقوله : ( من فضله ) أي باي طريق كان من تجارة أو غنيمة أو زراعة أو غيرها ، وأكد لأنه كاذب يظن أن الناس يكذبونه ، وهكذا كل كاذب فقال : ( لنصدقن ( اي مما ىتانا من غير رياء - بما يشير إليه الإدغام ) ولنكونن ) أي كوناً هو الدال على أنا مجبولون على الخير ) من الصالحين ) أي لكل خير نندب إليه ) فلما آتاهم ( وكرر قوله : ( من فضله ( تقريراً لما قاله المعاهد تأكيداً للإعلام بأنه لا حق عليه لأحد ولا صنع فيما ينعم به ولا قدرة عليه بوجه ) بخلوا به ) أي كذبوا فيما عاهدوا عليه وأكدوه غاية التأكد ، فلم يتصدقوا بل منعوا الحق الواجب إظهاره فضلاً عن صدقة السر ) وتولوا ) أي كلفوا أنفسهم الإعراض عن الطاعة لمن تفضل عليهم مع معرفتهم بقبح نقض العهد ؛ ولما كان التولي قد يحمل على ما الجسد فقط قال : ( وهم(3/363)
صفحة رقم 364
معرضون ( اي بقلوبهم ، والإعراض وصف لهم لازم لم يتجدد لهم ، بل كان غزيرة فيهم ونحنة عالمون بها من حين أوقعوا العهد ؛ قال أبو حيان : قال الضحاك : هم نبتل ابن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير وثعلبة بن خاطب وفيهم نولت الآية - انتهى .
وحسن تعقيبها بها ايضاً أن في الأولى كفران نعمة الغني من غير عهد ، وفي هذه كفرانها مع العهد فهو ترق من الأدنى إلى الأعلى ، ودل عظيم شأن العهد بتعظيم الجزاء على خيانته بقوله : ( فأعقبهم ) أي الله والتمادي على البخل جزاء علىذلك ) نفاقاً ( متمكناً ) في قلوبهم ) أي بأن لا يزالوا يقولون ما لايفعلون ) إلى يوم يلقونه ) أي بالموت عند فوت الفوت ) بما أخلفوا الله ( ايوهو الملك الأعظم ) ما وعدوه ( لأن الجزاء من جنس العمل ؛ ولما كان إخلاف الوعد شديد القباحة ، وكان مرتكبه غير متحاش من مطلق الكذب ، قال : ( وبما كانوا يكذبون ) أي يجدون الكذب دائماً مع الوعدد ومنفكاً عنه ، فقد استكملوا النفاق : عاهدوا غدروا ووعدوا فأخلفوا وحدثوا فكذبوا ولما كانت المعاهدة هسبباً للإغناء في الظاهر ، وكان ذلك ربما كان مظنة لأن يتوهم من لا علم له أن ذلك لخفاء أمر البواطن عليه سبحانه ، وكان الحكم هنا وارداً على القلب يالنفاق الذي هو أقبح الأخلاق مع عدم القدروة لصاحبه على التخلص منه ، كان ذلك ادل دليل على أنه تعالى أعلم بما في كل قلب من صاحب ذلك القلب ، فعقب ذلك بالإنكار على من لا يعلم ذلك والتوبيخ له والتقريع فقال : ( ألم يعلموا أن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) يعلم سرهم ( وهو ما أخفته صدورهم ) ونجواهم ) أي ما فاوض فيه بعضهم بعضا ، لا يخفى عليه شيء منه ) وأن الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) علام الغيوب ) أي كلها ، أي ألم يعلموا أنه تعالى لا يخادع لعلمه بالعزاقب فيخشوا عاقبته فيوفوا بعهده ، وفائدة الإعطاء مع علمه بالخيانة إقامة الحجة ؛ قال أبو حيان : وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن ) ألم تعلموا ( بالتاء ، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير - انتهى .
وفائدة الالتفات الإشارة إلى أن هذا العلم إنما ينفع من هيىء للإيمان ولما أخبر تعالى أنه لم يكفهم كفران نعمة الغنى من غير معاهدة حتى ارتكبوا الكفران بمنع الواجب مع المعاهدة ، أخبر أنه لم يكفهم أيضاً ذلك حتى تعدوه إلى عيب الكرماء الباذلين بصفة حبهم لربهم ما لم يوجبه عليهم ، فقال تعالى معبراً بصيغة تصليح لجميع ما مضى من أقسامهم إفهاماً لأنهم كلهم كانوا متخلقين بذلك وإن لم يقله إلا بعضهم : ( الذين يلمزون ) أي يعيبون في خفاء ) المطوعين ) أي الذين ليس عليهم(3/364)
صفحة رقم 365
واجب في أموالهم فهم يتصدقون ويحبون إخفاء صدقاتهم - بما يشير إليه الإدغام ) من المؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان ) في الصدقات ( ولما كان ما مضى شاملاً للموسر والمعسر ، نص على المعسر لزيادة فضله وإشارة إلى أن الحث على قليل الخير كالحث على كثيره فقال عاطفاً على ) المطوعين ( : ( والذين لا يجدون ) أي من المال ) إلا جهدهم ) أي طاقتهم التي اجهدوا وأنفسهم فيها حتى بلغوها .
ولما كان اللمز هو العيب ، وهو ينظر إلى الخفاء كالغمز ، ومادته بكل ترتيب تدور على اللزوم ، والمعنى : يلزمون المطوعين عيباً ولا يظهرون ذلك لكل أحد وإنما يتخافتون به فيما بينهم ، وهو يرجع إلى الهزء والسخرية ، سبب عنه قوله : ( فيسخرون منهم ( ولما كان لا شيء أعظم للشخص من أن يتولى العظيم الانتقام له ظالمه ، قال : ( سخر الله ( اي وهو الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره ) منهم ) أي جازهم على فعلهم بأهل حزبه ، وزادهم قوله : ( ولهم عذاب أليم ) أي بما كانوا يؤلمون القلوب من ذلك وإذا حوققوا عليه دفعوا عن أنفسهم ما يردعهم عنه بالإيمان الكاذبة ، روى البخاري في التفسير عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل ، فجاء أبو عقيل بنصف صاع ، وجاء إنسان بأكثر منه ، فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة هذا ، وما فعل هذا الآخر إلا رياء ، فنزلت ) الذين يلمزون ( - الآية ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) معروفاً بكثرة الاحتمال وشدة المشير إليه ) عفا الله عنك لم اذنت لهم ( للمبالغة في استجلابهم والحرص على نجاة جميع الخلق فكان معروفاً بالاستغفار لهم تارة على وجه الخصوص بسؤالهم عند اعتذارهم وحلفهم وتارة على وجه العموم عند استغفاره لجميع المسلمين ، اخبره تعالى من عاقبة أمره بما يزهده منهم ليعرض عنهم اصلاً ورأساً ، لأنهم تجاوزوا حق الله في ترك الجهاد ومنع الصدقة وحقه صلى الله هليه وسلم في لمزه في الصدقات ووصفه بما يجل عنه إلى حقوق المجاهدين الذين هو سبحانه خليفتهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم مع ما سبق في علمه للمنافقين من أنه لا يغفرلهم خليفتهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم مع ما سبق في علمه للمنافقين من أنه لا يغفر لهم فقال : ( استغفر ) أي اطلب الغفران ) لهم أو لا تستغفر لهم ) أي استوى في أمرهم استغفارك لهم وتركه ) إن تستغفر ( اي تسأل الغفران ) لهم سبعين مرة ) أي على سبيل الحقيقة أو المبالغة ؛ ولما كان الإخبار باستواء الأمرين : الاستغفار وتركه ربما كان مسبباً عن الغفران وربما كان مسبباً عن الخسران ، عينه في هذا الثاني فقال : ( فلن يغفر الله ( اي الذي قضى بشقائهم وهو الذي لا يرد أمره ) لهم ( وهو يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وجواب الشرط محذوف لدلالته عليه ، والمراد بالسبعين على ما ظهر في المآل(3/365)
صفحة رقم 366
المبالغة في أنه لا يغفر لهم لشيء من الأشياء ولو غفر لهم لشيء لكان لقبول شفاعة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، والعرب تبالغ بما فيه لفظ السبعة لأنها مستقصاة جامعه لأكثر أقسام العدد ، وهي تتمة عدد الخلق كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم والأعضاء .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الحرص على رشدهم ونفعهم ، وكان حقيقة نظم الآية التخبير في الاستغفار وتركه زنفي المغفرة بالاستغفار بالعدد المحصور في سبعين ، جعل ( صلى الله عليه وسلم ) الآية مقيدة لما في سورة المنافقين فاستغفر لابن أبيّ وصلى عليه وقام على قبره وصرح بأنه لو يعلم انه لو زاد على السبعين قبل لزاد ، واستعظم عمر رضي الله عنه ذذلك منه ( صلى الله عليه وسلم ) وشرع يمسكه بثوبه ويقول : أتصلي عليه وقد نهاك الله عن ذلك لأنه لم يفهم من الآية غير المجاز لما عنده من بغض المنافقين ، وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرأى التمسك بالحقيقة لما في الرفق بالخليفة من جميل الطريقة بتحصيل الائتلاف الواقع للخلاف وغيره من افوائد وجليل العوائد ، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول لما نزل النهي الصريح : فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
اي نفطنت بعد هذا الصريح أن ذلك الأول كان محتملاً وإلا لأنكر الله الصلاة عليه ، وفي موافقة الله تعالى لعمر رضي الله عنه منقبة شريفة له ، وقد وافقه الله تعالى مع هذا في أشياء كثيرة ، روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمررضب الله عنه - إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فسأله ان يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ؛ وفي رواية في اللباس ، فأعطاه قميصه وقال : إذا فرغت فآذنا ، فلما فرغ آذنه فجاء ، وفي رواية : فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسو الله تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم : إنما خيرني الله فقال : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ( وسأزيده على السبعين ؛ وفي رواية ؛ لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ، قال : إنه منافق ، فصلى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : فأنزل الله عز وجل ) ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ( إلى ) وهم فاسقون ( فترك الصلاة عليهم ، قال : فعجيب بعد من جراءتي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والله ورسوله أعلم : وله في أواخر الجهاد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عنهما قال : لما كان يوم بدر أتى يالأساري وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إياه ، فلذلك نزع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قميصه(3/366)
صفحة رقم 367
الذي ألبسه ، قال ابن عيينة : كانت له عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يد فأحب أن يكافئه ، وفي رواية عنه في اللباس أنه قال : أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ابن أبيّ بعد ما أدخل قبره فأمر به رضي الله عنه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه - انتهى .
فكأن ابنه رضى الله عنه استحى من أن يؤذن النبي صلى اله عليه وسلم به لما كان يعلم من نفاقه ، أو آذنه ( صلى الله عليه وسلم ) به فصادف منه شغلاً فدفنه فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد إدخاله القبر وقبل تمام الدفن فأخرجه تطييباً لخاطر ابنه الرجل الصالح ودفعاً لما قد يتوهمه من إحنة عليه وتأليفاً لغيره ، قد روي أنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب ، فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ففي بعض الروايات انه هو الذي طلب من النبي صلى الله لعيه وسلم أن يكفنه في قميصه ، وتعطفه عليه ، أدعى إلى تراحم المسلمين وتعاطف بعضهم على بعض ، وقوله : وألبسه قميصه - بالواو لا ينافي الرواية الأولى ، وتحمل الرواية الأولى على أنه وعده إعطاء القميص لمانع كان من التنجيز وقت السؤال ، فحمل الجزم بالإعطاء على الوعد الصادق ثم أنجزه بعد إخراجه من القبر - والله أعلم ؛ ووردت هذه الآية أو لحق الرسول صلى اله عليه وسلم ، ولم يرد فيه أنه يهينهم بالإماتة على النفاق ، فكان يكفي فيه استغفار لهم ؟ فكأنه قيل : استوى الاستغفار وعدمه في أنه لا ينفعهم ، وختمها بعلة عدم النغفرة في قوله : ( ذلك ) أي الأمر الذي يبعد فعله من الحكيم الكريم ) بأنهم كفروا بالله ) أي وهو الملك الأعظم ) ورسوله ) أي فهم لا يستأهلون الغفران لأنهم لم يهتدوا لإصرارهم على الفسق وهو معنى قائم بهم في الزيادة على السبعين كما هو قائم بهم في لاقتصار على السبعين ) والله ) أي المحيط علماً وقدرة ) لا يهدي القوم الفاسقين ) أي أنه لا يهديهم لأنه جبلهم على الفسق ، وكل من لا يهديه لأنه جلبه على الفسق لا يغفر له ، فهو لا يغفر لهم لما علم منهم مما لا يعلمه غيره ، فهو تمهيد لعذر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في استغفاره قبل العلم بالطبع الذي لا يمكن معه رجوع .
التوبة : ( 81 - 85 ) فرح المخلفون بمقعدهم. .. . .
) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ(3/367)
صفحة رقم 368
فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) 73
( ) 71
لما علل سبحانه عدم المغفرة بفسقهم ، وأتى بالظاهر موضع المضمر إشارة إلى اتصافهم به وتعليقاُ للحكم بالوصف ، علل رسوخهم في الفسق بعد أن قدم أن المنافقين بعضهم من بعض فهم كالجسد الواحد بقوله : ( فرح المخلفون ) أي الذين وقع تخليفهم بإذنك لهم وكراهة الله لانبعاثهم ) بمقعدهم ) أي قعودهم عن غزوة تبوك ، ولعله عبر بهذا المصدر لصلاحيته لموضع القعود ليكون بدلالته على الفرح اعظم دلالة على الفرح بالموضوع ، وهو مروي عن ابن عباس رضى اله عنهما ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; وأظهر الوصف بالتخلف موضع الضمير زيادة في تهجين ما رضوا به لأنفسهم ، وزاده تهجيناً أيضاً بقوله : ( خلف ) أي بعد وخلف أو لأجل خلاف ) رسول الله ) أي الملك الأعظم الذي من تخلف عن حزبه هلك ) زكرهوا أن يجاهدوا ( ولما كان هذا في سياق الأموال تارة بالرضى بنيلها والسخط بحرمانها ، وتارةبقبض اليد عن بذلها ، وتارة بالخلاف الذي هو النصب أعم من أن يكون بالمال أو النفس ، وتارة بعيب الباذلين وغير ذلك من شأنها قدم قوله : ( بأموالهم و أنفسهم ( على قوله : ( في سبيل الله ( اي طريق الملك الذيله صفات الكمال ، لأنه ليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإيقان الذي بعث المؤمنين ، ودل ذلك على عراقتهم في الفسق بأن الإنسان قد يفعل المعصية ويحزن على فعلها وهؤلاء سروا بها مع ما فيها من الدناءة ، وقد يسر الإنسان بالمعصية ولا يكره أن يكون بدلها أو معها طاعة وهؤلاء ضموا إلى سرورهم بها كراهية الطاعة ، وقد يكره ولا ينهى غيره وهؤلاء جمعوا إلى ذلك كله نهي غيرهم ، ففعلوا ذلك كله ) وقالوا ) أي لغيرهم ) لا تنفروا في الحر ( بعداً من الإسلام وعمّى عن سيد الأحكام ، لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر ولما كان هذا قول من لم تخطر الآخرة على باله ، أمره تعالى ان يحذر من يصغي إليهم أو يقبل عليعم بقوله : ( قل ) أي يا أعلم بخلقنا استجهالاً لهم ) نار جهنم ( اي التي أعدها الله لمن خالف أمره ) أشد حرّاً ( ولفت الكلام إلى الغيبة يدل على أن أعظم المراد بهذا الوعظ ضغفاء المؤمنين لئلا يشتبهوا بهم طعماً في الحلم فقال تعالى : ( ولو(3/368)
صفحة رقم 369
كانوا ) أي المنافقون ) يفقهون ) أي لو كان لهم فهم يعلمون به صدق الرسول وقدرة مرسله على ما توعد به لعلموا ذلك فما كانوا يفرون من الحر إلى أشد حراً منه ، لأن من فر منحر ساعة إلى حر الأبد كان أجهل الجهال ، وقال أبو حيان : لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه ، بعني في قوله ) فرح المخلفون ( - انتهى. فتكون الآية حيئنذ جواباً لمن كأنه قال : هذه أحوال من خرج فما حال من قعد ؟ وقد خرج بما في هذه الآية من الأوصاف كعب بن مالك ورفيقاه رضي الله عنهم ونحوهم ممن لم يفرح بالقعود ولا اتصف بما ذكر معه من أوصافهم .
ولما كان غاية السرور الضحك ، وكان اللازم لهم في الآخرة البكاء في دار الشقاء الذي هو غاية الحزن لهم ، فيها زفير وشهيق وهم يصطرخون فيها ، قال تعالى مهدداً لهم مسبباً عن قبيح ما ذكر من فعلهم مخبراً في صورة الأمر إيذاناً بأنه أمر لا بد من وقوعه : ( فليضحكوا قليلاً ( اي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك - يسراً ، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال ) وليبكوا كثيراً ) أي في نار جهنم التي أغفلوا ذكر حرورها وأهملوا الاتقاء من شديد سعيرها بدل ذلك الضحك القليل كما استبدلوا حرها العظيم بحر الشمس الحقير ) جزاء بما كانوا يكسبون ) أي من الفرح بالمعاصي والسرور بالشهوات والانهماك في اللذات ولما كان المسرور بشيء الكاره لضده الناهي عنه لا يفعل الضد إلا تكلفاً ولا قلب له ، إليه وكان هذا الدين مبنياً على العزة والغنى ، أتبع ذلك بقوله مسبباً عن فرحهم بالتخلف : ( فإن رجعك الله ) أي الملك الذي له العظمة كلها فله الغنى المطلق عن سفرك هذا ) إلى طائفة منهم ) أي وهم الذين يمد الله في اعمارهم إلى أن ترجع إليهم ، وهذا يدل على أنه أهلك سبحانه في غيبته بعضهم ، فأردت الخروج إلى سفر آخر ) فاستأذنوك ( اي طلبوا ان تأذن لهم ) للخروج ) أي معك في سفرك ذلك ) فقل ( عقوبة لهم وغنى عنهم وعزة عليهم ناهياً لهم بصيغة الخبر ليكون صدقك في علماً من اعلام النبوة وبرهاناً من براهين الرسالة ) لن تخرج معي أبداً ) أي في سفر من الأسفار لأن الله قد أغناني عنكم وأحوجكم إليّ ) ولن تقابلوا معي عدواً ( لأنكم جعلتم أنفسكم في عداد ربات الحجال ولا تصلحوا لقتال ؛ والتقييد بالنعية كما يؤذن باستثقالهم يخرج ماكان بعده صلى اله عليه وسلم مع أصحابه رضي اله عهنم من سفرهم وقتالهم ولما أخزاهم سبحانه بما أخزوا به أنفسهم ؟ ، علله بقوله : ( إنكم رضيتم بالقعود ) أي عن التشرف بمصاحبتي ، ولما كانت الأوليات أدل على تمكن الغرائز من الإيمان(3/369)
صفحة رقم 370
والكفران وغيرها قال : ( أول مرة ) أي في غزوة تبوك ، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته ؛ قال أبو حيان : فعلل بالمسبب وهو الرضى الناشىء عن السبب وهو النفاق - انتهى .
ولما أنهى الحكم والعلة ، سبب عنه قوله : ( فاقعدوا مع الخالفين ) أي الذين رضوا لأنفسهم بهذا الوصف الذي من جملة معنيه : الفاسد فهم لا يصلحون لجهاد ولا يلفون أبداً في مواطن الامجاد ، وقال بعضهم : المراد بهم الذين تخلفوا بغير عذر في غزوة تبوك ، أو النساء والصبيان أو أدنياء الناس أو المخالفون أو المرضى والزمنى أو أهل الفساد ، والأولى الحمل على جميع ، أي لأن المراد تبكيتهم وتوبيخهم ، ولما أتم سبحانه سبباً لترك الصلاة على الشهيد تشريفاً له ، جعل الموت الواقع في القعود المرضي به عن الجهاد سبباً لترك الصلاة إهانة لذلك القاعد ، فقال عاطفاً عاى ما أفهمت جملة : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ( الآية ، من نحو : فلا تستغرق لهم أصلاً : ( ولا تصلِّ ) أي الصلاة التي شرعت لتشريف لبمصلى عليه والشفاعه فيه ) على أحد منهم ( ثم وصف الأحد بقوله : ( مات ( وقوله ) أبداً ( متعلق بالنهي لا بالموت ) ولا تقم علىقبره ) أي لأن قيامك رحمة وهم غير أهل لها ، ثم علل ذلك بقوله : ( إنهم كفروا بالله ) أي الذي له العظمة كلها ولما كان الموت على الكفر مانعاً من الصلاة على الميت بجميع معانيها لم يحتج إلى التأكد ياعادة الجار فقبل - : ( ورسوله ) أي الذي هو أعظم الناس نعمة عليهم بما له من نصائحهم بالرسالة ، والمعنى أنهم لعظم ما أرتكبوا من ذلك لم يهدهم الله فاستغفر على الضلالة حتى ماتوا على صفة من وقع النهي على الاستغفار لهم المشار إليها بقوله ) والله لا يهدي القوم الفاسقين ( وذلك المارد من قوله معبراً بالماضي والمعنى على المضارع تحقيقاً للخبر وأنه واقع لا محالة : ( وماتوا وهم ) أي والحال أنهم بضمائرهم وظواهرهم ) فاسقون ) أي غريقون في الفسق .
ولما كان ابن ابيّ سبب النهي عن الاستغفار لهم ، وكان ابنه عبد الله بن عبد الله من خيار المؤمنين وخلص المحسنين وكان لبعض المنافقين انباء مثله ، وكان من طبع البشر أن يذكر في كثير من مقاله غلطاً ما يندم عليه ، وكان شديد الوقوف لما حف به من العلائق البدنية وشمله من العووائق بالأوهام النفسانية مع أوهامع وعوائقه قاصراً على قيوده وعلائقه ، فكان لإعادة الكلام وتكريره وترديده ومزيد تقريره تأكيد في النفوس وتعزية وتثبيت في القلوب ، كرر آية الإعجاب لهذه الأسباب لأن يكون حكمها على بال من المخاطب لا ينساه لاعتقاد ان العمل به مهم جداً يفتقر إلى فضل عناية ، وأن ذلك شبيه بما أوهم صاحبه فهو يتكلم فيه ثم ينتقل إلى غيره لغرض صحيح ثم يرجع إليه في أثناء(3/370)
صفحة رقم 371
حديثة لشدة اهتمامه به تنبيهاً على ذلك ، ولا يرجع إليه إلا على غاية ما يكون من حسن الربط وبراعة التناسب ، وعطفها بالواو دون الفاء لأن ذلك ليس مسبباً عما قلبه كما سبق في الآية الأولى ، اي لا تستغفر لهم ولا تصل عليهم ولا تعجبك قولهم : مستعطفين لك في طلب محبتك وإن زخرفوه وأكدوه بالإيمان التي اتخذوها جنة ) ولا تعجبك أموالهم ( وأسند النهي إليها إبلاغلاً فيه .
ولما لم يكن هنا ما اقتضى تأكيد النفي مما مضى في الآية الأولى ، لم يعد النافي ولا أثبت اللام ولا الحياة فقال : ( وأولادهم ) أي وإن أظهروا أنهم يجاهدون بها معك ويتقربون إلى الله فإن الله لا يريد بهم ذلك فلا ييسره لهم لما علم من مباعدتهم للخير وعدم قابليتهم له فلا يحملك الإعجاب بشيء من ذلك علىفعل شيء مما تقدم النهي عنه تأليفاً لأمثالهم للمساعدة بأولادهم وأموالهم وتطيبلاً لقلوب المؤمنين من أولادهم ، فإنهم إن كانوا مؤمنين للمساعدة بأولادهم وأموالهم وتطيباً لقلوب المؤمنين من أولادهم ، فإنهم إن كانوا مؤمنين لم يضرهم ترك ذلك وإلا فبعداً لهم وسحقاً ) إنما يريد الله ) أي بعزه وعظمته وعلمه وإحاطته ) أن يعذبهم ) أي تعذيبهم ) بها ( فالفعل واقع بخلافة في الاية السابقة ) في الدنيا ) أي بجمعها ومحبة الإخلاد إليها وإلى الأولاد إن كانوا مثلهم في الإعتقاد وغلا كانوا زيادة عذاب لهم في الدارين ) وتزهق ) أي تخرج بغاية العسر ) أنفسهم وهم ( لاغترارهم بها ) كافرون ( ولا شك ان خطاب الرأس بشيء اوقع في قلوب اصحابه فلذلك وقع خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد غيره من أتباعه وجماعته وأشياعه ممن قد يجنح إلى الأسباب ويقف عنده كما هو طبع النفوس في تأمل ما شهد ونسيان ما غاب وعهد تدريباً لهم على الحب في الله والبغض فيه لأنه من أدق ابواب الدين فهماً وأجلها قدراً ، وعليه تبتنى غالب ابوابه ، ومنه تجتنى أكثر ثمراته وآدابه ، وذلك أنه ربما ظنه الناظر فيمن بسطت عليه الدنيا أنه من الناجين فيوادّه لحسن قوله غافلاً عن سوء فعله ، أو يظن أن أهل الدين فقراء إلى مساعدته لهم في جهاد أو غيره بما له وذويه روية فيداريه ، فأعلمهم تعالى ان ما هذا سبيله مقطوع البركة نهياً عن النظر إلى الصور وتنبيهاً على قصر الأتظار على المعاني ) ) قل لا يستوي الخبيث والطيب يقولوا اعجبك كثرة الخبيث ( ) [ المائدة : 100 ] - الآية ) ) وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ( ) [ المنافقون : 41 ]
التوبة : ( 86 - 93 ) وإذا أنزلت سورة. .. . .
) وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ(3/371)
صفحة رقم 372
وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) 73
( ) 71
ولما افتتحت قصتهم بأن المتقين لا يتوقفون في الانتداب إلى الجهاد على أمر جديد ولا استئذان ، بل يكتفون بما سبق من عموم الحث عليه والندب إليه فيبادروا إليه الطرف ولا يحاذرون الحتف ، وأن من المنافقين من يستأذن في الجهاد جاعلاً استئذانه فيه باباً للاستئذان في التخلف عنه ، ومنهم من يصرح بالاستئذان في العقود ابتداء من غير تستر ، وعقب ذلك بالنهي عن الإعجاب باموالهم وأولادهم ثم مر في ذكر اقسامهم وما لزمهم من فضائحهم وآثامهم ، إلى أن ختم القصة بأن أموالهم إنما هي لفتنتهم لا لرحمتهم ، ولمحنتهم لا لمنحتهم ، أتبع ذلك بدليله من انهم لا يتوصلون بها إلى جهاد ، ولا يتوسلون إلى دار المعاد ، فقال عاطفاً على ما أفهمه السياق من نحو ان يقال لأنهم لا يفعلون بها خيراً ولا يكسبون اجراً ، أو بانياً حالاً من الكاف في ( تعجبك ) : ( وإذا أنزلت سورة ) أي وقع إنزال قطعة من القرآن .
ولما كان الإنزال يدل على النزل حتماً ، فسره بقوله : ( ان ىمنوا بالله ( اي الذي له الكمال كله ) وجاهدوا ( اي أوقعوا الجهاد ) مع رسوله استأذنك ( اي في التخلف من لاعذر له وهم ) أولوا الطول ) أي اهل الفضل من الأموال والسعة والثروة في غالب الأحوال ) منهم ( وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم ولا سيما بعد سماع القرآن ، ويجوز أن يكون معطوفاً على خبر ) أن ( في قوله ) ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ( هذا مع ما تضمن اشتئذانهم من رذائل الأخلاق ودنايا الهممم المحكي بقوله : ( وقالوا ذرنا ( اي اتركنا ولو على حالة سيئة ) نكن ) أي بما يوافق جبلاتنا ) مع القاعدين ) أي بالعذر المتضمن - لاسيما مع التعبير بذرنا الذي مادته تدور على ما يكره دون ( دعنا ) - لما استأنف به أو بين من قوله ) رضوا بأن يكونا ( اي كوناً كأنه جبلة لهم ) مع الخوالف ( اي النساء ) وطبع ) أي وقع الطبع المانع ) على قلوبهم ) أي حتى رضوا(3/372)
صفحة رقم 373
لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى .
ولما أبهم فاعل الطبع ، نفى دقيق العلم فقال : ( فهم ) أي بسبب هذا الطبع ) لا يفقهون ) أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين ، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون ، فلاشيء اضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت وألزمت المذام والقوادح ، فقد اكتنفت آية الأموال في اول قصة وآخرها ما يدل على مضمونها .
ولما افتتح القصة بمدح المتقين لمسابقتهم إلى الجهاد من دون استئذان ختمها بذلك وذكر ما أعد لهم فقال معلماً بالغنى عنهم بمن هو الخير المحض تبكيتاً لهم وتقريعاُ : ( لكن الرسول ) أي والذي بعثه لرد العباد عن الفساد إلى السداد ) والذين آمنوا ) أي إيماناً عظيماً كائناً أو كائنين ) معه ) أي مصاحبين له ذاتاً وحالاً في جميع ما ارسلناه إليهم به ) جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) أي بذلوا كلاًّ من ذلك في حبه ( صلى الله عليه وسلم ) فتحققوا بشرط الإيمان و ( لكن ) واقعة موقعها بين متنافسين لأن ما مضى من حالهم كله ناطق بأنهم لم يجاهدوا ولما كان السياق لبخلهم بالنفس والمال ، ولسلب النفع من اموالهم وأولادهم ، اقتصر في مدح أوليائه على الجهاد بالنفس والمال ولم يذكر السبيل وقال : ( أولئك ( دالاً على أنه معطوف على ما تقديره : فأولئك الذين نورت قلوبهم فهم يفقهون ، وقوله : ( لهم ) أي لا لغيرهم ) الخيرات ( تعرض بذوي الأموال من المنافقين لأن الخير يطلق على المال وتحليته ب ( ال ) على استغراقه لجميع منافع الدارين ، والتعبير بأداة البعد إشارة إلى علو مقام أوليائه وبعد مناله إلا بفضل منه تعالى ، وكذا التعريض بهم بقوله : ( وأولئك هم ) أي خاصة ) المفلحون ) أي الفائزون بجميع مرادهم ، لا غيرهم ؛ ثم بين الإفلاح الأعظم بقوله : ( أعد الله ) أي الذي له صفات الكمال ) لهم ) أي الآن لينعمهم بها بعد موتهم وانتقالهم من هذه الدار التي هي معدن الأكدار ) جنات تجري ( اي دائماً ) من تحتها ( اي مع قربها ) الأنهار ( ثم عرض بهذه الدنيا لسريعة الزوال فقال : ( خالدين فيها ( ثم رغب فيها بقوله : ( ذلك ( اي الأمر العالي الرتبة ) الفوز العظيم ) أي لا غيره .
ولما ختم قصص أهل المدر بذم أولي الطول منهم بتخلفهم ، وكان ذمهم إنما هو لكونهم قادرين على الخروج في ذلك الوجه ، وقدمهم لكثرة سماعهم للحكمة ، وكان اهل الوبر أقدر الناس على السفر لأن مبنى أمرهم على الحل والارتحال ، فهم أجدر(3/373)
صفحة رقم 374
بالذم لأنهم في غاية الاستعداد لذلك ، تلاهم بهم فقال : ( وجاء المعذرون ( اي المبالغون في إثبات الخفايا من الأعذار المانعة لهم من الجهاد - بما أشار إليه الإدغام ، وحقيقة المعذر أن يتوهم أن له عذراً ولا عذر له ، والعذر : إيساع الحيلة في وجه يدفع ما ظهر من التقصير ) من الأعراب ( قيل : هم رهط عامر بن الطفيل من بني عامر ، وقيل : اسد وغطفان ، قيل : رهط من غفار ) ليؤذن ) أي ليقع الإذن من أي آذن كان في تخلفهم عن الغزو ) لهم ) أي فاعتذروا بما كذبوا فيه وقعدوا عن الغزو معك ، هكذا كان الأصل فوضع موضعة : ( وقعد الذين كذبوا الله ) أي وهو المحيط علماً وقدرة ) ورسوله ( تنبيهاً على وصفهم وليكون اظهر في شمول الأعراب وغيرهم .
ولما كان منهم المحتوم بكفره وغيره قال : ( سيصيب ) أي بوعد لا خلف فيه ) الذين كفروا ) أي حتم بكفرهم ) منهم عذاب اليم ( اي في الدارين .
ولما كان من القاعدين من أهل المدر والوبر من له عذر ، استثناهم سبحانه وساق ذلك مساق النتيحة من المقدمات الظاهرة فقال : ( ليس على الضعفاء ) أي بنحو الهرم ) ولا على المرضى ) أي بنحوالحمى والرمد ) ولا على الذين لايجدون ( ولو بدين يؤدونه في المستقبل ) ماينفقون ) أي لحاجتهم وفقرهم ) حرج ( إي غثم يميل عن الصراط المستقيم ويخرج دينهم .
ولما كان ربما كان أحد من المنافقين بهذ الصفة احترز عنه بقوله : ( إذا نصحوا ) أي في تخلفهم وجميع احوالهم ) لله ( اي الذي له الجلال والإكرام ) ورسوله ( أس سراً وعلانية ، فإنهم حيئنذ محسنون في نصحهم الذي منه تحسرهم على القعود على هذا الوجه وعزمهم على الخروج مى قدروا ، وقوله : ( ما على المحسنين ( في موضع ( ما عليهم ) لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم ) من سبيل ) أي طريق إلى ذمهم أو لومهم ، والجملة كلها بيان ل ) نصحوا لله ورسوله ( وقوله : ( والله ) أي الذي له صفات الكمال ) غفور ( اي محاء للذنوب ) رحيم ) أي محسن مجمل إشارة غلى ذمهم أو لومهم ، التقصير والعجز وإن اجتهد ، لا يسعه إلا العفو ؛ ثم عطف على ذلك قوله : ( ولا على الذين إذا ( وأكد المعنى بقوله : ( ما أتوك ) أي ولم يأتوا بغير قصدك راغبين في الجهاد معك ) لتحملهم ( وهم لا يجدون محملاً ) قلت ( اي أتوك قائلاً أو حال قولك : ( قد ) مضمرة كما قالوا في
77 ( ) حصرت صدورهم ( ) 7
[ النساء : 90 ] ) لا أجد ما ) أي شيئاً ) احملكم عليه ( وأجاب ) إذا ( بقوله ويجوز ان يكون استئنافاً و ( قلت ) هو الجواب ) تولوا ) أي عن سماع هذا القول منك ) وأعينهم تفيض ) أي تمتلئ فتسيل ، وإسناد الفيض غليها أبلغ من حيث أنها كلها دمعاً : ثم بين الفائض بقوله : ( من الدمع ((3/374)
صفحة رقم 375
أي دمعاً والأصل : يفيض دمعها ، ثم علل فيضها بقوله ؛ ) حزناً ( ثم علل حزنهمبقوله : ( ألا يجدون ) أي لعدم وجدانهم ) ما ينفقون ( فحزنهم في الحقيقة على فوات مرافقتك والكون في حزبك ، وهذه قصة الكبائين صرح بها وإن كانوا داخلين في ) الذين لا يجدون ( إظهاراً لشرفهم وتقريراً لأن الناصح - وإن اجتهد - لا غنى له عن العفو حيث بين أنهم - مع اجتهادهم الأسباب وتحسرهم عند فواتها بما أفاض أعينهم - ممن لا سبيل عليه أو ممن لا حرج عليه المغفور له .
ولما نفى السبيل عمن وصفه كر على دم من انتفى الوصف فقال تعالى : ( إنما السبيل ) أي باللوم وغيره ) على الذين يستأذنونك ) أي يطلبون إذنك في التخلف عنك راغبين فيه ) وهم أغنياء ) أي فلا عذر لهم في التخلف عنك وعدم مواساتك ، وتضمن قوله تعالى مستأنفاً : ( رضوا بان يكونوا ) أي كوناً كأنه جبلة لهم ) مع الخوالف ( انتفاء الضعف والمرض عنهم من حيث إنه علل فعلهم برضاهم بالتخلف فأفهم ذلك أنه لا علة لهم سواه ، وأفهم أيضاً أن كل من كان كذلك كان مثلهم ولو أنه ضعيف أو مريض ، وكرر ذكر الخوالف تكريراً لعيبهم برضاهم بالكون في عداد النساء إذ كان ذلك من أعظم المعايب عند العرب ، وسمى الفاعل للطبع حيث حذفه من الأولى : ( رضوا ) : ( وطبع الله ) أي له القدرة الكاملة والعلم المحيط ) على قلوبهم ( ثم سبب عن ذلك الرضى والطبع قوله : ( فهم لا يعلمون ) أي لاعلم له فلذلك جهلوا ما في الجهاد من منافع الدارين لهم فلذلك رضوا بما لا يرضى به عاقل ، وهو أبلغ من نفى الفقه في الأولى ، وزاد المناسبة حسناً ضم الأعراب في هذه الايات إلى أهل الحاضرة وهم بعيدون من الفقه جديرون بعدم العلم .
التوبة : ( 94 - 98 ) يعتذرون إليكم إذا. .. . .
) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ( )(3/375)
صفحة رقم 376
ثم شرع يخبر عن أشياء تقع منهم عند الرجوع دلالة على أن هذا كلامه وأنه عالم بالمغيبات كليها وجزئيها ، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، فقال مبيناً لعدم علمهم : ( يعتذرون ) أي يثبتون الأعذار لأنفسهم : وأشار إلى بعدهم بالقلوب بقوله : ( إليكم ( اي عن التخلف ) إذا رجعتم إليهم ) أي من هذه الغزوة ، كأنه قيل : فماذا يقال في جوابهم ؟ فقال للرأس الذي لا تأخذه في الله لومة لائم : ( قل لا تعتذرون ) أي فإن أعذاركم كاذبة ، ولذلك علل النهي بقوله : ( لن نؤمن لكم ( اي نصدقكم في شيء منها ، ثم علل عدم تصديقهم بماأوجب لهم القطع بذلك فقال : ( من نبأنا الله ) أي اعلمنا الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء غعلاماً جليلاً ) من أخباركم ( اي التي ظننتم جهلاً بالله انها تخفى فقد علمناها ؛ ثم هددهم بقوله : ( وسيرى الله ) أي لأنه عالم بكل شيء وإن دق قادر على كل شيء ) عملكم ) أي بعد ذلك اتتبينون أم تثبتون على حالكم هذا الخبيث كما رأى الذي قبل ) ورسوله ) أي بمايعلمه به سبحانه وحياً أو تفرساً ، ولما كان الكلام في لمنافقين ، فكانت ارؤية لنفاقهم الذي يجتهدون في إخفائه ، وكان المؤمنون لا اطلاع لجميعهم عليهم ، لم يذكرهم بخلاف من ياتي بعد فإنهم مؤمنون .
ولما كان هذا ربما أوهمهم انه لا يعلم إلا ما أوقعوه بالفعل ، نفى ذلك بإظهار وصفه في موضع افضمار مهدداً بقوله مشيراً بأداة التراخي إلى استبعادهم لقيامهم إلى معادهم : ( إلى عالم الغيب ( وهو ما غاب عن الخلق ) والشهادة ( وهو ما اطلع عليه أحد منهم .
فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ما غاب عن الخلق ) والشهادة ( وهو ما اطلع عليع أحد منهم .
فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ترجمة عن الذي يعلم الشيء قبل كونه ما يعلم بعد كونه ) فينبئكم ) أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستوعباً ) بما كنتم ) أي بجبلاتكم ) تعلمون ) أي مما أبرزتموه إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم ، ولو تأخرتم لبرز ، وهو تهديد عظيم ، ووقع تربيتهم للاعتذار على الأسهل فالأسهل على ثلاث مراتب : الأولى مطلق الاعتذار وقد مضى ما فيها ؛ الثانية تأكيد ذلك بالحلف للإعراض عنهم فقال سبحانه : ( سيحلفون بالله ) أي الذي لا أعظم منه ) لكم إذا انقليتم إليهم ) أي جهد إيمانهم أنهم كانوا معذورين في التخلف كذباً منهم إرادة أن يقبلوا قلوبكم عما اعتقدتم فيهم ) لتعرضوا عنهم ) أي إعراض الصفح عن معاتبتهم(3/376)
صفحة رقم 377
) فأعرضوا عنهم ( إعراض المقت ؛ روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تجالسوهم ولا تكلموهم ) ثم علل وجوب الإعراض بقوله ) إنهم رجس ) أي لا يطهركم العتاب فهو عبث .
ولما كان من المقرر انه لا بد لهم من جزاء ، وأن النفس تتشوف إلى معرفته ، قال : ( ومأواهم ( اي في الآخرة ) جهنم جزاء ) أي لأجل جزائهم ) بما كانوا يكسبون ) أي فلا تتكلفوا لهم جزاء غير ذلك بتوبيخ ولا غيره ؛ المرتبة ؛ الثالثة الحلف للرضى عنهم فقال : ( يحلفون لكم ) أي مجتهدون في الحلف بمن تقدم أنهم يحلفون به وهو الله ) لترضوا عنهم ( خوفاً من غائلة غضبكم ) فإن ترضوا عنهم ) أي لمجرد أيمانهم المبني على عدم إيمانهم ) فإن الله ) أي الذي له الغنى المطلق ) لا يرضى ( عنهم ، هكذا كان الأصل ولكنه قال : ( عن القوم الفاسقين ( إشارة إلى تعليق الحكم بالوصف وتعميماً لكل من اتصف بذلك ، والمعنى أنه لا ينفعهم رضاكم وتكونون به مخالفين الله ، فهو في الحقيقة نهي للمؤمنين عن الرضى عنهم ، أبرز في هذا الأسلوب العجيب المرقص ، وفي ذلك رد على من يتوهم أن رضى المؤمنين لو رضوا عنهم يقتضي رضى الله ، فإن ذلك رد نزعة مما يفعل الأخبار والرهبان في رضاهم وغضبهم وتحليلهم ونحرسيمهم الذي يعتقد أتباعهم أنه عن الله تعالى .
ولما ترتب سبحانه الاستئذان في العقود والرضى بما فيه من الدناءة على عدم الفقه تارة والعلم اخرى وختم بصنف الأعراب ، بين أن الأعراب أولى بذلك لكونهم أعرق في هذا الوصف وأجرأ على الفسق لبعدهم عن معدن العلم وصرفهم أفكارهم في غير ذلك من أنواع المخازي لتحصيل المال الذي كلما داروا عليه طار عنهم فأبعد .
فهم لا يزالون في همه قد شغلهم ذلك عن كل هم وهم يحسبون انهم يحسبون صنعاً فقال تعالى : ( الأعراب ) أي اهل البدو ) اشد ( اي من اهل المدر ) كفراًُ ونفاقاً ( لبعدهم عن دار الهجرة ومعدن العلم وجفائهم بأن مرائي قلوبهم لم تصقل بأنوار الكتاب والسنة ) وأجدر أن ) أي وأحق بأن ) لا يعلموا ( ولما كان الإحجام أصعب من الإقدام ، وأطراف الأشياء المختلطة في غاية الإلباس ، قال : ( حدود ما أنزل الله ) أي المحيط علماً وحكمة بكل شيء ) على رسوله ) أي الذي أعلم الخلق من القرآن والشرائع والأحكام لعدم إقبالهم عليه شغلاً بغيره فإن الله يعلم ذلك منهم ) والله ) أي الذي له(3/377)
صفحة رقم 378
جميع صفات الكمال ) عليم ) أي بالغ العلم بكل شيء ) حكيم ) أي بالغ الحكمة فهو يضع الأشياء في أتم محالها .
ولما أثبت هذا الوصف لهذا الصنف بين أن أفراده انقسموا إلى من ثبت على ما هو الأليق بحالهم ، وقسم نزع إلى ما هو الأليق باهل المدر ، كما انقسم أهل المدر إلى مثل ذلك ، وبدأبالخبيث لأنه الأصل فيهم فقال : ( ومن الأعراب ) أي المذكروين ) من يتخذ ) أي يتكلف غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الأريحية والهمم العلية بأن يعد ) ما ينفق مغرماً ( اي فلا يبذله إلا كرهاً ولا يرى له فائدة أخروية بل يراه مثل الصنائع بالنهب ونحوه ) ويتربص ) أي يكلف نفسه الربص ، وهو أن يسكن ويصبر وينتظر ) بكم الدوائر ( اي الدواهي التي تدور بصاحبها فلا يتخلص منها ، وذلك ليستريح من الإنفاق وغيره مما ألزمه به الدين .
ولما تربصوا هذا التربص ، دعا عليهم بمثل ما تربصوا فقال : ( عليهم دائرة السوء ) أي دائماً لا تنفك إما لا تنفك إما بإذلال الإسلام وإما بعذاب الاصطلام ، فهم فيما أرادوه بكم على الدوام ، وقراءة ابن كثير عمرو بضم السين على أن معناه الشر والضر ، وقراءة الباقين بالفتح على أنه مصدر ، فهو ذم للدوائر .
ولما كان الانتقام من الأعداء وإيقاع البأس ببهم لا يتوقف من القادر غالباً إلا على سماع اخبارهم والعلم بها ، جرت سنته تعالى في ختم مثل بقوله : ( والله ) أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الكاملة ) سميع ( يسمع ما يقولون ) عليم ) أي فهو يعلم ما يضرون عطفاً على نحو أن يقال : فالله على كل شيء قدير ، ونحوه قوله ) إنني معكما أسمع وأرى (
التوبة : ( 99 - 100 ) ومن الأعراب من. .. . .
) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ( )
ولما افتتح الاية الثانية بقوله : ( ومن الأعراب من يؤمن ( اي لا يزال يجدد إيمانه آثار الدين ) بالله واليوم الآخر ( علم ان القسم الول غير مؤمن بذلك ، وإنما وقع منهم الإقرار باللسان من غير إذعان ، والإيمان هو الأصل الذي يترتب عليه الإنفاق عن طيب نفس لما يرجى من ثوابه في اليوم الآخر الذي لولا هو انتفت الحكمة من هذا الخلق(3/378)
صفحة رقم 379
على هذا الترتيب : ثم عطف عليه ما يثمره الإيمان فقال : ( ويتخذ ) أي يحث نفسه ويجاهدها أن عرضت له الوساوس الشيطانية على أن يعد ) ما ينفق ) أي فيما امر الله به ) قربات ( جمع قربة لما تقرب إليه سبحانه ) عند الله ( اي الذي وظيفته التبليغ فهو لا يقول لهم شيئاً إلا عن الله ، واطلق القربة والصلاة على سببها .
ولما أخبر عن أفعالهم ، أخبر عن عاقبتهم ومآلهم ؛ قال مستأنفاً محققاً لرجائهم ترغيباً في الصدقة بأبلغ تأكيد لما لأعدائهم من التكذيب : ( ألا إنها ) أي نفقاتهم ) قربة لهم ) أي كما أرادوا ؛ ثم بين ثمرة كونها قربة بقوله : ( سيدخلهم الله ) أي الذي له صفات الكمال بوعد لا خلف فيه ) في رحمته ) أي إكرامه فتكون محيطة بهم ثم علل ذلك بقوله معبراً بالاسم الأعظم تنبيهاً على انه لا يسع الإنسان إلا العفو وإن أعظم الاجتهاد : ( إن الله ( اي الذي الذي لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره ) غفور ( اي بليغ الستر لقبائح من تاب ) رحيم ) أي بليغ الإكرام ، ذلك وصف له ثابت ، يجلله كل من يستأهله .
ولما ذكر القسم الصالح منهم وكانوا متفاوتين فمنهم السابق وأكثرهم التابع اللاحق ، أتبعه السابقين على وجه شامل حاصر لصنفي البادي والحاضر إشارة إلى أنه - وإن أجره - أصله فقد قدمه وصفه بحيث ساوى أهل الكمال في مطلق الانخراط في ملكهم والفوز بدرجتهم لإحسانه في اتباعه ترغيباً لأهل القدرة والرحمة في اتباع أهل الرضوان والنعمة فقال : ( والسابقون ( ولما دل على سبقهم بالعلو في مراتبه دل على قديم دخولهم فيه فقال : ( الأولون ) أي إلى هذا الدين القيم ) من المهاجرين ) أي الدار الكفر فضلاً عن أهلها ) والأنصار ) أي الذين آووا نصروا ) والذين اتبعوهم ) أي الفريقين ) بإحسان ) أي في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقهم ) رضي الله ( اي الذي له لاكمال كله ) عنهم ( اي بافعالهم هذه التي هي وفق ما أمر به ) ورضوا عنه ( اي بما أتاهم عنه من البشرى وقذف في قلوبهم من النور بلطيف الوعظ والذكرى ) وأعد لهم ( اي جزاء على فعلهم ) جنات تجري ( ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة الجماعة فقال : ( تحتها الأنهار ) أي هي كثيرة المياه .
فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر ؛ ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير دلالة على ذلك كسائر المواضع ، ولعل تخصيص هذا(3/379)
صفحة رقم 380
الموضع بالخلاف لنه يخص هذه الأمة ، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزياً .
ولما كان أعظم العيوب الانقطاع ، نفاه بقوله : ( خالدين فيها ( وأكد المراد من الخلود بقوله : ( أبداً ( ثم استأنف مدح هذا الذي أعده لهم بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العالي المكانة خاصة ) الفوز العظيم (
التوبة : ( 101 - 104 ) وممن حولكم من. .. . .
) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ( )
ولما استوفى الأقسام الأربعة : فسمى الحضر وقسمي البدو ثم خلط بين قسمين منهم تشريفاً للسابق وترغيباًللاحق ، خلط بين الجميع على وجه آخر ثم ذكر منهم فرقاً منهم من نجز الحكم بجزائه بإصرار أو متاب .
ومنهم من أخر أمره إلى يوم الحساب عالم بالخفايا وابتدأ الأقسام بالمستور عن غير علمه ليعلم أهل ذلك القسم أنه سبحانه عالم بالخفايا فلا يزالوا أذلاء خوفاً مما هددهم به فقال مصرحاً بما لم يتقدم التصريح به من نفاقهم : ( وممن حولكم ) أي حول بلدكم المدينة ) من الأعراب ) أي الذين قدمنا أنهم أشد كفراً لما لهم من الجفاء ) منافقون ) أي راسخون في النفاق ، وكأنه قدمهم لجلافتهم وعتوهم ، وأتبعهم من هو أصنع منهم في النفاق فقال : ( من أهل المدينة ) أي منافقون أيضاًح ثم بين أنهم لا يتوبون بوصفهم بقوله : ( مردوا ) أي صُلبوا وداموا وعتوا وعسوا وعصوا وصار لهم به دربة عظيمة وضراوة حتى ذلت لهم فيه جميع أعضائهم الظاهرة والباطنة وصار لهم خلقاً ) على النفاق ) أي استعلوا على هذا الوصف بحيث لك من عظيم الفطنة وصدق الفراسة لفرط توقيهم وتحامي ما يشكل من أمره ؛ ثم(3/380)
صفحة رقم 381
هددهم وبين خسارتهم بقوله : ( نحن ) أي خاصة ) نعلمهم ( ثم استأنف جزاءهم بقوله : ( سنعذبهم ) أي بوعد لا خلف فيه ) مرتين ) أي إحداهما برجوعك سالماً وشفوف أمرك وعلو شأنه وضخامة أركانه وعز سلطانه وظهور برهانه ، فإنهم قطعوا لغباوتهم وجلافتهم وقسلوتهم كما أشرت إليه بقولي ) ويتربص بكم الدوائر ( - انك لا ترجع هذه المرة من هذه السفرة لما يعرفونه من ثباتك للأقران ، وإقدامك على الليوث الشجعان ، واقتحامك للأهوال ، إذا ضاق المجال ، ونكص الضراغمة الأبطال ، ومن عظمة الروم وقوتهم وتمكنهم وكثرتهم ، وغاب عن الأغبياء وخفى عن الأشقياء الأغنياء أن الله الذي خلقهم أعظم منهم وأكبر ، وجنوده أقوى من جنودهم وأكثر ؛ والثانية بعد وفاتك بقهر أهل لردة ومحقهم ورجوع ما أصلته بخليفتك الصديق رضي الله عنه إلى ما كان عليه في أيامك من الظهور وانتشار الضياء والنور والحكم على خالفه بالويل والثبور ، وسيأتي أنه يمكن أن تكون المرة الثانية إخراب مسجد الضرار والإخبار بما أضمروا في شأنه من خفي الأسرار ) ثم يردون ) أي بعد الموت ) إلى عذاب عظيم ) أي لا يعلم عظمة حق علمه إلا الله تعالى ، وهو العذاب الأكبر الدائم الذي لا ينفك أصلاً .
ولما ذكر هذا القسم المارد الجافي ، ثنى بمقابلة اللين الصافي ، وهي الفرقة التي نجز المتاب عليها والنظر بعين الرحمة إليها فقال : ( وآخرون ) أي ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة آخرون ) اعترفوا بذنوبهم ) أي كلفوا أنفسهم ذكرها توبة منهم ندماً وإقلاعاً وعزماً ولم يفزعوا إلى المعاذير الكاذبة وهو المتقصدون .
ولما كان الخلط جمعاً في امتزاج ، كان بمجرد ذكره يفهم أن المخلوط امتزاج بغيره ، فالإتيان بالواو في ) آخر ( يفهم أن المعنى : ( خلطوا عملاً صالحاً ( بسيئ ) وآخر سيئاً ( بصالح ، فهو من ألطف شاهد لنوع الاحتباك ، ولعل التعبير بما أفهم ذلك إشارة إلى تساوي العلمين وأنه ليس أحدهما بأولى أحدهما بأولى من الآخر أن يكون أصلاً ، وقد فسرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك في أناس رآهم في المنام شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح(3/381)
صفحة رقم 382
كما رواه البخاري في التفسير عن سمرة رضي الله عنه ثم أوجب تحقيق توبتهم الملزومة للاعتراف بقبولها بقوله : ( عسى الله ) أي بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال ) إن يتوب عليهم ( فإن ) عسى ( منه سبحانه وتعالى واجبه لأن هذا دأب الملوك ولعل التعبير بها يفيد - مع الإيذان بأنه لا يجب عليه لأحد شيء وأن كل إحسان يفعله فإنما هو على سبيل الفضل إشارة إلى أنهم صاروا كغيرهم من خلص المؤمنين غير المعصومين في مواقعه التقصير وتوقع الرحمة من الله بالرجوع بهم إلى المراقبة ، فكما ان أولئك معدودون في حزب الله مع هذا التقصير المرجو له العفو فكذلك هؤلاء ؛ ثم علل فعله بهم مرجياً للمزيد بقولع : ( إن الله ) أي ذا الجلال والإكرام ) غفور رحيم ) أي لم يزل موصوفاً بقبول المعرض إذا أقبل وإبدال سئية بحسن فضلاً منه وإكراماً ؛ روى البخاري في صحيحه في التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسو الله ( صلى الله عليه وسلم ) لنا : ( أتاني الللية آتيان فاتبعثاني فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذاك منزلك ، قالا : أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عفا الله عنهم ) ولما كان من شأن الرضوان قبول القربان ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) تطهيراً لهم وتطيباً لقلوبهم بقوله : ( خذ ( ورحمهم بالتبعيض فقال : ( من أموالهم صدقة ) أي تطيب أنفسهم بإخراجها ) تطهرهم ) أي هي من ذنوبهم وتجري بهم مجرى الكفارة ) وتزكيهم ) أي أنت تزيدهم وتنميهم ) بها ( بتكثير حسناتهم ) وصل ( اي اعطف ) عليهم ( وأظهر فتكون موصلة لهم إلى الله ) سكن لهم ) أي تطمئن بها قلوبهم بعد قلق الخوف من عاقبة الذنب لما يعملون من أن القبول لا يكون إلا ممن حصل له الرضى عنهم ومن أن الله سمع قولك إجابة لك ويعلم صدقك في صلاحهم ) والله ) أي المحيط بكل شيء ) سميع عليم ( اي لكل ما يمكن ان يسمع وما يمكنأن يعلم منك ومنهم ومن غيركم ، فهو جدير بالإجابة والإثابة ، وذلك ان هذا الصنف لما اشتد ندمهم على التخلف اوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فسأل عنهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قدم فقيل :(3/382)
صفحة رقم 383
ندموا هلى التخلف عنك فحلفوا : لا يطلقهم إلا أنت ، فقال : وأنا أطلقهم حتى أومر بذلك ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات فقالوا : يارسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها فقال : ما أمرت بذلك ، فلما أنزل الله هذه الآية أخذ الثلث فتصدق به .
ولما ساق توبتهم سبحانه في حيز ) عسى ( ، وكان الأصل فيها الترجمة في المحبوب والإشفلق في المكروه ، وأمر سبحانه بالأخذ من أموالهم لذلك ، وكان إخراج المال شديداً على النفوس لا سيما في ذلك الزمان ، كان ربما استوقف الشيطان من لم يرسخ قدمه في الإيمان عن التوبة وما يترتب عليها من الصدقة لعدم الجزم بأنها تقبل ، فأتبع ذلك سبحانه بقوله : ( ألم تعلموا ) أي المعترفون بالذنوب حتى تسمح أنفسهم بالصدقة أو غيرهم حتى يرغبوا في التوبة والصدقة ) أن الله ) أي الذي له الكمال كله ) هو ) أي وحده ) ويأخذ ) أي يقبل ) التوبة ( تجاوزاً ) عن عبادة ( اي التائبين المخلصين ) ويأخذ ) أي يقبل قبول الآخذ لنفسه ) الصدقات ) أي ممن يتقرب بها إليه بنية خالصة ) وأن الله ) أي المحيط بصفتي الجلال والإكرام ) هو ) أي وحده ) التواب الرحيم ( اي لم يزل التجاوز والإكرام من شأنه وصفته ، وفي ذلك إنكار على غيرهم من المختلفين في كونهم لم يفعلوا مثل فعلهم من الندم الحامل على أن يعذبوا أنفسهم بالإيثاق في السواري ويقربوا بعض أموالهم كما فعل هؤلاء أو نحو ذلك مما يدل على الاعتراف والندم .
التوبة : ( 105 - 108 ) وقل اعملوا فسيرى. .. . .
) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( ( )
ولما أمره من تطهيرهم بما يعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الذنب ، عطفعلى قوله ) خذ ( قوله تحذيراً لهم من مثل ما وقعوا فيه : ( وقل اعلموا ( اي بعد طهارتكم ) فسيرى الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) عملكم ) أي بما له من إحاطة العلم(3/383)
صفحة رقم 384
والقدرة فاعلموا عمل من يعلم انه بعين الله ) ورسوله ) أي بإعلام الله له. ولما كان هذا القسم من المؤمنين فكانت اعمالهم لاخفاء فيها ، قال ) المؤمنون ( فزينوا أعمالكم جهدكم وأخلصوا ، وفي الأحاديث ( لو أن جلاً عمل في صخرة لا باب لها لأظهر الله علمه للناس كائناً ما كان ) .
ولما كان هذا السياق للمؤمنين حذف منه ( ثم ) لكنه لما كان للمذنبين ، أكد بالسين فقال : ( وستردون ( اي بوعد لا خلف فيه ) إلى عالم الغيب والشهادة ) أي بعد الموت والبعث ) فينبئكم ) أي بعلمه بكل شيء ) بما كنتم تعلمون ) أي ما أظهرتم عمله وما كان في غرائزكم ، فلو تأخرتم تظهرتم ، يجاريكم على حسنة ويزيد من فضله ، وعلى سيئة عدلاً غن شاء ولا يظلم مثقال ذرة .
ولما ذكر القسمين المنجز عذابهم ومثابهم ، ذكر المؤخر امرهم وهو القسم الظالم لنفسه في الذي بدأ به في سورة الحشر الآخر ، ولا يبعد أن تكون هذه سورة الحشر الأول لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ساق الناس إلى أرض المحشر فقال : ( وآخرون ) أي ومنهم ىخرون ) مرجون ) أي مؤخرون بين الرجاء والخوف ) لأمر الله ) أي لما يأمر به فيهم الملك الأعظم الذي له الأمر كله لا يدرون أيعذبهم أو يرحمون ؛ وقدم قوله - : ( وإما يتوب عليهم ( اي تابوا ترجية لهم وترقيقاً لقلوبهم بالتذكير بمنزل الأنس الذي أخرجوا أنفسهم منه ومنعوها من حلوله وطيب مستقره ومقيله وحليّ أوقاته وعليّ مقاماته وشهيّ أقواته .
ولما كان ربما قال قائل : ما فائدة التأخير وما المانع من التنجير ؟ قال : ( والله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) عليم حكيم ( ترهيباً وترغيباً وتبعيداً وتقريباً واحتراساً مما قد يوهمه الترديد من الشك وتدريباً ، وقراءة غفور رحيم للزيادة في الترجمة .
ولما ذكر الذين أقامهم في مقام الخطر أتبعه تعيين طائفة من القسم الأول المستور(3/384)
صفحة رقم 385
الموصوف بالمرود ، فألحق الضرر فقال : ( والذين ( وهو معطوف في قراءة من أثبت الواو على قوله ) وآخرون ( وخبره على ما يليق بالقصة : منافقون ماردون ، وأما على قراءة المدنيين وابن عامر بحذفها فيكون على تقدير سؤال سائل ، وذلك أنه لما قال تعالى ) لا تعلمهم نحن نعلمهم ( تشوفت النفس إلى الإعلام بهم ، فلما قال ) وآخرون اعترفوا بذنوبهم ( اشتغل السامع بتفهمه ، ورما ظن أنه يأتي في آخر الكلام من تسميتهم ما يغنيه عن السؤال ، فلما إنتقل بقوله ) وىخرون مرجون ( إلى قسم آخر ، وختم الآية بصفتي العلم والحكمة ليعلم ان التردد للتقسيم وأنه كان شك فهو بالنسبة إلى العباد وأما الله نعالى فمنزه عنه فذكر السامع بالصفتين ما كان دار في خلده ومال إليه قلبه من الإعلام بالماردين على النفاق ، فاشتد تشوفه غليه فكان كأنه قال : منٍْ منَ الماردين منهم ؟ فقال تعالى الذين ) اتخذوا مسجداً ) أي من الماردين وهم من اعظمهم مهارة في النفاق وإخفاء الكيد والشقاق لأنهم توصلوا إلى ذلك بأن كلفوا أنفسهم الأخذ لأعظم عرى الدين مع المنازعة للفطرة الأولى والحذر من أن يفضحوا ، فكان ختام هذه الآية من بديع الختام فإن احتراس عما يتوهم فيما قلبه ودليل على ما بعده ، ولذلك ختم قصتهم أيضاً بصفتي العلم والحكمة ، ولاح من هذا أن قوله ) سنعذبهم مرتين ( يمكن أن يراد به : مرة برجوعك ، ومرة بإخرابك مسجدهم وتفريقك لشملهم بعد هتك سرائرهم بكشف ضمائرهم ، وبَيَّنَ سبحانه علة اتخاذهم بقوله : ( ضراراً ) أي لأهل مسجد قباء أو لحزب الله عامة ) وكفراً ) أي بالله لاتخاذ دينه هزؤاً ) وتفريقاً ( اي ماما يبيتونه من المكايد باستجلابهم لبعض من يخدعونه من المؤمنين ويطعمون فيه ليأتي مسجدهم ويترك المسجد المؤسس على التقوى ) بين المؤمنين ( اي الراسخين في الإيمان بما جاء من عند الله ، لأنهم كانوا يجتمعون في مسجد قباء فيغتص بهم ) وإرصاداً ) أي إعداداً وانتظاراً ) لمن حاب الله ( اي الملك الأعظم ) ورسوله ( ولما لم تكن محاربتهم مستغرقة للزمن الماضي ، أدخل الجار فقال : ( من قبل ) أي قبل اتخاذهم لهذا المسجد بزمن قريب وهو أبو عامر الفاسق ليأتي إليهم فيزيدهم قوة على نفاقهم بأن يصير كهفاً يأوون إليه ورأساً لهم كان من خيار الصحابة ، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة قال له : ما هذا الدين الذي جئت به ؟ قال : ( الحنيفية دين إبراهيم ) ، قال : أبو عامر : أنا عليها ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لست عليها ) ، قال : بلى ولكنك ادخلت فيها ماليس منها ، قال : ما فعلت ، ولكني جئت بها بيضاء نقية ، قال أبو عامر : أمات الله الكاذب من طريداً شريداً وحيداً غريباً فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( آمين ) وسماه(3/385)
صفحة رقم 386
الفاسق ، ثم تحيز إلى قريش وقاتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) معهم يوم أحد وقال : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلما قاتل يوم حنين مع هوازن وانهزموا أيس وهرب إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجنود ومخرج محمداً وكانوا قد حسدوا إخوانهم بني عمرو بن عوف على مسجد قباء لما بنوه ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأتيه ويصلي فيه ، فنبوامسجد الضرار وأرسلوا إليه ( صلى الله عليه وسلم ) لياتيهم فيصلي فيه ، وكان يتجهز لنتبوك فقال : ( انا على جناح سفر وحال شغل ، وغذا قدمنا صلينا فيه ان شاء الله ) فلما قدم فكان قريباً من المدينة نزلت الآية ، فدعا مالك بن الدخشم وجماعة وقال لهم : ( انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ) ففعلوا ، وأمر ( صلى الله عليه وسلم ) ان يتخذ مكانه كناسه يلقي فيها الجيف والقمامه ؛ ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً طريداً وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو الغرض ليس به إخلاص أو بمال مشتبه فهو لاحق بمسجد الضرار .
ولما أخبر عن سرائرهم ، اخبر عن نفاقهم في ظواهرهم بقوله : ( وليحلفن ) أي جهد إيمانهم ) إن ) أي ما ) اردنا ( اي باتخاذ ) إلا الحسنى ) أي من الخصال ؛ ثم كذبهم بقوله : ( والله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) يشهد ) أي يخبر إخبار الشاهد ) إنهم لكاذبون ( وقد بان بهذا كله ان سبب فضيحتهم ما تضمنه فعلهم من عظيم الضرر للغسلام وأهله ؛ ثم قال ناهياً عن غجابتهم إلى ما ارادوا به من التلبيس إنتاجاًعن هذا الكلام الذي أمضى من السهام : ( لا تقم فيه ) أي مسجد الضرار ) أبداً ) أي سواء تابوا أو لا ، وأراد بعض المخلصين ان يأخذه أولاً ، اي لا بد من إخرابه ومحو أثره عن وجه الأرض .
ولما ذمه وذم أهله ، مدح مسجد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، إما الذي بالمدينة الشريفة وغما الذي ببني عمرو بن عوف بقباء على الخلاف في ذلك. وهو الذي اتخذ في أول الإسلام مسجداً إحساناً وإيماناُ وجمعاً بين الؤمنين وغعداداً لمن صادق الله ورسوله ، ومدح أهله غرشاج لكل من كلن مال إليه من المؤمنين لقرب أو غيره إلى العوض عنه ، ولعله أبهم تعيينه وذكر وصفه ليكون صالحاً لكل من المسجدين .
لما اتصف بهذا الوصف من غيرهما فقال مؤكداً تعريفاً بما له من الحق ولما للمنافقين من التكذيب : ( لمسجد أسس ) أي وقع تاسيسه ) على التقوى ) أي فأحاطت التقوى به لأنها إذا أحاطت بأوله أحاطت بآخره ؛ ولما كان التأسيس قد تطول مدة ايامه(3/386)
صفحة رقم 387
فيكون أوله مخالفاً لآخره ، قال : ( من أول يوم ) أي من أيام تأسيسه ، وفيه إشارة إلى ما تقدم من احتمال أن يريد أحد من اهل الإخلاص أن يتخذه مصلى ، فبين انه لايصلح لذلك لأن تأسيسه كان لما هو مباعد له ) احق أن تقوم فيه ) أي بالصلاة والوعظ وغيره من مسجد لم يقصد به التقوى على التقدير فرض محال إلا في ثاني الحال .
ولما مدحه مدح أهله بقوله : ( فيه رجال ) أي لهم كمال الرجولية ) يجبون أن يتطهروا ) أي في أبدانهم وقلوبهم كمال الطهارة - بما اشار إليه الإظهار ، فهم دائماً في جهاد أنفسهم في ذلك فأحبهم الله ) والله ) أي الذي له صفات الكمال ) يحب ) أي يفعل ما يفعل المحب من الإكرام بالفضل والإحسان ، ولإثبات ما أفهم الاجتهاد حصل الغنى عن إظهار تاء التفعيل أو للندب إلى الطهارة ولو على ادنى الوجوه المجزئة فقال : ( المطهرين ) أي قاطبة منهم ومن غيرهم .
التوبة : ( 109 - 111 ) أفمن أسس بنيانه. .. . .
) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ( )
ولما علم من هذا بطريق افشارة والتلويح أن التأسيس مثل ابتداء خلق الحيوان ، فمن جبل من اول مرة جبلة شر لا يصلح للخير ابداً ولا يقبله كما قال تعالى ) ) ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون ( ) [ الأنفال : 23 ] ذكره على سبيل التصريح فسبب عما مضى قوله ممثلاً الباطل ببناء على حرف واد واه جداً على شفير جهنم : ( افمن اسس بنيانه ) أي كما اشرت إليه في المسجد المحثوث بالإقبال عليه ) على تقوى من الله ( اي الملك الأعلى ) ورضوان ( فكان كمن بنى بنيانه على جبل لا تهدمه الأمطار ولا تؤثر فيه السيول ) خير من أسس بنيانه ( على فسق وفجور وعدم اكتراث بالأمور فكان كمن بنى بنيانه ) على شفا ) أي حرف ، ومنه الشفه ) جرف ) أي مكان جفرة السيل وجرفه فصار مشرفاً على السقوط ، ولذلك قال : ( هار ) أي هائر ، من هار الجرف - إذا أشرف لتخريق السيول على السقوط ) فانهار ) أي فكان بناؤه لذلك سبباً لأنه سقط سقوطاً لا تماسك معه ) به ( اي وهو فيه آمناً من سقوطه بقلة عقله وسفاهة رايه ) في نار جهنم ( فالجواب : لا شك الأول خير بل ، لا خير في الثاني اصلاً ، والعجب كل العجب من(3/387)
صفحة رقم 388
كونه بنى هذا البناء هكذا ، فأجيب بانه لا عجب لأن الأمر بيد الله ، لا مفر من قضائه ، وهو قد هدى الأول غلى ما فيه صلاحه ، ولم يهد الثاني لما علم فيه من عدم قابلية الخير ) والله ( الذي له صفات الكمال ) لا يهدي القوم ) أي الذين لهم قوة المحاولة لما يريدون ) الظالمين ) أي المطبوعين على ظلام البصائر ، فهم لا يكفرون في شيء إ لا جاء في غير موضعه وعلى غير نظام كخطوات الماشي في الظلام ، وقد علم ان الاية من ثانياً ، واثبت ثانياً ضعف البناء حساً لن مسجد الضرار أولى به ، فدل على حذف ضده أولاً ، فذكر النهاية المعقولة لأهلها والبداية المحسوسة للناظرين لها ؛ وروي عن جابر رضي الله عنه قال : رأيت الدخان من مسجد الضرار ؛ وحكي عن خلف بن يسار انه راى فيه حجراً يخرج منه الدخان في اول دولة بني العباس .
ولما كان ما تقدم غير قاطع في إخرابه لما ثبت للمساجد من الحرمة ، استأنف الإخبار عن أنه لا يعد في عداد المساجد بوجه ، وإنما هو في عداد بيوت الأنام فهو واجب الإعدام فقال : ( لا يزال بنيانهم ( نفس المبنى وهو المسجد ) الذي بنوا ريبة ) أي شكاً ونفاقاً ) في قلوبهم ( كما بيوت الصنام كذلك لأهلها ، فكان ذلك حثاً على إخرابه ومحوه وقطع اثره .
والمعنى انه جامع لهم على الريبة في كل زمان يمكن أن يكون ) إلا أن ( ولما كان القطع محصلاً للمقصود من غير نظر إلى قاطع معين ، قال بانياً للمفعول : ( تقطع قلوبهم ) أي إلا يوجد فيه القطع البليغ الكثير لقلوبهم وعزائمهم ويباعد بينهم ويفرق شملهم بإخراجه ، وقراءة يعقوب ب ( إلى ) الجارة واضحة في المراد ، أو يكون المراد أنه لايزال حاملاً لهم على التصميم على النفاق إلى أن يموتوا ، فهو كناية عن عدم توبتهم .
ولما كان التقدير : فالله عليم بما اخبركم به فلا تشكوا فيه ، عطف عليه تعميماً للحكم وتعظيماً للأمر قولهك ) والله ( اي الذي له الإحاطة بكل شيء ) عليم ) أي بالغ العلم بكل معلوم ) حكيم ( فهو يتقن ما يأمر به .
ولما تقدم افنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى
77 ( ) ما لكم إذا قيل لكم انفروا ( ) 7
[ التوبة : 38 ] ثم الجزم بالأمر بالجهاد بالنفس والمال في قوله
77 ( ) انفروا خفافاً وثقالاً ( ) 7
[ لبتوبة : 41 ] وكان امره تعالى كافياً للمؤمن الذي صدق إيمانه بافسلام في امتثاله لذلك في منشطه ومكرهه ، وكان كثير منهم قد فعلوا بتثاقلهم ما يقدح في غيمانهم طعماً في ستره بمعاذيرهم وإيمانهم ، اقتضى المقام تبكيت المتثاقلين وتأنيب المنافقين على وجه مهتك لأستارهم مكشف لأسرارهم ، فلما استوفى تعالى في(3/388)
صفحة رقم 389
ذلك اقسامهم ، ونكس الويتهم وأعلامهم وختمهم بهذه الطائفة التي ظهر فيها امتثاله صلى اله عليه وسلم لقوله تعالى ) جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ( بأن هدّ مسجدهم وحرقة بالنار وأزال بنيانه وفرقة ، وقدّ اديمه عن جديد الأرض ومزقه ، اتبع ذلك سبحانه بتذكير المؤمنين ما أمرهم به في قوله تعالى ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ( وقوله ) انفروا خفافا وثقالاًً ( ليفعلوا فيه ما فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما امره به ، فساق مساق الجواب لسؤال من كأنه قال : لقد طال المدى وعظم الخطب في هذه السورة في إبانة الفضائح وهتك السرائر وإظهار القبائح ، فلم فعل ذلك وقد جرت عادته بالأمر بالستر واخذ العفو ؟ قوله : ( إن الله ( اي الملك الذي لا ملك في الحقية غيره ولا يخشي إلا عذابه ولا يرجى إلا خيره ) اشترى ) أي بعهود اكيدة ومواثيق اكيدة ومواثيق غليظة شديدة ، ولذلك عبر بما يدل على اللجاج فيها فقال : ( من المؤمنين ) أي بالله وما جاء من عنده ، وقدم النفس إشارة إلى المبايعة سابقة على امتساب المال فقال مقدماً للأعز : ( أنفسهم ) أي التي تفرد بخلقها ) وأموالهم ) أي التي تفرد برزقها وهويملكها دونهم .
ولما ذكر المبيع اتبعه الثمن فقال : ( بأن لهم الجنة ) أي خاصة بهم مقصورة عليهم ، لا يكون لغير مؤمن ، فيميزهم حتى يقابل كل ما يستحقه ، فكأنه قيل : اشترى منهم ذلك بماذا ؟ فقيل : ( يقلتلون في سبيل الله ( اي الملك الأعلى بسبب دينه الذي لا يرضي غيره ، قتالاً يكون الدين محيطاً به وظرفاً ، فلا يكون فيه شائباً لغيره ؛ ثم سبب عن ذلك ما هو حقيق به ، فقال : ( فيقتلون و يقتلون ) أي الملك الأعلى من يكون ذلك بالقوة أو بالفعل ، فيخصمهم بالحنة كما وعدهم ، وقراءة حمزة ةاكسائي بتقديم المبني للمفعول أمدح ، لأن من طلب الموت - لا يقف له خصمه فيكون المعنى : فطلبوا ان يكونوا مقتولين فقتلوا اقرانهم ، ويجوز أن يكون النظر إلى المجموع فيكون المعنى انهم يقاتلون بعد رؤية مصارع اصحابهم من غير ان يوهنهم ذلك ، وعن بعض الأعراب انهلما سمع هذه الاية قال : بيع والله مربح لا نقيل ولا نستقيل ، فخرج إلى الغزو فاستشهد .
ولما كان القتل لكونه سبباً للجنة بشارة ووعداً ، أكد ذلك بقوله : ( وعداً ( وزاده بحرف افيجاب فقال : ( عليه ( واتم التأكيد بقوله : ( حقاً ( ولما أكد هذه المبايعة الكريمة هذه التأكيدات العظيمة ، زاد ذلك بذكره في جميع الكتب القديمة فقال : ( في التوراة ( كتاب موسى عليه السلام ) والإنجيل ( كتاب عيسى عليه السلام ) والقرآن ( اي الكتاب الجامع لكل ما قبله ولكل خير ، وهؤلاء المذكورون في ذه السورة كلهم ممن ادعى الإيمان وارتدى به حلل الأمان ، ثم إنهم فعلوا بتخلفهم عن الإقباض وتوقفهم عن الإسراع والإيقاض وغير ذلك من اقوالهم ومساوئ أفعالهم فعل الكاذب في دعواه أو(3/389)
صفحة رقم 390
الشاك أعم من أن يكون شك في وعد الله بإيراثهم إياها بتخصيصهم بها ، وجوز أن يدخلها غيرهم وطمع ان يكون هو ممن يدخلها مع التكذيب ، والله تعالى منزه عن جميع ذلك وهو وفي بعهده ) ومن ) أي وعد بذلك والحال أنه أوفى المعاهدين فهو مقول فيه على طريق الاستفهام افنكاري : من ) اوفى بعهده من الله ) أي الذي له جميع صفات الككمال لأن الإخلاف لا يقدم عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق .
ولما كان ذلك سبباً للتبشير ، لأنه لا ترغيب في الجهاد أحسن منه ، قال مهنئاً لهم : ( فاستبشروا ) أي فأوجدوا في نفوسكم غايةالبشر يا معشر المجاهدين ولما ذكره في ابتداء العقد يدل على التأكيد ، ذكره في آخر بلفظ يدل على السعة إشارة إلى سعة الجزاء فقال : ( ببيعكم الذي بايعتم ) أي اوقعتم لله ) به ( فإنه موفيكم لا محالة فذلك حو الأجر الكريم ) وذلك ) أي إيراثكم الجنة وتخصيصكم بها ) هو ) أي خاصة لا غيره ) الفوز العظيم ( فالحاصل أن هذه الاية واقعة موقع واقعة موقع التعليل للأمر بالنفر بالنفس والمال .
التوبة : ( 112 - 114 ) التائبون العابدون الحامدون. .. . .
) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ( ( )
ولما ثبتت المعاقدة وأحكامها ، وصف المعاقدين على طريق المدح للحث على اوصافهم فقال : ( التآئبون ( مبتدئاً أوصافهم بالتوبة التي هي أساس العمل الصالح ، ثم ابتدأ المؤسس بمطلق العبادة الشاملة لجميع انواع الدين من العلم وغيره فقال : ( العابدون ) أي الذين أقبلوا على العبادة فأخلصوها لله ؛ ولما كان التزام الدين لا يعرف إلا بالإقرار باللسان ، أتبع ذلك الحمد الذي تدور مادته على بلوغ الغاية الذي من جملته الثناء اللساني بالجميل الشامل للتوحيد وغيره فقال : ( الحامدون ( ي المثنون عليه سبحانه ثناء عظيماً ، تطابقت عليه السنتهم وقلوبهم فتبعته آثاره ؛ ولما كان الإقرار باللسان لا يقبل إلا عند مطابقة القلب ، نلاه بالسياحة التي تدور بكل ترتيب على الاتساع الذي منه إصلاح القلب ليتسع للتجرد عن ضيق المألوفات إلى فضاء الخضرات الإلهيات(3/390)
صفحة رقم 391
فقال : ( السائحون ( ولما كانت الصلاة نتيجة ذلك لكونها لعمل القلب واللسان وغيرهما من الأركان ، وهي أعظم موصل إلى بساط الأنس في حضرات القدس وأعلى مجرد عن الوقوف مع المألوف .
وكان أول مراتب التواضع للعادة إلا الركوع والسجود ، أشار وغايتها السجود ، وكان جميع أشكال الصلاة مووافقاً للعادة إلا ركوع فيها ، وأتمها ) الراكعون ( فبين أن تمام هذه البشرى لهذه الأمة ان صلاة غيرهم لا ركوع فيها ، وأتمها بقوله : ( الساجدون ( ولما كان الناصح لنفسه بتهذيب لسانه وقبه وجميع جوارحه لا يقبل إلا إذا بذل الجهد في نصيحه غيره كما صرح به مثال السفر في السفينة ليحصل المقصود من الدين وهو جمع الكل على الله المقتضي للتعاضد والنتناصر الموجب لدوام العبادة والنصرة وبذلك يتحقق التجرد عن كل مألوف مجانس وغير مجانس ، أتبع ذلك قوله : ( الآمرون بالمعروف ) أي السنة .
ولما كان الدين متيناً فلن يشاده أحد إلا غلبة ، كان المراد من المأمورات مسماها دون تمامها ومنتهاها ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) والمراد من المنبهات تركها كلها ، ومن الحدود الوقوف عندها من غير مجاوز ( وإذا نيتكم عن شيء فاجتنبوه ) رواه البخاري في الاعتصام من صحيحه ومسلم ايضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وكانت العرب - كما تقدم في البقرة عند قوله تعالى
77 ( ) الصلاة الوسطى ( ) 7
[ البقرة : 238 ] وفي آل عمران عند قوله
77 ( ) الصابرين والصادقين ( ) 7
[ آل عمران : 17 ] عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي - إذا أتبعت بعض الصفات بعضاً من غير عطف علم أنها غير تامة ، فإذا عطفتها أردت التمكن فيها والعراقة والتمام ، فأعلم سبحانه ان المراد فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها ، فأتى بها اتباعاً دون عطف لذلك ، وأشار إلى ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام لأن المقصر في شيء من ذلك إما راض بهدم الدين وغما هادم بنفسه ، فيجب التجرد التام فيه لأن النهي أصعب أقسام العبادة لأنه متعلق بالغير وهو مثير للغضب موجب للحمية وظهور الخصومة ، فربما كان عنه ضرب وقتل ، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال :(3/391)
صفحة رقم 392
) والناهون ) أي بغاية الجد ) عن المنكر ) أي البدعة .
ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلى الموت أتبعه قوله : ( والحافظون ) أي بغاية العزم والقوة ) لحدود الله ( اي الملك العظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزوا شيئاً منها ، فختم بما به بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة ، والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره ، والثاني للتجرد عن قيود العادات إلى قضاء العبادات ، والثالث لبلوغ لاغاية في تهذيب الظاهر .
والرابع للتوسع إلى التجرد عن قيود الباطن ، والخامس والسادس للجمع بين كمال الباطن والظاهر ، والسابع للسير إلى إفاضة ذلك على الغير ، والثامن للدوام على تلك الحدود بترك جميع القيود .
فمقصود الآية العروج من الحضيض الجسماني إلى الشرف اروحاني ؛ ثم أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بتبشير المتخلق بهذه الأوصاف عاطفاً لأمره به على محذوفتقدره - والله أعلم : فأنذر من تخلى منها بكل ما يسءه بعد سجنه في دار الشقاوة فإنه كافر وبشرهم ، أي هؤلاء الموصوفين ، هكذا كان الأصل الإضمار ، ولكنه أظهر ختاماً بما به بدأ وتعليقاً يالوصف وتعميماً فقال : ( وبشر المؤمنين ) أي المتخلقين بها بكل ما يسرهم بعد تخصيصهم بدار السعادة ، وفي الآيتين بالبشارة تارة من الخالق وتارة من أكمل الخلائق أعظم مزية للمؤمنين ، وفي جعل الأولى من الله أعظم ترغيب في الجهاد واعلى حث على خوض غمرات الجلاد ، وفي ابتداء الأيتين بالوصف المعشر بالرسوخ في الإيمان الذي هو الوصف المتمم للعشر وختمهما بمثله إشارة إلى أن هذه مائدة لا يخلس عليها طفيلي ، وأن من عدا الراسخين في درجة الإهمال لا كلام معهم ولا التفات بوجه إليهم .
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر بالبراءة من أحياء المشركين وجاء الأمر أيضاً بالبراءة من أموات المنافقين بالنهي عن الدعاء لهم ، جاءت هذه الآية مشيرة إلى البراءة من كل مشرك فوقع التصريح بعدها بما أشارت إليه ، وذلك أنه لما ثبت بهذه الآية في تقديم الجار أن المبايعة وقعت على تخصيص الجنة بالمؤمنين وأنه تعالى أوفى من عاهد ، ثبت أنه لا يجوز أن يدخل غيرهم الجنة وأن غيرهم أصحاب النار ، لأنه قد علم أن الآخرة داران : جنة ونار : ولما ثبت هذا كله علم قطعاً علم النتيجة من المقدمات الصحيحة أنه ) ما كان ) أي في نفس الأمر ) للنبي ) أي الذي لا ينطق إلا بما عنده فيه بيان من الله ) والذين آمنوا ) أي أقروا بأنهم صدقوا بدعوته فلا يفعلون إلا ما عندهم منه علم ) ان يستغفروا ) أي يطلبون المغفرة ويدعوا بها ) للمشركين ) أي الراسخين في الإشراك في عبادة ربهم ) ولو كانوا ( اي المشركين ) أولي قربى ( اي للذين آمنوا ) من(3/392)
صفحة رقم 393
بعد ما تبين لهم ) أي بموتهم على الشرك وإنزال هذه الآية للختم بالتخصيص بالجنة ) أنهم أصحاب الجحيم ) أي لا أهلية لهم لجنة .
فإن الاستغفار معناه محو الذنوب حتى ينجو صاحبها من النار ويدخل الجنة وما ينبغي لهم أن يكون لهم إليهم التفات فإن ذلك ربما جر إلى ملاينة تفتر عن القتال الواقع عليه المبايعة ، فما ينبغي إلا محض المقاطعة والمخاشنة والمنازعة .
وتقييد النهي بالتبيين يدل على جواز الدعاء للحي فإن القصد بالاستغفار الإقبال به إلى الإيمان الموجب للغفران .
ولما أنكر أن يكون لهم ذلك .
وكان الخليل عليه السلام المأمور بالاقتداء به واللزوم بملته قد استغفر لأبيه ، بين أنه كان أيضاً قبل العلم بما في نفس الأمر من استحقاقه للتأبيد في النار ، فقال دالاً بواو العطف على التقدير : فما استغفرلهم بعد العلم أحد من المؤمنين : ( وما كان استغفار إبراهيم ) أي خليل الله ) لأبيه ) أي بعد أن خالفه في الدين ) ث ( إلا عن موعده أي وهي قوله
77 ( ) لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ( ) 7
[ الممتحنة : 4 ] وأكد صدور الوعد بقوله : ( وَعَدَها إياه ) أي الخليل لأبيه قبل أن يعلم أنه أبدى الشقاوة ، والذي يدل على أنه كان قبل علمه بذلك قوله : ( فلما تبين له ( اي بياناً شافياً قاطعاً ) أنه عدو لله ) أي الملك الأعلى أنهمؤبد العداوة له بموته على الكفر أو بالوحي بأنه يموت عليه ) تبرأ ( اي أكره نفسه على البراءة ) منه ( ثم علل ما أفهمته صيغة التفعل من الشفقة على العباد ؛ قال الزجاج : والتأوه أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء ) حليم ) أي شديد التحمل والأغضاء عن المؤذى له ، هكذا خلقه في حد ذاته فكيف في حق أبيه ولو قال له
77 ( ) لأرجمنك واهجرني ( ) 7
[ مريم : 46 ] وأضعاف ذلك ؛ قال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل البستي القاضي في تفسيره : حدثنا حرملة الله مسعود رضي الله عنه ( ان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج يوماً وخرجنا معه حتى انتهى إلى المقابر فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلاً ثم ثم ارتفع نجيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) باكياً فبكينا لبكاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ما الذي أبكاك يا نبي الله فقد فقد ابكانا وأفزعنا ، فأخذ بيد عمر رضي الله عنه ثم أقبل إلينا فأتيناه فقال : ( أفزعكم بكائي ؟ ( قلنا : نعم يا رسول الله قال : ( إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنتربي في الاستغفار لها فلم ياذن لي ونزل عليّ ) ما كان للنبي والذين ىمنوا ان يستغفروا(3/393)
صفحة رقم 394
للمشركين ولو كانوا أولى قربى ( حتى ختم الآية ) وما كان استغفار إبراهيم لأبية إلا عن موعده وعدها إياه ( فأخذني ما يأخذ الولد من الرقة فذلك الذي أبكاني ( وهذا سند حسن ، ولمسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه في الجنائز عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : زار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبر امه فبكى وأبكى من حوله وقال : ( استأذنت ربي في أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ( .
وللبخاري في التفسير وغيره ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) أي عم قل : لا إله إلا الله ، أحاج لك بها عند الله ، ) فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ - وفي رواية : فكان آخر ما كلمهم أن قال : هو على ملة عبد المطلب - فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، ) فنزلت ) ماكان للنبي والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين ( وأنزل الله في أبي طالب ) ) إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( ) [ القصص : 56 ] ولعله استمر له ما بين موته وغزوة تبوك حتى نزلت ، ورُوي في سبب نزولها غير هذا أيضاً ، وقد تقدم أنه يجوز أن تتعدد الأسباب .
التوبة : ( 115 - 117 ) وما كان الله. .. . .
) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما كان الاستغفار للمشركين أمراً عظيماً ، وكان فيه نوع ولاية لهم ، أظهر سبحانه للمؤمنين مامنّ عليهم به من عدم المؤاخذة الإقدام عليه تهويلاً لذلك وقطعاً(3/394)
صفحة رقم 395
لما بين اوج الإيمان وحضيض الكفران بكل اعتبار فقال تعالى ) وما كان الله ( اي الذي له صفات الكمال ؛ ولما كان الضلال سبب الهلاك ، وكان من شرع شريعة ثم عاقب ملتزمهت من غير بيان كمن دل على طريق غير موصل فهلك صاحبه فكان الدال بذلك مضلاً ، قال : ( ليضل قوماً ) أي يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم لما ينهي عنه بناسخ نسخة ) بعد إذ هداهم ) أي بشريعة نصبها لهم ) حتى يبين لهم ) أي بياناً شافياً لداء العي ) ما يتقون ) أي مما هو جدير بأن يحذروه ويتجنبوه خوخاً من غائلته بناسخ ينسخ حال الإباحة التي كانوا عليها .
ولما كان الذي يأمر بسلوك طريق ثم يترك فيها ما يحتاج إلى البيان إنما يؤتي عليه من الجهل أو النسيان .
نفي ذلك سبحانه عن نفسه فقال معللاً لعدم الإضلال : ( إن الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) بكل شيء عليم ) أي بالغ العلم فلا يتطرق إليه خفاء بوجه من الوجوه في حين من الأحيان فهو يبين لكم جميع ما تأتون وتذرون وما يتوقف عليع الهدى ، وما تركه فهو إنما يتركه رحمة لكم ) لا يضل ربي ولا ينسى ) [ طه : 52 ] فلا تبحثوا عنه ؛ ثم علل علمه بكل شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم ويضركم وهو وليكم ، يبينه لكم ، ومن كان له جميع الملك كان بحيث لا يستعصي على أمره شيء : علم ولا غيره ، لأن العلم من أعظم القوى والقدر ، ولا يكون الملك إلا عالماً قادراً ؛ ثم علل قدرته وعلمه بما يشلهد متكرراً من فعله في الحيوان والنبات وغير ذلك فقال : ( يحي ويميت ) أي بكل معنى فهو الذي احياكم وغيركم الحياة الجسمانية وخصم أنتم بالحياة الإيمانية ، وكما جعل غيركم بعضهم أولياء بعض وجمعهم كلهم على ولاية عدوهم الشيطان جعلكم أنتم أولياء ربكم الرحمن فهو وليكم وناصركم ) وما ) أي والحال أنه ما ) لكم ( ولما كان ليس لأحد أن يجوز كل ما دون رتبته سبحانه ، اثبت الجار فقال .
) من دون الله ) أي الملك الذي له الأمر كله ، وأغرق في النفي بقوله : ( من ولي ) أي قريب يفعل معكم من الحياطة والنصح ما يفعل القريب من النصرة وغيره .
ولما كان الإنسان قد ينصره غير قريبة قال .
) ولا نصير ) أي فلا توالوا إلا من كان من حزبه وأهل حبه وقربه ، وفيه تهديد لمن أقدم على ما ينبغي أن يتقي لا سيما الملاينة لأعداء الل من المساترين والمصارحين ، فإن غاية ذلك موالاتهم وهي لا تعني(3/395)
صفحة رقم 396
ولما أشار إلى أنه هو وليهم أحياهم بروح منه مبين لهم ما يصلحهم وأنه لا ولي لهم غيره ، أقام الدليل على ذلك بقوله : ( لقد تاب الله ( اي الذي له الجلال والإكرام ) على النبي ) أي الذي لا يزال عنده من الله خبر عظيم يرشده إلى ما يؤذن بتقوية حياته برفع درجاته ، فما من مقام يرقيه إليه إلا رأى أنه لمزيد علوه وتقربه للمقام الذي كان دونه ، فهو في كل لمحة في ارتفاع من كامل إلى أكمل إلى ما لا نهاية له .
ولما أخبر تعالى بعلو رتبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بترقيته في رتب الكمالات والأكمليات إلى ما لا نهاية له على وجه هو في غاية البعث لكل مؤمن على المبادرة إلى التوبة ، أكد ذلك بقوله : ( والمهاجرين والأنصار ( بمحو هفواتهم ورفع درجاتهم ) الذين اتبعوه ) أي النبي صلى اله عليه وسلم ) في ساعة العسرة ) أي أزمنة عزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الزمان بالجدب والضيقة الشديدة والحر الشديد ، وعسرة من الظهر ( يعتقب العشرة ) على بعير واحد .
وعسرة من الزاد ( تزودوا التمر المدوّد والشعير المسوّس والإهالة الزنجية ) وبلغت بهم الشدة أن اقتسم التمر اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها ؛ وسماها ساعة تهويناً لأوقات الكروب وتشجيعاً على مواقعة المكاره من حالهم قبلها ، وأشار سبحانه إلى تفاوتهم في الثبات على مقامات عالية ، ترقوا بالتوبة إلى أعلى منها ، وفي قبول وساوس أبعدتهم التوبة عن قبولها بقوله : ( من بعد ما كاد ( أيقرب قرباً عظيماً ) تزيغ ) أي تزول عن أماكنها الموجبة المقام للزلازل ، ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال : ( قلوب فريق ) أي هم بحيث تحصل منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة ) منهم ) أي من عظيم ما نالهم من الشدائد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد ، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة ، ثم عزم الله له فلحق برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل مقاربة الزيغ من مباعدته ، ولما صاروا كمن لم يقارب الزيغ. أعلاهم إلى مقام آخر عبرعن عظمته بأداة التراخي فقال : ( ثم تاب عليهم ) أي كلهم تكريراً للرفعة ، أو على من كاد يزيغ بالثبات على مباعدة الزلات وبالترقي في أعالي الدرجات إلى الممات ؛ ونقل أبو حيان عن الحسن أن زيغها همها بالانصراف لما(3/396)
صفحة رقم 397
لقيت من المشقة ، قال وقيل : ساء ظنها من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود - انتهى .
ويجوز أن يكون عبرب ) ثم ( لوصولهم إلى حالة يبعد معها الثبات فضلاً عن مباعدة مواقع الزلات فثبتها حتى عادت كالحديد من غير سبب ظاهر من ( جيش أو غيره ) فثبت بذلك أنه مالك الملك متمكن من فعل كل ما يريده وأنه لا ولي لهم سواه : ثم علل لطفه بهم بقوله : ( إنه بهم رؤوف رحيم ( والرأفة : شدة الرحمة ، بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم ، ويرحمهم أيضاً النفع ، ومادة رأف تدور مع السعة على ما أشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة .
فالرأفة - كما قال الحرالي في البقرة - عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة ، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم ، والرحمة تعم من لاصلة له بالراحم - انتهى .
فتكون الرأفة حينئذ للثابتين والرحمة لمن قارب الزيغ .
فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليهبالصفتين ، وتقدم عند الحزبين من البقرة ما ينفع هنا .
التوبة : ( 118 - 120 ) وعلى الثلاثة الذين. .. . .
) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( ( )
ولما صرح بالتوبة على من قارب الزيغ وخلط معهم أهل الثبات إشارة إلى أن كل أحد فقير إلى الغني الكبير وليكون اقترانهم بأهل المعالي ، وجعلهم في حيزهم تشريفاً لهم وتأنيساً لئلا يشتد إنكارهم ، أتبعه التوبة على من وقع منه الزيغ فقال غير مصرح بالزيغ تعليماً للأدب وجبراً للخواطر المنكسرة .
) وعلى ) أي ولقد تاب الله على ) الثلاثة الذين ( ولما كان الخلع للقلوب مطلق التخليف ، بني للمفعول قوله : ( خلفوا ( أي(3/397)
صفحة رقم 398
خلفهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالهجران ونهى الناس عن كلامهم ، وأخر الحكم فيهم ليأتي أمر الله في بيان أمرهم واستمر تخليفهم ) حتى إذا ضاقت ( اشار إلى عظيم الأمر بأداة الاستعلاء فقال : ( عليهم الأرض ( اي كلها ) بما رحبت ( اي مع شدة اتساعها ، أي ضاق عليهم ووسعها .
ولما كان هذا قد يراد به الحقيقة ، وكان ضيق المحل قد لا يستلزم الصدر ، أتبعه الدلالة على أن المراد المجاز فقال : ( وضاقت عليهم ( بالهم المزعج والغم المقلق ) أنفسهم ) أي من شدة ما لاقوا من الهجران حتى بالكلام حتى برد السلام ؛ ولما كان ذلك لا يقتضي التوبة إلا بالمراقبة ، أتبعه ذلك للتخلف بها قوله : ( وظنوا ) أي أيقنوا ، ولعله عبر بالظن إيذان بأنهم لشدة الحيرة كانت قلوبهم لا تستقر على حال " فكان يقينهم لشدة الخواطر كأنه ظن ، أو يقال - وهو حسن - : إن التعبير به عن يقين المخلصين إشارة إلى أن أعلى اليقين في التوحيد لا يبلغ الحقيقة على ما هي عليه أن لا يقدر أحد ان يُقدر لله حق قدره - كما قال صدق الخلق ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ) وهذا من النفائس فاستعمله في أمثاله ) إلا إليه ( اي بما يرضيه ، وهو مثل لتحيرهم في أمرهم ، وجواب ) إذا ( محذوف دل عليه صدر الكلام تقديره : تداركهم بالتوبة فردهم إلى ما كانوا عليه قبل مواقعة الذنب .
ولما كان ما عملوه من التخلف عن أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عظيماً بمجرد المخالفة ثم يترك المواساة ثم بالرغبة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بأمور عظيمة شديدة القبح وخيمة فكان يبعد معه الزيادة عن رتبة التوبة ، أعلم سبحانه أنه رقاهم في رتب الكمال بأن جعل ذلك سبباً لتطهيرهم من جميع الأدناس وتنقيتهم من سائر الأردان المقتضي لمزيد القرب بالعروج في مصاعد المعارف - كما أشار إليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لكعب رضي الله عنه ( أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ) أتبع ذلك سبحانه الإعلام به بقوله - مشيراً إلى ما بعده لولا فضل الله - بأداة الاستبعاد : ( ثم تاب عليهم ) أي رجع بهم بعد التوبة إلى مقام من مقامات سلامة الفطرة الذي هو أحسن تقويم يعلو لعلوه بالنسبة إلى ما دونه ، توبة ) ليتوبوا ) أي ليرجعوا إلى ما تقتضيه الفطرة الأولى من الثبات على ما كانوا عليه من(3/398)
صفحة رقم 399
الإحسان في الدين والتخلق بإخلاق السابقين ، ولعله عبر بالظن موضع العلم إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من جلاله للانقطاع إليه مجرد الظن بأنه لا سبب إليه إلا منه لأنه محيط بكل شيء لا يعجزه شيء ، ويمكن أن يكون التعبير - ) ثم ( إشارة إلى عظيم ما قاسوا من الأهوال وما تراقبوا إليه من مراتب الخوف ، وامتنان عليهم بالتوبة من عظيم ما ارتكبوا ، إنما خصوا عن رفائقهم بأن أرجئوا لأمر الله لعلو مقامهم بما لهم من السابقة ورسوخ القدم في الإسلام ، فالمخالفة اليسيرة منهم أعظم من الكثير من غيرهم لأنهم لأنهم أئمة الهدى ومصابيح الظلم ، ومن هذا البارق - حسنات الأبرار سيئات المقربين - ثم علل التوبة بأمر يعم غيرهم ترغيباً فقال معبراً بما يشير مع أعلى مقامهم إلى نزوله عن مقام من قبلهم : ( إن الله ) أي الذي له الكمال كله ) هو ) أي وحده ) التواب ) أي البليغ التوبة على من تاب وإن عظم جرمه وتكررت توبته ذنوبه ) الرحيم ) أي المكوم لمن اراد من عباده بأن يحفظه على ما يرتضيه فلا يزيغ ، ويبالغ في افنعام عليه .
ولما كان الذي نالوا الإقبال من موالاهم عليهم - مما وصفهم به من الضيق وما معه - هو التقوى والصدق في الإيمان كما كان ما يجده الإنسان في نفسه مما الموت عنده والقذف في النار أحب إليه من التلفظ به صرييح الإيمان بشهادة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، رغب سبحانه في الصدق فقال : ( يأيها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك ) اتقوا الله ) أي خافوا سطوة من له العظمة الكاملة تصديقاً لدعواكم فلا تفعلوا إلا ما يرضيه ) وكونوا ) أي كوناً صادقاً بجميع الطبع والجبلة ) مع الصادقين ) أي في كل أمر يطلب منهم ، ولعله اخرج الأمر مخرج العموم ليشمل كل مؤمن ، فمن كان مقصراً كانت آمره له باللحاق ، ومن كان مسابقاً كانت حاثة له على حفظ مقام الاستباق ، ولعله عبر ب ) مع ( ليشمل أدنى الدرجات ، وهو الكون بالجثت ، وقد روى ابخاري توبة كعب أحد هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم في مواضع من صحيصه منها التفسير ، وكذا رواه غيره عن غزوتين : غزوة العسرة - يعني هذه - وغزوة بدر ، وأن تخلفه ببدر إنما كان لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يندب الناس إليها ولا حثهم عليها لأنه ما خرج أولاً إلا لأجل العير ، قال : فأجمعت صدق رسول اله ( صلى الله عليه وسلم ) ، كان قل ما يقدم من سفر سافره إلا ضحى ، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ونهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن كلامي وكلام صاحبي - يعني مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي - ولم ينه عن كلام أحد من المختلفين غيرنا ، فاجتنبت الناس(3/399)
صفحة رقم 400
كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليّ َ الأمر ، وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي عليّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو يموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ ، فأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند أم سلمة رضي الله عنها ، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ياأم سلمة تيب على كعب ، ) قالت : أفلا أرسل إليه فأشره ؟ قال : ( إذن يحطكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الللية ) حتى إذا ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا ، وكان إذا استبشر استنار وجهه كتى كأنه قطعة من القمر ، وكنا - أيها الثلاثة الذين خلفوا - خلفنا عن الأمر الذي قبل من هؤلاء الذين اعتذروا حين أنزل الله لنا التوبة ، فلما ذكر الذين كذبوا رسول اله ( صلى الله عليه وسلم ) من المختلفين واعتذروا بالباطل ذكروا بشر ما ذكر به أحد ، قال الله عز وجل ) يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ( .
ولما كان ما نالهم من الأهوال إنما نالهم بتخلفهم عن أشرف الخلق ، والذي التفت بهم إلى مرابع الإقبال إنما هو الصدق ، قال تعالى ناهياً بصيغة الخبر ليكون أبلغ ، جامعاً إليهم من كان على مثل حالهم في مطلق التخلف : ( ما كان ) أي ما صح وما انبغى بوجه من الوجوه ) لأهل المدينة ) أي التي هي سكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي دار الهجرة ومعدن النصرة ) ومن حولهم ) أي في جميع نواحي المدينة الشريفة ) من الأعراب ) أي من سكان البوادي الذين أقسموا بالإسلام ) أن يتخلفوا ( اي في أمر من الأمور ) عن رسول الله ) أي الملك الأعلى ، ومن شأن المرسل إليه أن لا يبرح عن جنان الرسول لا سيما وهو رأس الصادقين الذين وقع الأمر بالكون معهم ) ولا يرغبون ( اي وما كان لهم أن يرغبوا ، لعله قللهم بصيغة القلة بالنسبة غلى من أيده به ( صلى الله عليه وسلم ) جنوده فقال تعالى : ( بأنفسهم عن نفسه ) أي التي هي أشرف النفوس مطلقاً بأن يصونوا نفوسهم عما باشره ( صلى الله عليه وسلم ) بل يلقونها في المتالف دونه وصيانة لنفسه الشريفة عن أدنى الأذى ، فهى كالتعليل للأمر بالتقوى أي خافوا الله وأصدقوه كما صدق هؤلاء ليتوب عليكم كما تاب عليهم فإنه لم يكن لكم التخلف فهو نهي بليغ مع تقبيح وتوبيخ وإلهاب .(3/400)
صفحة رقم 401
ولما علل الأمر بالتقوى ، علل النهي عن التخلف بما يدل على صدق الإيمان فيصير نقيضه دالاً على نقيضه فقال : ( ذلك ( اي النهي العظيم عن التخلف في هذا الأسلوب النافي للكون ) بأنهم لا يصيبهم ظمأ ) أي عطش شديد ) ولانصب ( اي تعب بالغ ) ولا مخمصة ( اي شدة مجاعة ) في سبيل الله ) أي طرق دين الملك الأعظم المتوصلة به إلى الجهاد أعدائه ، ورتبت هذه الأشياء ترتيبها في الوجود فإن مطلق الحركة يهيج الحرارة فينشأ العطش وتماديها يورث التعب ، والأغلب أن يكون قبل الجوع .
ولما كان المقصود من إجهاد النفس بما ذكر إرغام الكفار باقتحام أرضهم المتوصل به إلى إيمانهم بالنيل منهم ، أتبع ذلك قوله : ( ولا يطؤون موطئاً ( اي وطأ أو مكاناً وطؤه ) يغيظ الكفار ( اي وطؤهم له بأرجلهم أو دوابهم ) ولا ينالوا من عدو نيلاً ) أي كائناً ما كان صغيراً أو كبيراً ) غلا كتب لهم به ( اي في صحائف الأعمال ، بني للمفعول لأن القصد إثباته لا من معين ) عمل صالح ( اي ترتب لهم عليه أجر جزيل .
ولما كان فاعل هذه الأشياء مقدماً على المعاطب في نفسه ومحصلاً لعرض الجهاد ، أشير على وجه التأكيد في جملة اسمية إلى أنه محسن ، أما في حق نفسه فبإ قامة الدليل بطاعته على صدق إيمانه .
وأما في غيره من المؤمنين فبحمايتهم عن طمع الكافرين .
وأما في حق الكفار فبحملهم على الإيمان بغاية الإمكان ، فقال تعالى معللاً للمجازاة : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) لا يضيع ) أي لا يترك تركه ما من شأنه الإهمال ) أجر المحسنين ( وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف .
التوبة : ( 121 - 122 ) ولا ينفقون نفقة. .. . .
) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( ( )
ولما كانت المشقة بالإنفاق العائد ضرره غلى المال ، ووطئ مطلق الأرض الذي قد لا يلزم منه وصول إلى ما يغيظ العدو دون المشقة الحاصلة في النفس بالظمأ وما معه من فعل ما يغيظ العدو وينقصه ، قدم ذلك على قوله : ( ولا تنفقون ( ولما كان القليل قد يحتقر ، ابتدأ به ترغيباً في قوله : ( نفقة صغيرة ( ولما كان ربما تعنت متعنت(3/401)
صفحة رقم 402
فجعل ذكرها قيداً ، قال : ( ولا كبيرة ( إعلاماً بأنه معتد به لئلا يترك ، وفيه إشارة إلى آية اللمز للمطوعين في الصدقات ) ولا يقطعون وادياً ( اي من الأودية بالسير في الجهاد ، والوادي : كل منفرج بين جبال وآكام ينفذ فيه السيل ، وهو في الأصل فاعل من ودى - بالكتابة مطلقاً ) ليجزيهم الله ) أي ذو الجلال والإكرام ، أي بذلك من فضله ) أحسن ما كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) يعلمون ( مضاعفاً على قدر الثبات ، وأكدت فاصلة الأولى دون هذه لزيادة تلك في المشقة والنفع ، ولذا صرح فيها الأجر والعمل الصالح - نبه على ذلك الإمام أبو حيان .
ومن هنا بل من عند ) إن الله اشترى ( شرع في عطف الآخر على الأول الذي مضمونه البراءة من المشركين والاجتهاد في قتالهم بعد انقضاء مدتهم حيث وجدوا - إلى ان قال ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ( - إلى أن قال ) ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ( ثم قال ) انفروا خفافاً وثقالاً ( ثم أتبع ذلك قصص المنافقين كما أنه فعل هنا كذلك أن ختم بقوله ) قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ( الآية ثم أتبعها ذكر المنافقين .
ولما تواترت النواهي للمتخلفين وتواصلت الزواجر وتعاظم الت التبكيت والتهديد ، طارت القوب وأشفقت النفوس ، فكان ذلك مظنة أن لا يتخلف بعدها أحد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعمن يقوم مقامه فيتمكن حينئذ الأعداء من الأموال والذراري والعيال ، فأتبع ذلك قوله تعالى : ( وما كان المؤمنون ( اي الذين حثهم على النَّفر الرسوخ في الإيمان ) لينفروا كآفة ( اي جميعاً فإن ذلك بخل بكثير من الأغراض الصالحة ، وهو تعليم لما هو الأنسب بالدين والدنيا من انقسام الناس قسمين : قسماً للجهاد ، وقسماً للنفقة وحفظ الأموال والأولاد ، كل ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام والعمل بما يرضاه ، ولا يخفى ذلك على المخلص ، ولعل التعبير بالفعل الماضي في قوله مسبباً عما قبله : ( فلولا نفر ( ليفهم تبكيت من قصد تبكيته من المختلفين في جميع هذه السورة بأنه كان عليهم أن يقع على ثلاثة ) منهم طائفة ( اي ناس لا ينفكون حافين بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يلزمونه ، قيل : والطائفة واحد واثنان ، فالآية حجة على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ، وكأنه عبر اي ليكلف النافرون كما هو أصل مدلولها الأغلب فيه ) ليتفقهوا ( أقواله ويرونه من جميل افعاله ويصل إلى قلوبهم من مستنير احواله ، وهذا غاية الشرف للعلم حيث جعل غاية الملازمة له ( صلى الله عليه وسلم ) للجهاد ، هذا إن كان هو ( صلى الله عليه وسلم ) النافر في تلك الغزاة ، وغن كان غيره كان ضمير ) يتفقهوا ( للباقين معه ( صلى الله عليه وسلم ) (3/402)
صفحة رقم 403
ولما كان من العلم بشارة ومنه نذارة ، وكان الإنسان - لما فيه من النقصا - أحوج شيء إلى النذارة ، خصها بالذكر فقال عطفاً على نحو : ليخافوا في أنفسهم فيعملوا في خلاصها : ( ولينذروا قومهم ) أي يحذروهم ما أمامهم من المخاوف إن فرطوا في جانب التقوى ) إذا رجعوا إليهم ) أي ما أنذرهموه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويبشرهم بما بشرهم به ؛ ثم بين غاية العلم مشيراً إلى أن من جعل له غاية غيرها من ترفع أو افتخار فقد ضل ضلالاً كبيراً ، فقال موجباً لقبول خبر لقبول خبر من بلغهم : ( لعلهم ( اي كلهم ) يحذرون ) أي ليكون حالهم حال أهل الخوف من الله بما حصلوا من الفقه لأنه أصل كل خير ، به تنجلي القلوب فَتقبل على الخير وتعرض عن الشر ، فإن الحذر تجنب الشيء لما فيه من الضرر ، والمراد بالفقه هنا حفظ الكتاب والسنة وفهم معانيها من الأصول والفروع والآداب والفضائل ، وقال الرماني : الفقه موجبات المعاني المضمنة بها من غير تصريح بالدلالة عليها .
التوبة : ( 123 - 125 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ( )
ولما عملت المقاصد وتهيأت القلوب لقبول الفوائد ، وأمر بالإنذار بالفقه ، وكان من الناس من لا يرجع إلا بشديد البأس ، أقبل على الكل مخاطباً لهم بأدنى أسنان القلوب ليتوجه إلى الأدنى ويتناول الأعلى منه من باب الأولى فقال : ( يأيها الذين آمنوا ) أي ادَّعوا بألسنتهم الإيمان ) قاتلوا ( اي تصديقاً لدعواكم ذلك ) الذين يلونكم ) أي يقربون منكم ) من الكفار ( فالذين يلونهم إن لم تروا غيره أصلح لمعنى يعرض لما في ذلك من حسن الترتيب ومقتضى الحكمة ولأن الجهاد معروف وإحسان ، والأقربون أولى بالمعروف ، ولتبعدوا العدو عن بلادكم فيكثر صلاحهم ويقل فسادكم وتكونوا قد جمعتم بالتفقه والقتال بين الجهادين : جهاد الحجة وجهاد السيف مع الاحتراس بهذا الترتيب من أن يبقى وراءكم إذا قاتلتم من تخشون كيده .
ولما كانت الملاينة أولى بالمسالمة ، والمخاشنة أولى بالمصارمة ، قال : ( وليجدوا ( من الوجدان ) فيكم غلطة ) أي شدة وحمية لأن ذلك اهيب في صدورهم .
واكف عن فجورهم ، وحقيقة الغلطة في الأجسام ، استعيرت هنا للشدة في الحرب ، وهي تجمع الجراءة والصبر على القتال وشدة العدواة ، فإذا فعلوا ذلك كانوا جامعين بين جهاد الحجة والسيف كما قيل :(3/403)
صفحة رقم 404
من لا يعدله القرآن كان له من الصغار وبيض الهند تعديل
نبه على ذلك أبو حيان .
ولما كان التقدير : وليكن كل ذلك مع التقوى لا بسبب مال ولا جاه فإنها ملاك الأمر كله ، قال منبهاً على ذلك بقوله : ( واعلموا أن الله ) أي الذي له الكمال كله ) مع المتقين ( فلا تخافوا ان يؤدي شيء من مصاحبتها إلى وهن فإن العبرة بمن كان الله معه .
ولما ذكر هذه السورة أي الطائفة الحاضة بصيغة ( لولا ) على النفر مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآمرة بجهاد الكفار والغلطة عليهم ، وكان لا يحمل على ذلك إلا ما أشار إليه ختم الآية السالفة من التقوى بتجديد الإيمان كلما نزل شيء من القرآن ، وكان قد ذكر سبحانه المخالفين لأمر الجهاد بالتخلف دون أمر الإيمان حين قال ) وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ( التفت إلى ذلك ليذكر القسم الآخر وهو القاعد عن الإيمان فقال : ( وإذا ( وأكد بزيارة النافي تنبيهاً على فضل الإيمان فقال : ( ما ( ولما كان المنكى لهم مطلق النزول ، للمفعول قوله : ( أنزلت سورة ) أي قطعة من القرآن ، أي في معنى من المعاني ) فمنهم ) أي من المنزل إليهم ) من يقول ) أي إنكاراً واستهزاء ، وهم المنافقون ) أيكم ) أي أيها العصابة المنافقة ) زادته هذه إيماناً ( إيهاماً لأنهم متصفون بأصل الإيمان ، لأن الزيادة ضم الشيء إلى غير مما يشاركه في صفت ، هذا ما يظهرون تستراً ، وأما حقيقة حالهم عند أمثالهم فالاستهزاء استبعاداً لكونها تزيد أحداً في حاله شيئاً ، وسبب شكهم واستفهامهم أن سامعيها انقسموا إلى قسمين ، مؤمنين ومنافقين ، ولذلك أجاب تعالى بقوله مسبباً عن إنزالها : ( فأما الذين آمنوا ) أي أوقعوا الإيمان حقيقة لصحة أمزجة قلوبهم ) فزادهم ) أي تلك السورة ) إيماناً ) أي إيمانهم بها إلى ما كان لهم من الإيمان بغيرها وبتد برها ورقة القلوب بها وفهم ما فيها من المعارف الموجبة لطمأنينة القلوب وثلج الصدور .
ولما كان المراد بالإيمان الحقيقة وكانت الزيادة مفهمة لمزيد عليه ، استغنى عن أن يقول : إلى إيمانهم ، لذلك ولدلالة ) الذين آمنوا ( عليه ) وهم يستبشرون ) أي يحصل لهم البشر بما زادتهم من الخير الباقي الذي لا يعدله شيء ) وأما الذين ( وبين أن أشرف ما فيهم مسكن الآفة فقال : ( في قلوبهم مرض ( فمنعهم الإيمان وأثبت لهم الكفران فلم يؤمنوا .
ولما كان المراد بالمرض الفساد المعنوي المؤدي إلى خبث العقيدة ، عبر عنه(3/404)
صفحة رقم 405
بالرجس فقال : ( فزادهم رجساً ) أي اضطراباً موجباً للشك ، وزاد الأمر بياناً بأن المراد المجاز بقوله : ( إلى رجسهم ) أي شكهم الذي كان في غيرها ) وماتوا ) أي واستمر بهم ذلك لتمكنه عندهم إلى أن ماتوا ) وهم كافرون ) أي عريقون في الكفر ، وسمي لبشك في الدين مرضاً لأنه فساد في الروح يحتاج إلى علاج كفساد البدن في الاحتياج ، ومرض القلب أعضل ، وعلاجه أعسر وأشكل ، ودواءه أعز وأطباؤه أقل .
ولما زاد الكفار بالسورة رجساً من أجل كفرهم بها ، كانت كأنها هي التي زادتهم ، وحسن وصفها بذلك كما حسن : كفى بالسلامة داء ، وكما قال الشاعر .
ارى بصري قد رابني بعد نصحه وحسبك داء أن تصح وتسلما
قاله الرماني ، فالمؤمنون يخبرون عن زيادة إيمانهم وهؤلاء يخبرون عن عدمه في وجدانهم ، فهذا موجب شكهم وتماديهم في غيهم وإفكهم ، ولو أنهم رجعوا إلى حاكم العقل لأزال شكهم وعرفهم صدق المؤمنين بالفرق بين حالتيهم ، فإن ظهور الثمرات مزيل للشبهات ، والآية من الاحتباك : إثبات الإيمان أولاً دليل على حذف ضده ثانياً ، وإثبات المرض ثانياً دليل على حذف الصحة أولاً .
التوبة : ( 126 - 129 ) أو لا يرون. .. . .
) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ( )
ولما كان التقدير تسبيباً عما جزم به من الحكم بعراقتهم في الرجس وازديادهم منه : أفلا يرون إلى تماديهم في النفاق وثباتهم عليه ؟ عطف عليه تقريرهم بعذاب الدنيا والإنكار عليهم في قوله : ( أولا يرون ( اي المنافقون ، قال الرماني : والرؤية هنا قلبية لن رؤية العين لا تدخل على الجملة لأن الشيء لا يرى من وجوه مختلفة ) أنهم ) أي المنافقين ؛ ولما كان مطلق وقوع الفتنة من العذاب ، بنى للمفعول قوله : ( يفتنون ) أي يخالطون من حوادث الزمان ونوازل الحدثان بما يضطرهم إلى بيان أخلاقهم بإظهار سرائرهم في نفاقهم ) في كل عام ) أي وإن كان الناس أخصب ما يكونون وأرفعه عيشاً(3/405)
صفحة رقم 406
) مرة أو مرتين ( فيفضحون بذلك ، وذلك موجب للتوبة للعلم بأن من علم سرائرهم - التي هم مجتهدون في إخفائها - عالم بكل شيء قادر على كل مقدور ، فهو جدير بأن تمتثل أوامره وتخشى زواجره .
ولما كان عدم توبتهم مع فتنتهم على هذا الوجه مستبعداً ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم لا يتوبون ) أي لا يجددون توبة ) ولاهم ) أي بضمائرهم ) يذكرون ) أي أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام ، فلولا أنه حصلت لهم الزيادة في الرجس لأوشك تكرار الفتنة أن يوهي رجسهم إلى أن يزيله ولكن كلما أوهى شيئاً خلقه مثله أو أكثر بسبب الزيادات المترتبة على وجود نجوم القرآن ، والتذكر طلب الذكر للمعنى بالكفر فيه ، فالآية ذامة لهم على عدم التوبة بإصابة المصائب لعدم تذكر أنه سبحانه ما أصابهم بها إلا بذنوبهم
77 ( ) ويعفو عن كثير ( ) 7
[ الشورى : 34 ] كما أن أحدهم لا يعاقب فتاة إلا بذنب وما لم يتب فهو يوالي عقابه .
ولما ذكر ما ما يحدث منهم من القول استهزاء ، أتبعه تأكيداً لزيادة كفرهم وتوضيحاً لتصويره ما يحدث من فعلهم استهزاء من الإيمان والتغامز بالعيون فقال ) وإذا ( وأكد بانافي فقال : ( ما ( ولما كان الغرض نفس الإنزال لا تعيين المنزل ، بني للمفعول قوله ) أُنزلت سورة ) أي طائفة من القران ) نظر بعضهم ) أي المنافقين ) إلى بعض ) أي متغامزين سخرية واستهزاء قائلين : ( هل يراكم ( وأكدوا العموم فقالوا : ( من أحد ) أي من المؤمنين إن انصرفتم ، فإن يشق علينا سماع مثل هذا ، ويشق علينا أن يطلع المؤمنون على هذا السر منا .
ولما كان انصرافهم عن مثل هذا المقام مستهجناً ، أشار إلى شدة قبحه بأداة التراخي فقال : ( ثم انصرفوا ) أي إن لم يكن أحد يراهم ، وإن رآهم أحد من المؤمنين تجشموا المشقة وثبتوا ؛ ولما كانوا مستحقين لكل سوء ، أخبر عنهم في أسلوب الدعاء بقوله : ( صرف الله ) أي الذي له الغنى المطلق والكمال كله ) قلوبهم ) أي عن الإيمان ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( بأنهم قوم ( وإن كانوا ذوي قوة على ما يحاولونه فإنهم ) لا يفقهون ) أي قلوبهم مجبولة على عدم الفهم لما بها من الغلطة ، وهذا دليل على ختام الآية قبلها ، وهاتان الآيتان المختتمتان - ب ) لا يفقهون ( التاليتان للأمر بالجهاد في قوله ) قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ( الموازي - ) انفروا خفافاً وثقالاً ( الآية - قد احتوتا مع وجازتهما على حاصل أوصاف المنافقين التالية لآية ( انفروا ) المختتم ما هو العام منها في أهل الحاضرة في قوله ) استأذنك أولوا الطول منهم ( ب ) يفقهون ( ثم عند إعادة ذكرهم ب ) لا يعملون ( وتصويب هاتين الآيتين إلى أهل الحاضرة ظاهر لكونهم(3/406)
صفحة رقم 407
ممن يحضر نزول الذكر كثيراً مع احتمالها للعموم ، والختم هناب ) لا يفقهون ( أنسب لأن المقام - وهو النظر في زيادة الإيمان بالنسبة إليهم - يقتضي فكراً وتأملاً وإن كان بالنظر إلى المؤمنين في غاية الوضوح .
ولما أمر ( صلى الله عليه وسلم ) أن يبلغ هذه الأشياء الشاقة جداً من أمر هذه السورة ، وكان من المفلوم أنه لا يحمل ذلك إلا من وفقه الله تعالى ، وأما المنافقون فيكرهون ذلك وكان انصرافهم دالاً على الكراهة ، عرفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي لهم المقتضي لملازمته والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه ، وأن أحواله الداعية لهم إلى محبته أعظم من أحوال آبائهم التي أوجبت لهم منهم من المحبة وعليهم من الحقوق ما هم مفتخرون بالتلبس به والمغالاة فيه ، وأن كل ما يحصل بهذا القرآن من العز والشرف في الدنيا فهو لكل من آمن به فقال : ( لقد جاءكم رسول ( ولما كان الرسول يجب إكرامه والوقوف في خدمته لأجل مرسله ولو تجرد عن غير ذلك الوصف ، شرع يذكر لهم من وصافه ما يقتضي لهم مزيد إكرامه فقال : ( من أنفسكم ) أي ترجعون معه إلى نفس واحدة بأنكم لأب قريب ، وذلك أقرب إلى الألفة وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحل واللجاجة ) عزيز ) أي شديد جداً ) عليه ما عنتم ( والعزة : امتناع الشيء بما يعتذر معه ما يحاول منه بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة ، والعنت : لحاق الأذى الذي يضيق الصدر به ولا يهتدي للمخرج منه ) حريص ) أي بليغ الحرص ) عليكم ) أي على نفعكم ، والحرص : شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه ، وقدم الجار لإفادة الاختصاص فقال : ( بالمؤمنين ) أي العريقين في هذا الوصف كافة خاصة ، ولما ذكر الوصف المقتضي للرسوخ ، قدم ما يقتضي العطف على من يتسبب له بما يقتضي الوصلة فقال : ( رءوف ( اي شديد الرحمة لمن له منه عاطفة وصلة لما تقدم من معنى الرأفة قريباً .
ولما كان المؤمن يطلق مجازاً على من يمكن منه الإيمان فوصلته الان ليست بالفعل بل الإمكان ، قال تعميماً لرحمته ( صلى الله عليه وسلم ) كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه : ( رحيم ( ولأجل مثل هذه الأغراض النفسية رتب سبحانه هذين الوصفين هكذا ، ولكن المعاني المراده تارة يظهرها الله نعالى لعبده منحة له وإكراماً ، وتارة يخفيها إظهاراً لعجزه ونقصانه ثم يظهرها له في وقت آخر إن صدق في التضرع وإظهار الافتقار والتذلل وأدام الطلب ، أو لغيره ممن هو أقل منه علماً وأضعف نظراً وفهماً ، وإذا تاملت كتابي هذا ظهر لك أن كثيراً من الآيات فسرها على غير المراد منها قطعاً أكابر العلماء ، فعلى الأنسان - إذا خفي عليه أمر - أن يقول : لا أعلم ، ولا يظن أنه رتب شيء من هذا(3/407)
صفحة رقم 408
الكتاب العزيز لأجل الفواصل ، فلذلك لا يليق بكلام الله تعالى ، وقد عاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) السجع ، لأن الساجع يكونُ محطَ نظره الألفاظ ، فيدير المعاني عليها ويتبعها إياها ، فرربما عجز اللفظ عن توفية المعنى ؛ روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه ومسلم في الديات وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قضى في الجنين يقتل في بطن امه بغرة عبد أو وليدة ، فقال الذي قضى عليه : كيف أغرم من لاشرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل ، فمثل ذلك بطل ؛ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنما هذا من إخوان الكهان ) من اجل سجعه الذي سجع ، وفي رواية : فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سجع كسجع الأعراب ) وذلك - والله أعلم - أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه لأغنى عن هذا السجع ان يقال : كيف اغرم من لاحياة له ، ولوقصد السجع وتهذيب المعنى لتى مما يدل على نفي الحياة التي جعلها محط أمره فإن ما أتى به لا يستلزم نفيها ، ولو تقيد بالصحة لاغتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال ، فصح بهذا انه دائر مع تحسين اللفظ صح المعنى أم لا ، وينطبع في عقل عاقل أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يذم السجع وهو ياتي به ويقصده في القرآن أو في السنة ، ولو كان ذلك لأسرعوا الرد عليه ، وذكر اصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلاد فارس أن الحكم بن عمرو لما فتحها ارسل بالأخماس مع صحار العبدي ، فلما قدم على عمر رضي الله عنه سأله عن مكران وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه فقال : ياأمير المؤمنين أرض سهلها جبل ، وماءها وشل وثمرها دقل ، وعدوها بطل ، وخيرها قليل ، وشرها طويل ، والكثير بها قليل ، والقليل بها ضائع ، وما وراءها شر منها ؛ فقال ، اسجاع أنت أم مخبر ؟ فقال : لا بل مخبر ، قال : لاوالله لا يغزوها جيش لي ماأطعت .
فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخير فدل على أن التقيد به عيب لإخلاله بالفائدة أو بتمام الفائدة ، ولعله غنما جوز أن يكون مخبراً لنه إنفك عن السجع في آخر كلامه وكرر لفظ ( قليل ) فكان ما ظنه ، لأنه لو أراد السجع لأمكنه أن يقول والكثير بها ذليل ، والقليل بها ضائع كليل ، وما وراءها شر منها بأقوم قيل ؛ وقد نفى سبحانه عن هذا القرآن المجيد تصويب النظر إلى السجع كما نفى عنه الشعر فإنه تعالى قال
77 ( ) وما هو بقول شاعر قليلا(3/408)
صفحة رقم 409
ماتؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون ( ) 7
[ الحاقة : 24 ، 41 ] فكما أن قول الشاعر غتيانه بالكلام موزوناً ، فكذلك قول الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً والقرآن ليس من هذا ولا من هذا .
وإن وقع فيه كل من الأمرين فغيرر مقصود إليه ولا معول عليه ، بل لكون المعنى انتظم به على اتم الوجوه فيؤتي به لذلك ، ثم تبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن بقرينة ليس لها مجانس في اللفظ لتمام المعاني المرادة عندها فيعلم قطعاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ومما يوجب لك القطع بأن ترتيب هذين الاسمين الشريفين هكذا لغير مراعاة الفواصل قوله تعالى في سورة الحديد
77 ( ) وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ( ) 7
[ الحديد : 27 ] وسيأتي إن شاء الله في سورة طه عن الفخر الرازي والقاضي أبي بكر الباقلاني مَنَع النظر إلى السجع في الكتاب العزيز نقلاً عن جميع الأشاعرة ، وإذا تأملت الفواصل في الإتيان بها تارة بكثرة وتارة بقلة ، وتارة تترك بالكلية ويؤتى في كل آية بفصاصلة لا توافق الأخرى ، عملت أن هذا المذهب هو الصواب ولا سيما آخر سورة ) اقرأ ( وإذا تأملت كتب اهل العدد أتقنت علم هذا المستند ، وإذا تأملت ما قلته في هذا النحو من كتابي مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور لم يبق عندك شك في شيء من هذا ، فإياك ان تجنح لهذا القول فتكون قد وقعت في أمر عظيم وأنت لا تشعر ، وأورد سبحانه هذه الآية إيراد المخاطب المتلطف المزيل لما عندهم من الريب يالقسم ، فكأنه قال : ما لكم تنصرفون عن حضرته الشماء وشمائله العلى الله لقد جاءكم - إلى آخره ، ثم أقبل عليه مسلياً له مقابلاً لإعراضهم إن أعراضوا بالأعرتض عنهم والبراءة منهم ملتفتاً إلى السورة الآمر بالبراءة من كل مخالف ، قائلاً مسبباً عن النصيحة بهذه الآية التي لا شك عاقل في مضمونها : ( فإن تولوا ) أي اجتهدوا في تكليف فطرهم الأولى أو ولوا مدبرين عنك بالانصراف المذكور أو غيره بعد النصيحة لهم بهذه الآية ) فقل ( اي استعانة بالله تفويضاً إليه ) حسبي ( اي كافي ؛ قال الروماني : وهو من الحساب لأنه جل ثناه يعطى بحسب الكفاية التي تعني عن غيره ، ويزيد من نعمته مالا يبلغ إلى حد ونهاية إذ نعمه دائمة ومتنه متظاهر ) الله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له ، وإنما كان كافياً لأنه ) لا إله إلا هو ( فلا مكافئ له فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه .
ولما قام الدليل على أنه كفؤ له ، وجب قصر الرغائب فقال : ( عليه ( اي وحده ) توكلت ( لأن أمره نافذ في كل شيء ) وهو رب ( اي مالك ومخترع ومدبر ؛ ولما كان في سياق القهر والكبرياء بالبراءة من الكفار والكفاية للأبرار ، كان المقام(3/409)
صفحة رقم 410
بالعظمة أنسب كآية النمل فقال : ( العرش العظيم ( اي المحيط بجميع الأجسام الحاوي لسائر الأجرام الذي ثبت بآية الكرسي وغيرها أن ربه أعظم منه لأن عظمته على الأطلاق فلا شيء إلا هو في قبضته وداخل في دائرة مملكته ، وإذا كان كافي فأنا بريء ممن تولى عني وبعد مبتدأها وتأكد ما فهمته من سر الالتفات في ) فسيحوا ( وفي ) فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ( والله تعالى أعلم .
.. .. .(3/410)
صفحة رقم 411
سورة يونس
يونس : ( 1 - 3 ) الر تلك آيات. .. . .
) الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ( ( )
وهي أولى المئين إن جعلها براءة مع الأنفال من الطول ، وإلا فبراءة أولاهن ، مقصودها وصف الكتاب بأنه من عند الله من عند الله لما اشتمل عليه من الحكمة وأنه ليس إلا من عنده سبحانه لأن غيره لا يقدر على شيء منه ، وذلك دال ريب على أنه واحد في ملكه لا شريك له في شيء من أمره ، وتمام الدليل على هذا قصة قوم يونس عليه السلام بأنهم لما آمنوا عند المخايل كشف عنهم ، فدل قطعاً على ان الآتي به هو الله الذي آمنوا به غذ لو كان غيره لكان إيمانهم به موجباً للإيقاع بهم ، ولو عذبوا كغيرهم ليقل : هذه عادة الدهر ، كما قالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء ودل ذلك على أن عذاب غيرهم من الأمم إنما هو من عند الله لكفرهم لما اتسق من ذلك طرداً بأحوال سائر الأمم من أنه كلما وجد الإصرار على التكذيب وجد العذاب ، وعكساً منه كلما انتفى في وقت يقبل قبول التوبة انتفى - والله الموفق ) بسم الله ( اي الذي لا أمر لأحد سواه فلا كلبام يشبه كلامه فلا كفوء له ) الرحمن ( الذي عم بكلامه جميع خلقه فأوضح البيان ) الرحيم ( الذي أتم لمطيعهم نعمة الامتنان ) آلر ( فخم اراء ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم ، وأمالها ورش عن نافع بين بين ، والباقون بالإمالة المحضة ، والأصل في ذلك الفتح ، وكذا ما كان من أمثالها مما ألفاتها ليست منقلبة عن ياء نحو ما ولا ، وإمالتها للتنبيه على أنها أسماء للحروف وليست حروفاً - نقل ذلك عن الواحدي .
لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه(3/411)
صفحة رقم 412
السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع المامضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول قي ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخر في سورتي الأنفال وبراءة ، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مماهو ملائم له متهيئ لقبوله وتبعده عما منافر له بعيد من قبول ملاءمته .
وأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك قد حوى من الأوصاف والحلي والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه .
والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه لامثل له وأنه ذو العرش العظيم ؛ لما كان ذلك كذلك ، اعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة ، وزاده وصف الحكمه وأشار بأداة البعد إلى رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال : ( تلك ) أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة ، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوارة والإنجيل من ذلك ، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في في الكاتبين ولا جالس أحداً يعلمه ) الحكيم ( فكان فيما مضى - أن كونه من عند الله كاف في وجوب اتباعه ، وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية : دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى النعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك ، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة ، ومحكم لما أتى به ، مانع طريق النجاة من طريق الهلاك ، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة ، ومحكم لما أتى به ، مانع له من الفساد ، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور ، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها ؛ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى
77 ( ) إلا تنصروه فقد نصره الله ( ) 7
[ براءة : 40 ] وقوله
77 ( ) عفا الله عنك لما أذنت لهم ( ) 7
وقوله
77 ( ) ورحمة للذين آمنوا منكم والذينيؤذون رسول الله لهم عذاب اليم ( ) 7
[ براءة : 61 ] وقوله :
77 ( ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( ) 7
[ براءة : 128 ] إلى آخر السورة إلى ما تخلل أثناء ىي هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ووصفه بالرأفة والرحمة ، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهوره دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه ، وكان ذلك كله مظنة لتعجيب المرتاب وتوقف الشاك ومثيراً لتحرك(3/412)
صفحة رقم 413
ساكن الحسد من العدو العظيم ما منحه عيه السلام ، قال تعالى ) أكان لناس عجباً أن أوحينا إلى رجل أن أنذر الناس ( إلى قوله : ( لسحر مبين ( ثم قال ) إن بكم الله ( الآيات ، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير ، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه ، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد ) ذلكم الله ربكم فاعبدوه ( ) ما خلق اله ذلك إلا بالحق ( ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكر في عظيم آياته حتى ادتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا
77 ( ) لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ( ) 7
[ الفرقان : 7 ] وقالوا
77 ( ) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ( ) 7
[ يس : 15 ]
77 ( ) قالوا انؤمن لبشرين مثلنا ( ) 7
[ المؤمنون : 47 ]
77 ( ) ما هذا إلا رجل يريد ان يصدكم عما كان يعبد آباؤكم ( ) 7
[ سبأ : 43 ] فقال تعالى متوعداً للغافلين ) إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا ( ، ثم وعد المعتبرين فقال ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ( ، وكل هذا بيّن الالتحام جليل الالتئام ، تناسجت آي السور - انتهى .
ولما كان كونه من عند الله مع كونه حكيماً - موجباً لقبوله بادئ بدء والسرور به لما تقرر في العقول وجبلت عليه الفطر من أنه تعالى الخالق الرازق كاشف الضر ومدبر الأمر ، كان ذلك موضع أن يقال : ما كان حال من تلي عليهم ؟ فقيل : لم يؤمنوا ، فقيل : ماشبهتهم ؟ هل قدروا على معارضته والطعن في حكمته ؟ فقيل : لا بل تعجبوا من إنزاله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وليس بأكثرهم مالاً ولا بأقدمهم سناً ، فرجع حاصل تعجبهم إلى ما قاله تعالى إنكاراً عليهم .
فإنه لو أسل ذا سن قالوا مثل ذلك ، وهل مثل ذلك محل العجب ) أكان ( اي بوجه من الوجوه ) للناس عجباً ( اي الذين فيهم اهلية التحرك غلى المعالي ، والعجب : تغير النفس بما لا يعف سببه مما خرج عن العادة ؛ ثم ذكر الحامل على العجب وهو اسم ( كان ) فقال بعد ما حصل لهم شوق إليه : ( أن أوحينا ) أي ألقينا أوامرنا بما لنا من العظمة بواسطةو رسلنا في خفاء منهين ) إلى رجل ( اي هو في غاية الرجولية ، وهو مع ذلك ) منهم ( بحيث إنهم يعرفون جميع أمره كما فعلنا بمن قبلهم والملك العظيم المُلك المالك التام الملك لا اعتراض عليه فيما به تظهر خصوصيته من إعلاء من شاء .
ولما كان في افيحاء معنى القول ، فسره بقوله ) ان أنذر الناس ) أي عامة ، وهم الذين تقدم نداءهم أول البقرة ، ما أمامهم من البعث وغيره إن لم يؤمنوا أصلاً أو إيماناً(3/413)
صفحة رقم 414
خالصاً ينفي كل معصية صغيرة أو كبيرة وكل هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات ) وبشر ) أي خص ) الذين آمنوا ) أي اوجدوا هذا الوصف وعملوا تصديقاً لدعواهم له الصالحات ، اي من الأعمال اللسانية وغيرها ، بالبشارة بقبول حسناتهم وتكفير سيئاتهم والتجاوز عن هفواتهم وترفع درحجاتهم كما كان إرسال الرسل قبله وكما هو مقتضى العدل في إثابة الطائع الطائع وعتاب العاصي ، والإنذار : افعلام بما ينبغي ان يحذر منه ، والتبشير : التعريف بما فيه السرور ، واضاف القدم - الذي هو السابقة بالطاعة - إلى الصدق في قوله تعالى موصلاً لفعل البشارة إلى المبشر به دون حرف جر : ( أن لهم ) أي خاصة ) قدم صدق ( اي عمالاً حقة ثابته قدموها لأنفسهم صدوا فيها وأخلصوا فيما يسّروا له لأنهم خلقوا له وكان مما يسعى إليه بالإقدام ، وزاد في البشارة بقوله : ( عند ربهم ( ففي إضافة القدم تنبيه على أنه يجب أن يخلص له الطاعة كإخلاص الصدق من شوائب الكذب ، وفي التعبير بصفة الإحسان إشارة إلى المضاعفة .
ولما ثبت أن الرسول وام أرسل به على وفق اعادة ، انتفى أن يكون عجباً من هذه الجهة ، فصار المحل قابلاً لأن يتعجب منهم فيقال : ما قالوا حين اظهروا العجب ؟ ومن أيّ وجه رأوه عجباً ؟ فقيل : ( قال الكافرون ( اي الراسخون في هذا الوصف منهم وتبعهم غيرهم مؤكدين ماحق قولهم من الإنكار ) إن هذا ) أي القول وما تضمنه من الإخبار بما لا يعرف من البعث وغيره ) لسحر ( اي محمد لساحر - كما في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي ) مبين ( اي ظاهر في نفسه ، وهو من شدة ظهوره مظهر لكل شيء أنه كذلك ، فجاؤوابما هو في غاية البعد عن وصفه ، فإن السحر قد تقرر لكل ذي لب انه - مع كونه تمويهاً لا حقيقة له - شر محض ليس فيه شيء من الحكمة فضلاَ عن ان يمتطي الذروة منه مع أن في ذلك ادعاءهم أمراً متنافضاً ، وهو أنه من قول البشر كما هي العادة في السحر ، وانهم عاجزون عنه ، لأن السحر فعل تخفي الحيلة فيه حتى يتوهم الإعجاز به ، فقد اعترفوا بالعجز عنه وكذبوا في ادعاء أنه لسحر لأن الآتي به منهم لم يفارقهم قط وما خالط عالماً لا بسحر ولا غيره حتى يخالطهم فيه شبهة ، فهم يعلمون ان قولهم في غاية الفساد ، فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه - مع ما تضمنه من البعث - سحر ، وعلى حقيقة انه من عنده من غير شبهة ، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها ، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم ، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال : ( إن ربكم ) أي الموجد لكم(3/414)
صفحة رقم 415
والمربي والمحسن ) الله ) أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب صلاحه ، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند لذي له العظمة كلها قطعاً ، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم ) الذي ( على اتساعها وكثرة ما فيها من المنافع ) في ستة أيام ( لحكمه أرادها على أن ذلك وقت يسير لا بفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء .
ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف اتصريف والتقدير ، عبر سبحانه عن علمه فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي : ( ثم استوى ) أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك ) على العرش ( المتقدم وصفه بالعظمة ، وليست ( ثم ) للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها ؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله : ( يدبر ( لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه ) الأمر ( كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور ، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه ، لأن التدبير تنزل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها ، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه ، بل هو متصف بأنه ) ما من شفيع ( اي وغن كان بليغ الاتصاف بذلك .
ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد احداً عند إنه له إذناً عاماً لجميع الأزمان والأماكن ، أتى بالجار فقال : ( إلا من بعد إذنه ( فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشء من الأشياء بغير إذنه فكيف ياتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته ، فحصل الأمن ان يكون غيره قاله أو شفع فيمن ابلغه من غير إرادة منه سبحانه ، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه ، وقد عرف من هذا أن ) ما من شفيع ( في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء اصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع : السائل في غيره بتبليغ منزلة من عفو أو زيادة منزلة ، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك ؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد ، وجب ان يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء ، فنبه على ذلك بقوله : ( ذلكم ) أي العظيم الشأن العالي المراتب ) الله ) أي الملك الأعلى ) ربكم ( الذي تقرر له من الغعظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه(3/415)
صفحة رقم 416
وصف ) فاعبدوه ) أي فخُّصوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة ، ولولا فضله لم يكن لمن زل ادنى زلة طاعة .
ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة ، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها ةالاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها قام على استحقاقه للأفراد بها من من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال : ( أفلا تذكرون ) أي ولو بأدنى انواع التذكير بما أشار إليه الإدغام ، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعمله كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريد ، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غيرذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعلالحقيقي غيره وأنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد ا يضر ولا ينفع
يونس : ( 4 - 5 ) إليه مرجعكم جميعا. .. . .
) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ( )
فلما تقرر انه هو الذي بدأ الخلق ، تقرر بذلك أنه قادر على إعادته فقال : ( إليه ( اي خاصة ) مرجعكم ) أي رجوعكم وموضع رجوعكم ووقته حال كونكم ) جميعاً ( لا يتخلف منكم أحد ، تقدم وعده لكم بذلك ) وعد الله ) أي الذي له الكمال كله ) حقاً ( فهو تعليل لعبادته لعبادته لوحدانيته ، فيحيون بعد اموت ويحشرون إلى موضع جزاء الله تعالى لهم زمانه الذي قدره له ، ويرفع ما كان لهم من المكنة في الدنيا ، فعلم قطعاً أنه لا بد من الرسول ، فاستعدوا للقاء هذا الملك الأعظم بكل ما أمركم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ ثم أوضح التنبيه على قدرته مضمناً له بيان حكمته فقال معللاً لوجوب المرجع إليه مؤكداً عداً لهم في عداد المنكر للابتداء لأجل إنكارهم ما يلزم عنه من تمام القدرة على البعث وغيره : ( إنه يبدؤا الخلق ) أي ينشئه النشأة الأولى ، له هذه الصفة متجددة التعلق على سبيل الاستمرار ) ثم يعيده ( ليقيم العدل في خلقه بأن ينجزه لمن عبده ، وعده بأن يعزه ويذل عدوه وذلك معنى قواه : ( ليجزي ( .
ولما كان في سياق البعث ، قدم أهل الجزاء وبدأ بأشرافهم فقال : ( الذين آمنوا ) أي وجدوا هذا الوصف الذي هو الأساس المتقن لكل عمل صالح ) وعملوا ) أي وصدقوا إيمانهم بأن عملوا ) الصالحات ( جزاء كائناً ) بالقسط ( واقتصر على العدل(3/416)
صفحة رقم 417
دون الفضل ليفهم أن ترك الحشو مخل بالعمل الذي هو محط الحكمةالتي هي اعظم مصالح السورة ، والجزاء : الإعطاء بالعمل ما يقتضيه العمل لم يكن جزاء مطلقاً والقسط : العدل ) والذين كفروا ( اي أوجدوا هذا الوصف ) لهم ) أي في الجزاء على جهة الاستحقاق ) شراب من حميم ( اي مسخن بالنار أشد الإسخان ) عذاب أليم ) أي بالغ الإيلام ) بما كانوا ( اي جبلة وطبعاً ) يكفرون ( فإن عذابهم من أعظم نعيم المؤمنين الذين عادوهم فيه سبحانه
77 ( ) فاليوم الذي من آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ( ) 7
[ سورة المطففين : 34 - 36 ] وكأنه قال : ( يبدأ ( مضارعاً لا كما قال في آية أخرى
77 ( ) كما بدأكم تعودون ( ) 7
[ الأنفال : 29 ] حكاية للحال وتصويراً لها تنبيهاً على تأمل ما يتجدد إنشاءه ليكون أدعى لهم إلى تصور القدرة على الإعادة ؛ قال الروماني : وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التمكين في الدنيا من تجديد النشأة للجزاء لأنه لا بد - مع التمكين من الحسن والقبيح - من ترغيب وترهيب لا يؤمن معه العذاب على الخلود ليخرج المكلف بالزجر عن القبيح عن حال الإباحة له يرفع التبعة عليه - انتهى .
فقد لاح بما ذكر ما تعين في اثناء السورة بتكريره لتوضيحه وتقريره - أن مقصودها وصف الكتاب بما يدل قطعاً على أنه من عنده سبحانه وبإذنه ، لأنه لا غائب من علمه ولا مدني لقدرته ولا مجترء على عظمته ، وأنه تام القدرة متفرد بالخلق والأمر فهو قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وأن المراد بالكتاب البشارة والنذارة للفوز عند البعث والنجاة من غوائل يوم الحشر مع أنه سبحانه نافذ القضاء ، فلا تغنى الآيات والدلالات البينات عمن حكم بشقاوته وقضى بغوايته ، وأن ذلك من حكمته وعدله فيجب التسليم لأمره وقطع الهمم عن سواه ؛ ثم شرع سبحانه يقرر امر بدئه للخلق وغعادته في سياق مذكر بالنعم التي يجب شكرها ، ويسمى المعرض عن شكره كافراً فقال : ( هو ) أي غيره ) الذي جعل ) أي بما هيأ من الأسباب ) الشمس ( .
ولما كان النور كيفية قابلة للشدة والضعف ، خالف سبحانه في الأسماء مما يدل على ذلك فقال نور الشمس ) ضياء ( اي ذات نور قوي ساطع وقدها منازل ، هكذا التقدير ، لكن لما كانت في تقلبها بطيئة بالنسبة إلى القمر ذكره دونها فقال : ( والقمر ) أي وجعل القمر ) نوراً ) أي ذا نور من نورها ) وقدره ) أي وزاده عليها بأن قدره مسيرة ) منازل ( سريعاً يقبله فيها ، وباختلاف حاله في زيادة نوره ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات والحرارات التي دبر الله بها هذا الوجود - إلى غير ذلك من الأسرار التي هي فرع وجود الليل والنهار ) لتعلموا ( بذلك علماً سهلاً ) عدد السنين ( أي(3/417)
صفحة رقم 418
المنقسمة إلى الفصول الأربعة وما يتصل بذلك من الشهور وغيرها ليمكن لكم تدبير المعاش في أحوال الفصول وغيرها ) والحساب ) أي ذلك مما يدل على بعض تدبيره سبحانه .
ولما كان ذلك مشاهداً لا مرية فيه ، وصل به قوله : ( ما خلق الله ) أي الذي له الكمال كله ) ذلك ) أي الأمر العظيم جداً ) إلا بالحق ) أي خلقاً ملتبساً بالحق الكامل في الحقية لا مرية فيه ، فعلم أنه قادر على إيجاد الساعة كذلك إذ لا فرق ، وإذا كان خلقه كذلك فكيف يكون أمره الناشئ عنه الخلق غير الخلق بأن يكون من السحر الذي مبناه على التمويه والتخييل الذي هو عين الباطل ، أو ما خلقه إلا بسبب إظهار الحق من العدل بين العباد بإعزاز الطائع وإذلال العاصي ، فإنه لا نعيم كالانتصار على المعادي والانتقام من المشانئئ ، والجعل : وجود ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها ، والشمس : جسم عظيم النور فإنه يكون ضياء النهار ؛ والقمر : جسم نير يبسط نوره على جميع الظاهر من الأرض ويكسفه نور الشمس ؛ والنور : شعاع فيه ما ينافي الظلام ؛ والحساب : عدد يحصل به مقدار الشيء من غيره .
ولما كان النظر في هذه الآيات من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كثير من الاتصاف بقابلية العلم ، ختم الآية بقوله : ( يفصل ) أي الله في قراءة ابن كثير وأبيعمرو وحفص عن عاصم بالياء التحية ، وبالالتفات إلى أسلوب العظمة تعظيماً للبيان في قراءة الباقين بالنون ) الآيت ) أي يبين الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة متفاصلة بياناً شافياً .
ولما كان البيان لمن لا علم له كالعدم ، قال : ( لقوم ) أي لهم قوة المحاولة لما يريدون ) يعملون ) أي لهم هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار ؛ ولما كانت لهم المعرفة التامة والنظر الثاقب في منازل القمر عدت من الجلي .
يونس : ( 6 - 9 ) إن في اختلاف. .. . .
) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ( )
ولما اشار سبحانه إلى الاستدلال على فناء العالم بتغيره وإلى القدرة على البعث(3/418)
صفحة رقم 419
بإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهفي قوله - مؤكداً له لإنكارهم أن يكون في ذلك دلالة : ( إن في اختلاف الليل ) أي على تباين اوصافه ) والنهار ( اي كذلك ) وما ( اي وفيما ) خلق الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) في السموات والأرض ( من أحوال السحاب والأمطار وما يحدث من ذلك الخسف والزلازل والمعادن والنبات والحيونات وغير ذلك من أحوال الكل التي لا يحيط البشر بإحصائها ؛ لما أشار إلى ذلك ختمها بقوله : ( لآيات ) أي دلالات بينة جداً ) لقوم يتقون ) أي أن من نظر في هذا الاختلاف وتأمل فيتقي الله ليعلمه قطعاً بأن أهل هذه الدار غير مهملين ، فلا بد لهم من أمر ونهي وثواب وعقاب ؛ والاختلاف : ذهاب كل من الشيئين في غير جهة الآخر ، فاختلاف الملوين : ذهاب هذا في جهة الضياء وذاك في جهة الظلام ؛ والليل : ظلام من غروب لشمسإلى طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ؛ والخلق : فعل الشيء على ما تقتضيه الحكمة ، وأصله التقدير ؛ ونبه بما خلق في السماوات والأرض على وجوه الدلالات .
لأن الدلالة في الشيء قد تكون من جهة خلقه أو اختلاف صورته أو حسن منظره أو كثرة نفعه أو عظم امره أو غير ذلك .
ولما أُشير بالآية إلى انقراض الدنيا بأن الحادث لا ثبات له ، وقام الدليل القطعي على المعادن ، ناسب تعقيبهابعيب من اطمأن إليها في سياق مبين أن سبب الطمأنيية إنكار الطمأنينة اعتقاداً أو حالاً ؛ ولما كانت ختم تلك ب ) يتقون ( لاح ان ثمّ من يتقى ومن لا يتقي ؛ ولما كان الغرور اكثر ، بدأ به تنفيراً عن حاله ، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم : ( إن الذين ( ولما كان الخوف والرجاء معدن السعادة ، وكان الرجاء اقرب إلى الحث على الإقبال ، قال مصرحاً بالرجاء ملوحاً إلى الخوف : ( لا يرجون لقاءنا ( بالعبث بعد الموت ولا يخافون ما لنا من العظمة ) ورضوا ) أي عوضاً عن الاخرة ) بالحياة الدنيا ) أي فعملوا لها عمل المقيم فيها مع ما إشتملت عليه مما يدل على حقارتها ) واطمأنوا ( إليها مع الرضى ) بها ( طمأنينة من لا يزعج عنها مع ما يشاهدونه مع سرعة زوالها ) والذين هم ) أي خاصة ) عن آياتنا ) أي على ما لها من العظمة لا عن غيرها من الأحوال الدنّية الفانية ) غافلون ( اي غريقون في الغفلة ، وتضمن قوله تعالى استئنافاً : ( أولئك ( اي البعداء البغضاء ) مأوهم النار(3/419)
صفحة رقم 420
بما ) أي بسبب ما ) كانوا ( اي جبلة وطبعاً ) يكسبون ( فإن كسبهم ضلال - أنه لا يعالجهم بالعقاب على تأخير المتاب ، وجعلت ملاقاة ما لا يقدر إلا الله تفخيماً لشأنها كما جعل إتيان جلائل آيات الله في قوله : ( ) إلا يأتيهم الله في ظِلل من الغمام ( ) [ البقرة : 210 ] ونحوه ، والاطمئنان : الركون إلى الشيء على تمكن فيه ، فهؤلاء مكنوا الأحوال للدنيافصار فرحهم وسخطهم لها ؛ والغفلة : ذهاب المعنى عن القلب بما يضاد حضوره إياه ، واليقضة نقيضها .
ولما انقضى هذا القسم حالاًومآلاً ، أتبعه سبحانه القسم الآخر بقوله مؤكداً لإنكار الكفار هدايتهم : ( إن الذين آمنوا ) أي أوجدوا هذا الوصف بما لهم من القوة النظرية التي كمالها معرفة الأشياء وسلطانها معرفة الله تعالى ) وعلموا ) أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا ) الصالحات ( بالقوة العلمية التي سلطانها عبودية الله تعالى ، والصالح : ما جاء بالحث عليه الأنبياء عليهم السلام ) يهديهم ( اي على سبيل التجدد والاستمرار ) ربهم ( اي المحسن إليهم ) بإيمانهم ) أي بسبب تصديقهم وإذعانهم لمعرفة الآيات التي غفل عنها الذين يأملون البقاء ولا يرجون اللقاء ، فقادتهم إلى دار السلام ، وهذا كما كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم بعد إسلامهم يشتد تعجبهم مما كان من تباطئهم عن الإسلام ، وكما ترى انك تخنق على بعض الكلمة فلا يدعك حظ النفس ترى له حسنة ، ثم إنك قد ترضى عنه فتراه كله محاسن .
ولما ذكر أم مآل القسم الأول النار ، ذكر هذا القسم في معرض سؤال من يقول : ماذا تورثهم هدايتهم ؟ فقيل له : ( تجري ( وأشار إلى قرب منال المياه وانكشافها عن كل ما ينتفع به في غير ذلك بإثبات الجار فقال : ( من تحتهم ) أي تحت غرفهم وأسرّتهم وغير ذلك من مشتهياتهم كقوله تعالى ) ) قد جعل ربك تحتك سرياً ( ) [ مريم : 14 ] وكذا قول فرعون ) ) وهذه الأنهار تجري من تحتي ( ) [ الزخرف : 51 ] ) الأنهار ( كائنين ) في جنات النعيم ( اي التي ليس فيها من غيره .
يونس : ( 10 - 11 ) دعواهم فيها سبحانك. .. . .
) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ( )
ولما كان الواجب على العباد أولاً تنزيهه تعالى عن النقائض التبي اعظمها الإشراك .
وكان من فعل ذلك سلم من غوائل الضلال فربح نفسه فعرف ربه وفاز في شهود حضرته بمشاهدة اوصاف الكمال ، أشار التسليك في ذلك بقوله : ( دعواهم ((3/420)
صفحة رقم 421
أي دعاؤهم العظيم الثابت الكثير الذي يقولونه فيها لا على وجه التكليف ، بل يلهمونه إلهام النفس في الدنيا ) فيها ( وأشار إلى مجامع التنزيه عن كل شائبة نقص فقال : ( سبحانك اللهم ( إشارة إلى الأمر الأول هو الأساسوهو المعراج في الآخرة ) وتحيتهم ( اي لله وفيما بينهم ) فيها سلام ( إشارة غلى أول نتائج الأساس بأنه لا عطب معه بوجه وهو نزول عن المعراج بالنظر في أحوال الخلق ) وآخر دعواهم ( أيدعائهم العظيم وهو المعراج الكمالي ) أن الحمد ) أي الكمال ) لله ) أي المحيط بجميع اوصاف الجلال والجمال يعني أن التنزيه عن النقص أوجب لهم السلامة ؛ ولما سلموا من كل نقص وصلوا إلى الحضرة فغرقوا في بحار الجلال وانكشفت لهم سمات الكمال ؛ والدعوى : قول يدعى به أمر ؛ والتحية : التكرمه بالحال الجلية ، وأصله من قولهم : أحياك الله حياة طيبة ، وأشار بقوله : ( رب العالمين ( إلى نعمة الإيجاد إرشاداً بذلك إلى القدرة على المعاد ، وفيه هبوط عن المعراج الكمالي إلى الخلق ، وذلك إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن الحاجة والنقصان .
ولما أشير في هذه الآية إلى تنزهه تعالى وعلوه وتفرده بنعوت الكمال ، ودل بختمها بالحمدِ على إغحاطته وبرب العالمين على تمام قدرته وحسن تدبيره في ابتدائه وإعادته ، اتبعت بما يدل على ذلك من لطفه في معاملته من أنه لا يفعل شيئاً قبل أوانه لأن الاستعجال من سمات الاحتياج. بل وروى أبو يعلى وأحمد بن بن منيع عن أنس رضي الله عنه ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( التأني من الله والعجلة من الشيطان ) قال شيخنا ابن حجر : وفي الباب عن سهل وسعد رضي الله عنهما فقال تعالى عاطفاً على قوله ) يدبرالأمر ( ما معناه أنه تعالى يفعل فعل من ينظر في ادبار فلا يفعل إلاّ ما هو في غاية الإحكام ، فهو لا يعاجل العصاة بل يمهلهم ويسبغ عليهم النعم وهم في حال عصيانهم له أضل من النَّعم يطلبون خبراته ويستعجلونه بها : ( ولو يعجل الله ( اي المحيط بصفات الكمال ) للناس ( اي الذين اتخذوا القرآن عجباً لما لهم من صفة الاضطراب ) الشر استعجالهم ( اي عاملاً في إرادته لإيقاع الشر بهم مثل عملهم في إرادتهم وطلبهم العجلة ) بالخير لقضى ( اي حُتم وبت وأدى ، بناه للمفعول في قراءة(3/421)
صفحة رقم 422
الجماعة دلالة على هوانه عنده ، ولأن مجرد فراغه لا كونه من معين. وبناه ابن عامر للفاعل ونصب الأجل ) إليهم ( إي الناس خاصة ) أجلهم ) أي عمرهم أو آخر لحظة تكون منه ، فأهلك من في الأرض فاختل النظام الذي دبره ، ولكنه لا يفعل إلاّ ما تقدم من إمهاله لهم إلى ما سمي من الآجال المتفاوتة .
وذلك سبب إضلال من يريد ضلاله .
ولعل التعبير بنون العظمة في ) فنذر ( إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور ؛ فكان القياس هداهم لكثرة ما عليه من الدلائل الظاهرة ولكنه تعالى أراد ضلالهم وهو من العظمة بحيث لا يعجزه شيء .
ويجوز ان يكون معطوفاً على قوله ) أولئك مأواهم النار ( لأن معناه : أولئك يمهلهم الله إلى انقضاء ما ضرب لهم من الآجال مع مبالغتهم في الإعراض .
ثم يكون مأواهم النار ولا يعجل لهم ما يستحقونه من الشر ) ولو يعجل الله للناس الشر ) أي ولو يريد عجلة الشرللناس إذا خالفوه أو إذا استعجلوه به في نحو قولهم ) ) فأمطر علينا حجارة من السماء ( ) [ الأنفال : 32 ] ودعاء الإنسان على ولده وعبده ، مثل استعجالهم أي مثل إرادتهم تعجيل الخير .
وعدل عن أن يقال : ولو يستعجل الله للناس الشر ) استعجالهم بالخير ) أي يعجل ، دفعاً لإيهام النقص بأن من يستعجل الشيء ربما يكون طالباً عجلته من غير لعدم قدرته ، وتنبيهاً على أن الأمر ليس إلاّ بيده ) لقضي إليهم اجلهم ( فإنه إذا أراد شيئاً كان ولم يتخلف أصلاً .
ولما كان التقدير لأن ( لو ) امتناعه : ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه لا يفوته عادة بل يهمل الظالمين ويدر آباءنا الضراء والسراء ، سبب عن قوله : ( فنذر ( اي على أيّ حالة كانت ، ووضع موضع الضمير تخصيصاً وتنبيهاً على ما أوجب لهم الإعراض والجرأة قوله : ( الذين ( وأشار بنفي الرجاء إلى نفي الخوف على الوجه الأبلغ فقال : ( لا يردون لقآنا ( اي بعد الموت بهذا الاستدراج على ما لنا من العظمة التي من أمنها كان أضل من الأنعام ) في طغيانهم ( اي تجاوزهم للحدود تجاوزاً لا يفعله من له ادنى روية ) يعمهون ) أي يحكم مشيئتنا السابقة في الزل عمياً عن رؤية الآيات صماً عن سماع البينات ؛ والتعجيل : تقديم الشيء على وقته الذي هو أولى به ؛ والشر : ظهور ما فيه الضر ، وأصله الإظهار من قولهم : شررت الثوب - إذا اظهرته للشمس ، ومنه شرر النار - لظهوره بانتشاره ؛ والطغيان : الغلو في ظلمهم العباد ؛ والعمه ، شدةُ الحيرة .
يونس : ( 12 - 14 ) وإذا مس الإنسان. .. . .
) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ(3/422)
صفحة رقم 423
الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) 73
( ) 71
ولما بين تعالى دأبهم استعجالهم بالخير ، وكان منه استكشاف الضر ، بينَ أن حالهم عندهالاعتراف ، وشكرهم على النجاة منه افنكار الآراء وسلامة الطباع ، فالحاصل أن الانسان عند البلاء غير شاكر ، فكأنه قيل : فإذا مس الإنسان منهم الخير كان في غفلة بالفرح والأشر والمرح ) وإذا مسَّ الإنسان ( منهم ) الضر ( وإن كان من جهة يتوقعها لطغيان هو فيه ولا ينزع عنه خوفاً مما يتوقعه من حلول الضر لشدةة طغيانه وجهله ) دعانا ( مخلصاً معترفاً بحقنا عالماً بما لنا من كمال العظمة عاملاً بذلك معرضاً عما ادعاه شريكاً لنا كائناً ) لجنبه ) أي مضطجعاً حال إرادته للراحة ، وكأنه عبر باللام إشارة إلى أن ذلك أسر أحواله إليه ) أو قاعداً ) أي متوسطاً في احواله ) أو قآئماً ) أي في غاية السعي في مهماته ، لا يشغله عن ذلك شيء في حال من الأحوال ، بل يكون ظرف المس بالضر ، قال : لجنبيه ، إشارة إلى استحكام الضر وغلبته بحيث لا يستطيع جلوساً كما يقال : فلان لما به ، وأشار بالفاء إلى قرب زمن الكشف فقال : ( فلما كشفنا ) أي بما لنا من العظمة ) عنه ضره ) أي الذي دعانا لأجله ) مرّ ) أي في كل ما يريده لاهياً عنا بكل اعتبار ) كأن ) أي كأنه ) لم يدعنآ ) أي على ما كان يعترف به وقت الدعاء من عظمتنا ؛ ولما كان المدعو يأتي إلى الداعي فيعمل ما دعاه لأجله قال : ( إلى ) أي كشف ) ضر مسه ) أي كأن لم يكن له نبا معرفة أصلاً فضلاً عن ان يعترف بانا نحن كشفنا عنه ضره ، فهذه الآية في بيان ضعف الإنسان وسوء عبوديته ، والتي قبلها في بيان قدرة الله وحسن ربوبيته ؛ والمسُ : لقاء من غير فصل ؛ والدعاء : طلب الفعل من القادر عليه ؛ والضر : إيجاب الألم أو السبب المؤدي إليه .
ولما كان هذا من فعل الإنسان من أعجب العجب. كان كأنه قيل : لم يفعل ذلك ؟ فقيل : لما يزين له من الأمور التي يقع بها الاستدراج لإسرافه .
وهذا دأبنا أبداً ) كذلك ) أي مثل هذا التزيين العظيم الرتبة ؛ ولما كان الضار مطلق التزيين ، بنى للمفعول قوله : ( زين للمسرفين ) أي كلهم العريقين في هذا الوصف ) ما كانوا ) أي بجبلاتهم ) يعملون ) أي يقبلون عليه على سبيل التجديد والاستمرار من المعصية بالكفر وغيره مع ظهور فساده ووضوح ضرره ؛ والإسراف : الإكثار من الخروج عن العدل .
ولما كان محط نظرهم الدنيا ، وكان هذا صريحاً في الإمهال للظالمين والإحسان إلى المجرمين ، اتبعه بقوله تعالى مهدداً لهم رادعاً عما هم فيه من اتباع الزينة مؤكداً(3/423)
صفحة رقم 424
لأنهم ينكرون أن هلاكهم لأجل ظلمهم : ( ولقد أهلكنا ) أي بما لنا من العظمة ) القرون ) أي على ما لهم من الشدة والقوة ؛ ولما كان المهلكون هلاك العذاب المستأصل بعض من تقدم ، أثبت الجار فقال : ( من قلبكم لما ظلموا ) أي تكامل ظلمهم إهلاكاً عم آخرهم وأولهم كنفس واحدة دفعاً لتوهم أنه سبحانه لا يعم بالهلاك ، وقال تعالى عطفاً على ) أهلكنا ( : ( وجآءتهم رسلهم ) أي إلى كل أمة رسولها ) بالبينات ) أي التي بينت بمثلها الرسالة ) وما ) أي والحال أنهم ما ) كانوا ) أي بجبلاتهم ، وأكد النفي بمن ينكر أن يتأخر إيمانهم عن البيان فقال : ( ليؤمنوا ( ولو جاءتهم كل آيى ، تنبيهاً لمن قد يطلب أنه سبحانه يريهم بوادر العذاب أو ما اقترحوه من الآيات ليؤمنوا ، فبين سبحانه أن ذلك لا يكون سبباً لإيمان من قضى بكفره ، بل يستوي في التكذيب حاله قبل مجيء الأيات وبعدها ليكون سبباً لهلاكخ .
فكأنه قيل : هل يختص ذلك بالأمم الماضية ؟ فقيل : بل ) كذلك ( اي مثل ذلك الجزاء العظيم ) نجزي القوم ) أي الذين لهم قوة على حاولة ما يريدونه ) المجرمين ( لأن السبب هو العراقة فيما لا يتخلص منه من العذاب ؛ والقرن : أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض .
ولما صرح بأن ذلك عام مجرم ، أتبعه قوله : ( ثم جعلناكم ) أي أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا ) خلائف في الأرض ) أي لا في خصوص ما كانوا فيه : ولما كان زماننا لم يستغرق ما بعد زمان المهلكين أدخل الجار فقال : ( من بعدهم ( اي القرونوإنما ذلك لنراه في عالم الشهادة لإقامة الحجة ) كيف تعملون ( فيتعلق نظرنا باعمالكم موجودة تخويفاً للمخاطبين من أن يجرموا فيصيبهم ما أصاب من قبلهم .
يونس : ( 15 - 17 ) وإذا تتلى عليهم. .. . .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ( ( )(3/424)
صفحة رقم 425
ولما تقدم أن من قضى بشقاوته لا يتأتى إيمانه بأية من الآيات حتى تنزل به سطوته وتذيقه بأسه ونقمته .
وكان القرآن أعظم آية أنزلت إلى الناس لما لا يخفى .
أتبع ذلك عطفاً على قوله ) قال الكافرون إن هذا لسحر مبين ( بقوله بياناً لذلك : ( وإذا تتلى ( بناه للمفعول إيذاناً بتكذيبهم عند تلاوة أي تالٍ كان .
وأبداه مضارعاً إشارة إلى أنهم يقولون ذلك ولو تكررت التلاوة ) عليهم ) أي على هؤلاء الناس ) آياتنا ) أي على ما لها من العظمة بإسنادها إلينا ) بينات ( فإنه مع ما اشتمل عليه مما لزمهم به الإقرار بحقيقة قالوا فيه ما لامعنى له إلا التلاعب والعناد ، ويجوز عطفه على ) ثم جعلناكم خلائف ( - الآية - والالتفات إلى مقام الغيبة للإيذان بأنهم للإعراض لإساءتهم الخلافة ، والموصول بصلته في قوله : ( قال الذين لا يرجون لقآءنا ( في موضع الضمير تنبيهاً على أن هذا الوصف علة قولهم ، ولعله عبر بالرجاء ترغيباً لهم لأن الرجاء محط أمرهم في طلب تعجيله للخير ودفعه للضمير. فكان من حقهم أن يرجوا لقاءه تعالى رغبة في مثل ما أعده لمن أجابه ، ولوح إلى الخوف بنون العظمة ليكون ذلك أدعى لهم إلى الإقبال ) ائت ) أي من عندك ) بقرآن ) أي كلام مجموع جامع لما تريد ) غير هذا ( في نظمه ومعناه ) أو بدله ) أي بألفاظ أخرى والمعاني باقية وقد كانوا عالمين ( صلى الله عليه وسلم ) مثلهم في العجز عن ذلك ولكنهم قصدوا أنه يأخذ في التعبير حرصاً على إجابة مطلوبهم فيبطل مدعاه أو يهلك .
ولما كان كأنه قيل : فماذا أقول لهم ؟ قال : ( قل ما يكون ) أي يصح ويتصور بوجه من الوجوه ) لي ( ولما كان التبديل يعم القسمين الماضيين قال : ( أن أبدله ( وقال : ( من تلقاء ) أي عند وقبل ) نفسي ( إشارة إلى الرد عليهم في إنكار تبديل الذي أنزله بالنسخ بحسب المصالح كما أنزل أصله لمصلحة العباد مع نسخ الشرائع الماضية به ، فأنتج ذلك قطعاً قوله : ( أن أتبع ) أي بغاية جهدي ) إلاّ ما ( ولما كان قد علم أن الموحي إليه الله قال ) يوحى إلي ( اي سواء كان بدلاً أو أصلاً ؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم مضمونه : ( إني أخاف ) أي على سبيل التجدد والاستمرار ) إن عصيت ربي ) أي المحسن إليّ والموجد لي والمربي والمدبر بفعل غير ما شرع لي ) عذاب يوم عظيم ( فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم من الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم ، وإذا خفته - مع تم ما دفع به مكرهم في طعنهم ، اتبعه بعذره ( صلى الله عليه وسلم ) في الإبلاغ على وجه يدل قطعاً على انه كلام الله وما تلاه إلاّ بإذنه فيجتث طعنهم من أصله ويزيله بحذافيره فقال : ( قل ( اي لهم معلماً أنه سبحانه إما أن يشاء(3/425)
صفحة رقم 426
الفعل وإما أن يشاء عدمه وليست ثمّ حالة أصلاّ ) لوشآء الله ) أي الذي له العظمة كلها أن لا أتلوه عليكم ) ما تلوته ) أي تابعت قراءته ) عليكم ولآ أدركم ( اي أعلمكم على وجه المعالجة هو سبحانه ) به ( على لساني ؛ ولما كان ذكر ذلك أتبعه السبب المعرف به فقال : ( فقد لبثت فيكم عمراً ( ولما كان عمره لم يستغرق زمان القبل قال : ( من قبله ( مقدار اربعين سنة بغير واحد من الأمرين لكون الله لم يشأ واحداً منهما إذ ذاك ، ثم أتيتكم بهذا الكتاب الأحكم المشتمل على حقائق علم الأصول ودقائق علم الفروع ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين في عبارة قد عجزتم - وأنتم افصح الناس وأبلغهم - عن معارضة آية منها ، فوقع بذلك العلم القطعي الظاهر جداً أنه من عند الله فلذلك سبب عنه إنكار العقل فقال : ( أفلا تعقلون ( إشارة إلى أنه يكفي - في معرفة أن القرآن منة عند الله وأن غير عاجز عنه - كون الناظر في أمره وأمري من أهل العقل ، أي أفلا يكون لكم عقل عرفتم أنكم عاجزون عن ذلك مع التظاهر ، فأنا وحدي - مع كوني امياً - أعجز ، ومن انه تعالى لو شاء ما بلغكم ، ومن أني مكثت فيكم إتياني به زمناً طويلاً لا أتلو عليكم شيئاً ولا أدعي فيكم علماً ولا أتردد إلى عالم ؛ وتعرفوا ان قائل ما قلتم مكذب بآيات الله ، وفاعل ما طلبتم كاذب على الله ، وكل من ذلك أظلم الظلم ) فمن ( اي فهو سبب لأن يقال : من ) أظلم ممن افترى ( اي تعمد ) على الله ( اي الذي حاز جميع العظمة ) أو كذب بآياته ( كما فعلتم أنتم ، وذلك من أعظم الكذب ولما كان التقدير : لا أحد أظلم منه فهو لا يفلح لأنه مجرم ، علله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم : ( إنه لا يفلح ) أي بوجه من الوجوه ) المجرمون ( فد وضح أن المقصود نفي الكذب عن نفسه ( صلى الله عليه وسلم ) وإلحاق الوعيد حيث كذبوا بالآيات بعد ثبوت أنها من عند الله والإعلام بأنه لا أحد اظلم منهم لأنهم كذبوا على الله في كل ما ينسبونه إليه مما نهى عنه وكذبوا يآياته ، والإتيان بالغير قد يكون مع وجود الأول والتبديل لا يكون إلاّ برفع الأول ووضع غيره مكانه ؛ والتلقاء : جهة مقابلة الشيء ، اتبعه بمجيئه بعده ؛ والمشيئة خاصة تكون سبباً مؤدياً إلى وقوع الشيء ، ومرتباً له على وجه قد يمكن أن يقع خلافه ، والإرادة نظيرها ؛ والعقل : العلم الغريزي الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب ، ويجوز ان يكون ) ويعبدون ( حالاً من ) الذين لا يرجون لقاءنا ) أي قالوا ذلك(3/426)
صفحة رقم 427
عابدين ) من دون الله ) أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال الذي ثبت عندهم أن هذا القرآن كلامه لعجزهم عن معارضة شيء منه وهو ينهاهم عن عبادة غير وهم يعلمون قدرته على الضر والنفع .
ولما كان السياق للتهديد والتخويف ، قدم الضر لذلك وتنبيهاً لهم على انهم مغمورون في نعمه التي لا قدرة لغيره على منع شيء منها ، فعليهم ان يقيدوها بالشكر فقال : ( مالا يضرهم ( اي أصلاًمن الأصنام وغيرها ) ولا ينفعهم ( في معارضة القرآن معاقباً على المعصية وإلا كانت عبادته عبثاً ، معرضين عما جاءهم من الآيات البينات من عند من يعلمون أنه يضرهم وينفعهم ولا يملك شيئاً من ذلك أحد سواه ، وقد أقام الأدلة على ذلك غير مرة ، وفي هذا غاية التبكيت لهم بمنابذة العقل مع غدعائهم رسوخ الأقدام فيه وتمكن المجال منه ؛ والعبادة : خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع ؛ ثم عجب منهم تعجباً آخر فقال : ( ويقولون ) أي لم يكفهم قوله ذلك مرة من الدهر حتى يجددوا قوله مستمرين عليه : ( هؤلاء ) أي الأصنام أو غيرهم ) شفعاؤنا ) أي ثابته شفاعتهم لنا ) عند الله ) أي الملك الأعظم الذي لا يمكن الدنو من شيء من حضرته إلا بإذنه ، وقد تخجيلهم في العجز عن تبديل القرآن أو الإتيان بشيء من مثله حيث لم تنفعهم فيذلك فصاحتهم ولا أغنت عنهم شيئاً بلاغتهم ، وأعوزهم في شأنه فصحاءهم ، وضل عنهم شفعاءهم ، فدل ذلك قطعاً على أنه ما من شفيع إلا بإذنه من بعد ، فكأنه قال : بماذا أجيبهم ؟ فقال : ( قل ( منكراً عليهم هذا العلم ) أتنبئون ) أي تخبرون إخباراً عظيماً ) الله ( وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كمال ) بما لا يعلم ) أي لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات ) في السموات ( ولما كان الحال مقتضياً لغاية الإيضاح ، كرر النافي تصريحاً فقال : ( ولا في الأرض ( وفي ذلك من الاستخفاف بعقولهم مما لا يقدرون على الطعن فيه بوجه ما يخجل الجماد ، فإن ما لا يكون معلوماً لله لا يكون له وجود اصلاً ، فلا نفى أبلغ من هذا كما أنك إذا بالغت في نفي شيء عن نفسك تقول : هذا شيء ما عمله الله مني .
ولما بين تعالى هنا ما هم عليه من سخافة العقولوركاكة الآراء ، ختم ذلك بتنزيه نفسه بقوله : ( سبحانه ( اي تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يحاط به ) وتعالى ) أي وفعل بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال فعل المبالغ في التنزه ) عما يشركون ) أي يوجدون الإشراك به(3/427)
صفحة رقم 428
71 (
72 ( س 10
18
20
) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ( )
ولما بين شرارتهم بعبادة غير الله وختم بتنزيهه وكماله ، بين أن هذا الدين الباطل حادث / وبين نزاهته وكماله ببيان أن الناس كانوا أولا مجتمعين على طاعنه ثم خالفوا أمره فلم يقطع إحسانه إليهم با استمر في إمهالهم مع تماديهم في سوء أعمالهم ما سبق في علمه ومضى به قضاءه فقال تعالى : ( وما كان الناس ) أي كلهم مع مالهم من الإضطراب لآإلا أمة ( ولما أفهم ذلك وحدتهم غب القصد حققه وأكده فقال : ( واحدة ) أي حنفاء متفقين عل ىطاعة الله ) فاختلفوا ( في ذلك على عهد نوح عليه السلام - كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما - عقب وحدتهم بسبب ما لهم من النوس فاستحق كافرهم تنجيز العقاب ) ولولا كلمة ) أي عظيمة ) سبقت ) أي في الأزل ) من ربك ) أي المحسن إليك برحمة أمتك بإمهالهم ، وبين التأكيد بما دل على القسم لأجل إنكارهم أن يكون تأخيرهم لأجل ذلك فقال : ( لقضى بينهم ) أي عاجلا بأيسر أمر ) فيما ( ولما لم يبين الكلام على الاتخاذ الذي محط أمره معالجة بالباطن ، لم يذكر الضمير بخلاف الرمز فقال ) فيه ) أي لا غيره بأن يعجل جزاءهم : ( يختلفون ( وأشار ذلك إلى أن هذا الأمر الذي دعوا إليه ليس أمرا طارئا حادثا فيكون بحيث يتوقف فيه للنظر في عواقبه والتأمل في مصادره وموارده ، بل هو مع ظهور دلائلة واستقامة مناهجة وصحة مذاهبه وإلقاء الفطر أزمة الانقياد إليه - أصل ما كان العباد عليه ، وما هم فيه الآن هو الطارئ الحادث مع ظهور فساده ووضوح سقمه ، وهو ناظر إلأى قوله تعالى ) أكان للناس عجبا ( لأن قوله ) قال الكافرون إن هذا لسحر مبين ( دال على أنهم قسمان : كافر ومؤمن ، والأمة : الجماعة على معنى واحد في خلق واحد كأنها تؤم - أي تقصد - شيئا واحدا لما أتتهم البنات قالوا : ائت بقرآن غير هذا ، كافرين بمنزلها عابدين من دونه ما لا يرضى عاقل بتسويته بنفسه فكيف بعبادته قائلين بفرط عنادهم وتماديهم في التمرد ) لولا ) أي هلا ولم لا ) أنزل ( أ ] بأي وجه كان ) عليه آية ) أي واحدة كائنة وآتية ) من ربه ) أي المحسن إليع غير ما جاء به وذلك إما لطلبهم آية ملجئة لهم إلأى الإيمان أو لكونهم لم يعدوا ما أنزل عليه عداد الآيات فضلا عن كونها بينات بالقرآن(3/428)
صفحة رقم 429
وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة في الآيات دقيقة المسلك بين المعجزات مع عجزهم عن معارضته بتبديل أو غيره ، فأي عناد أعظم من هذا .
ولما كان في شوب من الاستفهام ، قال مسببا عن قولهم : ( فقل ( قاصرا قصرا حقيقيا ) إنما الغيب ) أي الذي عناه عيسى عليه السلام بقوله ) ولا أ " لم ما في نفسك ) [ المائدة : 116 ] وهو ما لم يطلع عليه مخلوق أصلا ) لله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة وحده ، لا علم اي بعلة عدم إنزال الآيات من الممكنات ، سبب عنه قوله : هذا الأمر ) فانتظروا ( ثن أجاب من كأنه يقول له : فما تعمل أنت ؟ بقوله ) إني معكم ) أي في هذا الأمر غير مخالف لكم في التشوف إلى آية تحصل بها هدايتكم ، ثم حقق المعنى وأكده فقال : ( من المنتظرين ) أي لما يردعلى من آية وغيرها .
يونس : ( 21 - 23 ) وإذا أذقنا الناس. .. . .
) وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما كان طلبهم محركاً لنفوس الخيّرين إلى ترجى إجابة سؤالهم ، أتبعه سبحانه بما يبين أن ذلك غير نافع لهم لأنه محض تعنت .
فقال تعالى عاطفاً على قوله ) قال اكافرون إن هذا لسحر مبين ( أو ) وإذا مسَّ الإنسان الضر ( مبيناً أن رحمته محققة الوجود كثيرة الورود إليهم مبيناً أن لهم آية عظمى من أنفسهم لا يحتاجون معها إلى التعنت بطلب آية وهي دالة على نتيجة مقصود السورة الذي هو الوحدانية وأن إشراكهم إنما هو بما لهم من نقص الغرائز الموجب لكفران الإحسان ، وذلك انهم عامة إذا أكرموا بنعمة قابلوها بكفر جعلوا ظرفه على مقدار ظرف تلك النعمة بما اشار إليه التعبير ب ( إذا ) ثم بنعمة قابلوها بكفرجعلوا ظرفه على مقدار ظرف تلك النعمة بما اشار إليه التعبيرب ( إذا ) ثم إذا مسهم الضر ألجأهم إلى الحق فأخلصوا ، لم يختلف حالهم في هذا قط ، وهذا الإجماع من الجانبين دليل واضح على كلا الأمرين ؛ الكفر ظلماً بما جر إليه من البطر .
والتوحيد حقاً بما دعا إليه من الفطرة القويمة الكائنة في أحسن تقويم بما زال عنها إلحاق الضرر من الخطوط والشهوات والفتور ، وهذا كما وقع في سورة الروم المافقة لهذه في الدلالة على الوحدانية فلذا عبر في كل منهما بالناس ليكون إجماعهم دليلاً كافياً عليها وسلطاناً جليلاً مضطراً إليها - والله الهادي : ( وإذا أذقنا ) أي على ما لنا من العظمة ) الناس ( اي الذين(3/429)
صفحة رقم 430
لهم وصف الاضطراب ) رحمة ( اي نعمة رحمناهم بها من غير استحقاق .
ولما كان كان وجود النعمة لا يستغرق الزمان الذي يتعقب النقمة ، أدخل الجار فقال : ( من بعد ضراء ) أي قحط وغيره ) مستهم ( فاجأوا المكر وهو معنى ) إذا لهم مكر ) أي عظيم بالمعاصي التي يفعلون في الاستخفاء بأغلبهافعل الماكر ) في آياتنا ( إشارة إلى انهم لا ينفكون عنآياته العظام ، فلو كانوا منتفعين بالآيات اهتدوا بها ، فإذا أتتهم رحمة من بعد نقمة لم يعدوها آية دالة على من أرسلها لهم لخرقها لما كانوا فيه من عادة النقمة مع أنهم يعترفون بأنهلا يقدر على إرسالها وصرف الشدةإلا هو سبحانه ، بل يعملون فيها عمل الماكرين بأن يصرفوها عن ذلك بأنواع الصوارف كأن ينسبوها إلى السباب كنسبة المطر للأنواء ونحو ذلك غير خائفين من إعادة مثل تلك الضراء أو ما هو اشد منها .
ولما كانت هذه الجملة دالة على إسراعهم بالمكر من ثلاثة أوجه : التعبير بالذوق الذي هو أول المخالطة ولفظ ( من ) التي هي للابتداء و ( إذا ) الفجائية ، كان كأنه قيل : أسرعوا جهدهم في المكر فقيل : ( قل الله ) أي الذي له له الإحاطة الكاملة بكل شيء ) أسرع مكراً ( ومعنى اوصف بالأسرعة أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم - نبه عليه أبو حيان ولما كان المكر إخفاء الكيد ، بين لهم سبحانه أنهم غير قادرين على مطلق المكر في جهته عز شأنه وتعالى كبرياءه وسلطانه ، لأنه عالم بالسر وأخفى ، بل لا يمكرون مكراً إلا ورسله سبحانه مطلعون عليه فكيف به سبحانه فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم : ( إن رسلنا ) أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا ) يكتبون ) أي كتابة متجددة على سبيل الاستمرار باستمرار المكتوب ) ما تمكرون ( لأنهم قد وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما يفعلونه ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه ، واما هو سبحانه فإذا قضى لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا باطلاعه فكيف بغيرهم وإذا تبين انه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره ، علمَ أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم ؛ والمكر : فتل الشيء إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه ؛ والسرعة ؛ الشيء في وقته الذي هو أحق به ، وقد تضمنت الآ ؟ ية البيان عما يوجبه حال الجاهل من تضييع حق النعمة والمكر فيها وإن جلت منزلتها وأتت على فاقة إليها وشدة حاجة إلى نزولها مع الوعيد بعائد الوبال على الماكر فيها ، ثم أخذ سبحانه يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في(3/430)
صفحة رقم 431
الاية قبلها من نقله سبحانه لعباده من الضر إلى النعمة ومن سرعة تقلبهم فقال : ( هو ) أي لا غيره ) الذي يسركم ) أي في كل وقت تسيرون فيه سيراً عظيماً لا تقدرون على الانفكاك عنه ) في البر والبحر ) أي بسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما ويقدركم على ذلك ويهديكم من بين سائر الحيونات إلى ما فيه من أصصناف المنافع مع قدرته على إصابتكم في البر بالخسف وما بالخسف وما دونه وفي البحر بالغرق وما أشبهه .
ولما كان العطب بأحوال البحر اظهر مع ان السير فيه من اكبر الآيات وأوضح البينات ، بينه معرضاً عن ذكر البر فقال : ( حتى إذا كنتم ) أي كوناً لا براح لكم منه ) في الفلك ( اي السفن ، يكون واحداً وجمعاً ؛ وأعرض عنهم بعد الإقبال لما سيأتي فقال : ( وجرين ) أي الفلك ؛ ) بهم ( ولما ذكر جريها وهم فيها ، ذكر سببه فقال : ( بريح طيبة ( ثم أوضح لهم عدم علمهم بالعواقب بقوله : ( وفرحوا بها ) أي بتلك الريح وبالفلك الجارية بها ) جاءتها ريح عاصف ( فأزعجت سفنهم وساءتهم ) وجاءهم الكوج ) أي المعروف لكل أحد بالرؤية أو الوصف ) من كل مكان ( اي يعتاد الإتيان منه فأرجف قلوبهم ) وظنوا انهم ( ولما كان المخوف الهلاك ، لا كونه من معين ، بيني للمفعول ما هو كناية عنه لأن العدو إذا أحاط بعدوه أيقن بالهلاك فقال : ( احيط بهم. ( ولما كان ما تقدم من حالهم الغربية التي تجب لها القلوب وتضعف عندها القوى - مقتضياً لأن يسأل عما يكون منهم عند ذلك ، أتى المقال على مقتضى هذا السؤال مخبراً عن تركهم العناد وإخلاصهم الدال على جزعهم عند سطواته وانحلال عزائمهم في مشاهدة ضرباته ، وعبارة لرماني : اتصال الأجوبة ، كأنه قيل : لما ظنوا انهم احيط بهم ) دعواالله ) أي الذي له صفات الكمال بالرغبة إليه في الخلاص والعبادة له بالإخلاص ) مخلصين ) أي عن كل شرك ) له الدين ) أي التوحيد والتصديق بالظاهر والباطن ، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه بديهة العقل من الفزع عند الشدة إلى واهب السلامة ومسبغ النعمة في كشف تلك البلية ؛ ثم أتبع سبحانه ذلك حكاية حالهم في وعدهم الشكر على النجاة ثم كذبهم في ذلك مع إدعائهم أنهم أطهر الناس ذيولاً عن الكذب وأشدهم استقباحاً له وأبعد الناس من كفران الإحسان ، فقال تعالى حاكياً قولهم الذي دلُّوا بتأكيدهم له أنهم قالوه بغاية الرغبة نافين ما يظن بهم من الرجوع إلى ما كانوا فيه قبل تلك الحال من الكفر : ( لئن أنجيتنا ) أي أيها الملك الذي لا سلطان لغيره ) من هذه ( اي الفادحه ) لنكونن ) أي كوناً لا ننفك عنه ) من الشاكرين ( اي المديمين لشكرك العريقين في الاتصاف به .
ولما أعلم سبحانه أنهم اكدوا هذا الوعد هذا التأكيد ، أتبعه بيان أنهم أسرعوا في(3/431)
صفحة رقم 432
نقضه غاية الإسراع فقال : ( فلما انجاهم ( ولما أبانت الفاء عن الإسراع في النقض ، أكد مناجاتهم لذلك بقوله : ( إذا هم يبغون ) أي يتجاوزون الحدود ) في الأرض ( اي جنسها ) بغير الحق ) أي الكامل ، فلا يزال الباغي مذموماً حتى يكون على الحق الكامل الذي لا باطل فيه بوجه ، وجاء الخطاب أولاً في ) يسيركم ( ليعم المؤمنين لأن التسيير يصلح للامتنان ، ثم التفت إلى الغيبة عند صدور ما لا يليق بهم - نبه على ذلك أبو حيان ، وأحسن منه أن يقال : إنه سبحانه أ ؟ قبل عليهم تنبيهاً على أنه جعلهم - بما هيأ فيهم من الوى - اهلاً لخطابه ثم أعر عنهم إشارة إلى أنهم استحقوا الإعراض لإعراضهم اغتراراً بما أتاحهم ؛ والتسيير : التحريك في جهة تمتد كالسير ؛ والبر : الأرض الواسعة التي تقطع من بلد ، ومنه البر لاتساع الخير به ؛ والبحر : مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه ؛ والفلك : السفن التي تدور في الماء ، وأصله الدور ، فمنه فلكة المغزل ، والفلك الذي يدور في النجوم ؛ والحق : وضع الشيء في موضعه على ما يدعو إليه العقل ؛ ثم بين أن ما هم فيه من الإمهال إنما هو متاع الدنيا وأنها دار زوال فقال تعالى : ( يأيها الناس ) أي الذي غلب عليهم وصف الاضطارب ) إنما بغيكم ) أي كل بغي يكون منكم ) على أنفسكم ( لعود الوبال عليها خاصة وهو على تقدير انتفاعكم به عرض زائل ) متاع الحياة الدنيا ( ثم يبقى عاره وخزنه بعد الموت ) ثم إلينا ( اي خاصة ) مرجعكم ( بعد البعث ) فننبئكم ( على ما لنا من العظمة إنباء عظيماً ) بما كنتم ) أي كوناً هو كالجبلة ) تعلمون ( ونجازيكم عليه .
يونس : ( 24 ) إنما مثل الحياة. .. . .
) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ( )
ولما كان الياق لإثبات البعث وتخويفهم به وكانوا ينكرونه ويعتقدون بقاء الدنيا وأنها إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلغ دائماً بلا انقضاء فهي دار يرضى بها فيطمئن غليها ، وللتنفير من البغي والتعزز بغير الحق ، وكانت الأمثال أجلى لمحال الأشكال ، قال تعالى ممثلاً لمتاعها قاصراً امرها على الفناء رداً عليهم في اعتقاد دوامها من غير بعث : ( إنما ( فهو قصر قلب ) مثل الحياة الدنيا ( التي تتنافسون فيها في سرعة انقضائها(3/432)
صفحة رقم 433
وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله ) كماء أنزلناه ) أي بما لنا من العظمة وحقق أمره وبينه بقوله : ( من السماء ( فشبهه بأمر النبات وانه قليل يبلغ منتهاه فتصبح الأرض منه بلاقع بعد ذلك الاخضرار والينوع ، وفي ذلك إشارة إلى البعث وإلى أنه تعالى قادر على ضربة قبل نهايته أو بعدها ببعض الآفات كما يوجد في بعض السنين ، فيقفرون منه ويفتقرون إليه ، وفي ذلك تحذيرعظيم ) فاختلط ( أس بسبب إنزالنا له ) به ( اي بسبب تلبية ولطافته ) نبات الأرض ( عموماً في بطنها ) مما يأكل الناس ) أي كافة ) والأنعام ( من الحبوب والثمار والبقول فظهر على وجهها ) حتى ( ولم يزل كذلك ينمو ويزيد في الحسن والجرم ؛ ولما كان الخصب هو الأصل ، عبر عنه بأداة التحقيق فقال : ( إذا ( ولما كانت بهجة النبات تابعة للخصب ، فكان الماء كأنه يعطيها إياها فتأخذه ، قال : ( أخذت الأرض ) أي التي لها أهلية النبات ) زخرفها وازينت ( بأنواع ذلك النبات زينة منها الجلي ومنها الخفي - بما يفهمه الإدغام ) وظن أهلها ) أي ظناً مؤكداً جداً بما أفاده العدول عن ( قدرتهم ) إلى ) انهم قادرون ) أي ثابته قدرتهم ) عليها ( باجتناء الثمرة من ذلك النبات وغاب عنهم لجهلهم علم العاقبة ، فلما كان ذلك ) أتاها امرنا ( اي الذي لا يرد من البرد أو الحر المفرطين ) ليلاً أو نهاراً فجعلناها ) أي زرعها وزينتها بعظمتها بسبب ذلك الأمر وتعقيبه بالإهلاك ) حصيداً ( وعبر بما فهمه فعيل من المبالغة والثبات بقوله : ( كأن ( اي كأنها ) لم تغن ) أي لم تكن غانية أي ساكنة حسنة غنية ذات وفر مطلوبة مرغوبة فيها أي زرعها وزينتها ) بالأمس ( فكان حال الدنيا في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله كحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وزين الأرض بخضرته والوانه وبهجته .
ولما كان هذا المثل في غاية المطابقة للساعة ، هز السامع له فازداد عجبه من حسن تفصيله بعد تأصيله فقيل جواباً له : ( كذلك ( اي مثل هذا التفصيل الباهر ) نفصل ( اي تفصيلاً عظيماً ) الآيات لقوم ) أي ناس أقوياء فيهم قوة المحاولة لما يريدون ) يتفكرون ) أي يجدون الفكر على وجه الاستمرار والمبالغة ؛ والمثل : قول سائر يشبه فيه الحال الثاني بالأول ؛ والاختلاط : تداخل الأشياء بعضها في بعض ؛ والزخرف : حسن الألوان .
يونس : ( 25 - 29 ) والله يدعو إلى. .. . .
) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ(3/433)
صفحة رقم 434
وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) 73
( ) 71
ولما قرر سبحانه هذه الآيات التي حذر فيها من أنواع الآفات ، بين أن الدار التي رضوا بها وأطمأنوا إليها دار المصائب ومعدن الهلكات والمعاطب وأنها ظل زائل تحذيراً منها وتنفيراً عنها ، بين تعالى ان الدار التي دعا إليها سالمه من كل نصب وهم ووصب ، ثابته بلا زوال ، فقال تعالى عاطفاً على قوله ) إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض ( ترغيباً في الآخرة وحثاً عيها : ( والله ) أي الذي له الجلال والإكرام ) يدعوا ) أي يعلق دعاءه على سبيل التجدد والاستمرار بالمدعوين ) إلى دار السلام ( عن قتادة انه سبحانه أضافها إلى اسمه تعظيماً لها وترغيباً فيها ، يعني بأناه لا عطب فيها أصلاً ، والسلامة فيها دائمة ، والسلام فيها فاش من بعضهم على بعض ومن الملائكة وغيرهم ؛ والدعاء : طلب الفعل بما يقع لأجله ، والدواعي إلى الفعل خلاف الصوارف عنه .
ولما أعلم - بالدعوة بالهداية بالبيان وأفهم ختم الآية بقوله : ( ويهدي من يشاء ( اي بما يخلق في قلبه من الهداية ) غلى صراط مستقيم ( ان من الناس من يهديه ومنهم من يضله .
وأن الكل فاعلون لما يشاء - كان موضع أن يقال : هل هم واحد في جزائه كما هم واحد في الانقياد لمراده ؟ فقيل : لا ، بل هم فريقان : ( لذين أحسنوا ) أي الأعمال في الدنيا منهم وهم من هداه ) الحسنى ) أي الخصلة التي هي في غاية الحسن من الجزاء ) وزيادة ) أي عظيمة من فضل الله فالناس : مزيد خرجت هدايته من الجهاد
77 ( ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( ) 7
[ العنكبوت : 69 ] ومراد خرجت هدايته من المشيئة ، فالدعوة إلى الجنة يالبيان عامة ، والهداية إلى الصارط خاصة لأنها الطرق إلى المنعم .
ولما كان النعيم لا يتم إلاّبالدوام بالأمن من المضار قال : ( ولا يرهق ) أي يغشي ويلحق ) وجوهرهم قتر ) أي غبره كغيره الموت وكربة ، وهو تغير في الوجه معه سواد وعبوسة تركيبها غلبة ) ولا ذلة ) أي كآبةوكسوف يظهر منه الاكسار والهوان .
ولماكانهذا واضحاً في أنهم اهل السعادة ، وصل به قوله : ( أولئك ) أي العالو الرتبة ) أصحاب الجنة ( ولما كانت الصحبة جديرة بالملازمة ، صرح بها في قوله : ( هم ) أي لا غيرهم ) فيها ( اي خاصة ) خالدون ) أي مقيمون لا يبرحون ، لأنهم لا يريدون ذلك لطيبها ولا يراد بهم .(3/434)
صفحة رقم 435
ولما بين حال الفضل فيمن احسن ، بين حال العدل فيمن أساء فقال : ( والذين كسبوا ) أي منهم ) السيئات ) أي المحيطة بهم ) جزآء سيئة ) أي منهم ) بمثلها ( عدل الله من غير زيادة ) وترهقهم ذلة ) أي من جملة جزائهم ، فكأنه قيل : أما لهم انفكاك عن ذلك ؟ فقيل جوابا : ( ما لهم من الله ( اي الملك الأعظم ؛ وأغرق في النفي فقال : ( من عاصم ( اي يمنعهم من شيء يريده بهم .
ولما كان من المعلوم أن المعلومأن ذلك مغير لأحوالهم ، وصل به قوله : ( كأنما ( ولما كان المكروه مطلق كونها بالمنظر السيئ ، بني للمفعول قوله : ( أغشيت وجوههم ) أي اغشاها مغش لشدة سوادها لما هي فيه من السوء ) قطعاً ( ولما كان ذلك ظاهراً في أنهم أهل الشقاوة ، وصل به قوله : ( أولئك ( اي البعداء البغضاء ) اصحاب النار ( ولما كانت الصحبة الملازمة ، بينها بقوله : ( هم فيها ) أي خاصة ) خالدون ) أي لا يمكنون من مفارقتها ؛ والرهق : لحق الأمر ، ومنه : راهق الغلام - إذا لحق حال الرجال ؛ والقتر : الغبار ، ومنه الإقتار في الإنفاق لقتله ؛ والذلة : صغر النفس بالإهانة ؛ والمكسب : الفعل لاجتلاب النفع إلى النفس أو النفس أو استدفاع الضر .
ولما بين سبحانه مآل الفريقين ، نبه على بعض مقدمات ذلك المانعة ان يشفع أحد من غير إذنه بقوله : ( ويوم ) أي وفرقنا بينهم لأنه لا أنساب هناك ولا أسباب فلا تناصر يوم ) نحشرهم ( اي الفريقين : الناجينوالهالكين العابدين منهم والمعودين حال كونهم ) جميعاً ( ثم يقطع ما ين المشركين وشركائهم فلا يشفع فيهم شيء مما يعتقدون شفاعته ولا ينفعهم بنافعة ، بل يظهرون الخصومة ويبارزون بالعدولاة وهو ناظر إلى قوله تعالى
77 ( ) إنه يبدئ الخلق ثم يعيده ( ) 7
[ يونس : 4 ] وإلى قوله
77 ( ) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ( ) 7
[ يونس : 18 ] والحشر : الجمع بكره من كل جانب إلى موقف واحد ؛ وأشار سبحانه إلى طول ووفهم بقوله : ( ثم نقول للذين أشركوا ) أي بنا من لم يشارك في خلقهم ؛ وقوله : ( مكانكم ( نقل أبو حيان عن النحوين أنهم جعلوه اسماً لأثبتوا ، ورد على الزمخشري تقديره بألزموا لأنه متعد ويجب ان يساوي بين الاسم والمسمى في التعدي واللزوم ، أي إظهار لضعف معبوداتهم التي كانوا يترجونها وتحسيراً لهم ، فلا يمكنهم مخالفة ذلك ولما كان التقدير : فوقفوا مواقفة للأمر على حسب الإدارة ، عطف عليه مسبباً عنه(3/435)
صفحة رقم 436
قوله : ( فزيلنا ) أي أزلنا إزالة كثيرة مفرقة ما كان ) بينهم ( في الدنيا من الوصلة والألفة حتى صارت عداوة ونفرة فقال الكفار : ربنا هؤلاء الذين اضلونا ، وكنا ندعو من دونك ) وقال شركاؤهم ( لهم مبترئين منهم بما خلق لهم سبحانه من النطق ) ما كنتم ( اي أيها المشركون ، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين نصبوهم بغير أمر ولا دليل ولأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم ) إيانا تعبدون ( اي تخصوننا بالعبادة لأنل لا نستحق ذلك إشارة لى أنه لا يعبد إلاّ من يستحق الإخلاص في ذلك بأن يعبد وحده من غير شريك ، ومن لا يستحق ذلك لا يستحق مطلق العبادة ولا يصلح لها ، وكل عبادة فيها شرك لا تعد اصلاً ولا يرضى بها جماد لو نطق ، فمتى نفى المقيد بالخلوص نفي المطلق لأنه لا اعتداد به أصلاً ، ومن المعلوم أن ما كان بهذه الصفة لا يقدم عليه أحد ، فنحن نظن أنه لم يعبدنا عابد فضلاً عن أن يخصنا بذلك ، والشخص يجوز له أن ينفي ما يظن نفيه ونحن لم نعلم شيئاً من ذلك .
ولما نفوا ذلك عطفوا عليه مسببين عنه قولهم : ( فكفى بالله ( اي المحيط علماً وقدرة ) شهيداً ( اي هو يكفينا كفاية عظيمة جداً من جهة الشهادة التي لا غيبة فيه بوجه ولا ميل اصلاً ) بيننا وبينكم ( في ذلك يشهد لنا وعلينا ؛ ثم استأنفوا خبراً يصحح نفيهم فقالوا مؤكدين لأنهم كانوا يعتقدون علمهم : ( إن ( اي إنا ) كنا ) أي كوناً هو جبلة لنا ) عن عبادتكم ( لنا أو لغيرنا مخلصة أو مشوبة ؛ ولما كانت ( إن ) هي المخففة من الثقيلة تلقيت باللام الفارقة بينها وبين النافية فقيل : ( الغافلين ( لنه لا أرواح فينا ، فلم تكن بحيث نأمر بالعبادة ولانرضاها فاللوم عليكم دوننا ، وذلك افتداء من موقف الذل أو انهم لما تخيلوا في الشركاء صفات لا وجود لها في الأعيان ، وأيضاً فإنهم ما عبدوا إلاّ الشياطين التي كانت تزين لهم ذلك وتغويهم ، ويكون التقدير على ما دل عليه السياق : ( فزيلنا بينهم ) أي منعناهم مما كانونا فيه من التواصل والتواد لمقتضي للتناصر بعبادة الأوثان ، فقال المشركون لشركائهم لما أبطأ عنهم نصرهم : إنا كنا نعبدكم من دون الله فأغنوا عنا كما كنا نذب عنكم وننصر دينكم ) وقال شركاؤهم كا كنتم إيانا تعبدون ( اي كُشِف لنا اليوم بتفهيم الله أنه ليس الأمر كما زعمتم وأنكم لم تخصونا بالعبادة حتى يلزمنا منعكم على أنكم لو خصصتمونا ما قدرنا على ذلك قال الشيطان
77 ( ) ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ( ) 7
[ إبراهيم : 22 ] ) فكفى ( اي فتسبب عن نفينا لذلك على ما كشف لنا من العلم ان نقول : كفى ) بالله شهيداً بيننا وبينكم ( في ذلك ، يشهد أنكم لم تختصوا أحداً منه ومنا بعبادة بل كنتم مذبذبين ، وهذا كله إشارة إلى أن العبادة(3/436)
صفحة رقم 437
المشوبة لا اعتداد بها ولا يرضاها جماد لو نطق ، وإنمن استحق العبادة استحق الإخلاص فيها وأن لا يشرك به أحد وأنه لا يستحق ذلك إلاّ القادر على كشف الكرب والمنع من أن يقطع بينه وبين متوليه وعابده قاطع ؛ ولما كانت فائدة الشاهدة ضبط ما قد ينساه المتشاهدون ، عللوا اكتفاءهم بشهادة الله بقوله : ( إن كنا عن عبادتكم ( في تلك الأزمان ) لغافلين ( فأقروا لهم بما هو الحق مما كان يعلمه من له تأمل صحيح انهم لم يشعروا بعبادتهم ساعة من الدهر قبل ساعتهم هذه ، فهم أجدر الخلق بالاكتفاء بشهادة الشهيد لأنهم أسوأ حالاً ممن يعلم المشهود به ويخشى النسيان ، أو يقال : فقالالمشركون لشركائهم : إنا كنا نعبدكم فهل أنتم ناصرونا أو شافعون لنا فنجونا مما وقعنا فيه ) وقال شركاؤهم ماكنتم إيانا ( وحدنا ) تعبدون ) أي ما كنتم تخلصون لنا العبادة ) فكفى ) أي فتسبب عن ذلك أنه كفى ) بالله شهيداً بيننا وبينكم ( في ذلك ، فكأن المشركين قالوا : قد تضمن كلامهم أن عبدناكم على غير منهج الإخلاص ، أفليس قد عبدناكم ؟ أفلا تغنون عنا شيئاً ؟ فأجاب الشركاء بقولهم : ( بالله شهيداً بيننا وبينكم ( في ذلك ، فكأن المشركين قالوا : تغنون عنا شيئاً ؟ فأجاب الشركاء بقولهم : ( إن كنا عن عبادتكم ( خالصة كانت أو مشوبة ) لغافلين ( فلا نقر لكم بعبادة اصلاً وإن تيقنا الإخلاص لسلب العلم عنا بما كنا فيه من الجمادية فضلاً عن أن نأمركم أو نرضى بعبادتكم على أنه لا غناء عندنا على تقدير من التقادير ؛ أو يقال - وهو أحسن مما مضى - : ( وقال شركاؤهم ( لما تحققوا العذاب طلقاً لأن يخفف عنهم منه بتوزيعه عليهم وعلى كل من عبدوه من غيرهم ) ما كنتم ( ايها العابدون لنا ) إيانا ) أي خاصة ) تعبدون ( بل كنتم تعبدون ايضاً غيرنا ، وهذا يعم والله كل من يرائيه غيره بعمل وهو يعلم أنه يرائيه فيقره ولا ينكره عليه ؛ ولما افهموا بنفي العبادة بقيد الخصوص انهم كانوا يعبدون معهم غيرهم ، وكن المخلوق قاصر العلم غير محيطه بوجهه بأحوال نفسه فكيف يعبدون بأحوال غيره ، سببوا عن ذلك قولهم : ( فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن ) أي في أنا ) كنا عن عبادتكم ) أي في الجملة ) الغافلين ( والحاصل ان هذا ترجمة كلام الكفار وه ناشئ منهم عن محض غلبة ودهش وفرط غم وندم وقلق ، فلا يشترط ان يكون معناه على الوجه الأسدّ والطريق الأبلغ ، فالإعجاز في نظمه ، ومرادهم به أن يخفف عنهم من العذاب ولو بمشاركة من كانوا يعبدونهم معهم ، فهو من وادي قوله تعالى
77 ( ) فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ( ) 7
[ إبراهيم : 21 ]
77 ( ) فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار ( ) 7
[ غافر : 47 ]
77 ( ) فآتاهم عذاباً ضعفاً من النار ( ) 7
[ الأعراف : 38 ] ونحوه
77 ( ) فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب ( ) 7
[ الأعراف : 39 ] - والله أعلم .(3/437)
صفحة رقم 438
يونس : ( 30 - 33 ) هنالك تبلو كل. .. . .
) هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ( )
ولما أخبر عن حال المشركين ، تشوفت النفس إلى الاطلاع على حال غيرهم فقال مستأنفاً مخبراً عن كِلا الفريقين : ( هنالك ) أي في ذلك الموقف من المكان والزمان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال ) تبلوا ( اي تخبر وتخالط مميلة محلية ) كل نفس ( طائعة وعاصية ) مآاسلفت ) أي قدمت من العمل فيعرف هل كان خيراً أو شراً وهل كان يؤدي إلى سعادة أو شقاوة .
ولما كان مطلق ارد - وهو صرف الشيء إلى الموضع الذي ابتدأ منه - كافياً في الرهبة لمن له اب ، بُني للمفعول قوله : ( وردوآ ) أي بالبعث بالإحياء كما كانوا أولاً ) إلى الله ) أي الملك الأعظم ) مولهم الحق ( فلم يكن لهم قدرة على قصدِ غيره ولا الالتفات إلى سواه من تلك الأباطيل ، بل انقطع رجاءهم من كل ما كانوا يدعونه في الدنيا ، وهو المراد بقوله : ( وضَلَّ عنهم ) أي بطل وذهب وضاع ) ما كانوا ( اي كوناً هو جبلة لهم ) يفترون ) أي يتعمدون كذبه من أن معبوداتهم شركاء ، وتيقنوا في ذلك المقام ان توليهنم لغير الله كان باطلاً غير حق ؛ والتنزيل : تفريق يزول به كل واحد عن مكانه ، وهو من تفريق الجثث ، وليس من الواوي ، بل من اليائي ، يقال : زلته عن الشيء أزيله - إذا فرقت بينه وبينه ؛ والكفاية : بلوغ مقدار الحاجة في دفع الأذية أو حصول المنفعة ؛ والإساف : تقدم أمر لما بعده ؛ والرد : الذهاب إلى الشيء بعد الذهاب عنه كالرجع ؛ والمولى : من يملك تولى أمر مولاه .
ولما تقدم سبحانه ان شركاءهم مربوبون مقهورون ، لا قدرة لهم إلاّ على ما يقدرهم الله عليه ، وأنه وحده المولى الحق ، وبانت بذلك فضائحهم ، أتبعه ذكر الدلائل على فساد مذهبهم ، فوبخهم بأن وجه السؤال إليهم عما هم معترفون بأنه مختص به ويدل قطعاً على تفرده بجميع الأمر الموجب من غير وقفة لاعتقاد تفرده بالإلهية فقال : ( قل ( اي يا أكرم خلقنا وأرفقهم بالعباد ) من يرزقكم ) أي يجلب لكم الخيرات ايها المنكرون للبعث المدعون للشركة ) من السمآء ) أي بالمطر وغيره من المنافع ) والأرض ( بالنبات وغيره لتعيشوا ) أمّن يملك السمع ( اي الذي تسمعون به الآيات ، (3/438)
صفحة رقم 439
ووحده للتساوي فيه في الغالب ) والأبصار ( التي تبصرون بها ما أنعم عليكم به في خلقها ثم حفظها في المدد الطوال على كثرة الآفات فيفيضها عليكم لتكمل حيتكم الحسية ببقاء الروح ، والمعنوية بوجود العلم ؛ روي عن علي رضي الله عنه انه قال : سبحانه من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم .
فلما سألهم عن أوضح ما هم فيه وقربه ، نبههم على ما قبله من بدء الخلق فقال : ( ومن يخرج الحي ( من الحيوان والنبات ) من الميت ) أي من النطفة ونحوها ) ويخرج الميت ) أي من النطفة ونحوها مما لا ينمو ) من الحي ( اي فينقل من النقص إلى الكمال ؛ ثم عم فقال : ( ومن يدبر الأمر ) أي كله التدبير العام .
ولما كانوا مقرين بالرزق وما معه من الخلق والتدبير ، أخبر عن جوابهم إذا سئلوا عنه بقوله : ( فسيقولون الله ( اي مسمى هذا الاسم الذي له الكمال كله بالحياة والقيومية بخلاف ما سيأتي من الإعادةوالهداية ) فقل ( اي فتسبب عن ذلك أنا نقول لك : قل لهم مسبباً عن جوابهم هذا الإنكار عليهم في عدم التقوى : ( فقل ) أي فتسبب عن ذلك انا نقول لك : قل لهم مسبباً عن جوابهم هذا الإنكار عليهم في عدم التقوى : ( أفلا تتقون ) أي تجعلون وقاية بينكم وبين عقابه على اعترافكم بتوحده في ربوبيته وإشراككم غيره في إلهيته ؛ ثم علل إنكار عدم تقواهم بقوله : ( فذالكم ( اي العظيم الشان ) الله ( اي الذي له الجلال والإكرام ، فكانت هذه قدرته وأفعاله ) ربكم ) أي الوجد لكم المدبر لأموركم الذي لا إحسان عندكم لغيره ) الحق ) أي الثابته ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لاجتماع الصفات الماضية له لا لغيره لأنه لا تكون الربوبية حقيقية لمن لم تجتمع له تلك الصفات ) فما ( اي فتسبب عن ذلك أن يقال لكم : ما ) ذا بعد الحق ) أي الذي له أكمل الثبات ) إلاّ الضلال ( فغنه لا واسطة بينهما - بما أنبأ عنه إسقاط الجار ، ولا يعدل عاقل عن الحق إلى الضلال فانّى تصرفون أنتم عن الحق إلى الضلال ؛ ولذلك سبب عنه قوله : ( فأنى ) أي فكيف ومن أيّجهة ) تصرفون ) أي أنتم من صارف ما كائناً ما كان ، عن الحق إلى الضلال .
ولما كانوا جديرين عند تقديرهم بهذه الآية وإقرارهم بمضمونها يقولوا : سلمنا فأسلمنا ولا نصرف عن الحق أبداً ، لم يقولوا ، كانوا حقيقين بأن يقال لهخم : حقت عليكم كلمة اللله لفسقكم وزغانكم عن الحق : فقيل : هل خصوا بذلك ؟ فقيل : بل ) كذلك ) أي مثل ذلك الحقوق اعظيم ) حقت كلمت ربك ) أي المحسن إليك بإهلاك أعدائك : الكلمة الواحدة النافذة التي لا تردد فيها ، ومعنى الجمع في قراءة نافع فالمراد عامر أنه لا شيء من كلماته يناقض الكلمة التي أوجبت عذابهم ، بل كلها توافقها فالمراد واحد ، أو يكون ذلك كناية عن أن عذابهم دائم فإن كلماته لا تنفذ ) على ( كل(3/439)
صفحة رقم 440
) والذين ( غعلوا فعلهم لأنهم ) فسقوا ) أي أوقعوا الترك لأمر الله وأوجدوا عصيانه وفعلوا الخروج عن طريق الحق والخروج عن دائرة الصلاح ، وهو كونهم امة واحدة غلى دين ابيهم ىدم صِفيُ الله عليه السلام ؛ ثم علل ذلك الحقوق بقوله : ( أنهم لا يؤمنون ) أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً ، وعبر بالفسق مراد به اكفر لأن السياق للخروج عن دائرة الدين الحق في قوله ) وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ( وهذا المعنى احق بالتعبير لفس الذي أصله الخوج عن محيط في قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها - أي خرجت ، أو يكون المعنى : حقت الربوبية له سبحانه بهذا الليل ، وهو فعل هذه الأمور المختتمة بالتدبير المقتضي للوحدانية له سبحانه قطعاً لأنه لو كان قادر يساويه في مقدوره لأمكن أن يمانعه ، وبطل أن يكون قادراً ، وحق أن من زاغ عن الحق كان في الضلال كما حق هذا ) كذلك حقت ) أي ثبتت ثباتاً عظيماً ) كلمت ربك على ( كل ) الذين ( قضى بفسقهم منهم .
) أنهم لا يؤمنون ( تفسير لكلمته التي حقت ؛ والرزق : جعل العطاء الجاري .
يونس : ( 34 - 36 ) قل هل من. .. . .
) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ( )
ولما علم أنهم معترفون بأمر الهداية وما يتبعها من الرزق والتدبير أعاد سبحانه السؤال عنها مقرونة بالإعادة تنبيهاً لهم على ما يتعارفون من أن الإعادة أهون ، فإنكارها مع ذلك إما جمود أو عناد ، وإنكار المسلمات كلها هكذا ، وسوقه على الطريق الاستفهام ابلغ وأوقع في القلب فقال : ( قل ) أي على سبيل الإنكار عليهم والتوبيخ لهم ) هل من شركائكم ) أي الذين زعمتموهم شركاء لي وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزروعكم ) من يبدؤا الخلق ( كما بدأته ليصح لهم ماادعيتم من الشركة ) ثم يعيده ( .
ولما كان الجواب قطعاً من غير توقف .
ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك ، وكان لجاجهم في إنكار الإعادة وعنادهم لا يدعهم انة يجيبوا بالحق ، أمره بجوابهم بقوله : ( قل الله ( اي الذي له الأمركله ) يبدؤا الخلق ) أي مهما أراد ) ثم يعيده ( وأتى هنا بجزئي الاستفهام وكذا ما يأتي في السؤال عن الهداية تأكيداً للأمر بخلاف ما اعترفوا به ، فإنه اكتفى فيه بأحد الجزأين في قوله ) فسيقولون الله ( ولم يقل : يرزقنا - إلى آخره ؛ ثم زاد في تبكيتهم على عدم الإذعان لذلك بالتعجب منهم في قوله : ( فأنى تؤفكون ((3/440)
صفحة رقم 441
أي كيف ومن اي جهة تصرفون بأقبح الكذب عن وجه الصواب من صارف ما ، وقد استنارت جميع الجهات ، ورتب هذه الجمل أحسن ترتيب ، وذلك أنه سألهم أولاً عن سبب دوام حياتهم وكمالها بالرزق والسمع والبصر وعن دء الخلق في إخراج الحي من الميت وما بعده ، وكل ذلك تنبيهاً على النظر في احوال أنفسهم مرتباً على الأوضح فالأوضح ، فلما اعترفوا به كله اعاد السؤال عن بدء الخلق ليقرن به الإعادة تنبيهاً على أنهما بالنسبة إلى قدرته على حد سواء ، فلما فرغ مما يتعلق بأحوال الجسد امره ان يسألهم عن غاية ذلك ، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعاناً في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفصيل فقال : ( قل ) أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود ) هل من شركائكم ) أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله ، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظاً من أموالكم وأولادكم ) من يهدي ) أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين ) إلى الحق ( فضلاً عن أن يهدي للحق على أقرب نما يكون من الوجود إعلاماً .
ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين ، أمره أن يجيبهم معرضاً عن انتظار جوابهم آتياًبجزئي الاستفهام ايضاً فقال : ( قل الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) يهدي ( ولما كان قادراً على غاية الإسراع ، عبر باللام فقال : ( للحق ( إن أراد ، ويهدي إلى الحق من يشاء ، لا أحد ممن زعموهم شركاء ، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير ، فالآية من الاحتباك : ذكر ) إلى الحق ( اي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على ابعد الوجوه ) احق أن يتبع ) أي بغاية الجهد ) أم من لا يهدي ( اي يهتدي فضلاً عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلاً ورأساً ؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها ، فإن التاء عند ارباب القوب معنها انتهاء التسبب غلى أدناه ) إلا أن يهدي ( اي يهديه هاد غيره كائناًمن كان ، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل ؛ فلما اتم ذلك علىهذا النهج القويمن كان كانه قيل : أتجيبون أم تسكتون ؟ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعون عن الضلال أم تعاندون ، تسبب عن ذلك سؤالهم عى وجه التوبيخ بقوله : ( فما ( اي أيّشيء ثبت ) لكم ( في فعل غير الحق من كلام أو سكوت ؛ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال : ( كيف تحكمون ( فيما سألناكم عنه ممالا ينبغي ان يخفى على عاقل ، أبالباطل أم بالحق ؟ فقد تبين الرشد من الغي ؛ والبدء : العقل الأول ؛ والإعادة : إيجاد الشيء ثانياً ؛ والهداية : التعريف بطريق الرشد من الغي .(3/441)
صفحة رقم 442
ولما اخبر بإقرارهم عن بعض ما يسألون عنه ثم عقبه بما لوح إلى إنكارهم أو سكوتهم عن بعضه مما يتعلق بشركائهم ، عطف على ما صرح به من قولهم ) فسيقولون ( وما لوح إليه من ( فستنكون ) أو ( فسيسكتون ) قوله : ( وما يتبع ( اي بغاية الجهد ) أكثرهم ) أي نطقه أو سكوته في عبادته للأصنام وقوله : إنها شفعاء ، وغير ذلك ) إلا ظناً ( تنبيهاً على أنهم إنما هم مقلدون وتابعون للأهواء .
ولما كان الظن لا ينكر استعماله في الشرائع ، نبه على أن محله إنما هو حيث لا يوجد نص على المقصود ، فيقاس حينئذ على النصوص بطريقة ، وأما إذا وجد القاطع في حكم فإنه لا يجوز العدول عنه بوجه من الوجوه فقال تعالى في جواب من يقول : أو ليس الظن مستعملاً في كثير من الأحكام ؟ : ( إن الظن لا يغني ) أي أصلاً ) من الحق ) أي الكامل ) شيئاً ) أي بدله ، ولايكون بدل الحق إلا إذا كان تابعه مخالفاً فيه لقاطع يعمله .
ولما صار ظهور الفرق ضرورياً ، أوقع تهديد المتمادي في غيه في جواب من كأنه قال : إن ذلك غير خفي عنهم ولكنهم يستكبرون فلا يرجعون ، فقال : ( إن الله ) أي المحيط بكل شيء ) عليم ) أي بالغ العلم ) بما يفعلون ( فاصبر فلسوف يعملون .
يونس : ( 37 - 40 ) وما كان هذا. .. . .
) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ( ( )
ولما قدم في هذه السورة قولهم ) لولا أنزل عليه آية من ربه ( وأتى فيها رداً عليهم ووعظاً لهم من الآيات البالغة في الحكمة جداً يتجاوز قوى البشر ويضمحل دونه من الخلق القدر ، وكان آخر ذلك التنبيه على أن شركاءهم لا يهتدون إلا أن هداهم الهادي فضلاً عن أن يهدوا ، وإقامة الدليل على أن مذاهبهم ليبست مستندة إلى علم بل هى تابعة للهوى ، أتبع ذلك دليلاً قطعياً في أمر القرآن من أنه لا يصح أصلاً أن يؤتى به من دون امره سبحانه رداً قولهم : إنه مفترى ، لأنه من وادي ما ختم به هذه الآيات من اتباعهم للظنون لأنه لا سند لهم في ذلك بل ولا شبهة اصلاً ، وإنما هو مجرد هوى بل وأكثرهم عالم بالحق في أمره ، فنفى ذلك بما يزيح الظنون ويدمغ الخصوم ولا يدع شبهة لمفتون ، واثبت أنه هو الآية الكبرى والحقيق بالاتباع لنه هدى ، فقال تعالى :(3/442)
صفحة رقم 443
) وما كان ( عاطفاً له على قوله ) ما يكون لي أن أبدله ( إلى آخره ، فهو حينئذ مقول القول ، اي قل لهم ذاك الكلام وقل لهم ) ما كان ( اي قط بوجه من الوجوه ، وعينه تعيناً لا يمكن معه لبس ، فقال : ( هذا القرآن ) أي الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق ) أن يفترى ) أي أن يقع في وقت من الأوقات تعتمد نسبته كذباً إلى الله من أحد من الخلق كائناً من كان ؛ وعرف بتضاؤل رتبتهم دون شامخ رتبته سبحانه بقوله : ( من دون الله ) أي الذي تقرر أنه يدبر الأمر كله ، فما من شفيع إلا من بعدإذنه وما يعزب عنه شيءفسبحان المتفصل على عبادة بإيضاح الحجج وإزالة الشكوك والدعاء إلى سبل الرشاد مع غناه عنهم وقدرته عليهم ؛ والافتراء : الإخبار على القطع بالكذب ، لأنه من فرى الأديم وهو قطعه بعد تفزيره .
ولما طكان إتيان الأمي - الذي لم يجالس عالماً - بالأخبار والقصص الماضية على اتحرير دليلاً قطعاً على صدق الآتي في ادعائه أنه لا معلم له إلا الله " عبر بأداة العناد فقال : ( ولكن ) أي كان كوناً لا يجوز غيره ) تصديق الذي ) أي تقدم ) بين يديه ) أي قبله من الكتب ، والدليل على تصادقه شاهد الوجود مع أن القوم كانوا في غاية العدواة له ( صلى الله عليه وسلم ) وكان أهل الكتابين عندهم في جزيرة العلرب على غاية القرب منهم مع أنهم كانوا يتجرون إلى بلاد الشام وهم متمكنون من السؤال عن كل ما يأتي به ، فلو وجدوا مغمراً ما لقدحوا به ، فدل قدحهم على التصادق قطعاً .
ولما كان ذلك سلطاناً قاهراً ( صلى الله عليه وسلم ) ، زاده ظهوراً بما اشتمل الكتاب الآتي به عليه من التفصيل الذي هو نهاية العلم فقال : ( وتفصيل الكتاب ) أي الجامع المجموع فيه الحكم والأحكام وجوامع الكلام من جميع الكتب السماوية في بيان مجملاتها وإيضاح مشكلاتها ، فهو الحقيق بالاتباع والتفصيل بتبيين الفصل بين المعاني الملتبسة حتى تظهر كل معنى على حقه ، ونظيره التقسيم ، ونقضيه التخلط والتلبيس ، وبيان تفصيله انه أتى من العلوم العلمية الاعتقادية من معرفة الذات والصفات بأقسامها ، والعلمية التكليفية المتعقة بالظاهر وهي علم الفقه وعلم الباطن ورياضة النفوس بما لا مزيد عليه و لا يدانيه فيه كتاب ، وعلم الأخلاق كثير في القرآن مثل
77 ( ) خذ العفو ( ) 7
[ الأعراف : 199 ]
77 ( ) إن الله يأمر بالعدل ( ) 7
[ النحل : 90 ] وأمثالهما .
ولما كان - مع الشهادة بالصدق بتصديق ما ثبت حقيقة - معجزاً بالجمع والتفصيل لجميع العلوم الشريفة : عقليها ونقليها إعجازاً لم يثبت لغيره ، ثبت أنه مناقض للافتراء حال كونه ) لا ريب فيه ( وأنه ) من رب العالمين ( اي موجدهم ومدبر(3/443)
صفحة رقم 444
أمرهم والمحسن إليهم لأنه - مع الجميع لجميع ذلك - لا اختلاف فيه بوجه ، وذلك خارج عن طوق البشر .
ولما كان هذا موضع أن يذعنوا لأن هذا القرآن لس إلا من عند الله وبأمره قطعاً ، كان كأنه قيل : ارجعوا عن غيهم فآمنوا واستقاموا ) أم ( استمروا على ضلالهم ) يقولون ( على سبيل التجديد والاستمرار عناداً ) افتراه ) أي تعتمد نسبته كذباً إلى الله ، فكأنه قيل ، تمادوا على عتوهم فقالوا ذلك فكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه ، لأنهم أصلوا أصلاً فاسداً لزم عليه قطعاً إمكان ان يأتوا بمثله لأنهم عرب مثله ، بل منهم من قرأ وكتب وخالط العلماء واشتد اعتناءه بأنواع البلاغة من النظم والنثر والخطب وتمرنه فيها بخلافه ( صلى الله عليه وسلم ) في جميع ذلك ، فلهذا أمره في جوابهم بقوله ) قل ) أي لهم يا أبلغ خلقنا وأعرفهم بمواقع الكلام لجميع انواعه ، أتى بالفاء السببية في قوله : ( فأتوا ) أي أنتم تصديقاً لقولكم هذا الذي تبين وأنكم فيه معاندو ؛ ولما كانوا قد جزموا في هذه السورة بأنه افتراه ، وكان مفصلاً إلى سور كل واحدة منها لها مقصد معين يستدل فيها عليه ، وتكون خاتمتها مرتبطة بفاتحتها متحدة بها ، اكتفى في تحد يهم بالإتيان بقطعه واحدة غير مفصلة إلى مثل سورة لكن تكون مثل جميع القرآن في الطول والبيان وانتظام العبارة والتئام المعاني فلذلك قال : ( بسورة ( قال الرماني : والسورة منزلة محيطة بآيات من أجل الفاتحة والخاتمة كإحاطة سور البناء ، وهذا نظراً إلى أن المتحدي به سورة اصطلاحية والصواب أنها لغوية ، وهي كما قال الحرالي تمام جملة من المسموع تحيط بمعنى تام بمنزلة غحاطة السور بالمدنية ؛ ووصفها بقوله : ( مثله ( اي قي البلاغة وحسن النظم وصحة المعاني ومصادقة الكتب وتفصيل العلوم لأنكم مثلي في العربية وتزيدون بالمكتابة ومخالطة العلماء - من غير إتيان ب ( من ) لما تقدم من أن المراد كونها مثل القرآن كله ، ولذلك وسع لهم في الاستعانة بجميع من قدروا عليه ووصلت طاقتهم إليه ولم يقصرهم على من بحضرتهم فقال : ( وادعوا ) أي لمعاونتكم ) من استطعتم ) أي قدرتم على طاعته ولو ببذل الجهد من الجن والإنس وغيرهم للمعاونة ، وحقق أن هذا القرآن من عنده سبحانه باستثنائه في قوله : ( من دون الله ) أي الذي له الكمال كله ، ونبه على أنهم معتمدون لما نسبوه إليه - وحاشاه من تعمد الكذب - وأنهم معاندون بقوله : ( إن كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) صادقين ) أي في أنه أتى به من عنده ، لأن العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج ، وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر ، وقد مضى في البقرة ويأتي في هود إن شاء الله تعالى ما يوضح هذا المعنى ؛ والاستطاعة : حالة تتطاوع بها الجروح والقوى للفعل لأنه مأخوذ من الطوع ؛ ثم كان(3/444)
صفحة رقم 445
كأنه قيل : فقال لهم ذلك فلم يأتوا لقومهم بشبهة شكاً فضلاً عن مصدق ، لأنه معجز لكونه كلاماً في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام والجزالة منزلاً من عند الله المحيط علماً وقدرة ، فهو مشتمل من كل معنى على ما علا كل العلو عن مدان ) بل ( وأحسن من ذلك أنه لما أقام الدليل على أن القرآن كلامه ، وكان الدليل إنما من شأنه أن يقام على من عرض له غلط أو شبهة ، وكان قولهم ) افتراه ( لا عن شبهة وإنما هو مجرد عناد ، نبه سبحانه على ذلك وعلى أنه إنما أقام الدليل لإظهار عنادهم لا لأن عندهم شبهة في كونه حقاً بالإضراب عن قولهم فقال : ( بل ) أي لم يقولوا ) افتراه ( عن اعتقاد منهم لذلك بل ) كذبوا ) أي أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك من غير ان يتفهموه مستهينين ) بما لم يحيطوا بعلمه ( اي في نظمه أو معناه من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم وشراداً ، فهو من باب ( من جهل شيئاً عاداه ) والإحاطة : إرادة ما هو كالحائط حول الشيء ، فإحاطة العلم بالشيءالعلم به من جميع وجوهه .
ولما كان لا بد من وقوع تأويله ، وهو إتيان ما فيه من الإخبار بالمغيبات على ما هي عليه ، قال : ( ولما يأتهم ( اي غلى زمن تكذيبهم ) تأويله ) أي ترجيعنا لأخباره إلى مراجعها وغاياتها حتى يعلموا أصدق هي أم كذب ، فإنه معجز من جهة نظمه ومن جهة صدقه في أخباره ؛ والتأويل : المعنى الذي يؤول التفسير ، وهو منتهى التصريح من التضمين .
ولما كان كأنه قيل : إن فعلهم هذا لعجب ، فما حملهم على التمادي فيه ؟ فقيل : تبعوا في ذلك من قبلهم لموافقتهم في سوء الطبع ، قا مهدداً ومسلياً له ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كذلك ) أي مثل تكذيبهم العظيم في الشناعة قبل تدبير المعجز ) كذب الذين ( ولما كان المكذبون بعض السافلين ، أثبت الجار افقال : ( من قبلهم ) أي من كفار الأمم الخالية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم ؛ ولما كان التكذيب خطراً لما يثير من السرور ، سبب عنه - تحذيراًمنه - النظر في عاقبة امره فقال : ( فانظر ( اي بعينك ديارهم وبقلبك أخبارهم .
ولما كان من نظر هذا النظر وجد فيه أجل معتبر وأعلى مزدجر ، وجه السؤال إليه بقوله : ( كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) الظالمين ) أي الذين رسخت أقدامهم في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى كذبوا من ايجوز عليه الكذب بوجه ، ومن المقطوع به به أن هذا المسؤول يقول من غير تعلثم ولا تردد : عاقبة وخيمة قاصمة ذميمة ؛ والعاقبة سبب تؤدي غليه البادئة ، فالذي أدى إلى إلى هلاكهم بعذاب الاستئصال ما تقدم من ظلمهم لأنفسهم وعتوهم في كفرهم .(3/445)
صفحة رقم 446
ولما ذكر سبحانه تكذيبهم ، كان ذلك ربما أيأس من إذعانهم وتصديقهم ، وآذن باستئصالهم لتكمل المشابهة للأولين ، وكان صلى اله عليه وسلم شديد الشفقة عليهم والحرص على إيمانهم ، فأتبعه تعالى بقوله بياناً لأن علمه بانقسامهم أوجب عدم استئصالهم عاطفاًعلى ) كذبوا ( : ( ومنهم ) أي قومك ) من يؤمن به ) أي في المستقبل ) ومنهم من لا يؤمن به ) أي القرآن أصلاً ولو رأى كل آية ) وربك ) أي المحسن لإليك بالرفق بأمتك ) اعلم بالمفسدين ( اي الذين هم عريقون في الإفساد فسيعاملهم بما يشفي صدرك .
يونس : ( 41 - 45 ) وإن كذبوك فقل. .. . .
) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ( ( )
ولما قسمتهم هذه الآية قسمين ، وتليت بذكر القسم الثاني بالواو ، عرف انه معطوف على مطوى القسم الأول ، فكان كأنه قيل : فإن صدقوك فقل : الله ولى هدايتكم ولي مثل أجوركم بنسبتي فيها فضلاً من ربي : ( وإن كذبوك فقل ) أي قول منصف معتمد على قادر عالم ) لي علمي ( بالإيمان والطاعة ) ولكم عملكم ( ما لأحد من ولا عليه من جزاء الآخر شيء ؛ ثم صرح بالمقصود من ذلك بقوله محذراً لهم : ( أنتم بريئون مما أعمل ) أي فإن كان خيراً لم يكن لكم منه شيء وإن كان غيره لم يكن عليكم منه شيء ) وأنا بريء مما تعملون ( لا جناح عليّ في شيء منه لأني لا أقدر على ردكم عنه ؛ والبراءة : قطع القلعة الذي يوجب رفع المطالبة ، ولا حاجة إلى ادعاء نسخ هذه الآية بىية السيف ، فإنه لا منافاة بينهما ، لأن هذه في رفع لحاق الإثم وهو لا ينافي الجهاد .
ولما قسمهم إلى هذين القسمين ، قسم القسم الأخير إلى قسمين فقال : ( منهم ) أي المكذبين ) من ( ولما كان المستمع إليه أكثر لأنهم أشهى الناس إلى تعرف حاله ، وكان طريق ذلك السمع والبصر ، وكان تحديق العين غليه لا يخفى ، فكان أكثرهم يتركه إظهار لبعضه وخوفاً من إنكار من يراه عليه ، وكان إلقاء السمع بغاية الجهد يمكن إخفاءه بخلاف الإبصار ، عبر هنا بالافتعال ، وجمع دالاً على كثرتهم نظراًإلى معنى ( من ) وأفرد في النظر اعتباراً للفظها ودالاً على قلة الناظر بما ذكر فقال : ( يستمعون ( وضمن الاستماع الإصغاء ليؤدي الفعلين ، ودل على الإصغاء بصلته معلقة بحال(3/446)
صفحة رقم 447
انتزعت منه فكأنه : قال مصغين ) إليك ) أي عند قراءة القرىن وبيانه بالسنة ، ولكنهم وإن كانوا قسمين بالنسبة إلى الاستماع والنظر فهم قسم واحد بالنسبة إلى الضلال ، فكان تعقب ذلك بحشرهم بعد قصر الهداية عليه سبحانه كذكر حشرهم فيما مضى تقسيمهم إلى قسمين بعد قوله ) ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) يريد - بإسماعه لهم ما أنزل الله - هدايتهمبه ، سبب عن استماعهم إنكار إسماعهم الإسماع المرتب عليه الهدى فقال : ( أفأنت ) أي وحدك ) تسمع الصم ( اي في آذان قلوبهم لنهم يستمعون إليك وقد ختم على اسماعهم فهم لا ينتفعون باستماعهم لأنهم يطلبون السمع للرد والفهم ؛ والسمع إدراك الشيء بما يكون به مسموعاً ، فكانوا بعدم انتفاعهم كأنهم هم مجانين ، لأن الأصم العاقل ربما فهم بالتفرس في تحريك الشفاه وغيرها فلذا قال : ( ولو كانوا ( اي جبلة وطبعاً ) لا يعقلون ) أي لا يتجدد لهم عقل أصلاً فصاروا بحيث لا يمكن إسماعهم لنه لا يمكن إلا بسماع الصوت الدال على المعنى وبفهم المعنى ، والمانع من الأول الصمم ، ومن الثاني عدم العقل ، فصاروا شراًمن البهائم لأنها وإن كانت لا تعقل فهي تسمع ، والأصم : المنسدالسمع بما يمنع من إدراك الصوت ) ومنهم ينظر ( محدقاً أو رامياً ببصره من بعيد ) إليك ( فهو من التضمن كما سبق في ) يستمعون ( ؛ نقل عن التفتازاني أنه قال في حاشية الكشاف : وحقيقة التضمن أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه وهو كثير في كلام العرب ، وذلك مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر بمعنوية القرينة اللفظية ، ويتعين جعل الفعل المذكرو أصلاً والمذكور حاله تبعاً ، لأن حذفه والدلالة عليه بصلته يدل على اعتباره في الجملة لا على زيادة القصد إليه ، ومن أمثلته : أحمد إليك الله ، أي منهياً إليك حمده ، ويقلب كفيه على كذا ، أي نادماً عليه ،
77 ( ) ولاتعد عيناك عنهم ( ) 7
[ الكهف : 28 ] أي مجاوزتين عنهم إلى غيرهم ، ) ولا تأكلون أموالهم ( - ضاميها
77 ( ) إلى أموالكم ( ) 7
[ النساء : 2 ] ،
77 ( ) الرفث - مفضين - إلى نسائكم ( ) 7
[ البقرة : 187 ] ،
77 ( ) ولا تعزموا ( ) 7
[ البقرة : 235 ] اي على النكاح وأنتم تنوون عقدته ) ولا يسمعون ( مصغين
77 ( ) إلى الملا الأعلى ( ) 7
[ الصافات : 8 ] سمع الله - أي مستجيباً - لمن حمده ،
77 ( ) والله يعلم المفسد ( ) 7
[ البقرة : 220 ] مميزاًله - ) من المصلح ( ، ) والذين يؤلون ( - ممتعين ) من ( وطء
77 ( ) نسائهم ( ) 7
[ البقرة : 226 ] .
ولما كان المعنى أنك يا أكرم الخلق تريد بنظر هذا الناظر إليك ان ينظر إلى ما تأتي به من باهر الآيات فيهتدي وهو غير منتفع بنظره لما جعل عليه من الغشاوة فكان كالأعمى الذي زاد على عدم بصره عدم العقل فلا بصرولا بصيرة ، قال منكراًلذلك :(3/447)
صفحة رقم 448
) أفأنت تهدي العمي ) أي عيوناً وقلوباً ) ولو كانوا ) أي بما جبلوا عليه ) لا يبصرون ) أي لا يتجدد لهم بصر ولا بصيرة ، فلا تمكن هدايتهم ، لأن هداية الطريق الحسي لا تمكن إلا بالبصر ، وهاية الطريق المعنوي لا تمكن إلا بالبصيرة ؛ والنظر : طلب الرؤية بتقليب البصر ، ونظر القلب طلب العلم بالفكر ؛ والعمى : آفة تمنع الرؤية عن العين والقلب ؛ والإبصار : إدراك الشيء بما به يكون مبصراً ، فكأنه قيل : ما له فعل بهم هذا والأمر بيده ؟ فقيل : لأنه تام المُلك والمِلكوهو متفضل في جميع نعمة لا يجب عليه لأحد شيء فهوا يسأل عما يفعل ، وبنى عليه قوله : ( إن الله ( وأحسن منه ان يقال : ولما كان التقدير : إذا علمت ذلك فخفف عنك بعض ما أنت فيه ، فإنك لا تقدر على إماعهم ولا هدايتهملأن الله تعالى أراد ما هم عليه منهم لاستحقاقهم ذلك لظلمهم أنفسهم ، علله بقوله : ( إن الله ) أي المحيط بجميع الكمال ) لا يظلم الناس شيئاً ( وإن كان هو الذي جبلهم على الشر ) ولكن الناس ) أي لما عندهم من شدة قواهم فيه باختيارهم مع زجرهم عن ذلك وحجبهم عما جبلوا عليه وإن كان الكل بيده سبحانه ولا يكون إلا بخلقه .
ولما كان في هذه الآيات ما ذكر من أفانين جدالهم في أباطيلهم وضلالهم ، وكان فهل ذلك - ممن لا يرى حشراً ولا جزاء ولانعيماً وراءا نعيم هذه الدار - فعل فارغ السر مستطيل للزمان آمن من نوازل الحدثان ، حسن تعقيبه بأنهم يرون يوم الحشر من الأهوال ما يستقصرون معه مدة لبثهم في الدنيا ، فقد خسروا إذن دنياهم بانزاع ، وآخرتهم بالعذاب الذي لا يستطاع ، وليس له انقطاع ، فقال تعالى مهدداً لهؤلاء الكفار الذين يعاندون فلا يسمعون ولا يبصرون عاطفاًعلى ) ويوم الحشر ( الأولى : ( ويوم نحشرهم ( اي واستقصروا مدة لبثهم في الدنيا يوم الحشر لما يستقبلهم من الأهوال والزلازل الطوال ، فكأنه قيل : إلى أي غاية ؟ فقيل : ( كأن ( اي كأنهم ) لم يلبثوا ( في دنياهم ، والجملة في موضع الحال من ضمير ) نحشرهم ( البارز اي مشبهين بمن لم يلبثوا ) إلا ساعة ) أي حقيرة ) من النهار ( وقوله : ( يتعارفون بينهم ( حال ثانية ، أي لم بفدهم تلك الساعة أكثر من أن عرف فيها بعضهم بعضاًليزدادوا بذلك حسرة في ذلك اليوم بعدم القدرة على التناصر والتعاون والتظافر كما كانوا يفعلون في الدنيا .
ولما كانت حالهم هذه هي الخسارة التي ليس معها تجارة ، فكان السامع متوقعاً للخبر عنها ، قال متعجباً منهم موضع : ما أخسرهم : ( قد خسر ( اي حقاً ) الذين كذبوا ( اظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف مستهنين ) بلقاء الله ( أي(3/448)
صفحة رقم 449
الملك الأعلى بما أخذوا من الدنيا من الخسيس الفاني وتركوا مما كشف لهم عنه البعث من النعيم الشريف الباقي ؛ ولما كان الذي وقع منه تكذيب مرة في الدهر قد يفيق بعد ذلك فيهتدي ، قال عاطفاً على الصلة : ( وما كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) مهتدين ( مشيراً إلى تسفيههم فيما يدعون البصر فيه من أمر المتجر والمعرفة بأنواع الهداية .
يونس : ( 46 - 49 ) وإما نرينك بعض. .. . .
) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( ( )
ولما كان إخبار الصادق بهلاك الأعداء مقراً لعين ، وكانت مشاهدة هلاكهم أقر لها ، عطف على قوله ) قد خسر ( : ( وإما نرينك ) أي إراءة عظيمة قبل وفاتك ) بعض الذي نعدهم ) أي في الدنيا بما نا من العظمة فهو اقر لعينك ) أو نتوفينك ( قبل ذلك ) فإلينا مرجعهم ( فنريك فيما هنلك ما هو أقر لعينك وأسر لقلبك ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً الإراءة دليلاً على حذفها ثانياً ، والوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً ؛ و ( ثم ) في قوله : ( ثم الله ( اي المحيط بكل شيء ) شهيد ) أي بالغ الشهادة ) على ما يفعلون ( في الدارين - يمكنأن يكون على بابها ، فتكون مشيرة إلى التراخي بين ابتداء رجوعهم بالموت وآخره إلى بالقيامة ، ليس المراد بقوله ) شهيد ( ظاهره ، بل العذاب الناشئ عن الششهادة في الآخرة إلى أن الله يعاقبهم بعد مرجعهم ، فيريك ما بعدهم لأنه عالم بما يفعلون .
ولما كان في هذه الآية التهديد بالعذاب إما في الدنيا أو في الآخرة غير معين له ( صلى الله عليه وسلم ) واحدةً منهما ، أتبعها بما هو صالح للأمرين بالنسبة إلى رسول إشارة إلى أن أحوال الأمم على غير نظام فلذلك لم يجزم بتعيين واحدة من الدارين للجزاء ، وجعل الأمر منوطاً بالقسط ، ففي أي دار أحكم جعله فيها ، فقال تعالى : دالاً على أنه نشر ذكر الإسلام وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر من عهد آدم عليه السلام إلى آخر الدهر على وجه لم يحصل له اندراس في دهر من الدهور ، فمن تركه استحق العذاب سواء كان ممن بين عيسى ومحمد عليهما السلام أم لا ، فلا تغتر بما يقال من غير هذا : ( ولكل أمة ) أي من الأمم التي خلت قبلك ) رسول ( يدعوهم إلى الله ؛ ثم سبب عن إتيان رسولهم بيان القضاء فيهم فقال : ( فإذا جاء ) أي إليهم ) رسولهم ( في الدنيا بالبينات والهدى ؛ وفي الآخرة في الموقف بالإخبار بما صنعوا به(3/449)
صفحة رقم 450
في الدنيا من تكذيب أو تصديق ) قضى بينهم ) أي في جميع الأمور بما أفاده نزع الخافض على أسهل وجه من غير شك بم أفاده البناء للمفعول ؛ ولما كان السياق بالترهيب أجدر ، قال ) بالقسط ) أي أظهر خفياً من استحقاقهم في القضاء بالعدل والقسمة المنصفة بينهم كلهم بالسوية فأعطى كل أحد منهم مقدار ما يخصه من تعجيل العذاب وتأخيره كما فعل معك ؛ ولما كان ذلك لا يستلزم الدوام ، قال : ( وهم لا يظلمون ) أي لا يتجدد لهم ظلم منه سبحانه ولا من غيره .
ولما تقدم في هذه الآيات تهديدهم بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة ، حكى سبحانه جوابهم عن ذلك عطفاً على قوله : ( ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه ( فقال : ( ويقولون ) أي هؤلاء امشركون مجددين لهذا القول مستمرين على ذلك استهزاء : ( متى هذا الوعد ) أي بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة ، وألهبوا وهيجوا بقولهم : ( إن كنتم ) أي أنت ومن قال بقولك ) صادقين ( والقول كلام مضمن في ذكره بالحكاية وقد يكون كلام لا يعبر عنه فلا يكون له ذكر بالحكاية - قاله الرماني ، ولتضمين جعل الشيء في وعاء ؛ والوعد : خبر بما يعطي من الخير ، والوعيد : خبر بما يعطى من الشر ، وقد يراد الإجمال كما هنا فيطلق الوعد على المعنيين : وعد المحسن بالثواب والمسيء بالعقاب ؛ والصدق : الخبر عن الشيء على ما هو به ؛ والكذب : الخبر عنه على خلا ما هو به .
ولما تضمن قولهم هذا استعجاله ( صلى الله عليه وسلم ) بما يتوعدهم به ، أمره بأن يتبرأ من القدرة على شيء لم يقدره الله عليه بقوله : ( قل ) أي لقومك المستهزئين ) لا أملك لنفسي ( فضلاً عن غيري ؛ لما كان السيااق للنقمة ، قدم الضر منبهاً على أن نعمه أكثر من نقمة ؛ وأنهم في نعمه ، عليهم أن يقيدوها بالشكر خوفاً من زوالها فضلاً عن أن يتمنوه فقال : ( ضراً ولا نفعاً ( .
ولما كان من المشاهد أن كل حيوان يتصرف في نفسه وغيره ببعض ذلك قال : ( إلا ما شاء الله ) أي المحيط علماً وقدرة أن أملكه من ذلك ، فكأنه قيل : فما لك لا تدعوه بأن يشاء ذلك ويقدرك عليه ؟ فقيل : ( لكل أمة أجل ( فكأنه قيل : وماذا يكون فيه ؟ فقيل : ( إذا جاء أجلهم ( هلكوا ؛ ولما كان قطع رجائهم من الفسحة في الأجل من الشرطية بكمالها ) ولا يستقدمون ( فلا يستعجلوه فإن الوفاء بالوعد لا بد منه. والسين فيهما بمعنى الوجدان ، أي لا يوجد لهم المعنى الذي صيغ منه الفعل مثل : استشكل الشيء واواسثقله ، ويجوز كون المعنى : لايوجدون التأخر ولا التقدم وإن اجتهدوا في(3/450)
صفحة رقم 451
الطلب ، فيكون في السين معنى الطلب والملك قوة يتمكن بها من تصريف الشيء أتم تصريف ، والنفع : إيجاب اللذة بفعلها والتسبب المؤدي إليها ؛ والضر : إيجاب الألم بفعله أو التسبب إليه ؛ والأجل : الوقت المضروب لوقوع أمر .
يونس : ( 50 - 53 ) قل أرأيتم إن. .. . .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( ( )
ولما كان جل قصدهم بذلك الاستهزاء ، وكان وقوعه أمراً ممكناً ، وكان من شأن العاقل أن يبعد عن كل خطر ممكن ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بجواب آخر حذف منه واو العطف لئلا يظن أنه لا يكفي في كونه جواباً إلا بضمنه إلى ما عطف عليه قال : ( قل ) أي لمن استبطأ وعيدنا بالعذاب في الدنيا أو في الآخرى ، وهو لا يكون إلا بعد الأخذ في الدنيا إعلاماً بأن الذي يطلبونه ضرر لهم محض لا نفع فيه بوجه ، فهو مما لا يتوجه إليه قصد عاقل ) أرءيتم ( وهي من رؤية القلب لأنها دخلتعلى الجملة من الاستفهام ) إن أتاكم عذابه ( في الدنيا .
ولما كان أخذ الليل أنكى وأسرع ، قدمه فقال : ( بياناً ) أي في الليل بغته وأنتم نائمون كما يفعل العدو ؛ ولم كان الظفر ليلاً لا يستلزم الظفرنهاراً مجاهرة قال : ( أو نهاراً ) أي مكاشفة وأنتم مستيقظون ، أتستمرون على عنادكم فلا تؤمنوا ؟ فكأنهم قالوا : لا ، فليجعل به ليرى ، فقيل : إنكم لا تدرون ما تطلبون إنه لا لمخلوق بنوع منه ، ولا يجترئ على مثل هذا الكلام إلا مجرم ) ماذا ( اي ما الذي ؟ ويجوز أن يكون هذا جواب الشرط ) يستعجل ) أي يطلب العجله ) منه ) أي من عذابه ، وعذابه كله مكروه لا يحتمل شيء منه ) المجرمون ( إذ سنة الله قداستمرت بأن المكذب لا يثبت إلا عند مخايله ، وأما إذا برك بكلكه وأناخ بثقله فإنه يؤمن حيث لا ينفعه الإيمان ) ولن تجد لسنةِ الله تحويلاً ) [ فاطر : 43 ] وهذا معنى التراخي في قوله : ( أثُمَّ إذا ما وقع ) أي عذابه وانتفى كل ما يضاده ) آمنتم به ( وذلك أنه كانت عادتهم كمن قبلهم العذاب يتراخى إيمانهم بعد مجئ مقدماته وقبل اجتثاثهم بعظائم صدماته لشدة معاندتهم فيه وتوطنهم عليه كما وقع للأولين من الأمم بغياً وعتواُ كقوم صالح لما تغيرت وجوههم بألوان مختلفة في اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وأيقنوا بالهلكة وودع بعضهم بعضاً ولم يؤمنوا ، وجرت(3/451)
صفحة رقم 452
بأنهم إذا ذاقوا مس العذاب وأخذتهم فواجئه الصعاب شغلتهم دواهيه عن العناد واضطرتهم أهواله إلى سهل الانقياد ، فكان في غاية الحسن وضع تقريعهم على الاستعجال عقب الوعيد ، ثم وضع التراخي عن الإيمان بالعناد بعد الإشراف على الهلاك ومعانيه التلف ، فكان كأنه قيل : أخبروني على تقدير ان يأتيكم عذابه الذي لا عذاب أعظم منه - كما دل ذلك إضافته إليه - فبيتكم أو كاشفكم ، ما تفعلون ؟ ألا تؤمنون ؟ فقالوا لا ، فليعجل به ليرى ، فناسب لما كان استعجالهم بعد هذا الإنذار تسفيههم على ذلك فقيل ) ماذا ) أي أي نوع منه يطلب عجلته ) المجرون ( ، ولا نوع منه الإ وهو فوق الطاقة ووراء الوسع ، إن هذا لمنكر من الآراء ، أفبعد تراخي إيمانكم عن مخايل صدمته ومشاهدة مبادئ عظمته وشدته أوجدتم الإيمان به عند وقوعه ؟ يقال لكم حين اضطرتكم فواجئه إلى الإيمان وحملتكم قوارعه على صيورة الإذعان : ( آلئن ( تؤمنون به - أي بسببه - بعد أن أزال بطشاً قواكم وحل عزائم هممكم وأوهاكم ) وقد كنتم ) أي كوناً كأنكم مجبولون عليه ) به يستعجلون ) أي تطلبون تعجيله طلباً عظيماً حتى كأنكم لاتطلبون عجله شيء غيره تكذيباً وعزماً علىالثبات على العناد ، لو وقع فلم نقبل إيمانكم هذا منكم ولا كف عذابنا عنكم ، بل صيركم كأمس الدابر .
ولما كان ما ذكر هو العذاب الدينوي ، أتبعه ما بعده إعلاماً بأنه لا يقتصر عليه في جزائهم فقال : ( ثم قيل ) أي من أيّقائل كان استهانه ) للذين ظلموا ) أي وبعد أزّكم في الدنيا والبرزخ بالعذاب وهزّكم بشديد العقاب قيل لكم بوم الدين بظلمكم بالآيات وبما أمرتم به فيها بوضعكم كلاَّ منذلك في غير موضعه : ( ذوقوا عذاب الخلد ( فالإتيان ب ( ثم ) إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين ) هل تجزون ( بناه للمفعول لأن المخيف مطلق الجزاء ؛ ولما كان الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، وكان المعنى : بشيء ، استثنى منه فقال : ( إلا بما كنتم ) أي بجبلاتكم ) تكسبون ) أي في الدنيا من العزم على الاستمرار على الكفر ولو طال المدى لاتنفكون عنه بشيء من الأشياء وإن عظم ، فكان جزاءكم الخلود في العذاب طبق النعل بالنعل ؛ والعذاب : الألم المستمر ، وأصله طلب الطعم بالفم في ابتداء الأخذ .
ولما انقضى ما اشتملت عليه الآية من التهديد وصادع الوعيد ، أخبر تعالى أنهم صاروا إلى ما هو جدير بسامع ذلك من النزول عن ذلك العناد إلى مبادئ الانقياد بقوله تعالى : ( ويستنبئونك ( عطفاً على قوله ( ويقولون متى هذا الوعد ) أي ويطلبون منك(3/452)
صفحة رقم 453
الإنباء وهو الإخبار العظيم عن حقيقة هذا الوعد الجسيم ، ويمكن أن أن يكون ذلك منهم على طريق الاستهزاء كالأول ، فيكون التعجب ولتوبيخ فيه بعد ما مضى من الأدلة أشد ) أحق هو ) أي أثابت هذا الذي تتوعدنا به أم هو كالسحر لا حقيقية له كما تقدم أنهم قالوه ) قل ) أي في جوابهم ) إي وربي ) أي المحسن إليّ المدبرلي والمصدق لجميع ما آتى به ؛ ولما كانوا منكرين ، أكد قوله : ( إنه لحق ) أي كائن ثابت لا بد من نزوله بكم .
ولما كان الشيء قد يكون حقاً ، ويكون الإنسان قادراً على دفعه فلا يهوله ، قال نفياً ذلك : ( وما أنتم ) أي لمن توعدكم ) بمعجزين ( فيما يراد بكم .
يونس : ( 54 - 57 ) ولو أن لكل. .. . .
) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما أخبرهم بحقيقة ، أخبرهم بما يكون منهم من الظلم ايضاً عند معياينتهبالسماح ببذل جميع ما في الأرض حيث لا ينفع البذل بعد ترك لمأمور به وهو من أيسر الأشياء وأحسنها فقال : ( ولو أن لكل نفس ظلمت ) أي عند المعاينة ) مافي الأرض ) أي كلها من خزائنها ونفائسها ) لا فتدت به ) أي جعلت فدية لها من العذاب لكنه ليس لهم ذلك ، لو كان من قبل منهم ، فإذا وقع ما يوعدون استسلموا ) وأسروا الندامة ) أي اشتد ندمهم ولم يقدروا على الكلام ) لما رأوا العذاب ( لأنهم بهتوا لعظم ما دهمهم فكان فعلهم فعل المسر ، لأ ؟ نهم لم يطيقوا بكاء ولا شكاية ولا شيئاً مما يفعله الجازع ؛ والاستنباء : طلب النبأ كما أن الاستفهام طلب الفهم ؛ والنبأ : خبر عن يقين في أمر كبير ؛ والحق : عقد على المعنى على ماهو به تدعو لحكمة إليه ، وكل ما بنى على هذا والقوة فيما طريقة الب الأمر ، وذلك فيما يحتمل أمرين احدهما أشبه بألاصل الذي جاء به النص ؛ والافتداء : إيقاع الشيء بدل غيره لرفع المكروه ، فداه فديه وأفداه وافتداه افتداء وفاداه مفاداة وفداه تفدية وتفادي منه تفادياً ؛ والإسرار : إخفاء الشيء في النفس ؛ والندامة : الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن أوقعها ، وهي حال معقولة يتأسف صاحبها على ما وقع منها ويود أنه لم يكن أوقعها .
ولما اشتملت الآيات الماضيات على تحتم إنجاز الوعد والعدل في الحكم ، (3/453)
صفحة رقم 454
وختمت بقوه : ( وقضي ( اي وأوقع القضاء على أيسر وجه وأسهله ؛ ولما ستغرق القضاء جميع وقائعهم .
دل بنزع الجار فقال : ( بينهم ( اي الظالمين والمظلومين والظالمين والأظلمين ) بالقسط ) أي العدل ؛ ولما كان وقوع ذلك لا ينفي وقوع الظلم في وقت آخر قال : ( وهم ) أي والحال أنهم ) لا يظلمون ) أي لات يقع فيهم ظلم من أحد أصلاً كائناً من كان في وقت ما .
ولما كان السبب الحامل لملوك الدنيا على الكذب والجور والظلم العجز أو طلب التزيد في الملك ، أشار إلى التنزهه عن ذلك بقوله مؤكداً سوقاً لهم مساق المنكر لن فعلهم في عبادة الأصنام فعل من ينكر مضمون الكلام : ( ألا إن الله ( اي الملك الأعظم وحده ) ما في السموات ( بدأ بها لعلوهامعنى وحساً وعظمتها ؛ ولما كان المقام لغنى عن الظلم لم يحوج الحال إلى تأكيد بإعادة النافي فقال : ( والأرض ) أي من جوهر وعرض صامت وناطق ، فلا شيء خارج عن ملك يحوجه إلى ظلم أو خلاف وعد لحيازته ، والحاصل أنه لا يظلم إلا ناقص الملك وأما من له الملك كله فهو الحكم العدل : لأن جميع الأشياء بالنسبة إليه على حد سواء ، ولا يخلف لوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد العدل في لقدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو ا لمحق في الوعد العدل في الحكم ، وفي الآية زيادة تحسير وتندم للنفس الظالمة حيث أخبرت بأن ما تود ان تفتدي به ليس لها منه شيء ولا تقدر على التوصل إليه ، ولو قدرت ما قبل منها ، وإنما هو لمن لارضي منها بالقليل منه فضلاً منه عليها على ما أمر به على لسان رسله ، وعلى هذا فيجوز ان يكون التقدير : لو أن لها ذلك لافتدت به ، لكنه ليس لها بل لله ؛ فلما ثبت بذلك حكمه بالعدل وتزهه عن غخلاف الوعد .
صرح بمضمون ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم : ( الا إن وعد الله ) أي الذي له الكمال كله ) حق ( لنه تام القدرة والغنى ، فلا حامل له على الإخلاف ) ولكن أكثرهم ( اي الذين تدعوهم وهم يدعون دقة الأفهام وسعة العقول ) لا يعلمون ) أي لا علم لهم فهم لا يتدبرون ما نصبنا من الأدلة فلا ينقادون لما أمرنا به االشريعة فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم ؛ و ) ألا ( مركبة من همزة الاستفهام و ( لا ) وكانت تقريراً وتذكيراً فصارت تنبيهاً ، وكسرت إن بعدها لأنها استئنافيه ينبه بها على معنى يبتدأ به ولذا يقع بعدها الأمر والدعاء بخلاف ( لو ) و ( إلا ) للاستقبال فلم يجز بعدها إلا كسر ( إن ) ( إما ) قد تكون بمعنى ( حقاً ) في قولهم : أما إنه منطلق ، وهي للحال فجاز في ( أن ) بعدها الوجهان - ذكره الرماني ؛ السماوات طبقات مرفوعه اولها سقف مزين بالكواكب. وهي من سما بمعنى علاز ولما تقرر أنه لا شيء خارج عن ملكه ، وأنه تام القدرة لأنه لا منجي من عذابه ، (3/454)
صفحة رقم 455
شامل العلم لقضائه بالعدل ، صادق الوعد لأنه لا حامل له على غيره ، وثبت تفرده بأنه يحي ويميت ؛ ثبت أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، فثبت أنه لا يكون الرد إلا إليه فنبه على ذلك بقوله : ( هو ) أي وحده ) يحيي ( اي كما أنتم به مقرون ) ويميت ( كما أنتم له مشاهدون ) وإليه ) أي لا إلى غيره ) ترجعون ( لأنه وعد بذلك في قوله :
77 ( ) إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً ( ) 7
[ يونس : 4 ] وفي قوله :
77 ( ) فإلينا مرجعهم ( ) 7
[ يونس : 46 ] وفي قوله
77 ( ) أي وربي إنه لحق ( ) 7
[ يونس : 53 ] وغير ذلك ولا مانع له منه ؛ والحياة معنى يوجب صحة العلم والقدرة ويضاد الموت ، هو يحل سائرأجزاء الحيوان فيكون بجميعه حياً واحداً ، والحي هو الذي يصح أن يكون قادراً ، والقادر هو الذي يصح أن يذم ويحمد بما فعل ، والموت معنى يضاد الحياة على البينة الحيوانية ، وليس كذلك الجمادية .
ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل ، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله : أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر ، فقال : ( يأيها الناس ) أي الذين قالوا : إن وعدنا والإخبار به سحر ؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق ، والتذ الروحلذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائض بقوة التعلق فحدثتله أ خلاق ذميمة هي أمراض روحانية ، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن غليه طبيباً حاذقاً هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لعلاج هذه الأمراض .
وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية ، فكان احكم الطب منع المريض عن أسباب المرض ، قال تعالى : ( قد جاءتكم موعظة ) أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي ، وذلك هو الشريعة .
ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر ، وهو لذيذ غلى النفس بينهما من ملاءمة النقص ، وكان الانكفف عنه أشق شيء عليها ، رغبها في القبول بقوله : ( من ربكم ) أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن ؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدينة ، وهذا هو الطريق .
ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض(3/455)
صفحة رقم 456
البروق الإلهية والنفخات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها اللمعان كما قال صلى اله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه : ( إن لربكم أيام دهركم نفحات ، ألا فعترضوا له ) الحديث. وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة ، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها ، قال تعالى : ( وهدى ( إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه - ولابد - إلى الطريق الأقوم ، وهذا للصديقين وهو الحقيقة .
ولما كان هذا النور إذا زاد عظمه وانتشر غشراقه يفيض - بعد الوصول إلى هذه الدرجات الوحانية والمعارج الربانية - على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه ، قال تعالى : ( ورحمة ) أي إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه ، وهذا للأنباء عليهم السلام ؛ ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم ، ثم إن الانتفاع بهم يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم ، قال : ( للمؤمنين ( الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام لهم فكان ذلك سبباً لنجاتهم - أشار إلى هذا الإمام وقال : فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه ، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه ( صلى الله عليه وسلم ) من السحر فإنه داء كله وضلال يجر غلى الشقاء ، والموعظة : إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة ، والوعظ ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم ؛ والشفاء : إزالة الداء ، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل ، والشفاء منه أجل ؛ والصدر : موضع القلب ، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب ؛ والهدى : بيان عن معنى يؤدي إلى الحق ، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة ؛ والرحمة : نعمة على المحتاج .(3/456)
صفحة رقم 457
يونس : ( 58 - 60 ) قل بفضل الله. .. . .
) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ( ( )
ولما ثبت ذلك ، حثهم عليه لبعده عن السحر بثباته وعدم القدرة على زلزلته فضلاً عن إزالته وبأن شفاء وموعظة وهدى ورحمة فهو جامع لمراتب القرب الإلهي كلها ، وزهدهم فيما هم عليه مقبلون من الحطام : لمشاركته للسحر في سرعة التحول والتبدل بالفناء والاضمحلال فهو أهل للزهد فيه والإعراض عنه فقال تعالى : ( قل بفضل الله ( الآية ، وحسن كل الحسن تعقيب ذلك لقوله : ( هو يحيي ويميت ( لما ذكر من سرعة الرحيل عنه ، ولأن القرآن محيي لميت الجهل ، من أقبل عليه أفاده العلم والحكمة ، فكان للقلب كالحياة للجسد ، ومن أعرض عنه صار في ضلال وخبط فوصل غلى الهلاك الدائم ، فكان إعراضه عنه مميتاً له ، وجعل أبو حيان متعلق الباء في بفضل محذوفاً تقديره : ( قل ( ليفرحوا ) بفضل الله ( اي الملك الأعلى ) وبرحمته ( ثم عطف قصر الفرح على ذلك ) فبذلك ) أي الأمر العظيم جداً وحده إن فرحوا يوماً ما بشيء ) فليفرحوا ( فهما جملتان وقال : ( هو ) أي المحدث عنه من الفضل والرحمة ) خير مما يجمعون ( اي من حطام الدنيا وإن كان أشرف ما فيها من المتاع دائبين فيه على تعاقب الأوقات ، والعاقل يختار لتعبه الأفضل ؛ والفضل : الزيادة في النعمة ؛ والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى .
ولما وصف القرآن العظيم بالشفاء وما معه المقتضي لاستقامة المناهج وسداد الشرائع ووضوح المذاهب ، وأشار إلى أن العاقل ينبغي له أن يخصه بالفرح لبقاء آثاره وما يدعو إليه وزهده فيما يجمعون لفنائه ولأنه يدعو غلى رذائل الأخلاق فيحيط من أوج المعالي ، أشار إلى أنهم كما خبطوا في الفرح فخصوه بما ينفي معرضين عما يبقى فكذلك خبطوا في طريق الجمع فوعدوها على أنفسهم بأن حرموا بعض ما أحله ، فمنعوا انفسهم ما هم به فرحون دون أمر من الله تعالى فنقصوا بذلك حظهم في الدنيا بهذا المنع وفي الآخرة بكذبهم على ربهم في تحريمه حيث جعلوه شرعاً مرضياً وهو في غاية الفساد والبعد عن الصواب والقصور عن مراقي السداد فقال تعالى : ( قل ) أي لهؤلاء الذين يستهزرون بك استهزاء قاضياً عليهم بأنهم لا عقول لهم مستهزئاً بهم وموبخاً لهم(3/457)
صفحة رقم 458
توبيخاً هو في أحكم مواضعه ، وساقه على طريق السؤال بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب أصلاً بغير الإقرار بالافتراء فقال : ( أرءيتم ) أي أخبروني ، وعبر عن الخلق بالإنزال تنبيهاً علىأنه لا يمكن ادعاءه لأصنامهم لنزول أسبابه من موضع لا تعلق لهم به بوجه فقال : ( ما أنزل الله ) أي الذي له صفات الكمال التي منها الغنى المطلق ) لكم ( اي خاصاً بكم ) من رزق ) أي أيّ رزق كان ) فجعلتم منه ) أي ذلك الرزق الذب خصكم به ) حراماً وحلالاً ( على النحو الذي تقدم في الأنعام وغيرها قصته وبيان فساده على أنه جلي الفساد ظاهر العوج ؛ ثم ابتدأ أمراً آخر تأكيداً للإنكار عليهم فقال : ( قل ) أي من أذن لكم في ذلك ؟ ) الله ) أي الملك الأعلى ) أذن لكم ( فتوضحوا المسنتند به ) أم ( لم يأذن لكم فيه مع نسبتكم إياه إليه لأنكم فصلتموه إلى حرام وحلال ولا محل ومحرم إلا الله ، فأنتم ) على الله ) أي المحيط بكل شيء عظمة وعلماً ) تفترون ( مع نسبتكم الافتراء إلي في هذا القرآن الذي أعجز الأفكار والشرع الذي بهر العقول وادعائكم أنكم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأطهرهم ذيولاً منه ، وتقديم الجار للإشارة إلى زيادة التشنيع عليهم من حيث إنهم أشد الناس تبؤراً من الكذب وقد خصوا الله - على تقدير التسليم لهم - بأن تعمدوا الكذب عليه .
ولما كان قد مضى من أدلة المعاد ما صيره كالشمس ، وكان افتراءهم قد ثبت بعدم قدرتهم على مستند بإذن الله لهم في ذلك ، قال مشيراً إلى أن القيامة مما هو معلوم لا يسوغ إنكاره : ( وما ظن الذين يفترون ) أي يتعمدون ) على الله ) أي الملك الأعظم ) الكذب ) أي أنه نازل بهم ) يوم القيامة ) أي هب أنكم لم يحاسبكم فيكون حينئذ قد فعل ما لا يفعله رب مع مربوبه .
ولما كان تعالى يعاملهم بالحلم وهم يتمادون في هذاالعقوق ، قال : ( إن الله ) أي الذي له الكمال كله ) لذو فضل ) أي عظيم ) على الناس ) أي بنعم منها إنزال الكتب مفصلاً فيها ما يرضاه وما يسخطه وإرسال الرسل عليهم السلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها ، ومنها طول إمهالهم على سوء أعمالهم فكان شكره واجباً عليهم ) ولكن أكثرهم ) أي الناس لاضطراب ضمائرهم ) لا يشكرون ) أي لا يتجدد منهم شكر فهم لا يتبعون رسله ولا كتبه ، فهم يخبطون خبط عشواء فيفعلون ما يغضبه سبحانه ؛ والتحريم : عقد معنى النهي عن الفعل ؛ والتحليل : حل معنى النهي بالإذن ؛ والشكر : حق يجب بالنعمة من الاعتراف به والقيام فيما تدعو إليه على قدرها ؛ وافتراء الكذب : تزويره وتنميقه فهو أفحش من مطلق الكذب .(3/458)
صفحة رقم 459
يونس : ( 61 - 63 ) وما تكون في. .. . .
) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ( ( )
ولما وصف القرآن بماوصفه به من الشفاء وما معه بعد إقامة الدليل على إعجازه ، وأشار إلى أن ماتدينوا به في غاية الخبط وأنه مع كونه كذباً يقدر كل واحد على تغييره بأحسن منه لكونه غير مبني على الحكمة ، وختم ذلك بتهديدهم على افتراء الكذب في شرع ما لم يأذن به مع اعائهم أن القرآن مفترى وهم عاجزون عن معارضته ، وبأنهم لم يشركوه على نعمه التي أجلّها تخصيصهم بهذا بهذا الذكر الحكيم والشرع القويم ، وكان قد أكثر في ذلك كله من الأمر له ( صلى الله عليه وسلم ) بمحاجتهم ) قل لا أملك لنفسي ( ، ) قل أرأيتم إن أتاكم عذابه ( ، ) قل إي وربي إنه لحق ( ، ) قل بفضل الله ( - الآية ، ) قل أرأيتم ما أنزل الله لكم ( ، ) قل الله أذن لكم ( ، قال تعالى ناظراً إلى قوله : ( وما كان هذا القرآن أن يفترى ( الآية ، تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) وتقويه لهمته وزيادة في تهديدهم عطفاً على ما تقديره : فقد أنزلت إليهم على لسانك ما هو أشرف لهم ونعمة عليهم وهو في غاية البعد عن مطلق الكذب فإن كل شيء منه في أحكم مواضعه وأحسنها لا يتطرق إليه الباطل بوجه وهم يقابلون نعمته بالكفر : ( وما تكون ( أنت ) في شأن ) أي أيّ شأن كان ) وما تتلوا منه ) أي من القرآن المحدث عنه في جميع هذه السورة ، الذي تقدم أنهم طائعكم وعاصيكم ، وأغرق في النفي فقال : ( من عمل ( صغير أو كبير ) إلا كنا ) أي بما لنا من العظمة ) عليكم شهوداً ) أي عاملين بإحاطة علمنا ووكالة جنودنا عمل الشاهد ) إذ تفيضون فيه ( الآية إيذاناً بأنك بعيني في جميع هذه المراجعات وغيرها من شؤونك وأنا العلم بتدبيرك والقادر على نثرتك ، وهي كلها من كتابي الذي تتضاءل القوى دونه وتقف الأفكار عن مجاراته لأنه حكيم لكونه من عندي فجل عن مطلق المعارضة لفظاً أو معنى فضلاً عن التغيير فضلاً عن الإتيان بما هو مثله فكيف بما هو أحسن منه ، لا ستقامة أمره وتناسب أحكامه كونها شفاء وهدى ورحمة ، وما كان كذلك فهو من عندي قطعاً وبإذني جزماً لأني عالم بالإفاضة فيه والانفصال عنه وجميع الأمور الواقعة منك ومنهم ومن غيرهم .
ولما كان رما ظن ظان من إفهام ) كنا ( و ) شهوداً ( للجنود أنه سبحانه محتاج إليهم ، نفى ذلك بقوله : ( وما ) أي والحال أنه ما ) يعزب ) أي يغب ويخفى ) عن(3/459)
صفحة رقم 460
ربك ) أي المربي لكل مخلوق بعام افضاله ولك بخاص نعمه وأشرف نواله ، وأغرق في النفي فقال : ( من مثقال ذرة ) أي وزن نملة صغيرة جداً وموضع وزنها وزمانه ؛ ولما كان ( في ) بمزون أهل الأرض كان تقديمها أولى فقال : ( في الأرض ( ولما لم يدع السياق إلى الجمع - كما سيأتي في سبأ - قال اكتفاء بالمفرد الدال على الجنسك ) ولا في السماء ) أي ما علا عن الأرض كائناً ما كان .
ولما كان ربما أدى الجمود بعض الأغبياء إلى أن يحمل المثقال على حقيقته ويجهل أن المراد به المبالغة ، قال عاطفاً على الجملة من اولها وهو على الابتداء سواء رفعنا الراءين على قراءة حمزة ويعقوب أو نصبناهما عند الباقين : ( ولا أصغر من ذلك ) أي من مثقال الذرة ) ولا أكبر ( ولما أتى بهذا الابتداء الشامل الحاصر ، اخبر عنه بقوله : ( إلا ) أي لا شيء من ذلك إلا موجود ) في كتاب ) أي جامع ) مبين ) أي ظاهر في نفسه مظهر لكل ما فيه ، وسيأتي في سبأ ما يتم به هذا المكان ، وفي ذلك تهديداً لهم وتثبيت له ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولاح بهذا أن ما بعد ) إلا ( حال من الفاعل ، أي ما يفعل شيئاً إلا وأنت بأعيننا فثبت أن القرآن بعلمه ، فلو افتراه أحد عليه لأمكن منه ؛ والإفاضة : الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل أخذاً من فيض الإناء إذا انصب ما فيه من جوانبه ، وأفضتم : تفرقتم كتفرق الماء الذي يتصبب من الإناء ؛ والعزوب : ذهاب المعنى عن العلم ، وضده الحضور ؛ والذر : صغار النمل وهو خفيف الوزن جداً ، ومثقاله : وزنه .
ولما تقدم أنهسبحانه شامل العلم ، وعلم - من وضع الأحوال ما لا يتسع من لا تسع مجرد أسمائهم الأرض في كتاب مبين أي مهما كشف منه وجد من غير خفاء ولا احتياج إلى تفتيش - أنه كامل القدرة بعد أن تقدم أنهم فريقان : صادق في امره ، ومفت عليه ، وأنه متفضل على الناس بعدم المعاجلة والتأخير إلى القيامة ، وخوّف المفتري عواقب أمر عاجلاً وآجلاً ، وجىّ المطيع ، كان موضع أن يقال : ليت شعري ماذا يكون تفصيل حال الفريقين في الدارين على الجزم ؟ فأجيب بأن الأولياء فائزون والأعداء هالكون ليشمر كل مطيع عن ساعد جده ويبذل غاية جهده فيلحاق المخلصين وتحامي جانب المفترين بقوله تعالى مؤكداً لاعتقادهم أنهم يهلكون حزب اله وإنكارهم غاية الإنكار أن يفوتوتهم : ( ألا إن أولياء الله ) أي الذين يتولون بالطاعة من لا شيء أعز منه ولا أعظم ويتولاهم ) لا خوف ) أي ثابت عال ) عليهم ) أي من شيء يستقبلهم ) ولا هم ) أي بضمائرهم ) يحزنون ( اي يتجدد لهم حزن علىفائت لأن قلوبهم معلقة بالله سبحانه فلا يؤثر فيهم لذلك خوف ولا حزن أثراً يقطع قلوبهم كما يعرض لغيرهم ، (3/460)
صفحة رقم 461
وفسرهم بقوله : ( الذين آمنوا ) أي أوجودا هذا الوصف المصحح للأعمال وبه كمال القوة العلمية ) وكانوا ) أي كوناً صار لهم جبلة وخلقاً ) يتقون ( اي يوجدون التقوى ، وهي كمال القوة العلمية في الإيمان والأعمال ويجددونها فإنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ؛ وانتهى الجواب بقوله : ( إن الذين يفترون على الله الكذب ( - الآية ، وهذا الذي فسر الله به الأولياء لا مزيد على حسنه ، وعن علي رضي الله عنه ( هم قوم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الخوى ) وقيل : الولي من لا يرائي ولا ينافق ، وما أقل صديق من كان هذا خلقه ، وصح عن الإمامين : أبي حنيفة والتبيان أن كلاًّ منهما قال : إن لم يكن العلماء أولياء اله فليس لله ولي .
وهذا في العالم العامل بعلمه كما بينته عند قوله في سورة الزمر ) ) قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( ) [ الزمر : 9 ] .
يونس : ( 64 - 67 ) لهم البشرى في. .. . .
) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( ( )
ولما نفىعنهم الخوف والحزن ، زادهم فقال مبيناً لتوليه لهم بعد أن شرح توليهم له : ( لهم ) أي خاصة ) البشرى ( اي الكاملة ) في الحياة الدنيا ) أي بأن دينهم يظهر وحالهم يشتهر وعدوهم يخذل وعمله لا يقبل وبالرؤية الصالحة ) وفي الآخرة ( بأنهم هم السعداء وأعداؤهم الأشقياء وتتلقاهم الملائكة ) ) هذا يومكم الذي كنتم توعدون ( ) [ الأنبياء : 103 ] .
وما كان الغالب على أحوال أهل اللله في الدنيا الضيق ولا سيما في أول الإسلام ، كان السامع لذلك بمعرض ان يقول : يا ليت شعري هل يتم هذا السرور فقيل : نعم ، وأكد بنفي الجنس لأن الجبابرة ينكرون ذلك لهم لما يرون من أن عزهم من وراء ذل ليس فيه سوؤ ما لباطل المتكبرين من السورة والإرجاف والصولة : ( لا تبديل ) أي بوجه من الوجوه ) لكلمات الله ) أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة ؛ وقوله - : ( ذلك ) أي الأمر العالي الرتبة ) هو ( ي خاصة ) الفوز العظيم ( في موضع البيان والكشف لمضمون هذه البشرى ؛ والخوف : انزعاج القلب بما يتوقع من المكروه ، ونظيره الجزع والفزع ، ونقيضه الأمن ؛ والحزن : انزعاجه وغلظ(3/461)
صفحة رقم 462
همه مما وقع من المكروه ، من الحزن للأرض الغليظة ، ونقيضه السرور ، وهما يتعاقبان على حال الحي الذاكر للمحبوب ؛ والبشرى : الخبر الأول بما يظهر سروره في بشرة الوجه .
ولما تقدمت البشرى بنفي الخوف والحزن معاً عن الأولياء ، علم أن المعنى : هذه البشرى للأولياء وأنت رأسهم فلا تخف ، فعطف عليه قوله : ( ولا يحزنك قولهم ) أي في نحو قولهم : إنهم يغلبون ، وفي تكذيبك والاستهزاء بك وتهديدك ، فإن ذلك قول يراد به تبديل كلمات الله الغني القدير ، وهيهات ذلك من الضعيف الفقير فكيف بالعلي الكبير وإلى هذا يرشد التعليل لهذا النهي بقوله : ( إن العزة ) أي الغلبة والقهر وتمام العظمة ) لله ) أي الملك الأعلى حال كونها ) جميعاً ) أي فسيذلهم ويعز دينه ، والمراد بذلك التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به .
ولما بدئت الآية بقولهم ، ختمها بالسمع له والعلم به وقصرهما عليه لأن صفات كل موصوف متلاشية بالنسبة إلى صفاته فقال : ( هو ) أي وحده ) السميع ) أي البليغ السميع لأقوالهم ) العليم ) أي المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم بما تقتضيه ، وهو تعليل لتفرده بالعزة لأنه تفرد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره ، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة والعزة : قدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام ، والمعنى أنه يعزك على من ناواك ، والنهي في ) ولا يحزنك ( في اللفظ للقول وفي المعنى للسبب المؤدي غلى التأذي بالقول ، وكسرت ( إن ) هاهنا للاستئناف بالتذكر بما ينفي الحزن ، لا لأنها بعد القول لأنها ليست حكاية عنهم ، وقرىء بفتحها على معنى ( لأن ) .
ولما ختمت بعموم سمعه وعلمه بعد قصر العزة عليه ، كان كأنه قيل : إن العزة لا تتم إلاّ بالقدرة فأثبت اختصاصه بالملك الذي لا يكون إلاّ بها ، فقال مؤكداً لما يستلزمه إشراكهم من الإنكار لمضمون هذا الكلام : ( ألآ إن الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ؛ ولما كان بعض الناس قد أشركوا ببعض النجوم ، جمع فقال معبراً بأداة العقلاء تصريحاً بما افهمه التعبير سابقاً بأداة غيرهم : ( من في السماوات ) أي كلها ، وابتدأ بها لأن ملكها يدل علىملك الأرض بطريق الأولى ، ثم صرح بها في قوله مؤكداً لما تقدم : ( ومن في الأرض ) أي كلهم عبيده ملوكهم ومن دونهم ، نافذ فيهم تصريفه ، منقادون لما يريده ، وهو أيضاً تعليل ثان لقوله ) ولا يحزنك قولهم ( أو للتفرد بالعزة ، وعبر ب ( من ) التي للعقلاء والمراد كل ما في الكون لأن السياق لنفي العزة عن غيره ، والعقلاء بها أجدر ، (3/462)
صفحة رقم 463
فنفيها عنهم نفي عن غيرهم بطريق الأولى ، ثم غلبوا لشرفهم على غيرهم ، ولذا تطلق ( ما ) التي هي لغيرهم في سياق هو بها أحق ثم يراد بها العموم تغليباً للأكثر الذي لا يعقل على الأقل ؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك شريك بقوله عاطفاً على ما تقديره : فما له شريك مما ادعاه المشكرون منهما أو من إحداهما : ( وما يتبع ) أي بغاية الجهد ) الذين يدعون ) أي على سبيل العبادة ) من دون الله ) أي الذي له العظمة كلها ) شركآء ( على الحقيقة ؛ ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة تحقيراً للشركاء بالتعبير بأداة ما لا يعقل ومعطوفه على ( من ) ) إن ( اي ما ) يتبعون ( في ذلك الذي هو أصل أصول الدين يجب فيه القطع وهو دعاءهم له شركاء ) إلاّ الظن ) أي المخطىء على أنه لو كان صواباً كانوا مخطئين فيه حيث قنعوا في الأصل بالظن ، ثم نبه على الخطأ بقوله : ( وإن ( اي وما ) هم إلاّ يخرصون ) أي يحزرون ذلك ويقولون ما لا حقيقة له أصلاً ؛ والاتباع : طلب اللحاق بالأول على تصرف الحال ، فهؤلاء اتبعوا الداعي إلى عبادة الوثن وتصرفوا معه فيما دعا إليه ، وظنهم في عبادتها إنما هو بسبيهة ضعيفة كقصد زيادة التعظيم لله وتعظيم تقليد الأسلاف ، ويجوز أن يكون ) شركاء ( مفعولاً تنازعه ) يتبع ( و ) يدعون ( ؛ ثم اثبت سبحانه اختصاصه بشيء جامع للعلم والقدرة تأكيداً لاختصاصه بالعزة وتفرده بالوحدانية ، وأن من أشرك به خارص لا علم له بوجه لكثرة الدلائل على وحدانيته ووضوحها فقال : ( هو ) أي وحده ) الذي جعل ) أي بسبب دوران الأفلاك الذي أتقنه ) لكم ) أي نعمة منه ) الّيل ) أي مظلماً ) لتسكنوا فيه ( راحة لكم ودلالة على درته سبحانه على الإيجاد والإعدام وأُنساً للمحبين لربهم ) والنهار ( وأعار السبب وصف المسبب فقال : ( مبصراً ) أي لتنتشروا فيه ، حذف وصف الليل وذكرت علته عكس ما فعل بالنهار ليدل على ما حذف ، فالآية من الاحتباك .
ولما كانت هذه الآيات من الظهور بحيث لا يحتاج إلى أكثر من سماعها ، قال : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم ) لآيات لقوم ( اي لهم قوة المحاولة على ما يريدونه ) يسمعون ( اي لهم سمع صحيح ، وفي ذلك ادلة واضحات على أنه مختص بالعزة فلا شريك له ، لأن الشريك لا بد وأن يقاسم شريكه شيئاً من الأفعال أو الأحوال أو الملك ، وأما عند انتفاء جميع ذلك فانتفاء الشركة أوضح من أن يحتاج فيه إلى دليل ، ويجوز أن يكون المعنى : لآيات لقوم يبصرون إبصاراً اعتبار ويسمعون سماع تأمل وإدكار ، ولكنه حذف ( يبصرون ) لدلالة ) مبصراً ( عليه ، ويزيد ذلك وضوحاً وحسناً كون السياق لنفي الشركاء ، فهو إشارة إلى أنها لا تسمع ولا تبصر أصلاً فكيف بالاعتبار والافتكار ؟ فالذين عبدوهم أكمل حالاً منهم .(3/463)
صفحة رقم 464
يونس : ( 68 - 73 ) قالوا اتخذ الله. .. . .
) قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( ( )
ولما لم يكن شبهة على ادعاء الولد لله سبحانه ولا لهم اطلاع عليه بوجه ، ساق قوله : ( قالوا اتخذ ( اي تكلف الأخذ بالتسبب على ما نعهد ) الله ) أي المسمى بهذا الاسم الذي يقتضي تسميته به أن يكون له الكمال كله ، فلا يكون محتاجاً إلى شيء بوجه ) ولداً ( مساق البيان لقوله ) إن يتبعون إلاّ الظن ( وهذا صالح لأن يكون نعجيباً ممن ادعى في الملائكة أو عزيز أوا لمسيح وغيرهم .
ولما عجب منهم في ذلك لمنافاته بما يدل عليه من النقص لما ثبت لله تعالى من الكمال كما مرّ ، نزه نفسه الشرية عنه فقال : ( سبحانه ( اي تنزه عن كل شائبة نقص التنزه كله ؛ ثم علل تنزهه عنه وبينه بقوله : ( هو ( اي وحده ) الغني ) أي عن الولد وغيره لأنه فرد منزه عن الإبعاض والأجزاء والمجانسة ؛ ثم بين غناه بقوله : ( له ما في السماوات ( ولما كان سياق الاستدلال يقتضي التأكيد ، أعاد ( ما ) فقال : ( وما في لأرض ( من صامت وناطق ، فهو غني بالملك ذلك عن أن يكون شيء منه ولداً له لأن الولد لايملك ، وعدم ملكه نقص مناف للغنى ، ولعله عبر ب ( ما ) لأن الغني محط نظره الصامت مع شمولها للناطق .
ولما بين بالبرهان القاطع والدليل الباهر امتناع أن يكون له ولد ، بكتهم بنفي أن يكون لهم بذلك نوع حجة فقال : ( إن ) أي ما ) عندكم ( وأغرق في النفي فقال : ( من سلطان ) أي حجة ) بهذا ) أي الاتخاذ ، وسميت الحجة سلطاناً لاعتلاء يد المتمسك بها ؛ ثم زادهم بها تبكيتاً بالإنكار علهيم بقوله : ( أتقولون ) أي على سبيل التكرير ) على الله ) أي الملك الأعظم على سبيل الاستعلاء ) ما لا تعلمون ( لأن ما لا(3/464)
صفحة رقم 465
برهان عليه في الأصول فهو جهل ، فكيف بما قام الدليل على خلافه ؛ والسلطان : البرهان القاهر لأنه يتسلط به على صحة الأمر ويقهر به الخصم ، وأصله القاهر للرعية بعقد الولاية .
ولما قدم قولهم كذب ، وبكتهم عليه مواجهة ، أتبعه بما يشير إلى أنهم أهل للإعراض في سياق مهدد على الكذب ، فقال معرضاً عن خطابهم مؤكداً لأن اجتراءهم على ذلك دال على التكذيب بالمؤاخذة عليه : ( قل ) أي للذين ادعوا الولد لله وحرموا ما رزقهم من السائبة ونحوها ) إن الذين يفترون ( اي يتعمدون ) على الله ) أي الملك الأعلى ) الكذب لا يفلحون ( ثم بين عدم الفلاح بقوله : ( متاع ) أي لهم ، ونكره إشارة إلى قلته كما قال في الآية الأخرى ( متاع قليل ) وأكد ذلك بقوله : ( في الدنيا ( لأنها دار ارتحال ، وما كان إلى زوال وتلاش واضمحلال كان قليلاً وإن تباعد مدّه وتطاولت مُدَده وجل مَدَده ، وزاد على الحصر عَدده ؛ وبين حالهم بعد النقلة بقوله : ( ثم ) أي بعد ذلك الإملاء لهم وإن طال ) إلينا ) أي على ما لنا من العظمة لا إلى غيرنا ) مرجعهم ( بالموت فنذيقهم عذاباً شديداً لكنه دون عذاب الآخرة ) ثم نذيقهم ( يوم القيامة ) العذاب الشديد بما ) أي بسبب ما ) كانوا ) أي كوناً هو جبلة لهم ) يكفرون ( ووجب كسر ( إن ) بعد القول لأنه حكاية عما يستأنف الإخبار به فعل في لام الابتداء لذلك .
ولما تقدم سؤالهم الإتيان بما يقترحون من الآيات ، ومضت الإشارة إلى أن تسييرهم في الفلك من أعظم الآيات وإن كانوا لإلفهم له قد نسوا ذلك ، وتناسجت الآي كما سلف إلى أن بين هذا أن متاع المفترين الكذبَ قليل تخويفاً من شديد السطوة وعظيم الأخذ ، عقب ذلك بقصة قوم نوح لأنهم كانوا أطول الأمم الظالمة مدة وأكثرهم عدة ، ثم أخذوا أشد أخذ فزالت آثارهم وانطمست اعلامهم ومنارهم فصاروا كأنهم لم يكونوا أصلاً ولا أظهروا قولاً ولا فعلاً ، فقال تعالى عاطفاً على قوله ) قل إن الذين ( مسلياً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه رضي الله عنهم لأن المصيبة إذا عمت خفت ، وتخويفاً للكفار ليرجعوا أو يحفوا من أذاهم : ( واتل ) أي اقرأ قراءة متتابعة مستعلية ) عليهم نبأ نوح ) أي خبره العظيم مذكراً بأول كون الفلك وأنه كان إذ ذاك آية غريبة خارقة للعادة عجيبة ، وأن قوم نوح لم ينفعهم ذلك ولا أغنى عنهم افتراءهم وعنادهم مع تطاول الأمد وتباعد المدد ، بل صار أمرهم إلى زوال ، وأخذ عنيف ونكال
77 ( ) كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعاوفون بينهم ( ) 7
[ يونس : 45 ] مع نجاة رسولهم وخيبة مأمولهم ، قد لبث فيهم ما لم يلبثه نبي في قولهم ولا رسلو في أمته ألف سنة إلاّ خمسبن عاماً ، وما آمن معه إلاّ قليل ) إذ قال لقومه ) أي بعد أن دعاهم إلى الله فأطال دعاءهم ومتعوا في الدنيا كثيرا(3/465)
صفحة رقم 466
وأملى لهم طويلاً فما زادهم ذلك إلا نفوراً ) يا قوم ) أي يا من يعز عليّ ويشق عليّ ما يسوءهم لتهاونهم بحق ربهم مع قوتهم على الطاعة ) إن كان كبر ) أي شق وعظم مشقة صارت جبلة عليكم ) عليكم ( ولما كانت عادة الوعظ والخطباء أن يكونوا حال الخطبة واقفين ، قال : ( مقامي ( اي قيامي ، ولعله خص هذا المصدر لصلاحيته لموضع القيام وزمانه فيكون الإخبار بكراهيته لأجل ما وقع فيه من القيام أدل علىكراهة القيام ) وتذكيري ( اي بكم ) بآيات الله ) أي الذي له الجلال والإكرام ، فإن ذلك لا يصدني عن مجاهدتي بما يكبر عليكم من ذلك خوفاً منكم لأن الله أمرني به وأنا أخاف عذابه إن تركت ، ولا أبالي بكراهيتكم لذلك خوف عاقبة ثصدقكم اي بالأذى ) فعلى ) أي فإني على ) الله ( اي الذي له العزة كلها وحده ) توكلت ( فإقامة ذلك المقام الجزاء من إطلاق السبب - الذي هو التوكل - على المسبب - الذي عو انتفاء الخوف - مجازاً مرسلاً ، إعلاماً لهم بعظمة الله وحقارتهم بسبب أنهم أعرضوا عن الآيات وهم يعرفونها ، بما دل عليه التعبير بالتذكير ، فدل ذلك على عنادهم بالباطل ، والمبطل لا يخشى أمره لأن الباطل لا ثبات له ، ودل على ذلك بقوله : ( فأجمعوا أمركم ) أي في أذاي بالإهلاك وغيره ، أهزموا على أنه لا يخافهم وإن شركاءهم أحياء كائنين من كانوا وكانت كلمتهم واحدة لا فرقة فيها بوجه .
ولما كان الذي ستستر بالأمور بما يفوته بعض المقاصد لاشتراط التستر ، أخبرهم أنه لا يمانعهم أبدوا أو أخفوا فقال : ( ثم لا يكن ) أي بغعد التأبي وطول زمان المجاوزة في المشاورة ) أمركم ) أي الذي تقصدونه بي ) عليكم غمة ) أي خفياً يستتر عليكم شيء منه بسبب ستر ذلك عني لئلا أسعى في معارضتكم ، فلا تفعلوا ذلك بل جاهروني به مجاهرة فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السر والعلانية ؛ والتعبير ب ) ثم ( إشارة إلى التأني وإتقان الأمر للأمان من معارضته بشيء من حول منه أو قوة ) ثم اقضوا ( ما تريدون ، أي بتوه بتة المقضي إليه واصلاً ) إلي ( .
ولما كان ذلك ظارهاً في الإنجاز وليس صريحاً ، صرح به في قوله : ( ولا تنظرون ) أي ساعة ما ، وكل ذلك لإظهار قلة المبالاة بهم للاعتماد على الله لأنه لا يعجزه شيء ومعبوداتهم لا تغني شيئاً ؛ ثم سبب عن ذلك قوله : ( فإن توليتم ( ي كلفتم أنفسكم الإعراض عن الحق بعد عجزكم عن إهلاكي ولم ينفعكم علمكم بأن(3/466)
صفحة رقم 467
الذي منعني - وأنا وحدي - منكم وأنتم ملء الأرض له العزة جميعاً وأن من أوليائه الذين تقدم وعده الصادق بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) فما ) أي فلم يكن توليكم عن تفريط مني لأني سقت الأمر على ما يحب ، ما ) سألتكم ) أي ساعة من الدهر ، وأغرق في النفي فقال : ( من أجر ) أي على دعائي لكم يفوتني بتوليكم ولا تتهموني به في دعائكم .
ولما كان من المحال أن يفعل عاقل شيئاً لا لغرض ، بين غرضه بقوله مستأنفاً : ( إن ) أي ما ) أجري إلا على الله ( اي الذي له صفات الكمال ؛ ثم عطف عليه غرضاً آخر وهو اتباع الأمر خوفاً من حصول الضر فقال : ( وأمرت ) أي الملك الأعلى الذي لا أمر لغيره ، وبناه للمفعول للعمل بأنه هو الآمر وليزيد في الترغيب في المأمور به وتغطية بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال ) أن أكون ) أي كوناً أتخلق به فلا أنفك عنه ؛ ولما كان في مقام الاعتذار عن مفاجأته لهم بالإنذار ، عبر بالإسلام الذي هو الأفعال الظاهرة فقال : ( من المسلمين ) أي الراسخين في صفة الانقياد بغاية الإخلاص ، لي ما لهم وعليّ ما عليهم ، أنا وهم في الإسلام سواء ، لا مرية لي فيه أتهم بهام أن أستسلم لكل ما يصيبني في الله ، لا يردني ذلك عن إنفاذ أمره ، والحاصل أنه لم يكن بدعائه إياهم في موضع تهمة ، لا سألهم غرضاً دنيوياً يزيده إن أقبلوا ولا ينقصه إن أدبروا ، ولا أتى بشيء من عند نفسه ليظن أنه أخطأ فيه ولا سلك به مسلكاً يظن به استعباده إياهم في اتباعه ، بل أعملهم بأنه أول مؤتمر بما أمرهم به مستسلم لما دعاهم إليه ولكل ما يصيبه في الله ، ولما لم يردهم كلامه هذا عن غيهم ، سبب عنه قوله مخبراً بتماديهم : ( فكذبوه ) أي ولم يزدهم شيء من هذه البراهين الساطعة والدلائل القاطعة إلا إدباراً ، وكانوا في آخر المدة على مثل ما كانوا عليه من التكذيب ) فنجيناه ) أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة الباهرة بسبب امتثاله لأوامرنا وصدق اعتماده علينا ) ومن معه ) أي من العقلاء وغيرهم ) في الفلك ( كما وعدنا أولياءنا ، وجعلنا ذلك آية للعالمين ) وجعلناهم ) أي على ضعفهم بما لنا من العظمة ) خلائف ) أي في الأرض بعد من أغرقناهم ، فمن فعل في الطاعة فعلهم كان جديراً بأن نجازيه بما جازيناهم ) وأغرقنا ) أي بما لنا من كمال العزة ) الذين كذبوا ( اي مستخفين مستهينين ) بآياتنا ( كما توعدنا يفترون على الله الكذب .
ولما كان هذا أمراً باهراً يتعظ به من له بصيرة ، سبب عنه أمر أعلى الخلق فهما بنظره إشارة إلى أنه لا يعتبر به حق الاعتبار غيره فقال : ( فانظر ( وأشار إلى أنه أهل لأن يبحث عن شأنه بأداة الاستفهام ، وزاد الأمر عظمة بذكر الكون فقال : ( كيف كان ((3/467)
صفحة رقم 468
أي كوناً كان كأنه جبلة ) عاقبة ) أي آخر أمر ) المنذرين ) أي الغريقين في هذا الوصف وهم الذين أنذرتهم الرسل ، فلم يكونوا أهلاً للبشارة لأنهم لم يؤمنوا لنعلم أن من ننذرهم كذلك ، لا ينفع من أردنا شقاوته منهم إنزال آية ولا إيضاح حجة ؛ والتوكل : تعمد جعل الأمر إلى من يدبره للتقدير في تدبيره ؛ والغمة : ضيق الأمر الذي يوجب الحزن ؛ والتولي : الذهاب عن الشيء ؛ والأجر : النفع المستحق بالعمل ؛ والإسلام الاستسلام لأمر الله بطاعته بأنها خير ما يكتسبه العباد .
يونس : ( 74 - 78 ) ثم بعثنا من. .. . .
) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما لم يكن في قصص من بينه وبين موسى عليهم السلام مما يناسب مقصود هذه السورة إلا ما شاركوت فيه قوم نوح من أنهم لم تنفع الآيات من أريدت شقاوته منهم ، ذكره سبحانه طاوياً لما عداه فقال تعالى : ( ثم ) أي بعد مدة طويلة ) بعثنا ) أي على عظمتنا ؛ ولما كان البعث لم يستغرق زمان البعد ، أدخل الجالر فقال : ( من بعده ) أي قوم نوح ) رسلاً ( كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام .
ولما كان ربما ظن أن قوم الإنسان لا يكذبونه ، وإن كذبوه لم يتمادوا على التكذيب ) فجاءوهم ) أي فتسبب عن استنادهم إلى عظمتنا أن جاؤوهم ) بالبينات ( لزيزول تكذيبهم فيؤمنوا ) فما ) أي فتسبب عن ذلك ضد ما أمروا له وقامت دلائله وهو أنهم ما ) كانوا ) أي بوجه من وجوه الكون ) ليؤمنوا ) أي مقرين ) بما كذبوا ) أي مستهنين ) به ( أول ما جاؤوهم .
ولما كان تكذبيهم في بعض الزمن الماضي ، أدخل الجار فقال : ( من قبل ) أي قبل مجيء البينات لأنا طبعنا على قلوبهم ؛ قال أبو حيان : وجاء النفي مصحوباً بلام الحجود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع - انتهى .
ويجوز أن يكون التقدير : من قبل مجيء الرسل إليهم ، ويكون التكذيب أسند إليهم لأن أباهم كذبوا لما بدلوا ما كان عندهم من الدين الصحيح الذي أتتهم به الرسل ورضوا هم بما أحدث آاؤهم استحساناً له ، أو لأنه كان بين(3/468)
صفحة رقم 469
أظهرهم على بقايا مما شرعته الرسل فكانوا يعظونهم فيما يبتدعون فلا يعون ولا يسمعون كما كان قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهم قبل لعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لكن المعنى الأول أولى - والله أعلم .
ولما قرر عدم انتفاعهم بالآيات ، بنى ما يليه على سؤاله من لعله يقول : هل استمر الخلق فيمن بعدهم ؟ فكأنه قيل : نعم ) كذلك ) أي مثل ما طبعنا على قلوبهم هذا الطبع العظيم ) نطبع ) أي نوجد الطبع ونجدده متى شئنا بما لنا من العظمة ) على قلوب المعتدين ( في كل زمن لكل من تعمد العدو فيما لا يحل له ، وهذا كما أتى موسى عليه السلام إلى فرعون فدعاه إلى الله فكذبه فأخبره أن معه آية تصدقه فقال له : إن كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين ، فلما أتاه بها استمرعلى تكذبيه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً ، وكان فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء ، فطمست أمواله وآثاره ، وبقيت أحاديثه وأخباره ، ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال : دالاً على الطبع : ( ثم بعثنا ) أي وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا ، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال : ( من بعدهم ) أي من بعد أولئك الرسل ) موسى و ( كذا بعثنا ) هاورن ( تأييداً له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه ؛ ولما استقر في الأذهان بما مضى أن ديدن الأمم تكذيب نم هو منهم حداً له ونفاسة عليه .
كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر على غير ذلك ، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب ، فقال مقدماً لقوله : ( إلى فرعون وملائه ) أي الأشراف من قومه ، فإن الأطراف تبع لهم ) بآياتنا ) أي التي لا تكتنه عظمتها لنسبتها إلينا ، فطبعنا على قلوبهم ) فاستكبروا ) أي طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعثه غليهم عقب ذلك ) وكانوا ) أي جبلة وطبعاً ) قوماً مجرمين ( اي طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه ، فلذلك اجترؤوا على الاستكبار مع ما فيها أيضاً من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين ) هذا سحر مبين ( في نسبة موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطية لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار ، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبته ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق ، وأنه لم ينفع أحداً من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات ، بل ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة ، ثم اتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حسبهم عراه ، وتلاشت من تجبره قواه ، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال ، ودخل في طلبهم البحر بحزات لا يقرب ساحتها الأبطال ، لما قدره عليه ذو الجلالن ولم(3/469)
صفحة رقم 470
يؤمن حتى أتاه الباٍ حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط الإيمان ، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة موسى عليه السلام ، ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام على منهاج واحد .
فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم ، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها ، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد ، ومع ذلم فلم يصدقن من حكم القدير بشقاوته ، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم ، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم ، فمهما أمر به قبل ، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره با ؛ سن التدبير وتقدره ألطف المقادير ؛ ولما أخبر سبحلنه باستكبارهم ، بين أنه تسبب عنه طعنهم في معجزاته من غير تأمل ، بل بغاية المبادرة والإسراع بما أشعرت به الفاء والسياق ، فقال تعالى : ( فلما جاءهم ( اي فرعون وملؤه ) الحق ) أي البالغ في الحقية ، ثم زاد في عظمته بقوله : ( من عندنا ) أي على ما لنا من العظمة التي عرفوا بها أنه منا ، لا من الرسولين ) قالوا ( اي غير متأملين له ولا ناظرين في أمره بل عناداً ودلالة على استكبراهم مؤكدين لما علموا من تصديق الناس به ) إن هذا لسحر مبين ( كما قال الناس الذين أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما إبانه من البعث .
فلما قالوا ذلك أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما إبانه من البعث .
فلما قالوا ذلك كان كأنه قيل : فماذا أجابهم ؟ فأخبر أنه أنكر عليهم ، بقوله : ( قال موسى ( ولما كان تكريرهم لذلك القول أجدر بالإنكار ، عبر بالمضارع الدال على أنهم كرروه لينسخوا ما ثبت في قلوب الناس من عظمته ) أتقولون للحق ( ونبه هذا القول الذي قلتموه وهو أنه سحر ، فإن القول يطلق على المكروه ، تقول : فلان قال في فلان ، اي ذمه ، وفلان يخاف القاة ، وبين الناس تقاول ؛ ثم كرر الإنكار بقوله : ( أسحر هذا ) أي الذي هو في غاية الثبات والمخالفة للسحر في جميع الصفات حتى تقولون فيه ذلك .
فالآية من الاحتباك : ذكر القول في الأول دال على حذف مثله في الثاني ، وذكر السحر الثاني دال على حذف مثله في الأول .
ولما كان التقدير : أتقولون هذا والحال أنكم قد رأيتم فلاحه ، بين عليه قوله : ( ولا يفلح ) أي يظفر بما يريد في وقت من الأوقات ) الساحرون ) أي العريقون فيه لأن حاصل أمرهم تخييل وتمويه في الأباطيل ، فالظفر بعيد عنهم ، ويجوز أن تجعل هذه الجملة معطوفه على قوله : ( أسحر هذا ( لأنه إنكاري بمعنى النفي ، فلما أنكر عليهم عليه السلام ما ظهر به الفرق الجلي بين ما أتى به في ونه أثبت الأشياء وبين السحر ، (3/470)
صفحة رقم 471
لأنه لا ثبات له أصلاً ، عدلوا عن جوابه إلى الإخبار يما يتضمن أنهم لا يقرون بحقيته لأنه يلزم عن ذلك ترك ما هم عليه من العلو وهم لا يتركونه ، وأوهموا الضعفاء أن مراده عليه السلام الاستكبار معللين لاستكبارهم عن اتباعه بما دل على أنهم لا مانع أنهم منه إلا الكبر ، فقال تعالى حكاية عنهم : ( قالوا ( اي منكرين عليه معللين بأمرين : التقليد ، والحرص على الرئاسة .
ولما كان هو الأصل في الرسالة .
وكان أخوه له تبعاً ، وحدوا الضمير فقالوا : ( أجئنا ( اي أنت يا موسى ) لتلفتنا ) أي لتقتلنا وتصرفنا ) عما وجدنا عليه ( وقالوا مستندين إلى التقليد غير مستحيين من نترك الدليل ) آباءنا ( من عبادة الأصنام والقول بالطبيعة لنقل نحن بذلك ) ويكون لكما ( اي لك أنت ولأخيك دوننا ) الكبرياء ) أي بالملك ) في الأرض ) أي ارض مصر التي هي - لما فيها من المنافع - كأنها الأرض كلها ) وما ) أي وقالوا أيضاً : ما ) نحن لكما ( وبالغوا في النفي وغلب عليهم الدهش فعبروا بما دل على أنهم غلبهم الأمر فعرفوا أنه صدق ولم يذعنوا فقالوا : ( بمؤمنين ( اي عريقين في الإيمان ، فهو عطف على ) أجئتنا ) أي قالوا ذاك وقالوا هذا ، أو يكون عطفاً على نحو : فما نحن بموصليك إلى هذا الغرض ، افردوه أولاً بالإنكار عليه في المجيء ليضعف ويكف أخوه عن مساعدته ، واشركوه معه ثانياً تأكيداً لذلك الغرض وقطعاً لطمعه ؛ والبعث : الإطلاق في أمر يمضي فيه ، وهو خلاف الإطلاق من عقال ؛ والملأ : الجماعة الذين هم وجوه القبيلة ، لأن هيبتهم تملأ الصدور عند منظرهم ؛ والاستكبار : طلب الكب من غير استحقاق ؛ والمجرم من اكتسب سيئة كبيرة ، من جرم التمر - إذا قطعه ، فالجرم يوجب به البيان في خفاء السبب ؛ والحق : ما يجب الحمد عليه ويشتد دعاء الحكمة إليه ويعظم النفع به والضرر بتركه ؛ والكبياء : استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب ، وهي صفة مدح لله وذم للعباد لأنها منافية لصفة العبودية .
يونس : ( 79 - 83 ) وقال فرعون ائتوني. .. . .
) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ( ( )
ولما لبسوا بوصفه بما هم به متصفون ، أرادوا الزيادة في التلبيس بما يوهم أن ما(3/471)
صفحة رقم 472
أتى به سحر تمكن معارضته إيقافاً للناس عن تباعه ، فقال تعالى حكاية عطفاً على قوله : ( قالوا أجئتنا ( : ( وقال فرعون ( إرادة المناظرة لما أتى به موسى عليه السلام ) ائتوني بكل ساحر عليم ( اي بالغ في علم السجر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخير البعض ، وقرءة حمزة والكسائي بصيغة فعال دالة على زيادة لزعمه أقل من سياق الشعراء كما مضى في الأعراف .
ولما كان التقدير : فامتثلوا أمره وجمعوهم ، دل على قرب اجتماعهم بالفاء في قوله : ( فما جاء السحرة ( اي كل من في أرض مصر منهم ) قال لهم موسى ( مزيلاً لهذا الإيهام ) ألقوا ( جميع ) ما أنتم ملقون ( اي راسخون في صنعه إلقائهن إشارة غلى أن ما جاؤوا به ليس اهلاً لأن يلقى إليه بال ) فلما ألقوا ) أي وقع منهم الإلقاء بحبالهم وعصيهم على إثر مقالاته وخيلوا بسحرهم لعيون الناس ما زلزل عقولهم ) قال موسى ( منكراً عليهم ) ما جئتم به ( ثم بين انه ما استفهم ايضاً سواء قطعت الهمزة ومدت كما في قراءة أبي عمرو وأبي جعفر أوجعلت همزة وصل كما في قراءة الباقسن ، فإن همزة الاستفهام مقدرة ، والعريف إما للعهد وإما للحقيقة وهو أقرب ، ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون خبراً لما يقصد به الحصر ، اي هو السحر لا ما نسبوتموه إليّ ؛ ثم استأنف بيان ما حقره به فقال : ( إن الله ) أي الذي له إحاطة العلم والقدرة ) سيبطله ) أي قريب بوعد لا خلف فيع ؛ ثم علل ذلك بما بين أنه فساد فقال : ( إن الله ) أي الذي له الكمال كله ) لا يصلح ) أي وفي وقت من الأوقات ) عمل المفسدين ( اي العريقين في الفساد بأن لا ينفع بعملهم ولا يديمه ؛ ثم عطف عليه بيان إصلاحه عمل المصلحين فقال : ( ويحق ( اي يثبت إثباتاً عظيماً ) الله ) أي الملك الأعظم ) الحق ) أي الشيء الذي له الثبات صفة لازمة ؛ ولما كان في مقام تحقيرهم ، دل على ذلك بتكرير الاسم الجامع الأعظم .
وأشار غلى ما له من الصفات العلى بقوله : ( بكلماته ) أي الأزلية التي لها ثبات الأعظم ، وزاد في العظمة بقوله : ( ولو كره المجرمون ( ايالعريقون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ، فكان كما قال عليه السلام بط سحرهم ، واضمحل مكرهم ، وحق - كما بين في سورة الأعراف .
ولما حكى سبحانه أن موسى عليه السلام أبان ما أبان من بطلان السحر وكونه غفساداً ، فثبت ما أتى به لمخالفته له ، أخبر تعالى - تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفطماً عن طلب الإجابة للمقترحات - أنه ما تسبب عن ذلك في أول الأمر عقب إبطال سحرهم من غير مهلة إلا إيمان ناس ضعفاء غير كثير ، فقال تعالى : ( فما آمن ) أي متبعاً ) لموسى ( أي(3/472)
صفحة رقم 473
بسبب ما فعل ، ليعلم أن الآيات ليست سبباً إلا لمن أردنا ذلك منه ؛ وبين أن الصغار أسرع إلى القبول بقوله : ( إلا ذرية ) أي شبانهم هم أهل لأن تذر فيهم البركة ) من قومه ( اي قوم موسى الذين لهم القدرة على القيام في المحاولة لما يريدونه ، والظاهر أنهم كانوا أيتاماً وأكثرهم - كما قاله مجاهد ) على خوف ) أي عظيم ) من فرعون وملائهم ( اي أشراف قوم الذرية ؛ ولما كان إنكار الملأ إنما هو بسبب فرعون ان يسلبهم رئاستهم ، انحصر الخوف فيه فأشار إلى ذلك بوحدة الضمير فقال : ( أن يفتنهم ( وأتبعه ما يوضح عذرهم بقوله مؤكداً تنزيلاً لقريش منزلة من يكذب بعلو فرعون لتكذيبهم لأن ينصر عليهم الضعفاء من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعلوهم : ( وإن فرعون لعال ) أي غالب قاهر متمكن بما فتناه به من طاعة الناس له ) في الأرض ( اي ارض مصر التي هي بكثرة ما فيها من المرافق كأنها جميع الأرض ) وإنه لمن المسرفين ) أي العريقين في مجاوزة الحدود بظاهره وباطنه ، وإذا ضممت هذه الآية إلى قوله تعالى : ( ) وإن المسرفين هم أصحاب النار ( ) [ غافر : 43 ] كان قياساً بديهياً منتجاً إنتاجاً صريحاً قطعياً أن فرعون من أصحاب النار ، تكذبياً لأهل الوحدة في قولهم : إنه آمن ، ليهونوا المعاصي عند الناس فيحلوا بذلك عقائد أهل الدين .
يونس : ( 84 - 87 ) وقال موسى يا. .. . .
) وَقَالَ مُوسَى يقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما ذكر خوفهم وعذرهم ، اتبعه ما يوجب طمأنينتهم ، وهوا لتوكل على الله الذي من راقبه تلاشى عنهد كل عظيم ، فقال : ( وقال موسى ( اي لمن آمن به موطناً لهم على أن الجنة لا تنال إلا بمشقة عظيمة ( يبتلي الناس على قدر إيمانهم ) ) يا قوم ( فاستعطفهم بالتذكير بالقرب وهوزهم إلى المعالي به فيهم من القوة ثم هيجهم وألهبهم على الثبات بقوله : ( إن كنتم ) أي كوناً هو في ثباته كالخلق الذي لا يزول ) آمنتم بالله ( وثبتهم بذكر الاسم الأعظم وما دل عليه من الصفات ، واجاب الشرط بقوله : ( فعليه ((3/473)
صفحة رقم 474
أي وحده لما علمتم من عظمته التي لا يداينها شيء سواه ) توكلوا ( وليظهر عليكم أثر التوكل من الطمأنينة والثبات والسكينة ) إن كنتم ) أي كوناً ثابتاً ) مسلمين ( جامعين إلى تصديق القلب إذعان الجوارح ؛ وجواب هذا الشرط ما دل عليه الماضي من قوله : ( فعليه توكلوا ( ) فقالوا ) أي على الفور كما يقتضيه الفاء ) على الله ) أي الذي له العظمة كلها وحده ) توكلنا ) أي فوضنا أمورنا كلها إليه ) ربنا ) أي ايها الموجد لنا المحسن إلينا ) لا تجعلنا فتنة ( اي موضع مخالطة بما يميل ويحيل ) للقوم الظالمين ( اي لا تصبنا أنت بما يظنون له تهاونك بنا فيزدادوا نفرة عن دينك لظنخك أنا على الباطل ولا تسلطهم علينا مما يفتننا عن ديينا فيظنوا أنهم على الحق ) ونجنا برحمتك ( اي إكرامك لنا ) من القوم ) أي الأقوياء ) الكافرين ) أي العريقين في تغطية الأدلة ، وفي دعائهم هذا إشارة إلى أن أمر الدين أهم من أمر النفس .
ولما أجابوه إلى إظهار الاعتماد عليه سبحانه وفوضوا الأمور إليه ، أتبعه ما زيدهم طمأنينة من التوطن في أرض العدو إشارة إلى عدم المبالاة به ، لأنه روي أنه كانت لهم متعبدات يجتمعون فيها ، فلما بعث موسى عليه السلام أخربها فرعون ، فأمر الله تعالى أن تجعل في بيوتهم لئلا يطلع عليهم الكفرة فقال تعالى عاطفاً على قوله : ( وقال موسى ( ) وأوحينا ) أي بما لنا من العظمة البالغة ) إلى موسى وأخيه ) أي الذي طلب مؤازرته ومعارضته ) أن تبوءا ) أي اتخذا ) لقومكما بمصر ( وهي ما بين البحر إلى أقصى أسوان والإسكندرية منها ) بيوتاً ( تكون لهم مرجعاً يرجعون إليه ويأوون إليه ) واجعلوا ) أي أنتما ومن معكما من قومكما ) بيوتكم قبلة ) أي مصلى لتتعبدوا فيها مستترين عن الأعداء تخفيفاً من أسباب الخلاف ) وأقيموا الصلاة ) أي بجميع حدودها وأركانها مستخفين ممن يؤذيكم جمعاً بين آلتي النصر : الصبر والصلاة ، وتمرناً على الدين وتثبيتاً له في القلب .
ولما كان الاجتماع فيما تقدم أضخم وأعز وأعظم ، وكان واجب على الأمة كوجوبه على الإمام جمع فيه ، وكان إسناده البشارة عن الملك إلى صاحب الشريعة أثبت لأمره وأظهر لعظمته وأثبت في قلوب أصحابه وأقر لأعينهم ، أفرد في قوله : ( وبشر المؤمنين ( اي الراسخين في الإيمان من أخيك وغيره .
يونس : ( 88 - 89 ) وقال موسى ربنا. .. . .
) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( ( )(3/474)
صفحة رقم 475
ولما ختم ببشارة من دل على إيمانهم إسلامهم بفعل ما يدل على هوان أمر العدو ، وكان هلاك المشانىء من أعظم البشائر ، وكان ضلال فرعون وقومه بالزينة والمال إضلالاً لغيرهم ، سأل موسى عليه السلام إزاله ذلك كله للراحة من شره ، فقال تعالى حاكياً عنهك ) وقال موسى ) أي بعد طول دعائه لفرعون وإظهار المعجزات لديه وطول تكبره على أمر اله وتجبره على المستضعفين من عباده ، ولما كان من أعظم أهل الاصطفاء ، أسقط الأداة تسنناً بهم ، وأشار بصفة الإحسان إلى أن هلاك أعدائهم أعظم إحسان إليهم فقال : ( ربنا ( اي أيها المحسن إلينا ) إنك ( أكد لما للجهال من إنكار أن يكون عطاء الملك الأعظم سبباً للإهانة ) أتيت فرعون وملأه ) أي أشراف قومه على ما هم فيه من الكفر والكبر ) زينة ) أي عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما ) وأموالاً ) أي من الذهب والفضة وغيرهما ) في الحياة الدنيا ( روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت ؛ ثم بين غابتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم : ( ربنا ) أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا والمدبر لأمورنا ) ليضلوا ( في أنفسهم ويضلوا غيرهم ) عن سبيلك ) أي الطريق الواسعة التي نهجتها للوصول إلى رحمتك .
ولما بين أن مآلهم الضلال ، دعا عليهم فقال مفتتحاً أيضاً بالنداء باسم الرب ثالثاً لأن ذلك من أمارات الإجابة كما أُشير إليه في آخر آل عمران وإشارة إلى أنهم لا صلاح لهم بدون هلاكهم وهلاكها : ( ربنا اطمس ) أي أوقع الطمس وهوالتسوية بين المطموس وبين غيره مما ليس له نفعه ) على أموالهم ( .
ولما كان قد رأى منهم من التكبر على الله والتكذيب لآيانه والتعذيب لأوليائه ما لا يشفي غيظه منه إلا إدامة شقائهم دنيا وأخرى ، وكان عالماً بأن قدرة الله على إبقائهم على الكفر مع تحسيرهم بسلب المال كقدرته على ذلك باستدراجهم إليه بالمال ، قال : ( واشدد ( اي شداً ظاهراً لكل أحد - بما اشار إليه الفك مستعلياً ) على قلوبهم ( قال ابن عباس : اطبع عليها وامنعها من الإيمان ، وأجاب الدعاء بقوله : ( فلا يؤمنوا ) أي ليتسبب عنذلك الشد عدم إيمانهم إذا رأوا مبادىء العذاب الطمس ) حتى يروا ( اي بأعينهم ) العذاب الأليم ( حيث لا ينفعهم إذا الإيمان فيكونوا جامعين ذل النفوس المطلوب منهم اليوم ليفيدهم العز الدائم إلى شدة الغضب بوضع الشيء في غير موضعه المنتج لدواتم ذلهم بالعقاب ؛ وهذه الآية منبه على أن الرضى بكفر خاص لا يستلزم استحسان الكفر من حيث هو كفر ؛ قال الإمام الحليمي في كتاب شعب الإيمان المسمى(3/475)
صفحة رقم 476
بالمنهاج : وإذا تمنى مسلم كفر مسلم فهذت على وجهين : احدهما أن يتمناه له كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء يستحسنه فيحب أن يكون له فيه نصيب ، فهذا كفر لأن استحسان الكف كفر ، والآخر أن يتمناه له كما يتمنى لعدوه الشيء يستفظعه - فيجب أن يقع فيه ، فهذا ليس بكفر ، تمنى موسى صلوات الله عليه وسلامه بعد أن أجهده فرعون ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب ، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فلم ينكر تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك ، فمن كان في معناه فله حكمه ؛ وقد نقل ذلك عنه الزركشي في حرف الثاء من قواعده مرتضياص له ، ونقل عنه أيضاً أنه قال : ولو ان في قلب مسلم على كافر فاسلم فحزن المسلم لذلك وتمنى لو عاد إلى الكفر لا يكفر ، لأن استقباحه الكفر هو الذي حمله على تمنيه واستحسانه الإسلام هو الحالم لله على كراهته ؛ ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لو قتل عدو للإنسان ظلماً ففرح هل ياثم إن فرح بكونه عصى الله فيه فنعم ، وإن فرح بكونه خلص من شره فلا بأس لاختلاف سببي الفرخ - انتهتى .
ويؤيده ما روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن مقسم مرسلاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا عل عتبة بن أبي وقاص البيهقي يوم أحد حين كسر رباعيته ودمي وجهه فقال : ( اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً ) فما حال عليه الحول حتى مات كافراً غلى النار ، ومسألة أن الرضى بالكفر كفر نقلها الشيخان عن المتولي وسكتا عليها ، ولكن قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب : إن ذلم إفراط ، فما تقدم من التفصيل عن الحليمي وابن عبد السلام هوالمعتمدن والمسألة في أصل الروضة .
فإنه قال : لو قال لمسلم : سلبه الله الإيمان ، أو لكافر : رزقه الله الإيمان ، فليس بكفر لأنه ليس رضى بالكفر لكنه دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة ؛ قلت : ذكر القاضي حسين في الفتاوى وجهاً ضعيفاً أنه لو قال مسلم : سلبه الله الإيمان ، كفر - والله أعلم ، وحكى الوجهين عن القاضي في الأذكار وقال : إن الدعاء بذلك معصية .
يونس : ( 90 - 92 ) وجاوزنا ببني إسرائيل. .. . .
) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ( } )(3/476)
صفحة رقم 477
ولما أخبر سبحانه عن دعائه عليه السلام أخبر بإجابته بقوله مستأنفاً : ( قال ( ولما كان الموضع محل التوقع للإجابة ، افتتحه بحرفه فقال : ( قد أجيبت دعوتكما ( والبناء للمفعول أدل على القدرة وأوقع في النفس من جهة الدلالة على الفاعل بالاستدلال ، وثنى للإعلام بأن هارون عليه السلام مع موسى عليه السلام في هذا الدعاء ، لأنه معه كالشيء الواحد ا خلاف منه أصلاً وإن كان غائباً ، وذلك كما بايع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن عثمان رضي الله عنه في عمرة الحديبية فضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو غائب في حاجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكذا ضرب له في غزوة بدر بسهمه وأجره وكان غائباً .
ولما كانت الطاعة وانتظار الفرج وإن طال زمنه أعظم أسباب الإجابة ، سبب عن ذلك قوله : ( فاستقيما ) أي فاثبتا على التعبد والتذلل والخضوع لربكما كما أن نوحاً عليه السلام ثبت على ذلك وطال زمنه جداً واشتد أذاه ولم يضجر ؛ ولما كان الصبر شديداً .
أكد قوله : ( ولا تتبِّعان ( بالاستعجال أو الفترة عن الشكر ) سبيل الذين لا يعلمون ( ولما أمر بالتأني الذي هو نتيجة العلم ، عطف على ذلك الإخبار بالاستجابة قوله : ( وجوزنا ) أي فعلنا بعظمتنا في إجازتهم فعل المناظر للآخر المابري له ، ودل بإلصاق الباء بهم على مصاحبته سبحانه لهم دلالة على رضاه بفعلهم فقال : ( ببني إسرءيل ) أي عبدنا المخلص لنا ) البحر ( إعلاماً بأنه أمرهم بالخروج من مصر وأنجز لهم ما وعد فأهلك فرعون وملأه باتباعهم سبيل من لا يعلم بطيشهم وعدم صبرهم ، ونجى بني إسرائيل بصبرهم وخضوعهم ؛ والالتفات من الغيبة إلى التكلم لما في هذه المجاوزة ومقدمتها ولواحقها من مظاهر العظمة ونفوذ الأوامر ومضاء الأحكام ؛ وبين سبحانه كيفية إظهار استجابة الدعوة بقوله مسبباً عن المجاوزة : ( فأتبعتهم ( اي بني إسرائيل ) فرعون وجنوده ) أي أوقعوا تبعهم أي حملوا نفوسهم على تبعهم ، وهو السير في أثرهم ، واتبعه - إذا سبقه فلحقه ، ويقال : تبعه في الخير واتبعه في الشر .
ولما أفهم ذلك ، صرح به فقال : ( بغياً ) أي تعدياً للحق واستهانة بهم ) وعدواً ) أي ظلماً وتجاوزاً للحد .(3/477)
صفحة رقم 478
ولما كان فاعل ذلك جديراًبأن يرجع عما سلكه من الوعورة ، عجب منه في تماديه فقال - عاطفاً على ما تقديره : واستمر يتمادى في ذلك - : ( حتى ( ولما كانت رؤية انفراج البحر عن مواضع سيرهم مظنة تحقق رجوع الماء إلى مواضعه فيغرق ، عبر بأداة التحقق فقال : ( إذا أدركه ( اي قهره وأحاط به ) الغرق ( اي الموت بالماء كما سأل موسى في أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم ) قال آمنت ) أي أوقعت إيمان الداعي لي من التكذيب ؛ ثم علل إيمانه بقوله مبدلاً من ) آمنت ( في قراءة حمزة والكسائي بالكسر مؤكداً من شدة الجزع : ( أنه ( وعلى تقدير الباء تعليلاً في قراءة الجماعة اي نعترفاً بأنه ) لا إله إلا الذي ( ويجوز أن يكون أوقع ) آمنت ( على ) أنه ( وما بعدها - أي ) آمنت ( نفي الإلهية عن كل شيء غير من اشتثنيه من أن أعبره أو أرجع عنه .
ولماكان قد تحقق الهالك وعلم أنهلا نجاة إلا بالصدق ، اراد الإعلام بغاية صدقه فقال : ( آمنت ) أي أوقعت التصديق معترفة ) به بنو إسراءيل ( فعينه تعييناً أزال الاحتمال ؛ ثم قال : ( وأنا من المسلمين ( فكرر قبول ما كان دعي إليه فأباه استكباراً ، وعبر بما دل على ادعاء الرسوخ فيه بياناً لأنه ذل ذلاً لم يبق معه شيء من ذلك الكبر ولم ينفعه ذلك لفوات شرطه ، فاتصل ذله ذلك بذل الخزي في البرزخ وما بعده ، وقد كانت المرة الواحدة كافيه له عند وجود الشرط ، وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام : ( آلئن ) أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه ) وقد ) أي والحال أنك قد ) عصيت ) أي بالكفر ) قبل ( اي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت ، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت ، فكيف ومهي بالكفر ) وكنت ) أي كوناً جباياً ) من المفسدين ( اي العريقين في الفساد والإفساد ؛ ثم أكده - بدل شماتة الأعداء به الذين كانوا عنده اقل شيء وأحقره - بقوله مسبباً عما تضمنه ذلك الإنكار من الإذلال بالإهلاك إشارة إلى أن الماء أحاط به وصار يرتفع قليلاً قليلاً حتى امتد زمن التوبيخ : ( فاليوم ننجيك ) أي تنجية عظيمة .
ولما كان ذلك ساراً وكانت المساءة بما يفهم السرور إنكاء ، قال دالاً على أن ذلك يعد نزع روحه : ( ببدنك ) أي من غير روح وهو كامل لم ينقص منه شيء حتى لا يدخل في معرفتك لبس ) لتكون ( اي كوناً هو في غاية الثبات ) لمن خلقك ( اي يتأخر عنك في الحياة من بني إسرائيل وغيرهم ) آية ( في أنك عبد ضعيف حقير ، لست برب فضلاً عن ان(3/478)
صفحة رقم 479
تكون أعلى وبعرفوا أن من عصى الملك أخذ وأن كان أقوى الناس ، اكثرهم جنوداً ، وقد ادعى بعض الملحدين إيمانه بهذه الآية إرادة لما يعيذ الله منه من حل العقد الواجب من أن فرعون من أكفر الكفرة بإجماه أهل الملل ليهون اللناس الاجتراء على المعاصي ، وادعى أنه لا نص في القرآن على أنه قوله تعالى :
77 ( ) وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ( ) 7
[ يونس : 83 ] مع قوله تعالى :
77 ( ) وأن المسرفين هم أصحاب النار ( ) 7
[ غافر : 43 ] قياس قطعي الدلالة بديهي النص على أنه من أهل النار ، والآية - كما ترى - دليل على قوله : ( قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ( - الآية ، لو كان فرعون مثل قريش ، فكيف ولا نسبة لهم منه في شدة الاستكبار التابعة لكثرة الجموع ونفوذ الكلمة بضخامة الملك وعز السلطان والقوة بالأموال والأعوان ، وقد وري أن جبريل عليه السلام كان أتاه بفتيا في عبد نشأ في نعمة سيده فكفر نعمكته وجحد حقه وادعى السيادة دونه ، فكتب فرعون جزاء العبد الخارج عن طاعة سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر ، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه .
ولما لم يعمل فرعون وآله بمقتضى ما رأوا من الآيات ، كان حكمهم حكم الغافلين عنها ، فكان التقدير : ولقد غفلوا عما جاءهم من الآيات ) وإن كثيراً ( أكده لأن مثله ينبغي - لبعده عن الصواب - أن لا يصدق أن أحداً يقع فيه ) من الناس ) أي وهم من لم يصل إلى حد أول أسنان أهل الإيمان لما عندهم من النوس - وهو الاضطراب - والأنس بأنفسهم ) عن آياتنا ) أي على ما لها من العظمة ) لغاقلون ( والإصلاح : تقويم العمل على ما ينفع بدلاً مما يضر ؛ وإحقاق الحق : إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة حتى يرجع الطاعن عنه حسيراً والمناصب له مفلولاً ؛ والإسراف : الإبعاد في مجاوزة الحق ؛ والفتنة : البلية ، وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة ؛ والناجة : الخلاص ما فيه المخافة ، ونظيرها السلامة ، وعلقوا النجاة بالرحمة لأنها إنعام على المحتاج بما تطلع إليه النفوس العباد ، فهو أوكد ما يكون من الدعاء إلى الصلاح ؛ والوحي : إلقاء المعنى لى النفس في خفاء ، والإيحاء والإيماء والإشارة نظائر ، ولا يجوز أن تطلق الصفة بالوحي إلا لنبي ؛ وتبوأ : اتخذ ، وأصله الرجوع ، فالمتبوأ : المنزل ، لأنه يرجع إليه للمقام فيه : والطمس : محو الأثر فهو تغير إلى الدثور والدروس ؛ والإجابة : موافقة الدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة ؛ والدعوة : طلب الفعل بصيغة الأمر ، وقد تكون بالماضي ؛ والمجوزة : الخروج عن الحد من إحدى الجهات ؛ والبحر : مستقر الماء الواسع يحيث لا يدرك طرفيه من كان في وسطه ، (3/479)
صفحة رقم 480
وهو مأخوذ من الاتساع ؛ والانباع : اللحاق بالأول ؛ والغي : طلب الاستعلاء بغير حق ؛ والآن : فصل الزمانين الماضي والمستقبل ، ومع أنه إشارة إلى الحاضر ، ولهذا بنى كما بنى ( ذا ) ؛ والبدن : مسكن روح الحيوان على صورته .
يونس : ( 93 ) ولقد بوأنا بني. .. . .
) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( ( )
ولما ذكر تعالى عاقبة أمر فرعون وقومه وأنهم لم ينتفعوا بما جاءهم من البينات مع ما كان فيها من جلي البيان وفي بعضها من الشدائد والامتحان حتى كان آخرها أنه لما رأى مبدأ الهلاك من النفراق البحر عن لجاجه غفلة منه عن عاقبته .
وختمها بالإخيبار بكثرة الغفلة إشارة غلى أن هذا الخلق في غير القبط أيضاً ، أتبع ذلك ذكر خاتمه أمر بني إسرائيل فيما خولهم فيه بعد الإنجاء من النعم المقتضي للعلم القطعي بانه لا إله غيره ، وأن من خالفه كان على خطر الهلاك ، وأنهم - مع مشاهدتهم الآيات ألآتيه بسببهم إلى فرعون - آتاهم من الآيات الخاصة بهم المنجزة لصدق وعده سبحانه لآبائهم ما فيه غاية الإحسان إليهم والإكرام لهم ، وأنهم كانوا تحت يد فرعون على طريق واحد ، ليس بينهم خلاف ، وما اختلفوا فصاروا فرقاً في الاعتقادات وأجزاباً في الديانات حتى جاءهم العلم الموضح من الله ، فكان المقتضي لا جتماعهم على الله مفرقاً لهم على سبيل الشيطان لخبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وقوفاً مع الشاهد الزائل وجموداً مع المحسوس الفاني ونسياناً للغائب الثابت والمعلوم المتيقن ، كل ذلك لأنا قضينا به فالأمر تابع لما نريد ، لا لما يأمر به وينهى عنه ، فكان أعظم زاجر عن طلب الآيات وظن أنها توجب له الرد على الغوايات ، فقال تعالى : ( ولقد بوأنا ) أي أسكنا بما لنا من العظمة التي تنقطع الأعناق دون عليائها وتتضاءل ثواقب الأفكار عن إحصائها ) بني إسرائيل ( مسكوناً هو أهل لأن يرجع إليه من خرج عنه ، وهو المراد بقوله : ( مبوأ صدق ) أي في الأرض المقدسة لأن وعدنا كان قد تقدم لهم بها وعادة العرب أنها إذا مدحت الشيء أضافته إلى الصدق لأنه مع ثباته حبيب إلى كل نفسص ويصدق ما يظن به من الخير .
ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالرزق ، وكان التعبير عنه بالمبوإ دالاً على الرزق بدلالة الالتزام ، صرح به فقال : ( ورزقناهم ) أي بما لنا من العظمة ) من الطيبات ) أي الحسية حلاء واشتهاء من الفواكة والحبوب والأبان والأعسال وغيرها .
والمعنوية من الشريعة والكتاب والمعارف كما تقدم وعدنا لآبائهم بذلك .
ولما كانوا كغيرهم إذا كانوا على أمور يتواضعون عليها تقاربوا فيها وتوافقوا ، وإذا كانوا على حدود حدها لهم المحسن إليهم وحده لم يلبثوا أن يختلفوا عابهم الله بذلك فقال : ( فما ) أي فتسبب عن(3/480)
صفحة رقم 481
صدقنا لهم في الوعد أنهم ما ) اختلفوا ) أي أوقعوا الخلف المفضي إلى جعل كل منهم صاحبه خلفه ووراء ظهره .
واستهان به ) حتى جاءهم العلم ( الموجب لاجتماعهم على كلمة واحدة لما له من الضبط حتى يكون أتباعه على قلب واحد .
فكأنه قيل : فماذا يفعل بهم ؟ لا هم بعقولهم ينتفعون ولا بما جاءهم من الحق يرجعون ؟ فقيل مؤكداً لإنكار العرب البعث : ( إن ربك ) أي المحسن إليك بإصاء الأنبياء بك وزوصفك في كتبهم وجعلك صاحب لواء الحمد في القايمة ) يقضي بينهم ( .
ولما كان هذا تهديداً عظيماً ، زاده هولاً وعظمة بقوله : ( يوم القيامة ) أي الذي هو أعظم الأيام ) فيما كانوا ) أي بافعالهم الجبلية ) فيه يختلفون ( فميز الحق من الباطل ، والصديق من الزنديق ، ويسكن كلاًّ داره .
ذكر بعض ما في التوراة من المن عليهم يالأرض المقدسة : قال قي أثناء السفر الخامس : قد رأت اعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل ، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم اله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم الأرض التي تغل السمن والعسل .
لأن الأرض التي تدخلونها لترثوها ليست مثل ألاض مصر التي خرجتم منها التي كنتم تحتاجون فيها أن تستقوا بأرجلكم وتسقوها مثل بساتين السقي ، ولكن الأرض التي تجوزون إليها لترثوها هي أرض الجبال والصحارى ، وإنما تشرب من مطر السماء .
يتعاهدها الله ربكم في كل حين ، وعينا الله ربنا فيها منذ أول السنة إلى لآخر السنة .
فإن أنتم سمعتم الأحكام التي آمركم بها اليوم وتتقون الله ربكم وتعبدونه من كل قلوبكم وأنفسكم يديم نظره إلأيكم ، ويمطر لكم في الخريف والربيع جميعاً ، وتستغلون طعاماً وشراباً وزيتاً ، وينبت في حرثكم عشباً لمواشيكم ، وتأكلون وتعشبون ، احفظوا أن لا تخدع قلوبكم وتروغوا إلى الآلهة الأخرى وتسجدوا لها وتعبدوها فيشتد غضب الرب عليكم ، ويمنع السماء من المطر والأرض من غلاتها ، وتهلكوا شريعاً من الأرض التي يعطيم الله ربكم ، بل اجعلوا هذه الآيات في قلوبكم ، وصيروها ميسماً بين أعينكم ، وعلموها بينكم أن يتكلوموا بها في حضوركم وفي سفركم ، وإذا رقدتم وإذا قمتم ، واكتبوها على معاقم بيوتكم وأبوابكم لتطول أعماركم وأعمار أولادكم في الأرض التي اقسم الله لآبائكم أن يعطيهم .
وإن أنتم حفظتم هذه الوصايا كلها وعملتم بها وأحببتم الله ربكم وسرتم في طرقه ولحقتم بعبادته يهلك الرب الملوك كلها من بين أيديكم وترثون شعوباُ أعظم وأعز منكم ، وكل بلاد تطأها أقدامكم تكون لكم بين البرية ولبنان ومن النهر إلى الفرات : النهر الأكبر ، وتكون تخومكم عند البحر الآخر ، ولا يقدر أحد أن(3/481)
صفحة رقم 482
يقاومكم ، ويلقي الله ربكم خوفكم وفزعكم على كل الأرض التي تطؤونها كما قال لكم الرب : انظروا إني أتلوا عليكم دعاء ولعناً ، أما الدعء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم ، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكموزغتم عن الطريق التي تدخلونها اترثوها اتلوا الدعاء على جبل حوريب واللعن على جبل من حيالها في مجاز الأردن خلف الطريق عند مغارب الشمس في أرض الكنعانين الذين يسكنون المغرب بإزاء الجبال وجبال بلوط - وفي نسخة : مرج ممري ، لأنكم تجوزون الأردن لتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم وتسكنونها وتحفظون وتعملون بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم - انتهى .
وفي سفر يوشع بن نون عليه السلام : ولما كان بعد موسى عبد الله قال الله ليوشع ابن نون خادم موسى عليهما السلام : كوسى عبدي مات ، والآن فقم فاعبر هذا الأردن أنت ، وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل ، كل موضع تطؤه أرجلكم لكم أعطيته ، كما قلت لموسى عبدي .
من البر وهذه اللبنان وإلى النهر الكبير نهر الفرات كل أرض الذاعرين ، لا يقف أحد قدامك طول ايام حياتك ، كما كنت مع موسى أكون معك ، لا ادعك ولا أتركك ، اشتد وتأيد ، فإنك انت تنحل هذا الشعب الأرض التي قسمت لآبائهم لإعطاء ذلك لعم ، لا يزول درس كتاب هذا الشريعة من فيك .
وتلهج به نهاراً وليلاً لكي تحفظ للعمل بجميع المكتوب .
فحينئذ تنجح طرقك .
وحينئذ ترشد ، أليس قد أوصيتك ؟ اشتد وتأيد ، و لا ترهب ولا تنذعر ، لأن معك الله ربك في جميع ما تسير فيه ، ووصى بوضع يوشع عرفاء القوم قائلاً : جوزوا في وسط العسكر ووصّوا القوم قائلين لهم : أعدوا لكم زاداً فإنكم بعد ثلاثة أيام عابرون هذا الأردن للدخول لإرث الأرض التي الله ربكم معطيعا لكم ، اذكروا ذكر القول الذ أمركم به موسى عبد الله قائلاً : الله ربكم مريحكم لما أعطاكم هذه الأرض ، نساءكم وأطفالكم ومواشيكم تجلسون في مدنكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن وأنتم تجورون محزومي الخوالطر إلى أن يريح الله إخوتكم كما اراحكم فترثوا أيضاً الأرض التي ربكم معطيكم ، حينئذ ترجعون إلى أرض حوزتكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن مشرق الشمس ، فأجابا يوشع قائلين : جميع ما أوصينا به نعمل ، كل موضع ترسلنا نمضي كجيمع ما قبلنا من موسى كذاك نقبل منك .
إذا كان الله معك كما كان مع موسى ، كل إنسان يخالف أمرك ولا يقبل كلامك كجميع ما تأمره به يقتل .
فاشتد وتأيد ، فبعث يوشع بن نون من الكافرين رجلين جاسوسين في خفية قائلاً :(3/482)
صفحة رقم 483
امضيا انظرا الأرض كلها مع أريحا ، فمضيا ودخلا إلى بيت امرأة سواقة اسمها راحاب واضطجها ثمَّ ، فقيل لملك أريحا : هو ذا أناس من بني إسرائيل قد جاؤوا إلى هنا الليلة لجس البلد .
فأرسل ملك أريحا إلى راحب قائلاً : أخرجي القوم الجائين إليك الذين دخلوا دارك .
فإنهم لجس جميع البلد جاؤوا .
فأخذت المرأة الرجلين فأخفت أمرهما وقالت : كذاك كان القوم جاؤوا إليّ ولم اعلم من اين هم ؟ وكان عند إغلاق الباب في الظلام .
ثم خرج القوم ولم أعلم اين مضوا ؟ اطلبوهم بسرعة فإنكم تلحقونهم ؛ ثم أصعدتهما غلى السطح وظهرتهما في فش الكتان .
والقوم طلبوهما في طريق الأردن إلى المعابر - وفي نسخة : إلى المخاضات - ولباب أغلقوا بعد ما خرج الطالبون خلفهما .
وهما قبل ان يناما صعدت إليهما راحاب إلى السطح فقالت لهما : قد علمت أن الله سلم إليكم البلد ، وأنه أيبس لكم بحر القلزوم عقب خروجكم من مصر وما علمتم بملكي الأمورانيين الذي في مجاز الأردن : سيحون وعوج اللذين اصطلمتموهما ، فعند ما سمعنا ذابت قلوبنا ولم يثبت أيضاً روح في واحد منا من جهتكم ، فإن الله ربكم هو إله من في السموات من فوق ومن على الأرض من تحت ، والآن فاحلفوا باسم الله إذ قد عملت معكما فضلاَ ، فتعملاً ايضاً أنتما مع أهل أبي فضلاَ ، وتعطياني علامة هي حق .
لتستبقوا أب وأمي وإخوتي وجميع من التصق بهمن وتخلصوا نفسنا من القتل .
فقالاً لها : نبذل أنفسنا دونكم للموت إن لم تخبروا بخبرنا هذا .
فيكون عند التسليم الله النا البلد نعمل معك فضلاً وزأمانة فأحدرتهما بالحبل من داخل الطاقة إذ منزلها في حائط السور .
وفي السورة هي ساكنة .
وقالت لهما : سيرا غلى الجبل كيلا يلقاكما الطالبون ، وبعد ذلك سيرا : لطريقكما ، فقالا لها : أبرياء نحن من قسمك هذا الذي استقسمتنا إن لم تفعلي ما نقول لك ، هو ذا نحن داخلون إلى البلد فاعقدي خلصة خيط من القرمز في الطاقة التي أخبرتنا منها .
وابوك وأمك وإخوتك وكل بيت أبيك تضمين غليك المنزل ، فيكون كل من يخرج من ابواب منزلك إلى خارج دمه في عنقه ونحن ابرياء ، وكل من يكون معك في المنزل دمه في أعناقنا إن بطشت به يد .
وإن أخبرت بخبرنا هذا فنحن أبرياء من قسمك الذي اشتقسمتنا ، فقالت : كما قلتما ، فأطلقتهما ومضيا ، وعقدت خصلةالقرمز في الطاقة ، فمضيا إلى الجبل وجلسا ثم ثلاثة ايام إلى ان رجع الطالبون ولم يجدوهما .
ورجع الرسولان وانحدرا من الجبل وجازا الأردن وجاءا إلى يوشع بن نون وقصا له كل ما وافاهما وفقلال ليوشع : إن الله دفع بأيدينا كل الأرض ، وقد ماج جميع(3/483)
صفحة رقم 484
ساكانها منا ؛ وأدلج يوشع بالغداة ورحلوا من الكفرين ، وجاؤوا إلى الأردن هو وجميع بني إسرائيل وباتوا ثم قبل أن يجوزوا .
فلما كان بعد ثلاثة أيام جاز النقباء في وسط العسكر وأمروا القوم قائلين لهم : عند نظركم صندوق عهد الله ربكم والأئمة اللاويين حاكملين له أنتم ترحلون من موضعكم وتمشن خلفه ، لكن بينكم وبينه بعد مقدار ألقفي ذارع بالمساحة ، لا تقربوا منه لأجل أن تعرفوا الطريق التي تمسون فيها إذ لم تمشوا فيها أمس وأول أمس .
و قال يوشع للقوم : استعدوا فإن غداً يعمل الله في وسطكم عجائب ، وقال يوشع للأئمة : احملوا صندوق العهد وجوزوا قدام القوم .
فحملوا صندوق العهد وساروا قدام القوم ، وقال الله ليوشع : هذا اليوم ابتدىء بتعظيم اسمك بحضرة جميع إسرائيل لكي يعلموا أنني كما كنت مع موسى أكون معك ؛ وقال يوشع لبني غسرائيل : تقدموا هاهنا وأسمعوا الله ربكم ؛ قال يوشع : بهذه الخلة تعرفون أن قادراً حياً لذاته في وسطكم ، وأن قارضاً يقرض من قدامكم قبائل الأمم : الكنعانيين وزوالذاعيرين - وفي نسخة : الحاثبين المنسوبين إلى حاث جدهم - والحويين أي الفصحاء البلغاء - وفي نسخة : المجتمعين غلى الحي - والربضيين والفلاحين والأمورانيين - أي الرؤساء - واليبوسيين - أي الجبارين القاهرين ، ها هو ذا صندوق العهد ، سيد كل الأرض جائز قدامكم في الأردن والآن خذوا لكم اثني عشر رجلاً من أسباط إسرائيل : رجلاً واحداً من كل سبط ، ويكون عند قرار اقدام ارجل الأئمة حاملي صندوق العهد سيد كل الأرض في مياه الأردن من الأمر العظيم أنه تنقطع مياه الأردن المنحدرة من فوق وتقف طوداً واحداً كأنها في زق محصورة .
ولما ارتحل الشعب وقطعوا خيمه ليجوزوا الأردن سار الكهنة الذين حملوا التابوت أمام الشعب ، فملا انها إلى الأردن وكان ممتلئاً يفيض كل ايام الحصاد انشق الأردن وقام الماء الذي كان ينحدر من فوق كأنه في زق ناحيته ، وتباعد عم قرية إدام التي عند صريم جداً ، والذي كان يجري إلى البحر العربي الذي يدعى بحر الملح انشق وحار وانقطع ، وجاز الشعب حيال اريحا ، وقام الكهنة الذيم حملوا تابوت العهد في الأردن يابساً حتى عبر جميع الشعب بحر الأردن ؛ فلما جاز الشعب جميعاً قال الرب ليوشع : اعمد غلى اثني عشر رجلاً من تحت اقدام الكهنة اثني عشر حجراً وعبروهما معكم وانصبوها في موضع المبيت الذي تبيتون فيه الليلة ، فأمرهم يوشع بذلك وأن يحمل كل(3/484)
صفحة رقم 485
رجل حجره على عاتقه ، فاخذوها إلى موضع مبيتهم ونصبوها هناك ، فمكثت الحجارة - التي أخذوها من الأردن من تحت أقدام الكهنة الذين حملوا التابوت - موضوعة هناك إلى اليوم ؛ والكهنة الذين حملوا التابوت كانوا قياماً حتى تمت جميع أقوال ألتي امر بها الرب يشوع ان يقص على الشعب كما أوصى موسى يشوع ، وعجل الشعب على المجاز وجازوا ، فما جاز جميع الشعب وجاز الكهنة الذين كانوا حاملين التابوت أمام الشعب ودجاز بنو روبال وبنو جاد ونصف سبط منسا ، وهم متسلخون امام إخوتهم - كما أمر موسى - أربعون ألفاً دوو قوة ، جازوا أمام الرب إلى قاع اريحا للمحاربة .
في ذلك اليوم عظم يشوع عند جميع بني إسرائيل وفرقوه كفرقهم من موسى طول ايام حياته ، وقال الرب ليشوع : مر الكهنة الذين حملوا تابوت الشهادة يصعدوا من الأردن ، فأمرهم ، فلما صعدوا رجع ماء الأردن إلى مواضعه أول ما استقرت اقدام الكهنة في الشط وجرى في سواحل الأردن كما كان أولاً ، فصعدوا من الأردن في عشر خلت من الشهر الأول - قلت : وهو نيسان على ما قال بعض فضلاء اليهود - ونزلوا الجلجال اقصى مشارق أريحا ، فأما الاثنا عشر حجراً التي أخذوها من الأردن فنصبها يشوع في الجلجال ، وقال يشوع لبني إسرائيل : إذا سألكم بنوكم غداً وقالوا لكم : ما هذهاالحجارة ؟ قولوا لهم : إن بني إسرائيل فلق له هذا الأردن فجازوه يابساً ، لأن الله ربكم يبَّس ما الأردن أمامهم حتى جازوه كما فعل الله ربكم ببحر سوف الذي سيبسه امان منا حتى جزناه ليعلم جميع شعوب الأرض أن يد الرب قوية ، وتتقوا الله ربكم كل الأيام .
فلما شمع جميع ملوك الأمورانيين الذين في جانب الأردن الغربي وجميع ملوك الكنعانيين الذين على شاطىء البحر يبس ماء الأردن أمام بني إسرائيل حتى جازوا ، فزعت قلوبهم ولم يبق فيهم رمق فزعاً من بني إسرائيل وفي ذلك الزمان قال الرب ليشوع : تخذ سيفاً من طوران واختن بني غسرائيل ثانيى ، فختن بني إسرائيل ثانية في أكمة الغلف ، والذي ختن يشوع جميع الذكروة الذين كاتنوا ولدوا في البرية حين خرجوا من ارض مصر ، لأن جميع الرجال الأبطال المقاتلة هلكوا في البرية لأنهم لم يطيعوا الله ربهم وكانوا كلهم مختتنين ، فأقسم الرب عليهم أن لا يريهم الأرض التي وعد آباءهم أن يعطيهموها الأرض التي تغل السمن والعسل ، فبنوهم الذين كانوا من بعدهم هم الذين ختن يشوع لأنهم كانوا غلفاً .
فلما ختن جميع الشعب مكثوا مواضعهم في المعسكر حتى برئوا ، وقال الرب ليشوع : اليوم صرفت عنكم عار أهل مصر ، ودعا اسم ذلك الموضع جلجالاً ، ونزل بنو إسرائيل الجلجال وعلموا فصحاً في أربعة عشر يوماً من الشهر الأول عند المساء في قاع اريحا وأكلوا من بر الأرض بعد الفصح وأكلوا(3/485)
صفحة رقم 486
في ذلك اليوم فطيراً وسنبلاً مقلواَ .
وارتفع المن عن بني إسرائيل منذ ذلك اليوم حيث أكلوا من بر الأرض ولم ينزل المن لبني غسرائيل بعد ذلك اليوم وأكلوا من بر الأرض وغلات أرض كنعان في تلك السنة .
وبينا كان يشوع في قاع اريحا قائماً إذ نظر رجلاَ قائماً إزاءه مخترطاً سيفه ممسكه بيده ، فاقبل يشوع إليه وقال له : أنت منا أم من أعدائنا ؟ قال : أنا سيد أجناد الرب ، الآن أتيتك ، فخر يشوع ساجداً على وجهه على الأرض وقال : ما الذي يقول السيد لعبده ؟ قال : اخلع خفيك عن قدميك ، فإن الموضع الذي أنت قائم فيه طاهر ، ففعل يشوع ذلك ؛ وكان بنو إسرائيل قد حاصروا أريحا ، ولم يكن يقدر أحد من أهلها يدخل ولا يخرج ، قال ارب ليشوع : انظر إني قد دفعت في يدك أريحا وملكها وكل أجنادها ، فليحط بالمدينة جميع رجال المقاتلة ، وذوروا حول المدينة مرة في اليوم ، وافعلوا ذلك ستة ايام ، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون امام التابوت ، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات ويهتف الكهنة بالقرون ، فإذا هتفت الأبواق وسمعتهم اصواتها يهتف جميع الشعب باعلى اصواتهم صوتاً شديداً ، فيقع سور المدينة مكانه ، ويصعد الشعب كل إنسان حياله ، فدعا يشوع الكهنة وقال لهم : احملوا تابوت الرب ، فحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وهتفوا أمام تابوت الرب فلم يزالوا ينفخون في القرون ، والذين كانوا يحملون التابوت يتبعون أصحاب الأبواق والمتسلخون يسيرون أمام الكهنة الذي يهتفون بالقون ويسيرون أمام التابوت .
وقال يشوع للشعب : لا تهتفوا ، ولا تسمعةوا أصواتكم ، ولا تخرج كلمة من أفواهكم إلى اليوم الذي ىمركم أن تهتفوا .
فدارت الجماعة بالتابوت كل يوم مرة كما امرهم يشوع ، فلما كان اليوم السابع أدلجوا سحراً وأحاطوا بالمدينة كسنتهم ولكن في ذلك اليوم السابع داروا حولها سبع مرات ، وفي المرة السابعة هتف الكهنة بالقرون وقال يشوع للشعب : اهتفوا لأن الرب قد دفع المدينة في أيديكم ، ولكن صيروا هذه المدينة وكل ما فيها حريمة للرب ، لا يمسه إنسان منكم ، وأبقوا غلى راحاب الزانية - يعني القندقانية كما أخبرني بعض فضلائهمن ويؤيده التعبير عنها فيما مضى بالسواقة والله أعلم - وعلى كل من معها في بيتها لأنها غيبت الدسيسين اللذين ارسلنا ، فأما أنتم فاحتفظوا من الحرام ، ولا تنجسوا أنفسكم بأكل الحرام ، فتصيروا عسكر بني إسرائيل حراماً ، فنغخوا في القرون فلما سمع الشعب صوت الأبواق ضجوا كلها واحدة شديدة جداً ، فوقع سور المدينة فصعد الشعب إلى المدينة كل إنسان حياله ، فافتتحوها وقتلوا كل من فيها(3/486)
صفحة رقم 487
رجالها ونساءها والمشيخة والصبيان والثيران والحمير والغنم ، قتلوها بالسيف ، وأما الرجلان اللذان اجتسا الأرض فقال لهم يشوع : ادخلا إلى بيت المرأة الزانية - بعني الفندقانية كما مضى - فأخرجاها وأخرجا كل من معها في البيت كما حلفتما لها ، ففعلوا وأنزلوهم خارج عسكر بني إسرائيل وأحرقوا المدينة وكل من فيها بالنار ، وأحيى يشوع الزانية ووالديها وكل من معها ، واقسم يشوع في ذلك الزمان ولعن وقال : ملعوناً يكون أمام الرب الرجل الذي يقوم يبني مدينة أريحا هذه ، وكان الرب بعونه مع يشوع ونصره ، وشاع خبره في الأرض كلها ، واثم بنو إسرائيل وتناولوا من الحرام ، وذلك لأن عاجار ابن كرمي بن زبدي بن زرح من قبيلة يهودا نحر وأخذ من الحرام وغيب في خيمته ، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل ، ثم أرسل يشوع رجالاً إلى عاي التي عند بيت آون من مشارق بيت إل ليجتسوها ، فقالو له : غنه يجزىء في أخذها الفان أو ثلاثة لأن اهلها قليل ، فصعدوا فحاربوهم عند باب المدينة فانهزم بنو إسرائيل وجرح منهم جرحى كثير - فذكر القصة في سجود يشوع وانزعاجه وإخبار الله تعالى غياه أن قومه غلّوا ، ثم مثقال فضة وسبيكة من ذهب فيها خمسون مثقالاً ، فأخرجه يشوع مع كل شيء هو له ، وقد مضى ذلك في البقرة عند ) ) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ( ) [ البقرة : 98 ] وتقدم في المائدة فتح بعض بلاد بيت المقدس بأعجوبة اخرى واستمروا هكذا يفتحونها بلداً بعد بلد ، ويقتلون من جبابرتها عدداً بعد عدد ، ويرون في ذلك من عجائب الأمور وبدائع المقدور ما يبقي على كر الآباد مَر الدهور ، وهم في أثناء ذلك كل قليل يكفرون وينقضون العهود ولا يشكرون كما هو مبين في سفر يوشع بن نون ، وقد مضى شيء منه في المائدة عند قوله تعالى ) ) فعموا وصموا ( ) [ المائدة : 71 ] - الآية ، كل ذلك بعد أن جاءهم من العلم ما لا تدخله مرية لا يخالطه شك ولا يدنو منه لبس ، فتبارك من له الأمر كله ، لا مضل لمن هدى ولا هادي لمن يضله .
يونس : ( 94 - 97 ) فإن كنت في. .. . .
) فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( ( )
ولما كان ما مضى - من الآيات هذه السورة المبينة أن من أريدت شقاوته لا ينفعه مشاهدة الآيات - سبباً لنفي الشك عنها وإثبات اليقين بمضامينها بما سلف من الأدلة على تلك المضامين غلى أن ختم ذلك بذم من عمل عمل الشاك بعد أن جاء ما يوجب اليقين(3/487)
صفحة رقم 488
من العلم ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) كما نمضى في اخر التي قبلها أشفق الخلق لا سينا على العرب لا سيما على قومه منهم ، وكانت الوصية قد برزت من الجناب الإلهي له بما يوافق طبعه من بذل الجهد في ملاطفتهم ، كان ذلك جديراً بأن يحرك طبع البشر لتمني الإجابة لما يقترحون ، وكان طلب ذلك بعد الفطام عنه من أفعال الشك في الجملة فاريد صرف النفس عنه بالكلية ولو بالخطورة في البال فقيل مسبباً عما قبله : ( فإن كنت ) أي يا ارحم الخلق ) في شك ( ولم يرد بهذا الكلام حقيقته - والله أعلم - بل تقوية اليقين وتأكيده ورسخوه وتأييده بأن هذا أمر قد عزم عليه وفرغ منه فلا يحتمل مراجعة ، وذلك لأن المعنى أن ثباتهم على الشقاوة أمر لا يعلم إلاّ من قبلنا ، وذلك بأحد أمرين : إما بواسطة الأمين جبرئيل بما يأتي به من الوحي عنا غضاَ طرياً محفوظاً من الغير فلا تحريف فيه لا تبديل ، وإما بواسطة أهل الكتاب عن أنبيائهم - وفي ذلك نزول درجتين مع تجويز التخويف والتبديل ، وهذا ما لا يرضاه ذو همة علية ونفس ابية - فالمعنى : انا قد اخبرتك بأن الآيات لا تزيد المقتضي بشقائه إلاّ ضلالاً وأنا خبير بذلك ) ولا ينبئك مثل خبير ( فلا تطلب إجابتي إياهم إلى ما يقترجحون عليك رجاء إيمانهم فإنهم لا يؤمنون بذلك ) فإن كنت ( اي في وقت من الأوقات ) في شك ( اي ولو قل ) ممآ أنزلنا ) أي بعظمتنا واصلاً على لسان الواسطة ) إليك ( في ذلك ) فسئل ( اي بسبب ذلك الشك ) الذين يقرءون ) أي متتابعين لذلك ) الكتاب ( اي السماوي من اليهود والنصارى ، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزلنا إليك على حج عظيم .
ومن آمن منهم أو كان منصفاً جدير بأن يزداد من فاوضه في ذلك إيماناً ؛ ولما كانوابعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف ، أثبت الجار فقال : ( من قبلك ( ةوهم عن ذلك الخر بمراحل ، فلا تجنح إلى سؤال غيري ، وهذا مضمون قوله تعالى مؤكداً آتياً بحرف التوقع لأن كلاًّ من الأمرين في أحق مواضعه : ( لقد جآءك الحق ) أي الثابت الكامل ثباته وهو إمضاء العدل فيهم ؛ وزاده تشريفاً وترغيباً فيه بقوله : ( من ربك ( اي المحسن إليك باصطفائك لذلك ، فلذا سيق مساق البيان له من غير واو ، فإذا ثبت أنه الحق اي الثابت أعلى الثبات تسبب عنه البعد من تزلزل من جاءه ، فناسب أتباعه بقوله : ( فلا تكونن ( اكده لأنه حقيق بأن لا ينثني عنه احد(3/488)
صفحة رقم 489
بوجه من الوجوه ) من الممترين ) أي الغافلين عن آيات الله فتطلب الفضل لأهل العدل ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا والله ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم .
ولما نهى عن ذلك لم يبق مما اقتضته القسمة العقلية إلاّ النعاد ممن يمكن منه كما فعل بنو إسرائيل بعد مجيء العلم فأتبعه النهي عن مثل حالهم بقوله : ( ولا تكونن ) أي بوجه من الوجوه ، والمراد بهذا اتباعه ) من الذيمن كذبوا ( اي فعلوا فعل المكذب مستهينين ) بآيات الله ) أي التي لا أعظم منها بإضافتها إلى من لا أعظم منه ) فتكون ( اي كوناً راسخاً ) من الخاسرين ( بل اثبت على ما أنت عليه من اليقين والطمأنينة والثقة بالله والسكينة ، وهذا ونحوه مما غلظت فيه العبارة دلالة على مزيد قرب المخاطب وإن كان المراد غيره وعظيم منزلته ولطيف خصوصيته كما مضى بيانه عن الإمام أبي الحسن الحرالي رحمه الله في سورة براءة عند قوله تعالى ) ) عفا الله عنك ( ) [ براءة : 43 ] - الآية ، وتغليظ العبارة فيه تديب عظيم لتابعيه ؛ والشك : الوقوف بين النقيضين ، وهو من شك العود فيما ينفذ فيه ، لأنه يقف بذلك الشك بين جهتيه ؛ والإنزال : نقل الشيء من علو إلى سفل ؛ والامتراء ؛ طلب التشكك مع ظهور الدليل ، من مري الضرع وهو مسحه ليدر .
ولما كان ما مضى من هذه الآيات وما كان من ظرازها قاضياً بأنه لا تغني الآيات عنهم .
صرح به قوله تعالى : ( إن الذيم حقت ( اي وجبت وثبتت ) عليهم ( اي بأنهم أشقياء ، وعبر بالاسم المفهم للإحسان إعلاماً بأنه ما أوجب عليهم العذاب إلاّ إحساناً غليه بما يقاسي من معالجتهم وغير ذلك من الحكمة فقال : ( كلمت ربك ( اي المحسن غليك في جميع امرك ) لا يؤمنون ( اي لا قبول لهم لتجدد الإيمان ) ولو جآتهم كل آية ( ونسبتها إلى قوله ) لقد جاءك الحق ( إلى ) فإن كنت في شك ( الآية في البيان المستفاد من حذف العاطف ، وإذا كان الكام في معنى واحد كان بمنزلة الكلمة الواحدة فسمي بها ) ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تحويلاً ( ) [ الأحزاب : 92 ] .
يونس : ( 98 - 100 ) فلولا كانت قرية. .. . .
) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ( ( )
ولما كان هذا موضع أن يقال : إنما تطلب الآيات لما يرى من تسبب الإيمان عنها ، تسبب عنه أن يجاب بقوله تعالى : ( فلولا ( اي فهلا ) كانت قرية ( اي واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها ) آمنت ( اي آمن قومها عند إتيان الآيات أو عند رؤية اسباب العذاب ) فتفعهآ ) أي فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها - ) إيمانها ( ولما(3/489)
صفحة رقم 490
كان المعنى ( لولا ) النفي ، كان التقدير : لكن لم تؤمن قرية منهم إلاّ عند صدم العذاب كما فعل فرعون ، لو آمن عند رؤية البحر عل حال الفلق أو عند توسطه وقبل انسيابه عليه قُبِل ، ولكنه ما آمن إلا بعد انهماره ومسه .
وذلك حين لا ينفع لفوات شرطه من الإيمان بالغيب ) إلاّ قوم يونس ( فإنهم آمنوا عند المخايل وقت بقاء التكليف فنفعهم ذلك فإنهم ) لمآ آمنوا ( ودل على أنه قد كان أظلهم بقوله : ( كشفنا ( اي بعظمتنا ) عنهم ) أي حين إيمانهم ، روي أنه لم يبق بينهم وبين العذاب إلا قدر ميل ) عذاب الخزي ) أي الذي كان يوجب لهم لو برك عليهم هوان الدارين ) في الحياة الدنيا ) أي فلم يأخذهم وقت رؤيتهم له ) ومتعناهم ) أي تمتيعاً عظيماً ) إلى حين ( وهو انقضاء آجالهم مفرقة كل واحد منهم في وقتها لمضروب له ، وما ذكرته في معنى الآية نقله القاضي أبو محمد إساحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره المسند عن ابن أبي عمر قال : قال شفيان الثوري : ( فلولا كانت قرية آمنت ( قال : فلم تكن قرية آمنت ، وهذا تفسير معنى الكلام ، وأما ( لولا ) فهو بمعنى هلا ، وهي على وجوه تحضيض وتأنيث ، اي توبيخ ، وهي هنا للتوبيخ .
ويجوز ئان تكون استفهامية بمعنى ( لولا ) ، ويلزم كلا من المعنيين النفي ؛ والنفع : إيجاب اللذة بفعلها أو ما يؤدي إليها كالدواء الكريه المؤدي إلى اللذة ؛ والخزي هو أن يفضح صاحبه ، وهو وضع من القدر للغم الذي يلحق به ، وأصله التعب .
ولما كن ما مضى ربما أوجب اعتقاد أن غيمان مثل أولئك محال هذه الآية في مقام الاحتراس منه مع البيان لأن حرض الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على غيمانهم لا ينفع ومبالغته في إزالة الشبهات وتقرير الدلائل لا تفيد إلاّ بمشيئة الله تعالى لتوفيقهم وهدايتهم ، ولو كان ذلك وحده كافياً لآمنوا بهذا السورة فإنها أزالت شبهاتهم وبينت ضلالاتهم وحققت بقصتي نوح وموسى عليهما السلام ضعفهم ووهن مدافعاتهم فقال تعالى : ( ولو شآء ) أي إيمان الناس ) ربك ( أيالمحسن غليك بإقبال من اقبل لعلمه الخير فيه وإدبار من أدبر لعدم قابليته لخير ) لآمن من في الأرض ( من الكفار .
ولما كن هذا ظاهراً في الكل ، صرح به مؤكداً لأن المقام يقتضيه فقال : ( كلهم جميعاً ( اي مجتمعين فيآن واحد لا يختلفون في شيء منه ، ولكن لم يشأ ذلك وأنت لحرصك على امتثال أوامري ووصيتي لك باللطف بخلقي الموافق لما جلبتك عليه من الخير تريد ذلك ) أفأنت تكره الناس ) أي الذين لم يرد الله إيمانهم مع كا طبعهم عليه من الاضطراب ) حتى يكونوا ) أي كوناً جبلياً ) مؤمنين ( اي راسخين في الإيمانن وإيلاء الاستفهام الاسم مقدماً عل الفعل للإعلام بأن الفعل - وهو هنا الإكراه - ممكن من غير ذلك الاسم وهو هنا الله وحده القادر على تحويل الطباع فإن قدرته قاهرة لكل شيء(3/490)
صفحة رقم 491
ومشيئته نافذة في كل شيء مع الدلالة على أن وقوع المشيئة مستحيل لا يمكن لغيره تعالى بإكراه ولا غير ، والمشيئة معنى يكون به الفعل مراداً آخذت من الشيء ، والمراد بالآية تخفيف ما يلحق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من التحسر للحرص على إيمانهم ) وما كان ( اي وما ينبغي ولا يتأتى ) لنفس ) أي واحدة فما فوقها ) أن تؤمن ( اي يقع منها إيمان في وقت ما ) إلاّ بإذن الله ) أي بإرادة الملك الأعلى الذي له الخلق والأمر وتمكينه ، فيجعل الثبات والطمأنينة - اللازمين للإيمان الذي هو ابعد شيء عن السحر - على الذين ينتفعون بعقولهم فيلزمون معالي الأخلاق التي هي ثمرات للإيمان ) ويجعل الرجس ( اي الاضطراب والتزلزل الذي يلزمه التكذيب الذي هو أشبه شيء بالسحر لأنه تخييل ما لا حقيقة له والقذر والقباحة والغضب والعقاب الناشىء عنه .
ولما كان ما في هذه السورة من الدلائل قد وصل في البيان إلى حد لا يحتاج فيه إلى غير مجر العقل قال : ( على الذين لا يعقلون ) أي لا يوجد لهم عقل ، فهم لذلك لا ينتفعون بالآيات وهم يدعون أنهم اعقل الناس فيتساقطون في مساوىء الأخلاق وهم يدعون أنهم ابعد الناس عنها ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ؛ والنفس : خاصة الشيء التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشيء ، ونفسه وذاته واحد .
يونس : ( 101 - 105 ) قل انظروا ماذا. .. . .
) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ( )
ولما تقرر ما مضى من النهي عن الإضغاء إليهم في طلب الآيات ، وختم بتعليق الأمر بمجرد المشيئة ، كان كأنه قيل : فماذا يقال لهم إذا طلبوا ؟ فقال : ( قل ) أي يا أشرف الخلق لهم غير مهتم بأمرهم ومنبهاً لهم على إبطال مذهب الجبر المتعلق أصحابه بنحو هذه الآية ، لأن المشيئة مغيبة والعبد مأمورببذل الجهد في الطاعة بما له من القدرة والاختبار .
ولما أمر بهذا الفكر فكان ربما ظن لأجله أن للإنسان قدرة مستقلة ، نبه على مذهب أهل السنة القائل بالكسب الذي هو - كما قال الإمام علي رضي الله عنه - أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض ، فقال معلماً أن من حكم بشقائه لا ينفعه شيء : ( انظروا ((3/491)
صفحة رقم 492
أي بأبصاركم وبصائركم لتخرجوا بالانتفاع بالعقل عن عداد البهائم ؛ قال الإمام : ولو أن الإنسان تفكر ي كيفية حكمه الله تعالى في خلق جناح بعوضة لانقطاع فكره قبل أن يصل إلى أول مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد ، فلذلك أبهم في قوله : ( ماذا ) أي الذي ) في السماوات والأرض ) أي من الآيات وواضح الدلالات التي أخرجتموها - فإلفكم لها - عن عداد الآيات ، وهي عند التأمل من أعظم خوارق العادات ، وقال الإمام : فكأنه سبحانه نبه على القاعدة الكليه حتى يتنبه لأقسامها ، وقال أبو حيان أخذاً من الإمام : السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاتهن ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد ، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان وخصوصاً حال الإنسان - انتهى .
ولما كان ما فيها من الآيات في غايه الدلالة ، نبه سبحانه على أن التوقف عن الإيمان بعد التنبيه على كيفية الاستدلال معاندة فقال : ( وما ( وهي نافية أو استفهامية ) تغني الآيات ( اي وإن كانت في غاية الوضوح ) والنذر ) أي الإنذارات أو الرسل المنذرون ) عن قوم ) أي وإن كانت فيهم قوة ) لا يؤمنون ) أي للحكم بشقائهم ، فكان ذل سبباً لتهديدهم بقوله : ( فهل ينتظرون ) أي بجميع قواهم في تكذيبهم للرسول وتخلفهم عن الإيمان ) إلا ) أي أياماً أي وقائع ) مثل أيام ( اي وقائع ) الذين خلوا ( ولما كان أهل الأيام الهائلة بعض من كان من قبل ، أتى بالجار فقال : ( من قبلهم ) أي من مكذي الأمم وهم القبط وقوم نوح ومن طوي بينهما من الأمم ، أي من حقوق الكلمة عليهم فنحل بهم باسنا ثم ننجيكم لإيمانكم كما كنا نحل بأولئك إذا كذبوا رسلنا ، ثم ننجي الرسل ومن آمن بهم حقاً علينا ذلك للعدل بين العباد .
ولما تقدمت الإشارة إلى أن الكلمة حقت على الكافرين بعدم الإيمان والرجس الذي و العقاب ، زاد في تهديدهم بالاعتراض بما سببه عن فعلهم فعل من ينتظر العذاب بقوله : ( قل فانتظروا ( اي بجميع جهدكم ما ترونه واقعاً بكم بسبب ما تقرر عندكم مما كا يقع بالماضين في أيام اللهن وزاد التحذير استءنافه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب : ( إني ( وأعملهم بالنصفة بقوله : ( معكم من المنتظرين ( .
ولما كان التقدير فإنا كنا في ايام الذين خلوا نوقع الرجس بالمكذبين ، عطف عليه بياناً لم كان يفعل بالرسل واتباعهم إذا أهلك الظالمين قوله : ( ثم ننجي ) أي تنجية عظيمة وننجيهم إنجاء عظيماً وجاء به مضارعاً خكايى للأحوال الماضية وتصويراً لها تحذيراً لهم من مثلها وإعلاماً بأنه كذلك يفعل بهذا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واتباعه رضي الله(3/492)
صفحة رقم 493
عنهم ، وأشار بأداة التراخي إلى طول زمان الابتلاء وعظيم رتبة التنجية ، وحذف مقابل الإنجاء لأن المقام بعد آية ) ألا إن أولياء الله ( ناظر غلى البشارة أكثر من النظر غلى النذارة ) رسلنا ) أي الذين عظمتهم من عظمتنا ) والذبن آمنوا ( اي بالرسل وهم معهم في زمانهم ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان تشريفاً للراسخين وترغيباً في مثل حالهم قوله : ( كذلك ( اي كما حق علينا إهلاك الكافرين هذا الإهلاك العظيم ) حق علينا ) أي بما أوجبناه على جنابنا الأعظم ) ننج المؤمنين ) أي العريقين في الإيمان وو كاوا بعد موت الرسل تنجية عظيمة وتنجيهم إنجاء عظيماً ، فالآية من الاحتباك لما أشارت إليه القراءتان بالتخفيف والتثقيل ، أو يكون ذلك بني على سؤال من لعله يقول : هل حقوق النجاة مختص بالرسل ومن معهم ؟ فقيل : لا ، بل ) كذلك ) أي الحقوق ) حقاً علينا ( على ما لنا من العظمة ) ننج المؤمنين ( في كل وزمن وإن لم يكن بين ظهرانيهم رسول ، لأن العلة الاتصاف بالإيمان الثابت ، فيكون الكاف مبتدأ ( وننج ) خبره ؛ والنظر : طلب المعنى بالقلب من جهة الذكر كما يطلب إدراك المحسوس بالعين ؛ والغنى : حصول ما ينافي الضر وصفة النقص ، ونقيضه الحاجة ؛ والنذر : جمع نذير ، من النذارة وهي الإعلام بموضع المخافة ليقع به السلامة ؛ والانظار : الثبات لتوقع ما يكون من الحال ؛ والمثل إن كان من الجنس فهو ما سد مسد غيره من الحس ، وإن كن من غيره فالمراد ما كان فيه معنى يقرب به من غير كقربه منجنسه كتشبيه أعمال الكافر بالسراب ؛ والنجاة من النجوة وهي الارتفاع من الهلاك .
ولما تقدم الفطام عن الميل يطلب الآيات ، وكان طلبهم لها إنما هو على وجه الشك ، وإن لم يكم على ذلك الوجه فإنه فعل الشاك غالباً وتقدمت أجوبة لهم ، وختم ذلك بتهديدهم وبشارة المؤمنين الموجبة لثباتهم ، ناشبة كل المناسبة أن أتبعت الأمر بجواب آخر دال على ثباته ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه مظهر دينه رضي من رضي وسخط من سخط ، لأن البيان قد وصل إلى غايته في قوله تعالى : ( قل يا أيها الناس ) أي الذين هم في حيز الاضطراب ، لم ترقهم هممهم إلى رتبة الثبات ) إن كنتم ) أي كوناً هو كالجبلة منغمسيين ) في شك ( كائن ) من ( جهة ) ديني ( تطلبون لنزوله - بعد تكفل العقل بالدلالة عليه - إنزال الآيات ، فأنا لست على شك من صحة ديني وبطلان دينكم فاعرضوه على عقلوكم وانظروا ما فيه من الحكم مستحضرين ما لدينكم من الوهي الذي تقدم بيانه في قوله تعالى
77 ( ) قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق ( ) 7
[ يونس : 59 ] ونحوه ) فلا أعبد ) أي الآن ولا في المستقبل الزمان ) الذين تعبدون ) أي الآن أو بعد الآن ) من(3/493)
صفحة رقم 494
دون الله ) أي الملك الأعظم لعدم قدرتهم على شيء من ضري ، فلا تطمعوا في أنه يحصل لي شك بسبب حصول الشك لكم ، فإذاً لا أعبد غير الله أصلاً .
ولماكان سلب عبادته عن غيره ليس صريحاً في إثباتها له قال : ( ولكن أعبد الله ( ايالجامع لأوصاف الكمال عبادة مسستمرة ؛ ثم وصفه بما يوجب الحذر منه ويدل على كمال قدرته ) الذي يتوفاكم ( بانتزاع أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها .
فلا تطمعون - عند إرادنه لنزعها - في المحاولى لتوجيه دفاع عن ذلك .
وفي هذا الوصف - مع ما فيه من الترهيب - إشارة غلى الدلاة على الإبداء والإعادة ، فكأنه قيل : الذي اوجدكم من عدم كما أنتم به مقرون بعدمكم بعد هذا الإيجاد وأنتم صاغرون ، فثبت قطعاً أنه قادر على إعادتكم بعد هذا الإعدام بطريق الأولي فاحذروه لتعبدوه كما أعبده فإن قد أمرني بذلك وأنتم تعرفون غائلة الملك إذا خولف ، وقال ) إن كنتم في شك ( مع أنهم يصرحون ببطلان دينه ، لأنهم في حكم الشاك لاضطرابهم عند ورود الآيات ، أو اأن فيهم الشاك فغلب لأنه أقرب إلى الحيز ؛ والشك : وقوف بين المعنى ونيضه ، وضده الإعتقاد فإنه قطع بصحة المعنى دون نقيضه ، وعبر ب ( من ) إشارة إلى أن فعلهم ذلك ابتدأ من الدين ، ولو عبر ب ( في ) لأفهم أنهم دخلوا فيه لأنهم في الشك والشك في الدين ، والظرف لظرف الشيء ظرف لذلك الشيء ، وترك العطف إشارة إلى أن كل جواب منا كاف على حياله .
ولما قرر ما هو الحقيق بطريق العقل ، اتبعه بما رود من النقل بتأييده وإيجابه بقوله : ( وأمرت ) أي بأمر جازم ماض ممن لا أمر لأحد معه ، وعظم المأمور به بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال : ( أن أكون ) أي دائماً كوناً جبلياً ، ولما كان السياق لما يحتمل الشك من امر الباطن ، عبر بالإيمان الذي هو للقلب فقال : ( من المؤمنين ) أي الراسخين في هذا الوصف ) وأن اقم ( اي أيها الرسول ) وجهك ) أي كليتك على سبيل الإخلاص الذي لا شوب فيه ) للدين ( فوصل أولاً كلمه ( أن ) بمعنى الأمر أي ) أن أكون ( دون ( أكن ) وثانياً بلفظه وهو ) أقم ( جمعاً بين الأسلوبين ، وكلاهما بمعنى المصدر ، وخص الثاني بذلك لطوله لأنه كالتفصيل للأول فالخطاب فيه أوكد وألذ ، وقوله : ( حنيفاً ( حال من فاعل ( أقم ) ومعناه : مسلياً ميالاً مع الدليل - كما اوضحته في البقرة ، اي أجمع بين الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح ) ولا تكونن ) أي في وقت من الأوقات ) من المشركين ( الذين هم على ضد صفة الإسلام من الجفاء والغلظة والجمود والقسوة .(3/494)
صفحة رقم 495
يونس : ( 106 - 109 ) ولا تدع من. .. . .
) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( ( )
ولما نهاه عن الشرك ، أكده بما هو كالتعليل له بما يلزمه من العبث بالخضوع لما ل ضر فيه ولا نفع بقوله تعالى : ( ولا تدع ( اي في رتبة الكائنة ) من دون الله ) أي الذي بيده كل شيء ) ما لا ينفعك ) أي إن فعلت شيئاً من ذلك فأتاك بأسنا ) ولا يضرك ( اي إن أقمت على طاعاتنا مع نصرنا ) فإن فعلت ) أي شيئاً مما نهيناك عنه ) فإنك إذاً ( غذا دعوت ذلك الغير بسبب ذلك ) من الظالمين ) أي العريقين في وضع الدعوة في غير محلها لأن ما هو كذلك في غاية البعد عن منصب الإلهية ؛ ثم قال تعالى عاطفاً على قوله ) فإن فعلت ( : ( وإن يمسسك الله ) أي الذي لا راد لأمره ) بضر ) أي أيّ ضر كان على أي وجه كان وإن كان ظاهراً جداً بما أنبأ عنه الإظهار ) فلا كاشف له ) أي أصلاً بوجه من الوجوه ) إلا هو ( لأنه أراده وما أراده لا يكون غيره فلا ترج سواه في أن يبذله بخير ، وعبر بالمس لأنه أخوف ) وإن يردك ( اي مطلق إرادة ) بخير فلا ( اي أصابك لا محالة فإنه لا ) رآد ( ونبه على أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بأن وضع مكان الضمير قوله : ( لفضله ( اي عمن يريده به كما يفعل بعض العاتين من أتباع ملوك الدنيا في رد بعض ما يريدون ، بل هو بحيث لا ينطق أحد غلا بإذنه فلا تخش غيره ، فالآيه من الاحتباك : ذكر المس أولاً دليلاً على إرادته ثانياً ، والإرادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً ، ولم يستثن في الإرادة كما استثنى في الكشف لأن دفع المراد محال ، وعبر بالإرادة في الخير وبالمس في الضير تنبيهاً على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مراد باخير بالذات وبالضر بالعرض تطييباً لقلبه لما تكرر في هذه السورة من الإخبار بإحقاق العذاب على الفاسقين والإيئاس من الظالمين ، فلما تقرر ذلك حسن موقع قوله مكبيناً لحال ذلك الفضل : ( يصيب به ) أي بذلك الفضل أو بالذي تقدم من الخير والضير ) من يشاء ( اي كائناً من كاتن من أدنى وأعلى ، وبين العلة في كونهم مقهورين بقوله : ( من عباده ( وهذا كله إشارة غلى أن ما أوجب الإعراض عن معبوداتهم بانسلاله عنها أوجب الإقبال عليه بثبوته له واختصاصه به ، وختم الآية بقوله : ( وهو الغفور ) أي البليغ الستر للذنوب ) الرحيم ( اي البالغ في الإكرام إشارة إلى أن إصابته بالخير لا يمكن أن يكون إلا فضلاً منه بعد الستر للذنوب والرحمة للضعف ، فهو حقيق بأن يعبد ؛ والمسك اجتماع(3/495)
صفحة رقم 496
التباين من غير نقص ، ونظيره المطابقة ، والمجامعة نقيضها المباينة ؛ والكشف : رفع الستار ، جعل الضر كأنه مانع من إدراك الإنسان وساتر له .
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر والنواهي والأجوبة بسبب ما يقترحونه على وجه التعنت ، وختم بأن من دعا غيره كان راسخاً في الظلم لا مجير له منه ، ختم ذلك بجواب معلم بأن فائدة الطاعة ليست راجعة إلا إليهم ، وضرر النفور ليس عائداً إلا عليهم فقال تعالى : ( قل يا ايها الناس ( اي غاية كل من له قابلية التحرك والاضطراب ) قد جاءكم الحق ) أي الكامل بهذا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا الكتاب ، وذلكم خير عظيم أصابكم الله به ، وزاد الرغبة فيه بقوله : ( من ربكم ) أي المحسن إليكم ) فمن ) أي فتسبب عن ذلك أنه من ) اهتدى ) أي آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعمل بما في الكتاب ) فإنما يهتدي لنفسه ( اي لأنه تبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة ) ومن ضل ( اي كفر بهما أو بشيء منهما ) فإنما يضل عليها ( لأنه ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء لأنه فانٍ فقد عر نفسه ) وما أنا ( ولما كان السياق لنفي تصرفه فيهم وأن ذلك غنما هو إلى الله تعالى ، كان تقديم ضميرهم أهم فقال : ( عليكم بوكيل ( فيطلب مني حفظكم مما يؤدي إلى الهلاك ومنه عنكم كما يطلب من الوكيل .
ولما كان أكثر ذلك وعظاً لهم وتذكيراً ختمه بأمره ( صلى الله عليه وسلم ) بما يفعله في خاصة نفسه أجابوا اولمن يجيبوا ، فقال عطفاً على قوله ) قل يا أيها الناس ( : ( واتبع ) أي بجميع جهدك ) ما يوحي إليك ( وبناه للمفعول لأن ذلك كان بعد أن تقررت عصمته ( صلى الله عليه وسلم ) وعلم أن كل ما يأتيه من عند الله ، وفكان ذلك أمكن في أمره باتباع كل ما يأتيه منه سبحانه وفي الإيذان بأنه لا ينطق عن الهوى ) واصبر ( في تبليغ الرسالة على ما أصابك في ذلك من عظيم الضرر وبليغ الخطر من ضلال من لم يهتد وإعارضه وجفوته وأذاه ) حتى يحكم الله ( ايالملك الأعظم بين من ضل من أمتك ومناهتدى ) وهو ) أي وحده ) خير الحاكمين ( لأنه يوقع الحكم في أولى مواقعه واحقها وأحسنها وأعدلها ، وهو المطلع على السرائر فعنل أنت بما تؤمر به وبشر وأنذر وأخبر وادع إلى الله بجيمع ما أمرك به واترك المدعوين حتى يأمرك فيهم بامره ؛ قال الزمخشري : وروى أنها لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الأنصار قال : ( إنكم ستجدون بعدي اثره فاصبروا حتى تلقوني ) وتبعه على ذلك أبو حيان وغيره ، فإن صح فالسر فيه - والله أعلم - أنه لما(3/496)
صفحة رقم 497
أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلى بما ينبغي الصبر عليه وأفهمت أن من كان له اشد اتباعاً كان اشد بلاء ، وكان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين أحق بهذا الوصف من غيرهم من حيث إنهم كانوا أول قبيلة جمعها الإيمان ومن حيث كانوا له أسهل قياداً والين عريكة مع كونهم لم يتقدم لهم عشرة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا خبرة بأحواله توجب لهم من اتباعه ما يوجب لمن كان من بني عمه قريش يخالطه ويأنس به ويرى منه معالي الأخلاق وكريم الشمائل ما يوفر داعيته على اتباعه ، فلما كان كذلك ، خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الأنصار رضي الله عنهم لهذا الأمر ، فتفضيلهم في ذلك من الجهتين المذكورتين فلا مع أن أكثرهم له من قرب النسب من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والسبق في الإسلام حظ وافر .
هذا ما ظهر لي من مناسبته على تقدير الصحة .
والذي في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أراد ان يقطع للأنصار من البحرين فقالت الأنصار : حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا ، وقال : ( سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني ) فهذا فيه أن السبب حرصهم على الإنصاف وهو يدل على أن المنصف يقل إنصاف الناس له وهو أمر مستقرى : والوحي : إلقاء المعنى غلى النفس في خفاء .
وهو هنا ما يجيء به الملك غلى النبي عليهما السلام عن الله تعالى فيلقيه إليه على اختصاصه به من غير أن يرى ذلك سواه من الناس ؛ والصبر : تجرع مرارة الامتناع من المشتهي إلى الوقت الذي ينبغي فيه تعاطيه ويعين عليه العلم بعاقبته وكثرة الفكر في الخبر الذي ينال به ، واعتياد الصبر في خصلة يصير له ملكة تدعوه إلى ما شاكلها ، وقد ختم سبحانه السورة بما دل عليه أو اشار إليه غلى أن ينجلي الحكيم الذي انوله للحكم في الدنيا أو في الآخرة بما لا مرد له مما برزت به مواعيده الصادقة في كلماته التامة ، وهذا لعينه هو أول التي بعدها ، فكان ختم هذه السورة وسطاً بين أولها وأول التي تليها ، ففيه رد المقطع على المطلع وتتبع لما استتبع والله الموفق .
.. . .(3/497)
صفحة رقم 498
سورة هود
هود : ( 1 - 3 ) الر كتاب أحكمت. .. . .
) الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( ( )
مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة المقتضي ذلك لمنزلة سبحانه وضع كل شيء في أتم محاله وإنفاذه مهما أريد الموجب للقدرة على كل شيء ، وأنسب ما فيها لهذاالمقصد ما ذكر في سياق قصة هو عليه السلام من أحكام البشارة والنذارة بالعاجل والآجل والتصريح بالجزم بالمعالجة بالمبادرة الناظر إلى أعظم مدارات السورة ) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( والعناية بكل دابة والقدرة على كل شيء من البعث وغيره المقتضي للعلم بكل معلوم اللازم منه التفرد بالملك .
وسيأتي في الأحاف وجه اختصاص كل منهما باسمهما ) بسم الله ) أي الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميه القدرة ) الرحمن ( لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة ) الرحيم ( لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله ) الر ( .
لما ختمت السورة التي قبلها - كما ترى - بالحث على اتباع الكتاب ولزومه والصبر على ما يتعقب ذلك من مرائر الضير المؤدية إلى مفاوز الخير اعتماداً على المتصف بالجلال والكبرياء والكمال .
ابتدئت هذه بوصفه بما يرغب فيه ، فقال بعد الإشارة غلى إعادة القرع بالتحدي على ما سلف في البقرة : ( كتاب ( اي عظيم جامع لكل خيرن ثم وصفه بقوله : ( أحكمت ( بناه للمفعول بياناً لأن إحكامه أمر قد فرغ منه على أيسر وجه عنه سبحانه وأتقن إتقاناً لا مزيد عليه ) آياته ) أي أتقنت إتقاناص لا نقص معه فلا ينقصها الذي أنولها بنسخها كلها بكتاب آخر ولا غيره ، ولا يستطيع غيره نقص شيء منها ولا الطعن في شيء من بلاغتها أو فصاحتها بشيء يقبل ، والمراد ب ) محكمات ( في آل عمران عدم التشابه .
ولما كان للتفصيل رتبة هي في غاية العظمة ، أتي بأداة التراخي فقال : ( ثم ( أي(3/498)
صفحة رقم 499
وبعد هذه الرتبة العالية التي ل يشاركه في مجموعها كتاب وذلك أنه ) فصلت ( اي جعلت لها - مع كونها مفصلة إلى حلال وحرام وقصص وأمثال - فواصل ونهايات تكون بها مفارقة لما بعدها وما قبلها ، يفهم منها علوم جمة ومعارف مهمة وإشارات إلى أحوال عالية ، وموارد عذبة صافية ، ومقامات من كل علة شافية ، كما تفصل القلائد بالفرائد ، وهذا التفصيل لم يشاركه في شيء منه شيء من الكتب السالفة ، بل هي مدمجة إدماجاً لا فواصل لها كما يعرف ذلك من طالعها ، ويكفي في معرفة ذلك ما سقته منها في تضاعيف هذا الكتاب ، وما أنسب ختام هذه الآية للإحكام والتفصيل بقوله : ( من لدن ) أي نزلت آياته محكمة مفصلة حال كونها مبتدئة من حضرة هي أغرب الحضرات الكائنة من إله ) حكيم خبير ( منهية إليك وأنت أعلى الناس في كل وصف فلذلك لا يلحق إحكامها ولا تفصيلها ، أرسلناك به قائلاً : ( ألا تعبدوا ) أي بوجه من الوجوه ) إلا الله ) أي الإله الأعظم .
ولما كان هذا معظم ما أرس به ( صلى الله عليه وسلم ) ومداره ، استأنف الإخبار بأنه ارسله سبحانه مؤكداً له لأجل إنكارهم فقال : ( إنني ( ولما كان إرساله ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل رحمة للعالمين ، قدم ضميرهم فقال : ( لكم منه ( اي خاصة ، ثم أجمل القرآن كله في وصفيه صلى الله عليه مسلم بقوله : مفدماً ما هو أنسب لختام التي قبلها بالصبر : ( نذير وبشير ( كامل في كل من الوصفين غاية الكمال ، وهذا التقدير يرشد إليه قوله تعالى أول التي قبلها
77 ( ) أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ( ) 7
[ يونس : 2 ] مع إيضاحه لما عطف عليه قوله تعالى :
77 ( ) ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه أن ( ) 7
[ هود : 25 ] عطفناه عليه ، وإظهاره لفائدة عطفه كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ويرجح أن ( لا ) ناهية جازمة ل ) تعبدوا ( عطف ) أن استغفروا ( عليه ، فقد ظهر من تلويح هذا وتصريحه وتصريح ما في بقية السورة أن مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل بما يعجز كما بدأهم للعمل فوجب إفراده بالعبادة وأن يمتثل جميع أمره ، ولا يترك شيء منه رجاء غقبال أحد ولا خوف إدباره ، ولا يخشى غيره .
ولا يركن إلى سواه ، على ذلك مضى جميع النبيين ودرج سائر المرسلين ( صلى الله عليه وسلم ) أجمعين .
ولما تقدم أنه نذير وبسير .
أتبع ذلك بما يشمل الأمرين بقوله عطفاً على ) ألا تعبدوا ( مشيراً إلى أنه لا قيقدر الله حق قدره : ( وأن استغفروا ربكم ) أي اطلبوا مع الإخلاص في العبادة أن يغفر لكم المحسن إليكم ما فرطتم فيه ؛ وأشار بأداة التراخي إلى علو رتبة التوبة وأن لا سبيل غلى طلب الغفران إلا بها فقال : ( ثم توبوا إليه ( اي ارجعوا بالظاهر والباطن رجوعاً لا جعة فيه وإن كان المراد بها الدوام فجليل(3/499)
صفحة رقم 500
رتبته غير خفي ) يمتعكم ( اي يمد في تلذيذكم بالعيش مداً ، من متع النعار : ارتفع ، والضحى : بلغ غايته ، وأمتعه الله بكذا : ابقاه وأنشأه غلى ان يبلغ شبابه ؛ ولما ، كان التمتيع - وهو المتاع البالغ فيه حتى لا يكون فيه كدر - لا يكون إلى في الجنة فلذلك جعل المصدر ) متاعاً ( وأنه وضع موضع ( تمتيعاً ) ، هذا المصدر ووصفه بقوله : ( حسناً ( ليدل على أنه أنهى ما يليق بهذه الدار ، ولقد كان ما أوتيه الصحابة رضي الله عنهم في زمن عمر رضي الله عنه من الظفر بالإهداء وسعة الدنيا ورغد العيش كذلك ) إلى ( اي ممتداً إلى ) أجل مسمى ) أي في علمه إما بالموت لكل واحد أو بانقضاء ما ضربه من الأجل ما قصد بعمله على وجه التفضيل منه سبحانه فإنه لا يجب لأحد عليه شيء ، وهومع ذلك على حسب التفضيل : الحسنة بعشرة أمثالها ؛ قال ابن مسعود : وهلك من غلبت آحاده عشراته .
ولما انقضى التبشير مجزوماً به ، اتبعه التحذير مخوفاً منه لطفاً بالعباد واستعطافاً لهم فقال : ( وإن تولوا ( اي تلكفوا أنفسكم ضد ما طبعها الله عليه من سلامة الفطرة وسهولة الانقياد من الإعراض ولو أدنى درجاته بما اشار إليه حذف التاء ) فإني أخاف عليكم ) أي والعاقل من أبعد عن المخاوف ) عذاب يوم كبير ) أي لكبر ما فيه من العذاب ممن قدر على إثباتكمن وخص اسم الرب تذكيراً بما له من النعم في الإيجاد والإنشاء والتربية ؛ ولماكان الاستغفار - وهو طلب الغفران - مطلوباً في نفسه لكنه لا يعتبر إلا إذا قرن بالتوبة ، عطف عليه ب ) ثم ( إشارة إلى عظيم رتبتها وعلى منزلتها وإت كان المراد بها الدوام عليها فجليل رتبته غير خفي ، وفي التعبير عن العمل بالفضل إشارة إلى أنه لم يقع التكليف غلا بما في الوسع مع أنه من معالي الأخلاق ، لأن الفضل في الأصل ما فضل عن الإنسان وتعانيه من كريم الشمائل ، وما كان كذلك فهو في الذروة من الإحكام ، لأنه منع الفعل من الفساد ؛ والحكيم من الحكمة وهي العلم بما يجمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنفص ، وبها يميز الحسن من القبيح والفاسد من الصحيح ، وقد أشارت الآية إلى أن الاستغفار والتوبة سبب السعة
77 ( ) ولو أنهم اقاموا التوارة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ( ) 7
[ المائدة : 66 ] وأن الإعارض سبب الضيق كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) ) ويؤت كل ذي فضل فضله ( إشارة إلى ثواب الآخرة ، فالتوبة سبب طيب العيش في الدنيا والآخرة .
وقال الإمام أبو جعفر ابنالزبير في كتابه في مناسبة هذه السورة للتي قبلها .
ولما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت - من آي التنبيه والتحريك للفطر ومن العظات والتخويف والتهديد والترهيب والترغيب وتقريع المشركين الجاحدين والقطع بهم(3/500)
صفحة رقم 501
والإعلام بالجريان علىحكم السوابق ووجوب التفويض والتسليم - ما لم تشمل على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها ، وسبب تكرر ذلك فيها - والله أعلم - أنها أعقبت بها السبع الطوال ، وقد مر التنبيه على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاْ بيان حال المتنكبين عن الصراط المستقيم على اختلاط أحوالهم ، ثم استوفت سورة الأنعام ما وقعت الإحالة عليه من احوال الأمم السالفة كما تقدم وبسطت ما أجمل من أمرهم ، ثم اتبع ذلك بخطاب المستحبين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحذروا وأنذروا ، وكشف عن حال من تلبس بهم من عدوهم من المنافيقين ، وتم المقصود من هذا في سورتي الأنفال وبراءة ، ثم عاد الخطاب إلى طريقة الدعاء غلى الله ولتحذير من عذابه بعد بسط ما تقدمن فكان مظنة تأكيد التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال وإيضاح أدلة ، فلهذا كانت سورة يونس مضمنة من هذت ما لم يضمن غيرها ، ألا ترى افتتاحها بقوله :
77 ( ) إن ربكم الله ( ) 7
[ يونس : 3 ] .
ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة البقرة بقوله تعالى :
77 ( ) يا أيها الناس اعبدوا ربكم ( ) 7
[ البقرة : 21 ] ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى :
77 ( ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ( ) 7
[ يونس : 38 ] ثم تاكدت المراعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين والمعاندين ، فمن التنبيه
77 ( ) إن ربكم الله ( ) 7
[ يونس : 3 ] ،
77 ( ) هو الذي جعل الشمس ( ) 7
[ سورة يونس ، آية : 5 ] ،
77 ( ) إن في اختلاف الليل والنهار ( ) 7
[ سورة يونس ، آية : 6 ] ،
77 ( ) قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده ( ) 7
[ يونس : 34 ] ،
77 ( ) قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ( ) 7
[ سورة يونس ، آية : 35 ] ،
77 ( ) قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ( ) 7
[ سورة يونس ، آية : 101 ] - إلى غير هذا ، وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه السورة إلى قوله :
77 ( ) ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ( ) 7
[ سورة يونس ، آية : 108 ] فحصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين والمتنكبين ، فلما تقررب هذا كله أتبع المجموع بقوله : ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين الكريمين وهما ) الحكيم الخبير ( ثم تأمل تلاؤم صدر السورة بقوله :
77 ( ) يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ( ) 7
[ سورة يونس ، آية : 108 ] وقد كان تقدم قوله تعالى :
77 ( ) قد جاءتكم موعظة من ربكم ( ) 7
[ يونس : 57 ] فأتبع قوله : ( قد جاءكم الحق من ربكم ( بقوله في صدر سورة هود
77 ( ) كتاب أحكمت آياته ثم فصلت ( ) 7
[ هود : 41 ] فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة ، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، وحق توبيخهم في قوله تعالى :
77 ( ) بل(3/501)
صفحة رقم 502
كذبوا بما لم يحيطوا علمه ( ) 7
[ يونس : 39 ] والعجب في عمههم مع إحكامه وتفصيله ولكن
77 ( ) الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ( ) 7
[ يونس : 96 ] وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة
77 ( ) وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ( ) 7
[ هود : 120 ] ، و
77 ( ) جاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( ) 7
[ هود : 120 ] فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى ، وإنما الإشارة - والله أعلم - بما أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من كمال بيان الصراط المستقيم وملتزمات متبعية أخذاً وتركاً ، وذكر أحوال المنتكبين على شتى طرقهم ، واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرُّهم إبليس فإنه متبعهم والقائل لجميعهم في إخبار الله تعالى
77 ( ) إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ( ) 7
[ إبراهيم : 22 ] وقد بسط من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين الحذر منه وعرفهم به وذكر اليهود والنصارى والمشركون والصابئون والمنافقون وغيرهم ، وفصل مرتكب كل فريق منهم كما استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وفصل أحوالهم ابتداء وانتهاء والنزاماً وتركاً ما أوضح طريقهم ، وعين حزبهم وفريقهم
77 ( ) أولئك الذي هدى الله ( ) 7
[ الأنعام : 90 ] وذكر أحوال الأمم مع أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلاً ، وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام وحال الملائكة في التسليم والإذعان وذكر فريق الجن من مؤمن وكافر وأمر الآخرة وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي وتكرير دعاء الخلق إلى الله تعالى طمعاً فيه ورحمة وإعلام الخلق بما هو علبه سبحانه وما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى ، ونبه العباد على الاعتبار وعملوا طرق الاستدلال ورغبوا ورهبوا وبشروا وأنذروا وأعلموا بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المتفرد بخلقهم إلى ما تخلل ذلك مما يعجز الخلائق عن حصره والإحاطة به
77 ( ) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ( ) 7
) الأحزاب : 4 ] فما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها .
أعقب ذلك بقوله : ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) [ هود : 1 ] ثم اتبع هذا بالإيماء غلى فصول ثلاثة عليها مدار آي كتب ، وهي فصل الإلهية ، وفصل الرسالة ، وفصل التاكليف ، أما الأول فاشار إليه قوله : ( إلا تعبدوا إلا الله ) [ هود : 2 ] وأما فصل الرسالة فأشار إليه قوله سبحانه : ( إنني لكم منه نذير وبشير ) [ هود : 2 ] وأما فصل التالكيف فأشار إليه قوله سبحانه ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) [ هود : 3 ] .
وهذه الفصول الثلاثة هي التي تدور عليها آي القرآن وعليها مدار السورة الكريمة ، فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة للمعاند ولا تعلق للجاحد واتضح الحق وبان قال سبحانه وتعالى :
77 ( ) وجاءك في هذه الحق ( ) 7
[ هود : 120 ] إشارة إلى كمال المقصود وبيان(3/502)
صفحة رقم 503
المطلوب واستيفاء التعريف بوضوح الطريق وقد وضح من هذا تلاء السورة الكريمة لما تقدمها ، ومما يشهد لهذا - والله أعلم - قوله تعالى : ( ) أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ( ) [ هود : 17 ] وقوله تعالى : ( ) فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ( ) [ هود : 112 ] فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك ) ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ( ) [ هود : 113 ] فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق ، وكيف ينكب من جزم سلوكه من الخلق ونظيره قوله سبحانه ) ) وجاءك في هذه الحق ( ) [ هود : 120 ] عقب ما ذكر سبحانه ) ) لمن الملك اليوم ( ) [ غافر : 16 ] وقوله : ( ) يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله ( ) [ الانفطار : 19 ] فتأمل ذلك والله المستعان - انتهى .
هود : ( 4 - 6 ) إلى الله مرجعكم. .. . .
) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( ( )
ولما خوف المنذرون باليوم الكبير كانوا كأنهم قالوا : ما هذا اليوم ؟ فكان الجواب : يوم يرجعون إليه ، ولما كانوا ربما حملوا الرجوع على مجرد الموت والصيرورة تراباً ، نبههم على أنه بغير المعنى الذي يتوهمه بل بمعنى إعادتهم كما كانوا فقال : ( إلى الله ( اي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده ) مرجعكم ) أي رجوعكم ووقته ومكانه لأجل الحساب لا إلى التراب و لا غيره ، وهو بكل شيء عليم ، ومنه بدؤكم لأخذ الزاد للمعاد ، وجعل فاصلة الآية حمكماً على المراد فقال : ( وهو ) أي وحده ) على كل شيء ( اي ممكن ) قدير ( اي بالغ القدرة لأنهم يقرون بقدرته على أشياء هي أعظم من الإعادة ، فهو قادر على الإعادة كما قدر على البداءة ، فالآية من الاحتباك : ذكر المرجع أولاً دليلاً على المبدأ ثانياً ، وتمام القدرة ثانياً دليلاً على تمام العلم أولاً لأنهما متلازمان .
ولما تقدم من التخويف والإطماع ما هو مظنة لإقبالهم ورهبهم على التولي بخصوصه ، فكان موضع ان يقال : هل أقبلوا ؟ فقيل : لا قال مبيناً أن التولي باطناً كالتوالي ظاهراً لأن الباطن هو العمدة ، مؤكداً لأنه امر لا يكاد أن يصدق ، والتأكيد أقعد في تبكيتهم : ( ألا أنهم ( اي الكفار المعاندين ) يثنون صدروهم ( اي يطوونها وينحرفون عن الحق على غل من غير إقبال لأن من أقبل على الشيء عليه بصدره ) ليستخفوا منه ) أي يريدون أن يوجدوا إخفاء سرهم على غاية ما يكون من أمره .
فإن(3/503)
صفحة رقم 504
كان مرادهم بالثني الاسستار من الله تعالى فالأمر في عود الضمير غيه سبحانه واضح ، وإن كان من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله ، ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم ، وهو حين استغشاهم ثيابهم ، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال : ( ألا حين يستغشون ثيابهم ( اي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم ، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعلم ما يسرون ) أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل ، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاف بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحاً : ( وما يعلنون ) أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في علمه بين إسرار وإعلان ، فلا وجه لاستخفائهم نفاقاً ، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه .
ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال : ( إنه عليم ) أي بالغ العلم جداً ) بذات الصدور ) أي بضمائر قلبوهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها ، بل من قبل ان يخلقهم ؛ وأصل الثني العطف ، ومنه الاثنان - لعطف احدهما على الآخر ، والثناء - لعطف المناقب في المدح .
ولهذا لما قال العبد في الفاتحة ) الرحمن الرحيم ( بعد الجمد قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي - كما في حديث ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) و الاستثناء - لعطف الثاني على الأول بالاستخراج منه ؛ والاستخفاء : طلب خفاء الشيء : ثم اتبع ذلك بما يدل على شمول العلم والقدرة معاً فقال : ( وما ( وأغرق في العموم بقوله : ( من دآبة ( ودل على أن الانتفاع بالأموال مخصوص بأهل العالم السفلي بقوله : ( في الأرض ( اي صغرت أو كبرت ) إلا على الله ( اي الملك الأعلى الذي ، له الإحاطة وحده لا على غيره ) رزقها ( اي قوتها وما تنتفع وتعيش به بمقتضى ما أوجبه على نفسه ، تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه ، لأن الإفصال على كل نفس بما لا تعيش إلا به ولا يلائمها إلا هو مدة حياتها أدق مما مضى في العلم مع تضمنه لتمام القدرة ، والآية مع ذلك ناظرة إلى ترغيب آية ) وأن استغفروا ربكم ( فالمراد : أخلصوا العبادة له ولا تفتروا عن عبادته للاشتغال بالرزق فإنه ضمنه لكم وهو عالم بكل نفس فلا تخشوا من أنه ينسى أحداً ، وقال : ( وفي الأرض ( ليعم ما يمشي على وجهها وما في أطباقها من الديدان ونحوها مما لا يعلمه إلا هو ، لقد شاهدت داخل حصاة من شاطىء بحر قبرس شديدة الصلابة كأنها العقيق الأبيض دودة عندها ما تأكل ، وأخبرني الفاضل عز الدين محمد بن أحمد(3/504)
صفحة رقم 505
التكروري الكتبي أنه شاهد غير مرة في دواخل حجارة تقطع من جبل مصر الدود عنده ما يأكل من الحشيش الأخضر وما يشرب من الماء ؛ ونبه بقوله : ( ويعلم مستقرها ) أي مكانها الذي تستقر فيه ) ومستودعها ) أي موضعها الذي تودع فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة أو بعده من قبر أو فلاة أو غير ذلك على ما يحيط به علمه من تفاصيلالسكانات والحركات ما كان منها وما يكون من كل ذلك مما يحير الفكر ويدهش الألباب ، ثم جعل فاصلة الآية ما هو في غاية العظمة عند الحق وهو ) كل ) أي من ذلك ) في كتاب مبين ( فغنه ليس كل ما يعلمه العبد يقدر على كتابته ولا كل ما يكتبه يكون مبيناً بحيث إنه كلما أراد الكشف منه وجد ما يريده ، وإذا وجده كانمفهماً له ؛ والدابة : الحي الذي من شانه الدبيب ؛ والمستقر : الموضع الذي يقر فيه الشيء ، وهو قراره ومكانه الذي يأوي إليه ؛ والمستودع : المعنى المجعول في قرارة كالولد الذي يكون في البطن والنطفة التي في الظهر ، وقد جعل سبحانه في كتابه ما ذكر حكماً منها ما للملائكة فيه من العبرة عند المقابلة بما يكون من الأمور المكتوبة قبل وجودها .
هود : ( 7 - 8 ) وهو الذي خلق. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ ( ( )
ولما كان خلق ما منه الرزق أعظم من خلق الرزق وتوزيعه في شمول العلم والقدرة معاً ، تلاه بقوله : ( وهو ) أي وحده ) الذي خلق ) أي أوجد وقدر ) السماوات والأرض ( وحده لم يشركه في ذلك أحد كما أنتم معترفون ) في ستة ايام ( ولما كان خلق العرش اعظم من ذلك كله فإن جميع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة .
وأعظم من ذلك أن يكون محمولاً على الماء الذي لا يمكن حمله في العادة إلا في وعاء ضابط محكم ، تلاه بقوله : ( وكان ( اي قبل خلقه لذلك ) عرشه ( مستعلياً ) على الماء ( ولا يلزم من ذلك الملاصقة كما ان السماء على الأرض من غير ملاصقة .
وقد علم من هذا السياق انه كان قبل الأرض خلق فثبت ان وما تحته محمولان بمحض القدرة من غير سبب آخر قريب أو بعيد ، فثبت بذلك أن قدرته في درجات من العظمة لا تتناهى ، وهذا زيادة تفصيل لما ذكر في سورة يونس عليه السلام من أمر العرش لأن هذه السورة التفضيل ونبه بقوله تعالى معلقاً ب ( خلق ) : ( ليبلوكم ( اي أنه خلق ذلك كله لكم سكناً كاملاً بمهده وسقفه من أكله وشربه وكل ما تحتاجونه فيه وما يصلحكم وما يفسدكم ومكنكم من جميع ذلك والحكمة في خلق ذلك أنه يعاملكم معاملة المختبر ، (3/505)
صفحة رقم 506
ودل على شدة الاهتامام بذلك بسوقه مساف ق الاستفهام في قوله : ( ايكم ) أي أيها العباد ) أحسن عملاً ( على أنه فعل هذه الأفعال الهائلة لأجل هذه الأمور التي هم لها مستهينون وبها مستهزئون ، وعلق فعل البلوى عن جملة الاستفهام لما فيه من معنى العلم لأنه طريق إليه ، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الل عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : أنفق أنفق عليك ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; وقال : ( يد الله ملأى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، وقال : أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء ، .
ويده الميزان يخفض ويرفع ( وفي الآية حث على محاسن الأعمال والترقي دائماص في مراتب الكمال من العلم الذي هو عمل القلب والعمل الظاهر الذي هو وظيفة الأركان .
ولما ثبت - بيده الخلق الذي هم به معترفون - القدرة على إعادته ، وثبت بالابتلاء أنه لا تتم الحكمة في خلق المكلفين إلا باعادتهم ليجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بفعلاه وأنهم ما خلقوا إلا لذلك .
عجب من إنكارهم له وأكده لذلك فقالك ) ولئن قلت ( اي لهؤلاء الذين ما خلقت هذا الخلق العظيم غلا لابتلائهم ) إنكم مبعوثون ) أي موجودون ، بعثكم قطعاً لا بد منه .
ولما كان زمن البعث بعض الزمن قال : ( من بعد الموت ( الذي هو في غاية الابتداء ) ليقولن ( أكده دلالة على العلم بالعواقب علماً من أعلام النبوة ) الذين كفروا إن ( اي ما ) هذا ( اي القول بالبعث ) إلا سحر مبين ) أي شيء مثل السحر تخييل باطل لا حقيقة له أو خداع يصرف الناس عن الانهماك في اللذات للدخول ي طاعة الأمر .
ولما كان ما تقدم عنهم من الأفعال ومضى من الأقوال مظنة لمعاجلتهم بالأخذ ، وكان الواقع أنه تعالى يعاملهم بالإمهال فضلاً منه وكرماً ، حكى مقالتهم في مقابلة رحمته لهم فقال : ( ولئن أخرنا ( اي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء ) عنهم ( اي الكفار ) العذاب ( اي المتوعد به ) إلى أمة ( اي مدة من الزمان ليس فيها كدر ) معدودة ) أي محصورة الأيام أي قصيرة معلومة عندنا حتى تعد الأنفاس ) ليقولن ( على سبيل التكرار ) ما يحبسه ) أي العذاب عن الوقوع استعجلاً له تكذيباً واستهزاء ، وهو تهديد لهم بأنه آتيهم عن قريب فليعتدوا لذلك .
ولما كان العاقل لا ينبغي أن يسأل عن مثل ذلك إلا بعد قدرته على الدفع ، (3/506)
صفحة رقم 507
أعرض عن جوابهم وذكر لهم أنهم عاجزون عن دفاعه عند إيقاعه إعلاماً بأنهم عكسوا في السؤال ، وتحقيقاً لأن ما استهزؤوا به لا حق بهم لا محالة ، فقال مؤكداً لشديد إنكارهم : ( ألا يوم ( وهو منصوب بخبر ) ليس ( الدال على جواز تقدم الخبر ) يأتيهم ليس ( اي العذاب ) مصروفاً عنهم ( اي بوجه من الوجوه ؛ وقدم الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التهديد فقال : ( وحاق بهم ( اي أدركهم إذ ذاك على سبيل الإحاطة ) ما كانوا ) أي بجبلاتهم وسيىء طبائعهم ، وقدم الظرف إشارة إلى شدة إقبالهم على الهزء به حتى كأنهم لا يهزؤون بغيره فقال : ( به ( ولما كان استعجالهم استهزاء ، وضع موضع يستعجلون قوله : ( يستهزءون ( اي يوجدون الهزء به غيجاداً عظيماً حتى كأنهم يطلبون ذلك .
هود : ( 9 - 12 ) ولئن أذقنا الإنسان. .. . .
) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( ( )
ولما كان قولهم ذلك ناشئاً عن طبع الإنسان على الوقوف مع الحالة الراهنة والعمى عن الاستضاءة بنور العقل فيما يزيلها في العاقبة ، بين ذلك ليعلم أن طبعه مناف لما تضمنه مقصود السورة من الإحكام الذي هو ثمرة العلم .
وبعلم ذلك يعلم مقدار نعمته على من حفظه على ما فطره عليه من أحسن تقويم بقوله مؤكداً لأن كل أحد ينكر ان يكون طبعه كذلك : ( ولئن أذقنا ( اي بما لنا من العظمة ) الإنسان ) أي هذا النوع المستأنس بنفسه ؛ ولما كان من أقبح الخلال استملاك المستعار .
وكانت النعم عواري من الله يمنحها من شاء من عباده ، قدم الصلة دليلاً على العارية فقال : ( منا رحمة ) أي نعمة فضلاً منا عليه لا بحوله ولا بقوته من جهة لا يرجوها بما دلت عليه أداة الشك ومكناه من التلذذ بها تمكين الذائق من المذوق ) ثم نزعناها ( اي بما لنا من العظمة وإن كره ذلك ) منه ( أخذاً لحقنا ) إنه ليؤس ) أي شديد اليأس من ان يعود له مثلها ) كفور ( اي عظيم الستر لما سلفه له من الإكرام لأن شأنه ذلك وخلقه إلا من رحم ربك ) ولئن أذقناه نعماء ( من فضلنا .
ولما كان استملاكه العارية طبعاً له ، لا ينفك عنه إلا بمعونة شديد من الله .
دل عليه بما أفهم أنه لو كان طول عمره في الضر ثم نال حالة يرضاها عقب زمن الضر سواء(3/507)
صفحة رقم 508
بادر إلى اعتقاد أنها هي الحالة الأصلية له وأنها لا تفارقه أصلاً ولا يشوبها نوع ضرر ولا يخالط صفوها شيء من كدر .
فقال دالاًّ على اتصال زمن الضر بالقول بنزع الخافض من الظرف : ( بعد ضراء ) أي فقر شديد مضر ببدنه ، ولم يسند المس إليه سبحانه كما فعل في انعماء تعليماً للأدب فقال : ( مسته ( اي بما كسبت يداه ) ليقولن ( مع قرب عهده بالضراء خفة وطيشاً ) ذهب السيِّئات ) أي كل ما يسوءني ) عني ( وقوله ) إنه ( الضمير فيه للإنسان ، المعنى أن الإنسان .
فهي كلية مشهورة بمستغرق ، اي أن كل إنسان ) لفرح فخور ( اي خارج عن الحد في فرحه شديد الإفراط في فخره على غيره بكل نعمة تفضل الله عليه بها .
لا يملك ضر نفسه ومنعها من ذلك فلذا اتصل بها قوله مستثنياً من الإنسان المراد به اسم الجنس : ( إلا الذين صبروا ( في وقت الشدائد وزوال النعم رجاء لمولاهم وحسن ظن به بسبب إيمانهم الموجب لتقيدهم بالشرع ) وعملوا الصالحات ( اي من اقوال الشكر وأفعاله عند حلول النعم ، وخلقهم في أحسن تقويم .
وهم أقل من القليل لعظيم جهاده لنفوسهم فيما جبلت عليه من الحظوظ والشهوات وغيرها وشياطينهم .
ولما كان كأنه قيل : فما لهم لم يكونوا كذلك أنتج السياق مدهم فقال : ( أولئك ) أي العالو المراتب ) لهم مغفرة ( إذا وقعت منهم هفوة ) ، اجر كبير ( على صبرهم وشكرهم ؛ والذوق : تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم كما أن الشم ملابسة الشيء الأنف لإدراك الرائحة ؛ والنزع : رفع الشيء عن غيره مما ان مشابكاً له كالقلع والقشط ؛ واليأس : القطع بأن الشيء لا يكون ، وهو ضد الرجاء ، ويؤوس : كثير اليأس ، وهو ذك لأنه للجهل بسعة الرحمة الموجبة لقوة الأمل في كل ما يجوز في الحكمة فعله ؛ والنعماء : إنعام يظهر اثره على صاحبه ، كما أن الضراء مضرة تظهر الحال بها ، لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة من حمراء وعوراء مع ما في مفهوما من المبالغة ؛ والسيئة : مايسوء من جهة نفور طبع أو عقل ، ووهي هنا المرض والفقر ونحوه ؛ والفرح : انفتاح القلب بما يلتذ به ؛ وعبارة البغوي : هو لذة في القلب بنيل المشتهى وهو أعظم من ملاذ الحواس ؛ والفخر : التطاول بتعديد المناقب ؛ والصبر : حبس النفس عن المشتهى من المحارم ونحوها ، والصبر على مر الحق يؤدي إلى الفوز في الآخرة مع ما فيه من جمال في الدنيا ؛ والكبير واحد يقصر مقدار غيره عنه ؛ والكثير : جمع يزيد على عدد غيره .
ولما استثنى سلحانه من الجارين مع الطبع الطائشين في الهوى من تحلى برزانة(3/508)
صفحة رقم 509
الصبر الناشىء عن وقار العلم المثمر لصالح العمل ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) رأس الصابرين ، وكان ما مضى من أقوالهم وأفعالهم مثل قولهم ) ما يحبسه ( وتثنيهم صدورهم اسباباً لضيق صدره ( صلى الله عليه وسلم ) ، فربما كانت مظنة لرجائهم تركه ( صلى الله عليه وسلم ) بعض ما يوحى إليه من عيب آلهتهم وتضليل آبائهم وتسفيه أحلامهم ، وغير ذلك مما يشق عليهم طمعاً في إقبالهم أو خوفاً من إدبارهم فإنهم كانوا يقولون : ما نراه يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكرنا به من الشر ، قال تعالى مسبباً عن ذلك ناهياً في صيغة الخبر : ( فلعلك تارك ( اي إشفاقاً أو طمعاً ) بعض ما ( ولما كان الموحى قد صار معلوماً لهم وإن نازعوا فيه بنى للمفعول قوله : ( يوحى إليك ( كالإنذار وتسفيه أحلام آبائهم ) وضآئق به ) أي بذلك البعض ) صدرك ( مخافة ردهم له إذا بلغته لهم ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إن ( اي مخافة أو لأجل أن ) يقولوا ( تعنتاً ومغالبة إذ لو كانوا مسترشدين لكفتهم آية واحدة ) لولا ) أي هلا ولم لا ) أنزل عليه كنز ( يستغني به ويتفرغ لما يريد ، وبنوه للمفعول لأن المقصود مطلق حصوله وكانوا يتهاونون بالقرآن لعلمهم أنه الآية العظمى فكانوا لا يعدونه آية عناداً ومكابرة ) أو جاء معه ملك ) أي ليؤيد كلامه وليشهد له ، فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يضيق صدره بمثل أقوالهم هذه ويثقل عليه أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكمون منه فحركه الله بهذا لأداء االرسالة كائناً فيها ما كان ، فكان المعنى : فإذا تقرر أن الإنسان مطبوع على نحو هذا من التقلبات ، فلا تكن موضع رجائهم في أن تكون تاركاً ما يغيظهم مما نأمرك به ، بل كن من الصابرين ؛ قال أهل السير : فلما بادى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه غلا من عصمه الله ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أم المشركين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا .
ولما أفهم هذا السياق الإنكار لما يفتر عن الإنذار ، كان كأنه قيل له : هذا الرجاء المرجو منكر ، والمقصود الأعظم من الرسالة النذارة لأنها هي الشاقة على النفوس ، وأما البشارة فكل من قام يقدر على إبلاغها فلذا قال : ( إنما أنت نذير ( فبلغعهم ما أرسلت به فيقولون لك ما يقدره الله لهم فلا يهمنك فليس عليك إلا البلاغ وما أنت عليهم بوكيل تتوصل إلى ردهم إلى الطاعة بالقهر والغلبة بل الوكيل الله الفاعل لما يشاء ) والله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة .
ولما كان السياق لإحاطته سبحانه ، قدم قوله : ( على كل شيء ( منهم ومن غيره ومن قبولهم وردهم ومن حفظك منهم ومن غيره ) وكيل ( فهو يدبر الأمور(3/509)
صفحة رقم 510
على ما يعلمه من الحكم ، فإنشاء جاء بما سالوا وإن لم يشأ لم يأت به ولا اعتراض عليه فتوكل عليه في كل أمر وإن صعب ، ولعله اقتصر على النذارة لأن المقام يقتضيها من أجل أنهم أهل لها وأنها هي التي يطعمون في تركها بإطماعهم في المؤالفة بالإعراض عما يوجب المخالفة ؛ والصدر : مسكن القلب ، يشبه به رئيس القوم والعالي المجلس لشرف منزلته على غيره من الناس ؛ والكنز : المدفون ، وقد صار في الدين صفة ذم لكل مال لم يخرج منه الواجب من الزكاة وإن لم يكن مدفوناً ، والآية من الاحتباك : نفي أولاً قدرته ( صلى الله عليه وسلم ) على الإتيان بما سألوا دليلاً على قدرة مرسله على ذلك وغيره ثانياً .
وأثبت الوكالة ثانياً دليلاً على نفيها أولاً .
هود : ( 13 - 15 ) أم يقولون افتراه. .. . .
) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ( ( )
ولما كانوا ذوو الهمم العوال ، لا يصوبون إلى الكنوز والأموال ، وكان الملك إنما يراد لتطييب النفس بتثبيت الأمر .
وكان فيما يشهد به إعجاز القرآن ببديع نظمه وباهر حكمه وحكمه وزاجر غرائبه ووافر علمه ما يغني عن ذلك ، وكان في كل آية منه ما يبين للفهم سفساف قدحهم في الرسالة ، كان موضع الإنكار له ، فكان كأنه قيل : أيقولون ذلك تعنتاً منهم واقتراحاً وإعارضاً عن معجز القرآ فأعرض عنه فإنه لا يضر في وجه الدليل ) أم يقولون ( اي مكررين ) افتراه ( فكان ذلك موضع ان يقال : نعم ، إنهم ليقولون ذلك فيقدحون في الدليل فماذا يقال لهم ؟ فقيل : ( قل ) أي لهم على سبيل التنزل ) فأتوا ( يا معاشر العرب فإنكم مثلي في العربية واللسان والمولد والزمن وفيكم من يزيد عليَّ بالكتابة والقراءة ومخالطة العلماء والتعلم من الحكماء ونظم الشعر واصطناع الخطب والنثر وتكلف الأمثال وكل ما يكسب الشرف والفخر ) بعشر سور ( اي قطع ، كل قطعة منها تحيط بمعنى تام يستدل فيها عليه ) مثله ) أي تكون العشر مثل جميع القرآن في طوله وفي مثل احتوائه على أساليب البلاغة وأفانين العذوبة والمتانة والفحولة والرشاقة حال كونها ) مفتريات ( اي أنكم قد عجزتم عن الإتيان بسورة اي قطعة واحدة آية أو آيات من مثله فيما هو عليه من البلاغة والإخبار بالمغيبات والحكم والأحكام والوعد والوعيد والأمثال وادعيتم مكابرة أنه مفترى فارغ عن الحكم فأتوا بعشر مثله في مجرد البلاغة غير ملزمين بحقائق المعني وصح المباني - ذكره البغوي عن المبرد ، وقد مضى في البقرة عند ) فأتوا بسورة من مثله ( عن الجاحظ وغيره ما(3/510)
صفحة رقم 511
يؤيده ؛ قال أبو حيان : وشان من يريد تعجيز شخص ان يطالبه اولاً بان يفعل أمثالاً مما يفعل هو ، ثم إذا تبين عجزه قال : افعل مثلاً واحداً - انتهى .
فكأنهم تحدوا أولاً بجميع القرآن في مثل قوله :
77 ( ) فليأتوا بحديث مثله ( ) 7
[ الطور : 34 ] أي في التحتم والتطبيق على الوقائع وما يحدث ويتجدد شيئاً في إثر شيء ثم قطع بعد عجزهم بدوام عجزهم في قوله تعالى :
77 ( ) قل لو اجتمعت الإنس والجن ( ) 7
[ الإسراء : 88 ] تبكيتاً لهم وإخزاء وبعثاً على ذلك وإغراء ، ثم تحدوا في سورة يونس عليه السلام بسورة واحدة مثل جميع القرآن غير معتنين فيها بالتفصيل إلى السور تخفيفاً عليهم واستهانة بأمرهمن فلما عجزوا تحدوا بعشر مفتراه ، ولما خفف عنهم التقيد بصدق المعنى وحقيقة المباني ، ألزمهم بما خففه عنهم في يونس من التفضيل ولم يخلهم من التخفيف إشارة إلى هوان أمرهم واحتقار شانهم بأن جعلها غلى عشر فقط ، فلما عجزوا أعيد في المدينة الشريفة لأجل أهل الكتاب تحديهم بسورة ، أي قطعة واحدة مقروناً ذلك بالإخبار بدوام عجزهم عن ذلك في قوله تعالى في البقرة
77 ( ) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( ) 7
[ البقرة : 24 ] ، فالمتحدى به في كل سورة غير المتحدى به في الأخرى ، وقد مضى في يونس ولابقرة ويأتي في سبحان والطور إنشاء الله تعالى ما يتم به فهم هذا المقام ، والبلاغة ثلاث طبقات فأعلاها معجز ، وأوسطها وأدناها ممكن ، والتحدي وقع بالعليا ، وليس هذا أمراً بالافتراء لأنه تحدّ فهو للتعجيز وقوله : ( وادعوا من استطعتم ) أي طلبتم أن يطيعكم ففعل ، ولما كانت الرتب كلها تحت رتبته تعالى والعرب مقرة بذلك قال : ( من دون الله ) أي الملك الأعلى .
وأشار غلى عجزهم بقوله : ( إن كنتم صادقين ( وفي ذلك زيادة بيان وتثبيت للدليل ، فإن كل ظهير من سواهم دونهم في البلاغة ، فعجزهم عجز لغيرهم بطريق الأولى .
ولما كان أدنى درجات الافتراء إتيان الإنسان بكلام غيره من غير علمه ، وكان عجزهم عن المعارضة دليلاً قاطعاً على أنهم لم يصلوا إلى شيء من كلامه تعالى بغير علمه ولا وجدوا مكافئاً له يأتيهم يمثله ثبت قطعاً أن هذا القرآن غير مفترى ، فقال تعالى مخاطباً للجميع بخلاف ما في القصص إشارة غلى وضوح الأمر لا سيما في الافتراء عند كل أحد وان المشركين قد وصلوا من ذل التبكيت بالتحدي مرة بعد مرة وزورهم لأنفسهم في ذلك المضمار كرة في اثر كرة غلى حد من العجز لا يقدرون معه على النطق في ذلك ببنت شفة : ( فإن لم يستجيبوا لكم ( اي يطلبوا إججابتكم ويوجدوها ) فاعلموا ( ايها الناس كافة ) إنما أنزل ) أي ما وقع إنزال هذا القرآن خاصة إلا ملتبساً ) بعلم الله ( اي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بمقتضى ان محمداً واحد منهم تمع العادة أن يعثر دون جميع أهل الأرض على ما لم يأذن فيه ربه من كلامه فضلاً عن أن يكون مخترعاً(3/511)
صفحة رقم 512
له ، ويجوز أن يكون ضمير ) يستجيبوا ( ل ( من ) ) استطعتم ( و ) لكم ( للمشركين ، وكذا في قوله : فاعلموا و ) أنتم ( ) وأن ) أي واعلموا أن ) لا غله إلا هو ( فإنه لو كان معه إله آخر لكافأة في الإتيان بمثل كلامه وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من باس الله آلهتهم .
ولما كان هذا دليلاً قطعياً على ثبوت القرآن ، سبب عنه قوله مرغباً مرهباً : ( فهل أنتم مسلمون ) أي منقادون أتم انقياد .
ولما كان في هذا من الحث على الثبات على الإسلام والدخول فيه والوعيد على التقاعس عنه ما من حق السامع أن يبادر إليه ، وكان حق المسلم الإعراض عن الدنيا لسوء عاقبتها ، وكان أعظم الموانع للمشركين من التصديق اسستيلاء أحوال الدنيا عليهم ، ولذلك تعنتوا بالكنز ، أشار غلى عواقب ذلك بقوله : ( من كان يريد ) أي بقصده وأعماله من الإحسان إلى الناس وغيره ) الحياة الدنيا ) أي ورضي بها مع دناءتها من الآخرة على علوها وشرفها ) وزينتها ( فأخلد إليه ا لحضورها ونسي ما يوجب الإعراض عنها من فنائها وكدرها ) نوف ( موصلين ) إليهم أعملهم ) أي جزاءها ) فيها ) أي الدنيا بالجاه والمال ونحو ذلك ) وهم فيها ) أي في الأعمال أو الدنيا ) لا يبخسون ) أي لا ينقص شيء من جزائهم فيها ، واما ابدانهم وأرواحهم وأديانهم فكلها بخس في الدارين معاً ، وفي الجملتين بيان سبب حبس العذاب عنهم في مدة إمهالهم مع سوء أعمالهم .
هود : ( 16 - 19 ) أولئك الذين ليس. .. . .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( ( )
ولما بين حالهم في الدنيا ، بين حالهم في الأخرى مشيراً بأداة البعد إلى أنهم أهل البعد واللعنة والطرد في قوله تنيجة لما قبله : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) الذين ليس لهم ) أي شيء من الأشياء ) في الآخرة إلا النار ( اي لسوء أعمالهم واستيفائهم جزاءها في الدنيا ) وحبط ) أي بطل وفسد ) ما صنعوا فيها ) أي مصنوعهم أو صنعهم أي لبنائه على غير اساس ؛ ولما كان التقييد الحبوط بالآخرة ربما أوهم أنه شيء في نفسه قال : ( وباطل ) أي ثابت البطلان في كل من الدارين ) ما كانوا يعملون ) أي معمولهم أو عملهم وإن دأبوا فيه دأب من هو مطبوع عليه لأنه صورة لا معنى لها لبنائه(3/512)
صفحة رقم 513
على غير أساس ؛ والزينة : تحسين الشيء بغيره من لبسه أو حلية أو هيئة ؛ والتوفية : تأدية الحق على تمام ؛ وحبوط العمل : بطلانه ، من قولهم : حبط بطنه - إذا فسد بالمأكل الرديء .
ولما اتضحت الحجج وانتهضت الدلائل فأغرقتهم عوالي اللجج ، كان ذلك موضع الإنكار على من يسوي بين المهتدي والمعتدي ، فكيف يفصل إما باعتبار النظر إلى الراسة الدنيوية غفلة من حقائق الأمور أو عناداً كمن قال من اليهود للمشركين : أنتم أهدى منهم ، فقال : ( أفمن كان على بينة ) أي برهان وحجة ) من ربه ( بما آتاه من ونر البصيرة وصفاء العقل فهو يريد الآخرة ويبني أفعاله على أساس ثابت ) ويتلوه ) أي ويتبع هذه البينة ) شاهد ( هو القرآن ) منه ) أي من ربه ، أو تأيد ذلك البرهان برسالة رسول عربي بكلام معجز وكان ) من قبله ) أي هذا الشاهد مؤيداً له ) كتاب موسى ) أي شاهد ايضاً وهو التوارة حال كونه ) إماماً ( يحق الاقتداء به ) ورحمة ) أي لكل من اتبعه .
ولما كان الجواب ظاهراً حذفه ، وتقديره - والله أعلم : كمن هو على الضلالة فهو يريد الدنيا فهو يفعل من المكارم ما ليس مبنياً على أساس صحيح ، فيكون في دار البقاء والساعدة هباء منثوراً ؛ ولما كن هذا الذي على البينة عظيماً ، ولم يكن يراد به واحداً بعينه ، استأنف البيان لعلو مقامه بأداة الجمع بشارة لهذا النبي الكريم بكثرة أمته فقال : ( أولئك ) أي العالو الرتبة بكونهم على هدى من ربهم وتأيد هداهم بشاهد من قبله وشاهد من بعده مصدق له ) يؤمنون به ) أي بهذا القرآن الذي هو الشاهد ولا ينسبون ىلآتي به إلى أنه افتراه ) ومن يكفر به ) أي بهذا الشاهد ) من الاحزاب ( من جميع الفرق وأهل الملل سواء ، سوى بين الفريقيين جهلاً أو عناداً ) فالنار موعده أي وعيده ( وموضع وعيده يصلى سعيرها ويقاسي زمهريرها .
ولما عم بوعيد النار ، اشتد تشوف النفس لما سبب عنه فقرب إزالة ما حملت من ذلك بالإيجاز ، فاقتضى الأمر حذف نون ( تَكن ) فقيل : ( فلا تكُ ) أي أيها المخاطب الأعظم ) في مرية ( اي شك عظيم ووهم ) منه ) أي من القرآن ولا يضيق صجرك عن إبلاغه ، أو من الوعد الذي هو النار والخيبة وإن أنعمنا على المتوعد بذلك ونعمناه في الدنيا ؛ ثم علل النهي بقوله : ( إنه ( القرآن أو الموعد ) الحق ( اي الكالمل ، وزاد في الترغيب فيه بقوله : ( من ربك ) أي المحسن إليك بانزاله عليك .(3/513)
صفحة رقم 514
ولما كان كونه حقاً سبباً يعلق الأمل بإيمان كل من سمعهن قال : ( ولكن أكثر الناس ( اي الذين هم في حيز الاضطراب ) لا يؤمنون ( بأنه حق لا لكون الريب يتطرق غليه بل لما على قلوبهم من الرين ويؤولون إليه من العذاب المعد لهم ممن لا يبدل القول لديه ولا ينسب الظلم إليه ، والقصد بهذا الاستفهام الحث على ما حث عليه الاستفهام في قوله ) فهل أنتم مسلمون ( من الإقبال على الدين الحق على وجه مبين لسخافة عقول الممترين وركاكة آرائهم .
ولما كان الكافرون قد كذبوا على الله بما أحدثوه من الدي من غير دليل وما نسبوا إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الافتراء ، أتبع ذلكك سبحانه قوله : ( ومن أظلم ) أي لا أحد أظلم ) ممن افترى ) أي تعمد أن اختلق متكبراً ) على الله ( اي الملك الأعظم ) كذباً ( الآية ، وهو موضع ضمير لو أتى به لقيل : لا يؤمنون ظلماً منهمن ومن أظلم منهم أي هم أظلم الظالمين ، فاتى بهذا الظاهر بياناً لما كفروا به لأنه إذا علق الحكم بالوصف دل على أنه علته .
ولما بين أنهم أظبمن اتبعه جزاءهم بقوله استئنافاً : ( أولئك ( المستحقو البعد ؛ ولما كان نفس العرض نخوفاً ، بنى للمجهول قوله : ( يعرضون ) أي لذلك ولدلالة على أنهم على صفة الهوان ومستسلمون لكل عارض ، فعرضهم في غاية السهولة ) على ربهم ) أي الذي أحسن إليهم فلم يشكروه ، العالم بالخفايا فيفتضحون بين يديه بما قابلوا به إحسانه من اللوم ) ويقول ( على سبيل التكرار ) الأشهاد ( وهم الذين آمنوا بالكتب الشاهد بعضها لبعض المشار إليه بقوله ) ويتلوه شاهد منه ( والملائكة الذين شهدوا أعمالهم ومن أعضائهم حين يختم على افواههم ) هؤلاء ( إشارة بأداة القرب غلى تحقيرهم ) الذين كذبوا ( متكبرين ) على ربهم ( في ادعاء الشريك والولد والتحليل والتحريم وغير ذلك بما عراهم من إحسانه وطول حلمه ، وفي الإتيان بصفة الربوبية غاية التشنيع عليهم ، فتكررت بها القول فضيحتهم عند جنسهم وبعدهم عن كل من سمع هذا الكلام لأنه لا أبعد عن القلوب من الكاذب فكيف بالمجترىء بالكذب على الؤساء فكيف بملك الملوك الذي رباهم ولك من أهل الموقف مرتقب برّه خائف من انتقامه ، وكأنه قيل : فما لهم بعد هذا العذاب العظيم بهذه الفضيحة ؟ فقيل : ( آلا لعنة الله ( وهي طرد الملك الأعظم وإبعادهن انظر إلى تهويل الأمر باسم الذات ما اشده ) على الظالمين ( فكيف بأظلم الظالمين ، ثم فصل ظلمهم بقوله : ( الذين يصدون ( اي يعرضون في أنفسهم ويمنعون غيرهم ) عن سبيل ) أي دين ) الله ) أي الملك الذي له الكمال كله مع أنه الولي الحميد ) ويبغونها ( اي يريدون بطريق الدين الواسعة السهلة ) عوجاً ( بإلقاء الشبهات والطعن في الدلائل مع كونها في غاية الاستقامة .(3/514)
صفحة رقم 515
ولما كان النظر شديداً إلى بيان كذبهم وتكذيبهم ، بولغ في تأكيد قوله : ( وهم ( اي بضمائرهم وظواهرهم ؛ ولما كان تكذيبهم بالآخرة شديداً ، قدم قوله : ( بالآخرة ( وأعاد الضمير تأكيداً لتعيينهم وإثبات غاية الفساد لبواطنهم واختصاصهم بمزيد الكفر فقال : ( هم كافرون ( ايعريقون في هذا الوصغ ؛ والعرض : إظهار الشيء بحيث يرى للتوقيف على حالة ، والصد : المنع بالإغراء الصارف عن الأمر ؛ والبغية : طلب أمر من الأمور ، وهي إرادة وجدان المعنى بما يطمه فيه ؛ والعوج : العدول عن طريق الصواب ، وهو في المعنى كالدين بالكسر ، وفي غيره كالعود بالفتح فرقاً بين ما يرى وما لا يرى ، جعلوا السهل للسهل والصعب للصعب ؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في النجوى : ( يدنى المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره بذنوبه : تعرف ذنب كذا ؟ يقول : أعرف رب أعرف - مرتين ، ويقول : سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليومظن ثم يطوي صحيفة حسناته ، وأما الآخرون أو الكفار فينادي على رؤوس الأشهاد ) هؤلاء الذين كذبوا على بهم إلا لعنة الله على الظالمين ( .
)
هود : ( 20 - 22 ) أولئك لم يكونوا. .. . .
) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ( ( )
ولما هددهم بأمور الآخرة ، أشار إلى بيان قدرته على ذلك في الدارين بقوله : ( أؤلئك ) أي البعداء عن حضرة الرحمة ) لم يكونا ) أي بوجه من الوجوه ) معجزين ( وأشار غلى عجزهم بأنهم لا يقدرون على بلوغ العالم العلوي بقوله : ( في الأرض ) أي ما كان الإعجاز - وهو الامتناع من مراد الله - لهم ولا هو في قدرتهم ، لأن قدره على جميع الممكنات على حد سواء .
ولما نفى التعذر بأنفسهم ، نفاه من جهة غيرهم فقال : ( وما كان لهم ( ولما كانت الرتب التي هي دون عظمته سبحانه متكاثرة جداً ، بين أنهم معزولون عن كل منها بإثبات الجار فقال : ( من دون الله ) أي الملك الأعظم ، وأغرق في النفي بقوله : ( من أولياء ((3/515)
صفحة رقم 516
أي يفعلون معهم ما يفعل القريب من تولي المصالح والحماية من المصائب ، ومن لم يقدر على الامتناع وهو حي لم يمتنع بعد موته فكأنه قيل : ماذا يفعل بهم ؟ فقيل : ( يضاعف ) أي يفعل يه فعل من يناظر آخر في الزيادة ، وبناه للمفعول لأنالمرجع وجود المضاعفة مطلقاً ) لهم العذاب ( اي لما كانوا يضاعفون المعاصي ؛ ثم علل سبب المضاعفة بأنه خلق لهم سمعاً وبصراً فضيعوهما بتصامّهم عن الحق وتعاميهم عنه ، فكأن لا فرق بينهم وبين فاقدهما فقال : ( ما كانوا ( اي بما لهم من فساد الجبلات ) يستطيعون السمع ( اي يقدرون لما غلب على فطرهم الأولى السليمة بانقيادهم للهوى من التخلق بنقائص الشهوات على أن توجد طاعته لهم فمما كانوا يسمعون ) وما كانوا ( يستطيعون ، الإبصار فما كانوا ) يبصرون ( حتى يعرضوا عن الشهوات فتوجد استطاعتهم للسمع والإبصار ، وهو كناية عن عدم قبولهم للحق وأن شدة إعراضهم عنه وصلت إلى حد صارت فيه توصغ بعد الاستطاعة كما يقول الإنسان لما تشتد كراهته له : هذا مما لا أستطيع أن أسمعه ، وتكون المضاعفة بالكفر والصد ، ونفي الاستطاعة أعرق في العيب وأدل على النقص سواء كان للعين أو للقلب ، هذا إن لم تخرج الآية على الاحتباك ، وإن خرجت عليه استوى الأمران ، وصار نفي الاستطاعة أولاً دالاًّ على نفيها ثانياً ، ونفي الإبصار يدل على نفي السمع أولاً .
ولما ثبت أنهم لا سمع ولا بصر ، ثبت أنهم لا شيء فقال : ( أولئك ( اي البعداء البغضاء ) الذين خسروا أنفسهم ( اي بتضييع الفطرة الأولى التي هي سهولة الانقياد للخير وصعوبة الانقياد للشر ؛ ولما كان العاجزز ربما نفعه من كان يخدمه فيكسبه قوة بعد الضعف ونشاطاً بعد العجز ، نفى ذلك بقوله عائداً إلى نفي النفع ممن عذرهم أولاً على أحسن وجه : ( وضل عنهم ما كانوا ) أي كوناً جبلوا عليه فصاروا لا ينفكون عنه ) يفترون ) أي يتعمدون كذبه مما ادعوا كونهم آلهة ، ولا شك أن من خسر نفسه ومن خسرها من أجله بادعاء أنه شريك لخالقه ونحو ذلك كان أخسر الناس ، فلذلك قال : ( لا جرم ( اي لا شك ) أنهم ) أي هؤلاء الذي بالغلوا في إنكار الآخرة ) في الآخرة ( ولما كان المقام جديراً بالمبالغة في وصفهم بالخسارة ، أعاد الضمير فقال : ( هم ) أي خاصة ) الأخسرون ) أي الأكثرون خسراناً من كل من يمكن وصفه بالخسران ؛ والإعجاز : الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه ؛ والمضاعفة : الزيادة على المقدار بمثله أو أكثر ؛ والاستطاعة : قوة ينطاع بها الجوارح للفعل ؛ وأما ( لا جرم ) فقد اضطرب علماء العربية في تفسيرها ، قالالرضي في شرح الحاجبية والبرهان السفاقسي في إعرابه(3/516)
صفحة رقم 517
ما حاصله : والغالب بعد ) لا جرم ( الفتح ، أي في ) أن ( ، ف ) لا ( إما رد الكلام السابق - على ما هو مذهب الخليل - أو زائدة كما في ) لا اقسم ( لأن في جرم معنى القسم ، وهي فعل ماض عند سيبويه والخليل مركبة مع ( لا ) ، وجعلها سيبويه فعلاً بمعنى حق ، ف ( أن ) ( فاعله ، وقيل : ( جرم ( بمعنى حق ، وهو اسم لا و ) أنهم ( خبره ؛ وقال الكسائي معناها : لا صد ولا منع ؛ وعن الزجاج أنها غير مركبة ، ولا نفي لما قيل من أن لهم أصناماً تنفعهم ، وجرم - فعل ماض بمعنى كسب وفاعله مضمر معبر به عن فعلهم ، و ) أنهم ( مفعولة ؛ وقال الفراهي : كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ، لأنه يروي عن العرب ) لا جرم ( - يعني بضم ثم سكون ، والفعل - يعني هكذا ، والفعل - يعني محركاً ، يشتركان في المصادر كالرشد والرعد والبخل ؛ والجرم : القطع ، أي لا قطع من هذا كا أنه لا بد بمعنى لا قطع ، فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم ، فلذلك يجاب بما يجاب به القسم ، فيقال : لا جرم لآتينك ، ولا جرم أنك قائم ، فمن فتح فللنظر إلى أصل ) لا جرم ( كما نقول : لا بد أن نفعل كذا وأنك تفعل ، اي من أن ومن أنك تفعل ، ومن كسر فلمعنى القسم العارض في ) لا جرم ( - انتهى .
فتفسيره لها بالقطع نظر منه إلىأن مادة ( جرم ) بخصوصها دائرة على القطع ، والأصنع تفسيرها بالظن نظراً إلى ما تدور عليه المادة من حيث هي - باي ترتيب كان - من جرم وجمر ورجم ورمج ومجر ومرج ، وإنما جعلتها كذلك لأنهم قالوا جرم النخل : خرصها ، وأجمر النخل أيضاً : خرصها ، ورجم - إذا ظن ، والمجر : العقل ، ويلزم الظن اتقاد الذهن ومنه حمرة النار ، والجرم - للأرض الشديدة الجر ، ويلزم الظن أيضاً اجتماع الفكر ، ومنه الجمرة للقلبية وكل ما شاكلها في الجمع ، ومنه الجرم بالكسر وهو الجسد فإنه بالنظر إلى جميعه ، والصوت أو جهارته فإنه يجمع فيه الحلق لقطعه ، ويلزم الاجتماع ايضاً العظمة ، ومنه أجرم - إذا عظم ، والجمير كأمير : مجتمع القوم ، ومن الجمع الرياء والعقل ، فينشأ منه الصفاء ، ومنه ) مارج من نار ( اي لا دخان فيه ، ومنه أجرم لونه : صفا ، ومن الاجتماع المجر - بالتحريك ، وهو أن يملأ بطنه من الماء ولم يرون والكسب ، جرم لأهله - إذا كسب ، ومنه الذنب فإنه كسب خاص ، ويمكن أن يكون من القطع لأنه يقطع صاحبه عن الخير ، ويلزم الاجتماع أيضاً الاستتار ومنه أجمرت الليلة - استتر فيها الهلال ، والمجر لما في بطون الحوامل من الإبل والغنم ، أو يجعل هذا مما يلزم نفس الظن من الخفاء ، ومن الاجتماع الصلابة والتمام ، ومنه حول مجرم كمعظم : تام ، فينشأ الافتراق ، ومنه تجرم الليل : ذهب ، وابنا جمير كأمير : الليل(3/517)
صفحة رقم 518
والنهار ، أو يكون ذلك من لوازم القطع كما يأتي ؛ ومن الاجتماع الرجم الذي هو الخليل والنديم ، ويلزم الظن الفصل بين الأشياء ، ومنه جرام النخل لصرامها ؛ والجمرة : الحصاة ، فيلزم مكلق الرمي فينشأ الرمي بالجمار ، وهي الحجارة فينشأ القتل للمرجوم ، وهو يرجع أيضاً إلى نفس القطع ، فإنه قطع النفس عما كانت عليهن ويلزم الفصل القذف والعيب ؛ والماج كسحاب : كعوب الرمح لانفصال بعضها عن بعض ، والرمج بالفتح وهو إلقاء الطير ذرقه ، ويلزم الظن المبالغة في النظر فتأتي المبالغة في الكلام والعزيمة ، ومنه المرجام للماد عنقه في السير من الإبل ، وأجمر : أسرع في السير ، وقد يلزم الظن الحيرة ، ومنه حديث مرجم كمعظم : لا يوقف على حقيقته ، فيلزم حينئذٍ الذنب والفساد والقلق والاضطراب تدور مادة ( مرج ) بخصوص هذا الترتيب ، أو الترميج : إفساد سطور بعد كتبتها ، ويلزم الظن الاختلاطن ومنه الجرم للون لأنه لا يخلو عن شوب ، وأجرم الدم به : لصق ، والإجرام : متاع الراعي ، أو هي من الكسب ، والجرام كرمان : السمك ؛ والمرج : موضع الرعي ، وقد علم من هذا أن جميع تصاريف المادة تدور على الاضطراب وهو بين في غير العقل ، وأما فيه فإنه يقدر العقل يكون اضطراب الرأي لأن العاقل كلما أنعم النظر انفتح له ما كان مغلقاً فيعدل إليه ، فإذا ظهر هذا ظهر أن معنى ( لا جرم ) أنهم لا ظن ولا اضطراب في أنهم ، ويكون نفي الظن في مثل هذا السياق نفياً لجميع ما يقابله إلاّ العلم الذي هو بمعنى لمجموع الكلمتين لأنه إذا نفي في مثل هذا السياق الظن ثبت اليقين والقطع ، وإليه يرجع تفسير سيبويه لا حق لأنه يريد - والله أعلم - أن لا صلة ، وموضوعها في الأصل النفي ، فهي نافية لضد ما دخلت عليه ، فكأنه قيل : حق وثبت أنهم كذا وانتفى كل ما يضاده ، فهذا وجه كونها صلة مؤكدة ، وقريب من ذلك ما قيل في ( إنما ) نحو إنما زيد قائم ، أي أن زيداً قائم ، ما هو إلاّ كذلك ، فقد بان أن النافي مثل ذلك مؤكد - والله الموفق .
هود : ( 23 - 27 ) إن الذين آمنوا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا(3/518)
صفحة رقم 519
مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) 73
( ) 71
ولما توعد الكافرين وأخبر عن مآلهم بسببه ، كان موضع ان يسال عن حال المؤمنين فقال : ( إن الذين آمنوا ) أي أوجدوا هذه الحقيقة ) وعملوا الصالحات ( ولما كان الحاصل ما مضى من وصف الكافرين بعد مطلق الأعمال السيئة الإعراض عن ربهم والنفرة عن المحسن غليهم جلافة وغلظة ، وصف المؤمنين بالإقبال عليه والطمأنينة إليه فقال : ( وأخبتوا ( أس خشعوا متوجهين منقطعين ) إلى ربهم ) أي المحسن إليهم فشكروه فوفقهم لاستطاعة السمع والبصر .
ولما ذكر وصفهم ذكر جزاءهم عليه بقوله : ( أولئك ( اي العالو الرتبة ) أصحاب الجنة ( ولما كانوا مختصين بها أول أو بالخلود من أول الأمر ، أعاد الضمير فقال : ( هم فيها ( اي خاصة لا في غيرها ) خالدون ( .
ولما استوفى أوصاف الحزبين وجزائهم ، ضرب ببكل مثلاً بقوله : ( مثل الفريقين ( اي الكافرين والمؤمنين ، وهو من باب اللف والنشر المرتب ، فإن الكافر ذكر فيما قبل أولاً ) كالأعمى ) أي العام العمى في بصره وبصيرته ) والأصم ( في سمعه كذلك ، فهذا للكافرين ) والبصير ( بعينه وقلبه ) والسميع ( على أتم أحوالهما ، وهذا للمؤمنين ، وفي أفراد المثل طباق أيضاً ) هل يستويان ) أي الفريقان ) مثلاً ) أي من جهة المثل .
ولما كان الجواب قطعاًلمن له أدنى تأمل : لا يستويان مثلاً فلا يستويان ممثولاً ، حسن تسبب الإنكار عنه في قوه : ( أفلا تتذكرون ( اي يحصل لكم أدنى تذكر بما اشار إليه الإدغام فتعلموا صدق ما وصفوا به بما ترونه من أحوالهم ، وذلك ما قدم في حق الكفار من قوله : ( ما كانوا يستطيعون السمع ( الآية ؛ والإخبات : الخشوع المستمر على استواء فيه ، وأصله الاستواء من الخبت ، وهو الأرص المستوية الواسعة ، ولعله وصله بإلى في موضع اللام إشارة إلى الإخلاص أي إخباتاً ينتهي غلى ربهم من غير أن يحجب عنه ؛ والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول ، والأمثال لا تغير عن صورتها .
ولما تم ذلك على أوضح المسالك ، وختم بالحث على التذكر ، وكان تقديم ذكر كتاب موسى محركاً لتوقع ذكر نبئه ونبأ غيره من الرسل ، عطف - مقروناً بحرف التوقع على العامل الذي قدرته في قوله : ( ألا تعبدوا إلا الله ( أو على قوله : ( إنما أنت نذير ( وهو أحسن وأقرب - قوله : ( ولقد أرسلنا ( اي بما لنا من العظمة ) نوحاً إلى قومه ) أي الذين هم على لسانه ؛ وما بعد ذلك من القصص تقريراً لمضمون هذا المثل وتثبيتاً وتسلية وتأييداً وتعزية لهذا النبي الكريم لئلا يضيق صدره بشيء مما أمر بإبلاغه حرصاً(3/519)
صفحة رقم 520
على إيمان أحد وإن كان أقرب الخلائق إليه وأعزهم عليه كما تقدمت الإشارة إليه في قوله تعالى : ( فلا يكن في صدرك حرج منه ( وقوله : ( وضائق به صدرك ( ويأتي في قوله : ( وكُلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ( فوضح أن هذه القصص لهذا المعنى سيقت ، وأن سياقها في الأعراف وغيرها كان لغير ذلك كما تقدم وأن تضمن هذا الغرض بيان إهلاك من كانوا أشد من العرب قوة وأكثر جمعاً وأمكن أمراً واقوى عناداً وأعظم فساداً وأحدّ شوكة وما اتفق في ديارهم من الطامات والأهوال المفظعات تحذيراً من مثل حالهم بارتكاب افعالهم ، ففرق بين ما يساق للشيء وما يلزم منه الشيء ، ولهذا الغرض المقصود هنا طولت قصة نوح في هذه السورة ما لم يطوله في غيرها ، وصدرت بقوله : ( إني ( اي قائلاً على قراءة الجمهور بالكسر ، والتقدير عند ابن كثير وأبي عمرو والكسائي : ملتبساً بأني ) لكم ) أي خاصة ) نذير مبين ( اي مخوف بليغ التحذير ، أبين ما أرسلي له غاية البيان ، وذكر فيها أنه طالت مجادلته لهم وأنه لما اوضح له أمر الله تعوذ من السؤال فيه وفي كل ما يشبهه ، وخللت قصته بقوله : ( أم يقولون افتراه ( خطاباً لهذا النبي الكريم وختمت بقوله : ( فاصبر إن العاقبة للمتقين ( وذكرت قصة إبراهيم عليه السلام لما ضمنته من أنه بشر الولد بما لم يجر بمثله عادة فلم يتردد فيه ، وأنه جادل الرسل في قوم ابن أخيه لوط ، وأنه لما تحقق حتم الأمر وبت الحكم سلم لربه مع كونه حليماً أواهاً منيباً إلى غير ذلك مما يؤمىء إليه سياق القصص ، فكأنه قيل : إنما أنت نذير أرسلناك لتبلغ ما أرسلت به من الإنذار وإن شق عليهم وعزتنا لقد ارسلنا من قبلك رسلاً منذرين فدعوا إلى ما أمرت بالدعوة إليه وأنذروهم ما يششق عليهم من بأسنا امتثلاً لأمرنا وما تركوا شيئاً منه خوفاً من إعراض ولا رجاء في إقبال على أن أممهم قالوا لهم ما قالت لك أمتك كما يشير إليه قوله تعالى عن نوح : ( ولا اقول لكم عندي خزائن الله ( - الآية ، وقد كان في المخالفين من أممهم القريب منهم نسبه والعزيز عليهم أمره من ابن وصاحبة وغيرهما ، هذا مع أن قصصهم دليل على قوله تعالى : ( ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم ( وزجر لهم عن مثل قولهم : ( ما يحبسه ( وتأييد لقوله : ( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ( - وغير ذلك مما تقدم ، فقد علم من هذا الوجهُ في تكرير هذه القصصن وأنه في كل سورة لمقصد يخالف المقصد في غيرها وإن كان يستفاد من ذلك فوائد أخر : منها إظهار القدرة في بيان الإعجاز بتصريف المعنى في الوجوه المختلفة لما في ذلك من علو الطبقة في البلاغة لأنه ربما قال متعنت عند التحدي : قد استوفى اللفظ البليغ إلى الأسلوب الأكمل البديع في هذه القصص فلم تبق لنا ألفاظ نعبر بها عن هذه المعاني حتى نأتي بمثل هذه القصة ؛ فأتى بها ثانياً(3/520)
صفحة رقم 521
إظهاراً لعجزه وقطعاً لحجته ، وربما كررت ثالثاً ورابعاً توكيداً لذلك وتمكيناً للاعتبار بضروب البيان وتصييراً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أذى قومه حالاً فحالاً ، فإن قيل : فما بالها تاتي تارة في غايةالبسط وتارة في غاية الإيجاز وتارة على الوسط ؟ قيل : هذا من أعلى درجات البلاغة وأجل مراتب الفصاحة والبراعة ، فإن قبل : فإنا نرى القصة تبسط في بعض السور غاية البسط ثم توجز في غيرها غاية الإيجاز ويؤتي فيها ما لم يؤت في المبسوطة كما في العنكبوت فإنه عين فيها مقدار لبثه وأنه كان ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فلم لا استوعبت جميع جميع الماني في الموضوع المبسوط كما هو الأليق بمقام البسط لا سيما لمن لا يخفى عليه شيء ولا ينسى ، وإذا وقع حذف كان في الموجزة ، قيل : قال شيخنا حافظ العصر أبوا لفضل بن حجر : إن الإمام أبا حاتم بن حبان البستي ذكر في كتابه التقاسيم والأنواع : إنما لم يرتبه ليحفظ إذ لورتبه ترتيباً سهلاً لاتكل من يكون عنده على سهولة الكشف منه فلا يتحفظه ، وإذا وعر طريق الكشف كان أدعى إلى حفظه ليكون على ذكر من جميعه ، وذكر أنه فعل ذلك اقتداء بالكتاب العزيز فإنه ربما أتى بالقصص غير مرتبة ، قال شيخنا : ومن هنا يظهر أن من أسرار تخصيص بعض الموجزات بما ليس فيالمبسوط الحث على حفظ الجميع - انتهى .
وهذه فوائد ينبغي إهمالها بل تستعمل حيث أمكن ، والعمدة في المناسبة الوجه الأول وهو أنها في كل سورة لمناسبة تخص تلك السورة ، ثم يراعي في البسط وغيره الماني المناسبة للمقصد الذس سيقت له القصة - والله الموفق .
واللام في ( لقد ) للقسم : قال الإمام أبو الحسن على بن عيسى الرماني : لأنها تدخل على الفعل والحرف الذي يختص بالفعل مما يصح معناه معه .
ولام الابتاء للاسم خاصة ، ومعنى ( قد ) توقع الخبر للتقريب من الحال ، يقال : قد ركب الأمير - لقوم يتوقعون ركوبه فعلى هذا القول جرى ) ولقد أرسلنا ( والإبانة : إظهار المعنى للنفس بما يمكن إدراكه .
واصله القطع ، فالإبانة قطع المعنى من غيره ليظهر في نفسه - انتهى .
والمقصود من الرسالة قوله سبحانه ( ) أن ) أي تنذير لأجل أن ) لا تعبدوا ) أي شيئاً اصلاً ) إلا الله ) أي الملك الأعظم - ومعنى النذارة قوله : ( إني أخاف عليكم ( وعظم العذاب المحذر منه بقوله : ( عذاب يوم أليم ( وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بما فيه من العذاب فهو إسناد مجازي مثل نهاره صائم ، ولم يذكر بشارة كما تقدم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله :
77 ( ) إنني لكم منه نذير وبشير ( ) 7
[ هود : 2 ] إرشاداً إلى ما سيقت له القصة من تقرير معنى
77 ( ) إنما أنت نذير ( ) 7
[ هود : 12 ] ولذلك صرح باللام بخلاف الأعراف ، وكذا ما أمر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أول هذه من عذاب يوم كبير ، وهما متقاربان ؛ ثم ساق سبحانه جواب قومه على وجه هو في غاية التسلية والمناسبة للسياق(3/521)
صفحة رقم 522
بقوله : ( فقال ) أي فتسبب عن هذا لنصح العظيم أن قال ؛ ولما كان هذا بعد أن تبعه بعضهم قال : ( الملأ ( وبين الجدال مع الضلال بعد أن بين أنهم هم الأشراف زيادة في التسلية بقوله : ( الذين كفروا ( وبين أنهم اقارب أعزة بقوله : ( من قومه ( اي الذين هم في غاية القوة لما يريدون محاولة القيام به ) ما نراك ) أي شيئاً من الأشياء ) إلا بشراً ( اي آدمياً ) مثلنا ( اي في مطلق البشرية ، لست بملك تصلح لما لا تصلح له من الرسالة ، وهذا قول البراهمة ، وهو منع نبوة البشر على الإطلاق ، وهو قول من يحسد على فضل الله ويعمى عن جلي حكمته فيمنع أن يكون النبي بشراً ويجعل الإله حجراً .
ولما كانت العظمة عندهم منحصرة في عظمة الأتباع قالزا : ( وما نراك ( ولما انفوا الرؤية عنه فتشوف السامع إلى ما يقع عليه من المعاني ، بينوا أن مرادهم رؤية من اتبعه فقالوا : ( اتبعك ) أي تكلف اتباعك ) إلا الذين هم ) أي خاصة ) اراذلنا ) أي كالحائك ونحوه ، وليس منا رذل غيرهم ، وهو جمع أرذل كأكلب جمع رذل ككلب ، والرذل : الخسيسي الدنيء ، وهذا ينتج أنه لم يتبعك أحد له قدر ؛ قالوا : و ) اتبعك ( عامل في قوله : ( بادى الرأي ( وهو ظرف اي اتبعوك بديهة نم غير تأمل ، فاتباعهم لا يدل على سداد لما اتبعوه من وجهين : رذالتهم في أنفسهمك ، وأنهم لم يفكروا فيه ، لكن يضعفه إيراد الاتباع بصيغة الافتعال التي تدل على علاج ومجاذبة ، فالأحسن إسناده - كما قالواه أيضاً - إلى أراذل .
أي أنهم بحيث لا يتوقف ناظرهم عند أول وقوع بصره عليهم أنهم سفلة أسقاط ، ويجوز أن يكون المراد ( بادى رايك ) أي أنك تظن أنهم اتبعوك ، ولم يتبعوك .
ولما كانوا لا يعظون إلا بالتوسع في الدنيا ، قالوا : ( وما نرى لكم ( اي لك لومن تبعك ) علينا ( وأغرقوا في النفي بقولهم : ( من فضل ) أي شرف ولا مال ، وهذا - مع مامضى من قولهم - قول من يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق ، وذلك أنه يستدل على كون الشيء حقاً بعظمته في الدنيا ، وعلى كونه باطلاً بحقارته فيها ، ومجموع قولهم يدل على أنهم يريدون : لو صح كون النبوة في البشر لكانت في واحد ممن أقروا له بالعلو في الأرض ، وعمل ) اتبعك ( في ) بادي ( يمنعه تمادي الاتباع على الإيمان ، فانتفى الطعن بعدم التأمل ) بل نظنكم كاذبين ) أي لكم هذا الوصف لازماً دائماً لأنكم لم تتصفوا بما جعلناه مظنة الاتباع مما يوجب العظمة في القلوب والانقياد للنفوس بالتقدم في الدنيا بالمال والجاه ؛ فكان داؤهم بطر الحق وغمط الناس ، وهو احتقارهم ، وهذا قد سرى إلى أكثر أهل الإسلام ، فصاروا لا(3/522)
صفحة رقم 523
يعظمون إلا بذلك ، وهو أجهل الجهل لأن الرسل أتت للتزهيد في الدنياوانظر إلى رضاهم لأنفسهم بالعدول عن البينة إلى اتباع الظن ما أردأه وهذا افظع مما حكى هنا من قوله قريش ) لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ( وأبشع ؛ والبشر : الإنسان لظهور بشرته أي ظاهر جلده لأن الغالب على غيره في الحس بمعنى أنه لو ظهر للمشاهدة لسد مسده ؛ والرذل : الحقير بما عليه من صفات النقص وجمعه ؛ والفضل : الزيادة من الخير ، والإفصال : مضاعفة الخير التي توجب الشكر .
هود : ( 28 - 30 ) قال يا قوم. .. . .
) قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ( ( )
ولما كان ختام جوابهم أشده ، بدأ في جوابه برده مبيناً لضلالتهم مغضباً عن شناعاتهم شفقة عليهم ومحبة لمجاتهم ، فقال تعالى حكاية عنه : ( قال يا قوم ( وشرع يكرر هذه اللفظة كل قليل تذكيراً لهم أنه منهم لتعطفهم الأرحام وتردهم القرابات عن حسد أو اتهامه إلى قبول ما يلقي إليهم من الكلام ، وأشار بأداة البعد - مع قربهم - إلى مباعدتهم فيما يقتضي غاية القرب ) أرأيتم ) أي أخبروني ) إن كنت ( على سبيل الفرض منكم والتقدير ) على بينة ) أي برهان ساطع ، وزاد ترغيباً فيه بقوله : ( من ربي ) أي الذي أوجدني وأحسن إليّ بالرسالة وغيرها يشهد بصحة دعواي شهادة لا يتطرق إليها عند المنصفق شبهة فكيف بالظن ) وآتاني ( فضلاً منه غليّ لا لمعنى فيّ أزيد عليكم به ، بل ) رحمة ) أي إكراماً بالرسالة بعد النبوة ، وعظمها بقوله : ( من عنده ( فيها فضل عظيم النور واضح الظهور .
ولما كانت البينة من الرحمة ، وحد الضمير فقال : ( فعميت ) أي فتسبب عن تخصيصي بها أن أظلمت ، ووقع ظلامها ) عليكم ( اي فعميتم أنتم عنها لضعف عقولكم ولم يقع عليكم شيء من نورها ، وذلك أن الدليل إذا كان أعمى عاد ضرره على التابع بالحيرة والضلال ، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالبناء للمفعول مشددة ) أنلزمكموها ( وقوله : ( وأنتم لما كارهون ( مع تسمية لها بينة - إشاره إلى أنها لم تعم ولا خفيت عليهم لقوة نورها وشدة ظهورها ، وإنما هم معاندون في نفيهم لفضله وفضل من تبعه ، والتعبير عن ذلك بالجملة الاسمية واسم الفاعل إشارة إلى(3/523)
صفحة رقم 524
أن أفعالهم أفعال من كراهته لها ثابتة مستحكمة ، وكأنه لم يكن مأموراً بالقتال كما كان نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) في أول الأمر ، والآية ناظرة إلى قوله تعالى :
77 ( ) أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( ) 7
[ يونس : 99 ] ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنهم معاندون مع قطع النظر عن الجهاد وغيره فإن الأنبياء عليهم السلام مأمرون بالمجادلة للمعاندين غلى أن يلزموهم الحجة ، وهي لا تفيد إلا الإلزام في ا لظاهر مع الإنكار والكراهة في الباطن ، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة للكاملين ، وبالموعظة والخطابة للمنافقين الذي لا يعاندون ويحسنون الظن في الداعي ، فيكون المعنى أن البينة لم تنفعكم لشكاسة وإعوجاج في طباعكم ، فلم يبق غلا الموعظة وهي لا تفيد إلا مع حسن الظن ، وأما مع الكراهة فلا ينفعكم النصح ، فلا فائدة في المجادلة إلا الإلزام ، وهو مع الكراهة غير نافع لكم .
ولما كان نفي ذلك عاماً للفضل الدنيوي ، وكان الاتصاف بقلة ما في اليد إنما يكون ضاراً إذا كان صاحبه يسأل غيره ، نفى عنه هذا اللازم العائب فقال مجيباً عن نفيهم الفضل عنه وعن أتباعه بأنه قد يرد منهم على ذلك ثواباً دنيوياً : ( وياقوم ( استعطافاً لهم ) لا أسئلكم ) أي في وقت من الأوقات ) عليه ) أي الإنذار كما يأخذ منكم من ينذركم أمر من يريد منكم نم ينذركم أمر من يريد بكم بعض ما تكرهون في أمور دنياكم حتى تكون عاقبة ذلك أن تتهموني ) مالاً إن ) أي ما ) أجري إلا على الله ) أي الذي له الجلال والإكرام فبيده الخزائن كلها ، ونبه بهذا على أنه لا غرض له من عرض دنيوي ينفر المدعو عنه فوجب تصديقه ، وفيه تلقين للجواب عن قول قريش : لولا ألقي إليه كنز - كما سيأتي بابين من ذلك عقب قصة يوسف عليه السلام في قوله : ( وما تسئلهم عليه من أجر ( لأن هذه القصص كالشيء الواحد متتابعة في بيان حقية هذا القرآن والتأسية في الاقتداء بالرسل في الصبر على أداء جميع الرسالة مع ما يلزم من جليل العبر وبديع الحكم ، فلما اتحد الغرض منها مع تواليها اتحدت متفرقاتها .
ولما كان التعبير برذالة المتبع مما ينفر أهل الدنيا عن ذلك التابع ، بين لهم أن شأنه غير شانهم وأنه رقيق على من آمن به رفيق به رحيم له وإن كان متأخراً في الدنيا محروماً منها خوفاً من الله الذي اتبعوه فيه فقال : ( وما أنا ( وأغرق في النفي بقوله : ( بطارد الذين آمنوا ( اي أقروا بالسنتهم بالإيمان ؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم ) إنهم ملاقوا ربهم ) أي المحسن إليهم بعد إيجادهم وترتيبهم لهدايتهم ، فلو طردتهم لشكوني إليه فلا ارى لكم لكم وجهاً في الإشارة إلى طردهم ولا في شيء مما أجبتموني به ) ولكني أراكم ( اي أعلمكم علماً هو كالرؤية ) قوماً تجهلون ( اي تفعلون افعال أهل الجهل فتكذبون الصادق وتعيرون المؤمنين بما لا يعنيهم وتنسون لقاء الله وتوقعون(3/524)
صفحة رقم 525
الأشياء في غير مواقعها ، وفي تعبيره ب ) تجهلون ( دون ) جاهلين ( إشارة إلى أن الجهل متجدد لهم وهو غير عادتهم استعطافاً لهم إلى الحلم ، ثم عطف إلى صريح الاستعطاف في سياق محذر من سطوات الله فقال : ( ويا قوم ) أي الذين هم أعز الناس عليّ ) من ينصرني من الله ) أي الذي له جميع العظمة ) إن طردتهم ( ولو لم يشكوني إليه لاطلاعه على ما دق وجل : ولما تم الجواب عن ازدرائهم ، سبب عنه الإنكار لعدم تذكرهم ما قاله لهم بما يجدونه في أنفسهم فقال : ( أفلا تذكرون ) أي ولو أدنى تذكر - بما يشير إليه الإدغام - فتعلموا أن من طرد صديقاً لكم عاديتموه وقصدتموه بالأذى ، فترجعوا عما طرأ لكم من جهل إلى عادتكم مِنَ الحلم الباعث على التأمل الموقف على الحق ؛ والطرد : إبعاد الشيء على جهة الهوان ؛ والقوم : الجماعة الذين يقومون بالأمر ، اسم جمع لا واحد له من لفظه ؛ والتذكير : طلب معنى قد كان حاضراً للنفس ، والتفكر طلبه وإن لم يكن حاضراً .
هود : ( 31 - 34 ) ولا أقول لكم. .. . .
) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ ينُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ( )
ولما كن نفيهم للفضل شاملاً للأموال وعلم الغيب ، أقرهم على ذلك منبهاً على خطئهم فيه بأنه لم يقل بينهم قط ما يكون سبباً له ، فقال عاطفاً على قوله ) لا أسئلكم عليه أجراً ( ؛ ) ولا أقول لكم ) أي في وقت من الأوقات ) عندي خزائن الله ( اي الملك الأعظم فأتفضل عليكم بها ؛ ولماكان من الجائز ان يمكن الله من يشاء من خزائن الأرزاق ونحوها فيسوغ له أن يطلق ملك ذلك مجازاً ، ولا يجوز أن يمكنه من علم الغيب ، وهو ما غاب عن الخلق كلهم ، لأنه خاصته سبحانه ، قال عاطفاً على ) أقول ( لا على المقول : ( ولا اقول إني ملك ( فتكون قوتي افضل من قوتكم أو خلقي أعظم قدراً من خلقكم ونحو ذلك من الفضل الصوري الذي جعلتموه هو الفضل ، فلا تكون الآية دليلاً على افضلية الملائكة ، وتقدم في الأنعام سر إسقاطه ) لكم ( .
ولما كان تعريضهم بنفي الملكية عنه من باب الإزراء ، أتبعه تأكيد قبوله لمن آمن(3/525)
صفحة رقم 526
كائناً من كان وإن ازدروه بقوله : ( ولا أقول للذين ) أي لأجل الذين ) تزدري ) أي تحتقر ) أعينكم ) أي تقصرون به عن الفضل عند نظركم له وتعيبونه ) لن يؤتيهم الله ) أي الذي له الكمال كله ) خيراً ( ولماكان كأنه قيل : ما لك لا نقول ذلك ؟ أجاب بما تقديره : لأني أعلم ضمائرهم ولا أحكم إلا على الظاهر : ( الله ) أي المحيط بكل شيء ) أعلم ( اي حتى منهم ) بما في أنفسهم ( ومن المعلوم أنه لا يظلم أحداً ، فمن كان في نفسه خير جازاه عليه ، ويجوز أن يكون هذا راجعاً إلى ) بادي الرأي ( بالنسبة إليه ( صلى الله عليه وسلم ) كما تقدم ؛ ثم علل كفه عن ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم ظلمه على ذلك التقدير : ( إني إذاً ) أي إذا قلت لهم ذلك ) لمن الظالمين ( اي العريقين في وضع الشيء في غير موضعه ؛ والخزائنك أخبية لالمتاع الفاخرة ، وخزائن الله مقدوراته لأنه يوجد منها ما يشاء ، وفي وصفها بذلك بلاغة ؛ والغيب : ذهاب الشيء عن الإدراك ، ومنه الشاهد خلاف الغائب ، وإذا قيل : علم غيب ، كان معناه : علم من غير تعليم ؛ والازدراء : الاحتقار ، وهو افتعال من الزراية ، زريت عليه - إذا عبته ، وأزريت عليه - إذا قصرت به ؛ والملك أصله مألك من الألوكة وهي الرسالة .
فلما استوفى نقض ما أبرموه في زعمهم من جوابهم على غاية الإنصاف واللين والاستعطاف ، استأنف الحكاية عنهم بقوله : ( قالوا ( اي قوله من لم يجد في رده شبهة يبديها ولا مدفعاً يغير به : ( يا نوح قد جادلتنا ) أي اردت فتلنا وصرفنا عن آرائنا بالحجاج وأردنا صرفك عن رأيك بمثل ذلك ) فأكثرت ( اي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أنك أكثرت ) جدالنا ) أي كلامنا على صورة الجدال ) فأتنا ) أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أن نقول لك : لم يصح عندنا دعواك ، ائتنا ) بما تعدنا ( من العذاب ) إن كنت ( اي ككوناً هو جبلة لك ) من الصادقين ) أي العريقين في الصدق في أنه يأتينا فصرحوا بالعناد لامبعد من الإنصاف والاتصاف بالسداد وسموه باسمه ولم يسمحوا بأن يقولوا له : يا ابن عمنا ، مرة واحدة كما كرر لهم : يا قوم ، فكان المعنى أنا غير قابلين لشيء مما تقول وإن أكثرت وأطلت - بغير حجة منهم بل عناداً وكبراً فلا تتعب ، بل قصر الأمر مما تتوعدنا به ، وسموه وعداً سخرية به ، اي أن هذا الذي جعلته وعيداً هو عندنا وعد حسن سار باعتبار أنا نحب حلوله ، المعنى أنك لست قادراً عل ذلك ولا أنت صادق فيه ، فإن كان حقاً فانبئنا به ، فكأنه قيل : ماذا قال لهم ؟ فقيل : ( قال ( جرياً على سنن قوله ) ولا اقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ( : ( إنما يأتيكم به الله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء فتبرأ من الحول والقوة ورد ذلك إلى من هو له ، وأشار بقوله : ( أن شاء ( إلى أنه مخير في إيقاعه وإن كان قد تقدم قوله به إرشاداً إلى(3/526)
صفحة رقم 527
أنه سبحانه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، بل ولا يسأل عما يفعل وإن كان لا يقع غلا ما أخبر به ؛ ثم بين لهم عجزهم وخطأهم في تعرضهم للهلاك فقال : ( وما أنتم بمعجزين 8 ) أي في شيء من الأوقات لشيء مما يريده بكم سبحانه ؛ والإكثار : الزيادة على مقدار الكفاية ؛ والمجادلة : المقابلة بما يفتل الخصم عن مذهبه بحجة أو شبهة ، وهو من الجدل وهو شدة الفتل والمطلوب به الرجوع عن المذهب ، والمطلوب بالحجاج ظهور الحجة ، فهو قد يكون مذموماً كالمراء ، وذلك حيث يكون للتشكيك في الحق بعد ظهوره ، وحيث قيد الجدال ب ) ) التي هي أحسن ( ) [ العنكبوت : 46 ] فالمراد به إظهار الحق .
ولما بين أنهم إنما هم في قبضته سبحانه ، زاد في بيان عظمته وأن إرادته تضمحل معها كل إرادة في سياق دال على أنه بذلك ناصح لهم وأن نصحه خاص بهم ، فقال جواباً لما وهموا من أن جداله لهم كلام بلا طائل : ( ولا ينفعكم نصحي ( وذكر إرادته لكا يريد أن يذكره من إرادة الله فقال : ( إن أردت ( اي جمعت إلى فعل النصح إرادة ) أن أنصح لكم ( بإعلام موضع الغي ليتقى والرشد ليتبع ، وجزاءه محذوف تقديره : لا ينفعكم نصحي ) إن كان الله ) أي الذي له المر كله ) يريد أن يغويكم ) أي يضلكم ويركبكم غير الصواب فإنه إرادته سبحانه تغلب إرادتي وفعلي معاً لا ينفعكم شيء إشارة إلى أنكم لا تقدرون على دفع العذاب بقوة فتكونوا غالبين ، ولا بطاعة فتكونوا محبوبين مقربين إن كان الله يريد إهلاككم بالإغواء ، وأن أردت أنا نجاتكم ، ولم يقل : ولا ينفعكم نصحي إن نصحت لكم ، إشارة إلى أني لا أملك إلا إرادتي لنصحكم ، فإذا أردته فغاية ما يترتب عليه من فعلي وقوع النصح وإخلاصه لكم ، وأما النفع به فلا شيء منه إليّ ، بل هوتابع لمراد الله ، فإن أراد غوايتكم حصلت لا محالة ، ولم يقع ما قد يترتب على النصح من عمل المنصوح بمقتضاه المستجلب لنفع المستدفع للضر ؛ ثم رغبهم في إحسانه ورهبهم من انتقامه معللاً لعدم ما لا يريده : ( هو ربكم ) أي الموجد لكم المدبر لأموركم فهو يتصرف وحده لما يريد .
ولما كان التقدير : فمنه مبدؤكم ، عطف عليه قوله : ( وإليه ) أي لا إلى غيره ) ترجعون ) أي بايسر أمر وأهونه بالموت ثم البعث فيجازيكم على أعمالكم كما هي عادة الملوك مع عمالهم .
هود : ( 35 - 40 ) أم يقولون افتراه. .. . .
) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(3/527)
صفحة رقم 528
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) 73
( ) 71
ولما كان مضمون هذه الآية نحو مضمون قوله : ( إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ( فإن النذير من ينصح المنذر ، والوكيل هو المرجوع غليه في أمر الشيء الموكول إليه ، وما قبلها تعريض بنسبة نوح عليه السلام غلى الافتراء ، تلاه بما تلا به ذاك من النسببة إلى الافتراء وإشارة إلى أن هذه القصص كلها للتسلية في أمر النذارة والتأسية فكأنه قيل : ايقولون لك مثل هذه الأقوال فقد قالوها لنوح كما ترى ، ثم والى عليهم من الإنذار ما لم يطعموا معه في ترك شيء مما أمرناه به اعجبهم أو أغضبهم ، فلك به أسوة وحسبك به قدوة في أن تعد كلامهم عدماً وتقبل على ما ارسلناك به من بذل النصيحة بالنذارة : ( أم يقولون ( في ا لقرآن ) افتراه ( إصراراً على ما تقولوه فدمغه الدليل وأدحضته الحجة فكأنه قيل : نعم ، إنهم يقولون ذلك ، فقيل : لا عليك فإنه قول يقصدون به مجرد العناد وهم يعلمون خلافه بعد ما قام عليهم من الحجج التي وصلوا معها إلى عين اليقين فلا يهمنك قولهم هذا ، فإنهم يجعلونه وسيلة إلى تركك بعض ما يوحى إليك فلا تفعل ، بل ) قل ( في جواب قولهم هذا ) إن افتريته ) أي قطعت كذبه ) فعليَّ ) أي خاصاً بي ) إجرامي ) أي وباله وعقابه دونكم وإذا استعلى عليَّ الإجرام عرف ذلك لأرباب العقول وظهر ظهوراً أفتضح به وأنتم أعرف الناس بأني ابعد من ذلك مما بين اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين لما تعلمون مني من طهارة الشيم وعلو الهمم وطيب الذكر وشريف القدر وكريم الأمر ، هذا لو كنت قادراً على ذلك فكيف وأنا وأنتم في العجز عنه سواء ) وأنا بريء ) أي غاية البراءة ) مما تجرمون ( اي توجدون إجرامه ، ليسعليَّ من إجرامكم عائد ضرر بعد أن أوضحته لكم وكشقت عنكم غطاء الشبه ، إنما ضرره عليكم فاعملوا على تذكر هذا المعنى فإن سوق جوابهم على هذا الوجه أنكى لهم من إقامة حجة أخرى لأنهم يعلمون منه أنه إلزام لهم بالفضيحة لانقطاعهم لدى من له وعي ، ويمكن أن يكون التقدير : هل انتبه قومك يا محمد فعلموا قبح مثل هذه الحال وأنها حال المعاندين ، فرجعوا تكرماً وتمادياً في البعاد كما تمادى قوم نوح فيحل بهم ما حل بهم ، أي هل رجعوا بهذا المقدار من قصة قوم نوح أم هم(3/528)
صفحة رقم 529
مستمرون على ما نسبوك إليه في أولئل السورة من افترائه فيحتاجون إلى تطميل القصة بما وقع من عذابهم ليخافوا مثل مصابهم ؛ وافتراء الكذب : افتعاله من قبل النفس فهو أخص من مطلق الكذب لأنه قد يكون تقليداً للغير .
ولما فرغ نم هذه الجملة التي هي من هذه الجملة التي هي المقصود بهذا السياق كله وإن كانت اعتراضية في هذه القصة ، رجع غلى إكمالها بياناً لأن نوحاً عليه السلام كان يكاشف قومه بجميع ما أمر به وإن عظمت مشقته عليهم بحيث لم يكن قط موضع رجاء لهم في أن يترك شيئاً منه وتحذيراً لكل من سمع قصتهم من أن يحل به ما حل بهم فقال : ( وأوحي ) أي من الذي لاموحي إلا هو وهو ملك الملوك ) إلى نوح ( بعد تلك الخطوب ) أنه لن يؤمن ( بما جئت به ) من قومك إلا من ( ولما كان الذي يجيب الإنسان إلى ما يسأله فيه يلوح عليه مخايل قبل الإجابة يتوقع السائل بها الإجابة ، قال : ( قد آمن فلا ( اي فتسبب عن عملك بأنه قد تم شقاءهم أنا نقول لك : لا ) تبتئس ) أي يحصل لك بؤس ، أي شدة يعظم عليك خطبها بكثرة تأملك في عواقبها ) بما كانوا ) أي بما جبلوا عليه ) يفعلون ( فإنا نأخذ لك بحقك منهم قريباً ، وكأنه كان أعلمه أنهم إن لم يجيبوه أغرقهم وأنجاه ومن معه في فلك يحملهم فيه على متن الماء فقال : ( واصنع الفلك ( حال كونك محفوظاً ) بأعيننا ( نحفظط أن تزيغ في عملها ، وجمع مبالغة في الحفظ واللعاية على طريق التمثيل ) ووحينا ( فنحن نلهمك أصلح ما يكون من عملها وأنت تعلم ما لنا من العظمة التي تغلب كل شيء ولا يتعاظمها شيء ، فلا تهتم بكونك لا تعرف صنعتها ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الل أوحى إليه أن يصنعه مثل جؤجؤ الطائر - أي صدره .
وأشار إلى شفقته على قومه وحبه لنجاتهم كما هو حال هذا النبي الكريم مع أمته فقال : ( ولا تخاطبني ( اي بنوع مخاطبة وإن قلت ) في الذين ظلموا ) أي أوجدوا الظلم واستمروا عليه في أن أنجيهم ؛ ثم علل النهي بأن الحكم فيهم قد انبرم فقال : ( إنهم مغرقون ( قد انبرم الأمر بذلك ؛ والابتئاس : حزن في استكانة ، لأن أصل البءس الفقر والمسكنة ؛ والوحي : إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء ، وقد يكون إفهاماً من غير كلام بإشارة ونحوها ، وقد يكون بكلام خفي ؛ والفلك : السفينة ، يؤنث ويذكر ، واحده وجمعه سواء ، وأصله الإدارة من الفلكة .
ولماأمر تعالى ونهاه ، أخبر أنه امتثل ذلك بقوله عاطفاً على ما تقديره : فايس من إيمان أحد منهم فترك دعاءهم وشرع يسلي نفسه : ( ويصنع ) أي صنعة ماهر جداً ، له ملكة عظيمة بذلك الصنع ) الفلك ( فحلى فعله حالُ علمه بأنه سبحانه بت الأمر بأنه كان يعمل ما أمره به سبحانه ولم يخاطبه فيهم ولا أسف عليهم ، وأشار إلى أنهم ازدادوا(3/529)
صفحة رقم 530
بغياً بقوله : ( وكلما ) أي والحال أنه كلما ) مر عليه ملأ ) أي اشراف ) من قومه ( وأجاب ( كلما ) بقوله : ( سخروا منه ) أي ولم يمنعهم شرفهم من ذلك ، وذلك أنهم رأوا يعاني ما لم يروا قبله مثله ليجري على الماء وهو في البر وهو على صفة من الهول عظيمة فعن الحسن أن طوالها ألف ذراع ومائتا ذراع وعرضها ستمائة ، فقالوا : يانوح ما تصنع .
قال : أبني بيتاً على الماء ، ويجوز أن يكون ) سخروا ( : صفة لملإ ، وجواب ) كلما ( ) قال ( ، ولما أيأسه الله من خيرهم ، ترك ما كان من لينه لهم واستعطافهم فعلم أن ذلك ما كان إلا له سبحانه ، فقال حاكياً عنه استئنافاً : ( قال إن تسخروا منا ( ولما كانوا يظنون أنه غائب في عمله كان عندهم موضعاً لخزي والسخرية ، وكان هو ( صلى الله عليه وسلم ) عالماً بأن عملهم سبب لخزيهم بالعذاب المستأصل ، فكان المعنى : إن تسخروا منا - أي مني وممن يساعدني - لظن أن عملنا غير مثمر ) فإنا نسخر ( ي نوجد السخرية ) منكم ( جزاء لكم ) كما تسخرون ( منا الآن لأن عملنا منج وعملكم ليس مقتصراً على الضياع بل هوموجب لما توعدون من العذاب فأنتم المخزيون دوني .
ولما كان قوله ) نسخر منكم ( واقعاً موقع الإخبار ، حسن الإتيان بالفاء المؤذنة بتسبب العلم المذكور عنه في قوله : ( فسوف تعلمون ) أي بوعد لا خلف فيه ) من يأتيه عذاب يخزيه ) أي يفضحه فيذله ، وكأن المراد به عذاب الدنيا ) ويحل عليه ) أي حلول الدين الذي لا محيد عنه ) عذاب مقيم ( وهو عذاب الآخرة ، وقد مضى نحوه في الأنعام عند قوله ) فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ( ؛ والسخرية : إظهار ما يخالف الإبطان على جهة تفهم استضعاف العقل ، من التسخير وهو التذليل استضعافاً بالقهر ، وهي تفارق اللعب بأن فيها خدعة استنفاض ، فلا تكون إلا بحيوان ، واللعب قد يكون بجماد لأنه مطلق طلب الفرح ؛ والخزي : العيب الذي تظهر فضيحته والعار به ، ونظيره الذل والهوان ؛ واستمر ذلك دابه ودابهم ) حتى إذا جاء أمرنا ) أي وقت إرادتنا لإهلاكم ) وفار ) أي غلا وطفح ) التنور ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد أنه الحقيقي الذي يخبز فيه ، وهذا هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل ، لأن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل عبث كما قاله أهل الأصول ) قلنا ( بعظمتنا ) احمل ( ولما كان الله تعالى قد أمره أن يجعل لها غطاء - كما قاله أهل التفسير - لئلا تمتلىء من شدة الأمطار ، كانت الظرفية فيها بخلاف غيرها من السفن واضحة فلذلك قال : ( فيها ) أي السفينة ) من كل زوجين ( من الحيوانات ، والزوج فرد يكون معه آخر لا يكمل نفعه إلا به ) اثنين ( ذكراً وأنثى ) وأهلك ) أي احملهم ، والأهل : العيال ) إلا من سبق ( غالباً ) عليه القول ( بأني أغرقه وهو امرأته وابنه كنعان ) ومن ) أي واحمل فيها من ) آمن ((3/530)
صفحة رقم 531
قال أبو حيان : وكانت السفينة ثلاث طبقات : السفلى للوحوش ، والوسطى للطعام والشراب ، والعليا له ولمن آمن معه ؛ ثم سلى المخاطب بهذه القصص ( صلى الله عليه وسلم ) وذكره نعمته بكثرة من اتبعه مع صدعهم بمؤلم الإنذار على قصر الزمان دون نوح عليهم السلام مع تطاول الزمن فقال : ( وما ) أي والحال أنه ما ) آمن ( كائناً ) معه ) أي بإنذاره ) إلا قليل ( بسبب تقديرنا لا باغضائهم بما كوفحوا به من الإنذار ؛ والتنور - قال أبو حيان : وزنه فعول عند أبي علي وهو أعجمي ، وقال ثعلب : وزنه تفعول من النور ، وأصله تنوور ، همزت الواو ثم خففت وشدد الحرف الذي قبلهان والزوج قد كثر على الرجل الذي له امرأة ؛ قال الرماني : وقال الحسن في ) ) ومن كل شيء خلقنا زوجين ( ) [ الذاريات : 49 ] : السماء زوج والأرض زوج ، والشتاء زوج ، والصيف زوج ، والليل زوج ، والنهار زوج ، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء ، ومعنى ذلك في صحيح البخاري وأقل ما قيل فيمن كان في السفينة ثمانية : نوح وامرأة له ، وثلالة بنين : سام وحام ويافث ، ونساؤهم ؛ وأكثر ما قيل أنهم ثمانون - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
هود : ( 41 - 44 ) وقال اركبوا فيها. .. . .
) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يبُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَيسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ( )
ولما أتاه الأمر بذلك ، بادر الامتثال فجمع من أمره الله به إلى السفينة لعد أن هيأها لهم ) وقال ( اي لمن أمر بحمله ) اركبوا ( ولما كنت الظرفية أغلب على السفينة قال : ( فيها ) أي السفينة ؛ ولما أمرهم بالركوب فركبوا ، استأنف قوله ، أو أمرهم بالركوب قائلين : ( بسم الله ( اي الذي له الإحاطة الكاملة ) مجراها ومرساها ) أي إجرائها وإرساءها ومحلهما ووقتهمانوقرأ الحسن وقتادة وحميد العرج وإسماعيل بن مجالد عن عاصم بكسر الراء والسين كسراً خالصاً بعده ياءان خالصتان على أن الاسمين صفتان للجلالة ؛ ثم علل نجاتهم بالإجراء والإرساء اعترافاً بأنه لا نجاة إلا بعفوه بقوله : ( إن ربي ( اي المحسن إلي بما دبر مني هذا الأمر وغيره ، وزاد في التأكيد تطبيقاً لقلوب من معه معرفاً لهم بأن أحداص لن يقدر الله حق قدره وأن العبد لا يسعه إلا الغفران فقال :(3/531)
صفحة رقم 532
) لغفور ) أي بالغ الستر للزلات والهفوات ) رحيم ) أي بالغ الإكرام لم يريد ، فركبوها واستمروا سائرين فيها يقولون : بسم الله ) وهي ) أي والحال أنها ) تجري بهم ( .
ولما كان الماء مهيئاً للإغراق ، فكان السير على ظهره من الخوارق ، وأشار إلى ذلك بالظرف فقال : ( في موج ( ونبه على علوه بقوله : ( كالجبال ( اي في عظمه وتراكمه وارتفاعه ، فالجملة حال من فركبوها ، المقدر لأنه لظهوره في قوة الملفوظ ، وكان هذه الحال مع أن استدامة الركوب ركوب إشارة إلى شرعة امتلاء الأرض من الماء وصيرورته فيها أمثال الجبال عقب ركوبهم السفينة من غير كبير تراخ ، قالوا : وكان أول ما ركب معه الذرة ، وآخر ما ركب معه الحمار ، وتعلق إبليس بذنبه فلم يستطيع الدخول حتى قال له نوح عليه السلام : ادخل ولو كان الشيطان معك - كذا قالوا ، وقيل : إنه منع الحية والعقرب وقال : إنكما شبب الضر ، فقالا : احملنا ولك أن لا نضر أحداً ذكرك ، فمن قال
77 ( ) سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ( ) 7
[ الصافات : 79 - 80 ] لم تضراه .
ولما كان ابتداء الحال في تفجر الأرض كلها عيوناً وانهمار السماء انهماراً - مرشداً إلى أن الحال سيصير إلى ما أخبر الله به من كون الموج كالجبال لا ينجي منه إلا السب الذي اقامه سبحانه ، تلا ذلك بأمر ابن نوح فقال عاطفاً على قوله ) وقال اركبوا ( ) ونادى نوح ابنه ) أي كنعان وهو لصلبه - نقله الرماني عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ) وكان ) أي الابن ) في معزل ) أي عن أبيه في مكانه وفي دينه لأنه كان كافراً ، وين أن ذلك المعزل كان على بعض البعد بقوله : ( يا بني ( صغَّره تحنناً وتعطفاً ) اركب ( كائناً ) معنا ) أي في السفينة لتكون من الناجين ) ولا تكن ) أي بوجه من الوجوه ) مع الكافرين ) أي في دين ولا مكان إشارة إلى أن حرص الرسل عليهم السلام وشفقتهم - وإن كانت مع رؤية الآيات العظام والأمور الهائلة - ليست سباً للين القلوب وخضوع النفوس ما لم يأذن الله ، انظر إلى استعطاف نوح عليه السلام بقوله ) يابني ( مذكراً له بالنبوة مع تصغير التحنن والتراؤف وفظاظة الابن مع عدم سماحه بأن يقول : يا أبت ، ولم يلن مع ما رأى من الآيات العظام ولا تناهى لشيء منها عن تقحم الجهل بدلاً من العلم وتعسف الشبهة بدلاً من الحجة .
ولما كان الحال حال دهش واختلال .
كان السامع جديراً بأن لا يصبر بل يبادر إلى السؤال فيقول : فما قال ؟ فقيل : ( قال ( قول من ليس له عقل تبعاً لمراد الله ) سآوي إلى جبل يعصمني ) أي بعلوه ) من الماء ) أي فلا أغرق ) قال ) أي نوح عليه السلام ) لا عاصم ) أي لا مانع نم جبل ولا غير موجود ) اليوم ) أي لأحد ) من أمر الله ((3/532)
صفحة رقم 533
أي الملك الأعظم المحيط أمره وقدرته وعلمه ، وهو حكمه بالغرق على كل ذي روح لا يعيش في الماء ) إلا من رحم ) أي إلا مكان من رحمة الله فإنه مانع من ذلك وهو السفينة ، أو لكن من رحمه الله فإن الله يعصمه .
ولما ركب نوح ومن أمره الله به وأراده .
ولم تبق حاجة في تدرج ارتفاع الماء ، فعلاً وطماً وغلب وعتاً فهال الأمر وزاد على الحد والقدر ، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره : فلم يسمع ابنه ذلك منه بل عصى اباه كما عصى الله فأوى إلى الجبل الذي أراده فعلاً الماء عليه ولم يمكنه بعد ذلك اللحاق بأبيه ولا الوصول إليه : ( وحال بينهما ) أي بين الابن والجبل أو بينه وبين أبيه ) الموج ( المذكور في قوله ) في موج كالجبال ( ) فكان ) أي الابن بأهون أمر ) من المغرقين ( وهم كل من لم يركب مع نوح عليه السلام من جميع أهل الأرض ؛ قال أبو حيان : قل كانا يتراجعان الكلام فما استتمت لمراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمه وفرسه وحيل بينه وزبين نوح عليه السلام فغرق - انتهى .
والركوب : العلو على ظهر الشيء ، ركب الدابة والسفينة والبر والبحر ؛ والجري : مر سريع ؛ يقال : هذه العلة تجري في أحكامها ، أي تمر من غير مانع ، والموج جمع موجة - لقطعة عظيمة من الماء الكثير ترتفع عن حملته ، وأعظم ما يكون ذلك إذا اشتدت الريح ؛ والجبل : جسم عظيم الغلظ شاخص من الأرض هو لها كالوتد ؛ والعصمة : المنع من الأفة ) وقيل ) أي بأدنى إشارة بعد هلاك أهل الأرض وخلوها من الكافرين وتدمير من في السهول والجبال من الخاسرين ، وهو من إطلاق المسبب - وهو القول - على السبب - وهو لإرادة - لتصوير أمر ومأمور هو في غاية الطاعة فإنه أوقع في النفس .
ولما كان كل شيء دون مقام الجلال والكبرياء والعزة بأمر لا يعلمه إلا الله ، دل على ذلك بأداة البعد فقال ) يا أرض ابلعي ( اي اجذبي من غير مضغ إلى مكان خفي بالتدريج ، وعين المبلوع لئلا يعم فتبتلع كل شيء على ظهرها من جبل وغيره ، ولذلك أفرد ولم يجمع فقال : ( ماءك ) أي الذي تجدد على ظهرك للإغراق ليكون كالغذاء للآكل الذي يقوي بدنه فيقوي به على الإنبات وسائر المنافع وجعله ماءها لاتصاله بها اتصال الملك بالمالك ) ويا سماء أقلعي ( اي أمسكي عن الإمطار ، ففعلتا مبادرتين لأمر الملك الذي لا يخرج عن مراده شيء ) وغيض الماء ( اي المعهود ، حكم عليه بالدبوب في أعماق الأرض ، من المتعدي فإنه يقالك غاض الماء وغاضه الله ، كما يقال : نقض الشيء ونقضته أنا ) وقضي الأمر ) أي فرغ وانبتّ وانبرم في إهلاك نم هلك ونجاة من نجا كما أراد الجليل على ما تقدم به وعده نوحاً عليه السلام ، لم يقدر(3/533)
صفحة رقم 534
أحد أن يحبسه عنهم ولا أن يصرفه ولا أن يؤخره دقيقة ولا اصغر منها .
فليحمد الله من أخر عنه العذاب ولا يقل ما ( يحبسه ) لئلا يأتيه مثل ما أتى هؤلاء أو من بعدهم ) واستوت ( ي استقرت واعتدلت السفينة ) على الجودي ( إشارة باسه إلى أن الانتقام العام قد مضى ، وما بقي إلا الجود بالماء والخير والخصب والرحمة العامة ، وهو الجبل بالموصل بعد خمسة أشهر ؛ قال قتادة : استقلت بهم لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين وماءئة يوم ، واستقرت بهم على الجودي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء ) وقيل ) أي إعلاماً بهوان المهلكين والراحة منهم ) بعداً ( هو من بعد - بالكسر مراداً به البعد ن حيث الهلاك ، فإن حقيقته بعدُ بعيد لا يرجى منه عود ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ، وعبر بالمصدر لتعليقه باللام الدالة على الاستحقاق والختصاص ) للقوم ) أي المعهودين في هذه القصة التي كان فيها من شدة القيام فيما يحاولونه ما لا يعلمه أحد إلا الله ) الظالمين ) أي العريقين في الظلم ، وهذه الآية تسع عشرة لفظة فيها أحدوعشرون نوعاً من البديع - عدها أبو حيان وقال : وروي أن أعرابياً سمعها فقال : هذا كلام القادرين .
وذكر الرماني عدة من معانيها ، منها إخراج الأمر على جهة التعظيم لفاعله من غير معاناة ولا لغوب ، ومنا حسن تقابل المعاني ، ومنها حسن ائتلاف الألفاظ ، ومنها حسن البيان في تصوير الحال ، ومنها الإيجاز من غير إخلالن ومنها تقبل الفهم على أتم الكمال ؛ والبلع : إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف ؛ والإقلاع : إذهاب الشيء من أصله حتى لا يبقى له أثر ؛ والغيض : غيبة المار في ألأرض على جهة النشف وإبراز الكلام على البناء للمفعول أدل على الكبرياء والعظمة للفاعل للإشارة إلى أنه معلوم لأنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره ، ونقل الأصبهاني عن صاحب المفتاح فيها كلاماً أغلى من الجوهر .
هود : ( 45 - 48 ) ونادى نوح ربه. .. . .
) وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ ينُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ قِيلَ ينُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ( )
ولما كان الاستثناء من أهله في قوله : ( إلا من سبق عليه القول ( يجوز أن يراد به امرأته فقط ، فتكون نجاة ابنه جائزة ، وكان ما عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من فرط الشفقة على الخلق لا سيما الأقارب يحملهم على السعي في صلاحهم ما كان(3/534)
صفحة رقم 535
لذلك وجه كما تقدم مثل ذلك في قوله تعالى
77 ( ) إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ( ) 7
[ التوبة : 80 ] لأن أجنحة الخلق كسيرة وأيديهم قصيرة وأمرهم ضعيف وحالهم رث ، فادنى هوان يورثهم الخسران ، وأما جناب الحق ففسيح وشأنه عظيم وأمره عليّ ، فلا يلحقه نفص بوجه ولا يداينه ضرر ولا يعتري أمره وهن ، لما كان ذلك كذلك ، سال نوح عليه السلام نجاة ولده كما أخبر عنه تعالى في قوله : ( ونادى نوح ربه ( اي الذي عوده بالإحسان الجزيل ، ودل سبحانه بالعطف بالفاء دون أن يأتي بالاستئناف المفسر للنداء على أن ما ذكر هنا من نداء نوح عليه السلام بعض ندائه وأن هذا المذكور مرتب معقب على شيء منه سابق عليه أقربه أن يكون ما أرشده إليه سبحانه في سورة المؤمنين ويشعر به قوله تعالى بعد هذا جواباً له ) يا نوح اهبط منها بسلام منا ( فيكون تقدير الكلام قال : رب أنزلني منزلاً مباركاً - وما قدر له من الكلام ) فقال ( اي عهقبة لما حمله على ذلك من رحمة النبوة وشفقة الأبوة وسجية البشر متعرضاً لنفحات الرحمة وعواطف العفو ؛ أو الفاء تفصيل لمجمل ( نادى ) مثل ما في : توضأ فغسل ) رب إن ابني ) أي الذي غرق ) من أهلي ) أي وقد أمرتني بحمل أهلي ، وذلك الأمر محتمل للإشارة إلى إرادة نجاتهم ) وإن وعك الحق ) أي الكامل في نجاتهم إلا من سبق عليه القول ، وقد علمت ذلك في المرأة الكافرة ) وأنت أحكم الحاكمين ( لأنك أعلمهم ، ومن كان أعلم كان أحكم فتعلم أن قولك ) إلا من سبق عليه القول ( يصح باستثنائها وحدها ، فإن كان ابني ممن نجا فأتني به ؛ وإن كان هذا الدعاء عند حيلولة الموج بينهما فالمعنى : فلا تهلكه ) قال يا نوح ( وأكد في نفي ما تقدم منه إثباته فقال : ( إنه ليس من أهلك ) أي المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره ، ولهذا علل بقوله : ( إنه عمل ) أي ذو عمل ، ولكنه جعله نفس العمل في قراءة الجماعة مبالغة في ذمه ، وذلك لأن الجواهر متساوية الأقدام في نفس الوجود لا تشرف إلا بآثارها ، فين أنه ليس فيه أثر صالح أصلاً ، ويثبت قراءة يعقوب والكسائي بالفعل أن من باشر السوء مطلق مباشرة وجبت البراءة منه ، ولا سيما للأمر فلا يواصل إلا بإذن ، وعبر بالعمل دون الفعل لزعمه أن أعماله مبنية على العلم ، وأكده لما لا يخص من سؤال نوح عليه السلام هذا ) غير صالح ( بعلمي ، وقد حكمت في هذا الأمر أني لا أنجي منه إلا من اتصف بالصلاح وأنا عليم بذات الصدور ، وأنت يخفي عليك كثير من الأمور فربما ظننت الإيمان بالصلاح وأنا عليم بذات الصدور ، وأنت يخفي عليك كثير من الأمور فربما ظننت الإيمان بمن ليس بؤمن لبنائك الأمر على ما نراه من ظاهره ؛ وقد نقل الرماني عن الحسن أنه كان ينافق بإظهار الإيمان ، وهذا يدل على أن الموافق في الدين ألصق ما يكون وإن ان في غاية البعد في النسب ، والمخالف فيه ابعد ما يكون وإن كان في غاية القرب في النسب .(3/535)
صفحة رقم 536
ولما تسبب عن هذا الجواب أن ترك السؤال كان أولى ، ذكر أمراً كلياً يندرج فيه فقال : ( فلا تسألن ) أي بنو ع من أنواع السؤال ) ما ليس لك به علم ( فلا تعلم أصواب السؤال فيه أم لا ، لأن اللائق بأمثالك من أولى القرب بناء أمورهم على التحقيق وانتظار الإعلام منا ، انظر إلى قول موسى عليه السلام في حديث الشفاعة في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها ( .
ومن المعلوم أن تلك النفس كانت كافرة من آل فرعون ) إني أعظك ( بمواعظي كراهية ) أن تكون ) أي كوناً تتخلق به ) من الجاهلين ) أي في عداد الذين يعملون بالظن لأنهم لا سبيل لهم إلى الوقوف على حقائق الأمور من قبلنا فتسأل مثل ما يسألون .
ولما انجلى للسامع ما هو فيه ( صلى الله عليه وسلم ) من علو المقام وعظيم الشأن الموجب للعقاب على كثير من الصواب فتشوف للجواب ، استأنف بقوله : ( قال ) أي مبادراً على ما يقتضيه له من كمال الصفات ) رب ) أي أبيها المحسن إليّ ، وأكد دلالة للسامعين على عظيم رغبته فقال : ( إني أعود بك أن ) أي من أن ) اسألك ) أي في شيء من الأشياء ) ما ليس لي به علم ( تأدباً بإذنك واتعاظاً بموعظتك وارتقاء لما رقيتني إليه من علو الدرجة ورفيع المنزلة ) وإلا تغفر لي ) أي الآن وفي المستقبل ) وترحمني ) أي تستر زلاتي وتمحها وتكرمني ) أكن من الخاسرين ) أي العريقين في الخسارة فكانه قيل : ماذا أجيب عن ذلك ؟ فقيل : ( قيل ( بالبناء للمفعول دلالة على العظمة والجلال الذي تكون الأمور العظيمة لأجله بأدنى إشارة ) يا نوح أهبط ) أي من السفينة ) بسلام ) أي عظيم ) منا ) أي ومن سلمنا عليه فلا هلك يلحقه ) وبركات ) أي خيرات نامية عظيمة صالحة ) عليك ) أي خاصة بك ) وعلى أمم ( ناشئة ) ممن معك ( لكونهم على ما يرضينا ولا نمتعهم بالدنيا إلا قليلاً ، ولهم إذا رجعوا إلينا نعيم مقيم ، وقد دخل ي هذا الكلام كل مؤمن مؤمنة إلى يوم القيامة ) وأمم ) أي منهم ) سنمتعهم ( في الدني بالسعة في الرزق والخفض في العيش على وفق علمنا وإرادتنا ولا بركات عليهم منا ولا سلام ، فالآية من الاحتباك : ذكر البركات والسلام أولاً دليلاً على نفيهما ثانياً ، والمتاع ثانياً ، دليلاً على حذفه أولاً ) ثم يمسهم منا ) أي في الدارين أو في الآخرة أو فيهما ) عذاب أليم ( لجريهم على غير هدينا وجرأتهم على ما يسخطنا ، ويجوز أن يكون ) وأمم ( مبتدأ من غير تقدير صفة محذوفة ، فيكون المسوغ للابتداء كون المقام مقام التفضيل ؛(3/536)
صفحة رقم 537
والعياذ : طلب النجاة بما يمنع من الشر ؛ والبركة : ثبوت الخير بنمائه حالاً بعد حال ، وأصله الثبوتن ومنه البروك والبركة لثبوت الماء فيها .
ذكر قصة نوح عليه السلام من التوراة وهو نوح بن لمك بن متشولح بن خنوخ بن يارد بن مهلاليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام ، وذلك لأنه في أوائل السفر الأول منها : وإن آدم طاف نحو حليلته فحبلت وولدت ابناً فسماه شيث وقال : الآن أخلف الله عليّ نسلاً آخر بدل هابيل الذي قتله قابيل ، وذلك بعد أن عاش آدم مائة وثلاثين سنة ، وكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة ، وعاش شيث مائة وخمس سنين فولد له أنوش ، وكان جميع حياة شيث تسعمائة واثنتي عشرة سنة ، فعاش أتوش تسعينن سنة فولد له قينان وكان جيمع حياة أنوش تسعمائة وخمس سنة ، وعاش قينان سبعين سنة فولد له مهلاليل وكان جميع حياة قينان تسعمائة وعشرين سنة ، وعاش مهلاليل خمساً وستين سنة فولد له يارد وكانت مائة واثنتين وستين سنة فولد به خنوخ فكانت جميع حياة يارد تسعمائة واثنين وستين سنة ، وعاش خنوخ خمساً وستين سنة فولد له متوشلح واكنت جميع حياة خنوخ ثلاثنائة وخمساً وستين سنة ، وعاش متوشلح مائة وسبعاً وثمانين سنة فولد له لمك وكانت جميع حياة متوشلح تسعمائة وتسعاً وستين سنة ، وعاش لمك مائة واثنين وثمانين سنة فولد له ابن فسماه نوحاً ، ثم قال : هذا يريحينا من أعمالنا ، وكد أيدينا في ألأرض التي قد لعنها الله ، وكانت جميع أيام حياة لمك سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة ، وتوفي ونوح ابن خمسمائة سنة .
فولد لنوح بنون : سام وحام ويافث ، فلما بدأ الناس أن يكثروا على وجه الأرض وولد لهم البنات نظر بنو الأشارف منهم بنات العامة حساناً جداً فأخذوا منهم النساء لأنهم يتبعون أهواء الجسد واللحم وكانت على الأرض جبابرة في تلك الأيام ومن بعدها ، لأن بني الأشراف دخلوا على بنات العامة فولد لهم جبابرة مذكرون ، فرأى الرب أن شر الناس قد كثر على الأرض هوىء فكرهم وحقدهم ردىء في جميع الأيام ، فقال الرب : أمحق الذين خلقت وأبيدهم عن جديد الأرض من الناس والبهائم حتى الهوام وطير السماء ؛ وظفر نوح من اله برحمة ورأفة ، وكان نوح رجلاً باراً تقياً في حقبه فأرضى الله ، وفسدت الأرض بين يدي اله وامتلأت إثماً وفجوراً ، فرأى الرب الإله أن ا ) ض قد فسدت وقال الله لنوح : قد وصل إلى أمر جميع الناس وسء أعمالهم لأن الأرض قد امتلأت إثماً وفجوراً بسوء سيرتهم .
فهأنذا مفسدهم مع الأرض فاتخذ لك أنت تابوتاً مربعاً من خشب الساج - وفي نسخة : الشمشار - وأجعل في التابوت علالي .
واطلها بالقار من داخلها وخارجها ، (3/537)
صفحة رقم 538
وليكن طول الفلك ثلاثمائة ذراع .
وعرضه خمسين ذراعاً ، وسمكه ثلاثين ذراعاً ، واجعل في التابوت كوى وليكن عرضها من أعلاها ذراعاً واحداً ، واجعل باب الفلك في جانبه ، واجعل فيه منازل أسفل وأوساط وعلالي .
وهأنذا محدر ماء الطوفان على الأرض لأفسد به كل ذي لحم فيه نسمة الحياة من تحت السماء ، ويبيد كل ما على الأرض ، واثبت عهدي بيني وبينك .
وتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونياء بنيك معك ، ومن كل حي من ذوي اللحوم من كل صنف اثنان لتحيى معك ، ولتكن ذكرواً وإناثاً ، من كل الطيور كأجناسها .
ومن الأنعام لأصنافها ، ومن كل الهوام التي تدب على الأرض لجواهرها ، اثنين اثنين أدخل معك من كلها لتستحييها ذكراً وانثى ، واجعل من كل ما يؤكل فاخزنه معك ، وليكن مأكلك ومأكلها ؛ فصنع نوح كل شيء كما أمر الله ثم قال الله انوح : ادخل أنت وكل أهل بيتك إلى التابوت لأني إياك وجدت باراً تقياً في هذا الحقب ، ومن كل الأنعام الزكية أدخل معك سبعة سبعة من الذكور والإناث ، ومن الأنعام التي ليست بزكية أدخل معك اثنين ذكوراً وإناثاً .
ومن الطير الزكي سبعة سبعة ذكرواً وإناثاً ، ومن الطير الذي ليس بزكي اثنين اثنين ذكوراً وإناثاً ، ليحي منها نسل على وجه الأرض ، لأني من الآن إلى سبعة أيام أهبط القطر على وجه الأرض اربعين يوماً ولياليها ، وأبيد كل ما خلقت على وجه الأرض ؛ فصنع نوح كما أمره الرب الإله .
فلما كان بعد بعد ذلك بسبعة ايام نزلت مياه الطوفانن تفجرت مياه الغمر وتفتحت مثاعب السماء .
وأقبلت الأمطار على وجه الأرض أربعين نهاراً وأربعين ليلة ، وفي هذا اليوم دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح ونساء بنيه الثلاث معه الفلك هم وجميع السباع لجناسها وجميع الدواب لأصنافها وكل حشرة تدب على الأرض بجوارها وجميع الطيور لأجناسها ، ودخل مع نوح التابوت منكل عصفور ومن كل ذي جناحين اثنان اثنان ، ومن كل ذي لحم فيه روح الحياة وكل شيء دخل من ذوي اللحوم دخلوا ذكرواً وإناثاً كما أمر الله نوحاً ، ثم أغلق الله الرب الباب عليه ، وكان الطوفان على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة ، وكثرت المياه حتى احتملت التابوت فارتفع عن الأرض ، وعزرت المياه وكثرت على الرض جداً وجعل التابوت يسير على وجه الماء واشتدت المياه على وجه الأرض جداً جداً .
وتوارت جميع الجبال العالية الشاهقة التي تحت السماء ، وارتفعت المياة من فوق كل جبل خمسة عشر ذراعاً ، وباد كل ذي لحم على الأرض من الطيور أجمع والسباع والدواب وجميع الحشرة التي تدب على ألرض وجميع الناس والبهائم ، ومات كل شيء كان فيه نسمة الحياة ما في(3/538)
صفحة رقم 539
اليبس .
وبقي نوح ومن معه في الفلك ، واشتدت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً ؛ وإن الله ذكر نوحاً وكل السباع والدواب وجميع الطيور التي معه في التابوت .
فأهاج الله ريحاً على وجه الأرض فسكنت المياه والأمطار .
واشتدت ينابيع الغمر وميازيب وغاضت المياه بعد مائة وخمسين يوماً ، وسكن التابوت ووقف في الشهر السابع لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر على جبال قودي وجعلت المياه تنصرف وتنتقص إلى الشهر العاشر ، وظهرت رؤوس الجبال في أول يوم اشهر العاشر ، فلما كان بعد ذلك بأربعين يوماً فتح نوح الكوة التي عملها في التابوت فارسل الغراب ، فخرج الغراب من عنده فلم يعد غليه حتى يبست المياه عن وجه الأرض ، ثم ارسل الحمامة من بعده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة موضعاً لموطىء رجليها فرجعت إلى التابوت لأن المياه كانت بعد على وجه الأرض ، فمد يده فأخذها وأدخلها إليه وانتظر سبعة أيام أخرى ، ثم عاد فأرسل الحمامة فعادت عند المساء وفي منقارها ورقة زيتون ، فعلم أن الماء قد غاض عن وجه الأرض فصبر أيضاً سبعة ايام أخر ، ثم أرسل الحمامة فلم تعد إليه أيضاً ، ففتح نوح باب الفلك فرأى فإذا وجه الأرض قد ظهر وجفت الرض .
فكلم الرب الإله نوحاً وقال له : اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل السباع التي معك منكل ذي لحم والطيور والدواب ، وأخرج كل الهوام التي تدب على الأرض معك ، ولتتولد وتنمو في ألأرض وتكثر وتزداد على الأرض .
فخرج نوح ومن ذكر وبنى للرب مذبحاً وأخذ من جميع الدواب والطيور الزكية فأصعد منها على المذبح قرباناً للرب الإله ، فقال الرب الإله : لا أعود ألعن الأرض أبداً من أجل أمال الناس لأن هوى قلب الإنسان وحقده رديء منذ صباه ولا أعود ايضاً ابيد كل حي كما فعلت ، ومن الآن جميع ايام الأرض يكون فيها الزرع والحصاد والبرد والحر والقيظ والشتاء ، فبارك الله على نوح وبنيه وقال لهم : انموا واكثروا واملؤوا الأرض ، وليغش رعبكم وخوفكم جميع السباع وبهائم الأرض وكل طيور السماء وكل دابة تدب على الأرض ، وجميع حيتان البحور تكونن تحت أيديكم ، وكل الدواب الطاهرة الحية تكون لأكلكم ، وقد جعلت الأشياء كلها حلالاً لكم مثل عشب البرية خضرها ، وأما المخنوق الذي دمه فيه فلا تأكلوه فإن دمع نفسه ، وأما دماؤكم من أنفسكم فأطلها بالنهي من يد جميع الحيوان ومن يد جميع الناس ، أي إنسان قتل أخاه طالبته بدمه ، ومن سفك دم الإنسان سفك دمه لأن الل خلق آدم بصورته ، وأنتم فانموا واكثروا وولدوا في الأرض وأكثروا فيها ؛ وقال الله لنوح ولبنيه معه : هأنذا مثبت عهدي بينس وبينكم ومع أنسالكم من بعدهم ومع كل نفس حية منكم ، (3/539)
صفحة رقم 540
ومع الطيور والدواب ومع كل سباع الأرض جميع الذين خرجوا من الفلك .
وأثبت عهدي بيني وبينكم فلا يبيد كل ذي لحم أيضاً بماء الطوفان ولا يهبط الطوفان أيضاً ليفسد جميع الأرض ، قال الله انوح : هذه علامة لعهدي الذي أجعله بيني وبينكم وبين كل نفس حية معكم في جميع أحقاب العالم ، قد أظهرت قوسي في السحاب في الأرض وأظهرت قوس السحاب فاذكروا العهد الذي بيني وبينك وبين أهل الأرض ، فإذا أنشأت السحاب في الأرض وأظهرت قوس التابوت سام وحام ويافث ، وحاتم يكنى أبا كنعان ، هؤلاء الثلاثة ثم بنو نوح ، وتفرق الناس من هؤلاء في الأرض كلها ؛ ثم ذكر ان نوحاً عليه السلام نام فرأى حام عريه فأظهر ذلك لأخويه ، فتناول سام ويافث رداء فألقياه على أكتافهما ثم سعيا على أعقابهما مدبرين فواريا عررى أبيهما ، فلما علم نوح ما صنع ابنه الأصغر دعا عليه أن يكون عبداً لأخويه ، وكانت جميع ايام حياة نوح تسعمائة سنة وخمسين سنة ، ثم توفي عليه الصلاة ولاسلام والتحية والإكرام ؛ ثم ذكر أن الناس بعده أرادوا أن يبنوا صرحاً لاحقاً بالسماء ، واجتمع جميعهم على ذلك لأن لغتهم كانت واحدة ورايهم واحد ففرق الله ألسنتهم وفرقهم من هنالك على وجه الأرض ولم يبنوا القرية التي هموا بها ، ولذلك سمين بابل وبوبال معناه بالعبراني : الشتات ، وما في تفسير الغوي وغيره من أن عوج ابن عوق - بضمهما كما في القاموس - كان في زمن نوح وسلم من الطوفان ، وأن الماء لم يجاوز ركبتيه ونحو هذا كذب بحت منابذ لقوله تعالى : ( ) ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ) [ هود : 27 ] وقوله : ( ) ا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ( ( وقوله : ( ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ( ) [ نوح : 26 ] ونحوها ، فإن كل من ذكر ذلك ذكر أن موسى عليه السلام قتله كافراً .
هود : ( 49 - 52 ) تلك من أنباء. .. . .
) تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ( ( )
ولما تمت هذه القصة علىالنحو الوافي ببيان اجتهاد نوح علبه السلام في إبلاغ الإنذار من غير مراعاة إقبال ولا إدبار ، وكانت مع ذلك دالة على علم تام واطلاع على دقائق لا سبيل غليها إلا من جهة الملك العلام ، فهي على إزالة اللبس عن أمره ( صلى الله عليه وسلم ) (3/540)
صفحة رقم 541
أوضح من الشمس ، قال تعالى منبهاً على ذلك : ( تلك ) أي هذه الأنباء البديعة الشأن الغريبة الأمر البعيدة عن طوق المعارض ، العلية الرتب عن يد المتناول ) من أنباء الغيب ( اي أخباره العظيمة ، ثم أشار إلى انه لا يزال يجدد له امثالها بالمضارع في قوله : ( نوحيها إليك ( فكأنه قيل : إن بعض أهل الكتاب يعلم بعض تفاصيلها ، فأشار غلى ان ذلك مجموعة غيب وبما يعلمونه غيب نسبي بقوله : ( ما كنت تعلمها ) أي على هذا التفصيل ) أنت ( ولما كان خفاءها عن قومه دليلاً على خفائها عنه لأنه لم يخالط غيرهم قال : ( ولا قومك ( اي وإن كانوا أهل قوة في القيام على ما يحاولونه وعدداً كثيراً ، ومنهم من يكتب ويخالط العلماء .
ولما كان زمان خفاء ذلك عنهم - وإن كان عاماً لهم - بعض الزمان الماضي ، أدخل الجار فقالك ) من قبل هذا ( اي من إيحائي إليك حتى يطرق الوهم حينئذ أنك تعلمتها من أحد منهم وإن كان يعلم كثيراً منها أهل الكتاب كما رأيت عن نص التوراة فبان أن لا عرض لقومك إلا العناد ) فاصبر ( على ذلك ولا تفتر عن الإنذار فستكون لك العاقبة كما كانت لنوح لأجل تقواه ) إن العاقبة ) أي آخر الأمر من الفوز والنصر والسعادة ) للمتقين ) أي العريقين في مخافة الله في ل زمنن وقد تضمنت القصة البيان عما يوجبه حال أهل الخير والإيمان وأهل الشر والطغيان من الاعتبار بالنبأ عن الفريقين ليجتبي حال هؤلاء ويتقي حال أولئك لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة .
ولما تم من ذلك ما هو كفيل بغرض السورة ، وختم بأن العاقبة دائماً للمتقين ، أتبع بالدليل على ذلك من قصص الأنبياء مع الوفاء بما سيقت له قصة نوح - على جميعهم السلام - من الحث على المجاهرة بالإنذار فقال تعالى : ( وإلى ) أي ولقد ارسلنا غلى ) عاد أخاهم ( وبينه فقال : ( هوداً ( ولما تقدم أمر نوح مع قومه ، استشرف السامع غلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أو لا ؟ فاستأنف الجواب بقوله : ( قال يا قوم ( الذين هم أعز الناس لدي ) اعبدوا الله ) أي ذا الجلال والإكرام وحده ؛ ثم صرح وعلل فقال : ( ما لكم ( وأغرق في النفي فقال : ( من إله ) أي معبود بحق ) غيره ( فدعا إلى أصل الدين كما هو دأب سائر النبين والمرسلين ؛ ثم ختم ذلك بمواجهتهم بما يسوءهم من الحق وما ثناه عن ذلك رجاء ولا خوف فقال : ( إن ) أي ما ) أنتم إلا مفترون ) أي نتعمدون الكذب على الله في إشراككم به سبحانه لأن ما على التوحيد من أدلة العقل غير خاف على عاقل فكيف مع تنبيه النقل وذلك مكذب لمن اشرك ، أي فاحذروا عقوبة المفتري ؛ ثم نفى ان يكون له في ذلك غرض غير نصحهم بقوله موضع ) إني ناصح لكم بهذا الأمر فلا يسوءكم مواجهتي لكم فيه بما تكرهون ((3/541)
صفحة رقم 542
) يا قوم ( مكرراً لاستعطاف ) لا أسألكم ) أي في المستقبل كما لم أسالكم في الماضي ) عليه ) أي على هذا الإنذار ) أجراً ) أي فلست موضع تهمة ) إن ( اي ما ؛ ) أجري ( ثم وصف من توكل عليه سبحانه بما يدل على الكفاية فعليّ وجوب شكره فقالك ) إلا على الذي فطرني ( اي أبتدأ خلقي ولم يشاركه فيّ أحد فهو الغني المطلق لا أوجه رغبتي غلى غيره كما يجب على كل أحد لكونه فطرة .
ولما كان الخلاف الذي لا حظ فيه جهة الدنيا لا يحتاج الإنسان في الدلاة على أنصاحبه ملجأ غليه من جهة الله ، وأنه لا نجاة إلا به غلى غير العقلن سبب عن قوله هذا الإنكار عليهم في قوله : ( أفلا تعقلون ( .
ولما دعاهم مشيراً غلى ترهيبهم مستدلاً على الصدق بنفي الغرض ، رغبهم في إدامة الخوف مما مضى بقوله : ( ويا قوم ( ومن هم أعز الناس عليّ ولهم قدرة على ما طلب منهم ) استغفروا ربكم ) أي اطلبوا غفرانه بطاعتكم له لما يجب له بإحسانه إليكم .
واشار إلى علو رتبة التوبة بأداة التراخي فقال : ( ثم توبوا إليه ) أي تسموا عالي هذه الرتبة بأن تطلبوا ستر الله لذنوبكم ثم ترجعوا إلى طاعته بالندم والإقلاع والاستمرار ) يرسل السماء ( اي الماء النازل منها أو السحاب بالماء ) عليكم مدراراً ) أي هاطله بمطر غزبر متتابع ) ويزدك قوة ) أي عظيمة مجموعة ) إلى قوتكم ( ثم عطف على قوله ) استغفروا ( قوله : ( ولا تتولوا ) أي تكلفوا انفسكم غير ما جلبت عليه من سلامة الانقياد فتبالغوا في الإعراض - بما اشار إليه إثبات التاء ) مجرمين ( اي قاطعين لأنفسكم - ببناء أمركم على اظنون الفاسدة عن خيرات الدنيا والآخرة .
هود : ( 53 - 56 ) قالوا يا هود. .. . .
) قَالُواْ يهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ( )
ولما محّض لهم النصح علىغاية البيانن مان جوابهم إلا أن ) قالوا ( اي عاد بعد أن أظهر لهم هود عليه السلام منا لمعجزات ما مثله آمن عليه البشر ) يهود ( نادوه باسمه غلظة وجفاء ) ما جئتنا ببينة ( فأوضحوا لكل ذي لب أنهم مكابرون لقويم العقل وصريح النقل ، فهم مفترون كما كان العرب يقولون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن أتاهم من الآيات على يده ما يفوت الحصر ) لولا أنزل عليه آية من ربه ( ) وما نحن ( وأغرقوا في النفي فقالوا : ( بتاركي آلهتنا ( مجاوزين لها أو صادرين ) عن قولك ( وتركهم للعطف بالفاء -(3/542)
صفحة رقم 543
المؤذنة بأن الأول سبب الثاني اي الواو في قولهم : ( وما نحن لك ( اي خاصة ، وأغرقوا في التفي فقالزا : ( بمؤمنين ( - دليل على أنهم تركوا إتباعه عناداً ، لا أنهم يعتقدون أنه لم يأت ببينة ؛ وإلى ذلك يرشد ايضاً تعبيرهم ابالسمية التي تدل على الثبات فإذا نفي لم ينتف الصل ؛ والبينة : الحجة الواضحة في الفصل بينا لحق والباطل ، والبيان : فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس محرراً مما سواه ، والحامل على ترك البينة بعد ظهورها صد الشبهة عنها أو تقليد الرؤساء في دفعها واتهام موردها أو اعتقاد أصول فاسدة تدعو إلى جحدها أو العناد للحسد ونحوهن والجامع له كله وجود الشبهة .
ولما قالوا هذا الكلام البين الفساد من غير تعرض لنقض ما قال لهم بنوع شبهة ، ان كأنه قيل لهم : هذا الذي قلته لكم وهو لا ابين منه ولا أعدل ، افرضوا أنه ما ظهر لكم صحته فما تقولون إنه حملني عليه مع أن فيه منابذتكم وأنتم أولاد عمي وأعز الناس عليّ ؟ فقالوا : ( إن نقول إلا اعتراك ( اي أصابك وغشيك غشياناً التصق بك التصاق العروة بما هي فيه مع التعمد والقوة ) بعض إلهتنا بسوء ( من نحو الجنون والخبال فذاك الحامل لك على النهي عن عبادتها .
ولما كان الطبع البشري قاضياً بأن الإنسان يخشى ممن مسه بسوء وهو يتوهم أنه قادر على ضرره فلا يواجهه بما يكره ، وكان قولهم محركاً للسامع إلى الاستعلام عن حوابه لهم ، استأنف سبحانه الإخبار عنه بقوله : ( قال ( نافياً لما قالوا مبيناً أن آلهتهم لا شيء ضاماً لهم معها ، وأكد لأنهم بحيث لا يظنون أن أحداً لا يقول ما قاله ) إني أشهد الله ) أي الملك الأعظم ليقوم عذري عنده وعدل أدباً مع الله عن أن يقول : وأشهدكم - لئلا يتوهم تسوية 0 إلى صيغة الأمر تهاوناً بهم فقال : ( واشهدوا ) أي أنتم لتقويم الحجة عليكم لأيكم ويبين عجزكم ويعرف كل أحد أنكم بحيث يتهاون بكم وبدينكم ولا يبالي بكم ولا به ) أني بريء مما تشركون ( وبين سفولها بقوله : ( من دونه ( كائناً ما كان ومن كان ، فكيف إذا لم يكن إلا جماداً ) فكيدوني ( حال كونكم ) جميعاً ) أي فرادى إن شئتم أو مجتمعين أنتم وآلهتكم .
ولما كانت المعاجلة في الحرب أهول ، وكان شأنها أصعب وأخطر ، بين عظمها بأداة التراخي فقال : ( ثم لا تنظرون ( والكيد : طلب الغيظ بالسر في مكر ، وهذه الآية من أعلام النبوة الواضحة لهود عليه السلام ، فكأنه قيل : هب أن آلاهتنا لا شيء ، فما حملك على الاجتراء على مخالفتنا نحن وأنت كثرتنا وقوتنا وأنت لا تزيد على أن تكون واحداً منا فقال : ( إني ) أي جسرت على ذلك لأني ) توكلت ( معتمداً ) على الله ( الملك المرهوب عقابه الذي لا ملك سواه لا رب غيره ؛ وبين إحاطة ملكه بقوله :(3/543)
صفحة رقم 544
) ربي وربكم ) أي الذي أوجدنا ودبر أمورنا قبل أن يخلقنا فعلم ما بعمل كل منا في حق الآخرة لأنه ) ما من دابة ( أس صغرت أو كبرت ) إلا هو آخذ ) أي أخذ قهر وغلبة ) بناصيتها ) أي قادر عليها ، وقد صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة ، لأن الكل جارون مع مراده بل لا ينفك أحد عن كراهة لبعض ما هو فيد فدل ذلك قطعاً على أنه بغير مراده فاهر قهره على ذلك وهو الملك الأعلى سبحانه ؛ والناصية : شعر مقدم الرأس ، ومن أخذ بناصيته فقد انقاد لأخذه لا يستطيع ميلاً ) إن ) أي لأن ) ربي ) أي المحسن إليّ بما أقامني فيه ) على الصراط ) أي طريق واسع بين ) مستقيم ( ظاهر أمره لكل أحد لا لبس فيه أصلاً ولا خلل ولا اضطراب ولا اعوجاج بوجه ، فلذلك كان كل من في الكون يتألهه ويدعو ويخافه ويرجوه وإن اتخذ بعضهم من دونه شركاء ، وأما ما يعبد من دونه فلا يعظمه غلا عابده ، وأما غير عابده فإنه لا يقيم له وزناً ؛ فصح بهذا غالب على كل شيء غلبة يعلمها كل موجود من غير خفاء أصلاً ، فهو مرجو مروب بإجماع القلاء بخلاف معبوداتكم ، والحاصل أنه يلزم الصراط المستقيم الظهور ، فيلزم عدم الاختلاف لانتفاء اللبس ، فمن كان عليه كان عليّ القدر شهير الأمر ، بصيراً بما يريد ، مع الثبات والتمكن ، مرهوب العاقبة ، مقصوداً بالاتباع والمحبة ، من لم يقبل إليه ضل ، ومن أعرض عنه أخذ لكثرة أعوانه وعز سلطانه ، فظهرت قدرته على عصمة من يتوكل عليه وعجز معبوداتهم معهمن لأن نواصي الكل بيده وهو ربها وربهم ورب كل شيء ، فقد انطبقختام الآية على قولهم ) ما جئتنا ببينة ( رداً له لأن من كان على صراط مستقيم لم يكن شيء أبين من أمره ، وعلى جوابه في توكله وما في حيزه أتك انطباق ؛ والناصية : مقدم الشعر من الرأس ، واصلها الاتصال من قولهم : مفازة تناصي مفازة - إذا كانت متصلة بها .
هود : ( 57 - 60 ) فإن تولوا فقد. .. . .
) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( ( )
ولما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم ، أخذ يحذرهم فقال مبيناً أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم : ( فإن تولوا ( ولو أدنى تولية بما يسير إليه حذف التاء ، فعليكم اللوم دوني ، لأني فعلت ما عليّ ) فقد ) أي بسبب أني قد(3/544)
صفحة رقم 545
) أبلغتكم ما ) أي كل شيء ) أرسلت ) أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره ) به إليكم ( كاملاً لم أدع منه شيئاً رجاء لإقبالكم ولا خوفاً من إعراضكم ، فأبيتم غلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به ، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم ) ويستخلف ربي ( اي يوجد المحسن غليّ بإقامتي يما يرضيه ) قوماً غيركم ( يخلفونكم في دياركم وأوالكم ، فتكونون أعداءه ، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم ) ولا تضرونه ) أي الله بإعراضكم ) شيئاص ( ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكداً لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه : ( إن ربي ) أي المحسن غليّ المدبر لمصالحي .
ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته ، قدم قوله : ( على كل شيء ( صغيراً أو كبيراً جليل أو حقير ) حفيظ ) أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء وبالغ الحفظ له ، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه ، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر ، لأن الحفظ : الحراسة ، ويلزمها العلم والقدرة ، فمن القدرة حافظ العين ، أي لا يغلبه نوم ، والحفيظة - اللحمية والغضب ، ومنهما معاً المحافظة - للمواظبة على الشيء ؛ والتوالي عن الشيء : الذهاب إلى غير جهته إعارضاً عنه ؛ والإبلاغ : إلحاق الشيء نهايته ؛ ولالستخلاف : جعل الثاني بدلاً من الأول يقوم مقامه ؛ والضر : إيجاب الألم بفعله أو التسبب له .
ولما تم ذلك كان كأنه قيل : فلم يرجعوا لوم يرهووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا ) ولما جاء أمرنا ) أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد ) نجينا ) أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة ) هوداً والذين آمنوا ( كائنين ) معه ( في الإيمان ووالنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم زيقال : إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف .
ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته ، فإن طاعته نعمة منه عليه ، أشار إلى ذلك بقوله : ( برحمة منا ( تحيقيقاً لتوكل عبدناً ؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكرراً ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة : ( ونجيناهم ) أي بما لنا من العظمة ، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله : ( من عذاب غليظ ) أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر ، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله ) ومن خزي يومئذ ( كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما صرح به في قصة صالح ؛ والنجاة : السلامة من الهلاك ؛ وحقيقة الغلظة عظم الجثة ، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه .(3/545)
صفحة رقم 546
ولما تمت قصتهم على هذا الوجه لابديع والأسلوب المطرب ، قال تعالى عاطفاً على قوله ) تلك من أنباء الغيب ( : ( وتلك عاد ) أي قصة القوم البعداء البغضاء ، ما كنت تعلمها على هذا التفصيل أنت ولا قومك ولا أهل الكتاب ، وإنما نفيت عن أهل الكتاب لأنهم لا يعلمون إلا ما له أصل " ن أنبيائهم ، وهذه وقصة ثمود ليستا في التوراة ولا شيء من أسفار أنبيائهم ، وسألت بعض علمائهم فلم أجد عنده شيئاً من علمها ولا حرفاً واحداً ولا سمع بعاد ولا هود ، وتلخيص قصتهم أنهم ) جحدوا ) أي كذبوا عناداً واستهانة ) بآيات ربهم ( المحسن إليهم ) وعصوا رسله ( فإن من عصى واحداً منهم فقد عصى الكل لاتفاقهم على أمر واحد مع التساوي في مطلق المعجزة ) واتبعوا ) أي بغاية جهدهم ) أمر كل جبار ( ي قاهر بليغ القهر يجبر غيره على ما يريد ، وهذا يدل على أنه لا عذر في أصل الدين بوجه فإن الضمائر لا يعلمها إلاالله فيمكن كل أحد مخالفة الجبار فيه ) عنيد ) أي طاغ باغ لا يقبل الحق بوجه ، فأهلكوا ولم يمنعهم تجبرهم ولا أغنى عنهم عنادهم وتكبرهم ) وأًتبعوا ( جميعاً بعد إهلاكهم بأيسر وجه لعظيم قدرة المتبع ) في هذه الدنيا ( حقرها في هذها لعبارة بما أشارت غليه الإشارة مع التصغير ، وبمادل على الدنو وبأن من اغتر بها فهو ممن وقف مع الشاهد لما له من الجمود ) لعنة ) أي طرداً وبعداً وإهلاكاً ) ويوم القيامة ) أي كذلك بل اشد ، فكأنه قيل : أفما لمصيبتهم من تلاف ؟ فقيل : لا ، ) ألا ( مفتتحاً للإخبار عنهم بهذه الأداة التي لا تذكر إلا بين يدي كلام يعظم موقعه ويجل خطبه ، والتأكيد في الإخبار بكفرهم تحقيق لحالهم ، وفيه من أدلة النبوة وأعلام الرسالة الرد على أغناهم بأن قالوا : إنهم من المقربين إلى الله وإ ، هم بعين الرضى منه ، فالله المسؤول في الإدالة عليهم وشفاء الصدور منهم ، وهم أتبع ابن عربي الكافر العنيد أخهل الاتحاد ، المجاهرون بعظيم الإلحاد ، المستخفون برب العباد ، بل عداه إعظاماً لطغيانهم فقال : ( ربهم ) أي غطوا جميع أنوار الظاهر الذي لا يصح أصلاً خفاءه لأنه لا نعمة على مخلوق غلا منه ، فكان كفرهم أغلظ الكفر ، ومع ذلك فلم ينثن هود عليه السلام عن إبلاغهم جميع ما أمر به ولا ترك شيئاً مما أوحي إليه فلك به أسوة حسنة وفيهم قدوة ، ومن كفر من أحسن إليه بعد بعداً لا قرب معه .
ولما كان الأمر عظيماً والخطب جليلاً ، كرر الأداة التي تقال عند الأمور الجليلة فقال : ( الا بعداً لعاد ( هو من بعد - بكسر العين إذا كان بعده بالهلاكن وبينهم بقوله : ( قوم هود ( تحقيقاً لهم لأنهم عادان : الأوى والآخرة ، وإيماء إلى أن استحقاقهم(3/546)
صفحة رقم 547
للإبعاد بما جرى لهو عليه السلام معهم من الإنكار والدعاء عليهم بعد الهلاك كناية عن الإخبار بأنهم كانوا مستحقين للهلاك ؛ والجحد : الخبر عما يعلم صحته أنه لا يعلمها ، وهو ضد الاتارف كما أن النفي ضدالإثبات ، فهو خبر بمجرد العدم فهو أعم ؛ والعصيان خلاف ما أمر به الداعي على طريق الإيجاب ؛ واللعنة : الدعاء بالإبعاد ، وأصلها الإبعاد من الخير ؛ والإتباع : جعل الثاني على أثر الأول ، والإبلاغ أخص منه ، والمراد هنا بلوغها لهم لأن الذي قضى بذلك قادر وقد ألحق بهم عذاب الدنيا المبعد لهم من مظان الرحمة .
هود : ( 61 - 62 ) وإلى ثمود أخاهم. .. . .
) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( ( )
ولما انقضت قصة عاد على ما أراد سبحانه ، أتبعها قصة من كانوا عقبهم في الزمن ومثلهم في سكنى أرض العرب وعبادة الأوثان والمناسبة في الأمر المعذب به لأن الموصل للصيحة غلى الأسماع هو الريح وفي خفاء أمرهم ، مفصلاً على أهل ذلك الزمان فقال : ( وإلى ) أي ولقد أرسلنا إلى ) ثمود أخاهم ( وبينه بقوله : ( صالحاً ( ثم أخرج قوله ( صلى الله عليه وسلم ) على تقدير سؤال فقال : ( قال يا قوم ) أي يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء ) اعبدوا الله ( اي الملك الأعظم وحده لأن عبادتكم له مع غيره ليست بشيء ؛ ثم استأنف تفسير ذلك فقال : ( ما لكم ( أغرق في النفي فقال : ( من إله غيره ( جرياً على منهاج الدعاة غلى الله في أصل الدين ، وهو إفراد المنعم بالعبادة .
ولما أمرهم بذلك ، ذكرهم قدرته ونعمته مرغباص مرهباً فقال : ( هو ) أي وحده ) أنشأكم ) أي ابتدأ خلقكم ) من الأرض ( بخلق آدم عليه السلام منها بغير واسطة وبخلقكم من المني من الدم وهو من الغذاء وهو من النبات وهو من الأرض كما أنشأ أوثانكم منها ) و ( وفع مقداركم عليه بأن ) استعمركم ( اي أهلكم لما لم يؤهل له الأوثان من أن تكونا عماراً ) فيها ( فلا تنسوا حق إلهكم وما فضلكم به من حق أنفسكم بخضوعكم لما لا يساويكم فكيف بمن أنشأكم وإياها ؛ والإنشاء : الابتداء بالإيجاد من غير استعانة بشيء من الأسباب .
ولما بين لهم سبحانه عظمته ، وكان الشيطان قد شبه عليهم لأنه لعظمته لا يوصل إليه بوسيلة كما هو حال الملوك وألقى إليهم أن الأوثان وسائل ، نفى ذلك مبيناً طريق الرجوع إليه بقوله : ( فاستغفروه ) أي فاقبلوا بكل قلوبكم عليه طالبين أن يستر ذنوبكم ؛(3/547)
صفحة رقم 548
وذكر شرط المغفرة بقوله مشيراً بأدا البعد إلى عظيم المنزلة : ( ثم توبوا ) أي ارجعوا بجميع قلوبكم ) إليه ( ثم علل ذلك بلطفه وعطفه ترغيباً في الإقبال إليه فقال مؤكداً لأن من يرى إمهاله للعصاة يظن الظنون ومن عصاه كان عمله عمل من ينكر قربه وإجابته : ( إن ربي ( الذي أخلصت له العبادة لإحسانه إليّ وأدعوكم إلى الإخلاص له لإحسانه إليكم ) قريب ( من كل من أقبل إليه من غير حاجة إلى معاناة مشي ولا حركة جاحة ) مجيب ( لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين معاً .
ولما دعاهم " لى الحق ونصب لهم عليه من الأدلة ما هم به معترفون وذكرهم نعمه مؤمئاً إلى التحذير من نقمه ، وسهل لهم طريق الوصول إليه ، ما كان جوابهم إلا ان سلخوه من طور البشرية لمحض التقليد ، فلذلك استأنف الإخبار عن جوابهم بقوله : ( قالوا ( اي ثمود ) يا صالح ( نادوه باسمه قلة أدب منهم وجفاء ) قد كنت فينا ) أي فيما بينا إذا تذاكرنا أمرك ) مرجواً ) أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح ، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا : ( قبل هذا ) أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد ؛ ثم بينوا ما أوجب سقوطه عندهم بقولهم منكرين إنكار محترق ) أتنهانا ) أي مطلق نهي ) أن نعبد ) أي دائماً ) ما يعبد أباؤنا ( وعبروا بصيغة المضارع تصويراً للحال كأن آباءهم موجودون فلا تمكن مخالفتهم إجلالً لهم ، فأجلووا من يرونه سباً قرياً في وجودهم ولم يهابوا من أوجدهم وآباءهم أولاً من الأرض وثانياً من النطف ، ثم خولهم فيما هم فيه ، ثم فزعوا - في أصل الدين بعد ذكر الحامل لهم على الكفر المانع لهم من تركه - إلى البهت بأن ما يوجب القطع لكل عاقل من آيته الباهرة لم يؤثر عندهم إلا ما هو دون الظن في ترك إجابته ، فقالوا مؤكدين لأن شكهم حقيق بأن ينكر لأنه في امر واضح جداً لا يحتمل الشك أصلاً : ( وإننا لفي شك ( وزادوا التأكيد بالنون واللام وبالإشارة بالظرف إلى إحاطة الشك بهم ) مما ( ولما كان الداعي واحداً وهو صالح عليه السلام لم يلحق بالفعل غير نون واحدة هي ضميرهم بخلاف ما في سورة إبراهيم عليه السلام فلذلك قالوا : ( تدعونا إليه ( من عبادة الله وحده ) مريب ) أي موقع في الريبة وهو قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين ؛ والرجاء : تعلق النفس لمجيء الخير على جهة الظن ، ونظيره الأمل والطمع ؛ والنهي : المنع من الفعل بصيغة لا تفعل .
هود : ( 63 - 68 ) قال يا قوم. .. . .
) قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَيقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ(3/548)
صفحة رقم 549
تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ) 73
( ) 71
ولما أبرزوا له أمرهم في قالب الشك على سبيل الجزم ، قابلهم بمثله على سبيل الفرض إنصافاً لهملئلا يلائم الخطاب حال المخاطبين ، فاستأنف سبحانه الإخبار عنه بذلك في قوله : ( قال ) أي صالح نادياً لهم إلى النظر في امره برفق ) يا قوم أرءيتم ( اي أخبروني ) إن كنت ( أورده بصيغة الشك لأن خطابه للجاحدين ) على بينة من ربي ) أي المحسن إليّ ، لا شك عندي فيها ) وآتني منه رحمة ) أي أوامر هي سبب الرحمة ) فمن ينصرني ( وأظهر موضع الإضماؤ وعبر بالاسم الأعظم لاقتضاء المقام التهويل فقال : ( من الله ) أي الملك الأعظم ) إن عصيته ) أي إن وقوعكم في الشك على رعكمكم حملكم على هيئة افباء في التلبس بأعمالهم مع زوالهم واضمحلالهم لو كانوا موجودين وعصيتموهم لم تبالوا بهم ، وأما أنا فالذي امرني بعبادته حي قادر على جزاء من يطيعه أو يعصيه ، وأقل ما يحمل على طاعته الشك في عقوبته ، وهو كاف للعاقل في ترك الخطر ) فما ) أي فتسبب عن نهيكم لي عن الدعاء إليه سبحانه أنكم ما ) تزيدونني ( بذلك شيئاً في عملي بما ترمونه مني من عطفي عنه باتباعكم في عملكم أو الكف عنكم لأصير في عادا من يرجى عندكم ممن له عقل ) غير تخسير ) أي إيقاعي في الخسارة على هذا التقدير : فلا تطمعوا في تركي لشيء من مخالفتكم ما دمتم على ما أنتم عليه ، والآية كما ترى ناظرة إلى قوله تعالى ) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( .
ولما أخبرهم أن معصية الله خسران ، ذكرهم أمر الناقة التي أخرجها اسبحانه لهم من الأرض شاهداً على كونهم مساوين للأوثان في كونهم منها مفضلين عليها بالحياة محذراً لهم من شديد انتقامه فقال : ( ويا قوم ( إشارة غلى حاضر ، وذلكم بعد أن أخرجها لهم سبحانه عندما دعاه صالح عليه السلام ؛ وبين الإشارة بقوله : ( ناقة الله ) أي الملك الأعلى ، ثم بني حالاً من ) آية ( مقدماً عليها لئلا يكون صفة لها فقال : ( لكم ) أي خاصة لنظركم إياها عندما خرجت ولكل من سمع بها بعدكم ، وليس الخبر كالمعاينة ، أشير إليها حال كونها ) آية ( بكون الل تعالى أخرجها لكم من صخرةن وهي عشراء على حسب ما اقترحتم وأنتم تشاهدون وبونها تنفرد بشرب يوم ، وتنفردون كلكم بشرب يوم وتنفرد برعي يوم ، وتنفرد جميع الحيوانات من دوابكم ووحوش(3/549)
صفحة رقم 550
بلادكم برعي يوم إلى غير ذلك مماأنتم له مبصرون وبه عارفون ) فذروها ( اي اتركوها على أيّ حالة كان ترككم لها ) تأكل ( اي مما أرادت ) في ارض الله ) أي الملك الذي له الأمر كله التي خلقها منها ) ولا تمسوها بسوء ( والأكل : مضغ يقع عند بلع ؛ والمس مطلق الإصابة ويكون بين الحيوان وغيره ، واللمس أخص منه لما فيه من الإدراك ) فيأخذكم ) أي فيتسبب عن ذلك أن يأخذكم ) عذاب قريب ) أي من زمن إصابتكم لها بالسوء ؛ ثم اشار إلى قرب مخالفتهم لأمره فيها بقوله مسبباً عن أوامره ونواهيه ومعقباً : ( فعقروها ) أي الناقة ) فقال ) أي عند بلوغه الخبر ) تمتعوا ( اي أنتم تعيشون ) في داركم ) أي داركم هذه ، وهي بلدة الحجر ) ثلاثة ايام ) أي بغير زيادة عليها ، فانظروا ماذا يغني عنكم تلذذكم وترفهكم وإن اجتهدتم فيه .
ولماكان كأنه قيل : هل في هذا الوعيد مثنوية ، قال مجيباً : ( ذلك ( اي الوعد العالي الرتبة في الصدق والغضب ) وعد غير مكذوب ) أي فيه ؛ والتمتع : التلذذ بالمدركات الحسان من المناظر والأصوات وغيرها مما يدرك بالحواس ، وسميت البلاد داراً لأنه جامعة لأهلها كما تجمع الدار - ويدار فيها ، وأشار غلى تعقب العذاب للأيام وتسببه عن الوعيد المعين بقوله : ( فلما جاء أمرنا ( بالفاء بخلاف ما في قصة هود وشعيب عليهما السلام ، أي مع مضي الأيام كان أول ما فعالنا أن ) نجينا ( بنا لنا من العظمة أولياءنا ) صالحاً والذين آمنوا معه ( من كيد قومهم ، وبين أن إحسانه سبحانه لا يكون إلا فضلاً منه بقوله : ( برحمة منا ( وذلك أنه عليه السلام قال لهم : تصبحون غداً يوم مؤنس - يعني الخميس - ووجوهكم مصفرة ، ثم تصبحون يوم عروبة - يعني الجمعة - ووجوهكم محمرة ، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب يوم أول - أي الأحد - فقال التسعة رهط الذين عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحاً ، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذباً قد كنا ألحقناه بناقته ، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطروا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح : والله لا تقتلونه ابداً فقد وعدكم أن العذاب يكون بكم بعد ثلاث ، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضاً ، وإن كان كاذباً فأنتم وراء ما تريدون ، فانصرفوا فلما أصبحت وجوههم مصفرة عرفوا أنه قد صدقهم ، فطلبوه ليقتلوه فجاء إلى بطن منهم يقال له ( بنو غنم ) فنزل على سيدهم رجل فغيبه عنده ، فعدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه قالوا : يا نبي الله إنهم يعذبوننا لندلهم عليك ، أفندلهم ؟ قال : نعم ، فدلوهم عليه فأتوه فقال الغنمي : نعم عندي ولا سبيل إليه ، فتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم كذا ذكر ذلك البغوي عن ابن اسحاق ووهب وغيرهما مطولاً .(3/550)
صفحة رقم 551
ولما ذكر نجاتهم من كل هلكة ، ذكر نجاتهم من خصوص ما عذب به قومهم فقالك ) ومن ) أي ونجيناهم من ) خزي ) أي ذل وفضيحة ) يومئذ ( اي يوم إذجاء أمرنا بإهلاكهم بالصيحة وحل بهم دونهم فرقاً بين أوليائنا وأعدائنا ، وحذف ( نجينا ) هنا يدل على أن عذابهم دون عذاب عاد ؛ ثم عقب ذلك بتعليله إهلاكاً وإنجاء باختصاصه بصفات القهر والغلبة والانتقام فقال : ( إن ربك ( اي المحسن إليك كما أحسن إلى الأنبياء من قبلك ) هو ) أي وحده ) القوي ( فهو يغلب كل شيء ) العزيز ( اي القادر على منع غيره من غير أن يقدر احدعليه أو على الامتناع منه ، من عز الشيء اي امتنع ، ومنه العزاز - للأرض الصلبة الممتنعة بذلك عن التصرف فيها ؛ والخزي : العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من مثله ؛ ثم بين إيقاعه بأعدائه بعد إنجائه لأوليائه فقال معظماً للأخذ بتذكير الفعل : ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة ( وأشار إلى عظمة هذه الصيحة بإسقاط علامة التأنيث وسبب عنها قوله : ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( اي ساقطين على وجوههم ، وقيل : جاثين على الركب موتى لا حراك بهمن وتقدم سر التعبير بالديار مع الصيحة والدار مع الرجفة في الأعراف ، وخصت هود بما ذكر فيها لأن مقصودها أعظم نظر إلى التفصيل ، وكل من الديار والصيحة أقرب إلى ذلك .
ولما كان الجثوم كناية عن الموت أوضحه بقوله : ( كأن ) أي كأنهم ) لم يغنوا ) أي يقيموا أغنياء لاهين بالغناء ) فيها ( ثم نبه - على ما استحقوا به ذلك لمن لعله يغفل فيسأل - بقوله مفتتحاً بالأداة التي لا تقال إلا عندالأمور الهائلة : ( ألا إن ثموداً ( قراءة الصرف دالة علىالاستخفاف بهم لطيشهم في المعصية ) كفروا ربهم ) أي أوقعوا التغطية والستر على المحسن غليهم بالخلق والرزق والإرسال وهو الظاهر وبصفاته وأفعاله ، فلا يخفى على أحد أصلاً ، فإيصال الفعل دون قصره كما في أكثر أضرابه بيان لغلظة كفرهم ؛ ثم كرر ذلك تأكيداً له وإعلاماً بتأبيد هلاكهم بقوله : ( ألا بعداً لثمود ( ترك صرفهم في قراءة غير الكسائي إيذاناً بدوام لبثهم في الطرد والبعد ؛ والصيحة : صوت عظيم من فم حي ، والجثوم لدوام مكان واحد أو السقوط على الوجه ، وقيل : القعود على الركب ؛ وقال ) أصبحوا ( زيادة في التخويف والتأسيف بما وقع لهم ن التحسير لو أدركه أحد منهم لأن الإنسان يفرح إذا أصبح بقيامه من نومه مستريحاً قادراً على ما يريد من الحركات للاستمتاع بها بما يشتهي من التصرفات ، فأصبح هؤلاء - بعد هذه الصفة على ما قص الله - خفوتاً أجمعين كنفس واحدة رجالاً ونساء صغاراً وكباراً كأنهم بم يكونوا أصلاً ، ولا أصدروا فصلاً ولا وصلاً كأنهم لم يكونوا للعيون قرة ، ولم يعدوا في الأحياء مرة كأن لم يغنووا أي يقيموا لانقطاع آثارهم إلا ما بقي من أجسادهم الدالة(3/551)
صفحة رقم 552
على الخزي ؛ والمغاني : المنازل ، وأصل الغناء الاكتفاء ؛ ومعنى ( ألا ) التنبيه ؛ قال الرماني : وهي ألف الاستفهام دخلت على ( لا ) فالألف تقتضي معنى ، و ( لا ) تنفي معنى ، فاقتضى الكلام بهما معنى التنبيه مع نفي الغفلة - انتهى .
وكان حقيقته - والله أعلم - أن ( لا ) دخلت على ما بعدها فنفته ، ثم دخلت عليها همزة الإنكار فنفتها ، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات فرجع المعنى كما كان على أتم وجوه التنبيه والتأكيد ، لأن إثبات المعنى بعد نفيه آكد من إثباته عرياً عن النفي ولا سيما إذا كان المفيد لذلك الإنكار ، وهذا المعنى مطرد مدلولها في اللغة ثن تتصرف بما يقتضيه الحال والله الهادي ولما جاز الصرف في ثمود باعتبار أنه اسم أبي القبيلة وعدمه باعتبار إطلاقه على القبيلة اختير الصرف في النصب فقط لخفته .
هود : ( 69 - 76 ) ولقد جاءت رسلنا. .. . .
) وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( ( )
ولما انقضت القصة على هذا الوجه ارائع ، أتبهعا قصة لوط عليها لسلام إذ كانت أشهر الوقائع بعدها وهي أفظع منها وأروع ، وقدم عليها ما يتعلق بها من أمر إبراهيم عليها لسلام ذكر بشراه لما في ذلك كله من التنبيه لمن تعنت بطلب إنزال الملائكة في قولهم ) أو جاء معه ملك ( على أن ذلك ليس عزيزاً عليه .
وقد أكثر من فعله ولكن نزولهم مرهب ، وأمرهم عند المكاشفة مرعب ، وأما مع الستر فلا يقطع تعنتهمن هذا مع ما في ذلك من مناسبة أمر هذا الولد لأمر الناقة في تكوين كل منهما بخارق للعادة إشارة إلىتمام القدرة واكمال العلم المبني عليه أمر السورة في إحكان الكتاب وتفصيله وتناسب جدالي نوح وإبراهيم عليهما السلام في أن كلاً منهما شفقة على الكافرين ورجاء لنجاتهم من العذاب بحسن المثاب ، ولعله سبحانه كرر ( لقد ) في صدرها عطفاً على ما في قصة نو للتنبيه على مثل الأغراض ، لأن ( قد ) للتوقع فجاءت لتؤذن بأن السامع في حال توقع لذلك لأنه إذا انقضت قصة الخبر عما بعدها فقال تعالى : ( ولقد ( قال(3/552)
صفحة رقم 553
الرماني : ودخلت اللام لتأكيد الخبر كما يؤكد القسم ) جاءت رسلنا ) أي الذين عظمتهم من عظمتنا ، قيل : كانوا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ) إبراهيم ( هو خليل الله عليه السلام ) بالبشرى ) أي التي هي من أعظم البشائر وهي إكرامه بإسحاق عليه السلام ولداً له من زوجته سارة رضي الله عنها ، جاءوه في الصفة التي يحبها وهي صفة الأضياف ، فلم يعرفهم مع أنه الخليل بل إنكارهم كما قال تعالى في الذريات
77 ( ) قال سلام قوم منكرون ( ) 7
[ الذريات : 25 ] فيحمل إنكاره أولاً على الاستغراب بمعنى أنه لم ير عليهم زيّ اهل تلك البلاد ولا أثر سفر ، فكأنه قيل : ما كان من أمرهم ؟ فقيل : ( قالوا سلاماً ) أي سلمنا عليك سلاماً عظيماً ) قال سلام ) أي ثابت دائم عليكم لا زوال له أبداً ، فللرفع مزية على النصب لأنه إخبار عن ثابتن والنصب تجديد ما لم يكن ، فصار مندرجاً في
77 ( ) فحيوا بأحسن منها ( ) 7
[ النساء : 86 ] ثم أكرم نزلهم وذهب يفعل ما طبعه الله عليه من سجايا الكرم وأفعال الكرام في أدب الضيافة من التعجيل مع الإتقان ) فما لبث ( اي فتسبب عن مجيئهم وتعقبه أنه ما تأخر ) أن جاء بعجل حنيذ ) أي مشوي على حجارة محماة في أخدود وفوقه حجارة محماة ليشتد نضجهن فكان بعد الشيّ يقطر دسمه لأنه سمين ، كل ذلك وهو لا يعرف أنهم ملائكة ، بل هو قاطع بأنهم ممن يأكل ، وهذا ناظر غلى قول قوم نوح ) وما نرى لكم علينا من فضل ( وقوله ) ولا أقول للذين تزدري أعينكم ( الآية ، أي إن الله جعل المعاني في القلوب وناط بها السعادة والشقاوة ، وقد تخفي تلك المعاني كما خفي على أكمل أهل ذلك الزمان أن ضيفه ملائكة حتى خاف منهم وقد أتوه بالبشرى ، فلا ينبغي لأحد أن يحتقر أحداً إلا بما أذن الله فيه .
ولما وضع الطعام بين أيديهم لم يلموا به ) فلما رأى ايديهم ( اي الرسل عقب الوضع سواء ) لا تصل إليه ) أي إلى العجل الذي وضعه ليأكلوه ) نكرهم ) أي اشتدت نكارته لهم وانفعل لذلك ، وهذا يدل على ما قال بعض العلماء : إن نر أبلغ من أنكر ) وأوجس ( اي أضمر مخفياً في قلبه ) منهم خيفة ) أي عظيمة لما رأى من أحوالهم وشاهد من جلالهم ، وأصل الوجوس : الدخول ، والدليل - على أن خوفه كان لعلمه بالتوسم أنهم ملائكة نزلوا لأمر يكرهه من تعذيب من يعز عليه أو نحو هذا - أنهم ) قالوا لا تخف ( ثم عللوا ذلك بقولهم ) إنآ أرسلنآ ) أي ممن لا يرد أمره ) إلى قوم لوط ( فإنهم نفوا الخوف عنه بالإعلام بمن أرسلوا إليه ، لا بكونهم ملائكة ، قالوا ذلك وبشروه بالولد ) وامرأته ) أي جاءته الرسل بالبشرى أي ذكروها له والحال أن زوجة إبراهيم التي هي كاملة المروءة وهي سارة ) قآئمة ( قيل : على باب الخيمة لأجل ما لعلها تفوز به من المعاونة على خدمتهم ، فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله(3/553)
صفحة رقم 554
) بالبشرى ( ) فضحكت ) أي تعجبت من تلك البشرى لزوجها مع كبره ، وربما طنته من غيرها لأنها - مع أنها كانت عقيماً - عجوز ، فهو من إطلاق المسبب على السبب إشارة إلى أنه تعجب عظيم ) فبشرناها ) أي فتسبب عن تعجبها أنا أعدنا لها البشرى مشافهة بلسان الملائكة تشريفاً لها وتحقيقاً أنه منها ) بإسحاق ( تلده ) ومن وراء إسحاق يعقوب ) أي يكون يعقوب ابناً لإسحاق ، والذي يدل على ما قدّرته - من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت - ما يأتي عن نص التوراة ، والحكم العلد على ذلك كله قوله تعالى في الذريات
77 ( ) قالوا لا تخف وبشروه بلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهه ( ) 7
[ الذاريات : 28 - 29 ] - الآية .
ولما شافهوها بذلك ، صرحت بوجه العجب من أنه جامع بين عجبين في كونه منه ومنا بأن ) قالت يا ويلتي ( وهي كلمة تؤذن بأمر فظيع تخف على أفواه النساء ويستعملنها إلى اليوم ، لكنهن غيرن في لفظها كما غير كثير من الكالم ؛ والويل : حلول الشر ؛ والألف في آخره بدل عن ياء الإضافة ، كنى بها هنا عن العجب الشديد لما فيه من الشهرة ومراجمة الظنون ؛ وقالالرماني : إن معناها الإيذان بورود الأمر الفظيع كما تقول العرب : يا للدواهي أي تعالين فإنه من أحيانك فحضور ما حضر من أشكالك .
ولما كان ما بشرت به منكراً في نفسه بحسب العادة قالت : ( ءَألد وأنا ) أي والحال أني ) عجوز وهذا ) أي من هة حاضري ) بعلي شيخاً ( ثم ترجمت ذلك بما هو تنيجة فقالت مؤكدة لأنه - لما له من خرق العوائد - في حيز المنكر عندالناس : ( إن هذا ) أي الأمر المبشر به ) لشيء عجيب ( فكأنه قيل : فماذا قيل لها ؟ فقيل : ( قالوآ ( اي الملائكة متعجبين من تعجبها ) أتعجبين من أمر الله ( اي الذي له الكمال كله ، وهو لا ينبغي لك لأنك معتادة من الله بما ليس لغيركم من الخوارق ، والعجب إنما يكون مما خرج عن أشكاله وخفي سببه ، وأنت - لثبات علمك بالسبب الذي هو قدرة الله على كل شيء وحضوره لديك مع اصطفاء الله لكم وتكرر خرقه للعوائد في شؤونكم - لست كغيرك ممن ليس كذلك ؛ ثم عللوا إنكارهم لتعجبها بقولهم : ( رحمت الله ) أي كرامة الذي لع الإحاطة بصفات الجلال والإكرام ) وبركاته ) أي خيراته النامية الثابتة ) عليكم ( وبينوا خصوصيتهم بإسقاط أداة النداء مدحه لهم فقال : ( أهل البيت ( قد تمرنتم على مشاهدة العجائب لكثرة ما ترون من آثاره بمثل ذلك وغيره ؛ ثم علل إحسانه إليهم مؤكداً تثبيتاً لأصل الكلام الذي أنكرته فقال : ( إنه ) أي بخصوص هذا الإحسان ) حميد مجيد ) أي كثير التعرف إلى من يشاء من جلائل التعمم وعظيم المقدور بما يعرف أنه مستحق الحمد على المجد ، وهو الكرم الذي ينشأ عنه الجود ، فلما سمعوا ذلك(3/554)
صفحة رقم 555
واطمأنوا ، أخذ في قص ما كان بعدهن فقال مشيراً بالفاء إلى قلة زمن اللإنكار الذي هو سبب الفزع : ( فلما ذهب ( بانكشاف الأمر ) عن إبراهيم الروعُ ) أي الخوف والفزع الشديد ) وجآته البشرى ( فامتلأ سروراً ) يجادلنا ) أي أخذ يفعل معنا بمجادلة رسلنا فعل المجادل الذي يكثر كلامه إرادة الفتل مخاطبه عما يقوله ) في قوم لوط ) أي يسألنا في نجاتهم سؤالاً يحرص فيه حرص المجادل في صرف الشيء ، من الجدل وهو الفتل ، ووضع المضارع موضع الماضي إشارة إلى تكرر المجادلة مع تصوير الحال ، أي جادلنا فيهم جدالاً كثيراً ؛ ثم علل مجادلته بقوله : ( إن إبراهيم لحليم ) أي بليغ الحلم ، وهو إمهال صاحب الذنب على ما يقتضيه العقل ) أواه ) أي رجاع للتأوه خوفاً من التصير ) منيب ) أي راجع إلى الله بالسبق في ارتقاء درج القرب ، فهو - لما عنده هذه المحاسن - لا يزال يتوقع الإقلاع من العصاة .
ولما كان أكثر المجادلة لما عنده من الشفقة على عباد الله لما له بعد طول المجادلة منادين بالأداة التي هي أم الباب إعلاماً بأن ما بعدها عظيم الشأن عالي المنزلة : ( يا إبراهيم أعرض ( اي بكليتك ) عن هذا ) أي السؤال في نجاتهم ؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأنه بمجادلته في حيز من ينكر بتّ الأمر : ( إنه قد ( افتتحه بحرف التوقع لأنه موضعه ) جآء أمر ربك ) أي الذي عوك بإحسانه الجم ، فلولا أنه حتم الأمر بعذابهم لأمهلهم لأجلك ، ولذا عطف على العة قوله مؤكداً إعلاماً بأنه أمر قد انبرم ومضى : ( وإنهم آتيهم ) أي إتياناً ثابتاً ) عذاب غير مردود ( اي بوجه من الوجوه من أحد كائناً من كان ؛ الإعراض : الانصراف ، وحقيقة الذهاب عن الشيء في جهة العرض ؛ والرد : إذهاب الشيء غلى ما جاء منه كالرجع ؛ والدفع اعم لأنه قد يكون إلى جهة القدام ؛ فلما علم مراد الله فيهم ، قدمه على مراده ولم ينطق بعده ببنت شفة .
ذكر هذه القصة من التوراة : قال في السفر الأول : واستعلن الله لإبراهيم في مرج - وفي نسخة : بين بلوط ممرى الأموراني - وكان جالساً على باب خيمته إذ اشتد النهار ، فرفع عينيه فنظر فإذا هو بثلاثة رجال وقوف على رأسه ، فلما رآهم أحضر إليهم من باب الخيمة وسجد على الأرض وقالك يا رب - وفي نسخة : يا ولي الله - إن كان لي عندك مودة فلا تبعد عن عبدك حتى آتي بما أغسل به أرجلكم ، واتكئوا تحت الشجرة وأصيبوا شيئاً من الطعام تقرون به أنفسكم ، ثم حينئذٍ تجوزون لأنكم مررتم بعبدكم بغتة فقالوا له : اصنع كما قلت ، فاستعجل إبراهيم فأحضر إلى الخيمة إلى سارة وقال : عجلي بثلاثة آصع من درمك - وفي نسخة : دقيق سميد - فاعجنيه واخبزي منه مليلاً ، (3/555)
صفحة رقم 556
وسعى إلى قطيع البقر فأخذ عجلاً سميناً شاباً فدفعه إل الغلام وأمر بتعجيل صنعته وأخذ سمناً ولبناً والعجل الذي صنع له ايضاً فقربه إليهم ، وكان هو واقفاً بين أيديهم تحت الشجرة وقالوا له : أين سارة امرأتك ؟ فقال : في الخيمة ، فقال له : إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي في الحياة ولها منك ابن ، فسمعت سارة وهي على باب الخيمة مستترة وكان هو خلفها ، وكان إبراهيم وسارة قد شاخا وقدم سنهما وانقطععن سارة سبيل النساء ، فضحكت سارة في قلبها وقالت : أني ي بالولد وقد شخت ؟ أيعسر هذا على الله ؟ إني ارجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي حية ولها ابن ، فجحدت سارة وقالت : كلا ما ضحكت ، لأنها فزعت ، فقال : كلا ولكنك قد ضحكت ، ثم قام الرجال وعمدوا طريق سدوم وعامورا ، وانطلق معهم إبراهيم ليشيعهم .
وقال الله : أأكتم عبدي إبراهيم شيئاً مما أصنع ؟ وإبارهيم يكون رئيساً لشعب عظيم كبير ، وتتبارك به شعوب الأرض ، لأني عالم أنه يوضي بنيه وأهل بيته من بعده أن يحفظوا طرق الرب ليعملوا بالبر والعدل ، لأن الرب يكمل لإبراهيم جميع ما وعده به .
فقال الرب لإبراهيم : لقد وصل إليّ حديث سدوم وعاموراً وقد كثرت خطاياهم جداً ، ثم ولى القوم ومضوا إلى سدوم ، وكان إبراهيم بعد واقفاً قدام الرب ، فدنا إبراهيم وقال : يا رب تهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد ؟ إن كان في القرية خمسون باراً أهلكهم بغضب واحد ؟ حاشاك يا رب أن تصنع هذا الصنيع وتهلك البريء مع السقيم ، ويكون البريء بحال السقيم ، حاشا لك يا حاكم الأرض كلها لا يكون هذا من صنيعك فقال الرب : إن وجدت بسدوم خمسين باراً في القرية عفوت عن جميع البلد من أجلهم ، فأجاب إبراهيم وقال : إني قد بدأت بالكلام بين يدي الرب ، وإنما أنا تراب ورماد ، فإن نقص من الخمسين باراً خمسة تخرب القرية كلها من أجل الخمسة ؟ فقال : لا أخربها إن وجدت بها خمسة وأربعين باراً ، فعاد إبراهيم وقال له : فإن وجد فيها أربعون ؟ فقال : لا أخربها إن وجدت فيها أربعين ، فقال : لا يمكن الرب كلامي فأتكلم ، فإن كان هناك ثلاثون ؟ فقالك لا أخربها إن وجدت فيها ثلاثين ، فقال : إني قد أمعنت في الكلام بين يدي الرب ، فإن وجد بها عشرون ؟ فقال : لا أخربها من أجل العشرين ، فقال لانشقن على الرب ، فأتكلم هذه المرة يارب فقط ، فإن وجد بها عشرة رهط ؟ فقال : لا أفسدها من أجل العشرة ؛ فارتفع استعالن الرب عن إبراهيم لما فرغ إبراهيم من كلامه ورجع إبراهيم إلى موضعه - انتهى .
وقد مضى أمر حبل سارة وولادها في البقرة .(3/556)
صفحة رقم 557
هود : ( 77 - 80 ) ولما جاءت رسلنا. .. . .
) وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( ( )
ولما انقضى أمر إنبائهم ببشارة الأولياء وهلاك الأعداء ، وعلم من ذلك أنهم لا ينزلون إلاّ للأمور الهائلة والأحوال المعجبة ، أخذ يقص أمرهم مع لوط عليه السلام ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فعلوا مع إبراهيم انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام ما ذكر ، ثم فارقوه نحو لوط ، ولم يذكر الحرف المصدري لأن سياقه ومقصود السورة لا يقتضي ذلك كما نشير غليه في العنكبوت : ( ولما جآءت رسلنا ( على ما قارنهم من عظمتنا ) لوطاً ( بعد انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام ، وبين البلدين ثمانية أميال ، وقيل : أربعة فراسخ ، استضافوه فلم يجد بداً من قبولهم على ما أوصى الله بالضيف مطابقاً لعوائد أهل المكارم ، فقبلهم وأزمع المقاتلة عنهم لما رأى من حسن أشكالهم ورونق جمالهم مع ما يعلم من قبح أفعال قومه وخبث سرائرهم ، ولما جاؤوه على هذه الصفة ) سيء بهم ) أي حصلت له المساءة بسبب نجيئهم إلى قريته لما يعلم من لؤم أهلها ، والتعبير عن هذا المعنى بالمبني للمفعول أحضر وأوقع في النفس وأرشق ) وضاق بهم ذرعاً ) أي ذرعه أي اتساعه في كل وقت قوة أوتيها ، وهو مثل يقال لمن لم يجد من المكروه مخلصاً ، وكادة ذرع - بايّ ترتيب كان - تدور على الاتساع لأنه لا يذرع إلاّ الكثير ، وذرع الرمل : اتسع ، وموت ذريع : فاس ، والمذرع : الذي أمه عربية وأبوه غير عربي ، فهو أكثر أنتشاراً ممن انحصر في أحدهما ؛ والذريعة : ما يتخلى به الصيد ، فهو يوسع له من الأمل ما يحمله على الإقدام ، وحلقة يتعلم عليه الرمي ، والوسيلة لأنها توصل المتوسل ؛ والذعر : الخوف ، لاتساع الفكر فيه وتجويز أدنى احتمال ؛ والعذر : إيساع الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير ، من العذوّر - للحمار الواسع الجوف ، وهو أضاً الملك لسعته ، والعذار : أوسع ما في الوجه ، وأعذرت الغلام : ختنته ، أي أوسعت أكرته ، والإعذار - لطعام الختان ونحوه منه ، وعذرة الجارية موجبة لعذرها في النفرة للخوف على نفسها ، والعذرة : وجع في الحلق ، وهو سقوطه حتى يغمز ، كأنه شبه بعذره البكر في سده الحلق بما يوجب الغمز ، وكذا العذرة - للناصية لبذل الجهد في المدافعة عنها ، (3/557)
صفحة رقم 558
والعذراء : نجم إذا طلع اشتد الحر فاتسع بساط الأرض ، والعذرة - بفتح ثم كسر : فناء الدار ، وبه سمي الحدث ، والعذراء : شيء من حديد يعذب به الإنسان ، كأنه سمي لأنه يوسع بها ، وأما عذر - بالتشديد - إذا قصر فهو للسلب ، أي فعل ما لا يوجد له عذر ، وكذا تعذر الأمر أي صعب ، يعني أنه تحنّب العذر فلم يبق لسهولته وجه ، وأعذر - إذا كثرت عيوبه ، أي دخل فيما يطلب له العذر كأنجد .
ولما ذكر حاله ، ذكر قاله بقوله : ( وقال ( اي لوط ) هذا ) أي اليوم ) يوم عصيب ) أي شديد جداً لما أعلم من جهالة مَن أنا بين ظهرانيهم ، وهو مشتق من العصب وهو أطناب المفاصل وروابطها ، ومدراه على الشدة ) وجاءه قومه ) أي الذين فيهم قوة المحاولة ) يهرعون ) أي كأنهم يحملهم على ذلك حامل لا يستطيعون دفعه ) إليه ( اي في غاية الإسراع فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه ، فهو يضطرب لذلك ، أو لأجل الرعب من لوط عليه السلام أو من الملائكة عليهم السلام .
ولما كان وجدانهم - فكيف عصيانهم - لم يستغرق زمن القبل ، أدخل الجار فقال : ( ومن قبل ( اي قبل هذا المجيء ) كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) يعملون ) أي مع الاستمرار ) السيئات ( اي الفواحش التي تسوء غاية المساءة فضربوا بها ومرنوا عليها حتى زال عندهم استقباحها ، فهو يعرف ما يريدون ، وكأنهم كانوا لا يدعون مليحاً ولا غيره من الغرباء ، فلذلك لم يذكر أن الرسل عليهم السلام كانوا على هيئة المرد الحسان ، ولا قيد الذكران في قصتهم في موضع من المواضع بالمرودية .
فكأنه قيل : فما قال لهم ؟ فقيل : ( قال يا قوم ( مستعطفاً لهم ) هؤلاء بناتي ( حادياً لهم إلى الحياء والكرم .
ولما كان كأنه قيل : ما نفعل بهن ؟ قال : ( هن ( ولما كان في مقام المدافعة باللين ، قال إرخاء للعنان في تسليم طهارة ما يفعلونه على زعمهم مشيراً بلطافة إلى خبث ما يريدونه : ( أطهر لكم ( وليس المراد من هذا حقيقته ، بل تنبيه القوم على أنهم لا يصلون غليهم إلا إن وصلوا إلى بناته لأن الخزي فيهما على حد سواء أو في الضيف أعظم ، وزمثل هذا أن يشفع الإنسان فيمن يضرب ، فإذا عظم الأمر ألقى نفسه عليه فصورته أنه فعله ليقيه الضرب بنفسه ، ومعناه احترامه باحترامه ، وعلى هذا يدل قوله في الآية الأخرى ) إن كنتم فاعلين ( وهنا قوله : ( فاتقوا الله ) أي الملك الأعظم في هذا الأمر الذي تريدونه ) ولا تخزون ) أي توقعوا بي الفضيحة التي فيها الذل والهوان والعار ) في ضيفي ( إذ لا يشك ذو مسكة من أمره في أن التقوى إذا حصلت منعت من الأمرين ، وأن الخزي على تقدير عدمها في البنات أعظم لأنه عار لازم للزوم البنات(3/558)
صفحة رقم 559
للأب ، وكل هذا دليل على أنه لا يشك أنهم آدميون ولم يلم بخاطر أنهم ملائكة ، فهو تنبيه للكفار على أنه لا ينتفع بإنزال الملائكة إلا البار الراشد التابع للحق ؛ ثم أنكر أشد الإنكار حالهم في أنهم لا يكون منهم رشبد حثاً على الإقلاع عن الغي ولزوم سبيل الرشد فقال : ( أليس منكم رجل ( اي كامل الرجولية ) رشيد ( كامل الرشد ليكفكم عن هذا القبيح ، فلم يكن منهم ذلك ، بل ) قالوا لقد علمت ) أي يا لوط مجرين الكلام على حقيقته غير معرجين على ما كني به عنه ) ما لنا في بناتك ( وأغرقوا في ا لنفي فقالوا : ( من حق ) أي حاجة ثابتة ، ولم يريدوا به ضد الباطل لأن البنات والضيف في نفي حقهم عنهم سواء ، وأكدوا معلمين بما لهم من الرغبة في الفجور وقاحة وجرأة فقالوا : ( وإنك لتعلم ( إي علماً لا تشك فيه ) ما نريد ( وهو إتيان الذكور للتطرق والتطرف ، فحملوا عرضه لبناته على الحقيقة خبثاً منهم وشرعوا يبنون على ذلك بوقاحة وعدم مبالاة بالعظائم ، فأخبر تعالى عن قوله لهم على طريق الاستئناف بقوله : ( قال ( اي متمنياً أن يكون له بهم طاقة ليروا ما يصنع من الإيقاع بهم متفجعاً على فوات ذلك ) لو أن لي بكم ) أي في دفعكم ) قوة ( بنفسي ) أو ( لو أني ) آوي ( من الأعوان والأنصار ) إلى ركن شديد ) أي جماعة هم كالركن الموصوف بالشدة لحلت بينكم وبين ما جئتم له ، وحذفه ابلغ لذهاب النفس فيه كل مذهب ؛ والسوء : ما يظهر مكروه لصاحبه ؛ والعصيب : الشديد في الشر خاصة كأنه التف شره ؛ والقوة خاصة يمكن أن يقع بها الفعل أن لا يقع ؛ والركن : معتمد البناء بعد الأساس ، واركن هنا من هو مثله ؛ والشدة : مجمع يصعب معه الإمكان ، ووصفه الركن بالشدة وهو يتضمنها تأكيد يدل على أن قومه كانوا في غاية القوة والجلاة ، وأنه كان يود معاجلتهم لو قد .
وذلك أن كادة ( ركن ) بكل ترتيب تدور على الرزانة ، من ركن - بالضم بمعنى رزن ، ويلزمهما القوة ، ومنه الركن للجانب الأقوى والأمر العظيم وما يتقوى به من ملك وجند وغيره والعز والمنعة ، ومن ذلك النكر بالضم للدهاء والفطنة ، والنكر للمنكر والأمر الشديد وما يخرج من الزخير من دم أو قيح ، نكر الأمر : صعب وطريق ينكور : على غير قصد ، والمنكر ضد المعروف لأن الشيء إذا جهل صعب أمره ، وتناكر القوم : تعادوا ، والتنكر : الغير من حال يسر إلى حال يكره ، والمكنر - كمحدث : الضخم السمج ، ويلزم الرزانة أيضاً الميل والسكون ، ومنه ركن إليه - بالفتح : مال وسكن ، وركن بالمنزل - بالكسر : أقام ؛ والكنارة - بالكسر والتشديد : الشقة من ثياب الكتان ، لأنه يمال إليه لبهجته ، وكذا الكنارات للعيدان والطبول ، والكران ككتاب للعود أو الصنج ، أو يكون ذلك من الشدة لقوة أصواتها - والله أعلم .(3/559)
صفحة رقم 560
هود : ( 81 - 83 ) قالوا يا لوط. .. . .
) قَالُواْ يلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ( ( )
فما عظم الشقاق وضاق الخنق كان كأنه قيل : ما قال له الرسل ؟ فقيل : ( قالوا ( ودلوا بحرف النداء الموضوع للبعد على انه كان قد خرج عن الدار وأجاف بابها وأن الصياح كان شديداً ) يا لوط ( إنك لتأوي غلى ركن شديد ؛ ثم عللوا ذلك بقولهم : ( إنا رسل ربك ( اي المحسن إليك بإحسانك وكل ما ترى مما يسوءك ويسرك ؛ ثم لما ثبت له ذلك كان من المحقق أنه سبب في إلا يداينه معه سوء فأوضحوه بقولهم : ( لم يصلوا إليك ( من غير احتياج إلى الربط بالفاء ، أي ونحن مهلكوهم وقالبوا مدنهم بهم ) فأسر ( اي سر بالليل ماضياً ) بأهلك ( موقعاً ذلك السير والإسراء ) بقطه ) أي بطائفة ، أي والحال أنه قد بقي عند خروجك جانب ) من الَّيل ولا يلتفت ) أي ينظر إلى ورائه ولا يتخلف ) منكم أحداً ) أي لا تلتفت أنت ولا تدع أحداً من أهلك يلتفت ) إلا امرأتك ( استثناء من ( أحد ) بالرفع والنصب لأن المنهي كالمنفي في جواز الوجهين ، والنهي له ( صلى الله عليه وسلم ) ، فالفعل بالنسبة إليه منهي ، وبالنسبة إليهم منفي .
ويمكن أن يكون أخرجها معه لأن معنى الاستثناء أنه غير مأمور بالإسراء بها إلا أنه منهي عنه ، واستثناءها من الالتفات معهم مفهم أنه لا حجر عليه في الإسراء بها ، أو أنه خلفها فتبعتهم والتفتت ، فيكون قراءة النصب من ) أهلك ( ، وقراءة الرفع من ) أحد ( ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل مخالفتها للمستثنى منه في عدم النهي ، ولذلك عللوا ما أفهمه إهمالها من الإسراء والنهي من أنها تلتفت بقولهم مؤكدين لأن تعلق الأمل بنجاتها شدبد رحمة لها : ( إنه ) أي الشأن ) مصيبها ( لا محالة ) ما أصابهم ( سواء التفت أو لا ، تخلفت أو لا ، ثم ظهر لي من ا لتعبير في حقها باسن الفاعل وفي حقهم بالماضي أنه حكم بإصابة العذاب لهم عند هذا القول للوط عليه السلام لأن ذنوبهم تمت ، وأما هي قإنما يبرم الحكم بذلك في حقها عند تمام ذنوبها التي رتبت عليها الإصابة وذلك عند الالتفات .
ولما عبروا بالماضي تحقيقاً للوقوع وتنبيهاً علىأنه تقدم دخولها معهم في أسباب العذاب ، كان منبهاً لأن يقالك كان الإيقاع بهم قد دنا بهم جداً ؟ فقيل : نعم ، وأكد تحقيقاً للوقوع تلذيذاً به ولأنه - لقرب الوقت - بحيث ينكر : ( إن موعدهم ) أي لابتداء الأخذ ) الصبح ( وكأن لوطاً عليه السلام أبطأ في جميع أهله وما يصلحهمن فكان فعله(3/560)
صفحة رقم 561
فعل من يستبعد الصبح ، فأنكروا ذلك بقولهم : ( أليس الصبح بقريب ) أي فأسرع الخروج بمن أمرت بهم ؛ والإسراء : سير الليل كالسرى .
ولما انقضى تسكين لوط عليه السلام والتقدم إليه فيما يفعل ، أخبر تعالى عن حال قومه فقال : ( فلما جاء أمرنا ( بالفاء لما مضى في قصة صالح عليه السلام من التسبيب والتعقيب ، أي فلما خرج منها لوط بأهله جاءنا أمرنا ، ولما جاء أمرنا الذي هو عذابنا والأمر به ) جعلنا ( بما لنا من العظمة ) عاليها ) أي عالي مدنهم وهم فيها ) سافلها وأمطرنا عليها ) أي على مدنهم بعد قلبها من أجلهم وسيأتي في سورة الحجر سر الإتيان هنا بضمير ( ها ) دون ضمير ( هم ) ) حجارة من سجيل ) أي مرسلة من مكان هو في غاية العلو ) منضود ( بالحجارة هي فيه متراكبة بعضها على بعض حال كونها ) مسومة ) أي معلمة بعلامات تدل على أنها معدة للعذاب من السيما والسومة وهي العلامة تجعل للإبل الشائمة لتتميز إذا اختلطت في المرعى ، وفي الذريات
77 ( ) حجارة من طين ( ) 7
[ الذاريات : 33 ] وذلك أن الحجارة اصلها تراب يجعل الله فيه بواسطة الماء قابلية للاستحجار كما جعل فيه قابلية التحول إلى المعدن من الذهب والفضة والحديد وغيرها ، فباعتبار أصله هو طين ، وباعتبار أوله حجر وكبريت ونار ، ولعل حجر الكبريت أثقل الحجارة مع ما فيه من قوة النار وقبح الريح ؛ ثم فخمها بقوله : ( عند ربك ( وعبر بالرب إشارة إلى كثرة إحسانه وإليه وا ، ه إنما أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالإنذار وحمة لأمته التي جعلها خير الأمم وسيجعلها أكثر الأمم ، ولا يهلكها كما أهلكهم ؛ ومادة سجل - بأي ترتيب كان - تدور على العو ، من الجلس للغيظ من الأرض والجمل الوثيق ، ويلزم العلوالتصويب ومن جلس - إذا قعد ؛ والسجل للدلو العظيمة ، ويكون غالباً في مقابلتها أخرى ، كلما نزلت واحدة طلعت الأخرى ، فتاتي المساجلة بمعنى المبادرة والمفاخرة ، والسجل : الضرع العظيم ، والسجل - بالكسر وشد اللام : الكتاب لنه يذكر فيه ما يكون به المفاخرة والمغالبة ؛ وسلج الطعام : بلعه ، والسلجان : نبات رخو ، كأنه سمي بذلك لأن أغصانه تأخذ إلى أسفل لرخاوتها ، وقد دل على هذا المعنى في هذه الآية بثلاثة أشياء : الإمطار ، وافظ ( على ) ، وسجيل .
ولما كان المعنى أنها من مكان هو في غاية العلو ليعظم وقعها ، حسن كل الحسن اتباع ذلك قوله : ( وما هي ( على شدة بعد مكانها ) من الظالمين ) أي من أحد من العريقين في الظلم في ذلك الزمان ولا هذا ولا زمن من الأزمان ) ببعيد ( لئلا يتوهم الاحتياج في وصولها إلى المرمى بها إلى زمن طويل .(3/561)
صفحة رقم 562
ذكر هذه القصة من التوراة : قال في السفر الأول بعد ما مضى في قصة بشرى إبراهيم عليه السلام : فأتى الملكان إلى سدوم عشاء ، وكان لوط جالساً على باب سدوم ، فنظر إليهما لوط فتلقاهما ، ثم خرّ على وجهه ساجداً على الأرض وقال : إني طالب إليكما يا سيدي ، اعدلا إلى منزل عبدكما فبيتا فيه واغسلا اقدامكما وبكرا فانطلقا في طريقكما ، فقالا : كلا ولكنا نبيت في السوق ، فألح عليهما لوط إلحاحاً شديداً فانصرفا معه ودخلا منزله فأعد لهما طعاماً ، ومن قبل وقت الهجوع إذا أهل القرية أهل سدوم قد أحاطوا بالباب من الشبان إلى المشايخ جميع إلينا فنعرفهما - وفي نسخة : حتى نواقعهما - فخرج لوط إليهم وأغلق الباب خلفهن فقال لهم لوط : لا تسيئوا بي يا إخوة هذا لي بنتان لم يمسهما رجل ، أخرجهما إليكم فاصنعوا بهما ما حسن في أعينكم ، ولا ترتكبوا من هذين الرجلين شيئاً لأنهما ولجا ظلال بيتي ، فقالوا له : تنح عنا ، إن واحداً أتى ليسكن بيتنا فصار يحكم فينا ، فالآن نسيء إليك أكثر منهما ، فجاهد لوط القوم جداً فدنوا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما فأدخلا لوطاً إليهما إلى منزله ، ثم إن القوم الذين كانوا بالباب ضربوا بالعشى من كبيرهم حتى صغيرهم فأعيوا في طلب الباب ، فقال الملكان للوط : ماتصنع هاهنا ؟ اعند إلى أختانك وبينك وبناتك وجميع ما لك في هذه القرية فأخرجهم من هذه البلدة لأنا نريد الخسف بالبلدة لأن فعالهم وخبث صنيعهم قد بلغ الرب ، فارسلنا الرب لنفسدها ، فخرج لوط وكلم أختانه وأزواج بناته وقال لهم : قوموا فاخرجوا من هذه القرية فإن الرب مزمع لخرابها ، وكان عند أختانه كالمستهزىء بهم ، فلما كان عند طلوع الصبح ألح الملكان على لوط قالا له : قم فأخرج امرأتك وابنتيك اللتين معك لكيلا تبتلي بخطايا أهل هذه القرية ، فابطأ لوط فأخذ الملكان بيده وبيد امرأته وابنتيه لأن الله رحمه فأخرجاه وصيراه خارجاً عن القرية ، فلما أخرجاهم خارجاً قالا له : انج بنفسك ولا تلتفتن غلى خلفك ولا تقف في شيء من جميع القاع ، والتجىء إلى جبل وخلص نفسك ، فقال لهما لوط : أكلب إليكما يا سيدي أن أظفر الآن لأن عبدكما برحمة ورأفة كثرت نعماكما إليّ لتحيي نفسي ، لست اقدر أن انجو إلى الجبل ، لعل الشر يرهقني فأموت ، وهذه القرية هي قريبة للهرب إليها وهي صغيرة ، أتأذنان لي بالهرب إليها لأنها حقيرة ، فلتحييا نفسي ، فقال له : قد شفعتك في هذا أيضاً فلا أقلب هذه القرية التي سألت ، أسرع فانج نفسك إلى هناك ، لأنا لسنا نقدر أن نعمل شيئاً حتى تدخلها ، ولذلك سميت تلك القرية صاغار - وفي نسخة : زغر - فشرقت الشمس على الأرض وقد دخل لوط صاغار ، وفي نسخة : زغر - فأهبط الرب على(3/562)
صفحة رقم 563
سدوم وعامورا ناراً وكبريتاً من بين يدي الرب من السماء فقلب هذه القرى والقاع بأسره ، وأهلك جميع سكانها وجميع من فيها وجمع نبت الأرض ، فالتفتت امرأته إلى خلفها لتنظر فصارت نصبة ملح ، فأدلج إبراهيم باكراً غلى المرضع الذي كان يقف فيه بين يدي الرب ؛ فمد بصره نحو سدوم وعامورا وإلى جميع أرض القاع فنظر فإذا دخان القرية يرتفع كدخان الأخدود ، فلما خسف الله قرى القاع ذكر الله إبراهيم فارسل لوطاً من المأفوكة إذ قلب الله القرى التي كان ينزلها لوط فطلع لوط من صاغار - وفي نسخة : زغر - فسكن الجبل هو وابنتاه معه لأنه تخوف أن يسكن صاغار ، فجلس في مغارة .
هود : ( 84 - 85 ) وإلى مدين أخاهم. .. . .
) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ( )
ولما انتهت القصة معلمة لما قام به لوط عليه السلام من أمر الله غير وانٍ لرغبة ولا رهبة وبما في إنزال الملائكة من الخطر ، أتبعت أقرب القصص الشهيرة إليها في الزمن فقال تعالى : ( وإلى ) أي ولقد أرسلنا إلى ) مدين ( وهم قبيلة أبيهم مدين بن إبراهيم عليه السلام ) أخاهم شعيباً ( فكأن قائلاً قال : ما قال لهم ؟ فقيل : ( قال ( ما قال إخوانه من الأنبياء في البداءة بأصل الدين : ( يا قوم ( مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة ) اعبدوا الله ( أيا لملك الأعلى غير مشركين به شيئاً لأنه واحد ) ما لكم ( وأغرق في النفي فقال : ( من إله غيره ( فلقد اتفقت - كما ترى - كلمتهم واتحدت إلى الله وحده دعوتهم ، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم وتنائي ديارهم وأن بعضهم لم يلم بالعلوم ولا عرف أخبار الناس إلا من الحي القيوم ؛ قال الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه ( رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية ) في ذكر الأنبياء : اتحدت مصادرهم كأنهم بينان مرصوص ، عبروا بألسنة مختلفة تنتهي إلى بحر متصل بالقلوب متحد بها يستمد من البحر المحيط بعالمي الشهادة والغيب ، واختلفت الموارد من الشرائع بحسب ما اقتضت الحكمة الإلهية من مصلحة أهل كل زمان وكل ملة ، فما ضر اختلافهم في الفروع مع اتحادهم في الأصول ، وقال قبل ذلك : إن الفلاسفة لما لم يغترفوا من بحار الأنبياء وقفت بهم أفراس أفكارهم في عالم الشهادة ، فلما حاولوا الخوض في الإلهيات انكشفت عورة جهلهم وافتضحوا باضطرابهم واختلافهم ) ) تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ( ) [ الحشر : 14 ] القطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة ولم يدخل(3/563)
صفحة رقم 564
إسكندر نظرهم ظلمات عالم الغيوب حتى يظفروا بعين الحياة التي من شرب منها لا يموت - انتهى .
ولما دعا إلى العدل فيما بينهم وبين الله ، دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في اقبح ما كانوا قد اتخذوه بعد الشرك ديدناً فقال : ( ولا تنقصوا ( اي بوجه من الوجوه ) المكيال والميزان ( لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته ؛ والكيل : تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة ؛ والوزن : تعديله في الخفة والثقلن فالكيل للعدل في الكمية والوزن للعدل في الكيفية ؛ ثم عل ذلك بقوله : ( إني أراكم بخير ) أي بسعة تغنيكم عن البخس - مرهباً ومرغباً بالإشارة للنقمة كما أن الشكر موجب للنعمة .
ولما كان كأنه قيل : فإني أخاف عليكم الفقر بالنقص ، عطف عليه مؤكداً لإنكارهم : ( وإني أخاف عليكم ( به وبالشرك ) عذاب يوم محيط ( بكم صغاراً وكباراً وبأموالهم طيباً وخبيثاً ، اي مهلك كقوله
77 ( ) وأحيط بثمره ( ) 7
[ الكهف : 42 ] وأصله من إحاطة العدو ، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ لأنه محيط بما فيه من عذاب وغيره ، والعذاب محيط بالمعذب فذكر المحيط بالمحيط أهول ، وهو الدائر بالشيء من كل جانب ، وذلك يكون بالتقاء طرفيه ؛ والنقصان : أخذ شيء من المقدار كما أن الزيادة ضم شيء إليه ، وكلاهما خروج عن المقدار ؛ والوزن ، تعديل الشيء بالميزان ، كما أن الكيل تعديله بالمكيال ، ومن الإحاطة ما رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا .
ولماكن عدم النقص قد يفهم منه التقريب ، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف ، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها ، ولأن التصريح بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد ، فقال مستعطفاً لهمبالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسءهم وبأنهم لما عطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها : ( ويا قوم ) أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم ) أوفوا ( اي أتموا إتماماً حسناً ) المكيال والميزان ) أي ، المكيل(3/564)
صفحة رقم 565
والموزون وآلتهما ؛ وأكده بقوله : ( بالقسط ) أي العدل السوي ، فصار الوفاء مأموراً له في هاتين الجملتين مراراً تأكيداً له وحرصاً عليه لعموم نفعه وشمول بركته ، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه ، وقد مضى في الأنعام ويأتي في هذه االسورة عند ) غير منقوص ( أن الشيء يطلق مجازاً على ما قاربه ؛ ثم أكده أيضاً بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال : ( ولا تبخسوا ) أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة ) الناس أشياءهم ( ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فاولها سفه وآخرها فساد فقال : ( ولا تعثوا في الأرض ) أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصسرة ولا تأمل حال كونكم ) مفسدين ) أي فاعلين ما يكون فساداً في المعنى كما كان فساداً في الصورة ، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة ( عثى ) بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة ، من العيث - للأرض السهلة ، فإنها لسهولتها يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل ، ومنه التعييت - لطلب الأعمى الشيء ؛ والأعثى : الأحمق التقيل ، واللون إلى السواد ، والكثير الشعر ، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه ، وذلك هو معنى العثى ؛ قال أئمة اللغة ( عثى وعاث ، : أفسد ، وفي مختصر العين للزبيدي : عثى في الأرض بمعنى عاث يعيث عيثاً ، وهو الإسراع في الفساد ، المعنى على ما قا لالجمهور : ولا تفعلوا الفساد عمداً وهو واضح ، وعلى ما قدّرته من أصل المعنى الذي هو للمدار أوضح ، وعلى ما قال الزبيدي : ولا تسرعوا فيه ، فلا يزن أنه يكون الإسراع حينئذ يداً حتى ينصب النهي إليه ، بل هو إشارة غلى أنه لا يكون الإقدام بلا تأمل إلا كذلك لملاءمته للشهوة - والله أعلم ؛ والوفاء : تمام الحق ؛ والبخس : النقص ، فهو اخص من الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه .
هود : ( 86 - 88 ) بقية الله خير. .. . .
) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قَالُواْ يشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( ( )
ولما كان نظرهم بعد الشرك مقصوراً على الأموال ، وكان نهيه عما نهيه عما نهى عنه موجباً لمحقها في زعمهم ، كاوا كأنهم قالوا : إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قات فتضعضعت أحوالنا ، فلا يبقى لنا شيء ؟ فقال : ( بقيت الله ) أي فضل الملك الأعلى(3/565)
صفحة رقم 566
المستجمع لصفات الكمال ، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره ) خير لكم ( مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم ، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه ، وتكون أيضاً بمعنى البقيا ، من أبقى عليه يبقي إبقاء ، واستبقيت فلاناً - إذا عفوت عن ذنبه ، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك ، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب ، ويقولون : أراك تبقي هذا ببصرط - إذا كان ينظر إليه - قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع ، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة .
ولما كلانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب ، تركها وبين شرطها بقوله : ( إن كنتم ) أي جبلة زطبعاً ) مؤمنين ) أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيرتها لغير المؤمن مبينة على غير اساس ، فهي غير مجدية إلا في الدنيا ، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال ، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى : فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير ) وما أنا ( وقدم ما يتوهموننه من قصده للاستعلاء نافياً له فقال : ( عليكم ( وأعرق في النفي فقال : ( بحفيظ ( أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً ؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى .
ولما كان الحاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة ، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهاً ، كن ذلك محكاً للعقول ومجزاً للآراء يعرف به نافذها من جامدها ، فكان كأنه قيل : ما قالوا ؟ فقيل : ( قالوا يا شعيب ( سموه باسمه جفاء وغلظة وانكروا عليه مستهزئين بصلاته ) اصلاتك تأمرك ) أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائماً بتكليفنا ) أن تنرك ما يعبد ) أي على سبيل المواظبة ) آباؤنا أو ( نترك ) أن نفعل ) أي دائماً ) في أموالنا ما نشاء ( من قطع الدهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال ، يعنون أن ما تأمرناا به لا يمشي عل منهاج العقل ، فما يأمرك به إلا ما نواك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة ، أي أنه من وداي : فعلك للصلاة ؛ ومادة صلا - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بجميع تقاليبها - تدور على الوصلة ، فالصلاة لصلة العبد بربه ، وكذا الدعاء والاستغفار ، وصلوات اليهود : كنائسهم اللاتي تجمعهم ، والصلا : وسط الظهر ومجمعه وما حول الذني أيضاً ، والمصلى من الخيل : التابع للسباق ، وصال الفحل - إذا حمل على العنة ، ولصوت الرجل واَصَيته : عبته ، كأنك ألصقت به العيب ، والواصلة واضحة في ذلك ، وكأنها الحقيقة التي تفرعت منها جميع معاني المادة ، وسيأتي شرح ذلك عند(3/566)
صفحة رقم 567
قوله تعالى
77 ( ) بالغدو الآصال ( ) 7
في سورة الرعد إن شاء الله ، فمعنى الآية حينئذ : أما تعانيه من الصلوات : الحقيقية ذات الأركان ، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال الر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تامرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضوركم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة افعال الآباء تبذير فهو سفه - فدارت شبهتهم في الأمرين على تلقيد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم ، وزادت في ألأموال بظن التبذير - فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعياً إلى ضد ما أنت متلبس به ) إنك ( إذاً ) لأنت ( وحدك ) الحليم ( في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام ) الرشيد ( في تضييع الأموال ، يريدون بهذا كما زعموا - سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل غليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع ، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم .
ولما اتهموم بالقطيعة والسفه ، شرع في إبطال مكا قالوا ونفي التهمة فيهن وأخرج مخرج الجواب لمن كأنه قا : ما أجابهم به ؟ فقيل : ( قال يا قوم ( مستعطفاً لهم بما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على حسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى غلى الوفاق والإنصاف ) أرءيتم ) أي أخبروني ) إن كنت ) أي كوناً هو في غاية الثبات ) على البينة ) أي برهان ) من ربي ( الذي أحسن غليّ بما هو إحسان إليكم ، وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه فوله : ( و ( قد ) رزقني ( وعظم الرزق بقوله : ( منه رزقاً حسناً ( جليلاً ومالاً جماً حلالاً لم أظلم فيه أحد ، والجواب مجذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب ، ويمكن أن يقال فيه : هل يسع عاقلاً أن ينسبني غلى السفه بتبذير المال بترك الظلم ، أو يسعني أن أحلم عنم عبد غيره وأترك دعاءكم إلى الله ، فقد بان بهذا أني ما أمرتكم بما يسوءكم من ترك ما ألفتم وتعرضت لغضبكم كلكم ، وتركت مثل أفعالكم إلا خوفاً من غضبه ورجاء لرضاه ، فظهر أن لا تهمة في شيء من أمري ولا خطأ ، ما فعلت قط ما نهيتكم عنه فيما مضى ) وما أريد ) أي في وقت من الأوقات ) أن أخالفكم ) أي بأن أذهب وحدي ) إلى ما أنهاكم عنه ( في لالمستقبل ، وما نقص مال بترك مثل أفعالكمن فهو إرشاد إلى النظ في باب :
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله عار عليك إذا فعلت عظيم فإبدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهيت عنه فأت حكيم
وقد نبهت هذه الأجوبة الثلاثة على أن العقل يجب ان يراعي في كل ما يأتي ويذر أحد حقوق ثلاثه أهمها وأعلاها حق الله وثانيها حق النفس وثالثها حق العباد على(3/567)
صفحة رقم 568
وجه الإخلاص في الكل فثبت ببعده عن التهمة مع سداد الأفعال وحسن المقاصد - حلمه ( صلى الله عليه وسلم ) ورشده ، فلذلك أتبعه بما تضمن معناه مصرحاً به فقال : ( إن ) أي ما ) أريد ) أي شيئاً من الأشياء ) إلا الإصلاح ( وأقر بالعجز فقال : ( ما استطعت ) أي مدة استطاعتي للاصلاح وهو كما أردت فإن مالي - مع اجنتابي ما أنتم عليه - صالح ، ليس بدون مال أحد منكم ، فعلم ، مشاهدة أن لا تبذير في العدل ، وأما التوحيد فهو - مع انتفاء التهمة عنى فيه - دعاء إلى القادر على كل شيء الذي لا خير إلى منه ولا محيص عن الرجوع إلأيه ؛ ثم تبرأ من الحول والقوة ، وأسند الأمر إلى من هو له فقال : ( وما توفيقي ( إي فيما استطعت من فعل الإصلاح ) إلا بالله ) أي الذي له الكمال كله ؛ ثم بين أنه الأهل لأن يرجى فقال مشيراً إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مرتب العلم بالمبدأ ) عليه ) أي وحده ) توكلت ( ولما طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة به في مجامع أمره وأقبل عليه بكليته وحسم أطماع الكفار عنه وأظهر الفراغ عنهم وعدم المبالاة بهم ، وكان في قوله ) ما استطعت ( إقرار بأنه محل التقصير ، أخبر بأنه لا يزال يجدد التوبة لعظم الأمرن وعبر عن ذلك بعبارة صالحة للتحذير من يوم البعث تهديداً لهم فقال منبهاً على معرفة المعاد ليكمل الإيمان وحساً تيقني بالبعث بعد الموت ؛ والوفيق : خلق قدرة ما هو وفق المر من الطاعة ، من الموافقة للمطابقة ؛ والتوكل على الله : تفويض الأمر إليه على الرضاء بتدبيره مع التمسك بطاعته .
هود : ( 89 - 91 ) ويا قوم لا. .. . .
) وَيقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ قَالُواْ يشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ( ( )
ولما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته ، تبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحاً لم يبق معه إلا المعاندة ، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكابها فقال : ( ويا قوم ( وأعز الناس عليّ ) ولا يجرمنكم ) أي يحملنكم ) شقاقي ) أي شقاقكم لي على ) أن يصيبكم ( من العذاب ) مثل ما ) أي العذاب الذي ) أصاب قوم نوح ( بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم ) أو قوم هود ( على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم ) أو قوم صالح ( مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور .
ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة ، غير الأسلوب تعظيماً للتهويل(3/568)
صفحة رقم 569
فقال : ( وما قوم لوط ) أي على قبح أعمالهم وسوء حالهم وقوة أخذهم ووبالهم ) منكم ببعيد ) أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجد الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها ، وإنما فسرت جرم بحمل لأن ابن القطاع نقل أنه يقال : جرمت الرجل : حملته على الشيء ، وقد عزا الرماني تفسيرها بذلك للحسن وقتادة ، ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع ، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم ، وقد جوزه الرماني .
ولما رهبهم ، أتبعه الترغيب في سياق مؤذن بأنهم إن لم يبادروا إلى المتاب بادرهم العذاب ، بقوله عاطفاً لهذا الأمر على ذلك النهي المتقدم : ( واستغفروا ربكم ) أي اطلبوا ستر المحسن إليكم ، ونبه على مقدار التوبة بأداة التراخي فقال : ( ثم توبوا إليه ( ثم علل ذلك مرغباً في الاقبال عليه بقوله : ( إن ربي ) أي المختص لي بما ترون من الإحسان ديناً ودنيا ) رحيم ودود ) أي بليغ الإكرام لمن يرجع إليه بأن يحفظه على ما يرضاه بليغ التحبب إليه ، ولم يبدأه بالاستعطاف على عادته بقوله : يا قوم ، إشارة إلى أنه لم يبق لي وقت آمن فيه وقوع العذاب حتى اشتغل فيه بالاستعطاف ، فربما كان الأمر أعجل من ذلك فاطلبوا مغفرته بأن بأن تجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة ؛ فثم على بابها في الترتيب ، وأما التراخي فباعتبار عظم مقدار التوبة وعلو رتتها لأن الغفران لا يحصل بالطلب إلا إن اقتران بها ، هذا الشأن في كل كبيرة في جنس الطاعات يقابله تكرر المعاصي فلا تقوى الطاعة على محوها وتكرر الطاعات يقابله تكرر المعاصي بالإصرار الذي هو بمنزلة تكرير المعصية في كل حال ، فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب ، ايأسوه من اللرجوع غليه بأن أنزلوا أنفسهم عناداً في الفهم لهذا الكلام الواضح جداً إلى عداد البهائم ، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافاً في جواب من يقول : ما قالوا بعد هذا الدعاء الحس ؟ بقوله : ( قالوا يا شعيب ( منادين له باسمه جفاء وغلظة ) ما نفقه ) أي الآن لأن ( ما ) تخص بالحال ) كثيراً مما تقول ( وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده ، يعنون : خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاوناً به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إل الهذيان : أنا لا أدري ما تقول ، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر ، خصوا عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى ألإمكان ، وكأنهم - والله أعلم أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج .
ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامة مثل كلام المجانين ، (3/569)
صفحة رقم 570
أتبعوه قولهم : ( وإنا لنراك ) أي رؤية مجددة مستمرة ) فينا ضعيفاً ( اي في البدن وغيره ، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة ، وأشاروا غلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم : ( ولولا رهطك لرجمناك ) أي قتلناك شر قتلة - فإن الرهط من ثلاثة غلى عشرة وأكثر ما قيل : إن فخذه أربعون - فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك ) وما أنت ( اي خاصة ، لأن ( ما ) لنفي الحال اختصاص بالزمان ، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه ، وحيث أوليت الاسم لا سيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص ) علينا بعزيز ( بكريم مودود ، تقول : أعززت فلاناً - إذا كان له عندك ود ، بل قومك هم العزة عندنا لموافقتهم لنا ، ولو كان المراد : ما عززت علينا ، لكان الجواب : لم لا أعز وقد شرفني اله - أو نحو هذا ، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع ، ويصير إفهامه لا متناع رهطه محمولاً على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم ؛ والفقه : فهم الكلام على ما تضمن من المعنى ، وقد صار اسماً لضرب من علوم الدين ، وأصل الرهط : الشدة ، من الترهيط لشدة الأكل ، ومنه الراهطاء : حجر اليربوع لشدته وتوثيقه ليخبأ فيه ولد .
هود : ( 92 - 95 ) قال يا قوم. .. . .
) قَالَ يقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ( ( )
ولما كان تخصيصهم نفي العزة به يفهم أن رهطه عليهم أعزة ، أنكر عليهم ذلك في سياق مهدد لهم فقال تعالى حاكياً عنه استئنافاً : ( قال ( اي عيب ) يا قوم ( ولم يخل الأمر من جذب واستعطاف بذكر الرحم العاطفة ) أرهطي ( اي أقاربي الأقربون منكم ) أعز عليكم من الله ) أي المحيط بكل يء علماً وقدرةً حتى نظرتم غليهم فيّ لقرابتي منهم ولم تنظروا إلى الله في قربي منه بما ظهر عليّ من كرامته ) واتخذتموه ( اي بما كلفتم به أنفسكم مما هو خلاف الفطرة الولى ) وراءكم ) أي أعرضتم عنه إعارض من جعل الشيء وراءه ؛ وحقق معنى الوراء بقوله : ( ظهرياً ) أي جعلتموه كالشيء الغائب عنكم المنسي عندكم الذي لا يعبأ به ، ولم تراقبوه فيّ لنسبتي إليه بالرسالة والعبودية .
ولما كان معنى الكلام لأجل الإنكار : إنكم عكستم في الفعل فلم تعرفوا الحق لأهله إذ كان ينبغير لكم أن لا تنسوا الله بل تراقبوه في كل أموركم ، حسن تعليل هذا(3/570)
صفحة رقم 571
المفهوم بقوله : ( إن ربي ) أي المحسن إليّ ؛ ولما كان المراد المبالغة في إحاطة عمله تعالى بأعمالهم قدم قوله : ( بما تعملون محيط ( من جليل وحقير ، فهو مقتدر في كل فعل من أفعالكم على إنفاذه وإبطاله ، فهو محيط بكم لا يرده عن نصرتي منكم والإيقاع بكم مراعاة أحد لعزة ولا قوة ، بل لكم عنده أجل هو مؤخركم إليه لأنه لا يخشى الفوت ؛ والاتخاذ : أخذ الشيء لأمر يستمر في المستأنف كاتخاذ البيت ؛ والمحيط : المدير على الشيء كالحائط يحصره بحيث لا يفوته منه شيء .
ولما ختم الآية بتهديدهم بما بين أن تهديدهم له عدم لا يبالي به ، أتبع ما يصدقه من أنه ليس بتارك شيئاً من عمله مما جبلوا به ، وزاد في التهديد فقال : ( ويا قوم اعملوا ) أي أوقعوا العمل لكل ما تريدون قارين مستعلين ) على مكانتكم ) أي حالكم الذي تتمكنون به من العمل ) إني عامل ( على ما صار لي مكانة ، أي حالاً أتمكن به من العمل لا أنفك عنه ما أنا عامل من تحذيري لمن كفر وتبشيري لمن آمن وقيامي بكل ما أوجب عليّ الملك غير هائب لكم ولا خائف منكم ولا طامع في مؤالفتكم ولا معتمد على سواه .
ولما كانت ملازمتهم لأعمالهم سبباً لوقوع العذاب المتوعد به ووقوعه سبباً للعلم بمن يخزي لمن يعلم أي هذين الأمرين يراد ، ذكره بعد هذا التهديد فحسن حذف الفاء من قوله : ( سوف تعلمون ) أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر زمانه ، وسوقه مساق الجواب لمن كأنه قال : ما المراد بهذا الأمر بالعمل المبالغ قبل في النهي عنه ؟ وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام ما يوضحه .
وأحسن منه نهم لما قالوا ) ما نفقه كثيراً مما تقول ( كذبهم - في إخراج الكلام على تقدير سؤال من هو منصب الفكر كله إلى كلامه - قائل : ماذا يكون إذا عملنا وعملت ؟ فهذا وصل خفي مشير إلى تقدير السؤال ولو ذكر الفاء لكان وصلاً ظاهراً ، وقد ظهر الفرق بين كلام العالم بالإسباب وما يتصل بها من المسبباب المأمور بها اشرف خلقه ( صلى الله عليه وسلم ) في سورة الأنعام والزمر والكلام المحكي عن نبيه شعيب عليه السلام في هذه السورة ) من ) أي أينا أو الذي ) يأتيه عذاب يخزيه ( ولما كان من مضمون قولهم ) ما نفقه كثيراً مما تقول ( النسبة إلى الكذب لأنه التكلم بما ليس له نسبة في الواقع تطابقه ، قال : ( ومن هو كاذب ) أي مني ومنكمن فالتقدير إن كانت ( من ) موصولة : ستعلمون المخزي بالعذاب والكذب أنا وأنتم ، وإن كانت استفهامية : أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب ، فالزموا مكانتكم لا تتقدموا عنها ) وارتقبوا ) أي انتظروا ما يكون من عواقبها .
ولما كانوا يكذبونه وينكرون قوله ، أكد فقال : ( إني معكم رقيب ( لمثل ذلك ، (3/571)
صفحة رقم 572
وإنما قدرت هذا المعطوف عليه لفصل الكلام في قوله رسوف ( ويجوز عطفه على ) اعملوا ( وجرد ولم يقل : مرتقب ، إشارة إلى أن همه الاجتهاد في العمل بما أمره الله لأنه مبالغ في ارتقاب عاقبته معهم استهانة بهم .
ولما كان كأنه قيل : فأخذوا الكلام على ظاهره ولم ينتفعوا بصادع وعيده وباهره ، فاستمروا على ما هم عليه من القبيح غلى أن جاء أمرنا في ألأجل المضروب له ، قال عاطفاً عليه ، وكان العطف بالواو لأنه لم يتقدم وعيد بوقت معين - كما في قصتي صالح ولوط عليهما السلام - يتسبب عنه المجيء ويتعقبه : ( ولما جاء أمرنا ( اي تعلق إرادتنا بالعذاب ) نجينا ( بما لنا من العظمة ) شعيباً ) أي تنجية عظيمة ) والذين آمنوا ( كائنين ) معه ( منهم ومما عذبناهم به ، وكا إنجاءنا لهم ) برحمة منا ( ولما ذكر نجاة المؤمنين ، أتبعه هلاك الكافرين فقال : ( وأخذت الذين ظلموا ) أي أوقعوا الظلم ولم يتوبوا ) الصيحة ( وكأنها كانت دون صيحة ثمود لأنهم كانوا أضعف منهم فلذلك أبرز علامة التأنيث في هذه دون تلك .
ولما ذكر الصيحة ذكر ما تسبب عنها فقال : ( فأصبحوا ( اي في الوقت الذي يتوقع الإنسان فيه السرور وكل خير ) في ديارهم جاثمين ( اي ساقطين لازمين لمكانهم .
ولما كان الجثوم قد لا يكون بالموت ، أوضح المراد بقوله : ( كأن لم يغنوا فيها ) أي لم يقيموا في ديارهم أغنياء متصرفين مترددين مع الغواني لاهين بالغناء ؛ ولما كان مضمون ذلك الإبعاد أكده بقوله : ( ألا بعداً لمدين ( بعداً مع أنه بمعنى ضد القرب معه هلاك ، فهو من بعد بالكسر وأيد ما فهمته من أن أمرهم كان أخف من أمر ثمود بقوله : ( كما بعدت ثمود ( .
هود : ( 96 - 99 ) ولقد أرسلنا موسى. .. . .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ( ( )
ولما كان شعيب ختن موسى عليهما السلام ، كان ذكر قصته هنا متوقعاً مع ما حرك إلى توقعها من ذكر كتابه أول السورة وما في عصا موسى ناقة من ختم بالتسبيه بحالهم ، فذكرها بعدها مفتتحاً له ابحرف التوقع فقال مؤكداً تنبيهاً على أن فرعون فعل فعل قريش في الإدبار عن الآيات العظيمة ولم يترك موسى عليه السلام شيئاً مما أوحي إليه من إنذاره : ( ولقد أرسلنا ( أعاد العل وأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى(3/572)
صفحة رقم 573
باهر معجزاته ) موسى بآياتنا ) أي المعجزات التي أظهرها ) وسلطان ) أي أمر قاهر للقبط ، والظاهر أنه حكاية موسى عليه السلام منه على ما كان له من السطوة والتحرق عليه ) مبين ( اي بين بنفسه ، وهو في قوة بيانه كأنه مبين لغيره ما فيه من الأسرار ، والآية تعم الأمارة والدليل القلاطع ، و السلطان يخص القاطع ، والمبين يخص ما فيه جلاء ) إلى فرعون ( طاغية القبط ) وملئه ) أي أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب ، لأن القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل .
ولما كان الناصح لنفسه من لا يتبع أحداً فيما يعلم أنه صواب ، قال معجباً من الملأ مشيراً إلى سرعة تكذيبهم بالبينات وإتباعهم فيما ضلاله لا يخفى على من له مسكة : ( فاتبعوا ( اي فتسبب عن هذا الأمر الباهر أن عصى فرعون وحمل ملؤه أنفسهم على أن تبعوا لإرادتنا ذلك منهم ) أمر فرعون ) أي كل ما يفهمون عنه أنه يهواه ويأمره به وتبعهم السفلة فأطبقوا على المنابذة إلا من شاء الله منهم ) وما ) أي والحال أنه ما ) أمر فرعون برشيد ) أي سديد ، مع أن في هذا التعقيب بعد ذكر ثمود من التذكير بآياتي الناقة والعصا إشارة إلى القدرة على البعث المذكو أول السورة الموجب خوفه لكل خير كما أن ذلك أيضاً كان من فوائد تعقيب قصة إبراهيم لقصة صالح عليهما السلام ، واقتصر هنا على ذكر فرعون وقومه لأن المقصود من هذه القصص - كما تقدم - التثبيت في المكافحة بإبلاغ الإنذار وإن اشتدت كراهية المبلغين وقل المتبع منهم ، وأن لا يترك شيء منه خوف إصرارهم أو إدبارهم ولا رجاء إقبالهم وكثرة مؤمنيهم ، وهذه حال آلا فرعون ، وأما بنو إسرائيل فإنهم لم يتوقفوا إلا خوفاً من فرعون في أول المر ، ثم أطبق كلهم على الإتباع ، ثم صاروا بعد ذلك كل قليل يبدلون لا كراهية للإنذار بل لغير ذلك من الأمور وعجائب المقدو كما بين في قصصهم ؛ والملأ : الأشراف الذين تملأ الصدور هيبتهم عند رؤيتهم ؛ والإتباعن طلب ، طلب الثاني للتصرف بتصرف الأول في أي جهة أخذ ، وقد يكون عن كره بخلاف الطاعة ؛ والأمر : الإيجاب بصيغة ( أفعل ) وهو يتضمن إرادة المأمور به في الجملة ، وقد لا يراد امتثال عين المأمورح والرشيد : القائد إلى الخير الهادي إليه ؛ ثم أوضح عدم رشد أمر فرعون بقوله : ( يقدم قومه ) أي الذين كان لهم قوة المدافعة ) يوم القيامة ( ويكونون له تبعاً كما كانوا في الدنيا ، واشار بإيراد ما حقه المضارع ماضياً إلى تحقق وقوعه تحقق ما وقع ومضى فقال : ( فأوردهم النار ( اي كما أوردهم في الدنيا غطاءها وهو البحر .
ولماكان التقدير : فبئس الواردون ، عطف عليه بيان الفعل والمفعول فقال : ( وبئس الورد المورود ( كما ان البحر إذ وروده اقبح ورد ورده الإنسان ، لأن الورد يراد لتسكين العطش وتبريدالأكباد ، وهذا يفيد ضد ذاك .(3/573)
صفحة رقم 574
ولما كان فرعون موصوفاً بعظم الحال وكثرة الجنود والأموال وضخامة المملكة ، حقر تعالى دنياه بتحقير جميع الدنيا التي هي منها بإسقاطها في الذكر اكتفاء بالإشارة إليها ولم يثبتها كما في قصة عاد فقال : ( وأتبعوا ( ببنائه للمفعول لأن المنكي الفعل لا كونه من معين ) في هذه ) أي الحياة الخسيسة ) لعنة ( فهم يلعنون يها من كل لاعن من المسلمين وغيرهم من أهل الملل فلعنة الله على من حسَّن حالهم وارتضى ضلالهم لإضلال العباد من أهل الإلحاد بفتنة الاتحاد ) ويوم القيامة ( أيضاً يلعنهم اللاعنون ، حتى أهل الاتحاد الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ؛ ثم بين ما يحق أن يقوله سامع ذلك بقوله : ( بئس الرفد المرفود ( اي التبع المتبوع والعون المعان ، فإن اللعنة تابعة لعذابهم في الدنيا ومتبوعة باللعنة في الآخرة والعذاب رفد لها وهي رفد له ، ومادة ( رفد ) تدور على التبع ، أو يكون المراد أن لعنهم لا يزال مترادفاً تابعاً بعضه لبعض ، فكل لعنة تابعة لشيء من الخزي : عذاب أو لعن ، متبوعة بلعنة مضافة إليها ، وسمي ذلك رفداً وهو حقيقة العون من باب قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع ومعنى ) يقدم ( أنه يكون قدامهم غير سائق لهم ، بل هم على أثره متلاحقين ، فيكون دخولهم إلى النار معاً ؛ والقيامة : القومة من الموت للحساب ؛ والإتباع : طلب الثاني للحاق بالأول كيف تصرف ؛ واللعن من الله : الإبعاد من الرحمة بالحكم بذلك ، ومن العباد : الدعاء به .
هود : ( 100 - 103 ) ذلك من أنباء. .. . .
) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ( ( )
ولما كانت هذه الأخبار على غاية منا لتحذير ، لا يعرفه إلا بالغ في العلم ، كان من المعلوم قطعاً أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يئات بها إلا من عند الله للعمل المشاهد بأنه لم يعان علماً ولا ألم بعالم يوماً ، هذا مع ما اشتملت عليه من أنواع البلاغة وتضمنته من أنحاء الفصاحة وأومأت إليه بحسن سياقتها من صروف الحكم وإفادة تفصيلها من فنون المعارف ، فلذلك استحقت أن يشار إليها بأداة إيماء غلى بعد المرتبة وعلو الأمر فقال تعالى : ( ذلك ) أي النبأ العظيم والخطب الجسيم ) من أنباء القرى ( وأكد هذا المعنى بلفظ النبأ لأنه الخبر فيه عظيم الشأن ، ومنه النبي ، وأشار بالتعبير بالمضارع(3/574)
صفحة رقم 575
في قوله : ( نقصه عليك ( إلى أنا كما قصصناها عليك في هذا الحا للمقصد المتقدم سنقصها عليك لغير ذلك منالأغراض في فنون البلاغة وتصاريف الحكم كما سترى عند قصه ؛ ثم اشار - بما اخبر من حلها بقوله : ( منها ) أي القرى ) قائم وحصيد ( إلى أنك مثل ما سمعت ما قصصنا عليك من أمرها بأذنك ووعيته بقلبك تحسها بعينك بمشاهدة ابنيتها وآثارها ومستحصدة ، اي متهدمة لم يبق من بنيانها إلا بعض جدرانها .
ولما كان فيما تقدم في هذه السورة من القصص أشد تهديد وأعظم وعيد لمن له تبصرة ، صرح الأكباد بأن الموجب للايقاع بهم إنما هو الظلم ، فقال تعالى عاطفاً على نحو أن يقال : فعلنا بهم وأنبأناك به : ( وما ظلمناهم ( في شي منه ) ولكن ظلموا أنفسهم ( واعتمدوا على أدادهم معرضين هن جنابنا آمنين من عذابنا فأخذناهم ) فما ( اي فتسبب عن اعتمادهم على غيرنا أنه ما ) أغنت عنهم ( اي بوجه من الوجوه ) آلهتهم التي ( وصور حالهم الماضية فقال : ( يدعون ) أي دعواها واستمروا على دعائهم لها إلى حين الأخذ ، وين خسة رتبتها فقال : ( من دون الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ؛ وذكر مفعول ( اغنت ) معرقاً في النفي فقال : ( من شيء ) أي وإن قل ) لما جاء أمر ) أي عذاب ) ربك ) أي المحسن إليك بتأخير العذاب المستأصل عن أمتك وجعلك نبي الرحمة ) وما زادوهم ( في أحوالهم التي كانت لهم قبل عبادتهم إياها ) غير تتبيب ( إي إهلاك وتخسير ، فإنهم كانوا في عداد من يرجى فلاحه ، فلما تورطوا في عبادتها ونشبوا في غوايتها وبعدوا عن الاستقامة بضلالتها خسروا أنفسهم التي هي رأس المال فكي لهم بعد بالأرباح ؛ والقص : إتباع الأثر ، فهو هنا الإخبار بالأمور التي يتلو بعضها بعضاً ؛ والدعاء : طلب الطالب الفعل من غيرهن ونداء الإخبار باسمه بحرف النداء ، وكلا الأمرين مرادان ؛ و ) من دون الله ( : من منزلة أدنى نم منزلة عبادة الله لأنه من الأدون ، وهو الأقرب إلى جهة السفل ؛ والتب : الهلك والخسر .
ولما كان المقصود من ذلك رمي قلوب العرب بما فيه من سهام التهديد ليقلعوا عما تمكنوا فيه من عمى التقليد ، قال تعالى معلماً بأن الذي أوقع بأولئك لظلمهم وه و لكل ظالم بالمرصاد سواء ظلم نفسه أو غيره : ( وكذلك ) أي ومثل ذلك الأخذ العظيم ) أخذ ربك ( ذكّره بوصف الإحسان ما له إليه من البر لئلا يخاف على قومه من مثل هذا الأخذ ) إذ أخذ القرى ) أي أهلها وإن كانوا غير من تقدم الإخبار عنهم وإن عظموا وكثروا ، ولكن الإخبار عنها أهول لأنه يفهم أنه ربما يعمها الهلاك لأجلهم بشدة الغضب من فعلهم كقرى قوم لوط عليه السلام ) وهي ظالمة ( روى البخاري في التفسير عن أبي(3/575)
صفحة رقم 576
موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ ) وكذلك أخذ ربك ( الآية .
ولما كان مثل هذا الآخذ لا يداينه مخلوق ولا يقدر عليه ملك ، حسن كل الحسن إتباع ذلك قوله : ( إن أخذه أليم ) أي مؤلم قاطع للآمال مالىء البدن والروح والنفس بالنكال ) شديد ) أي صعب مفتت للقوى ، ولعله عبر هنا باسم الرب مضيفاً له غلى المنبأ بهذه الأنباء مكرراً لذلك في هذا المقام الذي ربما سبق فيه الوهم إلى أنه باسم الجبار والمنتقم مثلاً أليق ، إشارة إلى أنه سبحانه يربيك أحسن تربية في إظهارك على الدين كله وانقياد العظماء لأمرك وذل الأعزة لسطوتك وخفض الرؤوس لعلو شانك ، فلا تتكلف أنت شيئاً نم قصد إجابتهم إلى إنزال آية أو ترك ما يغيظ من إنذار ونحو ذلك - والله الموفق .
ولما كام مما جر هذه القصص وهذه المواعظ تكذيبهم لما يوعدون من العذاب الناشىء عن إنكار البعث المذكور في قوله تعالى : ( ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ( ، أشار تعالى إلى تحقق أمر الآخرة وأنه مما ينبغي الاهتمام به رداً للمقطع على المطلع ، وإعلاماً بأنه لا فرق بينه وبين ما تحقق إيقاعه من عذاب هذه الأمم في القدرة عليه بقوله مؤكداً لأجل جحودهم أن يكون في شيء مما مضى دلالة عليه بوجه من الوجوه : ( إن في ذلك ) أي النبأ العظيم والقصص والوعظ بما يذكر ) لآية ) أي لعلامة عظيمة ودلالة بتة ولما كان وجود الشيء عدماً بالنسبة إلى ما لا نفع له به ، قال : ( لمن خاف عذاب ( يوم الحياة ) الآخرة ( لأنه نفع خاص به ، وإنما كان آية له لأنه إذا نظر إلى إهلاكه للظالمين إهلاكاً عاماً بسبب ظلمهم وإنجائه للمؤمنين ، علم أنه قادر على ما يريد ، وأنه لا بد أن يجازي كلاًّ بما فعل ، فإذا رأىى أن ظلمه كثيرين يموتون بغير انتقام ، علم أنه لا بد من يوم يجازيهم فيه ، وهو اليوم الذي أخبرت به عنه رسله ، وزاد في الإشارة إلى تهويله بإعادة اسم الإشارة في قوله : ( ذلك ) أي اليوم العظيم الذي يكون فيه عذاب الآخرة ) مجموع له ) أي لإظهار العدل فيه والفضل ) الناس ) أي كل من فيه اهلية التحرك والاضطراب وما ثمّ يوم غيره يكون بهذه الصفة اصلاً .(3/576)
صفحة رقم 577
ولما لم يسبقه يوم اجتمع فيه جميع الخلق من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات أحياء ، وكان ذل مسوغاً لأن تعد شهادة غيره عدماً فقال تعالى : ( وذلك ) أي اليوم العظيم ) يوم مشهود ( اي هو نفسه لهم ولغيرهم من جميع الخلق ، فيكون تنوينه للتعظيم بدلالة المقام ، أو يكون المعنى أنه أهل لأن يشهد ، وتتوفر الدواعي على حضوره لما فيه من عجائب الأمور والأهوال العظام والمواقف الصعبة ، فلا يكون ثم شغل غلا نظر ما فيه والإحاطة بحوادثه خوف التلاف ورجاء الخلاص ؛ والآية : العلامة العظيمة لما فيها من البيان عن الأمر الكبير ؛ والخوف : انزعاج النفس بتوقع الشر ، وضده الأمن وهو سكون النفس بتوقع الخير ؛ والعذاب : استمرار الألم .
هود : ( 104 - 107 ) وما نؤخره إلا. .. . .
) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ( ( )
ولما تقدم قولهم ) ما يحسبه ( كان كأنه قيل في الرد عليهم : نحن قادرون على تعجيله ، وهو - كما أشرنا إليه في هذه الآية - عندنا متى شئنا في غاية السهولة : ( وما نؤخره ) أي اليوم أو الجزاء مع ما لنا من العظمة والقدرة التامة على إيجاده لشيء من الأشياء ) إلا لأجل ) أي لأجل انتهاء أجل ) معدود ( سبق في ألأزل تقديره ممن لا يبدل القول لديه وكل شيء في حكمه ، فهو لا يخشى الفوت ؛ ومادة ( أجل ) بتراكيبها الأربعة : أجل وجأل وجلأ تدور على المدة المضروبة للشيء ، فالأجل - محركة : مدة الشيء وغاية الوقت في الموت وحلول الدين من تسمية الجز باسم الكل ، والتأجيل : تحديد الأجل ، ويلزمه التأخير ، ومنه أجل الشيء كفرح - إذا تأخر ، والآحلة : الآخرة ، واجل الشيء بالفتح : حبسه ومنعه ، لأن الأجل حابس يحبس الراعي فيه ، وأجل الشر عليهم : حناه وأثاره وهيجه ، ولأهله : كسب وجمع واحتال ، لأن ذلك كله من لوازم ذي الأجل ، أو المعنى أنه أوجد أجل ذلك ، وكمقعد ومعظم : مستنفع الماء ، لأنه محيط به إحاطة الأجل بالمؤجل ، وأجله فيه تأجيلاً : جمعه فتأجل ، والمأجل : الحوض يحبس فيه الماء ، ، اجلوا ما لهم : : حبسوه في المرعى ، والاجل - بالكسر : قطيع من بقر الوحش ، تشبيهاً له في اجتماعه من حيث إنه أحصن له بالأجل لأنه - كما قيل - حصن حصين ، والاجل - بالكسر ايضاً : وجع في العنق ، لأنه من أسباب حلول الأجل ، وأجله : داواه منه ، وبالضم جمع أجيل للمتأخر وللمجتمع من الطين يجعل حول النخلة ، لإحاطته بها إحاطة الأجل وتحصينه لها ، وتأجل القوم : تجمعوان لأن التجمع(3/577)
صفحة رقم 578
أحصن لهم ، وأجل - بفتحتين ثم سكون : جواب كنعم وزناً ومعنى إلا أنه احسن منه في التصديق ، ونعم منه في الاستفهام ، وحقيقة ذلك الإخبار بأن أجل - اي وقت - ذلك الفعل الموجب أو المستفهم عنه قد حضر ، وفعلت ذلك من أجلك - من غير ( من ) - ومن أجلك ، ومن أجلاك ومن أجلالك ويكسر في اكل ، أي من جللك - قاله في القاموس ، وقال في فصل الجيم : وفعلته من جلك - بالضم - وجلالك وجللك - محركة - وتجلتك وإجلالك - بالكسر ، ومن أجل إجلالك ومن أجلك بمعنى - انتهى .
وحقيقة أن فعلي مبتدىء من أجلك - بالتحريك ، أو تكون ( من ) سببية ، اي أجلك سبب فيه ، ولولا وجودك ما فعلته فهو لتعظيمك ؛ والملجأ واللجأ - محركة : المعقل والملاذ ، كأنه شبه بالأجل ، ومنه لجأ إليه - كمنع وفرح : لاذ ، وألجأ أمره إلى الله : اسنده ، وألجأ فلاناً غلى كذا : اضطره ، والتلجئة : الإكراه ، واللجأ - محركاً : الضفدع ، لالتجائها إلى الماء ؛ ومن ذلك الجيأل - كصقيل ، وجيأل وجيالة ممنوعين ، وجيل بلا همز كله اسم الضبع لكثرة لجائها غلى وجارها ، ومنه جئل - كفرح - جألاناً : عرج ، كأنه تشبيه بمشيتها ، لأن من أسمائها العرجاء ، أو تشبيه بمشية الراقي في درج الملجأ ، أي الحصن ، وكذا الأجل - كقنب وقبر - وهو ذكر الأوعال ، لأن قرونه كالحصن له ، وجيالأة الجرح : غثيثه ، وهو مرية ، لأنه من أسباب قرب الأجل ، وكذا الاجئلال - أي الفزع - ربما كان سبباً لذلك ، وربما كان سبباً للمبادرة إلى الحصن ، وجأل - كمنع : ذهب وجاء ، والصوف : جمعه واجتمع - لازم متعد ، كله من لوازم الأجل بمعنى المدة ، وجلأ بالرجل - كمنع : صرعته ، وبثوبه : رماه ، كأنه جعله في قوة من حضر أجله ، وإن شئت قلت في ضبط ذلك : إنالمادة - مع دورانها على المدة - تارة تنظر إلى نفس المدة ، وتارة إلى آخرها ، وتارة إلى امتدادها وتأخرها ، وتارة إلى ما يدني منه ، وتارة إلى منفعتها ، وتارة إلى ما يلزم فيها ، فمن النظر إلى نفس المدة : التأجيل بمعنى تحديد الأجل ، وهو مدة الشيء ، وفعلت هذا من أجلك ، اي لو لا وجودك ما فعلته ، وأجل بمعنى نعم ، أي حضرت مدة الفعل ، ومن النظر إلى الآخر : دنا الأجل - في ا لموت والدّين ، ومن النظر إلى التأخر : أجل الشيء - إذا تأخر ، والآجلة : الآخرة ، ومن النظر إلى السبب المدني : الأجل - بالكسر - لوجع في العنق ، وجيألة الجرح - لغثيثه اي مريه ، وجلأ بالرجل : صرعه وبثوبه : رماه ، وأجل الشر عليهم : جناه ، أو اثاره وهيجه ، والاجئلال : الفزع ، ومن النظر إلى المنفعة وهي أن التأجيل الذي هو تحديد الأجل للشيء مانع من أخذه دون ما ضرب له من المدة : الاجل - بالكسر - للقطيع من بقر الوحش ، وأجل الشيء : حبسه ومنعه ، وأجلى كجمزي : مرعي لهم معروف ، وتأجل القوم : تجمعوا ، وجأل الصوف(3/578)
صفحة رقم 579
جمعه ، واللجأ والملجأ : المعقل والملاذ ، والضفدع للزومها ملجأها من الماء ، والجيأل للضبع للزومها وجارها ، ولذلك تسمى أم عامر ، وجئل - كفرح : عرج ، كأنه شبه بمشيتها لأنها تسمى العرجاء ، والأجل كقنب وقبر - لذكر الأوعال ، لتحصنه بقرونه ، والأجل - بالضم : المجتمع من الطين يجعل حول النخلة ، والمآجل : الحوض يحبس فيه الماء ، ومستنقع الماء مطلقاً ، وأجله تأجيلاً : جمعه ، ومن النظر غلى ما يلزم في المدة : أجل لأهله : كسب وجمع وجلب واحتال ، وجأل - كمنع : جاء وذهب ؛ فقد تبين أن المراد بالأجل هنا الحين .
ولما كان كأنه قيل : يا ليت شعري ماذا يكون حال الناس إذا اتى ذلك الأجل وفيها الجبابرة والرؤساء وذوو العظمة الكبراء أجيب بقوله : ( يوم يأت ) أي ذلك الأجل لا يقدرون على الامتناع بل ولا على مطلق الكلام ، وحذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما هو فاشٍ في لغة هذيل ، وكان ذلك إشارة إلى أن شدة هوله تمنع أهل الموقف الكلام اصلاً في مقدار ثلثية ، ثم يؤذن لهم في الكلام في الثلث الآخر بدلالة المحذوف وقرينة الاستثناء ، فإن العادة أنيكون المستثنى أقل من المستثنى منه ) لا تكلم ( ولو أقل كلام بدلالة حذف التاء ) نفس ( من جميع الخلق في ذلكاليوم الذي هو يوم الآخرة ، وهو ظرف هذا الأجل وهو يوم طويل جداً ذو ألوان وفنون وأهوال وشؤون ، تارة يؤذن فيه الكلام ، وتارة يكون على الأفواه الختامن وتارة يسكتهم الخوف والحسرة والآلامن وتارة ينطقهم الجدال والخصام ) إلا بإذنه ) أي بإذن ربك المكرر ذكره في هذه الآيات إشارة غلى حسن التربية وإحكام التدبير .
ولما علم منهذا أنه يوم عظمة وقهر ، سبب عن تلك العظمة تقسيم الحاضرين فقال : ( فمنهم ) أي الخلائق الحاضرين لأمره ) شقي ( ثبتت له الشقاوة فيسر في الدنيا لأعمالها ) وسعيد ( ثبتت له السعادة فمشى على منوالها ؛ والتأخير : الإذهاب عن جهة الشيء بالإبعاد منه ، وضده التقديم ؛ والأجل : الوقت المضروب لوقوع أمر من الأمور ؛ واللام تدل على العلة والغرض والحكمة بخلاف ( إلى ) ؛ والشقاء : قوة أسباب البلاء .
ولما كان أكثر الخلق هالكاً مع أن المقام تهديد وتهويل ، بدأ تعالى بالأشقياء ترتيباً للنشر على ترتيب اللف فقال : ( فأما الذين شقوا ) أي أدركهم العسر والشدة ) ففي النار ) أي محكوم لهم بأنهم يدخلون الناء التي هي النار لو علمتم ) لهم فيها زفير ) أي عظيم جداً ) وشهيق ( من زفر - إذا أخرج نفسه بعد مدَّه إياه ، وشهيق - إذ ترددالبكاء في صدره - قاله في القاموس ؛ وقال ابن كثير في تفسير سورة الأنبياء :(3/579)
صفحة رقم 580
الزفير خروج أنفاسهم ، والشهيق : ولوج أنفسهم ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الزفير : الصوت الشديد ، والشهيق : الصوت الضعيف ، وعن الضحاك ومقاتل : الزفير أول نهيق الحمار ، والشهيق آخره حين يفزع من صوته إذا رده في جوفه ، وسيأتي كلام الزماني في ذلك ) خالدين فيها ) أي بلا انقطاع ، وعبر عنه بقوله جرياً على أساليب العرب : ( ما دامت السماوات والأرض ( .
ولما كان له شيء لا يقبح منه شيء وهو قادر على كل شيء ، دل على ذلك بقوله : ( إلا ما شاء ( اي مدة شاءها فإنه لا يحكم بذلك فيها فلا يدخلونها .
ولما كان الحلا في هذه السورة مقتضياً - كما تقدم - لتسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عما أخبر به سبحانه في قوله ) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( - الآية ، من ضيق صدره ، ولذلك أتى بهذه القصص كما مضى بيان ذلك ، عبر باسم الرب إشارة إلى أنه يحسن إليه بكل ما يسر قلبه ويشرح صدره فقال : ( ربك ( وقد جرى الناس في هذا الاستثناء على ظاهرة ثم أطالوا الاختلاف في تعيين المدة المستثناة ، والذي ظهر لي - والله أعلم - أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين وأن الشرك لا يغفر والإيمان موجب للجنة فكان ربما ظن أنه لا يمكن غير ذلك كما ظنه المعتزلة لا سيما إذا تؤم القطع في مثل قوله ) أن الله لا يغفر أن يشرك به ( مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله ) ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلىالله تعالى كغيره من الأمور ، له ان يفعل في كلها ما يشاء وإن جزم القولفيه ، لكنه لا يقع غير ما أخبر به ، وهذا كما تقول : اسكن هذه الدار عمرك إلاّ ما شاء زيد ، وقد لا يشاء زيد شيئاً ، فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر كذلك الاستثناء لا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين ، وسوقه هكذا أدل على الدرة وأعظم في تقليد المنة ، ثم رأيت الإمام اباً أحمد البغوي قد ذكر معنى هذا آخر ما أورده في تفسيره من الأقوال في الآية وحكي نحوه عن الفراء ، ومثله بأن تقول : والله لأضربنك إلاّ إن أرى ، وعزيمتك أن تضربه ، وعزاه الطحاوي في بيان المشكل إلى أهل اللغة منهم الفراء .
ولما كان تخليد الكفار من الحكم بالقسط بين الفريقين لأنه من أكبر تنعيم المؤمنين الذين عادوهم في الله كما تقدم التنبيه عليه أول سورة يونس عليه السلام عند قوله ) ليجزي ال 1 ين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ( كان ربما توهم أن الاستثناء لو أُخذ على ظاهرة لم يكن إخراجهم منالنار حيناً ، نفى هذا التوهم بقوله : ( إن ربك ( اي المحسن إليك ) فعال لما يريد ( اي لا يجوز عليه البدء بالرجوع عما أراد ولا لالمنع عن مراده ولا يتعذر عليه شيء منه مع كثرة المرادات فلا اعتراض عليه ولا يلزمه لأحد(3/580)
صفحة رقم 581
شيء ، بل له أن يخلد العاصين في الجنة ويخلد الطائعين في النار ، ولكنه كما ثبت ذلك ليعتقد لكونه من صفة الكمال ثبت أنه لا يفعل ذلك سبحانه ولا يبدل القول لديه لأن ذلك من صفات الكمال ايضاً مع أن في ختم الآية بذلك ترجية لأهل النار في إخراجهم منها زيادة في عذابهم .
هود : ( 108 - 112 ) وأما الذين سعدوا. .. . .
) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ( )
ولما تم أمر الأشقياء ، عطف عليه قسيمهم فقال : ( وأما الذين سعدوا ) أي فازوا بمطالبهم وتيسر أمرهم ) ففي الجنة ) أي التي صارت معلومة من الدين بالضرورة ) خالدين فيها ( دائماً ابداً ) ما دامت السموات والأرض ( على ما جرت به عادة العرب في إرادة التأبيد لا آخر بمثل هذا ) إلاّ ما شآء ربك ( وأدل دليل على ما قلت في الاستثناء قوله : ( عطاء ( هو نصب على المصدر ) غير مجذوذ ( اي مقطوع ولا مكسور ولا مفصول - لعطاء من الأعطية ولا مفرق ولا مستهان به : لأنهملة انفكوا من النعيمحقيقة أو معنى ولو لحظة لكان مقطوعاً أو منقوصاً ؛ وفي الختم بذلك من الجزم بالدوام طمأنينة لأهل الجنة زيادة في نعيمهم عكس ما كان لأهل النار ؛ قال أبو الحسن الرماني : والزفير : ترديد النفس مع الصوت حتى تنتفخ الضلوع ، وأصله الشدة من المزفور الخلق ، والزفر : الحمل على الظهر ، لشدته ، والزفر : السيد لأنه يطيق حمل الشدائد ، وزفرت النار - إذا سمعت لها صوتاً في شدة توقدها ، والشهيق : صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس ، واصله الطول المفرط من قولهم : جبل شاهق اي ممتنع طولاً ؛ والخالد : الكائن في الشيء ابداً ، والدائم : الباقي ابداً ، ولهذا يوصف الله تعالى بالدائم دون الخالد .
ولما أخبره تعالى بوقوع القضاء بتمييز الناس في اليوم المشهود إلى القسمين المذكورين على الحكم المشروح مرهباً ومرغباً ، كان ذلك كافياً في الثبات على أمر الله والمضيّ لإنفاذ جميع ما أرسل به وإن شق اعتماداً على النصرة في ذلك اليوم بحضرة تلك الجموع ، فكان ذلك سبباً للنهي عن القلق في شيء من الأشياء وإن جل وقعه وتعاظم خطبه ، فقال تعالى : ( فلا ( ولماكان ما تضمنه هذا التقسيم أمراً عظيماً وخطباً(3/581)
صفحة رقم 582
جسيماً ، اقتضى عظيم تشوف النفس وشديد شوقها لعلم ما سبب عنه ، فاقتضى ذلك حذف النون من ( كان ) إيجازاً في الكلام للإسراع بالإيقاف على المراد والإبلاغ في نفي الكون على أعلى الوجوه فقال : ( تك ) أي في حالة من الأحوال ) في مرية ( والمرية : الشك مع ظهور الدلالة للتهمة - قاله الرماني ) مما يعبد هؤلاء ) أي لا تفعل فعل من هو في مرية بأن تضرب من أجل ما يعبدون مواظبين على عبادتهم مجددين ذلك في كل حي فتنجع نسك في إرادة مبادرتهم إلى امتثال الأموامر في النزوع عن ذلك بالكف عن مكاشفتهم بغائظالإنذار والطلب لإجابة مقترحاتهم رجاء الأزدجار كما مضى في قوله تعالى ) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( - الآية ، وذلك أن مادة مرى - بأيّ ترتيب كان - تدور على الإضطراب ، وقد يلزمه الطرح والفصل : رمى يرمي رمياً ، والمرماة : ظلف الشاة لأنه يطرح ، والرمي : قطع من السحاب رقاق ؛ والريم : البراح ، ما يريم يفعل كذا : ما يزال ، والريم : ا لدرج للضطراب فيها ، والقبر لنبذه في جاتب من الأرض وطرح الميت فيه ، وريم فلان بالمكان : أقام به مجاوزاً لغيره منفصلاً عنه كأنه رمى بنفسه فيه ، وريمت السحابة - إذا دامت فلم تقلع ، لأن من شأنها رمي القطر ، ومرى الضرع : مسحة الشك ، أي تزلزل الإعتقاد ، والميرة : جلب الطعام ؛ ثم استأنف تعالى خبراً هو بمنزلة العلة لذلك فقال : ( ما يعبدون ) أي يوقعون العبادة على وجه الاستمرار ) إلاّ كما يعبد آباؤهم ( ولما كانت عبادتهم في قليل من الزمن الماضي أدخل الجار فقال : ( من قبل ) أي أنهم لم يفعلوا ذلك لشبهة إذا كشف عنها القاناع رجعوا ، بل لمحض تقليد الآباء مع استحضراهم لتلبسهم بالعبادة كأنهم حاضرون لديهم يشاهدونهم مع العمى عن النظر في الدلائل والحجج كما كان من قصصنا عليك أخبارهم من ألمم في تقيد الآباء سواء بسواء مع عظيم شكيمهم وشدة عصبتهم للأجانب فكيف بالأقارب فكيف بالآباء فأقم عليهم الحجة بإبلاغ جميع ما ، أمرك به كما فعل من قصصنا عليك أنباءهم من إخوانك من الرسل غير مخطر في البال شيئاً مما قد يترتب عليه إلى أن ينفذ ما نريد من أوامرنا كما سبق في العلم فلا تستعجل فإنا ندبر الأمر في سفول شأنهم وعلو شأنك كمت نريد ) وإنا ( بما لنا من العظمة ) لموفوهم نصيبهم ( من الخير والشر من الآجال وغيرها وما هو ثابت ثباتاً لا يفارق أصلاً ؛ ولما كانت التوفية قد تطلق على مجر الإعطاء وقد يكون ذلك على التقريب ، نفى هذا الحتمال بقوله : ( غير منقوص ( والنصيب : القسم المجعول لصاحبه كالحظ ؛ والمنقوص : المقدار المأخوذ جزء منه ؛ والنقص : أخذ جزء من المقدار .(3/582)