صفحة رقم 411
تقدم من أمر العقة وأمر بني النضير في نقضهم عهدهم وغدرهم ، بما هموا به من قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإلقاء الرحى عليه من سطح البيت الذي أجلسوه إلى جانبه ، بقوله إشارة إلى أن اليهود ما زالوا على النقض قديماً ، تحذيراً للمؤمنين من أن يكونوا مثلهم في النقض لئلا يحل بهم ما حل بهم من الصغار ، وإعلاماً بأن عادته سبحانه في الإلزام بالتكاليف قديمة غير مخصوصة بهم ، بل هي عامة لعباده وقد كلف أهل الكتاب ، تشريفاً لهم بمثل ما كلفهم به ، ورغبهم ورهبهم ليسابقوهم في الطاعة ، فإن الأمر إذا عم هان ، والإنسان إذا سابق اجتهد في أخذ الرهان ، وأكد الخبر بذلك لئلا يظن لشدة انهماكهم في النفس أنه لم يسبق لهم عهد قبل ذلك فقال تعالى : ( ولقد أخذ الله ) أي بما له من جميع الجلال والعظمة والكمال ) ميثاق بني إسرائيل ) أي العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة ) وبعثنا ) أي بما لنا من العظمة ) منهم اثني عشر نقيباً ) أي شاهداً ، على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم من الوفاء به - كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيباً وأخذنا منكم الميثاق على ما أحاله الإسلام - كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في تخلفه عن تبوك : ( ولقد شهدت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ) وأما تفصيله فمذكور في السير ، والنقيب : الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل : عريف ، لأنه يتعرفها ، ومن ذلك المناقب وهي الفضائل ، لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها ) وقال الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لبني إسرائيل ، وأكد لتكرر جزعهم وتقلبهم فقال : ( إني معكم ( وهو كناية عن الكفاية لأن القادر إذا كان مع أحد كان كذلك إذا لم يغضبه .
ولما أنهى الترغيب بالمعية استأنف بيان شرط ذلك بقوله مؤكداً لمثل ما مضى : ( لئن اقمتم ) أي أنشأتم ) الصلاة ) أي التي هي صلة ما بين العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها ؛ ولما كان المقصود من الإنفاق المؤاساة بالإيتاء قال : ( وآتيتم الزكاة ) أي التي هي بين الحق والخلائق .
ولما كان الخطاب مع من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام ، وكانوا في كل قليل يتردعون عن اتباعه أو كمال اتباعه ، وكان سبحانه عالماً بأن ميلهم بعده يكون أكثر ، فرتب في الأزل أنه تواتر إليهم بعده الرسل يحفظونهم عن الزيغ ويقومون منهم الميل قال : ( وآمنتم برسلي ) أي أدمتم الإيمان بموسى عليه السلام ، وجددتم الإيمان بمن يأتي(2/411)
صفحة رقم 412
بعده ، فصدقتموهم في جميع ما يأمرونكم به ) وعزرتموهم ) أي ذببتم عنهم ونصرتموهم ومنعتموهم أشد المنع ، والتعزير والتأزير من باب واحد .
ولما كان من أعظم المصدق للإيمان ونصر الرسل بذل المال فهو البرهان قال : ( وأقرضتم الله ) أي الجامع لكل وصف جميل ) قرضاً حسناً ) أي بالإنفاق في جميع سبل الخير ، وأعظمها الجهاد والإعانة فيه للضعفاء .
ولما كان الإنسان محل النقصان ، فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صالح العمل ، قال سادّاً .
بجواب القسم الذي وطّأت له اللام الداخلة على الشرط - مسدّ جواب الشرط : ( لأكفرن ) أي لأسترن ) عنكم سيئاتكم ) أي فعلكم لما من شأنه أن يسوء ) ولأدخلنكم ) أي فضلاً مني ) جنات تجري ( ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال : ( من تحتها الأنهار ) أي من شدة الريّ ) فمن كفر ( ولما كان الله سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولاً .
وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله ، نزع الجار فقال : ( بعد ذلك ) أي الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن ) منكم ) أي بعد ما رأة من الآيات واقرّ به من المواثيق ) فقد ضل ) أي ترك وضيّع ، يُستعمل قاصراً بمعنى : حار ، ومتعدياً كما هنا ) سواء ) أي وسط وعدل ) السبيل ) أي لأن ذلك كفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره ، وفي هذا تحذير شديد لهذه الأمة ، لأن المعنى : فإن نقضتم الميثاق - كما نقضوا - بمثل استدراج شاس بن قيس وغيره ، صنعنا بكم ما صنعنا بهم حين نقضوا ، من إلزامهم الذلة والمسكنة وغير ذلك من آثار الغضب ، وإن وفيتم بالعقود آتيناكم أعظم مما آتيناهم من فتح البلاد والظهور على سائر العباد ؛ قال ابن الزبير : ولهذا الغرض والله أعلم - أي غرض التحذير من نقض العهد - ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى
77 ( ) أوفوا بعهدي ( ) 7
[ البقرة : 40 ] فقال تعالى :
77 ( ) ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ( ) 7
إلى قوله
77 ( ) فقد ضل سواء السبيل ( ) 7
[ المائدة : 12 ] ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال
77 ( ) ومن الذين قالوا ميثاقهم ( ) 7
[ النساء : 55 والمائدة : 13 ] وذكر تعالى عهد الآخرين للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا ، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة ، وإسرافهم في القتل وغيره ، وتغييرهم أحكام التوراة - إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة ، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى :
77 ( ) لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا ( ) 7
[ المائدة : 82 ] انتهى .
وينبغي ذكر النقباء من هذه الفرق الثلاث بأسمائهم وما دعي إلى(2/412)
صفحة رقم 413
ذلك تحقيقاً للأمر وزيادة تبصرة ، أما اليهود فكان فيهم ذلك مرتين : الأولى : قال في السفر الرابع من التوراة : : إن الرب تبارك اسمه كلم موسى النبي في جبل سينا وفي قبة الأمد في أول يوم من الشهر الثاني في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر وقال الله : احص عدد جماعة بني إسرائيل كلها في قبائلهم .
كل ذكر من أبناء عشرين سنة إلى فوق ، كل من يخرج في الحرب ، وأحصهم أنت وأخوك هارون ، وليكن معكما من كل سبط رجل ويكون الرجل رئيساً في بيته ، ثم بين بعد ذلك أن كل رجل منهم يكون قائد جماعته ، ينزلون بنزوله حول قبة الزمان ويرحلون برحيله ، ويطيعونه فيما يأمر به ، ففعل موسى وهارون ما أمرهما الله به وانتدبوا اثني عشررجلاً كما أمر الله ، فمن سبط روبيل : إليصور بن شداور ، ومن سبط شمعون : سلوميل ين صور يشدي ، ومن سبط يهودا : نحسون بن عمينا ذاب ، ومن سبط إيشاخار : نتنائيل بن ضوغر ، ومن سبط زابلون : أليب بن حيلون ، ومن سبط يوسف من آل إفرائيم : إليسمع بن عميهوذ .
ومن سبط منشا : جماليال بن فداهصور - قلت : ومن شا هو ابن يوسف وهو أخو إفرائيم - ومن سبط بنيامين : أبيذان بن جدعوني ، ومن سبط دان : أخيعزر بن عميشدي ، ومن سبط آشير : فجعائيل بن عجرن ، ومن سبط جاد : إليساف بن دعوائيل ، ومن سبط نفتالي : أخيراع ابن عينان ؛ وسبط لاوي هم سبط موسى وهارون عليهما السلام لم يذكروا لأنهم كانوا لحفظ قبة الزمان ، فموسى وهارون عليهم كما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على قومه - كما سيأتي ، والمرة الثانية كانت ليجسّوا أمر بيت المقدس ، قال في أثناء هذا السفر : وكلم الرب موسى وقال له : أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل ، وليكون الذين ترسل رجلاً من كل سبط من رؤساء آبائهم ، فأرسلهم موسى من برية فاران عن قول الرب ، رجالاً من رؤساء بني إسرائيل ، وهذه أسماءه من سبط روبيل : ساموع بن ذكور ، ومن سبط شمعونن : سافاط بن حوري ، ومن سبط يهودا : كالاب بن يوفنا ، ومن سبط إيشاخار : إجال بن يوسف ، ومن سبط إفرائيم : هو ساع بن نون ، ومن سبط بنيامين : فلطي بن رافو ، ومن سبط زابلون : جدي إيل بن سودي ، ومن سبط يوسف من سبط منشا : جدي بن سوسي ، ومن سبط دان : عميال بن جملي ، ومن سبط آشير : ساتور بن ميخائيل ، ومن سبط نفتالي : نجني بن وفسي ، ومن سبط جاد : جوائل بن ماخي ؛ هؤلاء الذين أرسلهم وقتدم إليهم بالوصية .
وأما النصارى ففي إنجيل متى ما نصه : ودعا يعني عيسى عليه السلام .
تلاميذه الاثني عشر ، وأعطاهم سلطاناً على ميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض ؛ وفي إنجيل مرقس : وصعد إلى(2/413)
صفحة رقم 414
الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه ، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ، ولكي يرسلهم ليكروزا ، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين ؛ وفي إنجيل لوقا : ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وإشفاء المرضى ، وأرسلهم يكرزون مملكوت الله ويشفون الأوجاع ، وهذه أسماؤهم : شمعون المسمى بطرس ، وأندراوس أخوه ، ويعقوب بن زبدي ، ويوحنا أخوه - وقا في إنجيل مرقس : وسماهما باسم بوانرجس اللذين هما ابنا الرعد - وفيلبس ، وبرتولوماوي ، وتوما ، ومتى العَشّار ، ويعقوب بن حلفا ، وليا الذي يدعى بداوسن وقد اختلفت الأناجيل في هذا ، ففي إنجيل مرقس بدله : تدي ، وفي إنجيل لوقا : يهودا بن يعقوب ، ثم اتفوا : وشمعون القاناني - وفي إنجيل لوقا : المدعو الغيور - ويهودا الإسخريوطي الذي أسلمه .
وأما نقباء الإسلام فكانوا ليلة العقبة الأخيرة حين بايع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الأنصار رضي الله عنهم على الحرب وأن يمنعوه إذا وصل إلى بلدهم ، وقال لهم ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم كما اختار موسى من قومه ، وأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ، فقال لهم : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي ، قالوا : نعم ، وهذه اسماؤهم من الخزرج : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وسعد بن عبادة ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ، وعبادة بن الصامت ، والمنذر بن عمرو ؛ ومن الأوس : أسيد بن حضير ، وسعد بن خثيمة ، ورفاعة بن عبد المنذر ، وأبو الهيثم بن التيهان ، قال ابن هشام : وقال كعب بن مالك يذكرهم فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري وذكر أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة فقال :
أبلغ أبيّاً أنه قال رأيه وحان غداة الشعب والحين واقع أبى الله ما منتك نفسك إنه بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع وأبلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا بأحمد نور من هدى الله ساطع فلا ترغبن في حشد أمر تريده وألب وجمع كل ما أنت جامع ودونك فاعلم أن نقض عهودنا أباه عليك الرهط حين تبايعوا أباه البراء وابن عمرو كلاهما وأسعد يأباه عليك ورافع وسعد أباه الساعدي ومنذر لأنفك إن حاولت ذلك جادع(2/414)
صفحة رقم 415
وما ابن ربيع إن تناولت عهده بمسلمه لا يطمعن ثم طامع وأيضاً فلا يعطيكه ابن رواحة وإخفاره من دونه السم ناقع وفاء به والقوقلي بن صامت بمندوحة عما تحاول يافع أبو هيثم أيضاً وفى بمثلها وفاء بما أعطى من العهد خانع وما ابن حضير إن أردت بمطمع فهل أنت عن أحموقة الغي نازع وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه ضروح لما حاولت ملأمر مانع اولاك نجوم لا يغبك منهم عليك بنحس في دجى الليل طالع
فأما نقباء اليهود في جسّ الأرض فلم يوف منهم إلا اثنان - كما سيأتي قريباً عن بعض التوراة لاتي بين أيديهم ، وأما نقباء النصارى فنقض منهم واحد - كما مضى عند قوله تعالى : ( ) وما قتلوه وما صلبوه ( ) [ النساء : 157 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام عند قوله تعالى : ( ) لأنذركم به ومن بلغ ( ) [ الأنعام : 19 ] ، وأما نقباؤنا فكلهم وفي وبرّ بتوفيق الله وعونه فله أتم الحمد .
المائدة : ( 13 - 14 ) فبما نقضهم ميثاقهم. .. . .
) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( ( )
ولما ذكر سبحانه ما أخذ على اليهود من الميثاق ووعيده لهم إن كفروا بعد ذلك ، ذكر أنهم نقضوا مرة - كما تقدم في سورة البقرة وغيرها كثير منه عن نص ما عندهم من التوراة - فاستحقوا ما هم فيه من الخزي ، فقال تعالى مسبباً عما مضى مؤكداً بما النافية لضد ما أثبته الكلام : ( فبما نقضهم ميثاقهم ) أي بتكذيب الرسل الآتين من بعد موسى عليه السلام ، وقتلهم الأنبياء ، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم في كتمانهم أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وغير ذلك لا بغير ذلك كما نقض بنو النضير فسلطكم الله عليهم بما أشار إليهم في سورة الحشر ) لعناهم ) أي أبعدناهم بعد أنا وعدناهم القرب بالكون معهم إن وفوا .
ولما كان البعيد قد يكون رقيق القلب ، متأسفاً على بعده .
ساعياً في أسباب قربه ، باقياً على عافية ربه ، فيرجى بذلك له الغفران لذنبه .
أخبر أنهم على غير ذلك بقوله : ( وجعلنا ) أي بعظمتنا ) قلوبهم قاسية ) أي صلبة عاسية بالغش فهي غير قابلة للنصحية ، (2/415)
صفحة رقم 416
لأن الذهب الخالص يكون ليناً ، والمغشوش يكون فيه يبس وصلابة ، وكل لين قابل للصلاح بسهولة ، ثم بين قساوتها بما دل على نقضهم بقوله : ( يحرّفون الكلم ) أي يجدون كل وقت تحريفه ) عن مواضعه ( فإنهم كلما وجدوا شيئاً من كلام الله يشهد بضلالهم حرفوه إلى شهواتهم ، وأولوه التأويل الباطل بأهوائهم ، فهم يحرفون الكلم ومعانيها .
ولما كانوا قد تركوا أصلاً ورأساً ما لا يقدرون لصراحته على تحريفه ، قال معبراً بالماضي إعلاماً بحرمهم بالبراءة من ذلك : ( ونسوا حظاً ) أي نصيباً نافعاً معلياً لهم ) مما ذكروا به ) أي من التوراة على ألسنة أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم السلام ، تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية .
ولما ذكر سبحانه ما يفعلونه في حقه في كلامه الذي هو صفته ، أتبعه ما يعم حقه وحق نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) على وجه معلم أن الخيانة ديدنهم ، تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ولا تزال ) أي بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق ) تطلع ) أي تظهر ظهوراً بليغاً ) على خائنة ) أي خاينة عظيمة تستحق أن تسمي فاعلها الخؤون لشدتها و ) منهم ) أي في حقك بقصد الأذى ، وفي حق الله تعالى بإخفاء بعض ما شرعه لهم ) إلا قليلاً منهم ( فإنهم يكونون على نهج الاستقامة إما بالإيمان ، وإما بالوفاء وهم متمسكون بالكفر ، ثم سبب عن هذا الذي في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) قوله : ( فاعف عنهم ) أي امح ذنبهم ذلك اجترحوه ، وهو دون النقض والتحريف فلا تعاقبهم عليه .
ولما كان العفو لا يمنع المعاتبة قال : ( واصفح ) أي وأعرض عن ذلك أصلاً ورأساً ، فلا تعاتبهم عليه كما لم تعاقبهم ، فإن ذلك إحسان منك ، وإذا أحسنت أحبك الله ) إن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) يحب المحسنين ( وذلك - كما روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم وفي رواية للبخاري : إنه رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقاً - حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وذلك أشد السحر ، ثم إن الله تعالى شفاه وأعلمه أن السحر في بئر ذروان ، فقالت له عائشة رضي الله عنها : أفلا(2/416)
صفحة رقم 417
أخرجته ؟ فقال : لا ، أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شراً ، فأمر بها فدفنت ، وهو في معجم الطبراني الكبير - وهذا لفظه - ومسند أبي يعلى الموصلي وسنن النسائي الكبرى ومسند عبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : ( كان رجل يدخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار ، فأتاه ملكان يعودانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما : أتدري ما وجعه ؟ قال : فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري ، فلو أرسل إليه رجلاً لوجد الماء أصفر ، فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلّها فبرأ ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه ) وللشيخين عن أنس رضي الله عنه ( أن امرأة يهودية أتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشارة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك ، قال : ( ما كان الله ليسلطك على ذلك ( - أو قال : ( عليّ ( - قالوا : فلا تقتلها ؟ قال : ( لا ( ، قال : فما زلت أعرفها في لهوات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وفي رواية : إنها كانت سبب موت النبي صلى الله عيله وسلم بانقطاع أبهره الشريف مناه بعد سنين ( وفي سنن أبي داود من وجه مرسل أنه قتل اليهودية .
والأول هو الصحيح ، وسيأتي لهذا الحديث ذكر في هذه السورة عند
77 ( ) والله يعصمك من الناس ( ) 7
[ المائدة : 67 ] ، فهذا غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر الله سبحانه .
ولما دخل النصارى فيما مضى لأنهم من بني إسرائيل ، خصهم بالذكر لان كفرهم أشد وأسمج فقال : ( ومن الذين قالوا ) أي مسمين أنفسهم ملزمين لها النصرة لله ، مؤكدين قولهم رداً على من يرتاب فيه : ( إنا نصارى ) أي مبالغون في نصرة الحق ، فالتعبير بذلك دون ومن النصارى تنبيه على أنهم تسموا بما لم يفوا به ) أخذنا ) أي بما لنا من العظمة ) ميثاقهم ) أي كما أخذ على الذين من قبلهم .
ولما كان كفرهم في غاية الظهور والجلاء ، لم ينسبهم إلى غير الترك فقال : ( فنسوا ) أي تركوا ترك الناسي ) حظاً ) أي نصيباً عظيماً يتنافس في مثله ) مما ذكروا(2/417)
صفحة رقم 418
به ) أي في الإنجيل مما سبق لهم ذكره في التوراة من أوصاف نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وغير ذلك من الحقز ولما أدى ذلك إلى تشعبهم فرقاً ، فأنتج تشاحنهم وتقاطعهم وتدابرهم ، سبب عنه قوله : ( فأغرينا ) أي ألصقنا بعظمتنا إلصاق ما هو بالغراء لا ينفك بل يصير كجزء الشيء ) بينهم ) أي النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً مباينين بتفريق الدين ، وكذا بينهم وبين اليهود ) العداوة ( ولما كان العداوة قد تكون عن بغي ونحوه إذا زال زالت أو خفت ، قال معلماً أنها لأمر باطني نشأ من تزيين الهوى ، فهو ثابت غير منفك : ( والبغضاء ( بالأهواء المختلفة ) إلى يوم القيامة ( ولما أخبر بنكدهم في الدنيا ، أعقبه ما لهم في الأخرى فقال : ( وسوف ينبئهم ) أي يخبرهم ) الله ) أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً إخباراً بعظيم الشأن بما فيه من عظم التقريع والتوبيخ في الآخرة بوعيد لا خلف فيه ؛ ولما كانت خيانتهم قد صارت لهم فيها ملكات بما لازموا منها حتى ضربوا بها وتدربوا عليها ، حتى صارت لهم أحوالاً لأنفسهم وأخلاقاً لقلوبهم ، سماها صنائع فقال : ( بما كانوا يصنعون ) أي دربوا أنفسهم عليه حتى صار كالصنعة ، فيجازيهم عليه بما يقيم عليهم من الحجة .
المائدة : ( 15 - 16 ) يا أهل الكتاب. .. . .
) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ( )
ولما علم بذلك كله أحوال الفريقين ، أقبل عليهم واعظاً منادياً متلطفاً مستعطفاً مرغباً مرهباً فقال : ( ياأهل الكتاب ) أي عامة ) قدجاءكم رسولنا ) أي الذي أسلناه مما لنا من العظمة فليظهرن بذلك على من ناواه ) يبين لكم ) أي يوضح إيضاحاً شافياً ) كثيراً مما كنتم ) أي بما لكم من جبلة الشر والخيانة ) تخفون من الكتاب ) أي العظيم المنزل عليكم ، من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وحكم الزنا وغيرهما ، لإحياء سنة وإماتة بدعة - كما مضى منه ما شاء الله في سورة البقرة ، وذلك دال بلا شبهة على صحة رسالته ) ويعفوا عن كثيراً ) أي فلا يفضحكم بإظهاره امتثالاً لأمرنا له بذلك - كما تقدم أنه إحسان منه ( صلى الله عليه وسلم ) إليكم ، لأنه لا فائدة في إظهاره إلا فضيحتكم .
ولما أخبر عن فصله للخفايا ، وكان التفصيل لا يكون إلا بالنونر ، اقتضى الحال(2/418)
صفحة رقم 419
توقع الإخبار بأنه نور ، فقال مفتتحاً بحرف التوقيع والتحقيق : ( قد جاءكم ( وعظمه بقوله معبراً بالاسم الأعظم : ( من الله ) أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ) نور ) أي واضح النورية ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي كشف ظلمات الشك والشرك ، ودل على جمعه مع فرقه بقوله : ( وكتاب ) أي جامع ) مبين ) أي بين في نفسه ، مبين لما كان خافياً على الناس من الحق .
ولما كانت هدايته مشروطة بشرط صلاح الجبلة ، بين ذلك بقوله واصفاً له : ( يهدي به ) أي الكتاب ) الله ) أي الملك الأعظم القادر على التصرف في البواطن والظواهر ) من اتبع ) أي كلف نفسه وأجهدها في الخلاص من أسر الهوى بأن تبع ) رضوانه ) أي غاية ما يرضيه من الإيمان والعمل الصالح ، ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه ، ثم ذكر مفعول ) يهدي ( فقال : ( سبل ) أي طرق ) السلام ) أي الله ، باتباع شرائع دينه والعافية والسلامة من كل مكروه ) وخرجهم من الظلمات ) أي كدورات النفوس والأهواء والوساس الشيطانية ) إلى النور ) أي الذي دعا إليه العقل فيصيروا عاملين بأحسن الأعمال كما يقتضيه اختيار من هو في النور ) بإذنه ) أي بتمكينه .
ولما كان من في النور قد يغيب عنه غرضه الأعظم فلا ينظره لغيبته عنه ببعده منه ، وتكثر عليه الأسباب فلا يدري أيها الوصف أو يقرب إيصاله ويسهل أمره ، قال كافلاً لهم بالنور مريحاً من تعب السير : ( ويهديهم ) أي بما له من إحاطة العلم والقدرة ) إلى صراط مستقيم ) أي طريق موصل إلى الغرض من غير عوج أصلاً ، وهو الدين الحق ، وذلك مقتض للتقرب المستلزم لسرعة الوصول .
المائدة : ( 17 - 18 ) لقد كفر الذين. .. . .
) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ( )
ولما تم ذلك موضحاً لأن من لم يتبع الكتاب الموصوف كان كافراً وعن الطريق الأمم جائراً حائراً ، وكان محصل حال اليهود كما رأيت فيما تقدم ويأتي من نصوص التوراة - أنهم لا يعتقدون على كثرة ما يرون من الآيات أن الله مع نبيهم دائماً ، وكان أنسب الأشياء بعد الوعظ أن يذكر حال النصارى في نبيهم ، فإنه مباين لحال اليهود من(2/419)
صفحة رقم 420
كل وجه ، فأولئك على شك في أنه معه ، وهؤلاء اعتقدوا أنه هو ، فقال تعالى مبيناً أنهم في أظلم الظلام وأعمى العمى : ( لقد ( أو يقال : إن اليهود لما فرطوا فكفروا ، أفهم ذلك أن النصارى لما أفرطوا كفروا ، فصار حالهم كالنتيجة لما مضى فقال : لقد ) كفر الذين قالوا ( مؤكدين لبعد ما قالوه من العقل فهو في غاية الإنكار ) إن الله ) أي على ما له من جميع صفات الكمال التي لا يجهلها من له أدنى تأمل إذا ترجى الهدى وانخلع من أسر الهوى ) هو المسيح ) أي عينه ، وهو أقطع الكفر وأبينه بطلاناً ، ووصفه بما هو في غاية الوضوح في بطلان قولهم لبعده عن رتبة الألوهية في الحاجة إلى امرأة فقال : ( ابن مريم ( فهو محتاج إلى كفالتها بما لها من الأمومة .
ولما بطل مدعاهم على أتقن منهاج وأخصره ، وكان بما دق على بعض الأفهام ، أوضحه بقوله : ( قل ( دالاً على أن المسيح عليه السلام عبد مملوك لله ، مسبباً عن كفرهم ) فمن يملك من الله ) أي الملك الذي له الأمر كله ) شيئاً ) أي من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد ، بحيث يصير ذلك المملوك أحق به منه ولا ينفذ له فيه تصرف ) إن أراد ) أي الله سبحانه ) أن يهلك المسيح ( وكرر وصفه بالنوبة إيضاحاً للمراد فقال : ( ابن مريم ( وأزال الشبهة جداً بقوله : ( وأمه ( ولما خصهما دليلاً على ضعفهما المستلزم للمراد ، عم دلالة على عموم القدرة المستلزم لتمام القهر لكل من يماثلهما المستلزم لعجز الكل المبعد من رتبة الإهلية ، فقال موضحاً للدليل بتسويتهما ببقية المخلوقات : ( ومن في الأرض جميعاً ) أي فمن يملك منعه من ذلك .
ولما كان التقدير : فإ ، ذلك كله لله ، يهلكه كيف شاء متى شاء ، عطف عليه ما هو أعم منه ، فقال معلماً بأنه - مع كونه مالكاً مَلِكاً - له تمام التصرف : ( والله ) أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ) ملك السموات ) أي التي بها قيام الأرض ) والأرض وما بينهما ) أي ما بين النوعين وبين أفرادهما ، بما به تمام أمرهما ؛ ثم استأنف قوله دليلاً على ما قبله ونتيجة له : ( يخلق ما يشاء ( على أي كيفية أراد - كما تقدم أن له أن يعدم ما يشاء كذلك ، فلا عجب في خلقه بشراً من أنثى فقط ، لا بواسطة ذكر ، حتى يكون سبباً في ضلال من ضل به ، ولما دل ذلك على تمام القدرة على المذكور عم فقال : ( والله ) أي ذو الجلال والإكرام ) على كل شيء ) أي من ذلك وغيره ) قدير ( ولما عم سبحانه في ذكر فضائح بني إسرائيل تارة ، وخص أخرى ، عم بذكر طامة من طوامهم ، حملهم عليها العجب والبطر بما أنعم الله به عليهم ، فقال : ( وقالت اليهود والنصارى ) أي كل طائفة قالت ذلك على حدتها خاصة لنفهسا دون الخلق أجمعين ) نحن أبناؤا الله ) أي بما هو ناظر إلينا به من جميع صفات الكمال ) وأحباؤه ( أي(2/420)
صفحة رقم 421
غريقون في كل من الوصفين - كما يدل عليه العطف بالواو ، ثم شرع ينقض هذه الدعوى نقضاً بعد نقض على تقدير كون البنوة على حقيقتها أو مجازها ، والذي أورثهم هذه الشبهة - إن لم يكونوا قالوا ذلك عناداً - أن في موضع من التوراة عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام : شعبي بكري ، وقال في أول نبوة موسى عليه السلام - كما ذكرته في الأعراف : وقل لفرعون : هكذا يقول الرب : ابني بكري إسرائيل أرسل ليعبدني ، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكرك - ونحو هذا ؛ وفي كثير مما بين أيديهم من الإنجيل عن قول عيسى عليه السلام : افعلوا كذا لتكونوا بني أبيكم الذي في السماء - ونحو ذلك ، وقد بينت معناه على تقدير صحته بما يوجب رده إلى المحكم بلا شبهة في أول سورة آل عمران ؛ قال البيضاوي في أول سورة الكهف : إنهم كانوا يطلقون الأب والابن في تلك الأديان بمعنى المؤثر والأثر ، وقال في البقرة في تفسير
77 ( ) بديع السموات ( ) 7
[ البقرة : 117 ] : أنهم كانوا يطلقون الأب على اله باعتبار أنه السب الأصلي ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فلذاك كفر قائله ومنع منه منعاً مطلقاً انتهى .
فأول نقض نقض به سبحانه وتعالى هذه الدعوى بيان أنه يعذبهم فقال : ( قل فلم يعذبكم ) أي إن كنتم جامعين بين كونكم أبناء وأحباء بين عطف النبوة وحنو المحبة ) بذنوبكم ( وعذابهم مذكور في نص توراتهم في غير موطن ومشهور في تواريخهم بجعلهم قردة وخنازير وغير ذلك ، أي فإن كان المراد بالبنوة الحقيقة فابن الإله لا يكون له ذنب فضلاً عن أن يعذب به ، لأن الابن لا يكون إلا من جنس الأب - تعالى الله عن النوعية والجنسية والصاحبة والولد علواً كبيراً وإن كان المراد المجاز ، أي بكونه يكرمكم إكرام الولد والحبيب ، كان ذلك مانعاً من التعذيب .
ولما كان معنى ذلك أن يعذذبكم لأنكم لستم أبناء ولا أبحاء ، عطف عليه نقضاً آخر أوضح من الأول فقال : ( بل أنتم بشر ممن خلق ( وذلك أمر مشاهد ، والمشاهدات من أوضح الدلائل ، فأنتم مساوون لغيركم في البشرية والحدوث ، لا مزية لأحد منكم على غيره في الخلق والبشرية ، وهما يمنعان البنوة ، فإن القديم لا يلد بشراً ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوصفين البنوة ، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ؛ فبطل الوصفان اللذان ادعوهما .
ولما كان التقدير : يفعل بكم ما يفعل بسائر خلقه ، وصل به قوله جواباً لمن يقول : وما هو فاعل بمن خلق ؟ : ( يغفر لمن يشاء ) أي من خلقه منكم ومن غيركم فضلاً منه تعالى ) ويعذب من يشاء ( عدلاً كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين(2/421)
صفحة رقم 422
ولما كان التقدير : لأنه مالك لخلقه وملكهم لا اعتراض عليه في شيء من أمره ، عطف عليه قوله نقضاً ثالثاً بما هو أعم مما قبله فقال : ( ولله ) أي الذي له الأمر كله ، فلا كفوء له ) ملك السموات ( وقدمها لشرفها دلالة على ملك غيرها من باب أولى ، وصرح بقوله : ( والأرض وما بينهما ) أي وأنتم مما بينهما ، وقد اجتمع بذلك مع المُلكِ والإبداعِ المِلكُ والتصريف والتصريف التام ، وذلك هو الغنى المطلق ، ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء من ولد ولا غيره ، ولا يكون لأحد عليه حق ، ولا يسوغ عليه اعتراض .
ولما كان التقدير : فمنه وحده الابتداء ، عطف عليه قوله : ( وإليه ) أي وحده ) المصير ) أي الصيرورة والرجوع وزمان ذلك ومكانه معنى في الدنيا بأنه لا يخرج شيء عن مراده ، وحساً في الآخرة ، فيحكم بين مصنوعاته على غاية العدل - كما هو مقتضى الحكمة وشأن كل ملك في إقامة ملكه بإ ، صاف بعض عبيده من بعض ، لا يجوز عنده في موجب السياسة إطلاق قويهم على ضعيفهم ، فإن ذلك يؤدي إلى خراب الملك وضعف الملك ، فإذا كان هذا شأن الملوك في العبيد الناقصين فما ظنك بأحكم الحاكمين فإذا عاملهم كلهم بالعدل أسبغ على من يريد ملابس الفضل .
المائدة : ( 19 ) يا أهل الكتاب. .. . .
) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ( )
ولما دحضت حجتهم ، ووضحت أكذوبتهم ، اقتضى ذلك الالتفات إلى وعظهم على وجه الامتنان عليهم وإبطال ما عساهم يظنونه حجة ، فقال تعالى : ( يا أهل الكتاب ) أي من الفريقين ؛ ولما كان ما حصل لهم من الضلال بتضييع ما عندهم من البينات وتغييرها ما لا يتوقع معه الإرسال ، قال معبراً بحرف التوقع : ( قد جاءكم رسولنا ) أي الذي عظمته من عظمتنا ، فإعظامه وإجلاله واجب لذلك ، ثم بين حاله مقدماً له على متعلق جاء بياناً لأنه أهم ما إلى الرسل إليهم إرشاداً إلى قبول كل ما جاء به بقوله : ( يبين لكم ) أي يوقع لكم البيان في كل ما ينفعكم بياناً شافياً لما تقدم وغيره .
ولما كان مجيئه ملتبساً ببيانه وظرفاً له غير منفك عنه ، وكان بياناً مستعلياً على وقت مجيئه وما مضى قبله وما يأتي بعده ببقاء كتابه ، محفوظاً لعموم دعوته وختامه وتفرده ، فلا نبي بعده ، قال معلقاً بجاء : ( على فترة ) أي طويلة بالنسبة إلى ما كان يكون بين النبيِّين من بني إسرائيل ، مبتدئة تلك الفترة ) من الرسل ) أي انقطاع من مجيئهم ، شُبِّه فقدهم وبُعْد العهد بهم ونسيان أخبارهمم ، وبلاء رسومهم وآثارهم ، (2/422)
صفحة رقم 423
وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يفنى ففتر ، لم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثر خاف ورسم دارس ، يقال : فتر الشيء - إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه و ذلك لأنه كان بين عيسى وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ستمائة سنة فسد فيها أمر الناس ، ولعله عبر بالمضارع في يبين إشارة إلى أن دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه ، فكلما درست سنة منح الله بعالم يرد الناس إليها بالكتاب المعجز القائم أبداً ، فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبي مجدد إلا عند الفتنة التي لا يطيقها العلماء ، وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج ، ثم علل ذلك بقوله : ( أن ) أي كراهة أن ) تقولوا ) أي إذا حشرتم وسئلتم عن أعمالكم ) ما جاءنا ( ولتأكيد النفي قيل : ( من بشير ( اي يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز ) ولا نذير ) أي يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم ، لأن الإنسان موزَّع النقصان بين الرغبة والرهبة ، وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل فالتبس الأمر وجهل الحال ، لكنه لم يجهل جهلاً يحصل به عذر في الشرك ، وسأبينه في أول ص .
ولما كان المعنى : فلا تقولوا ذلك ، سبب عنه قوله : ( فقد جاءكم ) أي من هو متصف بالوصفين معاً فهو ) بشير ونذير ) أي كامل في كل من الوصفين وإن تباينا ؛ ولما كان ربما كان توهم أحد من ترك الإرسال زمن الفترة ، ومن ترك التعذيب بغير حجة الإرسال ، وبالعدول عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل شيئاً في القدرة ، قال كاشفاً لتلك الغمة : ( والله ) أي جاءكم والحال أن الملك الذي له الكمال كله ) على كل شيء ) أي من أن يرسل في كل وقت وأن يترك ذلك ، وأن يهدي بالبيان وأن يضل ، ومن أن يعذب ولا يقبل عذراً وأن يغفر كل شيء وغير ذلك ) قدير ( وفي الختم بوصف القدرة واتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك بعدما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبي يلزم منه إنكارهم للقدرة .
المائدة : ( 20 - 21 ) وإذ قال موسى. .. . .
) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( ( )
ولما ذكر سعة مملكته وتمام علمه وشمول قدرته أتبع ذلك الدلالة عليه بقصة بني إسرائيل في استنقاذهم من أسر العبودية والرق وإعلاء شأنهم وإيراثهم بعد إهلاك فرعون وجنوده وغير ذلك مما تضمنته القصة ، إظهاراً - بعدم ردهم إلى مصر التي باد أهلها - لتمام القدرة وسعة الملك ونفوذ الأمرن وهي مع ذلك دالة على نقضهم الميثاق وقساوتهم ونقض ما ادعوه من بنوتهم ومحبتهم ، وذلك أنها ناطقة بتعذيبهم(2/423)
صفحة رقم 424
وتفسيقهم وتبرئهم من الله ، ولا شيء من ذلك فعل حبيب ولا ولد ، فقال عاطفاً على نعمة في
77 ( ) واذكروا نعمة الله عليكم ( ) 7
[ المائدة : 7 ] تذكيراً لهذه الأمة بنعمة التوثيق للسمع والطاعة التي أباها بنو إسرائيل بعدما رأوا من الآيات ، وبما كف عنهم على ضعفهم وشجع به قلوبهم ، وألزمهم الطاعة وكره إليهم المعصية بضد ما فعل ببني إسرائيل - وغير ذلك مما يرشد إليه إنعام النظر في القصة : ( وإذ ) أي واذكروا حين ) قال موسى لقومه ) أي من اليهود ) يا قوم اذكروا ) أي بالقلب واللسان ، أي ذكر اعتبار واتعاظ بما لكم من قوة القيام بما تحاولونه ليقع منكم الشكر ) نعمة الله ) أي إنعام الملك الأعظم الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام ، وعبر عن الإنعام بالغاية لأنها المقصود ) عليكم ( وعظم ذلك التذكير بالاسم الأعظم ، ونبه بذكر ظرفها على أجل النعم ، وهي النبوة المنقذة لهم من النار فقال : ( إذ ) أي حين ) جعل فيكم ( وبشرهم بمن يأتي بعده من الأنبياء من بني غسرائيل فجمع جمع الكثرة في قوله : ( أنيباء ) أي يحفظونكم من المهالك الدائمة ، ففعل معكم - بذلك وغيره من النعم التي فضلكم بها على العالمين في تلك الأزمان - فعل المحب مع حبيبه والوالد مع ولده ، ومع ذلك عاقبكم حين عصيتم ، وغضب عليكم إذ أبيتم ، فعلم أن الإكرام والإهانة دائران بعد مشيئته على الطاعة والمعصية .
ولما نقلهم من الحيثية التي كانوا فيها عبيداً لفرعون ، لا يصلحون معها لملك ، ولا تحدثهم أنفسهم به ، إلى حيثية الحرية القابلة لأن يكون كل منهم معها ملكاً بعد أن أرسل فيهم رسولاً وبشر بأنه يتبعه من الأنبياء ما لم يكن في أمة من الأمم غيرهم ، قال : ( وجعلكم ملوكاً ) أي فكما جعلكم كذلك بعد ما كنتم غير طامعين في شيء منه ، فقد نقله منكم وجعله في غيركم بتلك القدرة التي أنعم عليكم بها ، وذلك لكفركم بالنعم وإيثاركم الجهل على العلم ، فإنكاركم لذلك وتخصيص النعم بكم تحكم وترجيح بلا مرجح ، ويوضح ذلك أن كفر النعمة سبب لزوالها ، وقد كانوا يهددون في التوراة وغيرها بما هم فيه الآن من ضرب الذلة والمسكنة التي لا يصلحون معها لملك إن هم كفروا .
كما سيأتي بعض ذلك في هذه السورة .
ولما ذكرهم تعالى بما ذكرهم به من النعم العامة ، أتبعه التذكير بنعمة خاصة فقال : ( وآتاكم ما لم يؤت ) أي في زمانكم ولا فيما قبله من سالف الزمان - كما اقتضاه التعبير بلم ) أحداً من العالمين ( نم الآيات التي أظهرها على يد موسى عليه السلام ، فأخرجكم بها من الظلمات إلى النور ، والكتاب الذي جعله تبياناً لكل شيء ؛ ثم أتبعه ما يقيد به هذه النعم من الشكر بامتثال الأمر في جهاد الأعداء في سياق مؤذن بالنصر معلم(2/424)
صفحة رقم 425
بأنه نعمة أخرى يجب شكرها ، فلذلك وصله بما قبله وصل المعلول بالعلة فقال : ( ياقوم ادخلوا ( عن أمر الله الذي أعلمكم بما صنع من الآيات أنه غالب على جميع أمره ) الأرض المقدسة ) أي المطهرة المباركة التي حكم الله أن يطهرها بأنبيائه ورسله من نجس الشرك وضر المعاصي والإفك ، ويبارك فيها ، ثم وصفها بما يوجب للؤمن الإقدام لتحققه النصر فقال : ( التي كتب الله ) أي الذي له الأمر كله فلا مانع لما أعطى ) لكم ) أي بأن تجاهدوا أعداءه فترثوا أرضهم التي لا مثل لها ، فتحوزوا سعادة الدارين ، وهي بيت المقدس والتي وعد أباكم إبراهيم عليه السلام أن تكون ميراثاً لولده بعد أن جعلها مهاجرة .
ولما أمرهم بذلك نهاهم عن التقاعد عنه ، فقال مشيراً إلى أن مخالفة أمر الله لا تكون إلا بمعالجة للفطرة الأولى : ( ولا ترتدوا ) أي تكلفوا أنفسكم الرجوع عن أخذها ، وصوَّر لهم الفتور عن أخذها بما يستحيي من له همة من ذكره فقال : ( على أدباركم ( ولما جمع بين الأمر والنهي ، خوفهم عواقب العصيان معلماً بأن ارتدادهم سبب لهلاكهم بغير شك ، فقال معبراً بصيغة الانفعال : ( فتنقلبوا ) أي من عند أنفسكم من غير قالب يسلط عليكم ) خاسرين ) أي بخزي المعصية عند الله وعار الجبن عن الناس وخيبة السعي من خيري الدارين .
المائدة : ( 22 - 26 ) قالوا يا موسى. .. . .
) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( ( )
ولما كان هذا السياق محركاً للنفس إلى معرفة جوابهم عنه ، أورده على تقدير سؤال من كأنه قال : إن هذا لترغيب مشوق وترهيب مقلق ، فما قالوا في جوابه ؟ فقال : ( قالوا ( معرضين عن ذلك كله بهمم سافلة وأحوال نازلة ، مخاطبين له باسمه جفاء وجلافة وقلة أدب ) يا موسى ( وأكدوا قولهم تأكيد من هو محيط العلم ، فقالوا مخاطبين بجرأة وقلة حياء لأعلم أهل زمانه : ( إن فيها ) أي دون غيرها ) قوماً جبارين ) أي عتاة قاهرين لغيرهم مكرهين له على ما يريدون ) وإنا لن ندخلها ( خوفاً منهم ) حتى(2/425)
صفحة رقم 426
يخرجوا منها ( ثم صرحوا بالإتيان بالجملة الاسمية المؤكدة بتهالكهم على الدخول وأنه لا مانع لهم إلا الجبن فقالوا : ( فإن يخرجوا منها ) أي بأي وجه كان ، وعبروا بأداة الشك مع إعلام الله لهم بإهلاكهم على أيديهم جلافة منهم وعراقة طبع في التكذيب ) فإنا داخلوا ( فكأنه قيل : إن هذه لسقطة ما مثلها ، فما اتفق لهم بعدها ؟ فقيل : ( قال رجلان ( وأشار إلى كونهما من بني إسرائيل بقوله ذماً لمن تقاعس عن الأمر منهم : ( من الذين يخافون ) أي يوجد منهم الخوف من الجبارين ، ومع ذلك فلم يخافا وثوقاً منهما بوعد الله ، ولما كان بنو إسرائيل أهلاً لأن يخافهم من يقصدونهم بالحرب لأن الله معهم بعونه ونصره ، قرىء : يخافون - مبيناً للمفعول ) أنعم الله ) أي بما له من صفات الكمال ) عليهما ) أي بالثبيت على العمل بحق النقابة ، وهما يوشع بن نون وكالاب بن يوفنا - كما أنعم عليكم أيها العرب وخصوصاً النقباء بالثبات في كل موطن ) ادخلوا عليهم الباب ) أي باب قريتهم امتثالاً لأمر الله وإيقاناً بوعده .
ولما كانا يعلمان أنه لا بد من دخولهم عليهم وإن تقاعسوا وإن طال المدى ، لأن الله وعد بنصرهم عليهم ووعده حقن عبرا بأداة التحقيق خلاف ما مضى لجماهيرهم فقالا : ( فإذا دخلتموه ( ثم أكد خبرهما إيقاناً بوعد الله فقالا : ( فإنكم غالبون ) أي لأن الملك معكم دونهم ) وعلى الله ) أي الملك الأعظم الذي وعدكم بإرثها وحده ) فتوكلوا ) أي لا على عُدة منكم ولا عِدة ولا حول ولا قوة .
ولما كان الإخلاص يلزمه التوكيل وعدم الخوف من غير الله ، ألهمهم بقوله ؛ ) إن كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) مؤمنين ) أي عريقين في الإيمان بنبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) والتصديق بجميع ما أتى به ، فكأنه قيل : لقد نصحا لهم وبرّا ، واجتهد في إصلاح الدين والدنيا فما خدعا ولا غرّا ، فما قالوا ؟ فقيل : لم يزدهم ذلك إلا نفاراً واستضعافاً لأنفسهم لإعراضهم عن الله واستصغاراً لأنهم ) قالوا ( معرضين عمن خاطباهم غيرعادين لهما ) يا موسى ( وأكدوا نفيهم للإقدام عليهم بقولهم : ( إنا ( وعظموا تأكيدهم بقولهم : ( لن ندخلها ( وزادوه تأكيداً بقولهم : ( أبداً ( وقيدوا ذلك بقولهم : ( ما دواموا ) أي الجبابرة ) فيها ) أي لهم اليد عليها ، ثم اتبعوه بما يدل على أنهم في غاية الجهل بالله الفعال لما يريد .
الغني عن جميع العبيد ، فقالوا مسببين عن نفيهم ذلك قولهم : ( فاذهب أنت وربك ) أي المحسن إليك ، فلم يذكروا أنه أحسن إليهم كثافة طباع وغلظ أكباد ، بل خصوه بالإحسان ، وهذا القول إن لم يكن قائلوه يعتقدون التجسي فهم مشارفون له ، وكذلك أمثاله ، وكان اليهود الآن عريقين في التجسيم ، ثم سببوا عن الذهاب قولهم : ( فقاتلا ( ثم استأنفوا قولهم مؤكدين لأ ، من له طبع سليم وعقل مستقيم لا يصدق أن(2/426)
صفحة رقم 427
أحداً يتخلف عن أمر الله لا سيما إن كان بمشافهة الرسول : ( إنا هاهنا ) أي خاصة ) قاعدون ) أي لا نذهب معكما ، فكان فعلهم فعل من يريد السعادة بمجرد ادعاء الإيمان من غير تصديق له بامتحان بفعل ما يدل على الإيقان ؛ روى البخاري في المغازي والتفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( قال المقداد بن عمرو يوم بدر : يا رسول الله لا نقول كما قال قوم موسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ( ولكن امضى ونحن معك ، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ، فرأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أشرق وجهه وسرَّه ) فكأنه قيل : فما قال موسى عليه السلام ؟ فقيل : ( قال ( لما أيس منهم معرضاً عنهم شاكياً إلى الله تعالى ) رب ) أي أيها المحسن إليّ .
ولما كان من حق الرسول أن يقيه كل أحد بنفسه وولده فكيف بما دون ذلك ، فكان لا يصدق أحد أ ، أتباعه لا يطيعونه ، جرى على طبع البشر وإن كان يخاطب علام الغيوب قال مؤكداً : ( إني ( ولما فهم من أمر الرجلين لهم بالدخول أنهما قيّدا دخولهما بدخول الجماعة ، خص في قوله : ( لا أملك إلا نفسي وأخي ) أي ونحن مطيعان لما تأمر به ) فافرق بيننا ) أي أنا وأخي ) وبين القوم الفاسقين ) أي الخارجين عن الطاعة قولاً وفعلاً ، ولا تجمعنا معهم في بين واحد ، في فعل ولا جزاء ) قال فإنها ) أي الأرض المقدسة ) محرمة عليهم ) أي بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم ، لا يدخلها ممن قاله هذه المقالة أو رضهيا أحد ، بل يمكثون ) أربعين سنة ( ثم استأنف جواباً لمن تشعب فكره في تعرف حالهم في هذه الأربعين ومحلهم من الأرض قوله : ( يتيهون ) أي يسيرون متحيرين ) في الأرض ( حتى يهلكوا كلهم ، والتيه : المفازة التي يحير سالكها فيضل عن وجه مقصده ، روي أنهم أقاموا هذه المدة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين ، ثم يمشون في الموضع الذي ساروا منه ، ثم سبب عن إخباره بعقوبتهم قوله : ( فلا تأس ) أي تحزن حزناً مؤيساً ) على القوم ) أي الأقوياء الأبدان الضعفاء القلوب ) الفاسقين ) أي الخارجين من قيد الطاعات ، ثم بعد هلاكهم أدخلها(2/427)
صفحة رقم 428
بينهم الذين نشأوا في التيه لسلامتهم من اعوجاج طباعهم التي ألبستهم إياها بلاد الفراعنة ، فإني كتبتها لبني إسرائيل ، ولم أخبر بتعيينهم - وإن كانوا معينين في علمي - كما اقتضت ذلك حكمتي ؛ وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ( إلى أن قال :
77 ( ) وآمنتم برسلي وعزرتموهم ( ) 7
[ المائدة : 12 ] وفي ذلك تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يفعلونه معه ، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم وترهيب لمن عصى ، ومات في تلك الأربعين كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة ، وكان الغمام يظلهم من حر الشمس ، ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء هاهنا عليهم - وغير هذا من النعم ، لأن المنع بالتيه كان تأديباً لهم لا غضباً فإنهم تابوا .
شرحُ هذه القصة ما بين أيديهم من التوراة وذكرُ بعض ما عذبهم فيه بذنوبهم ، قال في السفر الرابع منها : وكلم الرب موسى وقال له : أرسل قوماً يجسون الأرض التي أعطى بني إسرائيل ، فأرسلهم موسى من برية فاران رجالاً من رؤساء بني إسرائيل - اثني عشر رجلاً - فيهم كالاب بن يوفنا وهو ساع بن نون ، ودعا موسى هوساع بن نون يوشع ، وأرسلهم ليستخبروا أرض كنعان وقال لهم : اعرفوا خبر الشعب الذي بها ، أقوي هو أم ضعيف ؟ أكثير هو أم قليل ؟ وما خبر الأرض التي هم فيها ، أمخصبة أم لا ؟ أفيها شجر أم لا ؟ وفي نسخة : وما المدن التي يسكنونها ؟ وإن كانت محوَّطاً عليها أم لا ؟ وتقووا وخذوا من ثمار الأرض ؛ فصعدوا فاستخبروا الأرض ، وأخذوا من برية صين حتى انتهوا إلى راحوب التي في مدخل حمات ، وصعدوا إلى التيمن فأتوا حبران - وفي نسخة : حبرون - وكان بها بنو الجبابرة ، ثم أتوا وادي العنقود وقطعوا قضيباً من الكرم فيه عنقود عنب ، فحمله رجلان بأسطار ، ودعوا اسم ذلك الموضع وادي العنقود من أجل ذلك ، وأخذوا من الرمان والتين أيضاً ، ورجعوا إلى موسى بعد أربعين ليلة إلى برية فاران إلى رقيم ، وأخبروا موسى والجماعة كلها خبر الأرض وقالوا : انطلقنا فإذا الأرض تغل اللبن والعسل وهذه ثمارها ، ولكن الشعب الذي في الأرض عزيز قوي ، وقراهم كبار مشيدة ، ورأينا ثَمّ بني الجبابرة ، ثم ذكر أن الكنعانيين على ساحل البحر إلى نهر الأردن ، قالوا : وكنا عندهم مثل الجراد ، كذلك رأينا أنفسنا ، فضجت الجماعة كلها ورفعوا أصواتهم بالبكاء ، وبكوا في تلك الليلة بكاء شديداً ، وتذمر جميع بني إسرائيل على موسى وهارون في ذلك اليوم وضجوا عليهما ، وقال لهما محافل بني إسرائيل كلها : يا ليتنا متنا بأرض مصر على يدي الرب ، وليتنا متنا في هذه البرية ولا يدخلنا الرب إلى الإرض(2/428)
صفحة رقم 429
التي نصرع فيها قتلاً وتنتهب مواشينا وأهلونا كان المنون بأرض مصر خيراً لنا ، وقال كل امرىء منهم لأخيه : اجتمعوا حتى نصيّر علينا رئيساً ، ونرجع إلى أرض مصر ، فخر موسى وهارون على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها ، فأما يشوع ابن نون وكالاب بن يوفنا اللذان كانا من الجواسيس فقالا : الأرض مخصبة جداً ، فإن شاء الرب دفعها إلينا ، فهي أرض تغل السمن والعسل ، فلا تعصوا الرب ولا تفتتنوا ولا تخافوا شعب هذه الأرضن لأن أهلها مبذولون لنا مثل الطعام للأكل ، واعلموا أن قويهم سيضعف وتزول عنهم شدتهم ، ونحن الغالبون لأن الرب معنا ، فلا تفرقوا منهم ، وظهر مجد الرب بالسحابة في قبة لازمان تجاه بني إسرائيل ، وقال الرب لموسى : إلى متى يسخطني هذا الشعب ؟ وكم إلى كم لا يصدقونني ؟ ألم يروا جميع الآيات التي أتيتهم بها ؟ سأضربهم بالموت وأهلكهم ، وأصيرك الشعب أعظم من هذا وأعزّ منهم ، فقال موسى أمام الرب : يسمع أهل مصر الذين أخرجت هذا الشعب من بينهم بقوتك ، ويقول لسكان هذه الأرض أيضاً الذين سمعوا أنك رب هذا الشعب ، فإن أنت قتلت هذا الشعب جميعاً كرجل واحد تقول الشعوب التي بلغها خبرك : إن الرب لم يقدر أن يدخل هذا الشعب الأر ضالتي كان وعد إياهم ، فلذلك قتلهم في البرية ، فلتعظم قوتك الآن يا رب كما وعدت وقلت يا رب أنت ذو المودة والنعمة ، تغفر الإثم والخطايا ، وتزكي من ليس بمزكي ، اغفر يا رب كما غفرت لهم مذ خرجوا من أرض مصر إلى الآن فقال الرب لموسى : قد غفرت لهم لقولك ولكني حي قيوم ، أقسم بذلك وبمجدي الذي امتلأت الأرض لكها منه أن جميع الرجال الذين عاينوا مجدي والآيات التي أظهرت لهم بمصر والفضاء ، وجربوني عشر مرات ، ولم يطيعوني ولم يقبلوا قولي ، لا يعاينون الأرض التي أقسمت لآبائهم أني أعطيهم ، ولا يدخلها أحد من الذين أغضبوني ، فأقبولا غداً وارتحلوا إلى طريق بحر سوف ؛ وقال الرب : إلى متى تغفرُ هذه الجماعة الرديئة بين يدي ؟ فبي أقسم أنكم تصيرون إلى ما قلتم ، وكما فكرتم ذلك يصيبكم في هذه البرية ، فتسقط جثثكم فيها وتبلى أجسادكم ويهلك كل عددكم وحسابكم من ابن عشرين سنة إلى فوق ، لأنكم تشوشتم وتذمرتم عليّ ، لا تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأنزلكم فيها ، لوا يدخلها إلا كالاب بن يوفنا ويوشع بن نون ، وأما مواشيكم التي قلتم : إنها تنتهب ، وبنوكم الذين لا يعلمون لاخير من لاشر فهم يدخلون الأرض وأصيّرهم إليها وأورثهم الأرض ، فأما جيفكم فتسقط وتبلى في هذه البرية .
وتمكث بنوكم يترددون في هذه المفازة أربعين سنة ، يعاقبون حتى تهلك جثثكم في هذه البرية على عدد الأيام التي اجتس الجواسيس الأرض فيها ، لكل يوم سنة ، وتعاقبون بإثمكم ، (2/429)
صفحة رقم 430
لكل يوم سنة ، أربعين سنة لأربعين يوماً ، فتعلمون أني إنما فعلت ذلك لتذمركم بين يدي ، أنا الرب قلت : كذلك أصنع بهذه الجماعة الرديئة التي اجتمعت بين يدي ، تهلك في هذه البرية ، يموتون كلهم ، والقوم الذين أرسلهم موسى أن يجتسوا الأرض له فانقلبوا وشغبوا عليه وأفسدوا الجماعة كلها ، وذلك أنهم أخبروا الشعب في أمر الأرض خبراً رديئاً ، ومات اقوم الذين أخبروا الخبر السوء موت الفجاءة أمام الرب ، فأما يشوع وكالاب فنجوا من الموت ، ولم يهلكا مع الذين استخبروا الأرض ، فأخبر موسى بني إسرائيل هذه الأقوال ، ولجلسوا في حزن شديد وقالوا : نحن صاعدون إلى الموضع الذي أمر الرب ونقر بخطايانا ، قال لهم موسى : اعلموا أنكم لا تنجحون ولا يتم أمركم ، لا تصعدوا لأن الرب ليس معكم لئلا يهزمكم أعداؤكم ، فإن صعدتم هزمتم وقتلتم ، لأنكم أغضبتم الرب ورجعتم عن قوله ، فلذلك لا يكون الرب معكم ، فصعد القوم إلى رأس الجبل ، فأما تابوت عهد الرب وموسى النبي فلم يبرحا من العسكر ، ونزل العملقانيون الذين يسكنون ذلك الجبل وحاربوهم وهزموهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وطردوهم إلى حرما ؛ وكان ذكر قبل ذلك في السفر الثاني وقبل معصيتهم في أمر الجواسيس قتالهم في رفيدين ورقيم لعماليق فقال ما نصه : وإن عماليق جاء ليقاتل بني إسرائيل برفيدين فقال موسى ليشوع : اختر رجلاً من أهل الجلد ولاشدة وإخراج بنا نقاتل عماليق غداً وأنا واقف على رأس الأكمة ، وقضيب الهل في يدي ، فصنع يشوع كما قال له موسى فخرج إلى حرب عماليق ، وصعد موسى وهارون وحور إلى رأس الجبل ، وكان موسى إذا رفع يده قوى بنو إسرائيل ، وإذا خفض يده قوى عماليق ، فأعيت يدُ موسى فأخذ حجارة فوضعها تحته ، ثم استوى عليها جالساً ، وكان هارون وحور يدعمان يديه ، أحدهما يميناً والآخر شمالاً حتى غربت الشمس ، فهزم يشوع عماليق ومن معه وقتلوهم بحد السيف ، فقال الرب لموسى : اكتب هذا الأمر في سفر الكتاب وضع أما يشوع بن نون ، لأني أمحق وأبيد ذكر عماليق من تحت السماء ، فبنى للرب مذبحاً ، ودعا اسمه الله علمي ، ثم قال : وأرسل رسلاً من رقيم إلى ملك أدوم بأنهم نازلون في رقيم - اقرية التي في حد بلاده - واستأذنه في الجواز في بلاده ، فههدهم بالمقاتلة فقالوا : لا نشرب لك ماء إلا بثمن ، فقالك لا تجوزوا في حدي ، وخرج إليهم بجيش عظيم وسلاح شاك فصغا بنو إسرائيل عنه وظعنوا من رقيم ، وأتى جميع بني إسرائيل إلى هور الجبل حيث توفي هارون ، ثم قال : ونزل موسى وإليعازر من الجبل ، فرأت محافل بني إسرائيل كلها أن هارون قد توفي ، وبكى على هارون جميع بني إسرائيل ثلاثين يوماً ، وسمع الكنعاني ملك عراد الذي كان يسكن التيمن أن بني إسرائيل قد نزلوا في طريق الجواسيس(2/430)
صفحة رقم 431
فحاربهم وسبى منهم قوماً ، فنذر بنو إسرائيل نذراًَ للرب وقالوا : إن أنت دفعت إلينا هذا الشعب يا رب وقويتنا عليه جعلنا قراهم حريمة للرب ، سمع الرب أصوات بني غسرائيل ودفع إليهم الكنعانيين وقوّاهم عليم ، وهزموهم وقتلوهم وجعلوا قراهم حريمة للرب ودعوا اسم تلك البلاد حريمة ، فظعن الشعب من هور الجبل في طريق بحر سوف ليدوروا حول أرض أدوم ، ففزعت أنفس الشعب من شدة الطريق وكلّت ، وتذمر الشعب على الله وعلى موسى وقالوا : لِمَ أصعدتنا من مصر ؟ لتميتنا في موضع ليس فيه خبز ولا ماء ، قد ضاقت أنفسنا من قلة الطعام ، فسلط الله عليهم حيات فنهشت قوماً من الشعب ومات منهم كثير ، فاجتمعوا إلى موسى وقالوا : قد أخطأنا إذ تذمرنا على الله وعليك ، صل أمام الرب لتنصرف عنا الحيات ، فصلى موسى فقال الرب له : اتخذ حية من نحاس مثال الحية وارفعها على خشبة علامة ، ومن نهشته حية ينظر إلى الحية المعلقة فيبرأ ، ففعل ذلك ، فطعن بنو إسرائيل فنزلوا أبوت ، ثم ارتحلوا نم أبوت ونزلوا على عين العبرانيين التي في البرية أمام أرض موآب في الجانب الشرقي وحيث مشارق الشمس ، ثم ظعنوا من هناك ونزلوا وادي زرود ، وارتحلوا من هناك ونزلوا عبر أرنون في البرية أمام أرض موآب في الجانبين التي تخرج من حد الأمورانيين وهي في حد الموآبيين ، ولذلك يقال في كتاب حروب الرب : واهب في سوفة ووادي أرنون ومصب الأودية المائلة إلى سكان عار التي تنتهي إلى حد الموآبيين ؛ ثم أرسل بنو إسرائيل رسلاً إلى سيحون ملك الأمورانيين وقالوا له : نجوز في أرضك من غير أن نطأ لك حقلاً ولا كرماً ، ولا نشرب من ماء جناتك ، ولكن نلزم الطريق الأعظم حتى نجوز أرض ، فأبى سيحون وجمع جميع أجناده وخرج إلى البرية وحارب بني إسرائيل ، فقتل بنو إسرائيل سيحون وأصحابه وورثوا أرضه ، وصعدوا إلى أرض متنين ، وخرج عوج ملك متنين إليهم هو وأجناده ليحاربهم في أدرعى ، وقال الرب لموسى : لا تخفه لأني دافعة في يدك وأصيّر جميع شعبه وأرضه في يدك ، فاصنع به كما صنعت بسيحون ملك الأمورانيين ، فلما حاربوه قتل هو وبنوه وجميع شعبه ولم يبق منهم أحد ، فظعن بنو إسرائيل ونزلوا عربات موآب التي عند أردن إريحا ؛ ثم ذكر قصة بلعام بن باعور وغيرها وقال : ثم قال الرب لموسى : اصعد إلى هذا الجبل جبل العبرانيي ، وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ، فإذا نظرت إليها اجتمع معك شعبك ، وصر إلى ما صار إليه آباؤك كما صار [ إليه ] هارون أخوك ، فتكلم موسى أمام الرب وقال : يأمر الله رجلاً يريد الجماعة ويدخل ويخرج أمامهم ، ويدخلهم ويخرجهم لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي ليس لها راعٍ ، فقال الرب لموسى : اعمد إلى يشوع بن نون - رجل عليه من(2/431)
صفحة رقم 432
الروح نعمة - فضع يدك عليه ، وأقمه بين يدي إليعازر الحبر أمام الجماعة كلها ومن تجاههم قبلاً ، وأعطه من المجد الذي عليك ، فتطيعه جماعة بني إسرائيل كلها ، ويقوم بين يدي إليعازر الحبر ليكون يسأل الرب عن جوائجه وسننه ، ويحفظ بنو إسرائيل قوله ، وعن قوله يخرجون وعن قوله يدخلون ، وفعل موسى كالذي أمره الله في يوشع وغيره - ثم ذكره أشياء من القرابين والأعياد وفتح مدين وبقية قصة بلعام وغير ذلك ثم قال : وكثرت مواشي بني روبيل وبني جاد جداً ، ونظروا إلى يعزير وأرض جلعاد أنه موضع يصلح للمواشي فقالوا لموسى : إن نحن ظفرنا منك برحمة ورأفة تعطي هذه الأرض لعبيدك ميراثاً ولا تجزنا نهر الأردن ، فقال موسى : إخوتكم يخرجون إلى الحرب وأنتم تستقرون هاهنا ؟ لِمَ تكسرون قلوب إخوتكم أن لا يجوزوا إلى الأرض التي يعطيهم الرب ميراثاً هكذا صنع أيضاً آباؤكم فاشتد غضب الرب عليهم ، وأقسم أنه لا يعاين أحد منهم الأرض التي وعدت بها آباءهم ، لأنهم لم يتموا قولي ولم يتبعوا وصيتي ما خلا كالاب بن يوفنا القنزابي ويشوع بن نون ، إنهما أتما قول الربن فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وتَوَّههُمْ في البرية أربعين سنة حتى هلك حقب الرجال الذين أسخطوا الرب ، وأنتم اليوم أيضاً تريدون أن ينزل غضب الرب ببني إسرائيل ، وإن أنتم انقلبتم عن أمر الرب أيضاً يعود أن يُتَوِّهَكم في التيه ، فتفسدون على جميع هذا الشعب ، فدنا منه القوم وقالوا : نبني هاهنا قرى لعيالاتنا وحظائر لأنعامنا ، ونحن نتسلح أمام بني إسرائيل حتى ندخلهم إلى مواضعهم ولا نرجع إلى بيوتنا حتى يرث بنو إسرائيل كل إنسان ميراثه ، ولا نرث معهم من عبر الأردن وما خلف ذلك ، لأنا قد قبضنا ميراثنا في مجاز الأردن في مشارق الشمس ، فقال لهم موسى : إذا أنتم فعلتم هذا الفعل وتسلحتم أمام ربكم ، حينئذ ترجعون وتستجلبون أرضكم ويرضى بنو إسرائيل عنكم ، وتصير هذه الأرض لكم ميراثاً ، وإن لم تفعلوا هذا تصيروا أمام الرب خطأة ، واعلموا أن خطاياكم تدرككم ، ثم قالك وهذه خطأ عن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر - فذكر ما تقدم في البقرة ، ثم قال : وارتحلوا من مقبرة الشهوة ونزلوا حضروت ، وظعنوا من حضروت ونزلوا رثما ، وارتحلوا من مقبرة رثما ونزلوا رمّون فرص ، وظعنوا من رمّون فرص وظعنوا من أراسيا أو رسا ونزلوا قهاث - وفي نسخة : بقهالاث - وارتحلوا من قهاث ونزلوا لبنا - وفي نسخة : لبونا - وارتحلوا من جبل شافار ونزلوا حرادة - وفي نسخة : حرذا - وارتحلوا من حرادة - وفي نسخة : حارذا - ونزلوا مقهلوث - وفي نسخة : مهقلوث - وظعنوا من مقهلوث نزلوا تحاث - وارتحلوا من تحاث ونزلوا ترح ، (2/432)
صفحة رقم 433
وارتحلوا من ترح ونزلوا مثقا ، وارتحلوا من مثقا ونزلوا حشمونا ، وظعنوا من حشمونا ونزلوا مسروت ، وارتحلوا من مسروت ونزلوا بحيّ بني يعقان ، وظعنوا من حيّ بني يعقان ونزلوا جبل جدجاد ، وارتحلوا من جدحاد ونزلوا يطبث - وفي نسخة : يطباثا - وظعنوا من يطبث ونزلوا عجرونا - وفي نسخة : عبرونا - وارتحلوا من عجرونا ونزلوا عصيون جابر وهي قلزم ، ورحلوا من عصيون جابر ونزلوا بَرَّصين - وفي نسخة : برية صين المعروفة بقداش - وهي رقيم ، وظعنوا من قداش ونزلوا هور الجبل الذي في أقاصي أرض أدوم - وفي نسخة : وظعنوا من برية صين فنزلوا في قفر فاران وهي القدس ، وارتحلوا من القدس فنزلوا في جبل هور بحذاء أرض أدوم وهي الروم - وصعد هارون الحبر عن قول الله إلى هور الجبل ، وتوفي هناك في سنة أربعين بخروج بني إسرائيل من أرض مصر في الشهر الأول أول يوم منه ، وقد كان أتى على هارون يوم توفي مائة وثلاث وعشرون سنة ، وبلغ الكنعاني ملك حديا الساكن بالتيمن في أرض كنعان - وفي نسخة : عراد الساكن في الداروم في بلد ماءب - أن بني إسرائيل أتوا جده ، فينون من هور الجبل ونزلوا صلمونا ، وارتحلوا من أبوث ونزلوا العين المعروفة بالعبرانيين على حد موآب - وفي نسخة : ونزلوا عايا في العين على تخوم موآب - وارتحلوا من عايا فنزلوا جاد - وفي نسخة : ورحلوا من عين العبرانيين ونزلوا ديبون قرية جاد - وارتحلوا من قرية جاد ونزلوا علمون التي دبلثيم - وفي نسخة : دبلاثيم - وظعنوا من علمون التي دبلثيم - وفي نسخة : دبلاثيم - فنزلوا جبل العبرانيين الذي أمام نابو ، وارتحلوا من جبل العبرانيين ونزلوا عربة موآب التي بأردن يريحا - وفي نسخة : ونزلوا مغارب موآب على الأردن قبالة يريحا - ونزلوا على شاطىء الأردن من عند أشيموت إلى آبل شاطيم التي عند عربة موآب - وفي نسخة : قبالة مغارب موآب .
ولكم الرب موسى على مغارب موآب عند الأردن قبالة يريحا فقالك كلم بني إسرائيل وقل لهم : أنتم جائزون الأردن إلى أرض كنعان لتهلكوا جميع سكان الأرض ، وتحرقوا بيوت صنامهم المسبوكة ، وتقلعوا مذابحهم كلها ، وتصير الأرض إليكم وترثونها ، فاقسموها لعشائركم سهاماً ، وصيروا الكثير على قدر كثرتهم ، والقليل على قدر قلتهم ، وكل قبيلة على ما يرتفع السهم بها وتصيبها القرعة ، وإن لم تهلكوا سكان الأرض من بين أيديكم فالذين يبقون منهم يكونون أسنة في أعينكم وسهاماً في أصداغكم ، ويضيّقون عليكم في الأرض التي تسكنونها ، وكما رأيت أن أصنع بهم كذلك أصنع بكم ، فهكذا اقسموا الأرض في مواريثكم : أرض كنعان بحدودها ، فأما(2/433)
صفحة رقم 434
حد التيمن فيكون لكم من ساحل البحر الملح من ناحية المشرق ، ويدور حدكم من التيمن إلى عقبة عقربيم ويجوز إلى صين ، وتكون مخارجه من التيمن إلى رقيم الجائي ، ويخرج من هناك إلى حصر إدار - وفي نسخة : إلى رفح - ويجوز إلى عصمون إلى وادي مصر ، وتكون مخارجه إلى ناحية البحر ويكون حد البحر حدكم والبحر الأعظم بحدوده ، هذا حدكم من ناحية البحرن وأما حدكم مما يلي الجربيا - وفي نسخة : الشمال - فيكون من البحر الأعظم إلى هور الجبل ، وحدود ذلك من الجبل إلى مدخل حماة ، وتكون مخارج الجبل إلى صدد ، ويخرج الحد إلى زفرون ، وتكون مخارجه إلى حصر عينن ، هذه حدودكم من ناحية الجربيا ، وأما حدودكم من ناحية المشرق فحدوده من حصر عينن إلى شافم ، وينزل الحد نم شافمم إلى ربلة إلى مشارق غاب ، حتى ينتهي إلى بحر كنرت - وفي نسخة : البحيرة الميتة - من مشارقه ، ويدور حتى ينزل إلى حد الأردن ، وتكون مخارجه إلى بحر الملح ، هذه حدود الأرض التي ترثونها كما تدورن ثم ذكر القسمة وشيئاً من الأحكام ، ثم قال في أول السفر الخامس : هذه الآيات والأقوال التي قال موسى لبني إسرائيل عند مجازالأردن في البرية في عرابا - وفي نسخة : اليبداء وهو الجانب الغربي - حيال سوف بين فاران وبين تفال ولبان وحضروت وذي ذهب - وفي نسخة : ودار الذهب وهو إشارة إلى الموضع الذي عبدوا فيه العجل - مسير أحد عشر يوماً من حوريب إلى ساعير وإلى رقام الجائي .
لما كان في سنة أربعين من خروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الحادي عشر في أول يوم منه كلم موسى بني إسرائيل وأمرهم بعد قتلهم سيحون ملك الأمورانيين وعوج ملك متنين في مجاز الأردن في أرض موآب ، قال : إن الله قال لنا في حوريب : قد طال مكثكم في هذا الجبل ، انهضوا فارتحلوا من هاهنا وادخلوا جبل الأمورانيين وكل ما حوله إلى القرى والجبل وإلى ساحل البحر أسفل الجبال ، والتيمن أرض الكنعانيين ، ولبنان إلى النهر الكبير الذي هو الفرات ، ادخلوا ورثوا الأرض التي وعد الله آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم ، ويورثها نسلهم من بعدهم ، ثم قال : وأمرتكم في ذلك الزمان بما ينبغي أن تصنعوا ، وارتحلنا من حوريب وسرنا في البرية العظيمة المرهوبة كما أمرنا الله ربنا ، وانتهينا إلى رقيم الجائي ، وقلت لكم : قد انتهيتم إلى جبل الأمورانيين الذي أعطانا الله ربنا ، اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم ، لا تخافوا ولا تفزعوا ، وتقدمتم إليّ بأجمعكم وقلتم : نرسل بين أيدينا رجالاً يتجسسون لنا الأرض ويخبرونا بخبرها ويدلّونا على الطريق الذي نسير فيه والقرى التي ندخلها ؛ فكان قولكم عندي حسناً ، وعمدت إلى اثني عشر رجلاً منكم ، من كل سبط منكم رجل ، وأرسلتهم ، (2/434)
صفحة رقم 435
وصعدوا إلى الجبل حتى انتهوا إلى وادي العنقود ، واستخبروا الأرض وأخذوا من ثمار الأرض وأتوا به وأخبرونا وقالوا لنا : ما أخصب الأرض التي يعطينا الله ربناَ ولم يعجبكم أن تصعدوا ، ولكن اجتنبتم قول الله ربكم وأغضبتموه وتوشوشتم في خيمتكم وقلتم : لبغض الرب أخرجنا من أرض مصر ليدفعنا في أيدي الأمورانيين ليهلكونا ، إلى أين نصعد إخوتنا كسروا قلوبنا وقالوا : الشعب أعظم وأعزّ منا وأقوى ، وقراهم عظيمة مشيدة إلى السماء ، ورأينا هناك أبناء جبابرة ، وقلت لكم : لا تخافوا ولا تفزعوا منهم ، من أجل أن الله ربكم هو يسير أمامكم ، وهو يجاهد عنكم كما صنع بكم في أرض مصر وفي البرية .
كما رأيتم أنه فداكم كما يفدي الوالد ولده في كل الأرض التي سلكتموها حتى انتهيتم إلى هذه البلاد ، وبهذا القول لم تصدقوا أن الله ربكم يكمل لديكم أنه يسير أمامكم في الطريق ليهيىء لكم موضعاً تسكنون فيه ، أليس هو الذي أراكم طريقاً تسلكون فيه بالليل بالنار ، وستركم بالنهار من حر الشمس بالغمام ، وسمع الرب كلامكم وأصواتكم وغضب وأقسم وقال : لا يعاين أحد من هؤلاء القوم - أهل هذا الحقب الرديء - الأرض المخصبة التي أقسمت أن أعطي آباءهم غير كالاب بن يوفنا ، إني أدفع إليه الأرض التي مشى فيها وأورثها ولده ، لأنه أتم قول الرب وأكمل سنته ، وقال لي : وأنت أيضاً لا تدخلها ، ولكن يشوع بن نون الذي يخدمك هو يدخل هناك ، إياه قوِّ وأيد ، لأنه هو الذي يورث بني إسرائيل الأرض المخصبة التي وعدت بها آباءهم أن أعطيهم ، وأما مواشيكم التي قلتم : إنها تنتهب ، وبنوكم الذين لا يعلمون الخير من الشر ، فهم يدخلون هناك ، وإليهم أدفعها وهم يرثونها ، فأما أنتم فاقبلوا وارتحلوا إلى البرية في طريق بحر سوف ، فرددتم عليّ وقلتم : أسأنا وأجمنا بين يدي الله ربنا ، نحن صاعدون ومجاهدون كما قال لنا ، وتسلح كل امرىء منكم بسلاحه ، وتهيأتم للصعود إلى الجبل ، وقال الرب لي : أنذرهم وقل لهم : لا تصعدوا ولا تجاهدوا ، لأني لست بينكم ، لئلا يهزمكم أعداؤكم ، وقلت ولم تقبلوا ، اجتنبتم قول الرب وأغضبتموه وجسرتم وطلعتم إلى الجبل ، فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما تطر الزنابير بالدخان ، ودفعوكم من ساعير إلى حرما ، وجلستم وبكيتم ولم يسمع الرب أصواتكم ، فبكيتم أمام الرب في رقام أياماً كثيرة ما مكثتم فيها ، فأقبلنا فارتحلنا في البرية في طريق بحر سوف كما قال الرب ، وترددنا حول جبل ساعير أياماًن كثيرة ، وقال لي الرب : قد طال ترددكم حول هذا الجبلن اقبلوا إلى الجانب الجربي ، فتقدم إلى الشعب وقل لهم : أنتم تجوزون في حد إخوتكم بني عاسو - وفي نسخة : عيصو - الذين يسكنون ساعير ، فاحفظوا أن لا تولعوا بهم .
لأني لست أعطيكم من(2/435)
صفحة رقم 436
ارضهم ميراثاً ولا موضع قدم ، ابتاعوا منهم طعاماً لمأكلكم وامتاروا منهم ماء بفضة لمشربكم ، وليبارك الله ربكم عليكم ويبارك لكم في كل ما عملت أيديكم ، كما علم أن يسوسكم في هذه البرية أربعين سنة ، الله ربكم ما دام معكم لا يعوز بكم شيء ، وجزنا طريق العربة - وفي نسخته : البيداء - وأيلة ، وأقبلنا وجزنا في البرية إلى طريق موآب ، وقال لي الرب : لا تضيق على الموآبيين ولا تحاربهم ، لأني لست أعطيك من أرضهم ميراثاً ، بل قد جعلت هذه الأرض ميراثاً لبني لوط هذه التي سكنها إمتى أولاً ، شعباً كان عظيماً ، كان الموآبيون يسمونهم إمتى ، فأما ساعير فكان سكانها الحورانيين أولاً وورثها بنو عاسو ، فقوموا الآن فجوزوا وادي زرد ، فجزنا وادي زرد حينئذ ، وكان عدد الأيام التي سرنا من رقيم إلى أن جزنا وادي زرد ثماني وثلاثين سنة ، حتى هلك جميع الرجال الأبطال أهل ذلك الحقب من عسكر بني إسرائيل كما أقسم عليهم الرب ، لأن يد الرب كانت عليهم حتى هلكوا ، فلما ماتوا من الشعب كلمني الرب وقال لي : أنت جائز اليوم إلى حد موآب ، وتدنو من حد بني عمون فلا تتعرض لهم ، لست أعطيك ميراثاً من أرض بني عمون ، لأني قد جعلتها ميراثاً لبني لوط ، فقم وارتحل وجز وادي أرنون ، إني قد دفعت إليك سيحون ملك الأمورانيين فحاربه وأهلك أصحابه ، فإني أبدأ فألقي خوفك وفزعك على الناس منذ يومك هذا ، وعلى جميع الشعوب التي تحت السماء ، حتى إذا سمعوا بخبرك فرقوا وفزعوا منك ، وأرسلت رسلاً من برية قدموت إلى سيحون ملك حجبون بكلام طيب وبالسلام ، وقلت له : نجوز في أرضك ونسير في الطريق الأعظم ، لا نميل يمنة ولا يسرة نمتارن منكم طعاماً بفضة لمأكلنا ، وكذلك نبتاع ماء لمشربنا بثمن ، فدعونا نجز سائرين في الطريق كما صنع بنا بنو عاسو الذي في ساعير ، والموآبيون الذي في عار ، حتى يجوز في الأردن إلى الأرض التي يعطينا الله ربنا ، لوم يسرَّ سيحون ملك حجبون أن نجوز في حده ، لأن الله ربكم قسّى قلبه وعظم روحه ليدفعه في أيديكم ، وخرج إلينا هو وجيمع أجناده ليحاربونا في ياهاص ، فدفعه الرب إلينا وقتلناه هو وجميع أجناده وفتحنا قراه وأهلكنا كل من كان في قراه ، ولم يبق منهم أحد ، وأهلكنا نساءهم وعيالاتهم ، ولم يبق منهم أحد م نحد عروعير التي على حد وادي أرنون ، والقرية التي في الوادي وإلى جلعاد لم تفتنا قرية ، بل دفعها الله ربنا في أيدينا جميعاً ، فأما أرض بني عمون فلم نقربها ، وكل ما كان على وادي يبوق وقرى الجبال أيضاً ، وكل ما أمرنا الله ربنا به ، ثم أقبلنا وصعدنا إلى أرض متنين ، وخرج إلينا عوج ملك متنين هو وكل شيعته ليحاربنا في أدرعى ، وقال لي الرب : لا تفرق فإني قد(2/436)
صفحة رقم 437
دفعته في يديك ، وأسلمت إليك كل أجناده وأرضه ، وقتلناهم ولم يبق منهم أحد ، وظفرنا بكل قراه في ذلك الزمان ، ولم تفتنا قرية إلا أخذناها منهم ستين قرية ، كل جبل أرجوب ، كل القرى التي كانت أسوارها مشيدة محصنة بالأبواب الشديدة الموثقة ، وأحرمناهم كما صنعنا بسيحون وأخذنا الأرض في ذلك الزمان من ملكي الأمورانيين اللذين كانا عند مجاز الأردن من وادي أرنون إلى جبل حرمون ، فأما الصيدانيون فكانوا يدعون حرمون سريون ، وأما الأمورانيون فكانوا يسمونها سنير ، وأخذنا كل القرى التي كانت في الصحراء وكل جلعاد وكل متنين إلى سلكة وأدرعى ، جميع قرى ملك عوج ، لأن عوجاً كان الجبار الذي بقي وحده من الجبابرة ، وكان سيريره من حديد ، وفي مدينة بني عمون التي تسمى ربة ، طوله تسع أذرع وعرضه أربع أذرع بذراع الجبابرة ، وورثنا بعينيك ما صنع الله ربكم بملكي الأمورانيين ، كذلك يصنع الرب بجميع المملكات التي تجوز إليها ، لأن الله ربكم هو يجاهد عنكم ، وتضرعن إلى الرب في ذلك الزمان وقلت : أطلب إليك يا ربي وإلهي أن تظهر لعبدك عظمتك بيدك المنيعة وبذراعك العظيمة ، أيّ إله في السماء أو في الأرض يعمل مثل أعمالك وجرائحك أتأذن لي الآن فأعبر وأعاين الأرض المخصبة التي في مجاز الأردن ، هذا الجبل المخصب ولبنان ، ولم يتسجب لي وقال لي الرب : حسبك لا تعد أن تقول هذا القول بين يدي ، اصعد رأس الأكمة وارفع عينيك إلى المغرب والمشرق وإلى الجربي والتيمن ، وانظر إليها نظراً ولا تجز هذا الأردن ، ومر يشوع وتقدم إليه وقوِّه وأيده ، لأنه هو الذي يجوز أمام هذا الشعب وهو الذي يورثهم الأرض التي تراها ، ونزلنا الوادي حيال بيت فغور : ثم قال : وأقسم - أي الرب - أني لا أجوز هذا الأردن ولا أدخل إلى الأرض التي أعطاطم الله ربكم ميراثاً ، فأنا الآن متوفٍ في هذه الأرض ، ولا أجوز هذا الأردن ، فأما أنتم فتجوزون وترثون هذه الأرض المخصبة ، احفظوا لا تنسوا عهد ربكم الذي عاهدكم ، ولا تفسدوا وتتخذوا أصناماً وأشباهاً ، من أجل أن الله ربكم هو نار محرقة وهو إله غيور ، وإذا ولد لكم بنون بنين وعتقتم في الأرض واتخذتم أصناماً وأشباهاً وارتكبتم الشر أمام الله ربكم وأغضبتموه قد أشهد عيلكم السماء والأرض أنكم تهلكون سريعاً من الأرض التي تجوزون لترثوها ، ولا تكثر أيامكم فهيا ، ويبددكم الرب من بين الشعوب ويبقي منكم عدد قليل بين الشعوب التي يفرقكم الرب فيها ، سلوا عن الأيام الأولى التي مضت قبلكم منذ يوم خلق الله الناس على الأرض من أقصى السماء إلى أقطارها ، هل كان مثل هذا الأمر العظيم أو سمع بمثله قط ؟ هل سمع شعب آخر(2/437)
صفحة رقم 438
صوت الله يكلمه من النار كما سمعتم أنتم ، وجربوا الله الذي اتخذهم شعباً من الشعوب بالبلايا والآيات والأعاجيب والحروب واليد المنيعة والذراع العظيمة وبالمناظر العظيمة ، كما صنع الله بأهل مصر تجاهكم أنتم وعاينتم وعلمتم أن الله هو رب كل شيء وليس إله غيره ، أسمعكم صوته من السماء ليعلمكم وأراكم ناره العظيمة ، وسمعتم أقاويله من النار ، ولحبه لآبائكم اختار نسلهم من بعدهم ، وأخرجكم بوجهه من مصر بقوته العظيمة ، ليهلك من ين أيديكم شعوباً أعظم وأعزّ منكم ليدخلكم ويعطيكم أرضهم ميراثاً ، لتعلموا يومكم هذا وتقبلوا بقلوبكم لأن الرب هو إله في السماء فوق وفي الأرض أسفل ، وليس إله سواه ، احفظوا سننه ووصاياه التي أمركم بها يؤمكم هذا لينعم عليكم وعلى أبنائكم من بعدكم ويطول مكثكم في الأرض التي عيطيكم الله ربكم طول الأيام .
هذه الشهادات والأحكام التي قص موسى على بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر ، فانتهوا إلى مجاز الأردن في الوادي في مشارق الشمس ، وإلى بحر العربة إلى سدود الفسجة ، ثم قال بعد ذلك في أواخر هذا السفر بعد أن قص عليهم أحكاماً كثيرة وحِكَما عزيرة : الرب يقبل بكم إلى الخير ويفرحكم كما فرح آباؤكم ، وذلك إن أنتم سمعتم قول الله ربكم وحفظتم سننه ووصاياه المكتوبة في هذا الكتاب من كل قلوبكم وأنفسكم ، من أجل أن هذه الوصية لم تخف عليكم ولم تغب ، وليس هو بمستور في السماء فتقولوا : من يصعد لنا إلأى السماء ويأتينا به فنسمعه وتعمل به وليس بغائب عنكم في أقصى البحر فتقولوا : من ينزل لنا إلى البحر ويأتينا به فنسمعه ونعمل به ولكن القول قريب من فمك وقلبك فاعمل به ، وانظر أني قد صيّرت بين يديك اليوم الحياة والخير ، فأخبرتك بالموت والشر ، وأنا آمرك اليوم أن تحب الله ربك وتسلك في طرقه وتحفظ سننه ووصاياه وأ ؛ كامه ، لتحيى وتكثر جداً ، ويبارك الله ربك عليك ، وينميك في الأرض التي تدخلها لترثها ، وإن مال قلبك وزاغ ولم تسمع وضللت وتبعت الآلهة الأخرى وسجدت لها فقد بينت لكم اليوم أنكم تهلكون هلاكاً ، ولا يطول مكثكم في الأرض التي تجوزون الأردن لترثوها ، وأوعزت إليكم وناشدتكم السماء والأرض والحياة والموت - وفي نسخة : وأشهدت عليكم السماء والأرض وجعلت بين يديكم الحياة والموت - وتلوت عليكم اللعن والدعاء ، فاختر الحياة لتحيى أنت ونسلك إذا أحببت الله ربك وسمعت قوله ولحقت بعبادته ، لأنه حياتك وطول عمرك ، وتسكن في الأرض التي أقسم الرب لآبائك ووعد إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك ؛ ثم انطلق موسى وكلم بني إسرائيل وقص عليهم هذه الأقوال كلها وقال لهم : اليوم مائة وعشرون سنة ، ولست أقدر على الدخول والخروج أيضاً ، والرب قال : إنك لا تجوز هذا(2/438)
صفحة رقم 439
الأردن ، فالله ربكم هو يجوز أمامكم ، وهو يهلك هذه الشعوب من بين أيديكم وترثونهم ، ويشوع هو يجوز أمامكم كما قال الرب ، وسيصنع بهم الرب كما صنع بسيحون وعوج ملكي الأمورانيين اللذين أهلكهما ، ويهزمهم الله ربكم من بين أيديكم ، فاصنعوا بهم حينئذ ما أمرتكم به ، فتقوّوا واعتزوا ولا تخافوا ولا تفزعوا ، ولا ترعب قلوبكم منهم ، لأن الله ربكم سائر أمامكم ، لا يخذلكم ولا يرفضكم ؛ ودعا موسى يشوع بن نون وقال له بين يدي جماعة بني إسرائيل : تقّو واعتز ، لأنك أنت الذي تدخل هذا الشعب الأرض التي أقسم الله لآبائهم أن يعطيهم ، وأنت تورثها أبناءهم ، والرب هو يسير أمامكم وهو يكون معك ولا يخذلك ولا يرفضك ، فلا تخف ولا تفزع ولا يرعب قلبك ؛ وكتب موسى هذه التوراة وسننها ودفعها إلى الأحبار بني لاوي الذي يحملون تابوت عهد الرب وإلى جميع أشياخ بني إسرائيل ميراثاً ، ولتتوفّ هناك في الجبل اليوم وقال له : اصعد إلى جبل العبرانيين هذا جبل نابو الذي في أرض موآب حيال يريحا ، وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثاً ، ولتتوفّ هناك في الجبل الذي تصعد إليه واجتمع إلى آبائك ، كما توفي أخوك هارون في الجبل وصار إلى قومه ، ثم قال في آخر هذا السفر وهو آخر التوراة : فطلع موسى من عربوب - وفي نسخة : من بيداء موآب - إلى جبل نبو إلى رأس الأكمة التي قبالة وجه إريحا ، وأراه الله جميع جلعد إلى دان وجميع أرض نفتالي وجميع أرض إفرائيم ومنشا ، وجميع أرض يهودا إلى آخر البحر ولابرية وما حول بقعة بلد إريحا مدينة النخل إلى صاغر ، فقال الرب لموسى : إن هذه هي في الأرض التي أقسمت إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقلت : إني لنسلكم أعطيها ، قد أريتكها بعينيك ، فأما أنت فما تدخلها ، وقضى عبد الله موسى بأرض موآب بأمر الرب ، فدفن - يعني في أرض موآب - حذاء بيت فاغور ، ولم يعرف أحد أين قضى إلى يومنا هذا ، وكان موسى وقت قضى ابن مائة وعشرين سنة ، لم يضعف بصره ولم يشخ جداً ؛ فناح بنو إسرائيل على موسى بعربوب - وفي نسخه : في بيداء موآب - ثلاثين يوماً ، وتمت أيام بكاء مأتم موسى ؛ وامتلأ يشوع بن نون روَح الحكمة ، لأن موسى وضع عليه يده ، وأطاع له بنو إسرائيل وامتثلوا ما أمر الرب به موسى - انتهى ما أردته من أخبار التيه وما يتصل بذلك من مساواتهم لجميع الناس في العذاب بالمعاصي والإلطاف بالطاعات ، الهادم لكونهم أبناء وأحباء .
وفيه مما يحتاج إلى تفسير : الجربي ، وهو نسبة إلى الحربياء - بكسر الجيم والموحدة ، بينهما مهملة ساكنة ثم تحتانية ممدودة ، وهي جهة الشمال ، والتيمنُ - بفتح الفوقانية وإسكان التحتانية وضم الميم ، وهو أفق اليمن الذي يقابل الشمال فالمراد الجنوب ، وفيه قاصمة لهم من إنكار النسخ في أمرهم بنص(2/439)
صفحة رقم 440
التوراة بالدخول إلى يبت المقدس ثم نهيهم عن ذلك لما عصوا ، فإنه قال : اصعدوا ورثوا الأرض كما قال لكم الله رب آبائكم ، لا تخافوا ولا تفزغوا ، ولما عصوا هذا الأمر وأعلمهم موسى عليه السلام عليه السلام بغضب الله عليهم وعقوبته بالتيه أرادوا امتثال الأمر في الصعود توبة ، فقال لهم موسى عليه السلام : وقال لي الرب : أنذرهم وقل لهم : لا تصعدوا ولا تجاهدوا لأني لست بينكم ، لئلا يهزمكم أعداؤكم - هذا نصه فراجعه .
وأما دخول أبنائهم إلى بلاد القدس وغلبتهم على أهلها وتبسطهم في أرضها تصديقاً لمواعد الله على يد يشوع بن نون عليه السلام فسيذكر إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى في سورة يونس عليه السلام :
77 ( ) ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ( ) 7
[ يونس : 93 ] ، ولكن أقدم هنا من أمر يوشع بعد موسى عليهما السلام - والمعونة بالله - ما يبنى عليه بعض مناسبات الآية التي بعدها ، قال البغوي : فتوجه - يعني يوشع - ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق ، فأحاط بها ستة أشهر ، ثم نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة ، فسقط سور المدينة ودخلوا ، فقاتلوا الجبارين فقتلوهم ، وكان القتال في يوم الجمعة ، فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال : اللهم أردد الشمس عليّ فردت عليه وزيد في النهار ساعة ، ثم قتلهم أجمعين ، وتبع ملوك الشام واستباح منهم واحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وفرق عماله في نواحيها ، وجمع الغنائم فلم تنزل النار ، فأوحى الله إلى يوشع أن فهيا غلولاً فمرهم فليبايعوك ، فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده ، فقال : هلمّ ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر ، فجعله في القربان وجعل الرجل معه ، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان - انتهى .
ورأيت أنا في تاريخ نيوة يوشع بعد موت موسى عليهما السلام ما ربما يخالف هذا في الأشهر والبلد ، أما الأشهر فجلعها سبعة أيام ، وأما البلدة التي وقفت عنده الشمس فجبعون لا إريحا ، فإنه قال ما نصه : قال الرب ليشوع : انظر ، إني قد دفعت في يدك إريحا وملكها وكل أجنادها ، فليُحِطْ بالمدينة جميع الرجال المقاتلة ، ودوروا حول المدينة في اليوم مرة ، وافعلوا ذلك في ستة أيام ، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت ، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات ، ويهتف الكهنة بالقرون ، وإذا هتفت الأبواق وسمعتم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً ، فيقع سور المدينة مكانه ، ويصعد الشعب كل إنسان حياله - انتهى .
ثم ذكر امتثالهم لأمر اله وفتحهم لإريحا على ما قال الله ، وأما البلدة التي ردَّت فيها الشمس فهي جبعون ، وذلك أنه ذكر بعد فتح إريحا هذه أن سكون جعبون وهم الحاوانيون صالحوا يوشع بحيلة فعلوها ، ثم قال : وهذه أسماء قراهم : جبعون والكفيرة وبيروت ويعاريم ، فلما سمع بذلك أدونصداق ملك أورشليم رق فرقاً(2/440)
صفحة رقم 441
شديداً ، لأن جبعون كانت مدينة عظيمة كمثل مدن الملك ، وكان أهلها رجالاً جبابرة ، فأرسل إلى هوهم ملك حبران - وفي موضع آخر : حبرون - وإلى فرآم ملك يرموث ، وإلى يافع ملك لخيس ، وإلى دابير ملك عقلون - وقال لي بعض اليهود : إن المراد بهذه عجلون - وقال لهم : اصعدوا لتعينوني على محاربة أهل جبعون ، لأنهم قد صالحوا يشوع ، فاجتمع الخمسة من ملوك الأمورانيين وجميع عساكرهم فنزلوا على جبعون ، فأرسل أهل جبعون إلى يشوع فصعد يشوع من الجلجال هو جميع أبطال الشعب ، فأوحى الرب إلى يشوع : لا تخف ولا تفزع منهم ، لأني قد أسلمتهم في يدك ، فأتاهم بغتة ، لأنه صعد من الجلجال الليل أجمع ، فهزمهم الرب بين يدي آل إسرائيل وجرحوا منهم جرحى كثيرة في جبعون التي بحوران ، وهربوا في طريق عقبة حوران ولم يزالوا يقتلون منهم إلى عزيقة ومقيدة ، فلما هرب الذين بقوا منهم ونزلوا عقبة حوران أمطر الرب عليهم حجارة برد كبار من السماء إلى عزيقة وماتوا كلهم ، فكان الذين ماتوا بحجارة البرد أكثر نم الذين قتلوا ، ثم قام يشوع أمام الرب مصلياً في اليوم الذي دفع الرب الأمورانيين في يدي بني إسرائيل وقال : أيتها الشمس امكثي في جبعون ولا تسيري ، وأنت أيها القمر لا تبرح قاعَ أيلون ، فثبتت الشمس وقام القمر حتى انتقم الشعب من أعدائهم ؛ فكتبت هذه الأعجوبة في سفر التسابيح ، لأن الشمس وقفت في وسط السماء ولم تزل إلى الغروب ، وصار النهار يوماً تاماً ، ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده - انتهى .
وقد ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه القصة ، روى الشيخان : البخاري في الخمس والنكاح ، ومسلم في المغازي عن أبي هريرة رضي الله عنه قالك ( قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها ، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو يننتظر ولادها ، فغزا فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم ، فجاءت - يعني النار - لتأكلها فلم تطعمها ، فقال : إن فيكم غلولاَ ، فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلزقت يد رجل بيده ، فقال : فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده ، فقال : يكم الغلول ، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها ، فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم ، رأى بعض ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ( وفي رواية المسند للحافظ نور الدين الهيثمي عن أبي هريرة رضي الله(2/441)
صفحة رقم 442
عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الشمس لم يحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس ( ، قال : وهو في الصحيح ولم أر فيه حصراً كما هنا ؛ وفي سيرة ابن إسحاق ما ينقضه ، قال : حدثنا يونس عن الأسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال : لما أسري برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبر قومه بالرفعة والعلامة عما في العير قالوا : فمتى تجيء ؟ قال : يوم الأربعاء ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون وقد ولى النهار ولم تجىء ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس ، ولم ترد الشمس على أحد إلا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى يوشع بن نون حين قاتل الجبارين يوم الجمعة .
المائدة : ( 27 - 29 ) واتل عليهم نبأ. .. . .
) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ ( ( )
ولما كانت قصتهم هذه - في أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة لما فيها من نقض العهود والتبرؤ من الله والحكم عليهم بالفسق والتعذيب - ناقضة لما ادعاه اليهود من البنوة ، كان ذلك كافياً في إبطال مدعى النصارى لذلك ، لأنهم أبناء اليهود ، وإذا بطل كون أبيك ابانً لأحد بطل أن تكون أنت ابنه ، لما كان ذلك كذلك ناسب أن تعقب بقصة ابني آدم لما يذكر ، فقال تعالى عاطفاً على قوله : ( ) وإذ قال موسى ( ) [ المائدة : 20 ] ) واتل عليهم ) أي على المدعوّين الذين من جملتهم اليهود تلاوة ، وهي من أعظم الأدلة على نبوتك ، لأن ذلك لا علم لك ولا لقومك به إلا من جهة الوحي ) نبا ابني آدم ) أي خبرهما الجليل العظيم ، تلاوة ملتبسة ) بالحق ) أي الخبر الذي يطابقه الواقع إذا تُعُرَّفَ من كتب الأولين وأخبار الماضين كائناً ذلك النبأ ) إذ ) أي حين ) قربا ) أي ابنا آدم ؛ ولما لم يتعلق الغرض في هذا المقام ببيان أيّ نوع قربا منه ، قال : ( قرباناً ) أي بأن قرب كل واحد منهما شيئاً من شأنه أن يقرِّبَ إلى المطلوب مقاربتُه غاية القرب .(2/442)
صفحة رقم 443
ولما كان المؤثر للحسد إنما هو عدم التقبل ، لا بالنسبة إلى متقبل خاص ، بناه للمفعول فقال : ( فتُقبِّل ) أي قبل قبولاً عظيماً ظاهراً لكل أحد ) من أحدهما ( أبهمه أيضاً لعدم الاحتياج في هذا السياق إلى تعيينه ) ولم يتقبل من الآخر ( عَلِمَا ذلك بعلامة كانت لهم في ذلك ، إما أكل النار للمقبول كما قالوه أو غير ذلك ؛ ومناسبتها لما قبلها من حيث إنها أيضاً ناقضة لدعواهم النبوة ، لأن قابيل ممن ولد في الجنة على ما قيل ، ومع ذلك فقد عذب لما نقض العهد ، فانتفى أن يكون ابناً وكان هو وغيره شرعاً واحداً دائراً أمرهم في العذاب والثواب على الوفاء والنقض ، من وفى كان حبيباً ولياً ، ومن نقض كان بغيضاً عدواً ، وإذا انتفت البنوة عن ولد لآدم صفي الله مع كونه لصلبه لا واسطة بينهما ومع كونه وَلِدَ في الجنة دار الكرامة ، فانتفاؤها عمن هو أسفل منه من باب الأولى ، وكذا المحبة ؛ ومن المناسبات أيضاً أن كفر بني إسرائيل بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إنما هو للحسد ، فنبهوا بقضة ابني آدم على أن الحسد يجر إلى ما لا يرضي الله وإلى ما لا يرضاه عاقل ويكب في النار ؛ ومنها أن في قصة بني إسرائيل إحجامهم عن قتال أعداء الله البعداء منهم المأمورين بقتالهم الموعودين عليه بخيري الدارين ، وأن الله معهم فيه ، وفي قصة ابني آدم إقبال قابيل على قتل أخيه حبيب الله المنهي عن قتله المتوعد بأن الله يتبرأ منه إن قتله ، ففي ذلك تأديب لهذه الأمة عند كل إقدام وإحجام ، وتذكير بالنعمة في حفظهم من مثل ذلك ، وأن فيها أن موسى وهارون عليهما السلام أخوان في غاية الطواعية في أنفسهما ، ورحمة كل منهما للآخر والطاعة لله ، وقصة ابني آدم بخلاف ذلك ، وفي ذلك تحذير مما جر إليه وهو الحسد ، وأن في قصة بني إسرائيل أنهم لما قدموا الغنائم للنار فلم تأكلها ، عَلِمَ نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) أنها لم تقبل لغلول غَلّوه ، فاستخرجه ووضعه فيها فأكلتها ، ففي ذلك الاستدلال بعدم أكل النار على عدم القبول - كما في قصة ابني آدم ، وأن بني إسرائيل عذوبا بالمنع من بيت المقدس بالتيه .
وقابيل نفي من الأرض التي كان فيها مقتل أخيه ، وأن بني غسرائيل تاهوا أربعين سنة على عدد الأيام التي غاب فيها نقباؤهم في جسّ أخبار الجبابرة ، وأن قابيل حمل هابيل بعد أن قتله أربعين يوماً - ذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : وقصده السباع فحمله على ظهره أربعين يوماً ، وكل هذه محسنات والعمدة هو الوجه الأولن وأحسن منه أن يكون الأمر لموسى عليه السلام عطفاً على النهي في لاتاس ، والمعنى أن الأرض المقدسة مكتبوة لهم كما قَدمته أنت أول القصة في قولك :
77 ( ) التي كتب الله لكم ( ) 7
[ المائدة : 21 ] فأنا مورثها لا محالة لأبنائهم وأنت متوفٍ قبل دخولها ، وقد أجريت سنتي في ابني آدم بأنهم إذا توطنوا واستراحوا تحاسدوا ، وإذا تحاسدوا تدابروا فقتل(2/443)
صفحة رقم 444
بعضهم بعضاً ، فاتل عليهم هذه القصة لتكون زاجرة لهم من أن يفعلوا ذلك إذا فرغوا من الجبابرة وأبادوهم وصفت لهم البلاد فتوطنوها ، وأخرجت لهم بركاتها فأبطرتهم النعم ، ونسوا غوائل النقم ؛ ويكون ذلك وعظاً لهذه الأمة ومانعاً من فعل مثل ذلك بعد إكمال دينهم ووفاة نبيهم وإظهارهم على الدين كله ، كما تقدم به الوعد لهم فقهروا العباد وفتحوا البلاد وانتثلوا كنوزها وتحكموا في أموالها ، فنسوا ما كانوا فيه من القلة والحاجة والذلة فأبطرتهم النعم ، وارتكبوا أفعال الأمم ، وأعرضوا عن غوائل النقم - كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، الا والبغضاء هي الحالقة ، لا أقول : تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين ) أخرجه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود الطيالسي في مسنديهما والبزار - قال المندري : بإسناد جيد - والبيهقي وقال : ( لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا ) رواه الطبراني وروواته ثقات ، وذكر الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في القسم الثاني من سيرته في فتح جلولاء من بلاد فارس أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أرسل الغنيمة إلى عمر رضي الله عنه أقسم عمر رضي الله عنه : لا يخبأها سقف بيت حتى تقسم فوضعت في صحن المسجد ، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم رضي الله عنهما يحرسانه ، فلما جاء الناس كشثف عنه فنظر عمر رضي الله عنه إلى ياقوتة وزبرجدة وجوهرة فبكى ، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فوالله إن هذا إلا موطن شكر فقال عمر : والله ما ذاك يبكيني ، وتالله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم .(2/444)
صفحة رقم 445
شرحُ قصة ابني آدم من التوراة ، قال المترجم في أولها بعد قصة أكل آدم عليه السلام من الشجرة ما نصه : فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حيّ ، وصنع الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسهما ، فأرسله الله من جنة عدن ليحرث الأرض التي منها أخذ ، فأخرجه الله ربنا ، فجامع آدم امرأته حواء فحبلت وولدت قايين وقالت : لقد استفدت لله رجلاً ، وعادت فولدت أخاه هابيل ، فكان هابيل راعي غنم ، وكان قايين يحرث الأرض ، فلما كان بعد أيام جاء قايين من ثمر أرضه بقربان لله ، وجاء هابيل أيضاً من أبكار غنمه بقربان ، فسر الله بهابيل وقربانه ولم يسر بقايين وقربانه ، فساء ذلك قايين جداً وهمَّ أن يسوءه وعبس وجهه ، فقال الرب لقايين : ما ساءك ؟ ولِمَ كسف وجهك ؟ إن أحسنت تقبلت منك ، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة على الباب وأنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك ، فقال قايين لهابيل أخيه : تتمشى بنا في البقعة ، فبينما هما يتمشيان في الحرث وثب قايين على أخيه هابيل فقتله ، فقال الله لقايين : أين هابيل أخوك ؟ لفقال : لا أدري ، أرقيب أنا على أخي ؟ قال الله : ماذا فعلت فإن دم أخيك ينادي لي من الأرض ، من الآن ملعون أنت نم الأرض التي فتحت فاها فقبلت دم أخيك من يدك ، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا عود تعطيك حراثها ، وتكون فزعاً تائهاً في الأرض ، فقال قايين للرب : عظمت خطيئتي من أن تغفرها ، وقد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض ، وأتوارى من قدامك وأكون فزعاً تائها في الأرض ، وكل من وجدني يقتلني ، فقال الله ربنا : كلا ولكن كذلك كل قاتل ، وأما قايين فإنه يجزى بدل الواحد سبعة ، فخرج قايين من قدام الله فجلس في الأرض نود شرقي عدن - انتهى. قال البغوي عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت فهيا بقابيل وتوأمته - فذكر قصته في النكاح وقتله لأخيه وشرب الأرض لدمه قولو قابيل لله - حين قال له : إنه قتله : إن كنت قتلته فأين دمه ؟ فحرم الله على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده أبداً - انتهى .
ولما أخبر الله تعالى بأن أحدهما فعل معه من عدم القبول ما غاظه ، كان كأنه قيل : فما فعل حين غضب ؟ فقيل : ( قال ) أي لأخيه الذي قبل قربانه حسداً له ) لأقتلنك ( فكأنه قيل : بما أجابه ؟ فقيل : نبهه أولاً على ما يصل به إلى رتبته ليزول حسده بأن ) قال إنما يتقبل الله ) أي يقبل عظيماً المحيط لكل شيء قدرة وعلماً الملك الذي له الكمال كله ، فليس هو محتاجاً إلى شيء ، وكل شيء محتاج إليه ) من المتقين ) أي العريقين في وصف التقوى ، فلا معصية لهم يصرون عليها بشرك ولا غيره ، فعدمُ تقبل قربانك من نفسك لا مني ، فلم تقتلني ؟ فقتلك لي مبعد لك عما حسدتني عليه .(2/445)
صفحة رقم 446
ولما وعظه بما يمنعه من قتله ويقبل به على خلاص نفسه ، أعلمه ثانياً أن الخوف من الله مَنَعَه من أن يمانعه عن نفسه مليناً لقلبه بما هو جدير أن يرده عنه خشية أن ترجه الممانعة إلى تعدي الحد المأذون فيه ، لأن أخاه كان عاصياً لا مشركاً ، فقال مؤكداً بالقسم لأن مثل ما يخبر به عظيم لا يكاد يصدق : ( لئن بسطت إليّ ) أي خاصة ) يدك لتقتلني ) أي لتوجد ذلك بأيّ وجه كان ، ثم بالغ في إعلامه بامتناعه من الممانعة فقال : ( ما أنا ( وأغرق في النفي فقال : ( بباسط ) أي أصلاً ، وقدم المفعول به تعميماً ، ثم خص المتعلق لمناسبة الحال فقال : ( يدي إليك لأقتلك ) أي ي أيّ وقت من الأوقات ، ولعله أتى بالجملة الاسمية المفيدة لنفي الثبات والدوام أدباً مع الله في عدم الحكم على المستقبل ، ثم علله بقوله : ( إني أخاف اله ) أي استحضر جميع ما أقدر على استحضاره من كماله ، ثم وصفه بالإحسان إلى خلقه ليكون ذلك مانعاً له من الإساءة إلى أحد منهم فقالك ) رب العالمين ) أي الذي أنعم عليها بنعمة الإيجاد ثم التربية ، فأنا لا أريد أن أخرب ما بنى ، وهذا كما فعل عثمان رضي الله عنه .
ولما كان من النهايات للواصلين إلى حضرات القدس ومواطن الأنس بالله ، المتمكنين في درجة الغناء عن غير الفاعل المختار أن لايراد إلا ما يريد سبحانه ، فإن كان طاعة أراده العبد ورضيه ، وإن كان معصية أراده من حيث إنه مراد الله ولم يرضه لكونه معصية ، فيرضى بالقضاء دون المقضي ، وكأنه من الممكن القريب أن يكون هابيل قد كشف له عن أنه سبق في علم الله أن أخاه يقتله ، قال مرهباً له معللاً بتعليل آخر صاد له أيضاً عن الإقدام على القتل : ( إني أريد ) أي بعدم الممانعة لك ) إن تبوأ ) أي ترجع من قتلي إن قتلتني ) بإثمي ) أي الإثم الذي ينالك من أجل قتلك لي ، وبعقوبته الذي من جملته أنه يطرح عليك من سيئاتي بمقدار ما عليك من حقي إذا لم تجد ما ترضيني به من الحسنات ) وإثمك ) أي الذي لا سبب لي فيه ، وهو الذي كان سبباً لرد قربانك واجترائك عليّ وعدوانك ، وأفوز أنا بأجري وأجرك ، أي أجري الذي لا سبب لك فيه والأجر الذي أثمره استسلامي لك وكفُّ يدي عنك ) فتكون ) أي أنت بسبب ذلك ) من أصحاب النار ) أي الخالدين فيها جزاءً لك لظلمك بوضعك القتل في غير موضعه ، ثم بين أن هذا يعم كل من فعل هذا الفعل فقال : ( وذلك جزاء الظالمين ) أي الراسخين في وصف الظلم كلهم ، وأكون أنا من أصحاب الجنة جزاءً لي بإحساني في إيثار حياتك لإرادة المعصية من حيث كونها معصية بإرادة ظهور الكفار ، لما علم من أن النصر بيد الله ، فهو قادر على نصر الباقي بعد استشهاد الشهيد .(2/446)
صفحة رقم 447
المائدة : ( 30 - 32 ) فطوعت له نفسه. .. . .
) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( ( )
ولما كان هذا الوعظ جديراً بأن يكون سبباً لطاعته وزاجراً له عن معصيته ، بين تعالى أنه قسا قلبه فجعله سبباً لإقدامه ، فقال - مبيناً بصيغة التفعيل ، إذ القتل لما جعل الله له من الحرمة وكساه من الهيبة لا يقدم عليه إلا بمعالجة كبيرة من النفس : ( فطوعت له ) أي الذي لم يتقبل منه ) نفسه قتل أخيه ) أي فعالجته معالجة كبيرة وشجعته ، وسهلت له بما عندها من النفاسة على زعمها حتى غلبت على عقله فانطاع لها وانقاد فأقدم عليه ؛ وتحقيق المعنى أن من تصور النهي عن الذنب العقاب عليه امتنع منه فكان فعله كالعاصي عليه ، ومن استولت عليه نفسه بأنواع الشبه في تزيينه صار فعله له وإقدامه عليه كالمطيع له الممكن من نفسه بعد أن كان عاصياً عليه نافراً عنه ، ثم سبب عن هذا التطويع قولع : ( فقتله ( وسبب عن القتل قوله : ( فأصبح ) أي فكان في كل زمن ) من الخاسرين ) أي العريقين في صفة الخسران بغضب الله عيله لاجترائه على إفساده مصنوعَه ، وغضب أبناء جنسه عليه لاجترائه على أحدهم ، وعبر بالإصباح والمراد جميع الأوقات ، لأن الصباح محل توقع الارتياح ، قيل : إنه لم يدر كيف يقتله ، فتصور له إبليس في يده طائر فشدخ رأسه بحجر فقتله ، فاقتدى به قابيل ، فأتى هابيل وهو نائمٌ فشدخ رأسه بحجر .
ولما كان التقدير : ثم إنه لم يدر ما يصنع به ، إذ كان أول ميت فلم يكن الدفن معروفاً ، سبب عنه قولَه : ( فبعث الله ) أي الذي له كمال القدرة والعظمة والحكمة ؛ ولما كان المعنى يحصل بالغراب الباحث فقط قال : ( غراباً يبحث ) أي يوجد البحث وهو التفتيش في التراب بتليين ما تراصّ منه وإزاحته من مكانه ليبقى مكانه حوزة خالية .
ولما كان البحث مطلق التفتيش ، دل على ما ذكرته بقوله : ( في الأرض ( ليواري غراباً آخر مات ؛ ولما كان الغراب سبب علم ابن آدم القاتل للدفن ، كان كأنه بحث لأجل تعليمه فقال تعالى : ( ليريه ) أي الغراب يُرى ابن آدم ، ويجوز أن يكون الضمير المستتر لله تعالى ، والأول أولى لتوقيفه على عجزه وجهله بأن الغراب أعلم منه وأقرب إلى الخير ) كيف يواري ((2/447)
صفحة رقم 448
ولما كانت السوءة واجبة الستر ، وكان الميت يصير بعد موته كله كله سوءة ، قال منبهاً على ذلك وعلى أنها السبب في الدفن بالقصد الأول : ( سوءة ) أي فضيحة ) أخيه ) أي أخي قابيل وهو هابيل المقتول ، وصيغة المفاعلة تفيد أن الجثة تريد أن يكو القاتل وراءها ، والقاتل يريد كون الجثة وراءه ، فيكونان بحيث لا يرى واحد منهما الآخر ، ولعل بعث الغراب إشارة إلى غربة القاتل باستيحاش الناس منه وجعله ما ينفر عنه ويقتله كل من يقدر عليه ، ومن ثَمَّ سمى الغراب البين ، وتشاءم به من يراه .
ولما كان كأنه قيل : إن هذا لعجب ، فما قال ؟ قيل : ( قال ( الكلمة التي تستعمل عند الداهية العظيمة لما نبهه ذلك ، متعجباً متحيراً متلهفاً عالماً أن الغراب أعلم منه وأشفق ، منكراً على نفسه ) ياويلتي ) أي احضُرْني يا ويل هذا أوانك أن لا يكون لي نديم غيرك ؛ ولما تفجع غاية الفجيعة وتأسف كل الأسف ، أنكر على نفسه فقال : ( أعجزت ) أي مع ما جعل لي من القوة القاطعة ) أن أكون ( مع ما لي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك ) مثل هذا الغراب ( وقوله مسبباً عن ذلك : ( فأوراي سوءة ) أي عورة وفضيحة ) أخي ( نصِبَ عطفاً على أكون لا على جواب الاستفهام ، لأنه إنكاري فمعناه النفي ، لأنه لم تكن وقعت منه مواراة لينكر على نفسه ويوبخها بسببها ، ولو كانت وقعت لم يصح إنكارها على تقدير عدم العجز الذي أفادته الهمزة ) فأصبح ( بسبب قتله ) من النادمين ) أي على ما فعل ، لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه ، ولم يفده ذلك ما كان سبب غيظه ، بل زاده بعداً ، وذكر أن آدم عليه السلام لما علم قتله رثاه بشعر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ردُّ ذلك ، وأن الأنيباء عليهم السلام كلهم في النهي عن الشعر سواء ، وقال صاحب الكشاف : وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر ، ( ولا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم هذا كفل من دمها بمن سن ) رواه مسلم وغيره عن عبد الله ، وكذا ( كل من سن سنة سيئة ) ولهذا قال عليه السلام ( إن(2/448)
صفحة رقم 449
أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ) ، وهذا لأن الآدمي لنقصانه أسرع شيء إلى الاقتداء في النقائص ، وهذا ما لم يتب الفاعل ، فإذا تاب أو كان غير متعمد للفعل كآدم عليه السلام لم يكن ساناً لذلك فلا شيء عليه ممن عمل بذلك .
ولما علم بهذا أن الإنسان موضع العجلة الإقدام على الموبقات من غير تأمل ، فكان أحوج شيء إلى نصب الزواجر ، أتبعه تعالى قوله : ( من أجل ذلك ) أي من غاية الأمر الفاحش جداً ومدته وعظم الأمر وشدة قبحه في نفسه وعند الله وصغره عند القاتل وحبسه ومنعه وجنايته وإثارته وتهييجه وجرأة الإنسان على العظائم بغير تأمل ) كتبنا ) أي بما لنا من العظمة ليفيد ذلك عظمة المكتوب والتنبيه على ما فيه من العجز ليفيد الانزجار ) على بني إسرائيل ) أي أعلمناهم بما لنا من العناية بهم في التوراة التي كتبناها لهم ، ويفهم ذلك أيضاً أنهم أشد الناس جرأة على القتل ، ولذلك كانوا يقتلون الأنيباء ، فأعلمهم الله بما فيهم من التشديد ، ولِمَا علم من الأدميين - لا سيما هم - من الجرأة عليه ، ليقيم عليهم بذلك الحجة على ما يتعارفونه بينهم ، ويكف عن القتل من سبقت له منه العناية بما يتصور من فظاعة القتل ، وقبح صورته وفحش أمره ، وعبر بأداة الاستعالء التي هي للحتم من الوجوب والحرمة ، لأن لاسياق للزجر ، فهي تفهم المناع عن الإقدام على القتل في هذا المقام ) أنه من قتل نفساً ) أي من ابني آدم ، وكأنه أطلق تعظيماً لهم إشارة إلى أن غيرهم جماد ) بغير نفس ) أي نم ابني آدم ، وكأنه أطلق تعظيماً لهم بها فاستباح قتلها لتلك النفس التي قتلتها ) أو ( قتلها بغير ) فساد ( وقع منها .
ولما كانت الأرض - مع أنها فراشنا فهي محل التوليد والتربية والتنمية - دار الكدر ، وكان فساد من أفسد فراشه الموصوف - لا سيما وهو في كدر - دالاً على سوء جبلته ، وكان سوء الجبلة موجباً للقتل ، قال : ( في الأرض ) أي يبيح ذلك الفساد دمها كالشرك والزنا بعد الإحصان وكل ما يبيح إراقة الدم ، وقد علم بهذا أن قصة ابني آدم مع شدة التحامها بما قبل توطئة لما بعد ، وتغليظُ أمر القتل تقدم عن التوراة في سورة البقرة ، وقوله : ( فكأنما قتل الناس جميعاً ( من جملة الأدلة المبطلة لما ادعوا من البنوة ، إذ معناه أن الناس شرع واحد من جهة نفوسهم متساوون فيها .
كلهم أولاد آدم ، لا فضل لأحد منهم على آخر في أصل تحريم القتل بغير ما ذكر من الموجب من قصاص أو فساد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم ، وذلك كما قال تعالى في ثاني(2/449)
صفحة رقم 450
النقوض
77 ( ) بل أنتم بشر ممن خلق ( ) 7
[ المائدة : 18 ] فصار من قتل نفساً واحدة بغير ما ذكر فكأنما حمل إثم من قتل الناس جميعاً ، لأن اجتراءه على ذلك أوجب اجتراء غيره ، ومن سن سنة كان كفاعلها ) ومن أحياها ) أي بسبب من الأسباب كعفو ، أو إنقاذ من هلكة كغرق ، أو مدافعة لمن يريد أن يقتلها ظلماً ) فكأنما أحيا ) أي بذلك الفعل الذي كان سبباً للأحياء ) الناس جميعاً ) أي بمثل ما تقدم في القتل ، والآية دالة على تعليمه سبحانه لعباده الحكمة ، لما يعلم من طباعهم التي خلقهم عليها ومن عواقب الأمور - لا على أنه يجب عليه - رعاية المصلحة ، ومما يحسن إيارده هاهنا ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ورأيت من ينسبه للشافعي رحمه الله تعالى :
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهمُ آدم والأم حواء نفس كنفس وأرواح مشاكلة وأعظمُ خلقت فيهم وأعضاء فإن يكن لهمُ في أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرىء ما ان يحسنه وللرجال علىالأفعال أسماء وضد كل امرىء ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً فالناس موتى وأهل العلم أحياء
ولما أخبر سبحانه أنه كتب عليهم ذلك ، أتبعه حالاً منهم دالة على أنهم بعيدون من أن يكونوا أبناء وأحباء فقال : ( ولقد ) أي والحال أنهم قد ) جاءتهم رسلنا ) أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا واختيارنا لهم لأن يأتوا عنا ، فهم لذلك أنصح الناس وأبعدهم عن الغرض وأجلّهم وأجمعهم للكمالات وأرفعهم عن النقائص ، لأن كل رسول دال على مرسله ) بالبينات ) أي الآيات الواضحة للعقل أنها من عندنا ، آمره لهم بكل خير ، زاجرة عن كل ضير ، لم نقتصر في التغليظ في ذلك على الكتاب بل وأرسلنا الرسل إليهم متواترة .
ولما كان وقوع الإسراف - وهو الإبعاد عن حد الاعتدال في الأمر منهم بعد ذلك - بعيداً - عبر بأدة التراخي مؤكداً بأنواع التأكيد فقال : ( ثم إن كثيراً منهم ) أي بني إسرائيل ، وبيَّنَ شدة عتوّهم بإصرارهم خلفاً بعد سلف فلم يثبت الجار فقال : ( بعد ذلك ) أي البيان العظيم والزجر البليغ بالرسل والكتاب ) في الأرض ) أي التي هي مع كونها فراشاً لهم - ويقبح على الإنسان أن يفسد فراشه - شاغلة - لما فيها من عظائم الكدورات وترادف القاذورات - عن الكفاف فضلاً عن الإسراف ) لمسرفون ) أي عريقون في الإسراف بالقتل وغيره .(2/450)
صفحة رقم 451
المائدة : ( 33 - 35 ) إنما جزاء الذين. .. . .
) إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ( )
ولما كان هذا الإسراف بعد الموانع محاربة للناهي عنه ، وكان تارة يكون بالقتل وتارة بغيره ، وكان ربما ظن أن عذاب القاتل يكون بأكثر من القتل لكونه كمن قتل الناس جميعاً ، وصل به سبحانه قوله على طريق الحصر : ( إنما جزاؤا ( وكان الأصل : جزاؤهم ، ولكن أ ) يد تعليق الحكم بالوصف والتعميم فقال : ( الذين يحاربون الله ( وكان الأصل : الملك الأعظم الذي لا كفوء له ) ورسوله ) أي بمحاربة من نَهَيَا عن محاربته بقطع الطريق وهم مسلمون ، ولهم منعة ممن أرادهم ، ويقصدون المسلمين في دمائهم وأموالهم سواء كانوا في البلد أو خارجها .
ولما كان عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً ، أعلم أن هؤلاء عماد الشيطان بقوله : ( ويسعون في الأرض ( ولما كان هذا ظاهراً في الفساد ، صرح به في قوله : ( فساداً ) أي حال كونهم ذوي فساد ، أو للفساد ، ويجوز أن يكون مصدراً ليسعون - على المعنى ، ولما كان تأفعالهم مختلفة ، فسم عقوبتهم بحسبها فقال : ( أن يقتلوا ) أي إن انت جريمتهم القتل فقط ، لأن القتل جزاؤه القتل ، وزاد .
لكونه في قطع الطريق - صيرورته حتماً لا يصح العفو عنه ) أو يصلّبوه ) أي مع القتل إن ضموا إلى القتل أحد المال ، بأن يرفع المصلوب على جذع ، ومنهم من قال : يكون ذلك وهو حيّ ، فحينئذٍ تمد يداه مع الجذع ، والأصح عند الشافعية أنه يقتل ويصلى عليه ثم يرفع على الجذع زمناً يشيع خبره فيه لينزجر غيره ، ولا يزاد على ثلاثة أيام ) أو تقطّع أيديهم ) أي اليمنى بأخذهم المال من غير قتل ) وأرجلهم ) أي اليسرى لإخافة السبيل ، وهذا معنى قوله : ( من خلاف ) أي إن كانت الجريمة أخذ المال فقط ) أو ينفوا من الأرض ) أي بالإخافة والإزعاج إن لم يقعوا في قبضة الإمام ليكونوا منتقلين من بلد إلى آخر ذعراً وخوفاً ، وبالحبس إن وقعوا في القبضة ، وكانوا قد كثروا سواد المحاربين وما قتلوا ولا أخذوا مالاً ) ذلك ) أي النكل الشديد المفصّل إلى ما ذكر ) لهم ) أي خاصاً بهم ) خزي ) أي إهانة وذل بإيقاعه بهم ) في الدنيا ) أي ليرتدع بهم غيرهم ) ولهم ) أي إن لم يتوبوا ) في الآخرة ) أي التي هي موطن الفصل بإظهار العدل ) عذاب عظيم ) أي هو بحيث لا يدخل تحت مَعارِفكم أكثر من وصفه بالعظم .(2/451)
صفحة رقم 452
ولما كان التعبير ب ( إنما ) يدل بختم الجزاء على هذا الوجه ، استثنى من المعاقبين هذه العقوبة بقوله : ( إلا الذين تابوا ) أي رجعوا عما كانوا عليه من الحاربة خوفاً من الله تعالى ، ولذا قال : ( من قبل ( وأثبت الجار إشارة إلى القبول وإن طال زمن المعصية وقصر زمن التوبة ) أن تقدروا عليهم ) أي فإ ، تحتم الجزاء المذكور يسقط ، فلا يجازون على ما يتعلق بحقوق الآدمي إلاّ إذا طلب صاحب الحق ، فإن عفا كان له ذلك ، وأما حق الله تعالى فإنه يسقط ، وإلى هذا الإشارة أيضاً بقوله تعالى : ( فاعلموا أن الله ) أي على ما له من صفات العظمة ) غفور رحيم ) أي صفته ذلك أزلاًَ وأبداً ، فهو يفعل منه ما يشاء لمن يشاء ، وأفهمت الآية أن التوبة بعد القدرة لا يسقط شيئاً من الحدود .
ولما ذكر تعالى حكمهم عند التوبة ، وختم الآية بما يناسب من الغفران والرحمة ، وكان ذلك ربما كان جزاء من لم يرسخ قدمه في الدين على جنابه المتعالي ، أتبع ذلك الأمر بالتقوى وجهاد كل من أفسد بقطع الطريق أو الكفر أو غيره فقال على وجه الاستنتاج مما قبله : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي وجد منهم الإقرار بالإيمان ) اتقوا الله ) أي اجعلوا بينكم وبين ما سمعتم من وعيده للمفسدين وقاية تصديقاً لما أقررتم به ، لما له سبحانه من العظمة التي هي جديرة بأن تخشى وترجى لجمعها الجلال والإكرام .
ولما كانت مجامع التكليف منحصرة يف تخلِّ من فضائح المنهيات وتحلِّ بملابس المأمورات ، وقدم الأول لأنه من درء المفاسد ، أتبعه الثاني فقال : ( وابتغوا ) أي اطلبوا طلباً شديداً ) إليه ) أي خاصة ) الوسيلة ) أي التقريب بكل ما يوصل إليه من طاعته ، ولا تيأسوا وإن عظمت ذنوبكم لأنه غفور رحيم .
ولما كان سببحانه قد قدم أوامر ونواهي ، وكان الاستقراء قد أبان الناس عند الأمر والنهي بين مقبل ومعرض ، وكان قد أمر المقبل بجهاد المعرض ، وكان للجهاد .
بما له من عظيم النفع وفيه من المشقة - مزيدُ خصوصية ، أفرد بالذكر تأكيداً لما مضى منه وإعلاماً بأنه للعاصي مطلقاً سواء كان بالكفر أو بغيره فقال : ( وجاهدوا في سبيله ) أي لتكون كلمته هي العليا ) لعلكم تفلحون ) أي لتكون حالكم حال من يرجى نيله لكل ما يطلبه ، وهذا شامل لكل أمر بمعروف ونهي عن منكر في أعلى درجاته وأدناها .
المائدة : ( 36 - 39 ) إن الذين كفروا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )(2/452)
صفحة رقم 453
ولما كان ترك هذه الأوصاف الثلاثة : التقوى وطلب الوسيلة والجهاد مزيلاً للوصف الأول وهو الإيمان ، ناسب كل المناسبة تحذيراً من تركها ذكرُ حال الكفار وأنه لا تنفعهم وسيلة في تلك الدار فقال معللاً لما قبله : ( إن الذين كفروا ) أي بترك ما في الآية السابقة ، ورتب الجزاء عن الماضي زيادة في التحذير ) ولو أن لهم ما في الأرض ( وأكد ما أفهمه الكلام من استغراق الظرف والمظروف فقال : ( جميعاً ) أي مما كان يطلب منهم شيء يسير جداً منه ، وهو الإذعان بتصديق الجنان إنفاق الفضل من المال ، وزاد الأمر هولاً بقوله : ( ومثله ( ولما كان لدفع الفداء جملة ما ليس له مفرَّقاً قال ) معه ( ولما كان المقصود تحقير ذلك بالنسبة إلى عظمة يوم التغابن وإن كان عند الكفار الذين جعلوا غاية أمرهم الحياة الدنيا أعظم ما يكون ، والإفهام بأن المراد بالمثل الجنس ليشمل ما عساه أن يفرض من الأمثال ، أعاد الضمير على هذين الشيئين على كثرتهما وعظمتهما مفرداً ، فقال معبراً بالمضارع الدال على تجديد الرغبة في المسألة على سبيل الاستمرار ولأن السياق للمتصفين بالكفر والمحاربة لله ولرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والسعي في الأرض بالفساد ، ولذلك صرح بنفي القبول على الهيئة الآتية : ( ليفتدوا به ) أي يجدوا الافتداء في كل لحظة ، أي بما ذكر ) من عذاب يوم القيامة ( ولما كان المراد تهويل الأمر بردّه ، وكان ذلك يحصل بغير تعيين الرادّ ، قال : ( ما تقبل منهم ( بالبناء للمفعول ، أي على حالة من الحالات وعلى يد من كان ، لأن المدفوع إليه ذلك تام القدرة وله الغنى المطلق .
ولما كان من النفوس ما هو سافل لا ينكّبه الرد ، وكان الرد لأجل إمضاء المُعَدِّ من العذاب ، قال مصرحاً بالمقصود : ( ولهم ) أي بعد ذلك ) عذاب أليم ) أي بالغ الإيجاع بما أوجعوا أولياء الله بسترهم لما أظهروا من شموس البيان ، وانتهكوا من حرمات الملك الديان .
ثم علل شدة إيلامه بدوامه فقال : ( يريدون أن يخرجوا ) أي يكون لهم خروج في وقت ما إذا رفعهم اللهب إلى أن يكاد أن يلقيهم خارجاً ) من النار ( ثم نفى خروجهم على وجه التأكيد الشديد فقال : ( وما هم ( وأغرق في النفي بالجار واسم الفاعل فقال : ( بخارجين منها ) أي ما يثت لهم خروج أصلاً ، ولعله عبر في النفي بالاسمية إشارة إلى أنه يتجدد لهم الخروج من الحرور إلى الزمهرير ، فإن سمى أحد ذلك خروجاً فهو غير مرادهم .
ولما كان المعذبون في دار ربما دام لهم المكث فيها وانقطع عنهم العذاب قال : ( ولهم ) أي خاصة دون عصاة المؤمنين ) عذاب ) أي تارة بالحر وتارة بالبرد وتارة بغيرهما ، دائم الإقامة لا يبرح ولا يتغير ) مقيم ((2/453)
صفحة رقم 454
ولما كانت السرقة من جملة المحاربة والسعي بالفساد ، وكان فاعلها غير متقٍ ولا متوسل ، عقب بها فقال : ( والسارق ( الآخذ لما هو في حرز خفيةً لكونه لا يستحقه ) والسارقة ) أي كذلك ؛ ولما كان التقدير : وهما مفسدان ، أو حكمهما فيما يتلى عليكم ، سبب عنه قوله : ( فاقطعوا ( وال .
قال المبرد - للتعريف بمعنى : الذي ، والفاء للسبب كقولك : الذي يأتيني فله كذا كذا درهم ) أيديهما ) أي الأيامن من الكوع إذا كان المأخوذ ربع دينار فصاعداً من جرز مثله من غير شبهة له فيه - كما بين جميع ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - ويرد مع القطع ما سرقه ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( جزاء بما كسبا ) أي فعلا من ذلك ، وإدالته على أدنى وجوه السرقة وقاية للمال وهواناً لها للخاينة ، وديتها إذا قطعت في غير حقها خمسمائة دينار وقاية للنفس من غير أن ترخصها الخيانة ، ثم علل هذا الجزاء بقوله : ( نكالاً ) أي منعاً لهما كما يمنع القيد ) من الله ) أي الذي له جميع العظمة فهو المرهوب لكل مربوب ، وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال : ( والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) عزيز ) أي في انتقامه فلا يغالبه شيء ) حكيم ) أي بالغ الحكم والحكمة في شرائعه ، فلا يستطاع الامتناع من سطوته ولا نقض شيء يفعله ، لأنه يضعه في أتقن مواضعه .
ولما ختم بوصفي العزة والحكمة ، سبب عنهما قوله : ( فمن تاب ) أي ندم وأقلع ، ودل على كرمه بالقبول في أيّ وقت وقعت التوبة فيه ولو طال زمن المعصية بإثبات الجار فقال : ( من بعد ( وعدل عن أن يقول ( سرقته ) إلى ) ظلمه ( تعميماً للحكم في كل ظلم ، فشمل ذلك فعل طعمة وما ذكر بعده مما تقدم في النساء وغير ذلك من كل ما يسمى ظلماً ) وأصلح ) أي أوجد الإصلاح وأوقعه بردّ الظلامة والثبات على الإقلاع ) فإن الله ) أي بما له من كمال العظمة ) يتوب عليه ) أي يقبل توبته ويرجع به إلى أتم ما كان عليه قبل الظلم من سقوط عذاب الآخرة دون عقاب الدنيا ، رحمة من الله له ورفقاً به وبمن ظلمه وعدلاً بينهما ، لا يقدر أحد أن يمنعه من ذلك ولا يحول بينه وبينه لحظة ما ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ) أي الذي له الكمال كله أزلاً وأبداً ) غفور رحيم ) أي بالغ المغفرة والرحمة ، لا مانع له من ذلك ولا من شيء منه ولا من شيء يريد فعله ، بل هو فعال لما يريد ، والآية معطوفة على آية المحاربين وإنما فصل بينهما بما تقدم لما ذكر من العلة الطالبة لمزيد العناية به .
المائدة : ( 40 - 41 ) ألم تعلم أن. .. . .
) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هًّادُواْ(2/454)
صفحة رقم 455
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما كان معنى ذلك أنه لا اعتراض عليه سبحانه في شيء من ذلك ولا مانع ، لأن قدرته تامة ، ليس هو كمن يشاهد من الملوك الذين ربما يعجزون نم اعتراض أتباعهم ورعاياهم عن تقريب بعض ما لم يباشر اساءة ، وإبعاد بعض من لم يباشر إحساناً ، فكيف بغير ذلك قال تعالى مقرراً لذلك بتفرده في الملك : ( ألم تعلم أن الله ) أي الذي له جميع العز ) له ملك السموات ) أي على علوها وارتفاع سمكها وانقطاع أسباب ما دونها منها ) والأرض ) أي أن الملك خالص له عن جميع الشوائب .
ولما كان إيقاع النقمة أدل على القدرة ، وكان السياق لها لما تقدم من خيانة أهل الكتاب وكفرهم وقصة ابنيّ آدم والسرقة والمحاربة وغير ذلك ، قدم قوله معللاً لفعل ما يشاء بتمام الملك لا بغيره من رعاية لمصالح أو غيرها : ( يعذب من يشاء ) أي من بني يقبح منه شيء ) ويغفر لمن يشاء ) أي وإن كان عمله موبقاً ، لأنه لا يتصور منه ظلم ولا يسوغ عليه اعتراض .
ولما كان التقدير : لأنه قادر على ذلك ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي له الإحاطة بكل كمال ) على كل شيء ) أي شيء ) قدير ) أي ليس هو كغيه من الملوك الذي قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدى عدوه ، وهذه القضية الضرورية ختم بها ما دعت المناسبة إلى ذكره من الأحكام ، وكرَّ بها على أتم انتظام إلى أوائل نقوض دعواهم في قوله
77 ( ) بل أنتم بشر ممن خلق ( ) 7
[ المائدة : 18 ] ولما تقرر ذلك ، كان من غير شك علةً بعدم الحزن على شيء من أمرهم ولا من أمر غيرهم ممن عصي شيئاً من هذه الأحكام ، كما قال تعالى :
77 ( ) ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب منقبل أن نبرأها ( ) 7
[ الحديد : 22 ] إلى أن قال :
77 ( ) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ( ) 7
[ الحديد : 23 ] ، فقوله : ( ياأيها الرسول ) أي المبلغ لما أرسل به - معلول لما قبله .
وأدل دليل على ذلك قوله تعالى ) ومن يرد اله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ( ) ولا يحزنك ) أي لا يوقع عندك شيئاً من الحزن صنعُ ) الذين يسارعون في الكفر ) أي يفعلون في إسراعهم يف الوقوع فيه غاية الإسراع فعلَ من(2/455)
صفحة رقم 456
يسابق غيره ، وفي تبيينهم بالمنافقين وأهل الكتاب بشارة بإتمام النعمة على العرب بدوام إسلامهم ونصرهم عليهم ، وقدم أسوأ القسمين فقال : ( من الذين قالوا آمنا ( ولما كان الكلام هو النفسي ، أخرجه بتقييده بقوله : ( بأفواههم ( معبراً لكونهم منافقين بما منه ما هو أبعد عن القلب من اللسان ، فهم إلى الحيوان أقرب منهم إلى الإنسان ، وزاد ذلك بياناً بقوله : ( ولم تؤمن قلوبهم ( ولما بين المسارعين بالمنافقين ، عطف عليهم قسماً آخر هم أشد الناس مؤاخاة لهم فقال : ( ومن الذين هادوا ) أي الذين عرفت قلوبهم وكفرت ألسنتهم تبعاً لمخالفة قلوبهم لما تعف عناداً وطغياناً ، ثم أخبر عنهم بقوله : ( سمّاعون ) أي متقبلون غاية التقبل بغاية الرغبة ) للكذب ) أي من قوم من المنافقين يأتونك فينقلون عنك الكذب ) سمّاعون لقوم آخرين ) أي الصدق ، ثم وصفهم بقوله : ( لم يأتوك ) أي لعلة ، وذكر الضمير لإرادة الكلام ، لأن المقصود البغض على نفاقهم ) يحرفون الكلم ) أي الذي يسمعونه عنك على وجهة فيبالغون في تغييره وإمالته بعد أن يقيسوا المعنيين : المغير والمغير إليه ، واللفظين فلا يبعدوا به ، بل يأخذون بالكلم عن حده وطرفه إلى حد آخر قريب منه جداً ، ولذلك ، أثبت الجار فقال : ( من بعد ) أي يثبتون الإمالة من مكان قريب من ) مواضعه ) أي النازلة عن رتبته بأن يتأولوه على غير تأويله ، أو يثبتوا ألفاظاً من الحرف وهو الحد والطرف ، وانحرف عن الشيء : مال عنه ، قال الصغاني : وتحريف الكلام عن مواضعه : تغييره ، وقال أبو عبد الله القزاز : والتحريف والتفعيل ، من : انحرف عن الشيء .
إذا مال ، فمعنى حرفت الكلام : أزلته عن حقيقة ما كان عليه
في المعنى ، وأبقيت له شبه اللفظ ، ومنه قوله تعالى ) يحرفون الكلم ( ، وذلك أن اليهود كانت تغيير معاني التوراة بالأشباه ، وفي الحديث " يسلط عليهم طاعون يحرف عن جهته ، أي بالتخفيف مثل : حرفته ، والمحارفة : المقايسة ، من المحراف وهو الميل الذي يقاس به الجراح. انتهى. فالآية من الاحتباك : حذف منها أولا الإتيان وأثبت عدمه ثانيا للدلالة عليه ، وحذف منها ثانيا الصدق ودل بإثبات ضده الكذب في الأولى .
ولما كان كأنه قيل :
ولملا كان كأنه قيل : ما غرضهم بإثبات الكذب وتحريف الصدق ؟ قال : ( يقولون ) أي لمن يوافقهم ) إن أوتيتم ) أي من أي مؤت كان ) هذا ) أي المكذوب والمحرف ) فخذوه ) أي اعملوا به ) وإن لم تؤتوه ) أي بأن أوتيتم غيره أو سكت عنكم ) فاحذروا ) أي بأن تؤتوا غيره فتقبلوه .(2/456)
صفحة رقم 457
ولما كان التقدير : فأولئك الذين أراد الله فتنتهم ، عطف عليه قوله ) ومن يرد الله ) أي الذي له الأمر كله ) فتنته ) أي أن يحل به يحل به ما يميله عن وحه سعادته بالكفر حقيقة أو مجازا ) فلن تملك له من الله ) أي الملك ذلك أنت وأنت أقرب الخلق إلى الله فمن يملكه .
ولما كان هذا ، أنتج لا محالة : ( أولئك ) أي البعداء من الهدى ) الذين لم يرد الله ) أي وهو الذي لا راد لما يريده ولا فاعل لما يرده ، فهذه أشد الآيات على المعتزلة ) أن يطهر قلوبهم ) أي بالإيمان ، والجملة كالعلة لقوله ) فلن تملك له من الله شيئا ( ولما ثبت أن قلوبهم نجسة ، أنتج ذلك قوله ) لهم في الدنيا خزي ) أي بالذل والهوان ، أما المنافقون فبإظهار الأسرار والفضائح الكبار وخوفهم من الدمار ، وأما الييهود فبيان أنهم حرفوا وبدلوا وضرب الجزية عليهم وغير ذلك من الصغار ) ولهم في الآخرة ( التي من خسرها فلا ربح له بوجه ما ) عذاب عظيم ) أي لعظيم ما ارتكبوه من هذه المعاصي المتضاعفة .
المائدة : ( 42 - 43 ) سماعون للكذب أكالون. .. . .
) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما ذكر التحريف ، ذكر أثره وهو الحكم به فقال مكرراً لوصفهمزيادة في توبيخهم وتقبيح شأنهم : ( سمّاعون ) أي هم في غاية الشهوة والانهماك في سماعهم ذلك ) للكذب أكّالون ) أي على وجه المبالغة ) للسحت ) أي الحرام الذي يسحت البركة أي يستأصلها ، وهو كل ما لا يحل كسبه ، وذلك أخذهم الرشى ليحكموا بالباطل على نحو ما حرفوه وغيره من كلام الله ، قال الشيخ أبو العباس المرسي : ومن آثر نم الفقراء السماع لهواه ، وأكل ما حرمه مولاه ، فقد استهوته نزعة يهودية ، فإن القوال يذكر العشق والمحبة والوجد وما عنده منها شيء .
ولما كانوا قد يأخذون الرشوة ولا يقدرون على إبرام الحكم بما أرادوه ، فيطمعون في أن يفعلوا ذلك بواسطة ترافعهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيترافعون إليه ، فإن حكم بينهم بما أرادوا قبلوه واحتجوا به على من لعله يخالفهم ، وإن حكم بما لم يريدوه قالوا : ليس هذا في ديننا - طمعاً في أن يخليهم فلا يلزمهم بما حكم ، أعلمه الله تعالى بما يفعل في أمرهم ، وحذره غوائل مكرهم ، فقال مفوضاً الخيرة إليه في أمر المعاهدين إلى مدة -(2/457)
صفحة رقم 458
وأما أهل الجزية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلى حاكمنا - مسبباً عن أكلهم الحرام وسماعهم الكذب : ( وإن ( دالاً بعطفه على غير معطوف عليه أن التقدير : فإن حكمت بينهم لم ينفعوك شيئاً لإقبالك عليهم ، قال : وإن ) تعرض عنهم ) أي الكفرة كلهم من المصارحين والمنافقين ) فلن يضروك شيئاً ) أي إعراضك عنهم واستهانتك بهم .
ولما كان التخيير غير مراد الظار في جواز الحكم بينهم عند الترافع إلينا وعدمه ، بل معناه عدم المبالاة بهم ، أعرض عنهم أولاً ، فحقيقته بيان العاقبة على تقديري الفعل والترك ، علَّمه كيف يحكم بينهم ، فقال عاطفاً على ما قدرته : ( وإن حكمت ) أي فيهم ) فاحكم ) أي أوقع الحكم ) بينهم بالقسط ) أي العدل الذي أراكه الله - على أن الآية ليست في أهل الذمة ، والحكم في ترافع الكفار إلأينا أنه كان منهم أو من أحدهم التزام لأحكامنا أم منا التزام للذب عنهم وجب ، لقوله تعالى ) فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ( وإلا لم يجب ، ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) يحب المقسطين ) أي الفاعلين للعدل السوي من غير حيف أصلاً .
ولما كان التقدير : فكيف يحكمونك وهم يكذبونك ويدعون أنك مبطل ، عطف عليه قوله معجباً منهم موبخاً لهم : ( وكيف يحكمونك ) أي في شيء من الأشياء ) وعندهم ) أي والحال أنه عندهم ) التوراة ( ثم استأنف قوله : ( فيها حكم الله ) أي الذي لا يداني عظمته عظمة وهو الذي كان مقرراً في شرعهم أنه لا يسوغ خلافه ، فإن كانوا يعتقدون ذلك إلى الآن لم يجز لهم العدول إليك على زعمهم ، وإن كانوا لا يعتقدونه ويعتقدون أن حكمك هو الحق ولم يؤمنوا بك كانوا قد آمنوا ببعض وكفروا ببعض .
ولما كان الإعراض عن حكمه سبحانه عظيماً ، وكان وقوعه ممن يدعي أنه مؤمن به بعيداً عظيماً شديداً ، قال : ( ثم يتولون ) أي يكلفون أنفسهم الإعراض عنه سواء تأيد بحكمك به أو لا لأجل الأعراض الدنيوية ، ولما كان المراد بالحكم الجنس ، وكانوا يفعلون بعض أحكامها فلم يستغرق زمان توليهم زمان البعد ، أدخل الجار لذلك فقال : ( من بعد ذلك ) أي الأمر العالي وهو الحكم الذي يعلمون أنه حكم الله ، فلم يبق تحكيمهم لك من غير إيمان بك إلا تلاعباً .(2/458)
صفحة رقم 459
ولما كان التقدير : فما أولئك بالمريدين للحق في ترافعهم إليك ، عطف عليه قوله : ( وما أولئك ) أي البعداء من الله ) بالمؤمنين ) أي العريقين في صفة الإيمان بكتابهم ولا بغيره مما يستحق الإيمان به ، لأنهم لو كانوا عريقين في ذلك آمنوا بك لأن كتابهم دعا إليك .
المائدة : ( 44 ) إنا أنزلنا التوراة. .. . .
) إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( ( )
ولما تضمن هذا مدح التوراة ، صرح به فقال تأكيداً لذمهم في الإعراض عما دعت إليه من أصل وفرع ، وتحذيراً من مثل حالهم : ( إنا أنزلنا ) أي على ما لنا من العظمة ) التوراة ( ثم استأنف قوله معظماً لها : ( فيها هدى ) أي كلام يهدي بما يدعو إليه إلى طريق الجنة ) ونور ) أي بيان لا يدع لبساً ، ثم استأنف المدح للعاملين بها فقل : ( يحكم بها النبيون ( ووصفهم بأعلى الصفات وذلك الغنى المحض ، فقال مادحاً لا مقيداً : ( الذين أسلموا ) أي أعطوا قيادهم لربهم سبحانه حتى لم يبق لهم اختيار اصلاً ، وفيه تعريض بأن اليهود بعداء من الإسلام وإلا لاتبعوا أنبياءهم فيه ، فكانوا يؤمنون بكل من قام الدليل على نبوته .
ولما كان المعلوم أن حكمهم بأمر الله لهم باتباع التوراة ومراعاتها ، عُلِم أن لاتقدير : بما استحفظوا من كتاب الله ، فحذف لدلالة ما يأتي عليه وإشعار الإسلام به ، ثم بين المحكوم له تقييداً به إشارة إلى أنها ستنسخ فقال : ( للذين هادوا ) أي لمن التزم اليهودية ) والرّبانيون ) أي أهل الحقيقة ، منهم الذين انسلخوا نم الدنيا وبالغوا فيما يوجب النسبة إلى الرب ) والأحبار ) أي العلماء الذي أسلموا ) بما ) أي بسبب ما .
ولما كان سبب إسلام أمرهم بالحفظ ، لا كونه من الله بلا واسطة ، بني للمفعول قوله : ( استُحفظوا ) أي الأنبياء ومن بعدهم ) من كتاب الله ) أي بسبب ما طلبوا منهم وأمروا به من الحفظ لكتاب الذي له جميع صفات الكمال الذي هو صفته ، فعظمته من عظمته ، وحفظه : دراسته والعمل بما فيه ) وكانوا ) أي وبما كانوا ) عليه شهداء ) أي رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً ، فالآية - كما ترى - من فن الاحتباك : ترك أولاً ( بما استحفظوا ) لدلالة ما ذكر هان عليه ، وترك ذكر الإسلام هنا لدلالة ذكره أولاً عليه ، وإنما خص الأول بذكر الإسلام لأن الأنبياء أحق به ، وهو(2/459)
صفحة رقم 460
داع إلى الحفظ قطعاً ، وخص الثاني بالاستحفاظ لأن الأتباع أولى به ، وهو دال على الإسلام .
ولما كان هذا كله ذماً لليهود بما تركوا من كتابهم ، ومدحاً لمن راعاه منهم ، وكان ذلك الترك إما لرجاء أو خوف ، قال مخاطباً لهذه الأمة كلها طائعها وعاصيها ، وحذراً لها من مثل حالهم ومرغباً في مثل حال الأنبياء والتابعين لهم بإحسان ، مسبباً عن ذلك : ( فلا تخشوا الناس ) أي في العمل بحكم من أحكام الله ) واخشون ) أي فإن ذلك حامل لكم على العدل والإحسان ، فمن كان منكم مسلماً طائعاً فليزدد طاعة ، ومن لم يكن كذلك فليبادر بالانقياد والطاعة ، وهذا شامل لليهود وغيرهم .
ولما قدم الخوف لأنه أقوى تأثيراً أتبعه الطمع فقال : ( ولا تشتروا ( ولما كان الاشتراء معناه اللجاجة في أخذ شيء بثمن ، وكان المثمن أشرف من الثمن من حيث إنه المرغوب فيه ، جعل الآيات مثمناً وإن اقترنت بالباء ، حتى يفيد الكلام التعجب من الرغبة عنها ، وأنها لا يصح كونها ثمناً فقالك ) بآياتي ثمناً قليلاً ) أي من الرشى وغيرها لتبدلوها كما بدل أهل الكتاب .
ولما نهى عن الأمرين ، وكان ترك الحكم بالكتاب إما لاستهانة أو لخوف أو رجاء أو شهوة ، رتب ختام الآيات على الكفر والظلم والفسق ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : من جحد حكم الله كفرن ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق .
فلما كان التقدير : فمن حكم بما أنزل الله فأولئك هم المسلمون ، عطف عليه ما أفهمه من قوله : ( ومن لم يحكم ) أي يوجد الحكم ويوقعه على وجه الاستمرار ) بما أنزل الله ) أي الذي له الكمال كله فلا أمر لأحد معه تديناً بالإعراض عنه ، أعم من أن يكون تركه له حكماً بغيره أو لا ) فأولئك ) أي البعداء من كل خير ) هم الكافرون ) أي المختصون بالعراقة في الكفر ، وهذه الآيات من قوله تعالى
77 ( ) ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ( ) 7
[ المائدة : 41 ] إلى هنا نزلت في الزنا ، ولكن لما كان السياق للمحاربة ، وكان كل من القتل وقطع الطريق والسرقة محاربة ظاهرة مع كونه فساداً صرح به ، ولما كان الزنا محاربة بالنظر إلى كونه في الغالب عن تراض ، وصاحبه غير متزيّ بزيّ المحاربة ، وغير محاربة بالنظر إلى كونه في الغالب عن تراض ، وصاحبه غير متزيّ بزيّ المحاربين ، لم يصرح في هذه الآيات باسمه وإن كانت نزلت فيه ، روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عهما عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته : ( إن الله بعث محمداً وأنزل عليه كتاباً ، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فتلوناها ووعيناها ) الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ( وقد رجم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورجمنا(2/460)
صفحة رقم 461
بعده - الحديث .
وفي آخره : ولولا أني أخشى أن يقول الناس : زاد في كتاب الله ، لأثبته في حاشية المصحف ( وأصله في الصحيحين وغيرهما ، وللحاكم والطبراني عن أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء رضي الله عنها بلفظ : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة ( وفي صحيح ابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال لزرّ بن حبيش : ( كم تعدون سورة الأحزاب من آية ؟ قال : قلت : ثلاثاً وسبعين ، قال : والذي يحلف به كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة ، وكان فيها آية الرجم : الشيخ والشيخة ( الحديث .
وللشيخين : البخاري في مواضع ، ومسلم وأحمد وأبي داود - وهذا لفظه - والدرامي والترمذي في الحدود والنسائي في الرجم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : ( إن اليهود جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما تجدون في التوراة في شأن الزنا ؟ ) فقالوا : نفضحهم ويجلدون - وفي رواية : فقال : ( لا تجدون في التوراة الرجم ؟ ) فقالوا : لا نجد فيها شيئاً - فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه : كذبتم ، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فأتوا بالتوراة ، فنشروها فجعل أحدهم - وفي رواية - مدراسها الذي يدرسها منهم - يدك ، فرفعها فقال : ما هذه ؟ فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرجما ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : فرأيت الرجل يحنأ على المرأة يقيها الحجارة ( وفي لفظ للبخاري في التفسير أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (2/461)
صفحة رقم 462
قال : ( لا تجدون في التوراة الرجم ؟ ( فقالوا : لا نجد فيها شيئاً ، فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) وفي لفظ له في التوحيد - وهو رواية أحمد - أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي قال : ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) ولأبي داود عن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما قال : ( أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى القف ، فأتاهم في بيت المدراس فقالوا : يا أبا القاسم إن رجلاَ منا زنى بامرأة فاحكم ، فوضعوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسادة فجلس عليها ثم قال : آمنت بك وبمن أنزلك ، ثم قال : ائتوني بأعلمكم ، فأتي بفتى شاب ) فذكر قصة الرجم نحو الذي قبله ، وسكت عليه أبو داود والحافظ المنذري في مختصره وسنده حسن ، ولمسلم وأبي داود - وهذا لفظه - والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : ( مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيهودي محمم .
فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني ؟ فقالوا : نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم فقال : نشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقالك اللهم لا ، ولولا أ ، ك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نحد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد وتركنا الرجم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه ، فأمر به رجم ، فأنزل الله عزّ وجلّ
77 ( ) ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ( ) 7
[ المائدة : 41 ] إلى قوله :
77 ( ) يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ( ) 7
[ المائدة : 41 ] إلى قوله :
77 ( ) ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( ) 7
[ المائدة : 44 ] في اليهود - إلى قوله :
77 ( ) ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ( ) 7
[ المائدة : 47 ] قال : هي في الكفار كلها ( يعني هذه الآية .
وروى الدارقطني في آخر النذور من السنن عن جابر رضي الله عنه قال : ( أتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (2/462)
صفحة رقم 463
بيهودي ويهودية قد زنيا ، فقال لليهود : ( ما يمنعكم أن تقيموا عليهما الحد ؟ ) فقالوا : كنا نفعل إذا كان الملك لنا ، فلما أن ذهب ملكنا فلا نجتري على الفعل ، فقال لهم : ( ائتوني بأعلم رجلين فيكم ) ، فأتوه بابني صوريا ، فقال لهما : أنتم أعلم من ورائكما ؟ قالا : يقولون ، قال : ( فأنشدكما بالله الذي أنزل التوراة على موسى كيف تجدون حدهما في التوراة ؟ ) فقالا : الرجل مع المرأة زنية وفيه عقوبة ، والرجل على بطن المرأة زنية وفيه عقوبة ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة رُجِم ، قال : ائتوني بالشهود فشهد أربعة ، فرجمهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( - انتهى .
وهذه الآية ملتفتة إلى آية ) ياأيها الذين ىمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ( - انتهى .
وهذه الآية ملتفتة إلى آية أن هؤلاء لما تركوا هذا الحكم ، جرَّهم إلى الكفرن وليس في هذه الروايات - كما ترى - تقييد الرجم بالإحصان ، وكذا هو فما هو موجود عندهم في التوراة ، قال في السفر الثالث وغيره : ثم كلم الله موسى ولقال له : قل لبني إسرائيل : أيُّ رجل من بني إسرائيل ومن الذين يقبلون إلى أيّ ويسكنون بين بني إسرائيل ألقى زرعه في امرآة غريبة يقتل ذلك الرجل فليرجمه جميع الشعب بالحجارة ، وأنا أيضاً أنزل غضبي بذلك الرجل وأهلكه من شعبه ، لأنه ألقى زرعه في غريبة وأراد أن ينجس مقدسي وأن ينجس اسم قدسي ، فإن غفل شعب الأرض عن الرجل الذي ألقى زرعه في غريبة ولم يوجبوا عليه القتل أنزل غضبي بذلك الرجل وبقبيلته وأهلكه وأهلك من يضل به ، لأنهم ضلوا بنساء غريبات لسن لهم بحلال ، ثم قال : الرجل الذي يأتي امرأة صاحبه وامرأة رجل غريب يقتلان جميعاً ، والرجل الذي يرتكب ذكراً مثله فيرتكب منه ما يرتكب من النساء فقد ارتكبا نجاسة ، يقتلان ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يتزوج امرأة وأمها فقد ارتكب خطيئة ، يحرق بالنار هو وهما ، والرجل الذي يرتكب من اليهيمة ما يرتكب من النساء يقتل قتلاً ، والبهيمة ترجم أيضاً ، والمرأة التي ترقد بين يدي البهيمة لترتكب منها البلاء تقتل المرأة والبهيمة جميعاً ، يقتلان ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يأتي امرأة طامثاً ويكشف عورتها ، قد كشف عن ينبوعها وهي أيضاً كشفت عن ينبوع دمها ، يهلكان جميعاً من شعبهما ، وقال : والرجل الذي يأتي امرأة أبيه قد كشف هذا عورة أبيه ، يقتلان جميعاً ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يأتي كنّته يقتلاه كلاهما ، لأنهما(2/463)
صفحة رقم 464
ارتكبا خطيئة ، ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يتزوج أخته من أمه أو من أبيه ويرى عورتها وترى عورته ، هذا عار شديد ، يقتلان قدام شعبهم ، وذلك لأنه كشف عورة أخته ، يكون إثمهما في رؤسهما ، لا تكشفن عورة عمتك ولا خالتك لأنهما قرابتك ، ومن فعل ذلك يعاقب بإثم فضيحته ، والرجل الذي يأتي امرأة عمه قد كشف عورة عمه يعاقبان بخطيئتهما ويموتان ، والرجل الذي يتزوج امرأة أخيه قد ارتكب إثماً ، لأنه كشف عورة أخيه يموتان ، بل وصرح برجم البكر فقال في السفر الخامس فيمن تزوج بكراً فادعى أنه وجدها ثيباً : فإن كان قذفه إياها حقاً ولم يجدها عذراء تخرج الجارية إلى بيت أبيها ، ويرجمهاه أهل القرية بالحجارة وتموت ، لأنها ارتكبت حوباً بين يدي بني إسرائيل وزنت في بيت أبيها ، نحوّا الشر عنكم ، وإن وجد رجل يسفح بامرأة رجل يقتلان كلاهما : الرجل والمرأة ، بل صرح برجم البكر المكرهة فقال عقب ما تقدم : وإن كان لرجل خطيبة بكر لم يبتن بها بعد ، فخرجت خارجاً فظفر بها رجل وقهرها وضاجعها ، يخرجان جميعاً ويرجمان حتى يموتا ، وإنما تقتل الجارية مع الرجل لأنها لم تصرخ ولم تستغث - انتهى .
فالأحاديث المفيدة بالإحصان في هذه القصة ينبغي أن تكون مرجوحة ، لأن رواتها ظنوا أن الجادة الإسلامية شرع لهم .
المائدة : ( 45 - 46 ) وكتبنا عليهم فيها. .. . .
) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ( )
ولما كان ختام هذه الآيات في ترهيب المعرض عن الحكم بما أنزل الله مطابقاً لقوله في أول سياق المحاربة ) ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ( رجع إلى القتل مبيناً أنهم بدلوا في القتل كما بدلوا في الزنا ، ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، فقال : ( وكتبنا ) أي بما لنا من العظمة ) عليهم فيها ) أي في التوراة ، عطفاً على قوله ) كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس ( ، وإذا أنعمت النظر وجدت ما بينهما لشدة اتصاله وقوة الداعية إليه كأنه اعتراض ) أن النفس ) أي مقتولة قصاصاً مثلاً بمثل ) بالنفس ) أي بقتل النفس بغير وجه مما تقدم ) والعين ) أي تقلع ) بالعين ) أي قلعت بغير شبهة ) والأنف ( يجدع ) بالأنف ( كذلك ) والأذن ( تصلم ) بالأذن ( على ما تقدم ) والسن ( تقلع ) بالسن ( إذا قلعت عمداً بغير حق ) والجروح ) أي التي تنضبط كلها ) قصاص ( مثلاً بمثل سواء بسواء .(2/464)
صفحة رقم 465
ولما أوجب سبحانه هذا ، رخص لهم في النزول عنه ، فسبب عن ذلك قوله : ( فمن تصدق به ) أي عفا عن القصاص ممن يستحقه سواء كان هو المجروح إن كان باقياً أو وارثه إن كان هالكاً ) فهو ) أي التصدق بالقصاص ) فمن تصدق به ) أي عفا عن القصاص ممن يستحقه بالقصاص ) كفارة له ) أي ستارة لذنوب هذا العافي ولم يجعل لهم دية ، إنما هو القصاص أو العفو ، فمن حكم بما أنزل الله على وجه الاستمرار ) بما أنزل الله ) أي الذي لا كفوء له فلا أمر لأحد معه لخوف أو رجاء ، أو تديناً بالإعراض عنه سواء حكم بغيره أو لا ) فأولئك ) أي البعداء عن طريق الاستقامة ، البغضاء إلى أهل الكرامة ) هم الظالمون ) أي الذي تركوا العدل فضّلوا ، فصاروا كمن يمشي في الظلام ، فإن كانا تديناً بالترك كان نهاية الظلم وهو الكفر ، وإلا في الزنا نحو ما تقدم ثم قال : وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها
77 ( ) فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ( ) 7
[ المائدة : 42 ] إلى : ( المقسطين ( إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبني كانوا يؤدون نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الحق في ذلك فجعل الدية سواء ) قال ابن إسحاق : فالله أعلم أيّ ذلك كان وأخرجه النسائي في سننه من طريق ابن إسحاق ، وروي من طريق آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً ، قال : كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قُتِل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة أدى مائة وسق من تمر ، فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا نقتله فقالوا : بيننا وبينكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأتوه فنزلت
77 ( ) وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ( ) 7
[ المائدة : 42 ] والقسط : النفس بالنفس ، ثم نزلت
77 ( ) افحكم الجاهلية يبغون ( ) 7
[ المائدة : 50 ] انتهى .
وهذا نص مت عندهمة من التوارة في القصاص ، قال في السفر الثاني : وكل من(2/465)
صفحة رقم 466
ضرب رجلاً فمات فليقتل قتلاً ، وإذا تشاجر رجلان فأصابا امرأة حبلى فأخرجا جنيفها ولم تكن الروح حلت في السقط بعد ، فليغرم عهلى قدر ما يلزمه زوج المرأة ، وليؤد ما حكم عليه الحاكم ، فإن كانت الروح حلت في السقط فالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والجراحة بالجراحة واللطمة باللطمة ، وقال في السفر الثالث بعد ذكر الأعياد في الاصحاح السابع عشر : ومن قتل إنساناً يقتل ، ومن قتل بهيمة يدفع إلى صاحبها مثلها ، والرجل يضرب صاحبه ويؤثر فيه أثراً يعاب به يصنع به كما صنع ، والجروح قصاص : الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن ، كما يصنع الإنسان بصاحبه كذلك يصنع به ، القضاء واحد لكم وللذين يقبلون إليّ ، وقال في الثاني : إذا ضرب الرجل عين عبده أو أمته ففقأها فليعتقه بدل عينيه ، وإذا قلع سن عبده أو أمته فليعتقه بدل سنة - وذكر أحكاماً كثيرة ، ثم قال : ومن ذبح للأوثان فيهلك ، بل لله وحده ، وقال في الرابع : ومن يقتل نفساً لا يقتل إلا ببينة عادلة ، ولا تقبل شهادة شاهد واحد على قتل النفس ، ولا تقبلوا رشوة في إنسان يجب عليه القتل بل يقتل ، لوا تأخذوا منه رشوة ليهرب إلى قرية إلى الملجأ ليسكنها إلى وفات الحبر العظيم ، ولا تنجسوا الأرض التي تسكنونها ، لأن الدم ينجس الأرض ، والأرض التي يسفك فيها الدم لا يغفر لتلك الأرض حتى يقتل القاتل الذي قتل ، وقال في الخامس : ولا يقتل من قد وجب عليه القتل إلا بشهادة رجلين ، لا يقتل بشهادة رجل واحد ، وإذا رجمتم فالذي يُشَهد عليه فليبدأ برجمه الشهود أولاً ثم يبدأ به جميع الشعوب ، وأهلكوا الذين يعملون الشر واستأصلوهم من بينكم ، ون شهد رجل على صاحبه شهادة زور يقوم الرجلان قدام الحبر والقاضي فيفحصون عن أمرهما فحصاً شديداً ، فإن وجدوا رجلاً شهد شهادة ، زور يصنعوا به مثل ما أراد أن يصنع بأخيه ، ونحوّا الشر من بينكم ، وعاقبوا بالحق ليسمع الذين يتقون فيفزعوا ولا يعودوا أن يفعلوا مثل هذا الفعل القبيح بينكم ، ولا تشفق أعينكم على الظالم ، بل يكون قضاؤكم نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل .
ولما كانت هذه الآيات كلها - مع ما فيها من الأسرار - ناقضة أيضاً لما ادعوا من البنوة بما ارتكبوه من الذنوب من تحريف كلام الله وسماع الكذب وأكل السحت والإعراض عن أحكام التوراة والحكم بغير حكم الله ، أتبعها ما أتى به عيسى عليه السلام الذ ادعى فيه النصارى النبوة الحقيقية والشركة في الإلهية ، وقد أتى بتصديق التوراة في الشهادة لعى من خالفها من اليهود بالتبرؤ من الله ، مؤكداً لما فيها من التوحيد الذي هو عماد الدين وأعظم آياتها التي أخذت عليهم بها العهود ووضعت في تابوت(2/466)
صفحة رقم 467
الشهادة الذي كانوا يقدمونه أمامهم في الحروب ، فإن كانوا باقين على ما فيه من الميثاق نصروا وإلا خذلوا ، وناسخاً لشريعتهم مجازاة لهم من جنس ما كانوا يعملون من التحريف ، وشاهداً على من أطراه بالضلال فقال : ( وقفينا ( إيلى آخرها ، وكذا كل ما بعدها من آياتهم إلى آخر السورة ، لا تخلوا آية منها نم التعرض إلى نقض دعواهم لها بذكر ذنب ، أو ذكر عقوبة عليه ، أو ذكر تكذيب لهم من كتابهم أو نبيهم ، والمعنى : أوجدنا التقفية ، وهي اتباع شيء بشيء تقدِّمه ، فيكون أتيا في قفاه لكوهه وراءه ، وإلقاؤه في مظهر العظمة لتعظيم شأن عيسى عليه السلام ) على آثارهم ) أي النبيين الذين يحكمون بالتوراة ، وذكر الأثر يدل على أنهم كانوا قد تركوا دينهم ، لم يبق منه إلا رسم خفي ) بعيسى ( ونسبه إلى أمه إشارة إلى أنه لا والد له تكذيباً لليهود ، وإلى أنه عبد مربوب تكذيباً للنصارى ، فقال : ( ابن مريم مصدقاً ) أي عيسى عليه السلام في الأصول وكثير من الفروع و ) لما يبن يديه ) أي مما أتى به موسى عليه السلام قبله ) من التوراة ( وأشار إلى أنه ناسخ لكثير من أحكامها بقوله : ( وآتيناه الإنجيل ) أي أنزلناه بعظمتنا عليه كما أنزلنا التوراة على موسى عليه السلام .
ولما كان في الإنجيل المحكم الذي يفهمه كل أحد ، والمتشابه الذي لا يفهمه إلا الأفراد من خلص العباد ، ولا يقف بَعدَ فهمه عند حدوده إلا المتقون ، قال مبيناً لحاله : ( فيه ) أي آتيناه إياه بحكمتنا وعظمتنا كائناً فيه ) هدى ) أي وهو المحكم ، يهتدي به كل أحد سمعه إلى صراط مستقيم ) ونور ) أي حسن بيان كاشف للمشكلات ، لا يدع بذلك الصراط لبساً .
ولما كان الناسخ للشيء بتغيير حكمه قد يكون مكذباً له ، أعلم أنه ليس كذلك ، بل هو مع النسخ للتوراة مصدق لها فقال - أي مبيناً لحال الإنجيل عطفاً على محل ) فيه هدى ( : ( ومصدقاً ) أي الإنجيل بكماله ) لما بين يديه ( ولما كان الذي نزل قبله كثيراً ، عين المراد بقوله : ( من التوراة ( فالأول صفة لعيسى عليه السلام ، والثاني صفة لكتابه ، بمعنى أنه هو والتوراة والإنجيل متصادقون ، فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما ، لم يتخالفوا في شيء ، بل هو متخلق بجميع ما أتى به .
ولما كان المتقون خلاصة الخلق ، فهم الذين يُنزلون كل ما في كتب الله من محكم ومتشابه على ما يتحقق به أنه هدى ويتطابق به المتشابه والمحكم ، وكان قد بين أنه فيه من الهدى ما يسهل به رد المتشابه إليه فصار بعد البيان كله هدى ، قال معمماً بعد ذلك التخصيص : ( وهدى وموعظة للمتقين ) أي كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به وينتقلون مترقين من حال عالية إلى حال أعلى منها .(2/467)
صفحة رقم 468
ذكرُ بعض ما يدل على ذلك من الإنجيل الذي بين ظهراني النصارى الآن وقد مزجتُ فيه كلام بعض الأناجيل ببعض وأغلب السياق لمتى ، وعينتُ بعض ما خالفه ، قال لوقا : وجاء إليه قوم وأخبروه خبر الجليليين الذين خلط بيلاطس دماءهم مع دماء ذبائحهم ، فأجاب يسوع وقال لهم : لا تظنوا أن أولئك الجليليين أشد خطأ من كل الجليليين إذا أصابتهم هذه الأوجاع ، إن لم تتوبوا كلكم أنتم تهلكون مثلهم ، وهؤلاء الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سيلوخا وقتلهم أتظنون أنهم أكبر جرماً من جميع سكان يروشليم ، كلا أقول لكم ، إن لم تتوبوا فجميعكم يهلك ؛ وقال لهم : شجرة تين كانت لواحد مغروسة في كرمه ، جاء يطلب فيها ثمرة فلم يجد ، فقال للكرام : هذه ثلاث سنين آتي وأطلب فيها ثمرة فلا أجد ، اقطعها لئلا تبطل الأرض ، فقال : يا رب دعها في هذه السنة لأنكحها وأصلحها ، لعلها تثمر في السنة الآتية ، فإن هي أمثرت وإلا أقطعها .
قال متى : ولما نزل من الجبل تبعه جمع كبير وإذا أبرص قد جاء فسجد له وقال : إن شئت فأنت قادر أن تطهرني ، فمد يده ولمسه وقال له : قد شئت فاطهر ، وللوقت طهر برضه ، وقال له يسوع : لا تقل لأحد ولكن امض فأرٍ نفسَك للكاهن وقدم قرباناً كما أمر موسى للشهادة عليهم - وقال مرقس : بشهادتهم - قال لوقا : فلذاع عنه الكلام زواد ، واجتمع جمع كثير ليسمعوا منه ويستشفوا من أمراضهم ، وأما هو فكان يمضي إلى البرية ويصلي هناك .
وقال متى : ولما دخل كفرنا حوم جاء إليه قائد مائة فطلب إليه قائلاً : يا رب فتاي ملقى في البيت مخلع وسقيم جداً ، فقال له : إني آتي وأبرئه ، فأجاب قائد المائة وقال : يا رب لست مستحقاًأن تدخل تحت سقف بيتي ، ولكن قل كلمة فقط فيبرأ فتاي لأني تحت سلطان ، ولي جند ، إن قلت لهذا : اذهب ، ذهب ، ولآخر : ائت ، أتى ، ولعبدي : اعمل هذا ، عمل ، فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعونه : الحق أقول لكم إنني لم أجد مثل هذه الأمانة في إسرائيل ، أقول لكم : إن كثيراً يأتون من المشرق والمغرب - وقال لوقا : والشمال واليمين - يتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ قال لوقا : وكل الأنبياء في ملكوت الله السماوات ، وبنو ويكون الأولون آخرين والآخرون أولين ؛ وقال متى : في ملكوت السماوات ، وبنو الملكوت يلقون في الظلمة البرانية ، الموضع الذي يكون فيه البكاء وصرير الأسنان ، وقال يسوع لقائد المائة : اذهب كأمانتك يكن لك ، فبرأ الفتى في تلك الساعة ، وقال لوقا : ولما أكمل جميع كلامه ودخل كفرنا حوم ، وكان عبد لقائد المائة قد قارب الموت وكان كريماً عنده ، فلما سمع بيسوع أرسل إليه شيوخ اليهود يسألونه المجيء ليخلص عبده ، فلما جاؤوا إلى يسوع طلبوا منه باجتهاد وقالوا : إنه مستحق أن يفعل معه هذا ، (2/468)
صفحة رقم 469
لأنه محب لأمتنا وهو بنى لنا كنيسة ، فمضى يسوع معهم ، وفيما هو قريب من البيت أرسل إليه قائد المائة أصدقاءه قائلاً : يا رب لا تتعب فإني لا أستحق أن تدخل تحت سقف بيتي ، من أجل في بني إسرائيل مثل هذه الأمانة ، فرجع المرسلون إلى اليبت فوجدوا المريض قد برأ ، وفي غد كان يسوع ماضياً إلى مدينة اسمها نايين وتبعه تلاميذه أجمع وجمع كبير ، فلما قرب من باب المدينة إذا محمول قد مات وحيداً لأمه وكانت أرملة ، وجمع كبير من أهل المدينة معها ، فلما رآها الرب تحنن عليها وقال لها : لا تبكي ، وتقدم ولمس النعش فوقف الحاملون له ، وقال له : أيها الشاب لك أقول : قم واجلس فجلس الميت وبدأ يتكلم ، ودفعه لأمه ، ولحقهم خوف ومجدوا الله قائلين : لقد قام فينا نبي عظيم ، وتعاهد الله شعبه بصلاح ، فذاع هذا الكلام في كل اليهودية وكل الكور التي حولها .
قال متى : وجاء يسوع إلى بيت بطرس فنظر " لى حماته ملقاة تحمى ؛ وقال مرقس : وجاء إلى بيت سمعان وأندراوس مع يعقوب ويوحنا فرأى حماة سمعون في حمى شديدة فقالوا له من أجلها ، فقدم وأمسك بيدها وأقامها ؛ وقال متى : فمس يديها فتركها الحمى وقامت تخدمهم ؛ وقال لوقا : ونهضت للوقت تخدمهم ، فلما كان المساء - قال مرقس : عند غروب الشمس - قدموا إليه مجانين كثيراً ، قال مرقس : ووقف جميع أهل المدينة على الباب ، وأبرأ كثيراً ممن به علة رديئة ، وأخرج شياطين كثيرة ؛ وقال متى : وكان يخرج الأرواح بكلمة ، وأبرأ كل سقيم لكي يتم ما قيل في أشعياء النبي القائل : إنه أخذ أمراضنا وحمل أوجاعنا .
وسحرا جدا قام وخرج إلى البرية ليصلي هناك وسمعون ومن معه يطلبونه ، فلما وجدوه قالوا له : إن لاجمع يطلبك ، فقال لهم : سيروا بنا إلى القرى والمدن القريبة لنكرز ، فإني لهذا وافيتُ ، فأقبل يبشر في مجمعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين ؛ وقال لوقا : وفي غد اليوم خرج وذهب إلى موضع قفر والجمع يطلبونه ، وجاؤوا إليه وأمسكوه لئلا لئلا يمضي من عندهم ، فقال لهم : إنه ينبغي أن أبشر في المدن الأخر بملكوت الله ، لأني لهذا أرسلت ، وكان يكرز في مجامع الجليل ، وكان لما اجتمع إليه جمع ليسمعوا كلام الله كان هو واقفاً على بحيرة جاناسر ، فرأى سفينتين موقفتين على شاطىء البحيرة واللصيادون قد صعدوا عليها ليغسلوا شباكهم ، فصعد إلى إحداهما التي لسمعان ، وأمر أن يبعدها عن الشط قليلاً ، وجلس يعلم في الجمع من السفينة ؛ ولما أكمل كلامه قال لسمعان : تقدم إلى اللج وألقوا شباككم(2/469)
صفحة رقم 470
فقال : يا معلم قد تعبنا الليل أجمع ولم نأخذ شيئاً ، وبكلمتك نحن نلقي شباكنا ، ولما فعلوا ذلك أخذوا سمكاً كثيراً ، وكادت شباكهم تتخرق ، فأشاروا إلى شركائهم في السفينة الأخرى ليأتوا يعينوهم ، فلما جاؤوا ملؤوا السفينتين حتى كادتا أن تغرقا ، فلما رأى سمعان ذلك خر عند قدمي يسوع وقال له : ابعد عني يا سيدي لأني رجل خاطىء ، لأن الخواف اعتراه وكل من معه لأجل صيد الحيتان التي اصطادوا ، وكذلك يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا صديقي سمعان ، فقال يسوع لسمعان : لا تخف ، من الآن تكون صياداً تصيد للناس ، وقربوا السفن إلى الشط وتركوا كل شيء وتبعوه ؛ وقال متى : فلما نظر يسوع إلى الجمع الذي حوله أمر أن يذهبوا إلى العبر ، فجاء إليه كاتب وقال له : يا معلم أتبعك إلى حيث تمضي ، فقال له يسوع : إن للثعالي أجحاراً ، ولطير السماء أوكاراً ، فأما ابن الإنسان فليس له موضع يسند رأسه ؛ وقال لوقا : وقال آخر : اتبعني ، فقال : يا رب ائذن لي أن امضي أولاً وأدفن أبي ، فقال له يسوع : اتبعني ودع الموتى يدفنوا موتاهم ، وقال الآخر أيضاً : بل تأذن لي أولاً أن أرتب أهل بيتي ، فقال : ما من أحد يضع يده على سكة الفدان وينظر إلى ورائه يستحق ملكوت الله ؛ وقال متى : فلما صعد السفينة تبعه تلاميذه - وقال لوقا : صعد السفينة هو وتلاميذه وقال لهم : امضوا بنا إلى عبر البحيرة ، فساروا وفيما هم سائرون نام - وإذا اضطراب عظيم كان في البحر حتى كادت الأمواج تغطي السفينة - لأن الريح كانت مضادة لهم - وهو نائم ، فتقدم إليه تلاميذه وقالوا : يا رب - وقال مرقس : وكانت رياح عواصف عظيمة ، وكانت الأمواج تضرب السفينة وتدخلها المياه حتى كادت تمتلىء ، وهو نائم في مؤخرها على وسادة - فأيقظوه وقالوا له : يا معلم نجِّنا فقد هلكنا فقال لهمخ : ما أخافكم يا قليلي الأمانة ؟ حينئذ قام وانتهر الرياح ولابرح ، فصار هدوءاً عظيماً ، ثم قال متى : فلما صعد السفينة وجاء إلى العبر ودخل مدينته قدم إليه مخلع ملقى على سرير - وفي إنجيل مرقس ولوقا : إنهم أرادوا الدخول به إليه فلم يقدروا لكثرة الجمع ، فصعدوا إلى السطح ودلوه بسريره إليه - حينئذ قال للمخلع : قم امل سريرك واذهب إلى بيتك فقام ومضى إلى بيته ، فنظر الجمع وتعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى هذا السلطان كذا للناس ؛ وقال يوحنا في إنجيله : وبعد هذا كان عيد اليهود فصعد يسوع إلى يروشليم ، وكان هناك بيروشليم مكان يسمى بالعبرانية بيت الرحمة ، وكان فيه خمسة أروقة ، وكان خلق كثير من المرضى مطروحين فيها وعمي ومقعدون وجافون ، فكانوا يتوقعون تحريك الماء ، لأن ملاكاً كان ينزر إلى الصبغة في حين بعد حين ، وكان يحرك الماء ، والذي كان ينزل فيه أولاً من بعد حركة الماء يبرأ من كل الوجع الذي به ، وكان هنا رجل سقيم(2/470)
صفحة رقم 471
منذ ثمان وثلاثين سنة ، فنظر إليه يسوع ملقى فقال له : أتحب أن تبرأ ؟ فقالك نعم يا سيدي ولكن ليس لي إنسان إذا تحرك الماء يلقيني في البركة أولاً ، فإلى أن أجيء أنا ينزل قدامي آخر ، فقال له : قم ، احمل سريرك وامضن فمن ساعته برأ ونهض حاملاً سريره ، وكان ذلك اليوم يوم سبت ، فقال له اليهود : إنه يوم سبت ، ولا يحل لك أن تحمل سريرك ، فأجابهم : الذي أبرأني هو قال ليك احمل سريرك وامش ، فسألوه : من هو ؟ فلم يكن يعلم من هو ، لأن يسوع كان قد استتر في الجمع لاكبير الذي كان في ذلك الموضع ، ثم قال : وقال لهم يسوع : لقد عملت عملاً واحداً فعجبتم بأجمعكم ، أعطاكم موسى الختان وليس هو من موسى ولكنه من الآباء ، وقد تختنون الإنسان يوم السبت لئلا تنقضوا سنة موسى ، فلِمَ تتذمرون عليّ لإبرائي الإنسان يوم السبت ، لا تحكموا بالمحاباة ولكن احكموا حكماً عدلاً ، ثم قال : فبينما هو مار رأى رجلاً ولد أعمى فقال تلاميذه : يا معلم من أخطأ ؟ هذا أم أبواه حتىأنه ولد أعمى ، فقال : لا هو ولا أبواه ، ولكن لتظهر أعمال الله فيه ، ينبغي أن أعمل أعمال من أرسلني ما دام النهار ، سيأتي الليل الذي لا يستطيع أحد أن يعمل فيه عملاً ، ما دمت في العالم أن نور العالم - قال هذا وتفل على التراب وصنع من تفله طيناً وطلى به عيني ذلك الأعمى وقال له : امض واغتسل في عين سيلوخا التيتأويلها المبعوثة ، فمضى وغسلهما فعاد ينظر ، فأما جيرانه والذين كانوا يرونه يتسول فقالوا : ليس هو هذا الذي كان يجلس ويتسول ، وآخرون قالوا : إنه هو ، وآخرون قالوا : إنه يشهبه ، فأما هو فكان يقول : إني أنا هو ، فقالوا له : كيف انفتحت عيناك ؟ فقص عليهم القصة ، فقالوا : أين هو ذاك ؟ فقال : ما أدري ، فأتوا به إلى الفريسيين ، لأن يسوع صنع الطين يوم السبت ، فسأله الفريسيون فأخبرهم ، فقال قوم منهم : ليس هذا الرجل من الله إذ لا يحفظ السبت ، وآخرون قالوا : كيف يقدر رجل خاطىء أن يعمل هذه الآيات فوقع بينهم لذلك شقاق ، فقالوا للأعمى : ما تقول أنت من أجله ؟ قال لهم : إنه نبي ، ولم يصدق اليهود أنه كان أعمى حتى دعوا أبويه وسألوهما ، فقالا : نحن نعلم أن هذا ولدنا وأنه وُلِدَ أعمى ، ووقعت بين الأعمى وبينهم محاورة ، كان آخر ما قالوا له : أنت ولدت بالخطايا وأنت تعلمنا وأخرجوه .
وقال متى : واجتاز يسوع هناك فرأى إنساناً جالساً على التعشير اسمه متى فقال له : اتبعني ، فترك كل شيء وقام وتبعه .
وقال لوقا : وبعد هذا خرج فنظر إلى عشار اسمه لاوي جالساً على المكس ، فقال له : اتبعني ، فترك كل شيء وقام وتبعه ، وصنع له لاوي في بيته وليمة عظيمة ، وكان جمع كثير من العشارين وآخرين متكئين معه .
وقال مرقس : ثم خرج إلأى شاطىء البحر واجتمع إليه جمع كبير وعلمهم ، وعند(2/471)
صفحة رقم 472
مضيه رأى لاوي ابن حلفي جالساً على العشارين فقال له : اتبعني ، فقام وتبعه ، وبينما هو متكىء في بيته - وقال متى : وبينما هو متكىء في بيت سمعان - جاء عشارون وخطأة كثيرون ، فاتكؤوا مع يسوع وتلاميذه ، فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه : لماذا معلمكم يأكل مع العشارين والخطأة ؟ فلما سمع يسوع قال لهم : الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب ، لكن ذوو الأسقام ، اذهبوا فاعلموا ما هو ، إني أريد رحمة لا ذبيحة ، لم آت لأدعو الصديقين لكنم الخطأة للتوبة .
وقال لوقا : وطلب إليه واحد من الفريسيين أن يأكل معه ، فدخل بيت ذلك الفريسي وجلس ، وكان في تلك المدينة امرأة خاطئة ، فلما علمت أنه متكىء في بيت ذلك الفريسي أخذت قارورة طيب ووقفت من ورائه عند رجليه باكية ، وبدأت تبل قدميه بدموعها وتمسحها بشعر رأسها ، وكانت تقبل قدميه وتدهنهما بالطيب ، فلما رأى ذلك الفريسي الذي دعاه فكر في نفسه قائلاً : لوكان هذا نبياً علم ما هذه وأنها خطائة ، فأجاب يسوع وقال له : يا سمعان غريمان عليها لإنسان دين ، على أحدهما خمسمائة دينار وعلى الآخر خمسون ، وليس لهما ما يوفيان فوهب لهما ، فأيهما أكثر حبّاً له ؟ فقال : أظن الذي وهب له الأكثر ، فقال له : بالحق حكمت ؛ ثم التفت إلى المرأة وقال : يا سمعان دخلت بيتك فلم تسكب على رجلي ماء وهذه بلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها ، أنت لم تقبلني وهذه منذ دخلت لم تكف عن تقبيل قدمي ، أنت لم تدهن رأس بزيت وهذه دهنت بالطيب قدمي ، لأجل ذلك أقول لك : إن خطاياه مغفورة لها ، لأنها أحبت كثيراًن ثم قال لها : اذهبي بسلام إيمانك خلصك ؛ وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة ويكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة : مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين ، ويونا امرأة خوزي خازن هيرودس ، وأخر كثيرات .
وقل متى : حينئذ جاء إليه تلاميذ يوحنا قائلين : لماذا نحن والفريسيون نصوم كثيراً وتلاميذك لا يصومون ؟ فقال لهم يسوغ : لا يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم ، وستأتي أيام إذا ارتفع العريس عنهم حينئذ صومون ؛ ليس أحد يأخذ خرقة جديدة يجعلها في ثوب بال ، لأنها تأخذ ملأها من الثوب فيصير الخرق أكبرن وقال مرقس : إنه لا يرقع إنسان ثوباً بالياً بخرقة جديدة إلا مد الجديد البالي فيخرقه ؛ وقال متى : ولا تُجْعَلُ خمر جديدة في زقاق جدد فيتحفظان جميعاً ؛ وقال لوقا : وما من أحد يشرب قديماً فيحب الجديد للوقت لأنه يقول : إن القديم أطيب ، وقال متى : وفيما هو يكلمهم إذا رئيس قد جاء إليه ساجداً قائلاً : إن ابنتي ماتت الآن ، تأتي فتضع يدك عليها(2/472)
صفحة رقم 473
فتحيى فقام يسوع وتبعه تلاميذه ، فإذا امرأة بها نزيف دم منذ اثنتي عشرة سنة ؛ قال مرقس : أعيت من الأطباء ، أنفقت كل مالها ، لم تجد راحة بل تزداد وجعاً ، فلما سمعت بيسوع - قال متى : جاءت من خلفه ومست طرفه ثوبه - فالتفت يسوع فرآها فقال لها : ثقي يا ابن إيمانك خلصك ، فبرئت المرأة من تلك الساعة ، وجاء يسوع إلى بيت الرئيس ؛ وقال مرقس : ولم يدع أحداً يتبعه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب - انتهى .
فنظر إلى الجمع مضطربين ، فقال لهم : اخرجوا ، لم تمت الجارية لكنها نائمة ، فضحكوا منه ، فلما خرج الجمع دخل وأمسك يدها فقامت الجارية ؛ وقال مرقس : وأخرج جميعهم وأخذ معه أبا الصبية وأمها والذين معه ، ثم دخل إلى الموضع الذي فيه الصبية موضوعة ، وأخذ بيدها وقال لها : طليثا قومي ، الذي تأويله : يا صبية لك أقول : قومي ، فللوقت قامت الصبية ومشت ، وكان لها اثنتا عشرة سنة ، فبهتوا وعجبوا عجباً عظيماً ، فأمرهم كثيراً أن لا يُعْلِموا أحداً بهذا ، وقال : أطعموها تأكل ؛ وقال متى : وخرج خبرها في جميع تلك الأرض .
المائدة : ( 47 - 48 ) وليحكم أهل الإنجيل. .. . .
) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : آتيناه ذلك لينتهي أهل التوراة عما نسخه منها ، عطف عليه قوله : ( وليحكم ( في قراءة حمزة بكسر اللام والنصب ، والتقدير على قول الجماعة بالإسكان والجمع والجزم : فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم ) أهل الإنجيل ( وهم أتباع عيسى عليه السلام ) بما أنزل الله ) أي الواحد الأحد الذي مام أودعناه إياه من الأحكام والمواعظ الجسام .
ولما كان التقدير : فنم انتهى فأولئك هم المسلمون ، ومن حكم بما أنزل الله فيه فأولئك هم المفلحون ، عطف عليه قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه ، فله كل شيء وليس لأحد معه شيء ، وكل شيء إليه مفتقر ، ولا افتقار له إلى شيء فيه أو في غيره ؛ وهو غير منسوخ ، تديناً بتركه أو لشهوة دعت ) فأولئك ) أي البعداء عن كل خير البغضاء ) هم الفاسقون ) أي المختصون(2/473)
صفحة رقم 474
بكمال الفسق ، فإن كان تديناً كان كفراً ، وإن كان لاتباع الشهوات كان مجرد معصية ، لأن الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج عن دائرة الشرع مرة بعد أخرى ، فمن ترك الحكم تكذيباً فقد جمع الدركات الثلاث : ستر الدلائل فتنقل من درجة النور إلى دركة الظلام ، فانكب في مهواة الخروج من المحاسن ، فانحط إلى أقبح المساوي ؛ والتعبير بالوصف المؤذن بالعرافة في مأخذ الاشتقاق معلم بأن المراد بكل واحد منها الكفر ، فحق أن المراد منه الشرعي لا مطلق الستر غاية التحقيق ، فبين بوصفه بالظلم أنه ستر لما ينبغي إظهاره ، وبالفسق أنه بلغ في كونه في غير موضعه النهاية حتى خرق جميع دائرة المأذون فيه فخرج منها ، وهذا إشارة إلى ذنوب أهل الإنجيل لينتج نقض دعواهم البنوة والمحبة ، لأن المعنى : ومن الواضح بكتابك الذي جعل مهيمناً على جميع الكتب أنهم خالفوا أحكامه فهم فاسقون ، أي خارجون عما من شأنه الاستقرار فيه لنفعه ، فواقعون في الظلمة الموجبة لوضع الشيء في غير موضعه المقتضية للتغطية والستر ، وقدم الوصف بالكفر لأن السياق لمن حرف الكلم عن موضعه ، وغير ما كتب من محكم أحكام التوراة من الحدود ، وذلك هو التغطية التي هي معنى الكفرن لأنه من الظلام ، كما أن الفسق سبب الظلم لأنه الخروج عما من شأنه النفع ، فكان الآخر أولاً في المعنى والأول نهاية في الحقيقة ، والآية دالة على أن فيه أحكاماً ، وكذا قوله تعالى في آل عمران :
77 ( ) ولأُحل الكم بعض الذي حرم عليكم ( ) 7
[ آل عمران : 5 ] ، وهذا هو الحق ، وأعظم ما غيّر تحريم السبت الذي كان أعظم شعائرهم فأحله ، وغيَّر أيضاً غير ذلك من أحكامهم ؛ قال فيما رأيته من ترجمة إنجيل متى : سمعتم ما قيل للأولين : لا تقتل ، فإن من قتل وجبت عليه لائمة الجماعة ، ومن قال لأخيه : أحمق ، فقد وجبت عليه نار جهنم ، إن أنت قدمت قربناك على المذبح وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك فدع قربانك هناك قدام المذبح ، وامض أولاً وصالح أخاك ، وحينئذ فائت وقدم قربانك ، كن متفهماً من خصمك سريعاً ما دمت مع في الطريق ، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم ، والحاكم إلى المستخرج وتلقى في السجن ؛ وفي إنجيل لوقا : إذا رأيتم سحابة تطلع من المغرب قلتم : إن المطر يأتي ؛ فيكون كذلك ، وإذا هبت ريح الجنوب قلتم : سيكون حر ، يا مراؤون تحسنون تمييز وجه السماء والأرض وهذا الزمان كيف لا تميزونه ، ولا تحكمون بالصدق من قبل نفوسكم لأنك إذا ذهبت مع خصمك إلى الرئيس فأعطه ما يجب عليك في الطريق تتخلص منه ، لئلا يذهب بك إلى الحاكم فيدفعك الحاكم إلى المستخرج ويلقيك المستخرج في السجن ؛ وقال متى : الحق الحق أقول لك إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك ، سمعتم ما قيل للأولين :(2/474)
صفحة رقم 475
لا تزن ، وأنا أقول لكم : إن كل من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه ، إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها ، لأنه خير لك أن تهلك أحد أعضائك ولا تلقي جسدك كله في جهنم ، قيل : إن من طلق امرأته فيدفع لها كتاب الطلاق ، وأنا أقول لكم : إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين : لا تحنث في مينك ، وأوف للرب قسمك ، وأنا اقول لكم : إن من طلثق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وأيضً سمعتم ما قيل للأولين : لا تحنث في مينك ، وأوف للرب قسمك ، وأنا أقول لكم : لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها كرسي الله ، ولا بالأرض لأنها موطىء قدميه ، ولا بيروشليم فإنها مدينة الملك العظيم ، ولا برأسك لأنك لا تقدر تصنع شعرة بيضاء أو سوداء ، ولتكن كلمتكم : نعم ونعم ولا لا ، وما زاد على ذلك فهو من الشسر ، سمعتم ما قيل : العين بالعين والسن بالسن ، وأنا أقول لكم : لا تقاوموا الشر ، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ، ونم أراد خصومتك وأخذ ثوبك دفع له رداءك ، ومن سخّرك ميلاً فامض مع اثنين ، قال لوقا : وكل من سألك فأعطه ، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده ، ولا تطلب من الذي يأخذ مالك ، وكما تحبون أن يصنع الناس بكم كذلك فاصنعوا أنتم بهم ؛ وقال متى : سمعتم ما قيل : أحبب قريبك وابغض عدوك ، وأنا أقول لكم : حبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم ، وأحسنوا إلى من أبغضكم - وقال لوقا : يبغضكم - وصلوا على من يطردكم ويحزنكم ، لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ، لأنه لامشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، والممطر على الصديقين والظالمين ، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم أليس العشارون يفعلون مثل ذلك وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل عملتم أليس كذلك يفعل العشارون وقال لوقا : إن كنتم إنما تحبون من يحبكم فأي أجر لكم إن الخطأة يحبون من يحبهم ، وإن صنعتم الخير مع من يحسن إليكم فأيّ فضل لكم إن الخطأة هكذا يصنعون ، وإن كنتم إنما تقرضون من تظنون أنكم تأخذون العوض منه فأي فضل لكم إن الخطأة أيضاً يقرضون الخطأة لكي يأخذوا منهم العوض ، لكن حبوا أعداءكم وأحسنوا إليهم ، وكونوا رحماء مثل أبيكم فهو رؤوف ، وقال متى : كونوا أنتم كاملين مثل أبيكم السمائي فهو كامل .
ثم قال في الفصل الثالث والثلاثين : وفي ذلك الزمان مر يسوع في سبت بالزروع وجاع تلاميذه ، فبدؤوا يفركون سنبلاً ويأكلوه - وفي لوقا : كان تلاميذه يقطعون السنبل ويفركون بأيديهم ويأكلون - فلما أبصرهم الفريسيون قالوا له : ها هو ذا تلاميذك يعملون ما لا يحل في السبت - وفي لوقا : لماذا تفعلون ما لا يحل أن يفعل في السبوت - فقال لهم : أما قرأتم ما صنع داود لما جاع هو والذين معه كيف دخل إلى بيت الله وأكل خبز القتدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة قال مرقس : وأعطى الذين كانوا مع ، ثم قال(2/475)
صفحة رقم 476
لهم : السبت من أجل الإنسان كان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت ؛ قال متى : أوما قرأتم في الناموس أن الكهنة في السبت في الهيكل ينجسون السبت وليس عليهم جناح وأقول لكم : إن ها هنا أعظم من الهيكل لو كنتم تعلمون ما هو مكتوب ، إني أريد الرحمة لا الذبيحة ، لِمَ تحكمون على من لا ذنب له وقال لوقا : ودخل بيت أحد الرؤساء الفريسيين في يوم سبت ليأكل خبزاً وهم كانوا يرصدونه فإذا إنسان به استسقاء ، فقال يسوع للكهنة والفريسيين : هل يحل أن يبرأ في السبت ؟ فسكتوا فأخذه وأبرأه ثم قال لهم : من منكم يقع ابنه في بئر يوم السبت ولا يصعده في الوقت ؟ فلم يقدروا أن يجيبوه عن هذا ؛ ثم قال متى : فجاء الفريسيون ليجربوه قائلين : هل يحل للإنسان أن يطلق امرأته لأجل كل كلمة ؟ أجاب : أما قرأتم أن الذي خلق في البدء خلقهما ذكراً وأنثى ، من أجل ذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلصق بامرأته ، ويكونا ن كلاهما جسداً واحداً ، وليس هما اثنين لكن جسد واحد ، وما زوجه الله لا يفرقه الإنسان - وقال مرقس : لا يقدر إنسان يفرقه - قالوا له : لماذا أمر موسى أن يعطى كتاب الطلاق وتخلى ؟ قال لهم : موسى من أجل قسوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم - وفي مرقس : إنهم سألوه فقال لهم : بماذا أوصاكم موسى ؟ قالوا : أمر أن يكتب كتاب الطلاق وتخلى ، قال لهم يسوع : من أجل قسوة قلوبكم كتب لكم موسى هذه الوصية ، من البدء لم يكن هكذا ، وأقول لكم : من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وفي إنجيل مرقس : وفي البيت أيضاً سأله التلاميذ عن هذا فقال لهم : من طلق امرأته وتزوج أخرى فقد زنى عليها ، وإن خي خلت زوجها وتزوجت آخر فهي زانية ؛ ويف لوقا : كل من يطلق امرأته ويتزوج أخرى فهو يزني ، وكل من تزوج مطلقة من زوجها فهو يزني ؛ قال متى : فقال له التلاميذ : إن كان هكذا علة الرجل مع المرأة فخير له أن لا يتزوج ، فقال لهم : ما كل أحد يستطيع هذا الكلام إلا الذين قد أعطوا ، الآن خِصيانُ ولدوا من بطون أمهاتهم ، وخصيان أخصاهم الناس ، وخصيان أخصوا نفوسهم من أجل ملكوت السماوات ، ومن استطاع أن يحتمل فليحتمل .
ولما ذكر سبحانه الكتابين ، ذكر ختامهما وتمامهما ، وهو ما أنزل إلى هذا النبي الأمي من الفرقان لاشاهد على جميع الكتب التي قبله ، فقال تعالى : ( وأنزلنا ) أي بعظمتنا ) إليك ) أي خاصة ) الكتاب ) أي الكامل في جمعه لكل ما يلطب منه وهو القرآن ) بالحق ) أي الكامل الذي لا يحتاج إلى شيء يتمه ، ثم مدحه بمدح الأنبياء الذين تقدموه فقالك ) مصدقاً لما بين يديه ) أي تقدمه .
ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد ، عبر بالمفرد لإفادته(2/476)
صفحة رقم 477
ما يفيد الجمع وزيادة دلالة على ذلك فقال : ( من الكتاب ) أي الذي جاء به الأنبياء من قبل ) ومهيمناً ) أي شاهداً حفيظاً مصقاً وأميناً رقيباً ) عليه ) أي على كل كتاب تقدمه - كما قاله البخاري في أول الفضائل من الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وفي هذه الصفة بشارة لحفظه سبحانه لكتابنا حتى لا يزال بصفة الشهادة ، فإن الله تعالى استحفظهم كتبهم فعجزوا عنها ، فحرفها محرفوهم وأسقطوا منها وأسقط مسرفوهم ، فتكفل هو سبحانه بحفظ كتابنا فكان قيماً عليها ، فما كان فيها موافقاً له فهو حق ، وما كان فيها مخالفاً فهو إما منسوخ أو مبدل فلا يعبر ، بل يحكم بما في كتابنا لأنه ناسخ لجميع الكتب ، والآتي به مرسل إلى جميع العالمين ، فملته ناسخة لجميع الملل ، فأنتج هذا وجوب الحكم بما فيه على المؤالف والمخالف بشرطه ؛ فلذا قال مسبباً عما قبله : ( فاحكم بينهم ) أي بين جميع أهل الكتب ، فغيرهم من باب الأولى ) بما أنزل الله ) أي الملك الذي له الأمر كله إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك ) ولا تتبع أهواءهم ( فيما خالفه منحرفين ) عما جاءك ( وبينه بقوله : ( من الحق ( ولما كان كل من كتابيهم من عند الله ، كان كأنه قيل : كيف يكون الحكم بكتابهم الذي يصدقه كتابنا انحرافاً عن الحق ؟ علل ذلك دالاً على النسخ بقوله : ( لكل ) أي لكل واحد ) جعلنا ) أي بعظمتنا التي نفعل بها ما نشاء من نسخ وغيره ، ثم خصص الإبهام بقوله : ( منكم ) أي يا أهل الكتب ) شرعة ) أي ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية ، كما أن الشرعة موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية ) ومنهاجاً ) أي طريقاً واضحاً مستنيراً ناسخاً لما قبله ، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع ، وهذا وأمثاله - مما يدل على أن كل متشرع مختص بشرع وغير متعبد بشرع من قبله - محمول على الفروع ، وما دل على الاجتماع كأنه شرع لكم من الدين محمول على الأصول ) ولو شاء الله ) أي الملك الأعظم المالك المطلق الذي له التصرف التام والأمر الشامل العام أن يجمعكم على شيء واحد ) لجعلكم أمة ) أي جماعة متفقة يؤم بعضها بعضاً ، وحقق المراد بقوله : ( واحدة ) أي على دين واحد ، ولم يجعل شيئاً من الكتب ناسخاً لشيء من الشرائع ، لأن الكل بمشيئته ، ولا مشيئة لأحد سواه إلا بمشيئته ) ولكن ( لم يشأ ذلك ، بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة ) ليبلوكم ) أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر ) فيما آتاكم ) أي أعطاكم وقسم بينكم من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود ما تعملون في ذلك من اتباع وإذعان اعتقاداً أن ذلك مقتضى الحكمة الإلهية ؛ فترجعون عنه إذا قامت البراهين بالمعجزات على صدق ناسخه ، ونهضت الأدلة البينات على صحة(2/477)
صفحة رقم 478
دعواه بعد طول الإلف له وإخلاد النفوس إليه واستحكامه بمرور الأعصار وتقلب الأدوار ؛ أو زيغ وميل اتهاماً وتجويزاً كما فعل أول المتكبرين إبليس ، فتؤثرون الركون إليه والعكوف عليه لمتابعة الهوى والوقوف عند مجرد الشهوة .
ولما كان في الاختبار أعظم تهديد ، سبب عنه قوله : ( فاستبقوا الخيرات ) أي افعلوا في المبادرة إليها بغاية الجهد فعل نم يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه له ، ثم علل ذلك بقوله : ( إلى الله ) أي الشارع لذلك ، لا إلى غيره ، لأنه الملك الأعلى ) مرجعكم جميعاً ( وإن اختلفت شرائعكم ، حساً في القيامة ، ومعنى في جميع أموركم في الدارين ) فينبئكم ) أي يخبركم إخباراً عظيماً ) بما كنتم ) أي بحسب اختلاف الجبلات ؛ ولما كان في تقديم الظرف إبهام ، وكان الإفهام بعد الإبهام أوقع في النفس ، قال ) فيه تختلفون ) أي تجددون الخلاف مستمرين عليه ، ويعطي كلاماً يستحقه ، ويظهر سر الاختلاف وفائدة الوفاق والائتلاف .
المائدة : ( 49 - 51 ) وأن احكم بينهم. .. . .
) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ( )
ولما كان الأمر بالحكم فيما مضى لكونه مسبباً عما قبله من إنزال الكتاب على الأحوال المذكورة ، أعاد الأمر به سبحانه مصرحاً بذلك لذاته لا لشيء آخر ، ليكون الأمر به مؤكداً غاية التأكيد بالأمر به مرتين : مرة لأن الله أمر به ، وأخرى لأنه على وفق الحكمة ، فقال تأكيداً له وتنويهاً بعظيم شأنه ومحذراً من الأعداء فيما يلقونه من لاشبه للصد عنه : ( وأن ) أي احكم بينهم بذلك لما قلنا من السبب وما ذكرنا نم العلة في جعلنا لكل ديناً ، ولأنا قلنا آمرين لك أن ) احكم بينهم ) أي أهل الكتب وغيرهم ) بما أنزل الله ) أي المختص بصفات الكمال لأنه يستحق أن يتبع أمره لذات وبين أن مخالفتهم له وإعراضهم عنه إنما هو مجرد هوى ، لأن كتابهم داع إليه ، فقال : ( ولا تتبع أهواءهم ( ي في عدم التقييد به ) واحذرهم أن يفتنوك ) أي يخالطوك بكذبهم على الله وافترائهم وتحريفهم الكلم ومراءاتهم مخالطفة تميلك ) عن بعض ما أنزل الله ) أي الذي لا أعظم منه ، فلا وجه أصلاً للعدول عن أمره ) إليك فإن تولوا ) أي كلفو أنفسهم الإعراض عما حكمت به بينهم مضادين لما دعت إليه الطفرة الأولة من اتباع الحق(2/478)
صفحة رقم 479
ودعت إليه كتبهم من ابتاعك ) فاعلم إنما يريد الله ) أي الذي له جميع العظمة العظمة ) أن يصيبهم ( لأنه لو أراد بهم الخير لهداهم إلى القبول الذي يطابق عليه شاهد العقل بما تدعو إيله الفطرة الأولى والنقل بما في كتبهم ، إما من الأمر بذلك الحكم بعينه ، وإما من الأمر باتباعك ) ببعض ذنوبهم ) أي التي هذا منها ، وأبهمه زيادة في استدراجهم وإضلالهم وتحذيراً لهم من جميع مساوي أعمالهم ، لئلا يعلموا عين الذنب الذي اصيبوا به ، فيحملهم ذلك على الرجوع عنه ، ويصير ذلك كالإلجاء ، أو يكون إبهامه للتعظيم كما أن التنكير يفيد التعظيم ، فيؤذن السياق بتعظيم هذا التولي وبكثرة ذنوبهم واجترائهم على مواقعتها .
ولما كان التقدير : فإنهم بالتولي فاسقون ، عطف عليه : ( وإن كثيراً من الناس ) أي هم وغيرهم ) لفاسقون ) أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات ، متكلفون لأنفسهم إظهار ما في بواطنهم من خفي الحيلة بقوة ؛ ولما كان من المعلوم أن من أعرض عن حكم الله أقبل ولا بد على حكم الشيطان الذي هو عين الهوى الذي هو دين أهل الجهل الذين لا كتاب لهم هاد ولا شرع ضابط ، سبب عَن إعراضهم الإنكار عليهم بيقوله : ( أفحكم الجاهلية ) أي خاصة مع أن أحكامها لا يرضى بها عاقل ، لكونها لم يدع إليها كتاب ، بل إنما هي مجرد أهواء وهم أهل كتاب ) يبغون ) أي يرديون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك ، وشهد به كتابك بالعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق ، وقراءة ابن عامر بالالتفات إلى الخطاب أدل على الغضب .
ولما كان حسن الحكم تابعاً لإتقانه ، وكان إتقانه دائراً على صفات الكمال من تمام العلم وشمول القدرة وغير ذلك ، قال - معلماً أن حكمه أحسن الحكم عاطفاً على ما تقديره : فمن أضل منهم : ( ومن ( ويجوز أن تكون الجملة حالاً من واو يبغون ، أي يريدون ذلك والحال أنه يقال : من ) أحسن من الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ) حكماً ( ثم زاد في تقريعهم بكثافة الطباع وجمود الأذهان ووقوف الأفهام بقوله معبراً بلم البيان إشارة إلى المعنى بهذا الخطاب : ( لقوم ) أي فيهم نهضة وقوة محاولة لما يريدونه ) يوقنون ) أي يوجد منهم اليقين يوماً ما وأما غيرهم فليس بأهل الخطاب فكيف بالعتاب إنما عتابه شديد العقاب ، وفي ذلك أيضاً غاية التبكيت لهم والتقبيح فكيف بالعتاب إنما عتابه شديد العقاب ، وفي ذلك أيضاً غاية التبكيت لهم والتقبيح عليهم من حيث إنهم لم يزالوا يصفون أهل الجاهلية بالضلال ، وأن دينهم لم ينزل الله به من سلطان ، وقد عدلوا في هذه الأحكام إليه تاركين جميع ما أنزل الله من كتابهم والكتاب الناسخ له ، فقد ارتكبوا الضلال بلا شبهة على علم ، وتركوا الحق المجمع عليه .(2/479)
صفحة رقم 480
ولما بين عنادهم وأن عداوتهم لأهل هذا الدين التي حملتهم على هذا الأمر العظيم ليس بعدها عداوة ، نهى من اتسم بالإيمان عن موالاتهم ، لأنه لا يفعلها بعد هذا البيان مؤمن ولا عاقل ، فقال : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ؛ ولما كان الإنسان لا يوالي غير قومه إلا باجتهاد في مقدمات يعملها وأشياء يتحبب بها إلى أولئك الذين يريد أن يواليهم ، أشار إلى ذلك بصيغة الافتعال فقال : ( لا تتخذوا ) أي إن ذلك لو كان يتأتى بسهولة لما كان ينبغي لكم أن تفعلوه ، فكيف وهو لا يكون إلا ببذل الجهد ) اليهود والنصارى أولياء ) أي أقرباء تفعلون معهم ما يفعل القريب مع قريبه ، وترجون منهم مثل ذلك ، وهم أكثر الناس استخفافاً بكم وازدراء لكم ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( بعضهم أولياء بعض ) أي كل فريق منهم يوالي بعضهم بعضاً ، وهم جميعاً متفقون - بجامع الكفر وإن اختلفوا في الدين - على عداوتكم يا أهل هذا الدين الحنيفي ) ومن يتولهم منكم ) أي يعالج فطرته الأولى حتى يعاملهم معاملة الأقرباء ) فإنه منهم ( لأن الله غني عن العالمين ، فمن والى أعداءه تبرأ منه ووكله إليهم ؛ ثم علل ذلك تزهيداً فيهم وترهيباً لمتوليهم بقوله : ( إن الله ) أي الذي له الغنى المطلق والحكمة البالغة ، وكان الأصل : لا يهديهم ، أو لا يهديه ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : الأصل : لا يهديهم ، أو لا يهديه ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( لا يهدي القوم الظالمين ) أي الذي يضعون الأشياء في غير مواضعها ، فهم يمشون في الظلام ، فلذلك اختاروا غير دين الله ووالوا من لا تصلح موالاته ، ونم لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه ، ونفي الهداية عنهم دليل على أن العبرة في الإيمان القلب ، إذ معناه أن هذا الذي يظهر من الإقرار ممن يواليهم ليس بشيء ، لأن الموالي لهم ظالم بموالاته لهم ، والظالم لا يهديه الله ، فالموالي لهم لا يهديه الله فهو كافر ، وهكذا كل من كان يقول أو يفعل ما يدل دلالة ظاهرة على كفره وإن كان يصرح بالإيمان - والله الهادي ، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبه المخالف في الدين واعتزاله - كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تراءى ناراهما ) ومنه قول عمر لأبي موسى رضي الله عنهما حين اتخذ كاتباً نصرانياً : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله ، وروي أن أبا موسى رضي الله عنه قال : لا قوام(2/480)
صفحة رقم 481
للبصرة إلا به ، فقال عمر رضي الله عنه : مات النصراني - والسلام ، يعني هب أنه مات فما كنت صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة .
المائدة : ( 52 - 53 ) فترى الذين في. .. . .
) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهُؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ( ( )
ولما علل بذلك ، كان سبباً لتمييز الخالص الصحيح من المغشوش المريض ، فقال : ( فترى ) أي فتسبب عن أن الله لا يهدي متوليهم أنك ترى ) الذين في قلوبهم مرض ) أي فساد في الدين كابن أبي وأصحابه - أخزاهم الله تعالى ) يسارعون ) أي بسبب الاعتماد عليهم دون الله ) فيهم ) أي في موالاة أهل الكتاب حتى يكونوا من شدة ملابستهم كأنهم مظروفون لهم كأن هذا الكلام الناهي لهم كان إعراء ، ويعتلون بما بما لا يعتل به إلا مريض الدين من النظر إلى مجرد السبب في النصرة عند خشية الدائرة ) يقولون ) أي قائلين اعتماداً عليهم وهم أعداء الله اعتذاراً عن موالاتهم ) نخشى ) أي نخاف خوفاً بالغاً ) أن تصيبنا دائرة ) أي ميبة محيطة بنا ، والدوائر : التي تخشى ، والدوائل : التي ترجى .
ولما نصب سبحانه هذا الدليل الذي يعرف الخالص من المغشوش ، كان فعلهم هذا للخالص سبباً في ترجي أمر من عند الله ينصر به دينه ، إما الفتح أو يغره مما أحاط به علمه وكوّنته قدرته يكون سبباً لندمهم ، فلذا قال : ( فعسى الله ) أي الذي لا أعظم منه فلا يطلب النصر إلا منه ) أن يأتي بالفتح ) أي بإظهار الدين على الأعداء ) أو أمر من عنده ( بأخذهم قتلاً بأيديكم أو بإخراج اليهود نم أرض العرب أو بغير ذلك فينكشف لهم الغطاء .
ولما كانت المصيبة عند الإصباح أعظم ، عبر به وإن كان المراد التعميم فقال : ( فصيحوا ) أي فيسبب عند الإصباح أعظم ، عبر به وإن كان المراد التعميم فقال : طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي من أنه جواب ( عسى ) إلحاقاً لها بالتمني لكونها للطمسع وهو قريب منه ، ويحسنه أن الفتح وندامتهم المترتبة عليه عندهم من قبيل المحال ، فيكون النصب إشارة إلى ما يخفون من ذلك ، وهو مثل ما يأتي إن شاء الله تعالى في توجيه قراءة حفص عن عاصم في غافر ) ) فاطلع ( ) [ غافر : 37 ] بالنصب ) على ما أسروا ( ولما كان الإسرار لا يكون إلاّ لما يخشى من إظهاره فساد ، وكان يطلق على ما دار(2/481)
صفحة رقم 482
بين جماعة خاصة على وجه الكتمان عن غيرهم ، بين أنه أدق من ذلك وأنه على الحقيقة مَنَعهم خوفهم من غائلته وغرته عندهم أن يبرزوه إلى الخارج فقالك ) في أنفسهم ) أي من تجويز محو هذا الدين وإظهار غيره عليه ) نادمين ) أي ثابت لهم غاية الندم في الصباح وغيره ) ويقول الذين آمنوا ( من رفعه عطفه على معنى ) نادمين ( فإن أصله : يندمون ، ولكنه عبر بالاسم إعلاماً بدوام ندمهم بشارة بدوام الظهور لهذا الدين على كل دين ، أو على ) يقولون نخشى ( ، ومن أسقط الواو جعله حالا ، ومن نصبه جاز أن يعطفه على ( يصبحوا ) أي يكون ذلك سبباً لتحقق المؤمنين أمر المنافقين بالمسارعة في أهل الكتاب عند قيامهم سروراً بهم والندم عند خذلانهم ومحقهم ، فيقول بعض المؤمنين لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما من الله عليهم به من التوفيق في الإخلاص مشيرين إلى المنافقين تنبيهاً وإنكاراً : ( أهؤلاء ) أي الحقيرون ) الذين أقسموا بالله ) أي وهو الملك الأعظم ) جهد أيمانهم ) أي مبالغين في ذلك اجتراء على عظمته ) إنهم لمعكم ( أيها المؤمنون ويجوز أن يكون هذا القول من المؤمنين لليهود في حق المنافقين حيث قاسموهم على النصرة ؛ ثم ابتدأ جواباً من بقية كلام المؤمنين أو من كلام الله لمن كأنه قال : فماذا يكون حالهم ؟ فقال : ( حبطت ) أي فسدت فسقطت ) أعمالهم فأصبحوا ) أي فتسبب عن ذلك أنهم صاروا ) خاسرين ) أي دائمي الخسارة بتعبهم في الدنيا بالأعمال وخيبة الآمال ، وجنايتهم في الآخرة الوبال ، وعبر بالإصباح لأنه لا أقبح من مصابحة السوء لما في ذلك من البغة بخلاف ما ينتظر ويؤمل .
المائدة : ( 54 - 58 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( ( )
ولما نهى عن موالاتهم وأخبر أن فاعلها منهم .
نفى المجاز مصرحاً بالمقصود فقال مظهراً لنتيجة ما سبق : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان من يوالهم منكم - هكذا كان الأصل ، ولكنه صرح بأن ذلك ترك الدين فقال : ( من يرتد ( ولو على وجه خفي - بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر ) منكم عن دينه ((2/482)
صفحة رقم 483
أي الذي معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه ، فيبغضهم الله ويبغضونه ، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين ، فالله غني عنهم ) فسوف يأتي الله ( اي الذي له الغنى المطلق والعظمة البالغة مكانهم وإن طال المدى بوعد صادق لا خلف فيه ) بقوم ) أي يكون حالهم ضد حالهم ، يثبتون على دينهم ، وهم أبو بكر والتابعون له بإحسان - رضي الله عنهم .
ولما كانت محبته أصل كل سعادة قدمها فقال : ( يحبهم ( فيثبتهم عليه ويثيبهم بكرمه أحسن الثواب ) ويحبونه ( فيثبتون عليه ، ثم وصفهم بما يبين ذلك فقال : ( أذلة ( وهو جمع ذليل ؛ ولما كان ذلهم هذا إ ، ما هو الرفق والين الجانب لا الهوان ، كان في الحقيقة عزاً ، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مضمناً له معنى الشفقة ، فقال مبيناً أن تواضعهم عن علو منصب وشرف : ( على المؤمنين ) أي لعلمهم أن الله يحبهم ) أعزة على الكافرين ) أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم لعلهم أن الله خاذلهم وملهكهم وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم ، فالآية من الاحتباك : حذف أولاً البغض وملهكهم وإن لدلالة الحب عليه ، وحذف ثانياً الثبات لدلالة الردة عليه ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( يجاهدون ) أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف كالمنافقين ، وحذف المفعول تعميماً ودل عليه مؤذناً بأن الطاعة محيطة بهم فقال : ( في سبيل الله ) أي طريق الملك الأعظ الواسع المستقيم الواضح ، لا لشيء غير ذلك كالمنافقين .
ولما كان المنافقون يخرجون في الجهاد ، فصلهم منهم بقوله : ( ولا ) أي والحال أنهم لا ) يخافون لومة ) أي واحدة من لوم ) لائم ( وإن كانت عظيمة وكان هو عظيماً ، نهي عن المنكر - كانوا كالمسامير المحماة ، لا يروِّعهم قول قائل ولا اعتراض معترض ، ويفعلون في الجهاد في ذلك جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم ، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم من اليهود فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم .
ولما كانت هذه الأوصاف من العلو في رتب المدح بمكان لا يلحق ، قال مشيراً إليها بأداة البعد واسم المذكر : ( ذلك ) أي الذي تقدم من أوصافهم العالية ) فضل الله ) أي الحاوي لكل كمال ) يؤتيه ) أي الله لأنه خالق لجميع أفعال العباد ) من يشاء ) أي فليبذل الإنسان كل الجهد في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته ) والله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) واسع ) أي محيط بجميع أوصاف الكمال ، فهو يعطي من سعة ليس(2/483)
صفحة رقم 484
لها حد ولا يلحقها أصلاً نقص ) عليم ) أي بالغ العلم بمن يستحق الخير ومن يستوجب غيره ، وبكل ما يمكن علمه .
ولما نفى سبحانه ولايتهم بمعنى المحبة وبمعنى النصرة وبمعنى القرب بكل اعتبار ، أنتج ذلك حصر ولاية كل من يدعي الإيمان فيه وفي أوليائه فقال : ( إنما وليكم الله ) أي لأنه القادر على ما يلزم الولي ، ولا يقدر غيره على شيء من ذلك إلاّ به سبحانه ؛ ولما ذكر الحقيق بإخلاص الولاية له يقدر غيره على شيء من ذلك إلاّ به وما عداه تبع ، أتبعه من تعرف ولايته سبحانه بولايتهم بادئاً بأحقهم فقال : ( ورسوله ( وأضافة إليه إظهاراً لرفعته ) والذين يقيمون الصلاة ) أي تمكيناً لوصلتهم بالخالق ) ويؤتون الزكاة ( إحساناً إلى الخلائق ، وقوله : ( وهم راكعون ( يمكن أن يكون معطوفاً على ) يقيمون ) أي ويكونون من أهل الركوع ، فيكون فضلاً مخصصاً بالمؤمنين المسلمين ، وذلك لأن اليهود والنصارى ولا ركوع في صلاتهم - كما مضى بيانه في آل عمران ، ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإيتاء ؛ وفي أسباب النزول أنها نزلت في عليّ رضي الله عنه ، سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه .
وجمع وإن كان السبب واحداً ترغيباً في مثل فعله نم فعل الخير والتعجيل به لئلا يظن أن ذلك خاص به .(2/484)
صفحة رقم 485
ولما كان التقدير : فمن يتول غيرهم فأولئك حزب الشيطان ، وحزب الشيطان هم الخاسرون ، عطف عليه : ( ومن يتول الله ) أي يجتهد في ولاية الذي له مجامع العز ) ورسوله ( الذي خُلقه القرآن ) والذين آمنوا ( وأعاد ذكر من خص الولاية بهم تبركاً بأسمائهم وتصريحاً بالمقصود ، فإنم الغالبون - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر ما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته فقال : ( فإن حزب الله ) أي القوم الذين يجمعهم على ما يرضي الملك الأعلى ما حزبهم أي اشتد عليهم فيه ) هم الغالبون ) أي لا غيرهم ، بل غيرهم مغلوبون ، ثم إلى النار محشورون ، لأنهم حزب الشيطان .
ولما نبه سبحانه على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه ، أنتج ذلك قطعاً قوله منبهاً على علل أخرى موجهاً للبراءة منهم : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ، ونبه بصيغة الافتعال على أن من يوالهم يجاهد عقله على ذلك اتباعاً لهواه فقال : ( لا تتخذوا الذين اتخذوا ) أي بغاية الجد والاجتهاد منهم ) دينكم ) أي الذي شرفكم الله به ) هزواً ولعباً ( ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله : ( من الذين ( ولما كان المقصود بهم منح العلم ، وهو كاف من غير حاجة إلى تعيين المؤتي ، بني للمجهول قوله : ( أوتوا الكتاب ( ولما كان تطاول الزمان له تأثير فيما عليه الإنسان من طاعة أو عصيان ، وكان الإيتاء المذكور لم يستغرق زمان القبل قال : ( من قبلكم ( يعني أنهم فعلوا الهزو عناداً بعد تحققهم صحة الدين .
ولما خص عم فقال : ( والكفار ) أي من عبدة الأوثان الذين لا علم لهم نُقِلَ عن الأنبياء ، وإنما ستروا ما وضح لعقولهم من الأدلة فكانوا ضالين ، وكذا غيرهم ، سواء علم أنهم يستهزؤون أولا ، كما أرشد إليه غير قراءة البصريين والكسائي بالنصب ) أولياء ) أي فإن الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم ، فلا تصح لكم موالاتهم أصلاً .
ولما كان المستحق لموالاة شخص - إذا تركه ووالى غيره - يسعى في إهانته ، حذرهم وقوعهم بموالاتهم على ضد مقصودهم فقال : ( واقتوا الله ( من له الإحاطة الكاملة ، فإن من والى غيره عاداه ، ومن عاداه هلك هلاكاً لا يضار معه ) إن كنتم مؤمنين ) أي راسخين في الإيمان بحيث صار لكم جبلة وطبعاً ، فإن لم تخافوه بان تتركوا ما نهاكم عنه فلا إيمان .
ولما عم في بيان استهزائهم جميع الدين ، خص روحه وخالصته وسره فقال : ( وإذا ناديتم ) أي دعا بعضكم الباقين إلى الإقبال إلى الندى وهو المجتمع ، فأجابه(2/485)
صفحة رقم 486
الباقون بغاية الرغبة ، ومنه دار الندوة ، أو يكون المعنى أن المؤذن كلم المسلمين برفع صوته كلام من هو معهم في الندى بالقول فأجابوه بالفعل ، فكان ذلك مناداة - هذا أصله ، فعبر بالغاية التي يكون الاجتماع بها فقال مضمناً له الانتهاء : ( إلى الصلاة ) أي التي هي أعظم دعائم الدين ، وموصل إلى الملك العظيم ، وعاصم بحبلة المتين ) اتخذوها ( على ما لها من العظمة والجد والبعد من الهزء بغاية هممهم وعزائمهم ) هزواً ولعباً ( فيتعمدون الضحك والسخرية ويقولون : صاحوا كصياح العير - ونحو هذا ، وبين سبحانه أن سبب ذلك عدم انتفاعهم بعقولهم فكأنهم لا عقول لهم ، وذلك لأن تأملها - في التطهر لها وحسن حال فاعلها عند التلبس بها من التخلي عن الدنيا جملة والإقبال على الحضرة الإلهية ، والتحلي بالقراءة لأعظم الكلام ، والتخشع والتخضع لملك الملوك الذي لم تخف عظمته على أحد ، ولا نازع قط في كبريائه وقدرته منازع - بمجرده كافٍ في اعتقاد حسنها وجلالها وهيبتها وكمالها فقال : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الشناعة ) بأنهم قوم ( وإن كانوا أقوياء لهم قدرة على القيام في الأمور ) لا يعقلون ) أي ليست لهم هذه الحقيقة ، ولو كان لهم شيء من عقل لعلموا أن النداء بالفم أحسن من التبويق وضرب الناقوس بشيء لا يقاس ، وأن التذلل بين يدي الله بالصلاة أمر لا شيء أحسن منه بوجه ، وللأذان من الأسرار ما تعجز عنه الأفكار ، منه أنه جعل تسع عشرة كلمة ، ليكف الله به عن قائله خزنة النار التسعة عشر ، وجعلت الإقامة إحدى عشرة كلمة رجاء أن يكون معتقدها رفيقاً لأحد عشر : العشرة المشهود لهم بالجنة ، وقطبهم وقطب الوجود كله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وناهيك أن من أسراره أنه جمع الدين كله أصولاً وفروعاً - كما بنت ذلك في كتابي ( الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان ) .
المائدة : ( 59 - 60 ) قل يا أهل. .. . .
) قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ ( ( )
ت النفوس نزاعة إلى الهوى ، عمية عن المصالح ، جامحة عن الدواء بما وقفت عنده من النظر إلى زينة الحياة الدنيا ، وكان الدليل على سلب العقل عن أهل الكتاب دليلاً على العرب بطريق الأولى ، وكان أهل الكتاب لكونهم أهل علم لا ينهض بمحاجتهم إلا الأفراد من خلص العباد ، قال تعالى دالاً على ما ختم به الآية من عدم عقلهم آمراً لأعظم خلقه بتبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم : ( قل ( وأنزلهم بمحل البعد فقال مبكتاً لهم بكون العلم لم يمنعهم عن الباطل : ( ياأهل الكتاب ) أي من اليهود والنصارى ) هل تنقمون ) أي تنكرون وتكرهون وتعيبون ) منا إلا أن آمنا ) أي أوجدنا(2/486)
صفحة رقم 487
الإيمان ) بالله ) أي لما له من صفات الكمال التي ملأت الأقطار وجاوزت حد الإكثار ) وما أنزل إلينا ) أي لما له من الإعجاز في حالات الإطناب والتوسط والإيجاز ) وما أنزل ( ولما كان إنزال الكتب والصحف لم يستغرق زمان المضي ، أثبت الجار فقال : ( من قبل ) أي لما شهد له كتابنا ، وهذه الأشياء التي آمنا بها لا يحيد فيها عاقل ، لما لها من الأدلة التي وضوحها يفوق الشمس ، فحسنها لا شك فيه ولا لبس ) وأن ) أي آمنا كلنا مع أن أو والحال أن ) أكثركم ( قيد به إخراجاً لمن يؤمن منهم بما دل عليه التعبير بالوصف ) فاسقون ) أي عريقون في الفسق ، وهو الخروج عن دار السعادة بحيث لا يمكن منهم رجوع إلى المرضى من العبادة ، فبين أنهم لا ينقمون من المؤمنين إلا المخالفة ، والمخالفة إنما هي بإيمان المسلمين بالله وما أمر به ، وكفر أهل الكتاب بجميع ذلك مع علمهم بما تقدم لهم أن من آمن بالله كان الله معه ، فنصره على كل من يناويه ، وجعل مآله إلى الفوز الدائم ، وأن من كفر تبرأ منه فأهلكه في الدنيا ، وجعل مآله إلى عذاب لا ينقضي سعيره ، ولا ينصرم أنينه وزفيره ، ومن ركب ما يؤديه إلى ذلك على علم منه واختيار لم يكن أصلاً أحد أضل منه ولا أعدم عقلاً ، وتخصيص النقم بما صدر من المؤمنين يمنع عطف ) وأن ( على ) أن آمنا ( ولما أنزلهم سبحانه إلى عداد البهائم بكونهم ينسبونهم إلى الشر بجعلهم إياهم موضع الهزء واللعب وبكونهم ينظرون إلى أي من خالفهم ، فيبعدون منه وينفرون عنه من غير أن يستعملوا ما امتازوا به عن البهائم في أن المخالف ربما كان فيه الدواء ، والمكروه قد يؤول إلى الشفاء ، والمحبوب يجر إلى العطب والتوي ، بين لهم أن تلك رتبة سنية ومنزلة علية بالنسبة إلى ما هم فيه ، فقال على سبيل التنزل وإرخاء العنان : ( قل ) أي يا من لا ينهض بمحاجتهم لعلمهم ولددهم غيره لما جبلت عليه من قوة الفهم ثم لما أنزل عليك من العلم ) هل أنبئكم ) أي أخبركم إخباراً متقناً معظماً جليلاً ) بشر من ذلك ) أي الأمر الذي نقمتموه علينا مع كونه قيماً وإن تعاميتم عنه ، ووحد حرف الخطاب إشارة إلى عمى قلوبهم وأن هذه المقايسة لا يفهمها حق الفهم إلا المؤيد بروح من الله ) مثوبة ) أي جزاء صالحاً ويرجع إليه ، فإ ، المثوبة للخير كما أن العقوبة للشر ، وهي مصدر ميمي كالميسور والمعقول ، ثم نوه بشرفه بقوله : ( عند الله ) أي المحيط بصفات الجلال والإكرام ، ثم رده أسفل سافلين بياناً لأنه استعارة تهكمية على طريق : تحية بينهم ضرب وجيع .
بقوله - جواباً لمن كأنه قال : نعم : ( من ) أي مثوبة من ) لعنة الله ) أي أبعده الملك الأعظم وطرده ) وغضب عليه ) أي أهلكه ، ودل على(2/487)
صفحة رقم 488
اللعن والغضب بأمر محسوس فقال : ( وجعل ( ودل على كثرة الملعونين بجمع الضمير فقال : ( منهم ) أي بالمسخ على معاصيهم ) القردة ( تارة ) والخنازير ( أخرى ، والتعريف للجنس ، وقال ابن قتيبة : إن الترعيف يفيد ظن أنهم لم ينقرضوا بل توالدوا حتى كان منهم أعيان ما تعرفه من النوعين ، فما أبعد من كان منهم هذا من أن يكونوا أبناء الله وأحباءه ثم عطف - على قراءة الجماعة - على قوله ) لعنه الله ( سبب ذلك بعد أن قدم المسبب اهتماماً به لصراحته في المقصود ، مع أن اللعن والغضب سبب حقيقي ، والعبادة سبب ظاهري ، فقال : ( وعبد الطاغوت ( وقرأه حمزة بضم الباء على أنه جمع والإضافة عطف على القردة ، فهو - كما قال في القاموس - اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب ، للواحد والجمع ، فلعوت من طغوت ، وكل هذه المعاني تصلح ها هنا ، أما اللات والعزى وغيرهما مما لم يعبدوه صريحاً فلتحسينهم دين أهله حسداً للإسلامن وقد عبدوا الأوثان في كل زمان حتى في زمان موسى عليه السلام كما في نص التوراة : ثم بالغوا في النجوم لاستعمال السحر فشاركوا الصابئين في ذلك .
فمعنى الآية : تنزلنا إلى أ ، نسبتكم لنا إلى الشر صحيحة ، ولكن لم يأت كتاب بلعننا ولا بالغضب علينا ولا مسخنا قردة ولا خنازير ، ولا عبدنا غير الله منذ أقبلنا عليه ، وأنتم قد وقع بكم جميع ذلك ، لا تقدرون أن تتبرؤوا من شيء منه ، فلا يشك عاقل أنكم شر منا وأضل ، والعاقل من إذا دار أمره بين شرين لم يختر إلا أقلهما شراً ، فثبت كالشمس صحة دعوى أنهم قوم لا يعقلون ، ولذلك ختم الآية بقوله ) أولئك ) أي البعداء البغضاء الموصوفون باللعن وما معه ) شر مكاناً ( وإذا كان ذلك لمكانهم فما ظنك بأنفسهم ، فهو كناية عن نسبتهم إلى العراقة في الشر ) وأضل ) أي ممن نسبوهم إلى الشر والضلال ، وسلم لهم ذلك فيهم إرخاء للعنان قصداً للإبلاغ في البيان ) عن سواء ) أي قصد وعدل ) السبيل ) أي الطريق ، ويجوز أن تكون الإشارة في ذلكإلى ما دل عليه الدليل الأول من عدم عقلهم ولا تنزل حينئذ ، وإنما قلت : إنهم لا يقدرون على إنكار شيء من ذلك ، لأن في نص التوراة التي بين أظهرهم في السفر الخامس : فالرب يقول لكم ويأمركم أن تكونوا له شعباً حبيباً ، وتحفظوا جميع وصاياه وتعملوا بها ، فإنه يرفعكم فوق جميع الشعوب ، وإذا جزتم الأردن انصبوا الحجارة التي آمركم بها اليوم على جبل عبل وكلسوها بالكلس ، وابنوا هناك مذبحاً من الحجارة لم يقع عليها حديد ، ولكن ابنوا الحجارة كاملة لم تقطع ، وقربوا عليها ذبائح كاملة أمام الله ربكم ، وكلوا هناك وافرحوا أمام الله ربكم ، واكتبوا على تلك الحجارة جميع آيات هذه السنة .
ثم عين موسى رجالاً يقومون على(2/488)
صفحة رقم 489
جبل إذا جازوا الأردن ويهتفون بصوت عال ويقولون لبني إسرائيل : ملعوناً يكون الذي يتخذ أصناماً مسبوكة وأوثاناً منحوتة أمام الرب ، والشعب كلهم يقولون : آمين ملعوناً يكون من ينقل حد صاحبه ويظلمه في أرضه ، ويقول الشعب كلهم : آمين ملعوناً يكون من يضل الأعزى عن الطريق ، ويقول الشعب كلهم : آيمن ملعوناً يكون من يحيف على المسكين واليتيم والأرملة في القضاء ، ويقول الشعب كلهم : آمين - إلى أن قال : ملعوناً يكون كل من لا يثبت على عهد آيات هذه التوراة ويعمل بها ، ويقول الشعب كلهم : آمين ثم قال : وإن أ ، تم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم ، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله ويدرككم العقاب ، وتكونوا ملعونين في القرية ، ملعونين في الحرب ، ويلعن نسلكم وثمار أرضكم ، وتكونون ملعونين إذا دخلتم ومعلونين إذا خرجتم ، ينزل بكم الرب البلاء والحشرات ، وينزل بكم الضربات الشديدة ، وبكل شيء تمدون أيديكم إليه لتعملوه حتى يهلككم ويتلفكم سريعاً من أجل سوء أعمالكم وترككم لعبادتي ، ويسلط عليكم هذه الشعوب حتى تهلكوا ، وتكون السماء التي فوقكم عليكم شبه النحاس ، والأرض تحتكم شبه الحديد ، ويكسركم الرب بين يدي أعدائكم ، تخرجون إليهم في طريق واحدة وتهربون في سبعة طرق ، وتكونون مثلاً وقرعاً لجميع مملكات الأرض ، وتكون جيفكم مأكلاً لجميع السباع وطيور السماء ولا يذب أحد عنكم ، تكونون مقهورين مظلومين مغصوبين كل أيام حياتكم ، يسبي بنيك وبناتك شعب آخر وتنظر إليهم ولا تقدر لهم على خلاص ، وتكون مضطهداً مظوماً طور عمرك يسوقك الرب ، ويسوق ملكك الذي مكله عليك إلى شعب لم يعرفه أبوك ، وتعبد هناك آلهة أخرى عملت من خشب وحجارة ، وتكون مثلاً وعجباً ويفكر فيك كل من يسمع خبرك في جميع الشعوب التي يقركم الله فيها ، تزرع كثيراً وتحصد قليلاً ، ويتعظم عليك سكانك ويصيرون فوقك ، هذا اللعن كله يلزمك وينزل بك ويدركك حتى تهلك ، لأنك لم تقبل قول الله ربك ، ولم تحفظ سننه ووصاياه التي أمرك بها ، وتظهر فيك آيات وعجائب وفي نسلك إلى الأبد ، لأنك لم تعبد الله ربك ولم تعمل بوصاياه ، ويصير أعداؤك دق الحديد على عنقك ، ويسلط الله عليك شعباً يأتيك وأنت جائع ظمآن عريان فقير ، قد أعوزك كل شيء يحتاج إليه ، وتخدم أعداءك ، ويسرع إليك مثل طيران النسر شعب لا تعرف نعتهم ، شعب وجوههم صفيقة ، لا تستحيي من الشيوخ ولا ترحم الصبيان ، ويضيق عليك في جميع قراك حتى يظفر بسوراتك المشيدة التي تتوكل عليها وتثق بها في كل أرضك ، وتضطر حتى تأكل لحم ولدك ، والرجل المدلل منكم المفنق تنظر عيناه إلى أخيه وخليله وإلى(2/489)
صفحة رقم 490
من بقي من ولده جائعاً ، لا يعطيهم من لحم ابنه الذي يأكله لأنه لا يبقى عنده شيء من الاضطهاد والضيق الذي يضيق عليك عدوك ، وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتقي الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب يخصك الرب بضربات موجعة ، ويبتليك بها ويبتلي نسلك من بعدك ، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء ، لأنك لم تسمع قول الله ، كما فرّحكم الرب وأنعم عليكم وكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليستأصلكم بالعقاب والنكال ، ويدمر عليكم ويتلفكم ، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها ، ويفرقكم الرب بين جميع الشعوب - هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب ، فإن قالوا : نحن لم ننقض بعد موسى عليه السلام حتى يلزمنا هذا اللعن المشروط بنقض العهد قيل : قد شهد عليكم بذلك ما بين أيديكم من كتابكم ، فإنه قال في آخر أسفاره ما نصه : وقال الرب لموسى : قد دنت أيام وفاتك فادع يشوع وقوما في قبة الزمان لآمره بما أريد ، وانطلق يشوع وموسى وقاما في قبة الزمان ، وظهر الرب في قبة الزمان بعمود من سحاب ، وقام عمود من سحاب في باب قبة الزمان ، وقال الرب لموسى : أنت مضطجع منقلب إلى آبائك ، فيقول هذا الشعب فيضل ويتبع آلهة أخرى آلهة الشعوب التي تدخل وترى وتسكن بينها ، ويخالفني ويبطل عهدي الذي عهدته ، ويشتل غضبي عليه في ذلك اليوم ، وأخذلهم وأدير وجهي عنهم ، ويصيرون مأكلاً لأعدائهم ، ويصيبهم شر شديد وغم طويل ، لأنهم تبعوا الآلهة الأخرى ، فاكتب لهم الآن هذا التسبيح وعلمه بني إسرائيل وصيره في أفواههم ، ليكون هذا التسبيح شهادة لعى بني إسرائيل ، لأني مدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم ، الأرض التي تغل السمن والعسل ، ويأكلون ويشبعون ويتلذذون ، ويتبعون الآلهة الأخرى ويعبدونها ، ويغضبوني ويبطلون عهدي ، فإذا نزل بهم هذا الشر الشديد والغموم يتلى عليهم هذا التسبيح للشهادة ، ولا تعدمه أفواه ذريتهم ، لأني عالم بأهوائهم ، وكل ما يصنعونه ها هنا اليوم قبل أن أدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم ، وكتب موسى هذا التسبيح ذلك اليوم وعلمه بني إسرائيل - وذكر بعد هذا كله ما ذكرته عند
77 ( ) إنا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين ( ) 7
[ النساء : 163 ] في النساء فراجعه ، ثم قال : أنصتي أيتها السماء فأتكلم ، ولتسمع الأرض النطق من فيّ لأنها ترجو كلامي عطشانة ، وكمثل الندى ينزل قولي وكالمطر على النخيل وشبه الضباب على الشعب ، لأني دعوت باسم الرب أبداً وبالتعظيم لله الرب العدل وليس عنده ظلم ، الرب البار الصادق ، أخطأ أولاد الأنجاس ، الجيل المتعوج المنقلب ، وبهذا(2/490)
صفحة رقم 491
كافؤوا الرب ، لأنه شعب جاهل وليس بحليم ، أليس الرب استخلصك وخلقك اذكروا أيام الدهر وتفهموا ما مضى من سنني جيلاً بعد جيل ، استخبر أباك فيخبرك ، وشيوخك فيفهموك ، حين قسم العلى للأمم بني آدم الذين فرقهم ، أقام حدود الأمم على عدد الملائكة ، وصار جزء الرب شعبه ، يعقوب حبل ميراثه ، إسرائيل فأرواه في البرية من عطش الحر حيث لم يكن ماء ، وحاطه وأدبه وحفظه مثل حدقة العين ، وكمثل النسر حيث نقل عشه وإلى فراخه اشتاق ، فنشر أجنحته وقبلهم وحملهم على صلبه ، الرب وحده ساقهم ولم يكن معهم إله آخر ، وأصعدهم إلى علو الأرض وأطعمهم من ثمر الشجر وغذاهم عسلاً من حجر ، من الصخرة أخرج لهم الزيت ، ومن سمن البقر ولبن الغنم وشحم الخراف والكباش والثيران والجداء ولب القمح ، أكل يعقوب المخصوص ، حين شحم وغلظ وعرُض ، ترك الإله الذي خلقه وبعُد من الله مخلصه ، يقول الله : أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين ولم يقربوا لإله الآلهة ولم يعرفه الجيل الجديد الذين أتوا ونسواء آباءهم .
هذا ما أردت ذكره من التوراة في الهشادة على لزوم اللعن والغضب لهم بعبادتهم الطواغيت ، وقد صدق الله قوله فيها وأتم كلماته - وهو أصدق القائلين - بما وقع لهم بعد وفاة موسى عليه السلام ثم بعد يوشع عليه السلام مع ما تقدم لهم في أيام يوشع عليه السلام من ععبادة بعليون الصنم كما مضى عند قوله تعالى
77 ( ) وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ( ) 7
[ البقرة : 93 ] ذكر ما يصدق ذلك من سفر يوشع ، قال : ودعا يوشع جميع بني إسرائيل وقال لهم : أنا قد شخت وطعنت في السن ، وأنتم قد رأيتم ما صنع الله بهذه الشعوب ، إنه أهلكهم من بين أديكم ، وإن الله ربكم هو تولى حروبكم وظفركم ، قد علمتم أني قسمت لكم الشعوب التي بقيت .
فأما عند النهر الأعظم في مغارب الشمس فقد قسمتها لكم ، والله ربكم يهزمهم ويهلكهم في أمامكم وترثون أرضهم كما قال الله ربكم ، ولكن تقووا جداً واعلموا بجميع ما كتب في سيفر موسى عند الرب ، أهلك الرب من أمامكم شعوباً عظيمة ولم يثبت لكم إنسان إلى اليوم ، الرجل منكم يهزم ألف رجل ، لأن الله ربكم معكم وهو يجاهد عنكم كما قال لكم ، فاحترسوا لأنفسكم ، إن أنتم خالطتم الشعوب الذين بقوا بينكم وصرتم لهم أختاناً صاروا لكم فخاخاً وعثرات وأسنة في أصدافكم وصنارات في أعينكم حتى تهلكوا من الأرض الصالحة التي أعطاكم الله ربكم ، وأما أنا فسائر في طريق أهل الأرض كلهم ، وقد تعلمون يقيناً نم كل قلوبكم وأنفسكم أنه ما سقطت كلمة واحدة من الكلام الذي وعدكمالله ربكم ، وكما تم كل(2/491)
صفحة رقم 492
الكلام الصالح الذي وعدكم الله به كذلك ينزل بكم كل اللعن حتى تهلكوا وتبيدوا إن أنتم عصيتم وتعديتم على ميثاق الله ربكم والوصايا التي أوصاكم بها ؛ وجمع جميع بني إسرائيل إلى سجام وأقامهم أمام الرب في قبة الزمان وقال : اسمعوا قول الله إله إسرائيل : كان آباؤكم سكاناً في مجاز النهر في الدهر الأول ، ترح أبو إبراهيم وناحور ، وكانوا يعبدون هناك آلهة أخرى ، وعهد إلى إبراهيم أبيكم وأخرجته من مجاز النهر وسيَّرته في أرض كنعان كلها ، وأكثرت ذريته ورزقته إسحاق ابناً ، ورزقت إسحاق يعقوب وعسو ، وأعطيت عيسو جبل ساعير ميراثاً ، فأما يعقوب وبنوه فنزلوا إلى مصر ، وأرسلت موسى وهارون وعاقبت أهل مصر وأكثرت في أرضهم من الآيات والأعاجيب ، ومن بعد ذلك أخرجتهم منها ، وشق لهم الرب بحر سوف وأجاز إياكم فيه مشياً ، فلما أراد المصريون أن يجوزوا أقلب البحر عليهم وغرقهم ، ورأت أعينكم ما صنعت بأهل مصر ، ثم أتيت بكم المفازة وسكنتموها أياماً كثيرة ، وأتيت بكم أرض الأمورانيين الذين يسكنون عند مجاز الأردن ، وحاربوكم ودفعتهم إليكم ، ووثب عليكم بالاق بن صفور ملك الموآبيين ، وحارب إسرائيل فأرسل فدعا بلعام بن بعور ليلعنكم ، ولم يسرني أن أسمع قول بلغام ، ولكن باركت عليكم وتجيتكم من يديه ، ثم جزتم نهر الأردن وأتيتم أهل أريحا فحاربكم أهلها والأمورانيون - ثم عد بقية الطوائف السبع - فدفعتهم إليكم أجمعين ، وأعطيتكم أرضاً لم تتعبوا فيها ، فاتقوا الرب واعبدوه بالبر والعدل ، واصرفوا عن قلوبكم الفكر في عبادة الآلهة الأخرى التي عبدها أباؤكم عند مجاز النهر وفي أرض مصر ، واعبدوا الرب وحده ، وإن كان يشق عليكم أن تعبدوا الرب اختاروا لأنفسكم يومنا هذا من تعبدون ، أتحبون أن تعبدوا الآلهة التي عبدها آباؤكم عند مجاز نهر الفرات أم آلهة الأمورانيين الذين سكنتم بينهم أما أنا وأهل بيتي فإنا نعبد الله الرب ، فأجاب الشعب وقالوا : حاشا لله أن نجتنب عبادة الرب ونعبد الآلهة الأخرى لأن الله ربنا هو الذي أخرجنا من أرض مصر وخلصنا من العبودية ، وأكمل الآيات والأعاجيب أمامنا ، وحفظنا في كل الطرق التي سلكناها ، وقوانا على جميع الشعوب التي حاربناها لذلك نعبد الرب لأنه هو الإلهة وحده وهو إلهنا ، فقال : انظروا لعلكم تجتنبون عبادة الله وتعبدون الآلهة الغريبة ، فيغضب الرب عليكم وينزل بكم البلاء ويهلككم من بعد إنعامه عليكم ، فقال الشعب : لا يكون لنا عبادة أخرى غير عبادة الله ، ربنا ، قال يشوع : اشهدتم على أنفسكم : أنتم الذين اخترتم عبادة الرب قالوا له : نشهد فأول ما دخل عليهم الدخلي أنهم لم يستأصلوا الكفرة وخالطوهم في أيام يوشع ؛ قال في سفره : فصعد رسول الرب من الجلجال إلى سجين وقال لبني إسرائيل : هكذا يقول(2/492)
صفحة رقم 493
الرب : أنا الذي أصعدتكم من أرض مصر وأتيت بكم الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت : إني لا أبطل عهدي إلى الأبد ، وأمرتكم أن لا تعاهدوا أهل هذه الأرض ، ولكن استأصلوا مذابحهم ، ولم تقبلوا ولم تطيعوني ، وأنا أيضاً قد قلت : إني لا أهلكهم من أمامكم ، ولكن تكون لكم آلهتهم عشرة ، فلما قال رسول الرب لبني إسرائيل هذا القول رفع القوم أصواتهم بالبكاء ودعوا اسم ذلك الموضع تحناد أي موضع البكاء ، وذبحوا هناك ذبائح للرب ؛ وتوفي يشوع بن نون عند الرب ابن مائة وعشرين سنة ، ودفن في حد ميراثه بسرح التي في جبل إفرائيم عن يسار جبل جعس ، وكل ذلك الحقب أيضاً ميراثه بسرح التي في جبل إفرائيم عن يسار جبل جعس ، وكل ذلك الحقب أيضاً قبضوا ، ونشأ من بعدهم حقب لم يعرف الرب ولم يعرف أعماله التي عملها ، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب واجتنبوا عبادة الله إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر ، وتبعوا آلهة الشعوب التي حولهم وسجدوا لها وعبدوةا بعلاً وأشتراثاً الصنمين ، وغضب الرب على بني إسرائيل ، وسلط عليهم المنتهبين ، ودفعهم إلى أعدائهم ، ولم يقدروا أن يثبتوا لأعدائهم ، وكلما كانوا يخرجون إلى الحرب كانت يد الرب عليهم بالعقاب والبلاء كما قال لهم الرب وكما أقسم لآبائهم ، واضطروا وضاق بهم جداً ، فصير الرب عليهم قضاة ، وأعان قضاتهم وخلصوهم من أيدي أعدائهم ، وكان الرب يسمع أنينهم وما يشكون منالمضيقين عليهم والمزعجين لهم ، فلما توفيت قضاتهم رجعوا إلى الفساد كآبائهم ، وعبدوزا لأصنام وسجدوا لها ، ولم ينقصوا من سوء أعمالهم الأولى وطرقهم الرديئة ، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وقال : لأن الشعب اعتدوا الوصية التي أوصيت آباءهم ، ولم يسمعوا قولي ، لا أعود أن أهلك إنساناً بين أيديهم من الشعوب التي خلف يشوع بعد وفاته ، ليجرب الرب بها بني إسرائيل هل يحفظون طرق الرب كما حفظ آباؤهم أولاً فلذلك ترك الرب هذه الشعوب ولم يهلكهم سريعاً ، ولم يسلمها في يدي يشوع ، والذين تركوا خمسة رؤساء أهل فلسطين وجميع الكنعانيين والصيدانيين والحاوانيين والذين يسكنون جبل لبنان ومن جبل بني حرمون إلى مدخل حماة ليجرب بهم بني إسرائيل ، وجلس بنو إسرائيل بين يدي الأمورانيين وبقية القبائل ، وزوجوا بنيهم من بناتهم وزوجوا بناتهم من بنيهم وعبدوا آلهتهم ، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب ونسوا صنيع الرب إلههم وعبدوا بعلاً وأشتراثاً ، واشتد غضب الرب على بني إسرائيل ودفعهم إلى كوشان الأتيم ملك حران ، فاستعبدهم ثماني سنين ، ودعا بنو إسرائيل الرب متضرعين ، وصيَّر الرب لهم مخلصاً ، وخلصهم عثنايال بن قنز أخو كالاب الأصغر ، فأعانه الرب وصار حكماً لبني إسرائيل فخرج إلى الحرب ، وأسلم الرب في يده كوشان الأتيم ، واستراحت الأرض من الحرب أربعين سنة ، وتوفي عثنايال(2/493)
صفحة رقم 494
ابن قنز ، وعاد بنو إسرائيل في سوء أعمالهم أمام الر ، فقوى الرب عليهم ملك موآب ، واستمروا هكذا في كل حين ينقضون ، وسنة الرب كل قليل يرفضون ، ولا يستقيمون إلا بقدر ما ينسون حرارة النقم ويذوقون لذاذة النعم - ولولا خوف الإطالة الموجبة للسآمة والملالة لذكرت من ذلك كثيراً من الكتب التي بين أيديهم ، لا يقدرون على إنكار ما يلزمهم بها من الفضيحة والعار - والله الموفق .
المائدة : ( 61 - 63 ) وإذا جاؤوكم قالوا. .. . .
) وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( ( )
ولما تم ذلك عطف سبحانه على ) وإذا ناديتم إلى الصلاة ( قوله دالاً على استحقاقهم للعن وعلى ما أخبر به من شرهم وضلالهم بما فضحهم به من سوء أعمالهم دلالة على صحة دين الإسلام بإطلاع شارعه عليه أفضل الصلاة والسلام على خفايا الأسرار : ( وإذا جاءوكم ) أي أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون من الفريقين ، وإعادة ضمير الفريقين عليهم لأنهم في الحقيقة منهم ، ما أفادتهم دعوى الإيمان شيئاً عند الله ، والعدول إلى خطاب المؤمنين دال على عطفه على ما ذكرت ، وفيه إشارة إلى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعرفهم في لحن القول ، فلا يغتر بخداعهم ولا يسكن إلى مكرهم بما أعطى من صدق الفراسة وصحة التوسم ) قالوا آمنا ) أي لا تغتروا بمجرد قولهم الحسن الخالي عن اليبان بما يناسبه من الأفعال فكيف بالمقترن بما ينفيه منها ، وقد علم أن الفصل بين عن البيان بما يناسبه من الأفعال فكيف بالمقترن بما ينفيه منها ، وقد علم أن الفصل بين المتعاطفين بالآيتين السالفتين لا يضر ، لكونهما علة للمعطوف عليه ، فهما كالجزء منه .
ولما ادعوا الإيمان كذَّبهم سبحانه في دعواهم بقوله مقرباً لماضيهم من الحال رجاء لهم غير الدخول ، لأنها تكاد تظهر ما هم مخفوه ، فوجب التوقع للتصريح بها : ( وقد ) أي قالوا ذلك والحال أنهم قد ) دخلوا ) أي إليكم ) بالكفر ( مصاحبين له متلبسين به .
ولما كان المقام يقتضي لهم بعد الدخول حسن الحال ، لما يرون من سمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الجليل وكلامه العذب ودينه العدل وهدية الحسن ، فلم يتأثروا لما عندهم من الحسد الموجب للعناد ، أخبر عن ذلك بأبلغ من الجملة التي أخبرت بكفرهم تأكيداً للأخبار عن ثباتهم على الكفر ، لأنه أمر ينكره العاقل فقال : ( وهم ) أي من عند أنفسهم لسوء ضمائرهم وجبلاتهم من غير سبب من أحد منكم ، لا منك ولا من أتباعك(2/494)
صفحة رقم 495
) قد خرجوا به ) أي الكفر بعد دخولهم ورؤية ما رأوا من الخير ، دالاً على قوة عنادهم بالجملة الاسمية المفيدة للثبات ، وذكر المسند إليه مرتين ، وهم بما أظهروا يظنون أنه يخفي ما أضمروا .
ولما كان في قلوبهم من الفساد والمكر بالإسلام وأهله ما يطول شرحه ، نبه عليه بقوله : ( والله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال وبكل شيء علماً وقدرة ) أعلم ) أي منهم وممن توسم فيهم النفاق ) بما كانوا ) أي بما جبلاتهم من الدواعي العظيمة للفساد ) يكتمون ) أي من هذا وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم .
ولما كذبهم في دعوى الإيمان ، أقام سبحانه الدليل على كفرهم فقال مخاطباً لمن له الصبر التام ، مفيداً أنه أطلعه ( صلى الله عليه وسلم ) على ما يعلم منهم مما يكتمونه من ذلك تصديقاً لقوله تعالى ) ولتعرفنهم في لحن القول ( إطلاعاً هو كالرؤية ، عاطفاً على ما تقديره : وقد أخبرنا غيرك من المؤمنين بما نعلم منهم من ذلك ، وأما أنت فترى ما في قلوبهم بما آتيناك من الكشف : ( وترى ) أي لا تزال يتجدد لك ذلك ) كثيراً منهم ) أي اليهود والكفار منافقهم ومصارحهم .
ولما كان التعبير بالعجلة لا يصح هنا ، لأنها لا تكون إلا في شيء له وقتان : وقت لائق ، ووقت غير لائق ، والإثم لا يتأتى فيه ذلك ، قال : ( يسارعون ) أي يفعلون في تهالكهم على ذلك فعل من يناظر خصماً في السرعة فيما هو فيه محق وعالم بأنه في غاية الخير ، وكان موضع إفادة لأن كفرهم عن حيلة هي في غاية الرداءة بقوله : ( في الإثم ) أي كل ما يوجب إثماً من الذنوب ، وخص منه أعظمه فقال : ( والعدوان ) أي مجاوزة الحد في ذلك الذي أعظمه الشرك ، ثم حقق الأمر وصوَّره بما يكون لوضوحه دليلاًعلى ما قبله من إقدامهم على الحرام الذي لا تمكن معه صحة القلب أصلاً ، ولا يمكنهم إنكاره فقال : ( وأكلهم السحت ) أي الحرام الذي يستأصل البركة من أصلها فيمحقها ، ومنه الرشوة ، وكان هذا دليلاً على كفرهم لأنهم لون كانوا مؤمنين ما أصروا على شيء من ذلك ، فكيف بجميعه فكيف بالمسارعة فيه ولذلك استحقوا غاية الذم بقوله : ( لبئس ما كانوا ( ولما كانوا يزعمون العلم ، عبر عن فعلهم بالعمل فقال : ( يعملون ( ولما كان المنافقون من الأميين وأهل الكتاب قد صاروا شيئاً واحداً في الانحياز إلى المصارحين من أهل الكتاب ، فأنزل فيهم سبحانه هذه الآيات على وجهيعم غيرهم حتى تبينت أحوالهم وانكشف زيغهم ومحالهم - أنكر - على من يودعونهم أسرارهم(2/495)
صفحة رقم 496
ويمنحونهم مودتهم وأخبارهم من علمائهم وزهادهم - عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، لكونهم جديرين بذلك لما يزعمونه من اتباع كتابهم فقال : ( لولا ) أي هلا ولم لا ) ينهاهم ) أي يجدد لهم النهي ) الربانيون ) أي المدعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب ) والأحبار ) أي العلماء ) عن قولهم الإثم ) أي الكذب الذي يوجبه وهو مجمع له ) وأكلهم السحت ( وذلك لأن قولهم للمؤمنين ) آمنا ( وقولهم لهم ) ) إنا معكم إنما نحن مستهزئون ( ) [ البقرة : 14 ] لا يخلو عن كذب ، وهو محرم في توراتهم وكذا أكلهم الحرام ، فما سكوتهم عنهم في ذلك إلا لتمرنهم على المعاصي وتمردهم في الكفر واستهانتهم بالجرأة على من لا تخفى عليه خافية ، ولا يبقى لمن عاداه باقية .
ولما كان من طبع الإنسان الإنكار على من خالفه ، كانت الفطرة الأولى مطابقة لما أتت به الرسل من قباحة الكذب وما يتبعه من الفسوق .
وكان الإنسان لا ينزل عن تلك الرتبة العالية إلى اسكوت عن الفاسقين فضلاً عن تحسين أحوالهم إلا بتدرب طويل وتمرن عظيم ، حتى يصير له ذلك كالصفة التي صارت بالتدريب صنعة يألفها وملكة لا يتكلفها ، فجعل ذنب المرتكب للمعصية غير راسخ ، لأن الشهوة تدعوه إليها ، وذنب التارك للنهي راسخاً لأنه لا شهوة له تدعوه إلى الترك ، بل معه حامل من الفطرة السليمة تحثه على النهي ، فكان أشد حالاً ؛ قال : ( لبئس ما ( ولما كان ذلك في جبلاتهم ، عبر بالكون فقال : ( كانوا يصنعون ) أي في سكوتهم عنهم وسماعهم منهم .
المائدة : ( 64 ) وقالت اليهود يد. .. . .
) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ( )
ولما لم تزل الدلائل على إبطال دعوى أهل الكتاب في البنوة والمحبة تقوم ، وجبوش البراهين تنجد ، حتى انتشبت فيهم سهام الكلام أي انتشاب ، قال تعالى معجباً من عامتهم بعد تعيين خاصتهم ، معلماً بأنهم لم يقنعوا بالسكوت عن المنكر حتى تكلموا بأنكره ، مشيراً إلى سفول رتبتهم ودناءة منزلتهم بأداة التأنيث : ( وقالت اليهود ( معبرين عن البخل والعجز جرأة وجهلاً بأن قالوا ذاكرين اليد لأنها موضع القدرة وإفاضة الجود والنصرة .
) يد الله ) أي الذي يعلم كل عاقل أن له صفات الكمال ) مغلولة ) أي فهو لا يبسط الرزق غاية البسط ، وهذا كناية عن البخل والعجز من غير نظر إلى مدلول كل من ألفاظه على حياله أصلاً ، كما قال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك(2/496)
صفحة رقم 497
ولا تبسطها كل البسط ) [ الإسراء : 29 ] ولم يقصد من ذلك غير الجود وضده ، لا غل ولا عنق ولا بسط أصلاً ، بل صار هذا الكلام عبارة عما وقع مجازاً عنه ، كأنهما متعقبان على معنى واحد ، حتى لو جاد الأقطع إلى المنكب لقيل له ذلك ، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة ، منه الاستواء ( وقالت : في السماء ) المراد منه - كما قاله العلماء - أنه ليس مما يعبده المشركون من الأوثان ، قال في الكشاف : ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل امثال هذه الآية ، ولم يتخلص عن يد الطاعن إذا عبثت به .
ولما نطقوا بهذه الكلمة الشنعاء ، وفاهوا بتلك الداهية الدهياء ، أخبر عما جازاهم به سبحانه على صورة ما كان العرب يقابلون به من يستحق الهلاك من الدعاء ، فقال معبراً بالمبني للمفعول إفادة لتحتم الوقوع وتعليماً لنا كيف ندعو عليهم ، ولم يسببه عما قبله بالفاء تقوية له على تقدير سؤال سائل : ( غلت أيديهم ( دعاء مقبولاً وخبراً صادقاً ، عن كل خير ، فلا تكاد تجد فيهم كريماً ولا شجاعاً ولا حاذقاً في فن ، وإن كان ذلك لم تظهر له ثمرة ) ولعنوا ) أي أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم ) بما قالوا ( والمعنى أنهم كما رأوا أحوال المنافقين المقضي في التوراة بأنها إثم وأقروا عليها ، فكذلك نطق بعضهم بكلمة الكفر التي لا أفظع منها ، وسكت عليه الباقون فشاركوه ، ولما كان الغل كناية عن البخل وعدم الإنفاق ، وكان الدعاء بغلهم ولعنهم متضمناً أن الأمر ليس كما قالوا ، ترجمة سبحانه بقوله : ( بل يداه ( وهو منزه عن الجارحة وعن كل ما يدخل تحت الوهم ) مبسوطتان ( مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود ، ليكون رد قولهم وإنكاره بأبلغ ما يكون في قطع تعنتهم وتكذيب قولهم .
ولما كان معنى هذا إثبات ما نفوه على أبلغ الأحوال ، قال مصرحاً بالمقصود معرفاً أنه في إنفاقه مختار فلا غرو أن يبسط لبعض دون بعض : ( ينفق ( ولما كان إنفاقه سبحانه تحقيقاً للاختيار على أحوال متباينة بحيث إنها تفوت الحصر ، أشار إلى التعجيب(2/497)
صفحة رقم 498
من ذلك بالتعبير بأداة الاستفهام وإن قالوا : إنها في هذا الموطن شرط ، فقال : ( كيف ) أي كما ) يشاء ) أي على أي حالة أراد دائماً من تقتير وبسط وغير ذلك .
ولما كان قولهم هذا غاية في العجب لأن كتابهم كافٍ في تقبيحه بل تقبيح ما هو دونه في الفحش ، فكيف وقد انضم إلى ذلك ما أنزل في القرآن من واضح البيان ، قال سبحانه عاطفاً على
77 ( ) وترى كثيراً منهم ( ) 7
[ المائدة : 62 ] مؤكداً لمضمون ما سبق من قوله
77 ( ) ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ( ) 7
[ المائدة : 41 ] بأنه جعل سبب هذا القول منهم ما أتاهم من الهدى الأكمل في هذا الكتاب المعجز على لسان هذا النبي الذي هم به أعرف منهم بأبنائهم : ( وليزيدن كثيراً منهم ) أي ممن أراد الله فتته ، ثم ذكر فاعل الزيادة فقال : ( ما أنزل إليك ) أي على ما له من النور وما يدعو إيله من الخير ) من ربك ) أي المحسن إليك بكل ما ينفعك دنيا وأخرى ) طغياناً ) أي تجاوزاً عظيماً عن الحد تمتلىء منه الأكوان في كل إثم وشنأ ، وذلك بما جره إليهم داء الحسد ، لأنهم كلما رأوه سبحانه قد زاد إحسانه إليك طعنوا في ذلك الإحسان ، وهو - لما له من الكمال وعلو الشأن - يكون الطعن فيه من أعظم الدليل عليه والبرهان ، فيكون أعدى العدوان ) وكفراً ) أي ستراً لما ظهر لعقولهم من النورن ودعت إليه كتبهم من الخير ، وهذا كما يؤذي الخفاش ضياء الصباح ، وكلما قوي الضياء زاد أذاه ، وفي هذا إياس من توبتهم وتأكيد لعداوتهم وزجر عن موالاتهم ومودتهم ، أي إنهم لا يزدادون بحسن وعظم وجميل تلاوتك عليهم الآيات إلا شقاقاً ما وجدوا قوة ، فإن ضعفوا فنفاقاً .
ولما كان الإخبار باجتماع كلمتهم على شقاوة الكفر ربما أحدث خوفاً من كيدهم ، نفى ذلك بقوله ) وألقينا ) أي بما لنا من العظمة الباهرة ) بينهم ) أي اليهود ) العداوة ( ولما كانت العداوة - وهي أي يعدون بعضهم إلى أذى بعض - ربما زالت بزوال السبب ، أفاد أنها لازمة لا تنفك بقوله : ( والبغضاء ) أي لأمور باطنية وقعت في قلوبهم وقوع الحجر الملقى من علو ) إلى يوم القيامة ( ولما كان ذلك مفيداً لوهنهم ترجمة بقوله : ( كلما أوقدوا ( على سبيل التكرار لأحد من الناس ) ناراً للحرب ) أي باحكام أسبابها وتفتيح جميع أبوابها ) اطفأها ) أي خيّب قصدهم في ذلك ) الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ، فلا تجدهم في بلد من البلاد إلا في الذل وتحت القهر ، وأصل استعارة النار لها أم في كل منهما من(2/498)
صفحة رقم 499
التسلط والغلبة والحرارة في الظاهر والباطن ، مع أن المحارب يوقد النار في موضع عال ليجتمع إليه أنصاره ، ولقد قام لعمري دليل المشاهدة على صدق ذلك بغزوة قينقاع تم النضير ثم قريضة ، والقبائل الثلاث بالمدينة لم يتناصروا ولم ينصروا ، ثم غزوة خيبر وأهل فدك ووادي القرى وهم متقاربون ولم يتناصروا ولم ينصروا ، هذا فيما في خاصتهم ، وأما في غير ذلك فقد ألبّوا الأحزاب وجمعوا القبائل وأتقنوا في أمرهم على زعمهم المكايد ، ثم أطفأ الله نارهم حساً ومعنى بالريح والملائكة ، وألزمهم خزيهم وعارهم وجعل الدائرة عليهم - وساق جيش المنون على أيدي المؤمنين إليهم ، وإلى ذلك وأمثاله من أذاهم الإشارة بقوله : ( ويسعون ) أي يوجدون مجتهدين اجتهاد الساعي على سبيل الاستمرار بما يوجدون من المعاصي من كتمان ما عندهم من الدليل على صحة الإسلام وغير ذلك من أنواع الأجرام ) في الأرض ) أي كل ما قدروا عليه بالفعل والباقي بالقوة .
ولما كان الإإنسان لكونه محل نقصان لا ينبغي أن يتحرك فضلاً عن أن يمشي فضلاً عن أن يسعى إلا بما يرضي الله ، وحينئذ لا ينسب الفعل إلا إلى الله لكونه آمراً به خالقاً له ، فكانت نسبة السعي إلى الإنسان دالة على الفساد ، صرح به في قوله : ( فساداً ) أي للفساد أو ذوي فساد ) والله ) أي والحال أن الذي له الكمال كله ) لا يحب المفسدين ) أي لا يفعل معهم فعل المحب ، فلا ينصر لهم جيشاً ، ولا يعلي لهم كعباً ، ولا يصلح لهم شأناً ، وبذلك توعدهم سبحانه في التوراة أنهم إذا خالفوا أمره سلط عيهم من عذابه بواسطة عباده وبغير واسطتهم ما يفوت الحصر - كما مضى ذلك قريباً عما بين أيديهم من التوراة بنصه .
المائدة : ( 65 - 67 ) ولو أن أهل. .. . .
) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ( )
ولما أثبت بقوله ) وليزيدن ( أنهم كانوا كفرة قبل إتيان هذا الرسول عليه السلام ، وكرر ما أعده لهم من الخزي الدائم على نحو ما خبرهم به كتابهم ، وعظهم ورجّاهم سبحانه استعطافاً لهم لئلا ييأسوا من روح الله على عادة منه في رحمته لعباده ورأفته بهم بقوله تعالى عاطفاً على ما تقديره : فلو أنهم كفوا عن هذه الجرائم العظائم لاضمحلت(2/499)
صفحة رقم 500
صغائرهم فلم تكن لهم سيئات : ( ولو أن ( ولما كان الضلال من العالم أقبح ، قال : ( أهل الكتاب ) أي الفريقين منهم .
ولما كان الإيمان أساس جميع الأعمال ، قدمه إعلاماً بأنه لا نجاة لأحد إلا بتصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
هذا مع أنه حقيق باشتداد العناية بهم لمبالغتهم في كتمان ما عندهم منه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( آمنوا ) أي بهذا النبي الكريم وما أنزل إليه من هذا الهدى ) واتقوا ) أي ما هددوا به في كتابهم على ترك الإيمان به على حسب ما دعاهم إليه كتابهم كما في قصة إسماعيل وغيرها إلى أن كان آخر ما فارقهم عليه موسى عليه السلام في آخر كتابهم التصريح بنبوته عليه السلام والإشارة إلى أن اتباعه أحق من اتباعه فقا : جاء ربنا من سيناء ؛ وشرق نم ساعير ، وتبدّى من جبال فاران ، فأضاف الرب إليهم ، وجعل الإتيان من جبال فاران - التي هي مكة ، لا نزاع لهم في ذلك - تبدياً وظهوراً أي لاخفاء به بوجه ، ولا ظهور أتم منه ) لكفّرنا ( وأشار إلى عظيم جرأتهم بمظهر العظمة ) عنهم سيئاتهم ) أي التي ارتكبوها قبل مجيئه وهي مما يسوء ، أي يشتد تنكر النفس له أو تكرّهها ، وأشار إلى سعة رحمته وأنها لا تضيق عن شيء أراده بمظهر العظمة فقال : ( ولأدخلناهم ) أي بعد الموت ) جنات النعيم ) أي بدل ما هم فيه من هذا الشقاء الذي لا يدانيه شقاء .
ولما كان المعنى : ما فعلوا ذلك ، فألزمناهم الخزي في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة ، وكان هذا إجمالاً لحالتهم الدنيوية والأخروية ، وكان محط نظرهم الأمر الدنيوي ، رجع - بعد إرشادهم إلى إصلاح الحالة الأخروية لأنها أهم في نفسها - إلى سبب قولهم تلك الكلمة الشنعاء والداهية القبيحة الصلعاء ، وهو تقتير الرزق عليهم ، وبين أن السبب إنما هو من أنفسهم فقال : ( ولو أنهم أقاموا التوراة ) أي قبل إنزال الإنجيل بالعمل بجميع ما دعت إليه من أصل وفرع وثبات عليها وانتقال عنها ) والإنجيل ) أي بعد إنزاله كذلك ، وفي إقامته إقامة التوراة الداعية إليه ) وما أنزل إليهم من ربهم ) أي المحسن إليهم من أسفار الأنبياء المبشرة بعيسى ومحمد عليها الصلاة والسلام ، ومن القرآن بعد إنزاله ، وفي إقامته إقامة جميع ذلك ، لأنه مبشر به وداع إيله ) لأكلوا ) أي لتيسر لهم الرزق ، وعبّر ب ( من ) لأن المراد بيان جهة المأكول لا الأكل ) من فوقهم ( ولما كان ذلك كناية عن عظم التوسعة ، قال موضحاً له معبراً بالأحسن ليفهم غيره بطريق الأولى : ( ومن تحت أرجلهم ) أي تيسراً واسعاً جداً متصلاً لا يحصر ، أو يكون كناية عن بركات السماء والأرض ، فبين ذلك أنه ما ضربهم بالذل والمسكنة إلا تصديقاً(2/500)
صفحة رقم 501
لما تقدم إليهم به في التوراة ، قال مترجمها في السفر الخامس - الدعاء والبركات : وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وحفظتم وعملتم بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم ، يصيركم الرب فوق جميع الشعوب ، فتصيرون إلى هذا الدعاء ، يبارك لكل امرىء منكم في القرية والحقل ، يبارك في أولادكم وأرضكم ، يبارك لكم في بهائمكم وما يضع في أقطاع بقركم وأحزاب غنمكم ، ويبارك فيكم إذا دخلتم ويبارك فيكم إذا خرجتم ، ويدفع إليكم الله أعداءكم أسارى ، يخرجون إليكم في طريق واحد ويهربون منكم في سبعة طرق ، يأمر الله برركاته في أهرائكم وفي جميع الأشياء التي تمدون أيديكم إليها ، وينظر إليكم جميع شعوب الأرض ويعلمون أن اسم الرب عليكم وقد وسمتم به فيخافونكم ، ويزيدكم الرب خيراً ويبارك في ثمار أرضكم ، يفتح الله ربكم أهراء السماء ويهبط المطر على أهله في زمانه ، وتتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلط عليكم أحد ، ويصيركم الرب رأساً ولا يصيركم ذنباً ، وتصيرون فوق ولا تصيرون أسفل إذا عملتم بجميع وصايا الله ربكم ولم تروغوا عنها يمنة ولا يسرة ، ولا تتبعوا الشعوب ولا تعبدوا آلهتها ، وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم ، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله ، ويدرككم العقاب ، وتكونون ملعونين في القرية - إلى آخر اللعن الذي تقدم قريباً ، وقال في الثالث : إذا سلكتم بسنتي وحفظتم وصاياي وعملتم بها ، أديم أمطاركم في وقتها ، وتبذل الأرض لكم غلاتها ، وتبذل لكم الشجر ثمارها ، ويدرك الدراس القطاف ، والقطاف يدرك الزرع ، وتأكلون خبزاً وتشبعون وتسكنون أرضكم مطمئنين ، ولا يكون من يخرجكم ، وأصرف عن أرضكم السباع الضارية ، وتطردون أعداءكم ، الخمسة منكم يهزمون مائة ، والمائة منكم يهزمون عشرة آلاف ، وتفع أعداؤكم قتلى بين أيديكم في الحرب ، وأقبل إليكم وأكثركم وأديم مقدسي بينكم ولا أدبر عنكم ، بل أكون معكم وأسير بينكم ، وإن لم تطيعوني وتسمعوا قولي ولم تعملوا بهذه الوصايا وأبطلتم عهودي ، أنا أيضاً أصنع بكم مثل صنيعكم ، وآمر بكم البلايا والبرص والبهق المقشر الذي لا يبرأ ، والسل الذي يطفىء البصر ويهلك النفس ، ويكون تعبكم في الزرع باطلاً ، وذلك لأن أعداءكم يأكلون ما تزرعون ، وأنزل بكم غضبي ، ويهزمكم أعداؤكم ، ويتسلط عليكم شنّاؤكم ، وتنهزمون من غير أن يهزمكم أحد ، وأصيّر السماء فوقكم مثل الحديد ، والأرض تحتكم مثل النحاس ، ولا تغل لكم أرضكم غلاتها ، ولا تثمر الشجر ثمارها ، وأرسل عليكم السباع الضارية فتلهككم وتهلك بهائمكم ، ويستوحش الطرق منكم ، وأسلط عليكم الموت وأدفعكم غآل أعدائكم ، وتأكلون ولا تشبعون ، وتصيروا إلى ضيق حتى تأكلوا لحوم(2/501)
صفحة رقم 502
بناتكم ، وأخرب منازلكم ، وأفرقكم بين الأمم ، وتخرب قراكم ، فحينئذ تهوى الأرض أسباتها ، وتسبت كل أيام وحشتها ما لم تسبت حيث كنتم فيها عصاة لا تسبتون ، والذين يبقون منكم ألقي في قلوبهم فزعة ، ويطردهم صوت ورقة تحرك ، ويهربون من صوب الورقة كما يهربون من السيف ، ويعنفون بإثمهم ويعاقبون بإثم آبائهم ، ومن بعد ذلك تنكسر قلوبهم الغلف .
ولما كان ما مضى من ذمهم ربما أفهم أنه لكلهم ، قال مستأنفاً جواباً لمن يسأل عن ذلك : ( منهم ) أي أهل الكتاب ) أمة ) أي جماعة هي جديرة بأن تقصد ) مقتصدة ) أي مجتهدة في العدل لا غلو ولا تقصير ، وهم الذين هداهم الله للإسلام بحسن تحريهم واجتهادهم ) وكثير منهم ) أي بني إسرائيل ) سآء ما يعملون ) أي ما أسوأ فعلهم الذي هم فيه مستمرون على تجديده ، ففيه معنى التعجيب ، والتعبيرُ بالعمل لأنهم يزعمون أنه لا يصدر منهم إلا عن علم ، وهم الذين حرفوا الكلم عن مواضعه ، وارتكبوا العظائم في عداوة الله ورسوله .
ولما أتم ذلك سبحانه وعلم منه أن من أريدت سعادته يؤمن ولا بد ، ومن أريدت شقاوته لا يؤمن أصلاً ، ومن أقام ما أنزل عليه سعد ، ومن كفر بشيء منه شقي ، وكان ذلك ربام فتر عن الإبلاغ ، قرن بقوله تعالى
77 ( ) ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ( ) 7
[ المائدة : 41 ] قولَه حاثاً على الإبلاغ لإسعاد من أريد للسعادة ، وهم الأمة المقتصدة منهم وإن كانوا قليلاً ، وكذا إبلاغ جميع من عداهم : ( ياأيها الرسول ) أي الذي موضوع أمره البلاغ ) بلغ ) أي أوصل إلى من أرسلت إليهم ) وما أنزل إليك ) أي كله ) من ربك ) أي المحسن إليك بإنزاله غير مراقب أحداً ، ولا خائف شيئاً ، لتعلم ما لم تكن تعلم ، ويهدي على يدك من أراد الله هدايته ، فيكون لك مثل أجره .
ولما كان إبلاغ ما يخالف الأهواء من الشدة على النفوس بمكان لا يعلمه إلا ذوو الهمم العالية والأخلاق الزاكية ، كان المقام شديد الاقتضاء لتأكيد الحث على الإبلاغ ، فدل على ذلك بالاعتراض بين الحال والعامل فيها ، بالتعبير بالفعل الدال على داعية هي الردع بأن قال : ( وإن لم تفعل ) أي وإن لم تبلغ جميع ذلك ، أو إن لم تعمل به ) فما بلغت رسالته ( لأن من المعلوم أن ما تقع على كل جزء مما أنزل ، فلو ترك منه حرف واحد صدق نفي البلاغ لما أنزل ، ولأن بعضها ليس بأولى بالإبلاغ من بعض ، فمن إغفل شيئاً منها فكأنه أغفل الكل ، كما أن من لم يؤمن ببعضها لم يؤمن بكلها ، لإدلاء كل منها بما يدليه الآخر ، فكانت لذلك في حكم شيء واحد ، والمعنى : فلنجازينك ، ولكنه كنى بالسبب عن المسبب إجلالاً له ( صلى الله عليه وسلم ) وإفادة لأن المؤاخذة تقع على الكل ، لأنه ينتفي بانتفاء الجزء .(2/502)
صفحة رقم 503
ولما تقدم أنهم يسعرون الحروب ، ويسعون في إيقاع أشد الكروب ، وكان ذلك - وإن وعد سبحانه بإخماده عند إيقاده - لا يمنع من تجويز أنه لا يخمد إلا بعد قتل ناس وجراح آخرين ، وكان كأنه قيل : إذا بلغ ذلك وهو ينقّص أديانهم خيف عليه ، قال : ( والله ) أي بلغ أنت والحال أن الذي أمرك بذلك وهو الملك الأعلى الذي لا كفوء له ) يعصمك ) أي يمنعك منعاً تاماً ) من الناس ) أي من أن يقتلوك قبل إتمام البلاغ وظهور الدين ، فلا مانع من إبلاغ شيء منها لأحد من الناس كائناً من كان .
ولما آذن ضمان العصمة بالمخالفة المؤذنة بأن فيهم من لا ينفعه البلاغغ فهو لا يؤمن ، فلا يزال يبغي الغوائل .
أقر على هذا الفهم بتعليل عدم الإيمان بقوله : ( إن الله ) أي الذي لا أمر لغيره ) لا يهدي القوم الكافرين ) أي المطبوع على قلوبهم في علم الله مطابقة لقوله
77 ( ) ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ( ) 7
[ المائدة : 41 ] ويهدي المؤمنين في علمه المشار إليهم في قوله ) ويغفر لمن يشاء ( والحاصل أنه تبين من الآية الإرشاد إلى أن لترك البلاغ سببين : أحدهما خوف فوات النفس ، والآخر خوف فوات ثمرة الدعاء ، فنفي الأول بضمان العصمة ، والثاني بختام الآية ، أي ليس لعيك إلاّ البلاغ ، فلا يحزنك من لا يقبل ، فليس إعراضه لقصور في إبلاغك ولا حظك ، بل لقصور إدراكه وحظه لأن الله حتم بكفره وختم على قلبه لما علم من فساد طبعه ، والله لا يهدي مثله ، وتلخيصه : بلغ ، فمن أجابك ممن أشير إليه - فيما سلف من غير الكثير الذين يزيدهم(2/503)
صفحة رقم 504
ما أنزل إليك عمى على عماهم ومن الأمة المقتصدة وغيرهم - فهو حظه في الدنيا والآخرة ، ومن أبى فلا يحزنك أمره ، لأن الله هو الذي أراد ضلاله .
فالتقدير : بلغ ، فليس عليك إلاّ البلاغ ، وإلى الله الهدى والضلال ، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ويهدي القوم المؤمنين ، أو فإذا بلغت هدى بك ربُك من أراد إيمانه ، ليكتب لك مثل أجرهم ، وأضل من شاء كفرانه ، ولا يكون عليك شيء من وزرهم ، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ، والمعنى كما تقدم : يعصمك من أن ينالوك بما يمنعك من الإبلاغ حتى يتم دينك ويظهر على الدين كله كما وعدتك ، وعلى مثل هذا دل كلام إمامنا الشافعي رحمه الله ، قال في الجزء الثالث من الأم : ويقال - والله أعلم : إن أول ما أنزل عليه صلى الله عليه سولم
77 ( ) اقرأ باسم ربك الذي خلق ( ) 7
[ العلق : 1 ] ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين ، فمرت لذلك مدة ، ثم يقال : أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم إلى الإيمان .
فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يُتَناول ، فنزل عليه
77 ( ) ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتك والله يعصمك من الناس ( ) 7
[ المائدة : 67 ] : من قبلهم أن يقتلوك حتى تبلغ ما أنزل إليك - انتهى .
ولقد وفي سبحانه بما ضمن ومن أوفى منه وعداً وأصدق قيلاً فلما أتم الدين وأرغم أنوف المشركين ، أنفذ فيه السم الذي تناوله بخيبر قبل سنين فتوفاه شهيداً كما أحياه سعيداً ؛ روى الشيخان : البخاري في الهبة ، ومسلم في الطب ، وأبو داود في الديات عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن امرأة يهودية أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك ، فقال : ( ما كان الله ليسلطك على ذلك ( - أو قال : ( عليّ ( فقالوا : ألا تقتلها ؟ قال : لا ، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قال أبو داود : وذكره غيره أنها بنت أخي مرحب أن اسمها زينب بنت الحارث ، وذكر الزهري أنها أسلمت ، ولأبي داود والدارمي - وهذا لفظه - عن أبي سلمة - وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - قال : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة ، فأهدت له امرأة من يهود خيبر شاة مصلية فتناول منها ، وتناول منها بشر بن البراء ، ثم رفع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يده ثم قال : ( إن هذه تخبرني أنها مسمومة ( ، فمات بشر بن البراء رضي الله عنه ، فأرسل إليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ما حملك على ما صنعت ؟ ( فقال : إن كنت نبياً لم يضرك شيء ، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك ، قال أبو داود : فأمر بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقتلت .
زاد الدارمي : فقال في مرضه : ما زلت من الأكلة التي أكلت بخيبر ، فهذا أوان انقطاع أبهري ) وهذا مرسل .
قال البيهقي : ورويناه عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال البيهقي : ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء ، ثم لما مات بشر أمر بقتلها .
وقصة هذه الشاة عن أبي هريرة رواها البخاري في الجزية والمعازي والطب ، والدارمي في أول المسند بغير هذا السياق - كما مضى في البقرة في قوله تعالى
77 ( ) وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة ( ) 7
[ البقرة : 80 ] وقد مضى في أول هذه السورة عند قوله
77 ( ) فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ( ) 7
[ المائدة : 13 ] شيء منه .
ولأبي داود والدارمي عن ابن شهاب قال : ( كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذراع فأكل منها ، وأكل رهط من أصحابه معه ، ثم قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ارفعوا(2/504)
صفحة رقم 505
أيديكم ( وأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى اليهودية فدعاها ، فقال لها : ( أسممت هذه الشاة ؟ ( قالت اليهودية من أخبرك ؟ قال : ( أخبرتني هذه في يدي ( - للذراع ، قالت : نعم ، قال : ( فما أردت ؟ ( قالت : قلت : إن كان نبياً فلن يضره ، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه ، فعفا عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولميعاقبها ، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة ، واحتجم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يعاقبها ، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة ، واحتجم رسول الله صلى الله عليه سولم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة ، حجمه أو هند بالقرن والشفرة ، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار ) قال الدارمي : وهو من بني ثمامة - وهم حي من الأنصار ، قال المنذري : وهذا منقطع ، الزهري لم يسمع من جابر بن عبد الله ، وفي غزوة خيبر من تهذيب السيرة لابن هشام : ( فلما اطمأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهدت له زينب بنت الحارثة امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية وقد سألت : أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلفظها ، ثم قال : ( إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ( ، ثم دعاها فاعترفت ، فقال : ( ما حملك على ذلك ؟ ( قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكاً استرحت منه ، وإن كان نبياً فسيخبر ، فتجاوز عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومات بْشر من أكلته التي أكل ) وذكر موسى بن عقبة أن بشراً رضي الله عنه لم يسغ لقمته حتى أساغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقمته وقال بعد أن أخبرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت ، فما منعني أن ألفظها إلاّ أني أعظمت أن أنغصك طعامك ، فلما أسغت ما في فيك لم أكن لأرغب بنفسي عن نفسك .
ونقلتُ من خط شيخنا حافظ عصره أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر الكناني الشافعي ما نصه : وأخرج الحافظ أبو بكر أ ؛ مد بن عمر بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور ، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في معجمه الكبير من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يأكل من هدية حتى يأمر صاحبها أن يأكل منها للشاة التي أهديت له بخيبر ) .
قال شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي :(2/505)
صفحة رقم 506
رجاله ثقات ، قلت : وذكر محمدبن إسحاق في السيرة الكبرى وكذلك الواقدي في المغازي - انتهى .
وقال ابن إسحاق : وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد قال في مرضه الذي توفي فيه ودخلت عليه أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده : ( يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر ( ، قال : فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة .
ولابن ماجه في الطب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : لا يزال ، يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت ، قال : ما أصابني شيء منها إلاّ وهو مكتوب عليَّ وآدم في طينته ) وللبخاري في آخر المغازي عن عائشة رضي الله عنها ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول في مرضه الذي مات فيه : ( يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم ( قال ابن فارس في المجمل : الأبهر عرق مستبطن الصلب ، والقلب متصل به ، وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذا أوان قطعت أبهري ( وعبارة المحكم : عرق في الظهر ، يقال : هو الوريد في العنق ، وبعضهم يجعله عرقاً مستبطن الصلب وقال ثابت بن عبد العزيز في كتاب خلق الإنسان : وفي الصلب الوتين ، وهو عرف أبيض غليظ كأنه قصبة ، وفي الصلب الأبهر والأبيض وهما عرقان ، وقال الزبيدي في مختصبر العين : والأبهران عرقان مكتنفاً الصلب ، وقيل : هما الأكحلان .
وقال الفيروزآبادي في قاموسه : والأبهر : الظهر وعرق فيه ووريد العنق والأكحل والكلية ، والوتين : عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه .
وقال ابن الفرات في الوفاة من السيرة من تاريخه : قال الحربي : العرق في الظهر يسمى الأبهر ، وفي اليد الأكحل ، وفي العنق الوريد ، وفي الفخذ النسا ، وفي الساق الأبجل ، وفي العين الشأن ، وهو عرق واحد ، كله يسمى الجدول .
وقال(2/506)
صفحة رقم 507
ابن كيسان أيضاً : هو الوتين في القلب والصافن .
وقال الإمام أبو غالب بن التياني الأندلسي في كتابه الموعب : إسماعيل بو حاتم : الأبهر عرق في الظهر ، وقال : هو الوريد في العنق ، ثم يقال : والأبهر عرق مستبطن المتن ؛ الأصمعي : وفي الصلب الأبهر وهو عرق ؛ صاحب العين : الأبهران الأكحلان ، يوقال : هما عرقان مكتنفا الصلب من جانبيه .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما زالت أكلة خيبر تعادّني كل عام فالآن حين قطعت أبهري ( يعني عرقي ، ويقال : الأبهر عرق مستبطن الصلب ، وإذا انقطع فلا حياة بعده .
وهذا اللفظ الذي ذكره رواه البخاري والطبراني عن عائشة رضي الله عنها .
ومعنى تعادّني : تناظرني وتخالفني ، ومن العديد بمعنى الند الذي هو المثل المضاد والمنافر ، أي إني كلما زدت في جسمي صحة ، نقصته بما لها من الضر والأذى .
المائدة : ( 68 - 69 ) قل يا أهل. .. . .
) قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ( )
ولما أمر سبحانه بالتبليغ العام ، أمره بنوع منه على وجه يؤكد ما ختمت به آية التبليغ من عدم الهداية لمن حتم بكفره ، ويبطل - مع تأكيده - هذه الدعوى : قولهم : نحن أبناء الله وأحباءه ، فقال مرهباً لهم بعد ما تقدم من الترغيب في إقامته : ( قل ياأهل الكتاب ) أي من اليهود والنصارى ) لستم على شيء ) أي سارّ أو يعتد به من دنيا ولا آخرة ، لأنه لعدم نفعه لبطلانه لا يسمى شيئاً أصلاً ) حتى تقيموا ) أي بالعمل بالقلب والقالب ) التوراة والإنجيل ( وما فيهما من الإيمان بعيسى ثم بمحمد عليهما الصلاة والسلام بالإسلام بالإشارة إلى كل منهما بالخصوص بنحو ما تقدم في الإشراق من ساعير والظهور ممن فاران ، وبالإشارة بالعموم إلى تصديق كل من أتى بالمعجز ، وصدق ما قبله من منهاج الرسل ) وما أنزل ( ولما كان ما عندهم إنام أوتي إليهم بواسطة الأنبياء ، عداه بحرف الغاية فقال : ( إليكم من ربكم ) أي المحسن إليكم بإنزاله على ألسنة أنبيائكم من البشارة بهما ، وعلى لسان هذا النبي العربي الكريم مما يصدق ما قبله ، إنهم يعلمون ذلك ولكنهم يجحدونه .(2/507)
صفحة رقم 508
ولما كان السياق لأن أكثرهم هالك ، صرح به دالاً بالعطف على غير معطوف عليه أن التقدير : فليؤمنن به من أراد الله منهم ، فقال : ( وليزيدن كثيراً منهم ) أي ما عندهم من الكفر بما في كتابهم ) مآ أنزل إليك من ربك ( المحسن إليك بإنزاله ) طغياناً ( تجاوزاً شديداً للحد ) وكفراً ) أي ستراً لما دل عليه العقل .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الشفقة على خلق الله ، سلاّه في ذلك بقوله : ( فلا ) أي فتسبب عن إعلام الله لك بذلك قبل وقوعه ثم عن وقوعه كما أخبر أن تعلم أنه بإرادته وقدرته ، فقال لك : لا ) تأس ) أي تحزن ) على القوم الكافرين ) أي على فوات العريقين في الكفر لأنهم لم يضروا إلاّ أنفسهم لأن ربك العليم القدير لو علم فيهم خيراً لأقبل بهم إليك ، والحاصل أنه ختم هذه الآية بمعلول الآية التي قبلها ، فكأنه قبل : بلغ ، فإن الله هو الهادي المضل ، فلا تحزن على من أدبر .
ولما كان ما مضى في هذه السورة غالباً في فضائح أهل الكتاب لا سيما اليهود وبيان أنهم عضوا على الكفر ، ومردوا على الجحد ، وتمرنوا على البهت ، وعتوا عن أوامر الله ، كان ذلك موجباً لأنه ربما حدث في الخاطر أنه إن آمن منهم أحد ما يقبل ، أو لأن يقولوا هم : ليس في دعائنا حينئذ فائدة فلا تدعنا ، أخبر أن الباب مفتوح لهم ولغيرهم من جميع أهل الملل ، وأنه ليس بين الإنسان وبين أن يكون من أهله إلا عدم الإخلاص ، فإذا أخلص أذن في دخوله ونودي بقبوله ، أو يقال - وهو أحسن : لما أخبر عن كثير منهم بالزيادة في الكفر ، رغب القسم الآخر على وجه يعم غيرهم ، أو يقال : إنه لما طال الكلام معهم .
كان ربما ظن أن الأمر ترغيباً وترهيباً وأمراً ونهياً خاص بهم ، فوقع الإعلام بأنهم وغيرهم من جميع الفرق في ذلك سواء ، تشريفاً لمقدار هذا النبي الكريم بعموم الدعوة وإحاطة الرسالة فقال سبحانه : ( إن الذين آمنوا ) أي قالوا : آمنا ) والذين هادوا ) أي اليهود ) والصابئون ) أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية ) والنصارى ) أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام .
ولما كان اليهود قد عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم في استنزال الروحانيات انهماكاً في السحر الذي جاء نبيهم موسى عليهم السلام بإبطاله ، وكان ذلك هو معنى دين الصابئة ، وفرّق بين فريقي بني إسرائيل بهم مكتفياَ بهم عن ذكر بقية المشركين لما مضى في البقرة ، ولما سبق في هذه السورة من ذم اليهود بالنقض للميثاق والكفر واللعن والقسوة وتكرر الخيانة وإخفاء الكتاب والمسارعة في الكفر والنفاق والتخصيص بالكفر والظلم والفسق وغير ذلك من الطامات ما يسد الأسماع ، كان قبول توبتهم جديراً بالإنكار ، وكانوا هم ينكرون عناداً فلاح العرب من آمن منهم ومن لم يؤمن ، فاقتضى(2/508)
صفحة رقم 509
الحال كون الفريقين في حيز التأكيد ، ولم يتقدم للصابئة ذكر هنا فأخرجوا منه تنبيهاً على أن المقام لا يقتضيه لهم ، فابتدىء بذكرهم اعتراضاً ودل على الخبر عنهم بخبر ( إن ) ، أو أنه لما كان المقام للترغيب في التوبة ، وجعل هؤلاء مع شناعة حالهم بظهور ضلالهم كمن لا إنكار لقبول توبته ، كان غيرهم أولى بذلك ، ولما اكن حال النصارى مشتبهاً ، جعلوا في حيز الاحتمال للعطف على اليهود لما تقدم من ذمهم ، وعلى الصابئة لخفة حالهم بأنهم مع أن أصل دينهم صحيح لم يبلغ ذمهم السابق في هذه السورة مبلغ ذم اليهود ) من آمن ) أي منهم مخلصاً من قلبه ، ولعله ترك الجار إعراقاً في التعميم ) بالله ) أي الذي له جميع الجلال والإكرام ) واليوم الآخر ) أي الذي يبعث فيه العباد بأرواحهم واشباحهم ، ويبعث من ذكره على الزهادة وألحد في العبادة ، وبالإيمان به يحصل كمال المعرفة بالله تعالى باعتقاد كمال قدرته ) وعمل صالحاً ) أي صدق غيمانه القلبي بالعمل بما امر به ، ليجمع بين فضيلتي العلم والعمل ، ويتطابق الجنان مع الأركان ) فلا خوف عليهم ( يعتد به في دنيا ولا في آخرة ) ولا هم ) أي خاصة ) يحزنون ) أي على شيء فات ، لأنه لا يفوتهم شيء يؤسف عليه أصلاً ، وأما غيرهم فهم في الحزن أبداً ، وفي الآية تكذيب لهم في قولهم ) ليس علينا في الأميين سبيل ) [ آل عمران : 75 ] المشار إليه في هذه السورة بنسبتهم إلى أكل السحت في غير موضع ، وفي نصوص التوراة الموجودة بين أظهرهم الآن أعظم ناصح لهم في ذلك كما سبق في أوائل البقرة ، وقال في السفر الرابع منها عند ذكر التيه ووصاياهم إذ أدخلهم الأرض المقدسة ، ومكنهم فيها بأشياء منها القربان : وإن سكن بينكم رجل غريب يقبل إليّ أو بين أولادكم لأحقابكم ويقرب قرباناً لريح قتار الذبيحة للرب يفعل كما فعلتم أنتم ، ولتكن السنة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون بينكم سنة جارية لأحقابكم إلى الأبد ، والذين يقبلون إيلّ من الغرباء يكونون أمام الرب مثلكم ، ولتكن لكم سنة واحدة وحكومة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون معكم .
المائدة : ( 70 - 73 ) لقد أخذنا ميثاق. .. . .
) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ(2/509)
صفحة رقم 510
ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما كانت هذه البشارة - الصادقة من العزيز العليم الذي أهل الكتاب أعرف الناس به لمن آمن كائناً من كان - موجبة للدخول في الإيمان والتعجب ممن لم يسارع إليه ، وكان أكثر أهل الكتاب إنما يسارعون في الكفر ، كان الحال مقتضياً لتذكر ما مضى من قوله تعالى
77 ( ) ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً ( ) 7
[ المائدة : 12 ] وزيادة العجب منهم مع ذلك ، فأعاد سبحانه الإخبار به مؤكداً له تحقيقاً لأمره وتفخيماً لشأنه ، وساقه على وجه يرد دعوى البنوى والمحبة ، ملتفتاً مع التذكير بأول قصصهم في هذه السورة إلى أول السورة
77 ( ) أوفوا بالعقود ( ) 7
[ المائدة : 1 ] وعبر في موضع الجلالة بنون العظمة ، وجعل بدل النقباء الرسل فقال مستأنفاً : ( لقد أخذنا ) أي على ما لنا من العظمة ) ميثاق بني إسرائيل ) أي على الإيمان بالله ثم بيمن يأتي بالمعجز مصدقاً لما عنده بحيث يقوم الدليل على أنه من رسل الله الذين تقدم أخذ العهد عليهم بالإيمان بهم ، ودل على عظمة الرسل بقوله في مظهر العظمة : ( وأرسلنا اليهم رسلاً ) أي لم نكتف بهذا العهد ، بل لم نخلهم من بعد موسى من الرسل الذين يرونهم الآيات ويجددون لهم أوامر الرب إلى زمن عيسى عليه السلام ، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه - البخاري في بني إسرائيل ومسلم في المغازي - أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنيباء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم ، فإن الله عما استرعاهم ) انتهى .
ومع ذلك فلم يخل لهم زمان طويل من الكفر لا في زمن موسى ولا في زمن من بعده من الأنبياء عليهم السلام ، حتى قتلوا كثيراً من الرسل وهو معنى قوله - جواباً لمن كأنه قال : ما فعلوا بالرسل : ( كلما جاءهم رسول ) أي من أولئك الرسل أي رسول كان ) بما لا تهوى أنفسهم ) أي بشيء لا تحبه نفوسهم محبة تتساقط بها إليه ، خالفوه ، فكأنه قيل : أي مخالفة ؟ فقيل : ( فريقاً ) أي من الرسل ) كذبوا ) أي كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل ، ودل على شدة بشاعة القتل وعظيم شناعته بالتعبير بالمضارع تصويراً للحال الماضية وتنبيهاً على أن هذا ديدنهم وهو أشد من التكذيب فقال : ( وفريقاً يقتلون ) أي مع التكذيب وليدل على ما وقع منهم في سم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقدم المفعول للدلالة على انحصار أمرهم في حال التكذيب والقتل ، فلا(2/510)
صفحة رقم 511
حظ لهم في تصديق مخالف لأهوتيهم ) وحسبوا ) أي لقلة عقولهم مع مباشرتهم لهذه العظائم التي ليس بعدها شيء ) ألاّ تكون ) أي توجد ) فتنة ) أي أنه لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا خزي في الأخرى ، بل استحقوا بأمرها ، فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقرىء : تكون - بالرفع تنزيلاً للحسبان منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة التي للتحقيق ، وبالنصب كان الحسبان على بابه ، وأن ، على بابها خفيفة ناصبه للفعل ، لأن القاعدة - كما ذكر الواحدي - أن الأفعال على ثلاثة أضرب : فعل للثبات والاستقرار كالعلم والتيقن والبيان ، تفع بعده الثقيلة دون الخفيفة ، وفعل للزلزلة والاضطراب كالطمع والخوف والرجاء ، فلا يكون بعده إلا الخفيفة الناصبة للمضارع ، وفعل يقع على وجهين كحسب : تارة تكون بمعنى طمع فتنصب ، وتارة بمعنى علم فترفع ، فإن رفع هنا كان الحسبان بمعنى العلم عندهم لقوة عنادهم ، وإن نصب كان بمعنى الطمع لأنهم عالمون بأن قتلهم لهم خطأ ، فتنزل القراءتان على فريقين - والله أعلم ، وأيضاً فقراءة الرفع تفيد تأكيد حسبانهم المفيد لعدم خوفهم بزيادة عماهم ) فعموا ) أي فتسبب عن إدلالهم إدلال الولد والمحبوب جهلاً منهم وحماقة بظنهم أنهم لا تنالهم فتنة أنهم وُجِد عماهم العمى الذي لا عمى في الحقيقة سواه ، وهو انطماس البصائر
77 ( ) فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( ) 7
[ الحج : 46 ] حتى في زمن موسى عليه السلام ) وصموا ) أي بعده وبعده يوشع عليهما السلام ، لا ، الصمم أضر نم العمى ، فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل اصلاً ، لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع ) ثم تاب الله ) أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ) عليهم ) أي فرجعوا إلى الحق وتكرر لهم ذلك ) ثم عموا ) أي في زمن المسيح عليه السلام ) وصموا ) أي بعده .
ولما كان الإتيان بالضمير مفهماً لأن ذلك عمهم كلهم ، أعلم سبحانه أن ذلك ليس كذلك بقوله : ( كثير منهم ( إلا أن سوقه للعبارة هذا المساق يدل على أن من لم يكفر منهم كان مزلزلاً غير راسخ القدم في الهدى - والله أعلم ، وربما دل عليه قوله : ( والله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) بصير بما يعملون ) أي وإن دق وإن كانوا يظنون أنهم أسسوا عملهم على علم ، وقد مضى في قوله ( من لعنه الله وغضب عليه ) ما يشهد لهذا من عبادتهم بعلا الصنم وغيره من الأصنام مرة بعد مرة .
ولما أخبر تعالى بفساد أعمالهم ، دل على ذلك بقوله مستفتحاً مبيناً من حال النصارى ما بين من حال اليهود ، ومؤكداً لختم آية التبليغ بما ينقض دعواهم في البنوة والمحبة : ( لقد كفر ) أي ستر ما دل عليه النقل وهدى إليه العقل ) الذين قالوا إن الله ((2/511)
صفحة رقم 512
أي على ما له من نعوت الجلال والجمال ) هو المسيح ( فبين بصيغة فعيل - التي لا مانع من أن تكون للمفعول - بُعْدَه عما ادعوه فيه ، ثم أوضح ذلك بقوله : ( ابن مريم ( أيضاحاً لا خفاء معه .
ولما كانت دعوى الاتحاد الذي هو قول اليعقوبية أشد في الكفر وأنفى للإله من دعوى التثليث الذي هو قول النسطورية والملكية القائلين بالأقانيم ، قدمها وبين تعالى أنهم خالفوا فيها أمر المسيح الذي ادعوا أنه الإله فقال : ( وقال ) أي قالوا هذا الذي كفروا به والحال أنه قال لهم ) المسيح ( ضغطه عليهم ودعاء إلى ما هو الحق ) يابني إسرائيل ) أي الذي كان يتشرف بعبادة الله وتسميته بأنه عبده ) اعبدوا الله ) أي الملك الأعظم الذي كل شيء تحت قهره ، فأمرهم بأداء الحق لأهله مذكراً لهم بعظمته ، ثم ذكرهم بإحسانه وأنه وإياهم في ذلك شرع واحد ، فقال مقدماً لما يتعلق به لأنه أهم لإنكارهم له ) ربي وربكم ( فلم يطيعوا الإله الحق ولا الذي ادعوا إلهاً ، فلا أضل منهم ولا أسفه ، قال أبو حيان في النهر : وهذا الذي ذكره الله تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به ، وهو قول المسيح : يا معشر بني المعمودية - وفي رواية : يا معشر الشعوب - قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلى إلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم - انتهى .
وقد أسلفت أنا في آل عمران وغيرها عن الإنجيل كثيراً من شواهد ذلك ، ويأتي في هذه السورة وغيرها كثير منه .
ولما أمرهم بما يفهم منه الإخلاص لله تعالى في العبادة لما ذكر من جلاله وأن ما سواه مربوب ، ولأنه أغنى الأغنياء ، فمن أشرك به شيئاً لم يعتد له بعبادة ، علل ذلك بقوله : ( إنه من يشرك ) أي الآن أو بعد الآن في زمن من الأزمان ) بالله ) أي الذي تفرد بالجلال في عبادة أو فيما هو مختص به من صفة أو فعل ) فقد حرم الله ) أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ) عليه الجنة ) أي منعه من دخولها منعاً عظيماً متحتماً .
ولما كان المنع من دار السعداء مفهماً لكونه في دار الأشقياء ، صرح به فقال : ( ومأواه ) أي محل سكناه ) النار ( ولما جرت عادة الدنيا بأن من نزل به ضيم يسعى في الخلاص منه بأنصاره وأعوانه ، نفى ذلك سبحانه مظهراً للوصف المقتضي لشقائهم تعليلاً وتعميماً فقال : ( وما للظالمين ) أي لهم لظلمهم ) من أنصار ( لا بفداء ولا بشفاعة ولا مقاهرة بمجاهرة ولا مساترة ، لأن من وضع عمله في غير موضعه فكان ماشياً في الظلام ، لا تمكنه أصلاً مقاومة من هو في أتم ضياء ، وهذا على التهديد على الكفر فلا يصح أن يكون على مطلق المعصية ولو كانت كبيرة ، فبطل قول المعتزلة .
ولما انقضى هذا النقض ، وقدمه لأنه كما مضى أشد ، أتبعه إبطال دعوى التثليث(2/512)
صفحة رقم 513
بقوله مبدلاً من تلك النتيجة نتيجة أخرى : ( لقد كفر الذين قالوا ( بجرأة على الكلام المتناقض وعدم حياء ) إن الله ) أي على ما له من العظمة التي منها الغنى المطلق ) ثالث ) أي واحد ) ثلاثة ) أي كلهم آلهة ، وأما القائل بأنه ثالث بالعلم فلا يكفر .
ولما أعلم بكفرهم ، أشار إلى إبطاله كما أشار إلى إبطال الأول كما سلف بما لا يخفى على أحد ، تحقيقاً لتلبسهم بمعنى الكفر الذي هو ستر ما هو ظاهر فقال : ( وما ( وأغرق في النفي كما هو الحق واقتضاه المقام فقال : ( من إله إلا إله واحد ) أي قالوا ذلك والحال أنه لا يصح ولا يتصور في العقل أن يكون الإله متعدداً لا تحقيقاً ولا تقديراً بوجه من الوجوه ، لا يكون إلا واحداً بكل اعتبار ، وهو الله تعالى لا غيره ، وقد بين عيسى عليه السلام في الإنجيل الذي بين أظهرهم أنه لا يصح أن يكون الإله إلا واحداً - بالمعتمد من أدلة ذلك عند محققي أهل الأصول وهو برهان التمانع المشار إليه في كتابنا بقوله تعالى
77 ( ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( ) 7
[ الأنبياء : 22 ] فقال مترجمهم في إنجيل متى : حينئذ أتى إليه - أي عيسى عليه لاسلام - بأعمى أخرس له شيطان ، فأبرأه حتى أنه تكلم وأبصر ، فبهت الجمع كلهم وقالوا : لعل هذا هو ابن داود فسمع الفريسيون فقالوا : هذا لا يخرج الشياطين إلا بباعل زبول رئيس الشياطين ، فلما علم مكرهم قال لهم : كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب ، وكل مدينة أو بيت ينقسم لا يثبت ، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم فكيف يقوم ملكه ؟ فإن كنت أنا أخرج الشياطين بباعل زبول فأبناؤكم بما تخرجونهم من أجل هذا هم يكونون عليكم ، وإن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد قربت منكم ملكوت الله ، وكيف يستطيع حد أن يدخل بيت القوي ويخطف متاعه إلا أن يربط القوي أولاً ، حينئذ ينهب بيته .
وقال مرقس : وأما الكتبة الذين أتوا من يروشليم فقالا : إن بعل زبول معه ، وباركون الشياطين يخرج الشياطين ؛ فدعاهم وقال لهم : كيف يقدر شيطان أن يخرج شيطاناً وكل مملكة تنقسم لا تثبت تلك المملكة ، فإذا اختلف أهل البيت لا يثبت ذلك البيت ، وإن كان الشيطان الذي يقاوم بقيته وينقسم فلن يقدر أن ثبت ، لكن له انقضاء ، لا يقدر لكم إن كل شيء يغفر لبني الناس من الخطايا والتجديف الذي يجدفونه ، والمجدفين على روح(2/513)
صفحة رقم 514
القدس ليس يغفر لهم إلى لأبد ، بل يحل بهم العقاب الدائم ، لأنهم يقولون : إن معه روحاً نجساً .
قال متى : من ليس معي فهو عليّ ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق ، من أجل هذا أقول لكم : إن كل خطيئة وتجديف يترك للناس ، والتجديف على روح القدس لا يترك ، ومن يقل كلمة على ابن الإنسان يترك له ، والذي يقول على روح القدس لا يترك له في هذا الدهر ولا في الآتي ، إما أن تصيروا الشجرة الجيدة وثمرتها جيدة ، وإما أن تصيروا الشجرة الرديئة وثمرتها رديئة ، لأن من الثمرة تعرف الشجرة ، يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلموا بالصلاح وأنتم أشرار إنما يتكلم الفم من فضل ما في القلب ، الرجل الصالح من كنزه الصالح يخرج الصلاح ، والرجل الشرير من كنزه الشرير يخرج الشر ، أقول لكم : إن كل كلمة يتكلم بها الناس بطالة يعطون عنها جواباً في يوم الدين ، لأنك من كلامك تبرّر ، وم كلامك يحكم عليك .
وفي إنجيل لوقا : وفيام هو يتكلم إذا رفعت امرأة من الجمع صوتها وقالت : طوبى لبطن التي حملتك ، ولثدي التي أرضعتك ، فقال لها : مهلاً طوبى لمن يسمع كلام الله ويحفظه - انتهى .
لهم : الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطي آية إلا آية يونان النبي ؛ قال لوقا : فكما كان في يونان آية لأهل نينوى ، كذلك يكون ابن الإنسان لهذا الجيل آية - انتهى .
رجال نينوى يقومون في الحكم ويحاكمون هذا الجيل ، لأنهم تابوا بكريزة يونان - وقال لوقا : بإنذار يونان - وهاهنا أفضل من يونان ملكة التيمن تقوم في الحكم مع هذا الجيل وتحاكمه ، لأنها أتت من أقصى الأرض لتسمع من حكمة سليمان ، وههنا أفضل من سليمان ، إن الروح النجس إذا خرج من الإنسان يأتي أمكنة ليس فيها ماء ، يطلب راحة فلا يجد ، فيقول حينئذ : أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه ، فيأتي فيجد المكان فارغاً مكنوساً مزيناً ، فيذهب حينئذ ويأخذ معه سبعة أرواح أخر شراً منه ويأتي ويسكن هناك ، فتصير آخرة ذلك الإنسان شراً من أوليته ، وهكذا يكون لهذا الجيل الشرير - انتهى .
والتجديف هو الكفر بالنعم ، ويونان : يونس عليه السلام ، والكريزة - بينها لوقا بأنها الإنذار ، والتيمن : اليمن ، والأركون - بضم الهمزة والكاف بينهما راء مهملة ساكنة : الكبير ، ويروشليم - بفتح التحانية وضم المهملة ثم شين معجمة : بيت المقدس ، وباعل زبول - لا تصح أصلاً ، وأما الدليل على عدم شركة كل من عيسى وأمه عليهما السلام بخصوصهما فسيأتي تقريره بقوله تعالى
77 ( ) كانا يأكلان الطعام ( ) 7
[ المائدة : 75 ] والمراد من ذلك كله أنه متى دخلت الشركة أتى النقص فعلاً أو إمكاناً ، ومن اعترته شائبة نقص لم يصح كونه إلهاً .
ولما أخبر أنهم كفروا ، وأشار إلى نقض قولهم ، كان أنسب الأشياء بعده أن يعطف عليه توهيبهم ثم ترغيبهم فقال تعالى : ( وإن لم ينتهوا ) أي الكفرة بجميع أصنافهم ) عما يقولون ) أي من هاتين المقالتين وما داناهما ) ليمسن ) أي مباشرة من(2/514)
صفحة رقم 515
غير حائل ) الذين كفروا ) أي داموا على الكفر ، وبشر سبحانه بأنه يتوب على بعضهم بقوله : ( منهم عذاب أليم (
المائدة : ( 74 - 76 ) أفلا يتوبون إلى. .. . .
) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ( )
ولما كان من شأن العاقل أنه لا يقدم على باطل ، فإن وقع ذلك منه وشعر بنوع ضرر يأتي بسببه بادر إلى الإقلاع عنه ، تسبب عن هذا الإنذار - بعد بيان العوار - الإنكارُ عليهم في عدم المبادرة إلى التوبة إيضاحاً لأن معنى كفروا : داموا عليه ، فقال : ( أفلا يتوبون ) أي يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده والوعيد الشديد ) إلى الله ) أي المتصف بكل وصف جميل ) ويستغفرونه ) أي يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من العار البين العوار ؛ ولما كان التقدير : فالله تواب حكيم ، عطف عليه قوله : ( والله ( ويجوز أن يكون التقدير : والحال أن المستجمع لصفات الكمال أزلاً وأبداً ) غفور ) أي بيلغ المغفرة ، يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ) رحيم ) أي بالغ الإكرام لمن أقبل إليه .
ولما أ [ طل الكفر كله بإثبات أفعاله من إرساله وإنزاله وغير ذلك من كماله ، وأثبت التوحيد على وجه عام ، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال ، فكان ذلك دليلاً على وجه عام ، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بألإبطالن فكان ذلك دليلاً خاصاً بعد دليل عام ، فقال تعالى على وجه الحصر في الرسلية رداً على من يعتقد فيه الإلهية واصفاً له بصفتين لا يكونان إلا لمصنوع مربوب : ( ما المسيح ) أي الممسوح بدهن القدس المطهر المولود لأمه ) ابن مريم إلا رسول ( وبين أنه ما كان بدعاً ممن كان قبله من إخوانه بقوله : ( قد خلت من قبله الرسل ) أي فما من خارقة له ، وإلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن قبله كآدم عليه السلام في خلقه منتراب ، وموسى عليه السلام في قلب العصى حية تسعى - ونحو ذلك .
ولما كفروا بأمه أيضاً عليهما السلام بين ما هو الحق في أمرها فقال : ( وأمه صدّيقة ) أي بليغة الصدق في نفسها والتصديق لما ينبغي أن يصدق ، فرتبتها تلي رتبة الأنبياء ، ولذلك تكون من أزواج نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) في الجنة .
وهذه الآية من أدلة من قالك إن مريم عليها السلام لم تكن نبية ، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى بيان ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات ، وأنه من(2/515)
صفحة رقم 516
رفع واحداً منها فرق ذلك فقد أطراه ، ومن نقصه عنه فقد ازدراه ، فالقصد العلد بين الإفراط والتفريط باعتقاد أن أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة ، وأكمل صفات أمه الصديقية .
ولما كان المقام مقام البيان عن نزولهما عن رتبة الإلهية ، ذكر أبعد الأوصاف منها فقال : ( كانا يأكلان الطعام ( وخص الأكل لأنه مع كونه ضعفاً لازماً ظاهراً هو أصل الحاجات المعترية للإنسا ، فهو تنبيه على غيره ، ومن الأمر الجلي أن الإله لا ينبغي أن يدنو إلى جنابه عجز أصلاً ، وقد اشتمل قوله تعالى ) وقال المسيح ( وقوله
77 ( ) كانا يأكلان الطعام ( ) 7
[ المائدة : 75 ] على أشرف أحوال الإنسان وأخسها ، فأشرفها عبادة الله ، وأخسها الاشتغال عنها بالأكل الذي هو مبدأ الحاجات .
ولما أوضح ما هو الحق في أمرهما حتى ظهر كالشمس بُعُدهما عما أدعوه فيهما ، أتبعه التعجب من تمام قدرته على إظهار الآيات وعلى الإضلال بعد ذلك البيان فقال : ( انظر كيف نبين لهم الآيات ) أي نوضح إيضاحاً شافياً العلامات التي من شأنها الهداية إلى الحق والمنع من الضلال ؛ ولما كان العمى عن هذا البيان في غاية البعد ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم انظر أنَّى ) أي كيف ومن أين ؛ ولما كان العجب قبولهم للصرف وتأثرهم به ، لا كونه من صارف معين ، بنى للمفعول قوله : ( يؤفكون ) أي يصرفون عن الحق وبيان الطريق صرفَ من لا نور له أصلاً من أي صارف كان ، فصرفهم في غاية السفول ، وبيان الآيات في غاية العلو ، فبينهما بون عظيم .
ولما نفى عنهما الصلاحية لرتبة الإلهية للذات ، أتبعها نفي ذلك من حيث الصفات ، فقال منكراً مصرحاً بالإعراض عنهم إشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً للإقبال عليهم : ( قل ) أي للناصرى أيها الرسول الأعظم ) أتعبدون ( ونبه على أن كل شيء دونه ، وأنهم تخذوهم وسيلة إليه بقوله : ( من دون الله ( ونبه بإثبات الاسم الأعظم على أن له جميع الكمال ، وعبر عما عبدوه بأداة ما لا يعقل تنبيهاً على أنه سبحانه هو الذي أفاض عليه ما رفعه عن ذلك الحيز ، ولو شاء لسلبه عنه فقال : ( ما لا يملك لكم ضراً ) أي من نفسه فتخشوه ) ولا نفعاً ) أي تفرجوه ، ليكون لكم نوع عذر أو شبهة ، ولا هو سميع يسمع كل ما يمكن سمعه بحيث يغيث المضطر إذا استغاث به في أي مكان كان ولا عليم يعلم كل ما يمكن علمه بحيث يعطي على حسب ذلك ، وكل ما يملك من ذلك فبتمليك الله له كما ملككم من ذلك ما شاء .
ولما نفى عنه ما ذكر تصريحاً وتلويحاً ، أثبته لنفسه المقدسة كذلك فقال : ( والله ) أي والحال أن الملك الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال كله ) هو ( أي(2/516)
صفحة رقم 517
خاصة ) السميع العليم ( وهو وحده الضار النافع ، يسمع منكم هذا القول ويعلم هذا المعقد السيء ، وإنما قرن بالسميع العليم ، دون البصيرإرادة التهديد لمن عبد غيره ، لأن العبادة قول أو فعل ، ومن الفعل ما محله القلب وهو الإعتقاد ، ولا يدرك بالبصر بل بالعلم ، والآية - كما ترى - من الاحتباك : دل بام أثبته لنفسه على سبيل القصر على نفيه في الجملة الأولى عن غيره ، وبما نفاه في الجملة الأولى عن غيره على إثباته له - والله الموفق .
المائدة : ( 77 - 78 ) قل يا أهل. .. . .
) قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( ( )
ولما قامت الأدلة على بطلان قول اليهود ثم على بطلان مدعى النصارى ، ولم يبق لأحد علة ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) أ ، ينهى الفريقين عن الغلو بالباطل في أمر عيسى عليه السلام : اليهود بإنزاله عن رتبته ، ، لانصارة برفعه عنها بقوله تعالى : ( قل ياأهل الكتاب ) أي عامة ) لا تغلوا ) أي تجاوزوا الحد علواً ولا نزولاً ) في دينكم ( ولما كان الغلو ربما أطلق على شدة الفحص عن الحقائق واستنباط الخفي من الأحكام والدقائق من خبايا النصوص ، نفى ذلك بقوله : ( غير الحق ( وعرّفه ليفيد أن المبالغة في الحق غير منهي عنها ، وإنما المنهي عنها ، وإنما المنهي عنه تجاوز دائرة الحق بكمالها ، ولو نكر لكان من جاوز حقاً إلأى غيره واقعاً في النهي ، كما جاوز الاجتهاد في الصلاة النافلة إلى الجد في العلم النافع ، ولو قيل : باطلاً ، لأوهم أن المنهي عنه المبالغة في الباطل ، لا أصله ومطلقه .
ولما نهاهم أن يضلوا بأنفسهم ، نهاهم أن يقلدوا في ذلك غيرهم فقال : ( ولا تتبعوا ) أي فاعلين فعل من يجتهد في ذلك ) أهواء قوم ) أي هَوَوا مع ما لهم من القوة ، فكانوا أسفل سافلين ، والهوى لا يستعمل إلا في البشر ) قد ضلوا ( ولما كان ضلالهم غير مستغرق للزمان الماضي ، أدخل الجار فقال : ( من قبل ) أي من قبل زمانكم هذا عن منهاج العقل فصبروا على ضلالهم وأنسوا بما تمادوا عليه في محالهم ) وأضلوا ) أي لم يكفهم ضلالُهم في أنفسهم حتى أضلوا غيرهم ) كثيراً ) أي من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظن حقاً ) وضلوا ) أي بعد بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمنابذة الشرع ) عن سواء ) أي عدل ) السبيل ) أي الذي لا سبيل في الحقيقة(2/517)
صفحة رقم 518
غيره ، لأن الشرع هو الميزان القسط والحكم العدل ، وهذا إشارة إلى أنهم إن لم ينتهوا كانوا على محض التقليد لأسلافهم الذين هم في غاية البعد عن النهج وترك الاهتداء بنور العلم ، وهذا غاية في التبكيت ، فإن تقليدهم لو كان فيما يشبه الحق كان جهلاً ، فكيف وإنما هو تقليد في هوى .
ولما نهاهم عن ذلك وقبحه عليهم .
علله محذراً منه بقوله تعالى بانياً للمفعول ، لأن الفاعل معروف بقرينة من هو على لسانهما : ( لعن ( ووصفهم بما نبه على علة لعنهم بقوله : ( الذين كفروا ( وصرح بنسبتهم تعييناً لهم وتبكيتاً وتقريعاً فقال : ( من بنى إسرائيل ( وأكد هذا اللعن وفخمه بقوله : ( على لسان داود ) أي الذي كان على شريعة موسى عليه السلام ، وذلك باعتدائهم في السبت فصاروا قردة ) وعيسى ابن مريم ) أي الذي نسخ شرع موسى عليه السلام ، بكفرهم بعد المائدة فمسخوا خنازير ، لأنهم خالفوا النبيين معاً ، فلا هم تعبدوا بما دعاهم إليه داود عليه السلام من شرعهم الذي هم مدعون التمسك به ، وعارفون بأن ما دعاهم إليه منه حقاً ، ولا هم خرجوا عنه إلى ما أمروا بالخروج إليه على لسان موسى عليه السلام في بشارته به متقيدين بطاعته ، فلم تبق لهم علة من التقيد به ولا التقيد بحق دعاهم إليه غيره ، فعلم قطعاً أنهم مع الهوى كما مضى ، ولم ينفعهم مع نسبتهم إلى واحدة من الشريعتين نسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام ، فإنه لا نسب لأحد عند الله دون التقوى لا سيما في يوم الفصل إذ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .
ولما أخبر بلعنهم وأشار إلى تعليله بكفرهم ، صرح بتعليله بقوله : ( ذلك ) أي اللعن التام ) بما ) أي بسبب ما ) عصوا ) أي فعلوا في ترك أحكام الله فعل العاصي على الله ) وكانوا يعتدون ) أي كانت مجاوزة الحدود التي حدها الله لهم خلقاً .
ذكر الإشارة إلى لعنهم في الزبور والإنجيل ، قال في المزمور السابع والسبعين من الزبور : أنصت يا شعبي لوصاياي ، قربوا أسماعكم إلى قول فمي ، فإني أفتح بالأمثال فمي ، وأنطق بالسرائر الأزلية التي سمعناها وعرفناها وأخبرنا آباؤنا بها ولم يخفوها عن أبنائهم ليعرفوا الجيل الآتي تسابيح الرب وقوته وعجائبه التي صنعها ، أقام شهادته في يعقوب وجعل ناموصاً في إسرائيل كالذي أوصى آباءنا ليعلموا أبناءهم ، لكيما يخبر الجيل الآخر البنين الذين يولدون ويقومون ، ويعلمون أيضاً بنيهم أن يجعلوا توكلهم على الله ولا ينسوا أعمال الرب ، ويتبعوا وصاياه لئلا يكونوا كآبائهم الجيل المنحرف(2/518)
صفحة رقم 519
المخالف الخلف الذي لم يثق قلبه ولم يؤمن بالله المفرج عنه ، بنو إفرام الذين أوتروا ورفعوا عن قسيهم وانهزموا في يوم القتال لأنهم لم يحفظوا عهد الرب ولم يشاؤوا أن يسيروا في سبله ، ونسوا حسن أعماله وصنائعه التي أظهرها قدام آبائهم ، العجائب التي صنعها بأرض مصر في مزارع صاعان ، فلق البحر وأجازهم وأقام المياه كالزقاق ، هداهم بالنهار في الغمام وفي الليل أجمع بمصابيح النار ، فلق صخرة في البرية وسقاهم منها كاللجج العظيمة ، أخرج الماء من الحجر فجرت المياه كجري الأنهار ، وعاد الشعب أيضاً في الخطيئة ، وأسخطوا العلي حيث لم يكن ماء ، جربوا الله في قلوبهم بمسألة الطعام لنفوسهم ، وقذفوا على الله وقالوا : هل يقدر أن يصنع لنا مائدة في البرية ، لأنه ضرب الصخرة فجرت المياه وفاضت الأودية ، هل يستطيع أن يعطينا خبزاً أو يعد مائدة لشعبه ، سمع الرب فغضب واشتعلت النار في يعقوب ، وصعد الرجزُ على إسرائيل لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا رجواً خلاصه ، فأمر السحاب من فوق وانفتحت أبواب السماء ليشبعوا ، أهاج ريح التيمن من السماء وأتى بقوة العاصف ، وأنزل اللحم مثل التراب وطير السماء ذات الأجنحة مثل رمل البحار ، يسقطن في محالهم حول خيامهم ، فأكلوا وشبعوا جداً ، أعطاهم شهوتهم ولم يحرمهم إرادتهم ، فبينما الطعام في أفواههم إذ غضب الله نزل عليهم فقتل في كثرتهم وصرع في مختاري إسرائيل ، ومع هذا كله أخطؤوا إليه أيضاص ولم يؤمنوا بعجائبه ، فنيت بالباطل أيامهم ، وتصرمت عاجلاً سنوهم ، فحين قتلهم رغبوا إلى الله وعادوا وابتكروا إليه وذكروا أن الله معينهم وأن الله العلي مخلصهم ، أحبوه بأفواههم وكذبوه بألسنتهم ، ولم تخلص له قلوبهم ولم يؤمنوا بعهده ، وهو رحيم رؤوف ، يغفر ذنوبهم ولا يهلكهم ، ويرد كثرة سخطه عنهم ولا يبعث كل رجزه ، وذكر أنهم لحم وروح يذهب ولا يعود ، مراراً كثيرة أسخطوه في البرية وأغضبوه في أرض ظامئة ، وعادوا وجربوا الله وأسخطوا قدوس إسرائيل ، ولم يذكروا يده في يوم نجاهم من المضطهدين - انتهى .
هذا بعض ما في الزبور ، وأما الإنجيل فطافح بذلك ، منه ما في إنجيل متى ، قال : وانتقل يسوع من هناك وجاء إلى عبر الجليل ، وصعد إلى الجبل وجلس هناك ، وجاء إليه جمع كبير معهم خرس وعمى وعرج وعسم وآخرون كثيرون ، فخروا عند رجليه فأبرأهم ، وتعجب الجمع لأنهم نظروا الخرس يتكلمون والصم يسمعون والعرج يمشون والعمى يبصرون ، ومجدوا إله إسرائيل ، وإن يسوع دعا تلاميذه وقال لهم : إني أتحنن على هذا الجمع ، لأن لهم معي ثلاثة أيام ههنا ، وليس عندهم ما يأكلون ، ولا(2/519)
صفحة رقم 520
أريد أطلقهم صياماً لئلا يضيعوا في الطريق ، قال مرقس : لأن منهم من جاء من بعيد - انتهى .
قال له التلاميذ : من أين نجد من خبز القمح في البرية ما يشبع هذا الجمع ؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز ؟ فقالوا : سبعة أرغفة ويسير من السمك ، فأمر الجمع أن يجلس على الأرض وأخذ السبع خبزات والسمك وبارك وكسر وأعطى تلاميذه ، وناول التلاميذ الجمع ، فأكل جميعهم وشبعوا ورفعوا فضلات الكسر سبع قفاف مملوءة ، وكان الذين أكلوا نحو أربعة آلاف رجل سوى النساء والصبيان ، وأطلق الجمع وصعد السفينة وجاء إلى تخوم مجدل - وقال مرقس : إلى نواحي مابونا - وجاء الفريسيون والزنادقة يجربونه ويسألونه أن يريهم آية من السماء ، فأجابهم يسوع قائلاً : إذا كان المساء قلتم : إن السماء صاحية - لاحمرارها ، وبالغداة تقولون : اليوم شتاء - لاحمرار جو المساء العبوس ، أيها المراؤون تعلمون آية هذا الزمان ، الجيل الشرير الفاسق يطلب آية ، ولا يعطى إلا آية يونان النبي - وتركهم ومضى ، ثم جاء التلاميذ إلى العبر ونسوا أن يأخذوا خبزاً - قال مرقس : ولم يكن في السفينة إلا رغيف واحد - وإن يسوع قال لهم : انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين والزنادقة - وقال مرقس : وخمير هيرودس - ففكروا قائلين : إنا لم نجد خبزاً ، فعلم يسوع فقال لهم : لماذا تفكرون في نفوسكم يا قليلي الأمانة ؟ إنكم ليس معكم خبز ، أما تفهمون ولا تذكرون الخمس خبزات لخمسة آلاف وكم سلاً أخذتم ؟ والسبع خبزات لأربعة آلاف ، وكم قفة أخذتم ؟ لماذا لا تفهمون ؟ لأني لم أقل لكم من أجل الخبز ، حينئذ فهموا أنه لم يقل لهم أن يتحرزوا من خمير الخبز ، لكن من تعليم الزنادقة والفريسيين ، وقال لوقا : تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء ، لأنه ليس خفي إلا سيظهر ، ولا مكتوم إلا سيعلم ، الذي تقولونه في الظلام سيسمع في النور ، والذي وعيتموه في الآذان سوف ينادى به على السطوح ، أقول لكم : يا أحبائي لا تخافوا ممن يقتل الجسد ، وبعد ذلك ليس له أن يفعل أكثر ، خافوا ممن إذا قتل له سلطان أن يلقى في نار جهنم - وسيأتي بقية الإشارة إلى لعنهم في سورة الصف إن شاء الله تعالى ، والعسم جمع أعسم - بمهملتين ، وهو من في يده أو قدمه اعوجاج أو يده يابسة .
المائدة : ( 79 - 81 ) كانوا لا يتناهون. .. . .
) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( } )
ولما علل تعالى لعنهم بعصيانهم وغلوهم في الباطل ، بينه مخصصاً للعلماء منهم(2/520)
صفحة رقم 521
بزيادة تهديد ، لأنهم مع كونهم على المنكر لا ينهون غيرهم عنه ، مع أنهم أجدر من غيرهم بالنهي ، فصاروا عليّ منكرين شديدي الشناعة ، وسكوتهم عن النهي مغوٍ لأهل الفساد ومغرٍ لهم ولغيرهم على الدخول فيه والاستكبار منه فقال تعالى : ( كانوا لا يتناهون ) أي لا ينهى بعضهم بعضاً ، وبين إغراقهم في عدم المبالاة بالتنكير في سياق النفي فقال : ( عن منكر ( .
ولما كان الفعل ما كان من الأعمال عن داهية من الفاعل سواء كان عن علم أو لا ، عر به إشارة إلى أن لهم في المناكر غرام من غلبته الشهوة ، ولم يبق لهم نوع علم ، فقال : ( فعلوه ( ؛ ولما كان من طبع الإنسان النهي عن كل ما خالفه طبعاً أو اعتقاداً ، لا سيما إن تأيد بالشرع ، فكان لا يكف عن ذلك إلا بتدريب النفس عليه لغرض فاسد أداه إليه ، أكد مقسماً معبراً بالفعل الذي يعبر به عما قد لا يصحبه علم ولا يكون إلا عن داهية عظيمة فقال : ( لبئس ما كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) يفعلون ( إشارة إلى أنهم لما تكررت فضائحهم وتواترت قبائحهم صاروا إلى حيز ما لا يتأتى منه العلم .
ولما أخبر بإقرارهم على المناكر ، دل على ذلك بأمر ظاهر منهم لازم ثابت دائم مقوض لبنيان دينهم ، فقال موجهاً بالخطاب لأصدق الناس فراسة وأوفرهم علماً وأثبتهم توسماً وفهماً : ( ترى كثيراً منهم ) أي من أهل الكتاب ؛ ولما كان الإنسان لا ينحاز إلى حزب الشيطان إلا بمنازعة الفطرة الأولى السليمة ، أشار إلى ذلك بالتفعل فقال : ( يتولون ) أي يتبعون بغاية جهدهم ) الذين كفروا ) أي المشركين مجتهدين في ذلك مواظبين عليه ، وليس أحد منهم ينهاهم عن ذلك ولا يقبحه عليهم ، مع شهادتهم عليهم بالضلال هم وأسلافهم إلى أن جاء هذا النبي الذي كانوا له في غاية الانتظار وبه في نهاية الاستبشار ، وكانوا يدعون الإيمان به ثم خالفوه ، فمنهم من استمر على المخالفة ظاهراً وباطناً ، ومنهم من ادعى أنه تابع واستمر على المخالفة باطناً ، فكانت موالاته للمشركين دليلاً على كذب دعواه ومظهرة لما أضمره من المخالفة وأخفاه .
ولما كان ذلك منهم ميلاً مع الهوى بغير دليل أصلاً قال : ( لبئس ما قدمت ) أي تقديم النزل للضيف ) لهم أنفسهم ) أي التي من شأنها الميل مع الهوى ، ثم بين المخصوص بالذم - وهو ما قدمتُ - بقوله : ( إن سخط الله ) أي وقع سخطه بجميع ما له من العظمة ) عليهم ( ولما كان من وقع السخط عليه يمكن أن يزول عنه ، قال مبيناً أن مجرد وقوعه جدير بكل هلاك : ( وفي العذاب ) أي الكامل من الأدنى في الدنيا والأكبر في الآخرة ) هم خالدون ( .
ولما كان هذا دليلاً على كفرهم ، دل عليه بقوله : ( ولو ) أي فعلوا ذلك مع(2/521)
صفحة رقم 522
دعواهم الإيمان والحال أنهم لو ) كانوا ) أي كلهم ) يؤمنون ) أي يوجد منهم إيمان ) بالله ) أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء ) والنبي ) أي الذي له الوصلة التامة بالله ، ولذا أتبعه قوله : ( وما أنزل إليه ) أي من عند الله أعم من القرآن وغيره إيماناً خالصاً من غير نفاق ) ما اتخذوهم ) أي المشركين مجتهدين في ذلك ) أولياء ( لأن مخالفة الإعتقاد تمنع الوداد ، فمن كان منهم باقياً على يهوديته ظاهراً وباطناً ، فالألف في ( النبي ) لكشف سريرته للعهد ، أي النبي الذي ينتظرونه ويقولون : إنه غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو للحقيقة أي لو كانوا يؤمنون بهذه الحقيقة - أي حقيقة النبوة - ما والوهم ، فإنه لم يأت نبي إلا بتكفير المشركين - كما أشار إلى ذلك ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( الأنبياء أولاد علات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ) كما سيأتي قريباً في حديث أبي هريرة ، يعني - والله أعلم - أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع فهي متفقة في الأصل وهو التوحيد ، ومن كان منهم قد أظهر الإيمان فالمراد بالنبي في إظهار زيغه وميله وحيفه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأنه نهى عن موالاة المشركين ، بل عن متاركتهم ، ولم يرض إلا بمقارعتهم ومعاركتهم .
ولما أفهمت الشرطية عدم إيمانهم ، استثنى منها منبهاً بوضع الفسق موضع عدم الإيمان على أنه الحامل عليه فقال : ( ولكن كثيراً منهم فاسقون ) أي متمكنون في خلق المروق من دوائر الطاعات .
المائدة : ( 82 - 85 ) لتجدن أشد الناس. .. . .
) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ ( ( )
ولما دل كالشمس ميلهُم إلى المشركين دون المؤمنين على أنهم في غاية العداوة لهم ، صرح تعالى بذلك على طريق الاستنتاج ، فقال دالاً على رسوخهم في الفسق : ( لتجدن أشد الناس ) أي كلهم ) عداوة للذين آمنوا ) أي أظهروا الإقرار بالإيمان فكيف بالراسخين فيه ) اليهود ( قدمهم لأنهم أشد الفريقين لأنه لا أقبح من ضال على علم ) والذين أشركوا ( لما جمعهم من الاستهانة بالأنبياء هؤلاء جهلاً وأولئك عناداً(2/522)
صفحة رقم 523
وبغياً ، فعرف أن من صدق في إيمانه لا يواليهم بقلبه ولا بلسانه ، وأنهم ما اجتمعوا على الموالاة إلا لاجتماعهم في أشدّية العداوة لمن آمن ، فهذه الآية تعليل لما قبلها ، كأنه قيل : هب أنهم لا يؤمنون بالله والنبي ، وذلك لا يقتضي موادة المشركين فلِمَ والوهم حينئذ ؟ فقيل : لأن الفريقين اجتمعوا في أشدية العداوة للذين آمنوا .
ولما أخبر تعالى بأبعد الناس مودة لهم ، أخبر بضدهم فقال : ( ولتجدن أقربهم ) أي الناس ) مودة للذين آمنوا ) أي أوجدوا الإيمان بالقلب واللسان ) الذين قالوا ( وفي التوريك على قولهم إشارة إلى أنهم ما كانوا على حقيقة النصرانية ) إنا نصارى ) أي لقلة اهتمامهم بالدنيا بمجرد قولهم ذلك ولو لم يكونوا عريقين في الدين وإقبالهم على علم الباطن ، ولذلك علله بقوله : ( ذلك بأن منهم قسيسين ) أي مقبلين على العلم ، من القس ، وهو ملامة الشيء وتتبعه ) ورهباناً ) أي في غاية التخلي من الدنيا ؛ ولما كان التخلي منها موجباً للبعد من الحسد ، وهو سبب لمجانبة التكبر قال : ( وأنهم لا يستكبرون ) أي لا يطلبون الرفعة على غيرهم ولا يوجدونها .
ولما كان ذلك علة في الظاهر ومعلولاً في الباطن لرقة القلب قال : ( وإذا سمعوا ) أي أتباع النصرانية ) ما أنزل إلى الرسول ) أي الذي ثبتت رسالته بالمعجز ، فكان من شأنه أن يبلغ ما أنزل إليه للناس ) ترى أعينهم ( ولما كان البكاء سبباً لامتلاء العين بالدمع وكان الامتلاء سبباً للفيض الذي حقيقته السيلان بعد الامتلاء ، عبر بالمسبب عن السبب فقال : ( تفيض من الدمع ( أصله : يفيض دمعها ثم تفيض هي دمعاً ، فهو من أنواع التمييز ، ثم علل الفيض بقوله : ( مما عرفوا من الحق ) أي وليس لهم غرض دنيوي يمنعهم عن قبوله ، ثم بين حالهم في مقالهم بقوله : ( يقولون ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) آمنا ) أي بما سمعنا ) فاكتبنا ( .
ولما كان من شأن الشاهد إحضار القلب وإلقاء السمع والقيام التام بما يتلى عليه ويندب إليه قال : ( مع الشاهدين ) أي أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة ، فإن تقويتنا على ذلك ليست إلا إليك ) وما ) أي ويقولون : ما ، أي أيّ شيء حصل أو يحصل ) لنا ( حال كوننا ) لا نؤمن بالله ) أي الذي لا كفوء له ولا خير إلا منه ) وما ) أي وبما ) جاءنا من الحق ) أي الأمر الثابت الذي مهما عرض على الواقع طابقه الواقع سواء كان حالاً أو ماضياً أو آتياً .
ولما كانوا يهضمون أنفسهم ، عبروا بالطمع الذي لا نظر معه لعمل فقالوا : ( ونطمع أن يدخلنا ربنا ) أي بمجرد إحسانه ، لا بعمل منا ، ولجريهم في هذا المضمار(2/523)
صفحة رقم 524
عبروا بمع دون ( في ) قولهم : ( مع القوم الصالحين ( هضماً لأنفسهم وتعظيماً لرتبة الصلاح .
ولما ذكر قولهم الدال على حسن اعتقادهم وجميل استعدادهم ، ذكر جزاءهم عليه فقال : ( فأثابهم الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) بما قالوا ) أي جعل ثوابهم على هذا القول المستند إلى خلوص النية الناشئ عن حسن الطوية ) جنات تجري ( ولما كان الماء لو استغرق المكان أفسد ، أثبت الجار فقال : ( من تحتها الأنهار ( ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال : ( خالدين فيها ( .
ولما كان التقدير : لإحسانهم ، طرد الأمر في غيرهم فقال : ( وذلك ) أي الجزاء العظيم ) جزاء المحسنين ) أي كلهم ، واختلفوا في هذه الواقعة بعد اتفاقهم على أنها في النجاشي وأصحابه ، وذلك مبسوط في شرحي لنظمي للسيرة النبوية ، فمن ذلك أنه لما قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من مهاجرة الحبشة مع أصحابه رضي الله عنهم قدم معهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي رضي الله عنه وعن الجميع وفداً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، عليهم ثياب الصوف ، اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، وهم بحيرا الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن ، فقرأ عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فأنزل الله فيهم هذه الآية
77 ( ) لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم للذين آمنوا ( ) 7
[ المائدة : 82 ] - إلى آخرها ، ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول بغير سند ، ثم أسند عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :
77 ( ) ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً ( ) 7
[ المائدة : 82 ] قال : بعث النجاشي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً ، فقرأ عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يس فبكوا ، فنزلت فيهم هذه الآية .
وإذا نظرت مكاتبات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للملوك ازددت بصيرة في صدق هذه الآية ، فإنه ما كاتب نصرانياً إلا آمن ، أو كان ليناً ولو لم يسلم(2/524)
صفحة رقم 525
كهرقل والمقوقس وهوذة بن علي وغيرهم ، وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم ، وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غابة الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يجز رسوله بشيء ، وأما اليهود فكانوا جيران الأنصار ومواليهم وأحبابهم ، ومع ذلك فأحوالهم في العداوة غاية ، كما هو واضح في السير ، مبين جداً في شرحي لنظمي للسيرة ، وكان السر في ذلك - مع ما تقدم من باعث الزهد - أنه لما كان عيسى عليه السلام أقرب الأنبياء زمناً من زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان المنتمون إليه ولو كانوا كفرة أقرب الأمم مودة لاتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإلى ذلك يشير ما رواه الشيخان في الفضائل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، الأنبياء أولاد علات - وفي رواية : أبناء ، وفي رواية : إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وليس بيني وبينه ، وفي رواية : وليس بيني وبين عيسى - نبي .
وفي رواية لمسلم : أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة ، قالوا : كيف يا رسول الله قال : الأنبياء إخوة من علات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، فليس بيننا نبي .
المائدة : ( 86 - 87 ) والذين كفروا وكذبوا. .. . .
) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ( )
ولما ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيباً ، ذكر جزاء من لم يفعل فعلهم ترهيباً فقال : ( والذين كفروا ) أي ستروا ما أوضحته له عقولهم من الدلالة على صحة ما دعتهم إليه الرسل ) وكذبوا ) أي عناداً ) بآياتنا ) أي بالعلامات المضافة لعظمها إلينا ) أولئك ) أي البعداء من الرحمة ) أصحاب الجحيم ) أي الذين لا ينفكون عنها ، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم .
ولما مدح سبحانه الرهبان ، وكان ذلك داعياً إلى الترهب ، وكانت الرهبانية حسنة بالذات قبيحة بالعرض ، شريفة في المبدأ دنية في المآل ، فإنها مبنية على الشدة والاجتهاد في الطاعات والتورع عن أكثر المباحات ، والإنسان مبني على الضعف مطبوع على النقائص ، فيدعوه طبعه ويساعده ضعفه إلى عدم الوفاء بما عاقد عليه ، ويسرع بما له من صفة العجلة إليه ، فيقع في الخيانة كما قال تعالى : ( ) فما رعوها حق رعايتها ( ) [ الحديد : 27 ] عقب ذلك بالنهي عنها في هذا الدين والإخبار عنه بأنه بناه على التوسط(2/525)
صفحة رقم 526
رحمة منه لأهله ولطفاً بهم تشريفاً لنبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ونهاهم عن الإفراط فيه والتفريط فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي وجد منهم الإقرار بذلك ) لا تحرموا ) أي تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غيرهما تصديقاً لما أقررتم به ، ورغبهم في امتثال أمره بأن جعله موافقاً لطباعهم ملائماً لشهواتهم فقال : ( طيبات ما ) أي المطيبات وهي اللذائذ التي ) أحل الله ( وذكر هذا الاسم الأعظم مرغب في ذلك ، فإن الإقبال على المنحة يكون على مقدار المعطي ، وأكد ذلك بقوله : ( لكم ) أي وأما هو سبحانه فهو منزه عن الأغراض ، لا ضر يلحقه ولا نفع ، لأن له الغنى المطلق .
ولما أطلق لهم ذلك ، حثهم على الاقتصاد ، وحذرهم من مجاوزة الحد إفراطاً وتفريطاً فقال : ( ولا تعتدوا ( فدل بصيغة الافتعال على أن الفطرة الأولى مبنية على العدل ، فعدولها عنه لا يكون إلا بتكلف ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لاستبعاد أن ينهى عن الإمعان في العبادة : ( إن الله ) أي وهو الملك الأعظم ) لا يحب المعتدين ) أي لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت ، ولا للمفرطين فيه الذين يحللون ما حرمت ، أي يفعلون فعل المحرم من المنع وفعل المحلل من التناول ، وما ذكر من سبب نزول الآية واضح في ذلك ؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن رجلاً أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء وإني حرمت عليّ اللحم ، فنزلت : ( لا تحرموا ما أحل الله لكم ( ونزلت :
77 ( ) وكلوا مما رزقكم الله ( ) 7
[ المائدة : 88 ] .
وأخرجه الترمذي في التفسير من جامعه وقال : حسن غريب ، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً .
وقال الواحدي : وتبعه عليه البغوي : قال المفسرون : ( جلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف فرق الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من الصحابة رضي الله عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن(2/526)
صفحة رقم 527
مقرن ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبّوا المذاكير ؛ فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم : ( ألم أنبأ أنكم أتفقتم على كذا وكذا ( ؟ قالوا : بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير ، فقال : ( إني لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا .
وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، ومن رغب عن سنتي فليس مني ( ؛ ثم جمع الناس فخطبهم فقال : ( ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً ، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ( ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا ، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى
77 ( ) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ( ) 7
) [ المائدة : 89 ، والبقرة : 225 ] ، ولا تعارض بين الخبرين لإمكان الجمع بأن يكون الرجل لما سمع تذكير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سأل ، ولو لم يجمع صح أن يكون كل منهما سبباً ، فالشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة ، بعضها أقرب من بعض ، فمن الأحاديث الواردة في ذلك ما روى البغوي بسنده من طريق ابن المبارك في كتاب الزهد عن سعد بن مسعود ( أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ائذن لنا في الاختصاء ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ليس منا من خصي ولا اختصى ، إن خصاء أمتي الصيام ( ، فقال : يا رسول الله ائذن لنا في السياحة ، فقال : ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ( فقال : يا رسول الله ائذن لنا في الترهب ، فقال : ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً لصلاة ( وللشيخين والترمذي والنسائي والدارمي عن سعد بن أبي(2/527)
صفحة رقم 528
وقاص رضي الله عنه أيضاً قال : ( أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولو أذن له - وفي رواية : ولو أجاز له - التبتل لاختصينا ( وللدارمي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضاً قال : ( لما كان من أمر عثمان بن مظعون رضي الله عنه الذي كان ممن ترك النساء بعث إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يا عثمان إني لم أومر بالرهبانية ، أرغبت عن سنتي ) ؟ قال : لا يا رسول الله قال : ( إن من سنتي أن أصلي وأنام وأصوم وأطعم وأنكح وأطلق ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، يا عثمان إن لأهلك عليك حقاً ، ولعينك عليك حقاً ) ، قال سعد : فوالله لقد كان أجمع رجال من المؤمنين على أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن هو أقر عثمان على ما هو عليه أن نختصي فنتبتل ( وقال شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف : وروى الطبراني من طريق ابن جريج عن مجاهد قال : ( أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ( ومن طريق ابن جريج عن عكرمة ) أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالماً مولى أبي حذيفة في جماعة رضي الله عنهم تبتلوا فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( - الآية ، فبعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا ) وللترمذي عن سمرة رضي الله عنه ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن التبتل .
وقرأ قتادة : ( ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية ( ( وللنسائي(2/528)
صفحة رقم 529
عن عائشة رضي الله عنها نحوه وأشار إليه الترمذي .
وللطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً .
يقول : ( تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) ومنها ما روى الشيخان عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : ( كنا نغزو مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وليس لنا شيء - وفي رواية : نساء ، وفي رواية : كنا ونحن شباب - فقلنا : يا رسول الله ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ، ثم قرأ علينا عبد البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( قلت : يا رسول الله إني رجل شاب ، وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء - قال النسائي : أفاختصي - فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك ، فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق ، فاختص على ذلك أو ذر ) - وقال النسائي : أو دع ( ومنها ما روى الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورضي الله عنهن يسألون عن عبادة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - وفي رواية مسلم والنسائي أن نفراً من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سألوا أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن عمله في السر - فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ؛ وفي رواية : وقال بعضهم لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ؛ فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فحمد الله وأثنى عليه وقال : ما بال أقوام كذا وكذا وفي رواية : فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد(2/529)
صفحة رقم 530
وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) والمبهمون في الحديث - قال شيخنا في مقدمة شرحه للبخاري - هم ابن مسعود وأبو هريرة وعثمان بن مظعون ، وسيأتي مفرّقاً ما يشير إلى ذلك ، يعني ما قدمته أنا ، قال : وقيل : هم سعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب ، وفي مصنف عبد الرزاق من طريق سعيد بن المسيب أن منهم علياً وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم ، وقال شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف : إن هذا أصلُ ما رواه الواحدي عن المفسرين ، وللشيخين والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ( ، وفي رواية : ( ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ( ولأبي داود عن أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ( وللإمام أحمد في المسند عن أنس رضي الله عنه والحاكم في علوم الحديث في فن الغريب - وهذا لفظه - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض عبادة الله إليك ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ( المتين : الصلب الشديد ، والإيغال : المبالغة ، والمنبت - بنون وموحدة وفوقانية مشددة هو الذي انقطع ظهره ، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ( ؛ وفي بعض الروايات : والقصد القصد تبلغوا ) ولمسلم(2/530)
صفحة رقم 531
وابن ماجه - وهذا لفظه - عن حنظلة الكاتب التميمي الأسيدي رضي الله عنه قال : ( كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرنا الجنة والنار حتى كانا رأي العين ، فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت ، قال : فذكرت الذي كنا فيه ، فخرجت فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت : نافقت نافقت فقال أبو بكر : إنا لنفعله ، فذهب حنظلة فذكره للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يا حنظلة لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو على طرقكم ، يا حنظلة ساعة وساعة ( ولفظ مسلم من طرق جمعت متفرقها عن حنظلة - وكان من كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - قال : ( لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت : نافق حنظلة قال : سبحان الله ما تقول ؟ قلت : نكون عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكرنا بالنار والجنة كانا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيراً ، قال أبو بكر رضي الله عنه : فوالله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قلت : نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما ذاك ) ؟ قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيراً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وساعة - ثلاث مرات ) وفي رواية : قال : كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوعظنا فذكرنا النار - وفي رواية : الجنة والنار - ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة ، فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال : وأنا قد فعلت مثل ما تذكر ، فلقينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقلت : يا رسول الله نافق حنظلة فقال : مه ؟ فحدثته بالحديث ، فقال أبو بكر : وأنا قد فعلت مثل ما فعل ، فقال ( يا حنظلة ساعة وساعة ، فلو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق ) ومن هنا تبين لك مناسبة أول المجادلة لآخر الحديد التي كاع في معرفتها الأفاضل ، وكع عن تطلبها لغموضها(2/531)
صفحة رقم 532
الأكابر الأماثل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك وإيضاح ما فيه من لطيف المسالك ، ومن هذه الآية وقع الالتفات إلى قوله تعالى : ( ) أحلت لكم بهيمة الأنعام ( ) [ الأنعام : 1 ] وقوله تعالى : ( ) قل أحل لكم الطيبات ( ) [ المائدة : 4 ] وما أحسن تصديرها بيا أيها الذين آمنوا - كما صدر أول السورة به ، وقد مضى بيان جميع ما مضى في الوفاء بالعقود ، فكان كأنه تعالى قال : أوفوا بالعقود ، فلا تتهاونوا بها فتنقضوها ، ولا تبالغوا فيها فتكونوا معتدين فتضعفوا ، فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، بل سددوا وقاربوا ، والقصد القصد تبلغوا ، وقال ابن الزبير بعد قوله : ( ) ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ( ) [ المائدة : 14 ] ثم فصل للمؤمنين أفعال الفريقين - أي اليهود والنصارى - ليتبين لهم فيما نقضوا ، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى : ( ) لتجدن أشد الناس عداوة ( ) [ المائدة : 82 ] .
ثم نصح عباده وبين لهم أبواباً منها دخول الامتحان ، وهي سبب في كل الابتلاء ، فقال : ( ) لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ( ) [ المائدة : 87 ] فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم شارعين لأنفسكم وظالمين - انتهى .
و ) ما أحل ( شامل لكل ما كانوا أرادوا أن يتورعوا عنه من المآكل والملابس والمناكح والنوم وغير ذلك .
المائدة : ( 88 - 89 ) وكلوا مما رزقكم. .. . .
) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ( )
ولما كان الحال لما ألزموا به أنفسهم مقتضياً للتأكيد ، أمر بالأكل بعد أن نهى عن الترك ليجتمع على إباحة ذلك الأمر والنهيُ فقال : ( وكلوا ( ورغبهم فيه بقوله : ( مما رزقكم الله ) أي الملك الأعظم الذي لا يرد عطاؤه .
ولما كان الرزق يقع على الحرام ، قيده بعد القيد بالتبعيض بقوله : ( حلالاً ( ولما كان سبحانه قد جعل الرزق شهياً ، وصفه امتناناً وتريباً فاقل : ( طيباً ( ويجوز أن يكون قيداً محذراً مما فيه شبهة تنبيهاً على الورع ، ويكون معنى طيبه تيقن حله ، فيكون بحيث تتوفر الدواعي على تناوله ديناً توفّرها على تناول ما هو نهاية في اللذة شهوة وطبعاً ، وأن يكون مخرجاً لما تعافه النفس مما أخذ في الفساد من الأطعمة لئلا يضر ، قال ابن المبارك : الحلال ما أخذ من جهته ، والطيب ما غذّي ونميّ ، فأما الطين والجوامد وما لا يغذي فمكروه إلا على جهة التداوي ، وأن يكون مخرجاً لما فوق سد الرمق في حالة(2/532)
صفحة رقم 533
الضرورة ، ولهذا وأمثاله قال : ( واتقوا الله ) أي الملك الذي له الجلال والإكرام من أن تحلوا حراماً أو تحرموا حلالاً ، ثم وصفه بما يوجب رعي عهوده والوقوف عند حدوده فقال : ( الذي أنتم به مؤمنون ) أي ثابتون على الإيمان به ، فإن هذا الوصف يقتضي رعي العود ، وخص سبحانه الأكل ، والمراد جميع ما نهي عن تحريمه من الطيبات ، لأنه سبب لغيره من المتمتعات ، فلما نزلت - كما نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما - هذه الآية قالوا : يا رسول الله وكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه - كما تقدم ، فأنزل الله تعالى : ( لا يؤاخذكم الله ) أي على ما له من تمام الجلال ) باللغو ( وهو ما يسبق إليه اللفظ من غير قصد ) في أيمانكم ( على أني لم أعتمد على سبب النزول في المناسبة إلا لدخوله في المعنى ، لا لكونه سبباً ، فإنه ليس كل سبب يدخل في المناسبة - كما بينته في أول غزوة أجد في آل عمران ، وإنما كان السبب هنا داخلاً في مناسبة النظم ، لأن تحريم ما أحل يكون تارة بنذر وتارة بيمين ، والنذر في المباح - وهو مسألتنا - لا ينعقد وكفارته كفارة يمين ، فحينئذ لم تدع الحاجة إلا إلى التعريف بالأيمان وأحكامها ، فقسمها سبحانه إلى قسمين : مقصود وغير مقصود ، فأما غير المقصود فلا اعتبار به ، وأما المقصود فقسمان : حلف على ماض ، وحلف على آت ، فأما الحلف على الماضي فهو اليمين الغموس التي لا كفارة لها عند بعض العلماء ، وسيأتي في ىية الوصية ، وأما الحلف على الآتي - وهو الذي يمكن التحريم به - فذكر حكمه هنا بقوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم ( .
ولما كان مطلق الحلف الذي منه اللغو يطلق عليه عقد لليمين ، أعلم أن المؤاخذة إنما هي بتعمد القلب ، وهو المراد بالكسب في الآية الأخرى ، فعبر بالتفعيل في قراءة الجماعة ، والمفاعلة على قراءة ابن عامر تنبيهً على أن ذلك هو المراد من قراءة حمزة والكسائي بالتخفيف فقال ) بما عقدتم الأيمان ) أي بسبب توثيقها وتوكيدها وإحكامها بالجمع بين اللسان والقلب ، سواء كان على أدنى الوجوه كما تشير إليه قراءة التخفيف ، أو على أعلاها كما تشير إليه قراءة التشديد ، فلا يحل لكم الحنث فيها إلا بالكفارة بخلاف اللغو فإنه باللسان فقط ، فلا عقد فيه فضلاً عن تعقيد ، و ( ما ) مصدرية .
ولما أثبت المؤاخذة سبب عنها قوله : ( فكفارته ) أي الأمر الذي يستر النكث والحنث عن هذا التعقيد ، ويزيل أثره بحيث تصيرون كأنكم ما حلفتم ) إطعام عشرة مساكين ) أي أحرار مساكين ، لكل مسكين ربع صاع ، وهو مدمن طعام ، وهو رطل(2/533)
صفحة رقم 534
وثلث ) من أوسط ما ( كان عادة لكم أنكم ) تطعمون أهليكم ) أي من أعدله في الجودة والقدر كمية وكيفية ، فهو مد جيد من غالب القوت ، سواء كان من الحنطة أو من التمر أو غيرهما .
ولما بدأ بأقل ما يكفي تخفيفاً ورحمة ، عطف على الإطعام ترقياً قوله : ( أو كسوتهم ) أي بثوب يغطي العورة من قميص أو إزار أو غيرهما مما يطلق عليه اسم الكسوة ) أو تحرير ) أي إعتاق ) رقبة ) أي مؤمنة سليمة عما يخل بالعمل - كما تقدم في كفارة القتل - حملاً لمطلق الكفارات على ذلك المقيد ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما استأذنه أحد في إعتاق رقبة في كفارة إلا اختبر إيمانها ، هذا ما على المكلف على سبيل التخيير من غير تعيين .
والتعيين إليه إذا كان واجداً للثلاثة أو لأحدها ، والإتيان بأحدها مبرئ من العهدة ، لأن كل واحد من الثلاثة بعينه أخص من أحدها على الإبهام ، والإتيان بالخاص يستلزم الإتيان بالعام ) فمن لم يجد ) أي واحداً منها فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه مؤنته ) فصيام ) أي فالكفارة صيام ) ثلاثة أيام ( ولو متفرقة .
ولما تم ذلك .
أكده في النفوس وقرره بقوله : ( ذلك ) أي الأمر العدل الحسن الذي ذكر ) كفارة أيمانكم ) أي المعقدة ) إذا حلفتم ( وأردتم نكثها سواء كان ذلك قبل الحنث أو بعده .
ولما كان التقدير : فافعلوا ما قدرتم عليه منه ، عطف عليه لئلا تمتهن الأيمان لسهولة الكفارة قوله : ( واحفظوا أيمانكم ) أي فلا تحلفوا ما وجدتم إلى ذلك سبيلاً ، ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ، فإنه سبحانه عظيم ، ومن أكثر الحلف وقع في المحذور ولا بد ، وإذا حلفتم فلا تحنثوا دون تكفير ، ويجوز للمكفر الجمع بين هذه الخصال كلها واستشكل ، وحلُّه بما قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في التلويح في بحث أو : والمشهور في الفرق بين التخيير والإباحة أنه يمنتع في التخيير الجمع ولا يمتنع في الإباحة ، لكن الفرق هاهنا أنه لا يجب في الإباحة الإتيان بواحد وفي التخيير يجب ، وحينئذ إن كان الأصل فيه الحظر وثبت الجواز بعارض الأمر - كما إذا قال : بع من عبيدي هذا أو ذاك - يمتنع الجمع ويجب الاقتصار على الواحد .
لأنه المأمور به .
وإن كان الأصل فيه الإباحة ووجب بالأمر واحد - كما في خصال الكفارة - يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية ، وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة - انتهى .
ولما اشتملت هذه الآيات من البيان على ما يدهش الإنشان كان كأنه قيل : هل يبين كل ما يحتاج إليه هكذا ؟ فنبه من هذه الغفلة بقوله : ( كذلك ) أي مثل هذا البيان(2/534)
صفحة رقم 535
العظيم الشأن ) يبين الله ) أي على ما له من العظمة ) لكم آياته ) أي أعلام شريعته وأحكامه على ما لها من العلو بإضافتها إليه .
ولما اشتمل ما تقدم من الأحكام والحِكَم والتنبيه والإرشاد والإخبار بما فيها من الاعتبار على نِعَم جسيمة وسنن جليلة عظيمة ، ناسب ختمُها بالشكر المُربى لها في قوله على سبيل التعليل المؤذن بقطعها إن لم توجد العلة : ( لعلكم تشكرون ) أي يحصل منكم الشكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية .
المائدة : ( 90 - 92 ) يا أيها الذين. .. . .
) يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ( ( )
ولما تم بيان حال المأكل وكان داعية إلى المشرب ، احتيج إلى بيانه ، فبين تعالى المحرم منه .
فعلم أن ما عداه مأذون في التمتع به ، وذلك محاذٍ في تحريم شيء مقترن باللازم بعد إحلال آخر لما في أول السورة من تحريم الميتة وما ذكر معها بعد إحلال بهيمة الأنعام وما معها ، فقال تعالى مذكراً لهم بما أقروا به من الإيمان الذي معناه الإذعان : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا به .
ونبههم على ما يريد العدو بهم من الشر بقوله تعالى : ( إنما الخمر ( وهي كل ما أسكر سواء فيه قليله وكثيره ، وأضاف إليها ما واخاها في الضرر ديناً ودنيا وفي كونه سبباً للخصام وكثرة اللغط المقتضي للحلف والإقسام تأكيداً لتحريم الخمر بالتنبيه على أن الكل من أفعال الجاهلية ، فلا فرق بين شاربها والذابح على النصب والمعتمد على الأزلام فقال : ( والميسر ) أي الذي تقدم ذكره في البقرة ) والأنصاب والأزلام ( المتقدم أيضاً ذكرُهما أول السورة ، والزلم : القدح لا ريش له - قاله البخاري ؛ وحكمة ترتيبها هكذا أنه لما كانت الخمر غاية في الحمل على إتلاف المال ، قرن بها ما يليها في ذلك وهو القمار ، ولما كان الميسر مفسدة المال ، قرن به مفسدة الدين وهي الأنصاب ، ولما كان تعظيم الأنصاب شركاً جلياً إن عبدت ، وخفياً إن ذبح عليها دون عبادة ، قرن بها نوعاً من الشرك الخفي وهو الاستقسام بالأزلام : ثم أمر باجتناب الكل إشارة وعبارة على أتم وجه فقال : ( رجس ) أي قذر أهل لأن يبعد عنه بكل اعتبار حتى عن ذكره سواء كان عيناً أو معنى ، وسواء كانت الرجسية في الحس أو المعنى ، ووحد الخبر للنص على الخمر والاعلام بأن أخبار الثلاثة حذفت وقدرت ، لأنها أهل لأن يقال في كل واحد منها على حدتها كذلك ، ولا(2/535)
صفحة رقم 536
يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع ؛ ثم زاد في التنفير عنها تأكيداً لرجسيتها بقوله : ( من عمل الشيطان ) أي المحترق البعيد ، ثم صرح بما اقتضاه السياق من الاجتناب فقال : ( فاجتنبوه ) أي تعمدوا أن تكونوا عنه في جانب آخر غير جانبه .
وأفرد لما تقدم من الحِكَم ، ثم علل بما يفهم أنه لا فوز بشيء من المطالب مع مباشرتها فقال : ( لعلكم تفلحون ) أي تظفرون بجميع مطالبكم ، روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء ) وفي رواية : ( نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب ) وفي رواية عنه : ( سمعت عمر على منبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب - وفي رواية : من الزبيب - والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل ) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا ، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال : حرمت الخمر ، قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل ) وي رواية عنه : ( حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً ، وعامة خمرنا البسر والتمر ) قال الأصبهاني : وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام .
ولما كانت حكمة النهي عن الأنصاب والأزلام قد تقدمت في أول السورة ، وهي أنها فسق ، اقتصر على بيان علة النهي عن الخمر والميسر إعلاماً بأنهما المقصودان بالذات ، وإن كان الآخرينَ ما ضما إلا لتأكيد تحريم هذين - كما تقدم ، لأن المخاطب أهل الإيمان ، وقد كانوا مجتنبين لذينك ، فقال مؤكداً لأن الإقلاع عما حصل التمادي في المرون عليه يحتاج إلى مثل ذلك : ( إنما يريد الشيطان ) أي بتزيين الشرب والقمار لكم ) أن يوقع بينكم العداوة ( .
ولما كانت العداوة قد تزول أسبابها ، ذكر ما ينشأ عنها مما إذا استحكم تعسر أو(2/536)
صفحة رقم 537
تعذر زواله ، فقال : ( والبغضاء في الخمر والميسر ) أي تعاطيهما لأن الخمر تزيل العقل ، فيزول المانع من إظهار الكامن من الضغائن والمناقشة والمحاسدة ، فربما أدى ذلك إلى حروب طويلة وأمور مهولة ، والميسر يذهب المال فيوجب ذلك الإحنة على من سلبه ماله ونغص عليه أحواله .
ولما ذكر ضررهما في الدنيا ، ذكر ضررهما في الدين فقال : ( ويصدكم عن ذكر الله ) أي الملك الأعظم الذي لا إله لكم غيره ولا كفوء له ، وكرر الجار تأكيداً للأمر وتغليظاً في التحذير فقال : ( وعن الصلاة ( أما في الخمر فواضح ، وأما في الميسر فلأن الفائز ينسى ببطر الغلبة ، والخائب مغمور بهمه ، وأعظم التهديد بالاستفهام والجملة الاسمية الدالة على الثبات بعد التأكيد بالحصر والضم إلى فعل الجاهلية وبيان الحِكَم الداعية إلى الترك والشرور المنفرة عن الفعل فقال : ( فهل أنتم منتهون ) أي قبل أن يقع بكم ما لا تطيقون .
ولما كان ذلك مألوفاً لهم محبوباً عندهم ، وكان ترك المألوف أمرّ من ضرب السيوف ، أكد دعوتهم إلى اجتنابه محذراً من المخالفة بقوله عاطفاً على ما تقديره : فانتهوا : ( وأطيعوا الله ) أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ولا أمر لأحد سواه ، أي فيما أمركم به من اجتناب ذلك ، وأكد الأمر بإعادة العامل فقال : ( وأطيعوا الرسول ) أي الكامل في الرسلية في ذلك ، وزاد في التخويف بقوله : ( واحذروا ) أي من المخالفة ، ثم بلغ الغاية في ذلك بقوله : ( فإن توليتم ) أي بالإقبال على شيء من ذلك ، وأشار بصيغة التفعل إلى أن ذلك إنما يعمل بمعالجة من النفس للفطرة الأولى ، وعظم الشأن في ابتداء الجزاء بالتنبيه بالأمر بالعلم فقال : ( فاعلموا ( أنكم لم تضروا إلا أنفسكم ، لأن الحجة قد قامت عليكم ، ولم يبق على الرسول شيء لأنكم علمتم ) أنما على رسولنا ) أي البالغ في العظمة مقداراً يجل عن الوصف بإضافته إلينا ) البلاغ المبين ) أي البين في نفسه الموضح لكل من سمعه ما يراد منه لا غيره ، فمن خالف فلينظر ما يأتيه من البلاء من قِبَلنا ، وهذا ناظر إلى قوله : ( ) بلغ ما أنزل إليك من ربك ( ) [ المائدة : 67 ] فكأنه قيل : ما عليه إلا ما تقدم من إلزامنا له به من البلاغ ، فمن اختار لنفسه المخالفة كفر ، و الله لا يهدي من كان مختاراً لنفسه الكفر .
المائدة : ( 93 - 94 ) ليس على الذين. .. . .
) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ( )(2/537)
صفحة رقم 538
ولما كانوا قد سألوا عند نزول الآية عما من شأن الأنفس الصالحة الناظرة للورع المتحرك للسؤال عنه ، وهو من مات منهم وهو يفعلهما ، قال جواباً لذلك السؤال : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا ) أي تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات جناح ( فبين سبحانه أن هذا السؤال غير وارد لأنهم لم يكونوا منعوا منهما ، وكانوا مؤمنين عاملين للصالحات متقين لما يسخط الرب من المحرمات ، وقد بين ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( حرمت الخمر ثلاث مرات : قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك ، فأنزل الله تعالى على نبيه ( صلى الله عليه وسلم )
77 ( ) يسئلونك عن الخمر والميسر ( ) 7
[ البقرة : 219 ] ، فقال الناس : لم يحرم علينا ، إنما قال : إن فيهما إثماً ، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب فخلط في قراءته ، فأنزل الله تعالى
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( ) 7
[ النساء : 43 ] فكانوا يشربونها حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق ، فنزلت
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ( ) 7
[ المائدة : 90 ] ، فقالوا : انتهينا يا رب وقال الناس : يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجساً من مل الشيطان فأنزل الله
77 ( ) ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ( ) 7
[ المائدة : 93 ] ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم ( ولا يضر كونه من رواية أبي معشر وهو ضعيف لأنه موافق لقواعد الدين ، وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال : ( كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أب يطلحة رضي الله عنه وما شرابهم إلا الفضيخ : البسر والتمر ، وإذا منادٍ ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت ، فقال لي أبو طلحة رضي الله عنه : اخرج فاهرقها ، فهرقتها ، فقال بعض القوم : قد قتل فلان وفلان وهي في بطونهم ؟ فأنزل الله تعالى ) ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ( على أنه لو لم يرد هذا السببُ كانت المناسبة حاصلة ، وذلك أنه تعالى لما أباح الطيب من المأكل وحرم الخبيث من المشرب ، نفى الجناح عمن يأكل ما أذن فيه أو يشرب عدا ما حرمه .
فأتى بعبارة تعم المأكل والمشرب فقال : ( فيما طعموا ) أي مأكلاً كان أو مشرباً ، وشرط ذلك عليهم بالتقوى ليخرج المحرمات فقال : ( إذا ما اتقوا ) أي أوقعوا جميع التقوى التي تطلب منهم فلم يطعموا محرماً .(2/538)
صفحة رقم 539
ولما بدأ بالتقوى وهي خوف الله الحامل على البعد عن المحرمات ، ذكر أساسها الذي لا تقبل إلا به فقال : ( وآمنوا ( ولما ذكر الإقرار باللسان ، ذكر مصداقه فقال : ( وعملوا ) أي بما أداهم إليه اجتهادهم بالعلم لا اتفاقاً ) الصالحات ثم اتقوا ) أي فاجتنبوا ما جدد عليهم تحريمه ) وآمنوا ) أي بأنه من عند الله ، وأن الله له أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وهكذا كلما تكرر تحريم شيء كانوا يلابسونه .
ولما كان قد نفى الجناح أصلاً ورأساً ، شرط الإحسان فقال : ( ثم اتقوا وأحسنوا ) أي لازموا التقوى إلى أن أوصلتهم إلى مقام المراقبة ، وهي الغنى عن رؤية غير الله ، فأفهم ذلك أن من لم يبلغ رتبة الإحسان لا يمتنع أن يكون عليه جناح مع التقوى والإيمان ، يكفر عنه بالبلايا والمصائب حتى ينال ما قدر له مما لم يبلغه عمله من درجات الجنان ، ومما يدل على نفاسة التقوى وعزتها أنه سبحانه لما شرطها في هذا العموم ، حث عليها عند ذكر المأكل بالخصوص - كما مضى فقال ( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) ، وهذا في غاية الحث على التورع في المأكل والمشرب وإشارة إلى أنه لا يوصل إلى مقام الإحسان إلا به - والله الموفق ؛ ولما كان التقدير : فإن الله يحب المتقين المؤمنين ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي له صفات الكمال ) يحب المحسنين ( .
ولما ذكر ما حرم من الطعام في كل حال ، وكان الصيد ممن حرم في بعض الأوقات ، وكان من أمثل مطعوماتهم ، وكان قد ذكر لهم بعض أحكامه عقب قوله : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ( ) وأحل لكم الطيبات ( أخذ هنا في ذكر شيء من أحكامه ، وابتدأها - لأنهم خافوا على من مات منهم على شرب الخمر قبل تحريمها بأنه يبتليهم لتمييز الورع منهم من غيره - بالصيد في الحال التي حرمه عليهم فيها كما ابتلى إسرائيل في السبت ، فكان ذلك سبباً لجعلهم قردة ، ومنَّ سبحانه عل الصحابة من هذه الأمة بالعصمة عند بلواهم بياناً لفضلهم على من سواهم ، فقال تعالى منادياً لهم بما يكفّهم ذكره عن المخالفة : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أوقعوا الإيمان ولو على أدنى وجوهه ، فعم بذلك العالي والداني ) ليبلونكم الله ) أي يعاملكم معاملة المختبر في قبولكم تحريم الخمر وغيره المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وذكر الاسم الأعظم إشارة بالتذكير بما له من الجلال إلى أن له أن يفعل ما يشاء ، وأشار إلى تحقير البلوى تسكيناً للنفوس بقوله : ( بشيء من الصيد ) أي الصيد في البر في الإحرام ، وهو ملتفت إلى قوله :
77 ( ) هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ( ) 7
[ المائدة : 60 ] وشارح لما ذكر أول السورة في قوله ) غير محلي الصيد وأنتم حرم ( ، وما ذكر بعد المحرمات من قوله :
77 ( ) فكلوا مما أمسكن عليكم ( ) 7
[ المائدة : 4 ] ، ووصف المبتلى به بوصف هو من أعلام النبوة فقال : ( تناله(2/539)
صفحة رقم 540
أيديكم ) أي إن أردتم أخذه سالماً ) ورماحكم ( إن أردتم قتله ، ثم ذكر المراد من ذلك وهو إقامة الحجة على ما يتعارفه العباد بينهم فقال : ( ليعلم الله ) أي وهو الغني عن ذلك بما له من صفات الكمال التي لا خفاء بها عند أحد يعلم هذا الاسم الأعظم ) من يخافه بالغيب ) أي بما حجب به من هذه الحياة النيا التي حجبتهم عن أن يعرفوه حق معرفته سبحانه ، والمعنى أنه يخرج بالامتحان ما كان من أفعال العباد في عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، فيصير تعلق العلم به تعلقاً شهودياً كما كان تعلقاً غيبياً لتقوم بذلك الحجة على الفاعل في مجاري عاداتهم ، ويزداد من له اطلاع على اللوح المحفوظ من الملائكة إيماناً ويقيناً وعرفاناً ، وقد حقق سبحانه معنى هذه الآية فابتلاهم بذلك عام الحديبية حتى كان يغشاهم الصيد في رحالهم ويمكنهم أخذه بأيديهم .
ولما كان هذا زاجراً في العادة عن التعرض لما وقعت البلوى به وحاسماً للطمع فيه بمن اتسم بما جعل محط النداء من الإيمان ، سبب عنه قوله : ( فمن اعتدى ) أي كلف نفسه مجاوزة الحد في التعرض له ؛ وملا كان سبحانه يقبل التوبة عن عباده ، خص الوعيد بمن استغرق الزمان بالاعتداء فأسقط الجار لذلك فقال : ( بعد ذلك ) أي الزجر العظيم ) فله عذاب أليم ( بما التذَّ من تعرضه إليه لما عرف بالميل إلى هذا أنه إلى ما هو أشهى منه كالخمر وما معها أميل .
المائدة : ( 95 ) يا أيها الذين. .. . .
) يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( ( )
ولما أخبرهم بالابتلاء صرح لهم بما لوح إليه بذكر المخافة من تحريم التعرض لما ابتلاهم به ، فقال منوِّهاً بالوصف الناهي عن الاعتداء : ( يا أيها الذين آمنوا ( وذكر القتل الذي هو أعم من الذبح إشارة إلى أن الصيد - لما عنده من النفرة المانعة من التمكن من ذبحه - يحبس بأي وجه كان من أنواع القتل فقال : ( لا تقتلوا الصيد ) أي لا تصطادوا ما يحل أكله من الوحش ، وأما غير المأكول فيحل قتله ، فإنه لاحظ للنفس في قتله إلا الإراحة من أذاه المراد بالفسق في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( خمس في الدواب فواسق ، لا جناح على من قتلها في حل ولا حرم ) وذكر منهن السبع العادي ، فدل الحكم برفع(2/540)
صفحة رقم 541
الجناح عقب الوصف بالفسق على أنه علة الإباحة ، ولا معنى لفسقها إلا أذاها ) وأنتم حرم ) أي محرومون أو في الحرم .
ولما كان سبحانه عالماً بأنه لا بد أن يوافق موافق تبعاً لأمره ويخالف مخالف موافقة لمراده ، شرع لمن خالف كفارة تخفيفاً منه على هذه الأمة ورفعاً لما كان على من كان من قبلها من الآصار ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن انتهى فله عند ربه أجر عظيم : ( ومن قتله منكم متعمداً ) أي قاصداً للصيد ذاكراً للإحرام إن كان محرماً ، والحرم إن كان فيه عالماً بالتحريم .
ولما كان هذا الفعل العمد موجباً للإثم والجزاء ، ومتى اختل وصف منه كان خطأ موجباً للجزاء فقط ، وكان يبحانه قد عفا عن الصحابة رضي الله عنهم العمد الذي كان سبباً لنزول الآية كما في آخرها ، لم يذكره واقتصر على ذكر الجزاء فقال : ( فجزاء ) أي فمكافأة ) مثل ما قتل ) أي أقرب الأشياء به شبهاً في الصورة لا النوع ، ووصف الجزاء بقوله : ( من النعم ( لما قتله عليه ، أي عليه أن يكافئ ما قتله بمثله ، وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل ، هذا على قراءة الجماعة بإضافة ( جزاء ) إلى ( مثل ) ، وأما على قراءة الكوفيين ويعقوب بتنوين ( جزاء ) ورفع ( مثل ) فالأمر واضح .
ولما كان كأنه قيل : مبا تعرف المماثلة ؟ قال : ( يحكم به ) أي بالجزاء ؛ ولما كانت وجوه المشابهة بين الصيد وبين النعم كثيرة ، احتاج ذلك إلى زيادة التأمل فقال : ( ذوا عدل منكم ) أي المسلمين ، وعن الشافعي أن الذي له مثل ضربان : ما حكمت فيه الصحابة ، وما لم تحكم فيه ، فما حكمت فيه لا يعدل إلى غيره لأنه قد حكم به عدلان فدخل تحت الآية ، وهم أولى من غيرهم لأنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل ؛ وما لم يحكموا به يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين ، فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام ، فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه ؛ فإن كان القتل خطأ جاز أن يكون الفاعل أحد الحكمين ، وإن كان عمداً فلا ، لأنه يفسق به .
ولما كان هذا المثل يساق إلى مكة المشرفة على وجه الإكرام والنسك رفقاً بمساكينها ، قال مبيناً لحاله من الضمير في ( به ) : ( هدياً ( ولما كان الهدي هو ما تقدم تفسيره ، صرح به فقال : ( بالغ الكعبة ) أي الحرم المنسوب إليها ، وإنما صرح بها زيادة في التعظيم وإعلاماً بأنها هي المقصودة بالذات بالزيارة والعمارة لقيام ما يأتي ذكره ، تذبح الهدي بمكة المشرفة ويتصدق به على مساكين الحرم ، والإضافة لفظية لأن الوصف بشبه ( يبلغ ) فلذا وصف بها النكرة .(2/541)
صفحة رقم 542
ولما كان سبحانه رحيماً بهذه الأمة ، خيرها بين ذلك وبين ما بعد فقال : ( أو ( عليه ) كفارة ( هي ) طعام مساكين ( في الحرم بمقدار قيمة الهدي ، لكل مسكين مد ) أو عدل ذلك ) أي قيمة المثل ) صياماً ( في أيّ موضع تيسر له ، عن كل مد يوم ، فأو للتخيير لأنه الأصل فيها ، والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل .
ولما كان الأمر مفروضاً في المتعمد قال معلقاً بالجزاء ، أي فعليه أن يجازي بما ينقص المال أو يؤلم الجسم ) ليذوق وبال ) أي ثقل ) أمره ( وسوء عاقبته ليحترز عن مثل ما وقع فيه ؛ ولما كان هذا الجزاء محكوماً به في دار العمل التي لا يطلع أهلها بمجرد عقولهم فيها على غيب ، ولا يعرفون عاقبة أمر إلاّ تخرصاً ، طرد الحكم في غير المتعمد لئلا يدعي المتعمد أنه مخطئ ، كل ذلك حمى لحرمة الدين وصوناً لحرمة الشرع وحفظاً لجانبه ورعاية لشأنه ، ولما كان قد مضى منهم قبل نزولها من هذا النوع أشياء ، كانوا كأنهم قالوا : فكيف نصنع بما أسلفنا ؟ قال جواباً : ( عما سلف ) أي تعمده ، أي لكم من ذلك ، فمن حفظ نفسه بعد هذا فاز ) ومن عاد ( إلى تعمد شيء من ذلك ولو قل ؛ ولما كان المبتدأ متضمناً معنى الشرط ، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بالسببية فقال : ( فينتقم الله ) أي الذي له الأمر كله ) منه ) أي بسبب عوده بما يستحقه من الانتقام .
ولما كان فاعل ذلك منتهكاً لحرمة الإحرام والحرم ، وكان التقدير : فالله قادر عليه ، عطف على ذلك ما اقتضاه المقام من الإتيان بالاسم الأعظم ووصف العزة فقال : ( والله ) أي الملك الأعلى الذي لا تداني عظمتَه عظمةٌ ) عزيز ( لا يغلب ) ذو انتقام ( ممن خالف أمره .
المائدة : ( 96 - 97 ) أحل لكم صيد. .. . .
) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ( )
ولما كان هذا عاماً في كل صيد ، بين أنه خاص بصيد البر فقال : ( أحل لكم صيد البحر ) أي اصطياده ، أي الذي مبناه غالباً على الحاجة ، والمراد به جميع المياه من الأنهار والبرك وغيرها ) وطعامه ) أي مصيده طرياً وقديداً ولو كان طافياً قذفه البحر ، وهو الحيتان بأنواعها وكل ما لا يعيش في البر ، وما أكل مثله في البر .(2/542)
صفحة رقم 543
ولما أحل ذلك ذكر علته فقال : ( متاعاً لكم ) أي إذا كنتم مسافرين أو مقيمين ) وللسيارة ) أي يتزودونه إلى حيث أرادوا من البر أو البحر ، وفي تحليل صيد البحر حال الابتلاء من النعمة على هذه الأمة ما يبين فضلها على من كان قبلها ممن جعل صيد البحر له محنة يوم الابتلاء - ولله الحمد ، والظاهر أن المراد بصيد البحر الفعل ، لأن ثَمَّ أمرين : الاصطياد والأكل ، والمراد بيان حكمهما ، فكأنه أحل اصطياد حيوان البحر ، وأحل طعام البحر مطلقاً ما اصطادوه وما لم يصطادوه ، سواء كانوا مسافرين أو مقيمين ، وذلك لأنه لما قدَّم تحريم اصطياد ما في البر بقوله
77 ( ) لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( ) 7
[ المائدة : 95 ] أتبعه بيان إحلال اصطياد مصيد البحر في حال تحريم ذلك ، ثم أتبعه بيان حرمة مصيد البر بقوله : ( وحرم عليكم صيد البر ) أي اصطياده وأكل ما صيد منه لكم وهو ما لا عيش له إلاّ فيه ، وما يعيش فيه وفي البحر ، فإن صيدَ للحلال حل للمحرم أكله ، فإنه غير منسوب إليه اصطياده بالفعل ولا بالقوة ) ما دمتم حرماً ( لأن مبنى أمره غالباً في الاصطياد والأكل مما صيد على الترف والرفاهية ، وقد تقدم أيضاً حرمة اصطياد مصيد البر وحرمة الأكل مما صيد منه ، وتكرر ذلك بتكرر الإحرام في آية
77 ( ) غير محلي الصيد ( ) 7
[ المائدة : 1 ] وآية
77 ( ) لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( ) 7
[ المائدة : 95 ] فلا يعارضه مفهوم
77 ( ) ما دمتم حرماً ( ) 7
[ المائدة : 96 ] وعبر بذلك ليكون نصاً في الحرمة في كل جزء من أجزاء وقت الإحرام إلى تمام التحلل - والله أعلم ، ولا يسقط الجزاء بالخطأ والجهل كسائر محظورات الإحرام .
ولما كان الاصطياد بحشر المصيد إلى حيث يعجز عن الخلاص منه ، وكانت حالة الإحرام أشبه شيء بحالة الحشر في التجرد عن المخيط والإعراض عن الدنيا وتمتعاتها ، ختم الآية بقوله عطفاً على ما تقديره : فلا تأكلوا شيئاً منه في حال إحرامكم : ( واتقوا الله ) أي الذي له الأمر كله في ذلك وفي غيره من الاصطياد وغيره ) الذي إليه تحشرون ( ليكون العرض عليه نصبَ أعينكم فتكونوا مواظبين على طاعته محترزين عن معصيته .
ولما كان الإحرام وتحريم الصيد فيه إنما هو لقصد تعظيم الكعبة ، بين تعالى حكمة ذلك وأنه كما جعل الحرم والإحرام سبباً لأمن الوحش والطير جعله سبباً لأمن الناس وسبباً لحصول السعادة دنيا وأخرى ، فقال مستأنفاً بياناً لحمة المنع في أول السورة من استحلال من يقصدها للزيارة : ( جعل الله ) أي بما له من العظمة وكمال الحكمة ونفوذ الكلمة ) الكعبة ( وعبر عنها بذلك لأنها مأخوذة من الكعب الذي به قيام الإنسان وقوامه ، وبيّنها مادحاً بقوله : ( البيت الحرام ) أي الممنوع من كل جبار دائماً(2/543)
صفحة رقم 544
الذي تقدم في أول السورة أني منعتكم من استحلال من يؤمّه ) قياماً للناس ) أي في أمر معاشهم ومعادهم لأنها لهم كالعماد الذي يقوم به البيت ، فيأمن به الخائف ويقوى فيه الضعيف ويقصده التجار والحجاج والعمّار فهو عماد الدين والدنيا .
ولما ذكر ما به القوام من المكان ، أتبعه ذلك من الزمان فقال : ( والشهر الحرام ) أي الذي يفعل فيه الحج وغيره يأمن فيه الخائف .
ولما ذكر ما به القوام من المكان والزمان ، أتبعه ما به قوام الفقراء من شعائره فقال : ( والهدي ( ثم أتبعه أعزَّه وأخصه فقال : ( والقلائد ) أي والهدي العزيز الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء ، وفي الآية التفات إلى ما في أول السورة من قوله
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ( ) 7
[ المائدة : 2 ] - فقوانينُها أن من قصدها في شهر الحرام لم يتعرض له أحد ولو كان قتل ابنه ، ومن قصدها في غيره ومعه هدي قلده أو لم يقلده أو لم يكن معه هدي وقلد نفسه من لَحاء شجر الحرم لم يعرِض له أحد حتى أن بعضهم يلقي الهدي وهو مضطر فلا يعرض له ولو مات جوعاً ، وسواء في ذلك صاحبه وغيره لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيمها ، لأنه تعالى جبل العرب على الشجاعة ليفتح بهم البلاد شرقاً وغرباً ليظهرعموم رسالة نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلزم من ذلك شدة حرصهم على القتل والغارات ، وعلم أن ذلك إن دام بهم شَغلَهم عن تحصيل ما يحتاجون إليه لعيشهم ، فأدى إلى فنائهم ، فجعل بيته المكرم وما كان من أسبابه أماناً يكون به قوام معاشهم ومعايشهم ، فكان ذلك برهاناً ظاهراً على أن الإله عالم بجميع المعلومات وأن له الحكمة البالغة .
ولما أخبر بعلة التعظيم لما أمر بتعظيمه من نظم أمور الناس ، ذكر علة ذلك الجعل فقال : ( ذلك ) أي الجعل العظيم الذي تم أمره على ما أراد جاعله سبحانه ) لتعلموا ) أي بهذا التدبير المحكم ) أن الله ) أي الذي له الكمال كله الذي جعل ذلك ) يعلم ما في السماوات ( فلذلك رتبها ترتيباً فصلت به الأيام والليالي ، فكانت من ذلك الشهور والأعوام ، وفصّل من ذلك ما فصل للقيام المذكور ) وما في الأرض ( فلذلك جعل فيها ما قامت به مصالح الناس وكف فيه أشدهم وأفتكهم عن أضعفهم وآمن فيه الطير والوحش ، فيؤدي ذلك من له عقل رصين وفكر متين إلى أن يعلم أن فاعل ذلك من العظمة ونفوذ الكلمة بحيث يستحق الإخلاص في العبادة وأن يمتثل أمره في إحلال ما أحل من الطعام وتحريم ما حرم من الشراب وغير ذلك .(2/544)
صفحة رقم 545
ولما ذكر هذا العلم العظيم ، ذكر ما هو أعم منه فقال : ( وأن ) أي ولتعلموا أن ) الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً الذي فعل ذلك فتم له ) بكل شيء عليم ( وإلاّ لما أثبت جميع مقتضيات ذلك ونفى جميع موانعه حتى كان ، ولقد اتخذ العرب - كما في السيرة الهشامية وغيرها - طواغيت ، وهي بيوت جعل لها سدنة وحجاباً وهدايا أكثروا منها ، وعظمت كل قبيلة ما عندها أشد تعظيم وطافوا به فلم يبلغ شيء منها ما بلغ أمر الكعبة المشرفة ولا قارب ، ليحصل العلم بأنه سبحانه لا شيء مثله ولا شريك له .
المائدة : ( 98 - 101 ) اعلموا أن الله. .. . .
) اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ( )
ولما أنتج هذا كله أنه على كل شيء قدير لأنه بكل شيء عليم ، وكانت هذه الآية - كما تقدم - ناظرةً إلى أول السورة من آية ) ) لا تحلوا شعائر الله ( ) [ المائدة : 2 ] وما بعدها أتم نظر ، ذكر سبحانه ما اكتنف آية ) ) حرمت عليكم الميتة ( ) [ المائدة : 3 ] من الوعيد الذي ختم به ما قبلها والوعد الذي ختمت هي به في هذه الآية على ترتيبه ، سائقاً له مساق النتيجة والثمرة لما قبله ، بياناً لأن من ارتكب شيئاً من هذه المنهيات كان حظه ، فقال محذراً ومبشراً لأن الإيمان لا يتم إلاّ بهما : ( اعلموا أن الله ) أي الذي له المعظمة كلها الذي نهاه عنها ) شديد العقاب ( فليكن عباده على حذر منه ، وأن من أوقعه في شيء منها القدر ، ثم فتح له التوفيقُ بابَ الحذر ، فكفر فيما فيه كفارة وتاب ، كان مخاطباً بقوله : ( وأن ) أي واعلموا أن ) الله ) أي الذي له الجلال والإكرام مع كونه شديد العقاب ) غفور رحيم ( يقبل عليه ويمحو زلله ويكرمه ، فكان اكتناف أسباب الرجاء سابقاً للإنذار ولاحقاً معلماً بأن رحمته سبقت غضبه وأن العقاب إنما هو لإتمام رحمته ، قال ابن الزبير : ثم قال ) ) جعل الله الكعبة ( ) [ المائدة : 97 ] - فنبه على سوء العاقبة في منع البحث على التعليل وطلب الوقوف على ما لعله مما استأثر الله بعلمه ، ومن هذا الباب أتى على بني إسرائيل في أمر البقرة وغير ذلك ؛ وجعف هذا التنبيه إيماء ، ثم أعقبه بما يفسره ) ) يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء ( ) [ المائدة : 101 ] - ووعظهم(2/545)
صفحة رقم 546
بحال غيرهم في هذا ، وأنهم سألوا فأعطوا ثم امتحنوا ، وقد كان التسليم أولى لهم ، فقال تعالى
77 ( ) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ( ) 7
[ المائدة : 102 ] ثم عرّف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( ) 7
[ المائدة : 105 ] - انتهى .
ولما رغب سبحانه ووهب ، علم أنه المجازى وحده ، فأنتج ذلك أنه ليس غلى غيره إلاّ ما كلفه به ، فأنتج ذلك ولا بد قوله : ( ما على الرسول ) أي الذي من شأنه الإبلاغ ) إلا البلاغ ) أي بأنه يحل لكم الطعام وغيره ويحرم عليكم الخمر وغيرها ، وليس عليه أن يعلم ما تضمرون وما تظهرون ليحاسبكم عليه ) والله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) يعلم ما تبدون ) أي تجددون إبداءه على الاستقرار ) وما تكتمون ( من إيمان وكفر وعصيان وطاعة وتعمد لقتل الصيد وغيره ومحبة للخمر وغيرها وتعمق في الدين بتحريم الحلال من الطعام والشراب وغيره إفراطاً وتفريطاً ، لأنه الذي خلقكم وقدّر ذلك فيكم في أوقاته ، فيجازيكم على ما في نفس الأمر ، من عصي أخذه بشديد العقاب ، ومن أطاعه منحه حسن الثواب ، وأما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يحكم إلاّ بما يعلمه مما تبدونه ما لم أكشف له الباطن وآمره فيه بأمري ، وهذه أيضاً ناظرة إلى قوله تعالى
77 ( ) بلّغ ما أنزل إليك من ربك ( ) 7
[ المائدة : 67 ] .
ولما سلب سبحانه العلم عن كل أحد وأثبته لنفسه الشريفة ، أنتج ذلك أنه لا أمر لغيره ولا نهي ولا إثبات ولا نفي ، فأخذ سبحانه يبين حكمة ما مضى من الأوامر في إحلال الطعام وغيره من الاصطياد والأكل من الصيد وغيره والزواجر عن الخمر وغيرها بأن الأشياء منها طيب وخبيث ، وأن الطيب وإن قل خير من الخبيث وإن كثر ، ولا يميز هذا من ذاك إلاّ الخلاق العليم ، فربما ارتكب الإنسان طريقة شرعها لنفسه ظانّاً أنها حسنة فجرته إلى السيئة وهو لا يشعر فيهلك ، كالرهبانية التي كانوا عزموا علهيا والخمر التي دعا شغفُهم بها إلى الإنزال فيها مرة بعد أخرى إلى أن أكد فيها هنا أشد تأكيد ، وحذر فيها أبلغ تحذير ، فقال تعالى صارفاً الخطاب إلى أشرف الورى ( صلى الله عليه وسلم ) إشارة إلى أنه لا ينهض بمعرفة هذا من الخلق غيرُه : ( قل لا يستوي الخبيث ) أي من المطعومات والطاعمين ) والطيب ) أي كذلك ، فإن ما يتوهمونه في الكثرة من الفضل لا يوازي النقصان من جهة الخبيث .
ولما كان الخبيث من الذوات والمعاني أكثر في الظاهر وأيسر قال : ( ولو أعجبك كثرة الخبيث ( والخبيث والطيب منه جسماني ومنه روحاني ، وأخبثهما الروحاني وأخبثه(2/546)
صفحة رقم 547
الشرك ، وأطيب الطيب الروحاني وأطيبه معرفة الله وطاعته ، وما يكون للجسم من طيب أو خبث ظاهر لكل أحد ، فما خالطه نجاسة صار مستقذراً لأرباب الطباع السليمة ، وما خالط الأرواح من الجهل صار مستقذراً عند الأرواح الكاملة المقدسة ، وما خالطه من الأرواح معرفةُ الله فواظب على خدمته أشرق بأنوار المعارف الإلهية وابتهج بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة ، وكما أن الخبيث والطيب لا يستويان في العالم الروحاني كذلك لا يستويان في العالم الجسماني ، والتفاوت بينهما في العالم الروحاني أشد ، لأن مضرة خبث الجسماني قليلة ، ومنفعة طيبه يسيرة ، وأما خبث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة ، وطيب الروحاني منفعته جليلة دائمة ، وهي القرب من الله والانخرا في زمرة السعداء ، وأدلّ دليل على إرادة العصاة والمطيعين قوله : ( فاتقوا الله ) أي اجعلوا بينكم وبين ما يسخط الملك الأعظم الذي له صفات المال من الحرام وقايةً من الحلال لتكونوا من قسم الطيب ، فإنه لا مقرب إلى الله مثلُ الانتهاء عما حرم - كما تقدم الإشارة بقوله :
77 ( ) ثم اتقوا وأحسنوا ( ) 7
[ المائدة : 93 ] ويزيد المعنى وضوحاً قوله ) يا أولي الألباب ) أي العقول الخالصة من شوائب النفس فتؤثروا الطيب وإن قل في الحبس لكثرته في المعنى على الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى ) لعلكم تفلحون ) أي لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب ، وحينئذ ظهر كالشمس مناسبة تعقيبها بقوله على طريق الاستئناف والاستنتاج : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أعطوا من أنفسهم العهد على الإيمان الذي معناه قبول جميع ما جاء به مَنْ وقع به الإيمان ) لا تسئلوا عن أشياء ( وذلك لأنهم إذا كانوا على خطر فيما يسرعون وفيما به ينتفعون من المآكل والمشارب وغيرها من الأقوال والأفعال فهم مثله فيما عنه يسألون سواء سألوا شرعه أو لا ، لأنه ربما أجابهم من لا يضره شيء إلى ما فيه ضررهم مما سألوه ، فإنهم لا يحسنون التفرقة بين الخبيث والطيب كما فعل بأهل السبت حيث أبوا الجمعة وسألوه ، فاشتد اعتناقها حينئذ بقوله :
77 ( ) إن الله يحكم ما يريد ( ) 7
[ المائدة : 1 ] وبقوله :
77 ( ) ما على الرسول إلا البلاغ ( ) 7
[ المائدة : 99 ] فكان كأنه قيل : فما بلغكم إياه فخذوه بقبول وحسن انقياد ، وما لا فلا تسألوا عنه ، وسببُ نزولها - كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه ( أنهم سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أحفوه بالمسألة ، فغضب فصعد المنبر فقال : ( لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ( - وشرح يكرر ذلك ، وإذ جاء رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قال : أبوك حذافة ، ثم أنشأ عمر رضي الله عنه فقال : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ، نعوذ بالله من سوء الفتن .
وفي آخره : فنزلت ) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم(2/547)
صفحة رقم 548
تسؤكم ( ( وللبخاري في التفسير عن أنس أيضاً قال : ( خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطبة ما سمعت مثلها قط ، قال : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) ، فغطى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجوههم ، لهم حنين ، فقال رجل : من أبي ؟ قال : فلان ، فنزلت ) لا تسئلوا عن أشياء ( الآية .
وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان قوم يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء ( حتى فرغ من الآية كلها ) ولابن ماجه مختصراً وللحافظ أبي القاسم بن عساكر في الموافقات فيما أفاده المحب الطبري في مناقب العشرة وأبي يعلى في مسنده مطولاً عن أنس رضي الله عنه قال : ( خرج علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو غضبان ونحن نرى أن معه جبرئيل عليه السلام حتى صعد المنبر - وفي رواية : فخطب الناس - فقال : ( سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء اليوم إلا أخبرتكم ( وفي رواية : ( أنبأتكم به ( - فما رأيت يوماً كان أكثر باكياً منه ، فقال رجل : يا رسول الله - وفي رواية : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله - إنا كنا حديث عهد بجاهلية ، من أبي ؟ قال : ( ابوك حذافة ( - لأبيه الذي كان يدعى له - وفي رواية : ( أبوك حذافة الذي تدعى له ( - فقام إليه آخر فقال : يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار ؟ فقال : ( في النار ( ، فقام إليه آخر فقال : يا رسول الله أعلينا الحج كل عام ؟ - وفي رواية : في كل عام - فقال : ( لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولو وجبت لم تقوموا بها ، ولو لم تقوموا بها عذبتم ( ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبياً - وفي رواية : رسولاً - لا تفضحنا بسرائرنا - وفي رواية : فقام إليه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله إنا كنا حديث عهد بجاهلية فلا تبد علينا سرائرنا ، أتفضحنا بسرائرنا - اعف عنا عفا الله عنك ، فسرى عنه ، ثم التفت إلى الحائط فذكر بمثل الجنة والنار ) وللإمام أحمد ومسلم والنسائي والدارقطني والطبري عن أبي(2/548)
صفحة رقم 549
هريرة رضي الله عنه قال : خطب - وفي رواية : خطبنا - رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج حجوا ) ، فقال رجل - وفي رواية النسائي : فقال الأقرع بن حابس التميمي - : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال : من السائل ؟ فقال : فلان ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والذي نفسي بيده لو قلت : نعم ، لوجبت ، ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون ، ولكن حجة واحدة ) - وفي رواية الدارقطني والطبري : ( ولو وجبت ما أطقتموها ، ولو لم تطيقوها ) - وفي رواية الطبري : ( ولو تركتموه - لكفرتم ) ، فأنزل الله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( ثم قال : ( ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فآتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) - وفي رواية : ( فاجتنبوه ) وهذا الحديث له ألفاظ كثيرة من طرق شتى استوفيتها في كتابي ( الاطلاع على حجة الوداع ) ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردها إلى شيء واحد لما تقدم عند قوله تعالى : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( من أن الأمر الواحد قد تعدد أسبابه ، بل وكل ما ذكر من أسباب تلك وما أشبهه كقوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال ) [ النساء : 77 ] - الآية ، يصلح أن يكون سبباً لهذه ، وروى الدارقطني في آخر الرضاع من سننه عن أبي ثعلبة الخشني وفي آخر الصيد عن أبي الدرداء رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم حرمات فلا تنتهكوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غي رنسيان فلا تبحثوا عنها ) وقال أبو الدرداء : ( فلا تكلفوها ، رحمة من ربكم فاقبلوها ) وأخرج حديث أبي الدرداء أيضاً الطبراني .(2/549)
صفحة رقم 550
ولما كان الإنسان قاصراً عن علم ما غاب ، فكان زجره عن الكشف عما يسوءه زجراً له عن كل ما يتوقع أن يسوءه ، قال تعالى : ( إن تبد ) أي تظهر ) لكم ( بإظهار عالم الغيب لها ) تسؤكم ( ولما كان رمبا وقع في وهم متعنت أن هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه - قال : ( وإن تسئلوا عنها ) أي تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها ) حين ينزل القرآن ) أي والملك حاضر ) تبد لكم ( ولما كان ربما قال : فما له لا يبديها سئل عنها أم لا ؟ قال : ( عفا الله ( بما له من الغنى المطلق والعظمة الباهرة وجميع صفات الكمال ) عنها ) أي سترها فلم يبدها لكم رحمة منه لكم وإراحة عما يسوءكم ويثقل عليكم في دين أو دنيا ؛ ولما كانت صفاته سبحانه أزلية ، لا تتوقف لواحدة منها على غيرها ، وضع الظاهر موضع المضمر لئلا يختص بما قبله فقال نادباً من وقع منه ذنب إلى التوبة : ( والله ) أي الذي له مع صفة الكمال صفة الإكرام ) غفور ( أزلاً وأبداً يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام على عادة الحكماء ) حليم ) أي لا يعجل على العاصي بالعقوبة .
المائدة : ( 102 - 105 ) قد سألها قوم. .. . .
) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما نهى عن السؤال عنها ليتعرف حالها ، علل ذلك بأن غيرهم عرف أشياء وطلب أن يعطاها ، إما بأن سأل غيره ذلك ، وإما بأن شرعها وسأل غيره أن يوافقه عليها وهو قاطع بأنها غاية في الحسن فكانت سبب شقائه فقال : ( قد سألها ( يعني أمثالها ، ولم يقل : سأل عنها ، إشارة إلى ما أبدته ) قوم ) أي أولو عزم وبأس وقيام في الأمور .
ولما كان وجود القوم فضلاً عن سؤالهم لم يستغرق زمان القبل ، أدخل الجار فقال : ( من قبلكم ( ولما كان الشيء إذا جاء عن مسألة جديراً بالقبول لا سيما إذا كان من ملك فكيف إذا كان من ملك الملوك .
فكان رده في غاية البعد ، عبر عن استبعاده بأداة العبد في قوله : ( ثم أصبحوا بها ) أي عقب إتيانهم إياها سواء من غير مهلة ) كافرين ) أي ثابتين في الكفر ، هذا زجر بليغ لأن يعودوا لمثل ما أرادوا من تحريم ما أحل لهم ميلاً إلى الرهبانية والتعمق في الدين المنهي عنه بقوله : ( ) لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( ) [ المائدة : 87 ] .(2/550)
صفحة رقم 551
ولما فرغ من زجرهم عن أن يشرعوا لأنفسهم أو يسألوه عن أن يشرع لهم وأن يسألوا مَنْ رحمهم بابتدائهم بهذا الشرع عن شيء من الأشياء اعتماداً على أنه ما ابتدأ بذلك إلا وهو غير مخف عنهم شيئاً ينفعهم ولا مبد لهم شيئاً يضرهم لأنه بكل شيء عليم - كما تقدم التنبيه على ذلك ، قال معللاً بختام الآية التي قبلها : ( ما جعل الله ) أي الذي له صفات الكمال فلا يشرع شيئاً إلا وهو على غاية الحكمة ، وأغرق في النفي بقوله : ( من بحيرة ( وأكد النفي بإعادة النافي فقال : ( ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ( دالاً بذلك على أن الإنسان قد يقع في شرعه لنفسه على الخبيث دون الطيب ، وذلك لأن الكفار شرعوا لأنفسهم هذا وظنوا أنه من محاسن الأعمال ، فإذا هو مما لا يعبأ الله به بل ومما يعذب عليه ، لكونه أوقعهم فيما كانوا معترفين بأنه أقبح القبائح وهو الكذب ، بل في أقبح أنواعه وهو الكذب على ملك الملوك ، ثم صار لهم ديناً ، وصاروا أرسخ الناس فيه وهو عين الكفر ، وهم معترفون بأنه ما شرعه إلا عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم - كما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن عمْراً أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي ( ) ورواه عبد بن حميد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وفي آخره : ( وكان عمرو بن لحي أول من حمل العرب على عبادة الأصنام ) ( ورواه البخاري في المناقب من صحيحه ومسلم في صفة النار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيّب السوائب ) ( قال ابن هشام في السيرة : والبحيرة عندهم الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها ولا يجزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو يتصدق به(2/551)
صفحة رقم 552
وتهمل لآلهتهم .
وروى البخاري في المناقب ومسلم في صفة النار عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة التي كانوا يسيّبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء .
وكذا رواه البخاري أيضاً في التفسير وقال : والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثنى بعد بأنثى .
وكانوا ييسبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر وقال البرهان السفاقسي في إعرابه : قال أبو عبيد : وهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، في الآخر .
ذكر ، شقوا أذنها وخلو سبيلها لا تركب ولا تحلب - وقيل غير ذلك ، وقال أبو حيان في النهر : قال ابن عباس : السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق ، وكان الرجل يسيب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل ، والوصيلة قال ابن عباس - إنها الشاة تنتج سبعة أبطن ، فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء ، وإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً ، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فتترك مع أخيها فلا تذبح ، ومنافعها للرجال دون النساء ، فإذا ماتت اشترك الرجال والنساء فيها .
وقال ابن هشام : والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر ، حمى ظهره فلم يركب ظهره ولم يجزّ وبره وخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع منه بغير ذلك .
وقال السفاقسي : قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم - واختاره أبو عبيدة و الزجاج - : هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون : قد حمى ظهره ، فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء ولما كانوا قد حرموا هذه الأشياء ، وكان التحريم والتحليل من خواص الإله ، وكان لا إله إلا الله ، كان حكمهم عليها بالحرمة نسبة لذلك إلى الله سبحانه كذباً ، فقال تعالى بعد أن نفى أن يكون جعل شيئاً من ذلك : ( ولكن الذين كفروا ) أي ستروا ما دل عليه عقلهم من أن الله ما جعل هذا ، لأنهم لا وصول لهم إليه سبحانه وعز شأنه ، فلذلك قال : ( يفترون ( ) أي يتعمدون بجعل هذه الأشياء من تحريم وتحليل ) على الله ) أي الملك الأعلى ) الكذب ( فيحرمون ما لم يحرمه ويحللون ما لم يحلله ) وأكثرهم ) أي هؤلاء الذين جعلوا هذه الأشياء ) لا يعقلون ) أي لا يتجدد لهم عقل ، وهم الذين ماتوا على كفرهم .
ثم لما حرموا هذه الأشياء اضطروا إلى تحليل الميتة فحرموا الطيب وأحلوا الخبيث .
ولما اتخذوه ديناً واعتقدوه شرعاً ومضى عليه أسلافهم ، دعتهم الحظوظ والأنفة من نسبة آبائهم إلى الضلال والشهادة عليهم بالسفه إلى الإصرار عليه(2/552)
صفحة رقم 553
وعدم الرجوع عنه بعد انكشاف قباحته وبيان شناعته حتى أفنى أكثرهم السيف ووطأتهم الدواهي ، فوطأت أكتافهم وذللت أعناقهم وأكنافهم ، فقال تعالى دالاً على ختام الآية التي قبله من عدم عقلهم : ( وإذا قيل لهم ) أي من أيّ قائل كان ولو أنه ربهم ، بما ثبت من كلامهم بالعجز عنه أنه كلامه ) تعالوا ) أي ارفعوا أنفسكم عن هذا الحضيض السافل ) إلى ما أنزل الله ) أي الذي لا أعظم منه ، وقد ثبت أنه أنزله بعجزكم عنه ) وإلى الرسول ) أي الذي من شأنه لكونه سبحانه أرسله أن يبلغكم ما يحبه لكم ويرضاه ) قالوا حسبنا ) أي يكفينا ) ما وجدنا عليه آباءنا ( .
ولما كانوا عالمين بأنه ليس في آبائهم عالم ، وأنه من تأمل أدنى تأمل عرف أن الجاهل لا يهتدي إلى شيء ، قال منكراً عليهم موبخاً لهم : ( أولو ) أي يكفيهم ذلك إذا قالوا ذلك ولو ) كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ) أي من الأشياء حق علمه لكونهم لم يأخذوه عن الله بطريق من الطرق الواصلة إليه ، ولما كان من لا يعلم قد يشعر بجهله فيتعلم فيهتدي فيصير أهلاً للاقتداء به ، وقد لا يشعر لكونه جهله مركباً فلا يجوز الاقتداء به ، بين أنهم من أهل هذا القسم فقال : ( ولا يهتدون ) أي لا يطلبون الهداية فلا توجد هدايتهم إلى صواب ، لأن من لا يعلم لا صواب له ، لأنه ليس للهدى آلة سوى العلم ، وأدل دليل على عدم هدايتهم أنهم ضيعوا الطيب من أموالهم فاضطرهم ذلك إلى أكل الخبيث من الميتة ، وأغضبوا بذلك خالقهم فدخلوا النار ، فلا أقبح مما يختاره لنفسه المطبوع على الكدر ، ولا أحسن مما يشرعه له رب البشر ، وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في سورة النساء ) إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً ( إلى قوله :
77 ( ) ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ( ) 7
[ النساء : 117 ، 118 ] فالتفت حينئذ إلى قوله : ( رجس من عمل الشيطان ( أيّ التفات .
ولما كان المانع لهم من قبول الهدى كون ذلك تسفيهاً لآبائهم ، فيعود ضرراً عليهم يُسبَّون به على زعمهم ، أعلم الله المؤمنين أن مخالفة الغير في قبول الهدى لا تضرهم أصلاً ، بأن عقب آية الإنكار عليهم في التقيد بآبائهم لمتابعتهم لهم في الكفر بقوله : ( يا ايها الذين آمنوا ) أي عاهدوا ربهم ورسوله على الإيمان ) عليكم أنفسكم ) أي الزموا هدايتها وإصلاحها ؛ ولما كان كأنه قيل : إنا ننسب بآبائنا ، وننسب إليهم ، فربما ضرتنا نسبتنا إليهم عند الله كما جوز أكثم بن الجون الخزاعي أن يضره شبه عمرو ابن لحي به حتى سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : ( لا ، إنك مؤمن وهو كافر ) - كما في أوائل السيرة الهشامية عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وكان ذلك ربما وقف بأحد منهم عن الإسلام قال : ( لا يضركم من ضل ) أي من المخالفين بكفر أو غيره بنسبتكم إليه(2/553)
صفحة رقم 554
ولا بقول الكفار : إنكم سفهتم آراءكم ، ولا بغير ذلك من وجوه الضرر ، وحقق هدايتهم بشارة لهم بأداة التحقيق فقال مفهماً لوجود الضرر عند فقد الهداية : ( إذا اهتديتم ) أي بالإقبال على ما أنزل الله وعلى الرسول حتى تصيروا علماء وتعملوا بعلمكم فتخالفوا من ضل ، فإن كان موجوداً فبالاجتهاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بحسب الطاقة ، فإن لم يستطع رده انتظر به يوم الجمع الأكبر والهول الأعظم ، وإن كان مفقوداً فبمخالفته في ذلك الضلال وإن كان أقرب الأقرباء وأولى الأحباء ، وإلا كان الباقي اسفه من الماضي ، وقد كان لعمري احدهم لا يتبع أباه إذا كان سفيهاً في أمر دنياه عاجزاً عن تحصيلها ولا يتحاشى عن مخالفته في طريقته بل يعد الكدح في تحصيلها والتعمق في اقتناصها وحسن السعي في تثميرها ولطف الحيلة في توسيعها من معالي الأخلاق وإصالة الرأي وجودة النظر على أن ذلك ظل زائل وعرض تافه ، فكيف لا يخالفه فيما به سعادته الأبدية وحياته الباقية ويأخذ بالحزم في ذلك ويشمر ذيله في أمره ويسهر ليله في إعمال الفكر وترتيب النظر فيما أمره الله بالنظر فيه حتى يظهر له الحق فيتبعه ، وينهتك لديه الباطل فيجتنبه ، ما ذاك إلا لمجرد الهوى ، وقد كان الحزم العمل بالحكمة التي كشفها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) وروى مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير أحرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا - وقال ابن ماجه : ولا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا - فإن ) لو ( تفتح عمل الشيطان ) ، وفي بعض طرق الحديث : ( ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ) يعني :(2/554)
صفحة رقم 555
والله اعمل عمل الحزمة فأوسع النظر حتى لا تترك أمراً يحتمل أن ينفعك ولا يضرك غلا أخذت به ، ولا تدع أمراً يحتمل أن يضرك ولا ينفعك إلا تجتنبه ، فإنك إن فعلت ذلك وغلبك القضاء والقدر لم نجد في وسعك أمراً تقول : لو أني فعلته أو تركته ، ولكنك تقول : قدر الله وما شاء فعل ، بخلاف ما إذا لم تنعم النظر وعملت عمل العجزة فإنك حتماً تقول : لو أني فعلت كذا وكذا ، لأن الشيطان يفتح لك تلك الأبواب التي نظر فيها الحازم ، فيكثر لك من ( لو ) لأنها مفتاح عمله ، وليس في الآية ما يتعلق به من يتهاون في الأمر بالمعروف كما يفعله كثير من البطلة ؛ روى أحمد في المسند عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له في أمر رآه : ( يا أبا عامر ألا غيرت ؟ ( فتلا هذه الآية : ( يا أيها الذين ىمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ( ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( أين ذهبتم ؟ إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم ( ) وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحارث وأحمد بن منيع وأبو يعلى ( أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ، وإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه ( قال البغوي : وفي رواية : ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لكم ( ) والله الموفق .
ولما حكم الله تعالى - وهو الحكم العدل - أنه لا ضرر عليهم من غيرهم بشرط هداهم ، وكان الكفار يعيرونهم ، قال مؤكداً لما أخبر به ومقرراً لمعناه : ( إلى الله ) أي الملك الأعظم الذي لا شريك له ، لا إلى غيره ) مرجعكم ) أي أنتم ومن يعيركم ويهددكم وغيرهم من جميع الخلائق ) جميعاً فينبئكم ) أي يخبركم إخباراً عظيماً(2/555)
صفحة رقم 556
مستوفى مستقصى ) بما كنتم تعملون ) أي تعمداً جبلة وطبعاً ، ويجازي كل أحد بما عمل على حسب ما عمل .
ولا يؤاخذ أحداً بما عمل غيره ولا بما أخطأ فيه أو تاب منه ، وليس المرجع ولا شيء منه إلى الكفار ولا معبوداتهم ولا غيرهم حتى تخشوا شيئاً من غائلتهم في شيء من الضرر .
المائدة : ( 106 - 108 ) يا أيها الذين. .. . .
) يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ( )
ولما خاطب سبحانه أهل ذلك الزمان بأنه نصب المصالح العامة كالبيت الحرام والشهر الحرام ، وأشار بآية البحيرة وما بعدها إلى أن أسلافهم لا وفّروا عليهم مالهم ولا نصحوا لهم في دينهم ، وختم ذلك بقهره للعباد بالموت وكشف الأسرار يوم العرض بالحساب على النقير والقطمير والجليل والحقير ؛ عقب ذلك بآية الوصية إرشاداً منه سبحانه إلى ما يكشف سريرة مَنْ خان فيها علماً منه سبحانه أن الوفاء في مثل ذلك يقل وحثاً لهم على أن يفعلوا ما أمر سبحانه به لينصحوا لمن خلفوه بتوفير المال ويقتدي بهم فيما ختم به الآية من التقوى والسماع والبعد من الفسق والنزاع ، فقال تعالى منادياً لهم بما عقدوا به العهد بينهم وبينه من الإقرار بالإيمان : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أخبروا عن أنفسهم بذلك ) شهادة بينكم ( هو كناية عن التنازع والتشاجر لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند ذلك ، وسبب نزول الآية قد ذكره المفسرون وذكره الشافعي في الأم فقال : أخبرني أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال : أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك ( أن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميمي والآخر يماني ، صحبهما مولى لقريش في تجارة فركبوا البحر ، ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورِقَةٍ فمرض القرشي فجعل وصيته إلى الداريين فمات ، وقبض الداريان المال فدفعاه إلى أولياء الميت ، فأنكر القوم قلة المال فقالوا للداريين : إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به ، فهل باع شيئاً أو اشترى فوضع فيه ؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا : لا ، قالوا :(2/556)
صفحة رقم 557
فإنكما خنتمانا ، فقبضوا المال ، ورفعوا أمرهما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فأنزل الله عز وجل
77 ( ) يا ايها الذين آمنوا شهادة بينكم ( ) 7
[ المائدة : 106 ] فلما نزلت أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقاما بعد الصلاة ، فحلفا بالله رب السماوات : ما ترك مولاكم من لمال إلا ما أتيناكم به ، فلما حلفا خلي سسبيلهما ، ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت فأخذوا الداريين فقالا : اشتريناه منه في حياته ، فكُذِّبا وكُلِّفا البينة فلم يقدرا عليها ، فرفعوا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عز وجل ) فإن عثر ( - يعني إلى آخرها ( ثم ذكر وقت الشهادة وسببها فقال : ( إذا حضر ( وقدم المفعول تهويلاً - كما ذكر في النساء - لأن الآية نزلت لحفظ ماله فكان أهم ، فقال : ( أحدكم الموت ) أي أخذته أسبابه الموجبة لظنه .
ولما كان الإيصاء إذ ذاك أمراً متعارفاً ، عرف فقال معلقاً بشهادة كما علق به ) إذا ( أو مبدلاً من ) إذا ( لأن الزمنين واحد : ( حين الوصية ) أي إن أوصى ، ثم أخبر عن المبتدأ فقال : ( اثنان ) أي شهادة بينكم في ذلك الحين شهادة اثنين ) ذوا عدل منكم ) أي من قبيلتكم العارفين بأحوالكم ) أو آخران ) أي ذوا عدل ) من غيركم ) أي إن لم تجدوا قريبين يضبطان أمر الوصية من كل ما للوصي وعليه ، وقيل : بل هما الوصيان أنفسهما احتياطاً بجعل الوصي اثنين ، وقيل : آخران من غير أهل دينكم ، وهو خاص بهذا الأمر الواقع في السفر للضرورة لا في غيره ولا في غير السفر ؛ ثم شرط هذه الشهادة بقوله : ( إن أنتم ضربتم ) أي بالأرجل ) في الأرض ) أي بالسفر ، كأن الضرب بالأرجل لا يسمى ضرباً إلا فيه لأنه موضع الجد والاجتهاد ) فأصابتكم ( وأشار إلى أن الإنسان هدف لسهام الحدثان بتخصيصه بقوله : ( مصيبة الموت ) أي أصابت الموصي المصيبةُ التي لا مفر منها ولا مندوحة عنها .(2/557)
صفحة رقم 558
ولما كان قد استشعر من التفصيل في أمر الشهود مخالفة لبقية الشهادات ، فكان في معرض السؤال عن الشهود : ماذا يفعل بهم ؟ قال مستأنفاً : ( تحبسونهما ) أي تدعونهما إليكم وتمنعونهما من التصرف لأنفسهما لإقامة ما تحملاه من هذه الواقعة وأدائه ؛ ولما كان المراد إقامة اليمين ولو في أيسر زمن ، لا استغراق زمن البعد بالحبس ، أدخل الجار فقال : ( من بعد الصلاة ) أي التي هي أعظم الصلوات ؛ فكانت بحيث إذا أطلقت معرفة انصرفت إليها وهي الوسطى وهي العصر ، ثم ذكر الغرض من حبسهما فقال : ( فيقسمان بالله ) أي الملك الذي له تمام القدرة وكمال العلم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا ، فإن كانا مسلمين فلا يمين ، وعن غيره ، إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما ، وإن كان الوصيين فلا ؛ ثم شرط لهذا الحلف شرطاً فقال اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه : ( إن ارتبتم ) أي وقع بكم شك فيما أخبرا به عن الواقعة ؛ ثم ذكر المقسم عليه بقوله : ( لا نشتري به ) أي هذا الذي ذكرناه ) ثمناً ) أي لم نذكره ليحصل لنا به عرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة ، وليس قصدنا به إلا إقامة الحق ) ولو كان ( أ يالوصي الذي أقسمنا لأجله تبرئة له ) ذا قربى ) أي لنا ، أي إن هذا الذي فعلناه من التحري عادتنا التي أطعنا فيها
77 ( ) كونوا قوّامين بالقسط شهداء الله ( ) 7
[ النساء : 135 ] - الآية ، لا أنه فعلنا في هذه الواقعة فقط ) ولا نكتم شهادة الله ) أي هذا الذي ذكرناه لم نبدل فيه لما أمر الله به من حفظ الشهادة وتعظيمها ، ولم نكتم شيئاً وقع به الإشهاد ، ولا نكتم فيما يستقبل شيئاً نشهد به لأجل الملك الأعظم المطلع على السرائر كما هو مطلع على الظواهر ؛ ثم علل ذلك بما لقنهم إياه ليكون آخر كلامهم ، كل ذلك تغليظاً وتنبيهاً على أن ذلك ليس كغيره من الأيمان ، فقال تذكيراً لهم وتحذيراً من التغيير : ( إنا إذاً ) أي إذا فعلنا شيئاً من التبديل أو الكتم ) لمن الآثمين فإن ( ولما كان المراد مجرد الاطلاع بني للمفعول قوله : ( عثر ) أي اطلع مطلع بقصد أو بغير قصد ؛ قال البغوي : وأصله الوقوع على الشيء أي من عثرة الرجل ) على أنهما ) أي الشاهدين إن أريد بهما الحقيقة أو الوصيين ) استحقا إثماً ) أي بسبب شيء خانا فيه من أمر الشهادة ) فآخران ) أي من الرجال الأقرباء للميت ) يقومان مقامهما ) أي ليفعلا حيث اشتدت الريبة من الإقسام عند مطلق الريبة ما فعلا ) من الذين استحق ) أي طلب وقوع الحق بشهادة من شهد ) عليهم ( هذا على قراءة الجماعة ، وعلى قراءة حفص بالبناء للفاعل ، المعنى : وجد وقوع الحق عليهم ، وهم أهل الميت وعشيرته .
ولما كان كأنه قيل : ما منزلة هذين الآخرين من الميت ؟ فقيل : ( الأوليان ) أي الأحقان بالشهادة الأقربان إليه العارفان بتواطن أمره ، وعلى قراءة أبي بكر وحمزة(2/558)
صفحة رقم 559
بالجمع ، كأنه قيل : هما من الأولين أي في الذكر وهم أهل الميت ، فهو نعت للذين استحق ) فيقسمان ) أي هذان الآخران ) بالله ) أي الملك الذي لا يقسم إلا به لما له من كمال العلم وشمول القدرة ) لشهادتنا ) أي بما يخالف شهادة الحاضرين للواقعة ) أحق من شهادتهما ) أي أثبت ، فإن تلك إنما ثباتها في الظاهر ، وشهادتنا ثابتة في نفس الأمر وساعدها الظاهر بما عثر عليه من الريبة ) وما اعتدينا ) أي تعمدنا في يميننا مجاوزة الحق ) إنا إذاً ) أي إذا وقع منا اعتداء ) لمن الظالمين ) أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام ، وهذا إشارة إلى أنهم على بصيرة ونور مما شهدوا به ، وذلك أنه لما وجد الإناء الذي فقده أهل الميت وحلف الداريان بسببه أنهما ما خانا طالبوهما ، فقالا : كنا اشتريناه منه ، فقالوا : ألم نقل لكما : هل باع صاحبنا شيئاً ؟ فقلتما : لا ، فقالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فرفعوا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمر فقام اثنان من اقارب الميت فحلفا على الإناء ، فدفعه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهما ، لأن الوصيين ادعيا على الميت البيع فصار اليمين في جانب الورثة لأنهم أنكروا ، وسمي أيمان الفريقين شهادة كما سميت أيمان المتلاعنين شهادة - نبه على ذلك الشافعي ، وكان ذلك لما في البابين من مزيد التأكيد .
ولما تم هذا على هذا الوجه الغريب ، بين سبحانه سرَّه فقال : ( ذلك ) أي الأمر المحكم المرتب هذا الترتيب بالأيمان وغيرها ) أدنى ) أي أقرب ) أن ) أي إلى أن ) يأتوا ) أي الذين شهدوا أولاً ) بالشهادة ) أي الواقعة في نفس الأمر ) على وجهها ( من غير أدنى ميل بسبب أن يخافوا من الحنث عند الله بعد هذا التغليظ ) أو يخافوا ( إن لم يمنعهم الخوف من الله ) أن ترد ) أي تثنى وتعاد ) أيمان ) أي من الورثة ) بعد أيمانهم ( للعثور على ريبة فيصيروا بافتضاحهم مثلاً للناس ، قال الشافعي : وليس في هذا رد اليمين ، فما كانت يمين الداريين على ما ادعى الورثة من الخيانة ، ويمين ورثة الميت على ما ادعى الداريان مما وجد في أيديهما وأقرا أنه مال الميت وأنه صار لهما من قِبَله ، فلم تقبل دعواهما بلا بينة ، فأحلف وارثاه ، قال : وإذا كان هذا كما وصفت فليست الآية ناسخة ولا منسوخة لأمر الله بإشهاد ذوي عدل ومن نرضى من الشهداء ، هذا ما اقتضى إيلاؤها لما قبلها ، وقد نزعها إلى مجموع هذه السورة مَنازع منها ما تقدم من ذكر القتل الذي هو من أنواع الموت عند قصة بني آدم وما بعدها ، ثم تعقيب ذلك بالجهاد الذي هو من أسباب الموت ، وقوله تعالى :
77 ( ) وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ( ) 7
[ المائدة : 45 ] ، ثم ذكره أيضاً في قوله تعالى :
77 ( ) يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ( ) 7
[ المائدة : 54 ] وقد جرت السنة الإلهية بذكر الوصية عقب مثل ذلك(2/559)
صفحة رقم 560
في البقرة ، ولم يذكر عقب واحدة من الآيات المذكورة لزيادتها على آية البقرة بمنازع منها الحلف ، فناسب كونها بعد آية الأيمان ، ومنها تغليظ الحلف والخروج به عما يشاكله من القسم على المال بكونه في زمان مخصوص بعد عبادة مخصوصة ، فناسب ذكرها بعد تغليظ أمر الصيد في حال مخصوص وهو الإحرام والخروج به عن أشكاله من الأحوال وبعد تغليظ جزائه والخروج به عن أشكاله من الكفارات وتغليظ أمر المكان المخصوص وهو الكعبة والخروج بها عن أشكالها من البيوت ، وكذا تغليظ الزمان المخصوص وهو الشهر الحرام والخروج به عن أشكاله من الأزمنة .
وكل ذلك لقيام أمر الناس وإصلاح أحوالهم ، وهكذا ىية الوصية وما خرج من أحكامها عن أشكاله كله لقيام الأمور على السداد وإصلاح المعاش والمعاد ، وهي ملتفتة إلى أول السورة إذا هي من أعظم العهود ، والوفاءُ بها من أصعب الوفاء ، وإلى قوله تعالى : ( ) وتعاونوا على البر والتقوى ( ) [ المائدة : 2 ] وإلى قوله تعالى : ( ) كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ( ) [ المائدة : 8 ] انظر إلى ختمها بقوله : ( إن الله خبير بما تعملون ( وإلى كون هذه في سياق الإعلام بأن الله عالم بالخفيات ، وقوله : - عطفاً على ما تقديره : فالزموا ما أمرتكم به وأرشدتكم إليه تفلحوا : ( واتقوا الله ) أي ذا الجلال والإكرام إلى آخرها - ملتفت إلى قوله : ( ) وميثاقه الذي واثقكم به ( ) [ المائدة : 7 ] - الآية ، أي خافوا الله خوفاً عظيماً يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية لئلا تحلفوا كاذبين أو تخونوا أدنى خيانة ) واسمعو ) أي الموعظة سمع إجابة وقبول ذاكرين لقولكم ) ) سمعنا وأطعنا ( ) [ البقرة : 285 ] فإن الله يهدي المتمسكين بالميثاق ) والله ) أي الذي له الكمال كله وتمام الحكمة وكمال العزة والسطوة ) لا يهدي القوم ) أي لا يخلق الهداية في قلوب الذين لهم قدرة على ما يحاولونه الفاسقين ) أي الذين هم خارجون ، أي من عادتهم ذلك على وجه الرسوخ ، فهم أبداً غير متقيدين بقيد ولا منضبطين بدائرة عقد ولا عهد .
المائدة : ( 109 - 111 ) يوم يجمع الله. .. . .
) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( ( )(2/560)
صفحة رقم 561
ولما كان فيها إقامة الشهود وحبسهم عن مقاصدهم حتى يفرغوا من هذه الواقعة المبحوث فيها عن خفايا متعلقة بالموت والتغليظ بالتحليف بعد صلاة العصر ، وكانت ساعة يجتمع فيها الناس وفريقا الملائكة المتعاقبين فينا ليلاً ونهاراً مع أنها ساعة الأصيل المؤذنة بهجوم الليل وتقوّض النهار حتى كأنه لم يكن ورجوع الناس إلى منازلهم وتركهم لمعايشهم ، وكانت عادته سبحانه بأنه يذكر أنواعاً من الشرائع والتكاليف ، ثم يتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وإما بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم من التكاليف ، ولا ينتقل من فن إلى آخر إلا بغاية الإحكام في الربط ، عقبها تعالى بقوله : ( يوم يجمع الله ) أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة ) الرسل ) أي الذين أرسلهم إلى عباده بأوامره ونواهيه إشارة إلى تذكر انصرام هذه الدار وسرعة هجوم ذلك بمشاهدة هذه الأحوال المؤذنة به وبأنه يوم يقوم فيه الأشهاد ، ويجتمع فيه العباد ، ويفتضح فيه أهل الفساد - إلى غير ذلك من الإشارات لأرباب البصائر والقلوب ، والظاهر أن ( يوم ) ظرف للمضاف المحذوف الدال عليه الكلام ، فإن من المعلوم أنك إذا قلت : خف من فلان ، فإن المعنى : خَف من عقابه ونحو ذلك ، فيكون المراد هنا : واتقوا غضب الله الواقع في ذلك اليوم ، أي اجعلوا بينكم وبين سطواته في ذلك اليوم وقايةً ، أو يكون المعنى : اذكروا هذه الواقعة وهذا الوقت الذي يجمع فيه الشهود ويحبس المعترف والجحود يوم الجمع الأكبر بين يدي الله تعالى ليسألهم عن العباد ويسأل العباد عنهم ) فيقول ) أي للرسل تشريعاً لهم وبياناً لفضلهم وتشريفاً للمحق من أممهم وتبكيتاً للمبطل وتوبيخاً للمُفْرط منهم والمفرّط .
ولما كان مما لا يخفى أصلاً أنهم أجيبوا ، ولا يقع فيه نزاع ولا يتعلق بالسؤال عنه غرض ، تجاوز السؤال إلى الاستفهام من نوع الإجابة فقال : ( ماذا أجبتم ) أي أيّ إجابة أجابكم من أرسلتم إليهم ؟ إجابة طاعة أو إجابة معصية .
ولما كان المقصود من قولهم بيان الناجي من غيره ، وكانت الشهادة في تلك الدار لا تنفع إلا فيما وافق فيه الإضمار الإظهار ، فكانت شهادتهم لا تنفع المشهود له بحسن الإجابة إلا أن يطابق ما قاله بلسانه اعتقاده بقلبه ) قالوا ( نافين لعلمهم أصلاً ورأساً إذا كان موقوفاً على شرط هو من علم ما غاب ولا علم لهم به ) لا علم لنا ) أي على الحقيقة لأنا لا نعلم إلا ما شهدناه ، وما غاب عنا أكثر ، وإذا كان الغائب قد يكون مخالفاً للمشهود ، فما شهد ليس بعلم ، لأنه غير مطابق للواقع ، ولهذا عللوا بقولهم :(2/561)
صفحة رقم 562
) إنك أنت ) أي وحدك ) علام الغيوب ) أي كلها ، تعلمها علماً تاماً فكيف بما غاب عنا من أحوال قومنا فكيف بالشهادة فكيف بما شهدنا من ذلك وهذا في موضع قولهم : أنت أعلم ، لكن هذا أحسن أدباً ، فإنهم محوا أنفسهم من ديوان العلم بالكلية ، لأن كل علم يتلاشى إذا نسب إلى علمه ويضمحل مهما قرن بصفته أو اسمه .
ولما كان سؤاله سبحانه للرسل عن الإجابة متضمناً لتبكيت المبطلين وتوبيخهم ، وكان أشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ أهل الكتاب ، لأن تمردهم تعدى إلى رتبة الجلال بما وصفوه سبحانه به من اتخاذ الصاحبة والولد ، ومن ادعاء الإلهية لعيسى عليه السلام لما أظهر من الخوارق التي دعا بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا يهتضم حقه أو يُغلى فيه ، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب وغيره ، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء ، ذكر أمر عيسى عليه السلام بقوله مبدلاً من قوله : ( يوم يجمع الله ( معبراً بالماضي تذكيراً بما لذلك اليوم من تحتم الوقوع ، وتصويراً لعظيم تحققه ، وتنبيهاً على أنه لقوة قربه كأنه قد وقع ومضى : ( إذ قال الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ) يا عيسى ( ثم بينه بما هو الحق من نسبه فقال : ( ابن مريم ( .
ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في حركاتهم وسكناتهم ، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال ، أمره بذكر حمده سبحانه على نعمته عنده فقال : ( اذكر نعمتي عليك ) أي في خاصة نفسك ، وذكر ما يدل للعاقل على أنه عبد مربوب فقال : ( وعلى والدتك ( إلى آخره مشيراً إلى أنه أوجده من غير أب فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة بحقوق أمه ، فأقدره - وهو في المهد - على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف ، وكل نعمة أنعمها سبحانه عليه ( صلى الله عليه وسلم ) فهي نعمة أمه ديناً ودنيا .
ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه عليهم في أول السورة بقوله :
77 ( ) اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه ( ) 7
[ المائدة : 7 ] ،
77 ( ) واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم ( ) 7
[ المائدة : 11 ] ، وكانت هذه الآيات من عند
77 ( ) لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( ) 7
[ المائدة : 87 ] كلها في النعم ، أخبرهم أنه يذكّر عيسى عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار العمل بالشكر ، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسراً بالكفر ، ويا لها فضيحةً في ذلك الجمع الأكبر والموقف الأهول وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم بعيسى عليه السلام : اليهودُ بالتقصير في أمره ، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره .(2/562)
صفحة رقم 563
ولما كان أعظم الأمور التنزيه ، بدأ به كما فعل بنفسه الشريفة في كلمة الدخول إلى الإسلام ، ولما كان أعظم ذلك تنزيهه أمه عليها السلام وتصحيح ما خرق لها من العادة في ولادته ، وكان أحكم ما يكون ذلك بتقوية روحه حتى يكون كلامه طفلاً ككلامه كهلاً ، قدمه فقال معلقاً قارناً بكل نعمة ما يدل على عبوديته ورسالته ، ليخزي من غلا في أمره أو قصّر في وصفه وقدره : ( إذ أيدتك ) أي قويتك تقوية عظيمة ) بروح القدس ) أي الطهر الذي يحيي القلوب ويطهرها من أوضار الآثام ، ومنه جبرئيل عليه السلام ، فكان له منه في الصغر حظ لم يكن لغيره ؛ قال الحرالي : وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام ثم استأنف تفسير هذا التأييد فقال : ( تكلم الناس ) أي من أردت من عاليهم وسافلهم ) في المهد ) أي بما برأ الله من أمك وأظهر به كرامتك وفضلك .
ولما ذكر هذا الفضل العظيم ، أتبعه خارقاً آخر ، وهو إحياؤه نفسه وحفظُه جسدَه أكثر من الف سنة لم يدركه الهرم ؛ فإنه رفع شاباً وينزل على ما رفع عليه ويبقى حتى يصير كهلاً ، وتسويةُ كلامه في المهد بكلامه في حال بلوغ الأشدّ وكمال العقل خرقاً لما جرت به العوائد فقال : ( وكهلاً ( ولما ذكر هذه الخارقة ، أتبعها روح العلم الرباني فقال : ( وإذ علمتك الكتاب ) أي الخط الذي هو مبدأ العلم وتلقيح لروح الفهم ) والحكمة ) أي الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم ) والتوراة ) أي المنزلة على موسى عليه السلام ) والإنجيل ) أي المنزل عليك .
ولما ذكر تأييده بروح الروح ، أتبعه تأييده بإفاضة الروح على جسد لا أصل له فيها فقال : ( وإذ تخلق من الطين ) أي هذا الجنس ) كهيئة الطير بإذني ( ثم سبب عن ذلك قوله : ( فتنفخ فيها ) أي في الصورة المهيأة ) فتكون ) أي تلك الصورة التي هيأتها ) طيراً بإذني ( ثم بإفاضة روح ما على بعض جسد ، إما ابتداء في الأكمة كما في الذي قبله ، وإما إعادة كما في الحادث العمى والبرص بقوله : ( وتبرئ الأكمة والأبرص ( .
ولما كان من أعظم ما يراد بالسياق توبيخ من كفر به كرر قوله : ( بإذني ( ثم برد روح كامل إلى جسدها بقوله : ( وإذ تخرج الموتى ) أي من القبور فعلاً أو قوة حتى يكونوا كما كانوا من سكان البيوت ) بإذني ( ثم بعصمة روحه ممن أراد قتله بقوله : ( وإذ كففت بني إسرائيل عنك ) أي اليهود لما هموا بقتلك ؛ ولما كان ذلك ربما أوهم نقصاً استحلوا قصده به ، بين أنه قصد ذلك كعادة الناس مع الرسل والأكابر من أتباعهم تسلية لهذا النبي الكريم والتابعين له بإحسان فقال : ( إذ جئتهم بالبينات ) أي كلها ، (2/563)
صفحة رقم 564
بعضها بالفعل والباقي بالقوة لدلالة ما وجد عليه من الآيات الدالة على رسالتك الموجبة لتعظيمك ) فقال الذين كفروا ) أي غطوا تلك البينات عناداً ) منهم إن ) أي ما ) هذا إلا سحر مبين ( ثم بتأييده بالأنصار الذين أحيى أرواحهم بالإيمان وأجسادهم باختراع المأكل الذي من شأنه في العادة حفظ الروح ، وذلك في قصة المائدة وغيرها فقال : ( وإذ أوحيت ) أي بإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً ) إلى الحواريين ) أي الأنصار ) أن آمنوا بي وبرسولي ) أي الذي أمرته بالإبلاغ يعني إبلاغ الناس ما آمرهم به ، ثم استأنف مبيناً لسرعة أجابتهم لجعله محبباً إليهم مطاعاً فيهم بقوله : ( قالوا آمنا ( .
ولما كان الإيمان باطناً فلا بد في إثباته من دليل ظاهر ، وكان في سياق عدّ النعم والطواعية لوحي الملك الأعظم دلوا عليه بتمام الانقياد ، ناسب المقام زيادة التأكيد بإثبات النون الثالثة في قولهم : ( واشهد بأننا ( بخلاف آل عمران ) مسلمون ) أي منقادون أتم انقياد ، فلا اختيار لنا إلا ما تأمرنا به ، وانظر ما أنسب إعادة ( إذ ) عند التذكير بروح كامل حساً أو معنى وحذفها عند الناقص ، فأثبتها عند التأييد بها في أصل الخلق وفي الكمال الموجب للحياة الأبدية وفي تعليم الكتاب وما بعده المفيض لحياة الأبد على كل من تخلّق بأخلاقه وفي خلق الطير وهو ظاهر وهكذا إلى الآخر .
ذكرُ شيء مما عزي إليه من الحكمة في الإنجيل : قال متى : وكان يسوع يطوف المدن والقرى ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل الأمراض والأوجاع ، ثم قال : فلما سمع يوحنا في السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من تلاميذه قائلاً : أنت هو الآتي أم نترجى آخر ؟ قال لوقا : وفي تلك الساعة أبرأ كثيراً من الأمراض والأوجاع والأرواح الشريرة ووهب النظر لعميان كثيرين ، فأجاب يسوع وقال لهما : اذهبا وأعلما يوحنا بما رأيتما وسمعتما ، العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يتطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون ، فطوبى لمن لا يشك فيّ فلما ذهب تلميذا يوحنا بدأ يسوع يقول للجمع من أجل يوحنا : لماذا خرجتم إلى البرية تنظرون - قال لوقا : قصبة تحركها الريح - أم لماذا خرجتم تنظرون ؟ إنساناً لابساً لباساً ناعماً ؟ إن اللباس الناعم يكون في بيوت الملوك ، قال لوقا : فإن الذين عليهم لباس المجد والتنعم هم في بيوت الملوك - انتهى .
لكن لماذا خرجتم تنظرون ؟ نبياً ؟ نعم ، أقول لكم : إنه أفضل من هذا الذي كتب من أجله : هوذا أنا مرسل ملكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك ، الحق أقول لكم إنه لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمد ، والصغير في ملكوت السماء أعظم منه ، وجميع الشعب الذي سمع والعشارون شكروا الله حيث اعتمدوا من معمودية يوحنا ، فأما الفريسيون والكتاب(2/564)
صفحة رقم 565
فعلموا أنهم رفضوا أمر الله لهم إذ لم يعتمدوا منه ؛ قال متى : ثم قال : من له أذنان سامعتان فليسمع بماذا أشبه هذا الجيل ؟ يشبه صبياناً جلوساً في الأسواق ، يصيحون إلى أصحابهم قائلين : زمّرنا لكم فلم ترقصوا ، ونحنا لكم فلم تبكوا ، جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب ، فقالوا : معه جنون ، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب ، فقالوا : هذا إنسان أكول شرّيب خليل العشارين والخطأة ، فتبررت الحكمة من بنيها ، حينئذ بدأ يعيّر المدن التي كان فيها أكثر قواته ، لأنهم لم يتوبوا ، ويقول : الويل لك يا كورزين والويل لك يا بيت صيدا لأن القوات اللاتي كنّ فيكما قديماً لو كنّ في صور وصيدا لتابوا بالمسوح والرماد ، لكن أقول لكم : إن لصور وصيدا راحة في يوم الدين أكثر منكن ، وأنت يا كفرناحوم لو ارتفعت إلى السماء ستهبطين إلى الجحيم ، لأنه لو كان في سدوم هذه القوات التي كانت فيك إذن لثبتت إلى اليوم ، وأقول لكم أيضاً : إن أرض سدوم تجد راحة يوم الدين أكثر منك .
ثم قال : وانتقل يسوع من هناك ودخل إلى مجمعهم وإذا رجل هناك يده يابسة - وقال لوقا : يده اليمنى يابسة - فسألوه قائلين : هل يحل أن يشفى في السبت ؟ فقال لهم : أي إنسان منكم يكون له خروف ، يسقط في حفرة في السبت ، ولا يمسكه ويقيمه ؟ فبكم أحزي الإنسان أفضل من الخروف ، فإذن جيد هو فعل الخير في السبت ؛ وقال لوقا : فقال للرجل اليابس اليد : قف في الوسط ، فقام ، وقال لهم يسوع : أسألكم ماذا يحل أن يعمل في السبت ؟ خير أم شر ؟ نفس تخلص أم تهلك ؟ فسكتوا ؛ قال متى : حينئذ قال للإنسان : أمدد يدك ، فمدها فصحت مثل الأخرى ، فخرج الفريسيون - قال مرقس : مع أصحاب هيرودس - متوامرين في إهلاكه ، فعلم يسوع وانتقل من هناك وتبعه جمع كثير ، فشقى جميعهم ، وأمرهم أن لا يظهروا ذلك لكي يتم ما قيل في أشعيا النبي القائل : ها هوذا فتاي الذي هويت ، وحبيبي الذي به سررت ، أضع روحي عليه ويخبر الأمم بالحكم ، لا يماري ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع ، قصبة مرضوضة لا تكسر ، وسراج مطفطف لا بطفأ حتى يخرج الحكم في الغلبة ، وعلى اسمه تتكل الأمم ؛ ثم قال : وفي ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس جانب البحر ، فاجتمع إليه جمع كبير حتى أنه صعد إلى السفينة وجلس ، وكان الجمع كله قياماً على الشطّ ، وكلهم بأمثال كثيرة قائلاً : ها هو ذا خرج الزارع ليزرع ، وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق ، فأتى الطير وأكله - وقال لوقا : فديس وأكله طائر السماء - وبعض سقط على الصخرة حيث لم يكن له أرض كثيرة ، وللوقت شرق إذ ليس له عمق أرض ، ولما أشرقت الشمس احترق ، وحيث لم يكن له أصل يبس ، وبعض سقط في الشوك فطلع الشوك وخنقه ؛ وقال مرقس : فخنقه بعلوه عليه فلم(2/565)
صفحة رقم 566
يأتي بثمرة ؛ وقال متى : وبعض سقط في الأرض الجيدة فأعطى ثمره ، للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين - قال لوقا : فلما قال هذا نادى : من له أذنان سامعتان فليسمع - فتقدم إليه تلاميذه وقالوا له : لماذا تكلمهم بالأمثال ؟ فأجابهم وقال : أنتم أعطيتم معرفة سرائر ملكوت السماوات - وقال لوقا : فقال لهم : لكم أعطي علم سرائر ملكوت الله - وأولئك لم يعطوا ، ومن كان له يعطي ويزاد ، ومن ليس له فالذي له يؤخذ منه - وقال لوقا : والذي ليس له ينزع منه الذي يظن أنه له - فلهذا أكلمهم بالأمثال ، لأنهم يبصرون فلا يبصرون ، ويسمعون فلا يسمعون ولا يفهمون ، لكي تتم فيهم نبوة أشعيا لقائل : سمعاً يسمعون فلا يفهمون ، ونظراً ينظرون فلا يبصرون ، لقد غلظ قلب هذا الشعب ، وثقلت آذانهم عن السماع ، وغمضوا أعينهم لكيلا يبصروا بعيونهم ولا يسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم ، فأما أنتم فطوبى لعيونكم لأنها تنظر ، ولآذانكم لأنها تسمع ؛ وقال لوقا : ومثل الزرع هذا هو كلام الله ؛ وقال متى : كل من يسمع كلام الملكوت ولا يفهم يأتي الشرير فيخطف ما يزرع في قلبه ، هذا الذي زرع على الطريق ، والذي زرع على الصخرة هو الذي يسمع الكلام وللوقت يقبله بفرح ، وليس له فيه أصل ، لكن في زمان يسير ، إذا حدث ضيق أو طرد فللوقت يشك - وقال مرقس : بسبب الكلمة فيشكون للوقت : وقال لوقا : وهم إنما يؤمنون إلى زمان التجربة ، وفي زمان التجربة يشكون - والذي يزرع في الشوك فهو الذي يسمع الكلام فيخنق الكلام فيه ؛ وقال لوقا : فتغلب عليهم هموم هذا الدهر وطلب الغنى ؛ وقال مرقس : ومحبة الغنى وسائر الشهوات التي يسلكونها ، فتخنق الكلمة فلا تثمر فيهم ؛ وقال متى : فيكون بغير ثمرة ، والذي زرع في الأرض الجيدة هو الذي يسمع الكلام ويتفهم ويعطي ثمره ؛ وقال لوقا : وأما الذي وقع في الأرض الصالحة فهم الذين يسمعون الكلمة بقلب جيد فيحفظونها ويثمرون بالصبر ؛ قال متى : للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين .
وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً : يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع زواناً في وسط القمح ومضى ، فلما نبت القمح ظهر الزوان ، فجاء عبيد رب البيت فقالوا له : يا سيد أليس زرعاً جيداً زرعت في حقلك فمن أين صار فيه زوان ؟ فقال لهم : عدو فعل هذا ، فقال عبيده : تريد أن نذهب فنجمعه ؟ فقال لهم : لا ، لئلا تنقلع معه الحنطة ، دعوهما ينبتان جميعاً إلى زمان الحصاد ، وأقول للحصادين : أولاً اجمعوا الزوان فشدوه حزماً ليحرق ، فأما القمح فاجمعوه إلى أهرائي .
وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً : يشب ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله ، لأنها أصغر الزراريع كلها - وقال مرقس : وهي أصغر(2/566)
صفحة رقم 567
الحبوب التي على الأرض - فإذا طالت صارت أكبر من جميع البقول وتصير شجرة - وقال مرقس : وصنعت أغصاناً عظاماً ؛ وقال لوقا : فنمت وصارت شجرة عظيمة - حتى أن طائر السماء يستظل تحت أغصانها .
وكلمهم بمثل آخر وقال لهم : يشبه ملكوت السماوات خميراً أخذته امرأة وعجنته في ثلاثة اكيال دقيق فاختمر الجميع ؛ وقال مرقس : وكان يقول لهم : هل يوقد سراج فيوضع تحت مكيال أو سرير ، لكن على منارة ؛ وقال لوقا : ليس أحد يوقد سراجاً فيغطيه ، ولا يجعله تحت سرير ، لكن يضعه على منارة فيرى نوره كل من يدخل ؛ قال مرقس : كذلك ليس خفي غلا سيظهر ، ولا مكتوم إلا سيعلن ؛ وقال لوقا : سراج الجسد العين ، فإذا كانت عينك بسيطة فجسدك كله نير ، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً أحرص أن لا يكون النور الذي فيك ظلاماً ، فإن كان جسدك كله نيراً وليس فيه جزء مظلم فإنه يكون كاملاً نيراً ، كما أن السراج ينير لك بلمع ضيائه ؛ وقال مرقس : من له أذنان سامعتان فليسمع ، وقال لهم : انظروا ماذا تسمعون ، فبالكيل الذي تكيلون يكال لكم - وتزادون أيها السامعون لأن الذي له يعطي ومن ليس عنده فالذي عنده يؤخذ منه ، وقال : يشبه ملكوت الله إنساناً يلقي زرعه على الأرض وينام ، ويقوم ليلاً ونهاراً والزرع ينمو ويطول وهو لا يعلم ، أولاً أعشب وبعد ذلك سَنُبل ، ثم يمتلئ السنبل حتى إذا انتهت الثمرة حينئذ يضع المنجل إذ قد دنا الحصاد ؛ قال متى : هذا كله قاله يسوع للجموع ليتم ما قيل في النبي القائل : أفتح فاي بالأمثال وأنطق بالخفيات من قبل أساس العالم .
حينئذ ترك الجمع وجاء إلى البيت فجاء إليه تلاميذه وقالوا : فسر لنا مثل زوال الحقل ، أجاب : الذي زرع الزرع الجيد هو ابن الإنسان ، والحقل هو العالم ، والزرع الجيد هو بنو الملكوت ، والزوان هو بنو الشر ، والعدو الذي زرعه هو الشيطان ، والحصاد هو منتهى الدهر ، والحصادون هم الملائكة ، فكما أنهم يجمعون الزوان أولاً ، وبالنار يحرق ، هكذا يكون منتهى هذا الدهر ، يرسل ملائكته ويجمعون من مملكته كل الشوك وفاعلي الإثم ، فيلقونهم في أتون النار ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ، حينئذ يضيء الصديقون مثل الشمس في ملكوت أبيهم ، من له أذنان سامعتان فليسمع .
ويشبه ملكوت السماوات كنزاً مُخفىّ في حقل وجده إنسان فخبأه ، ومِن فرحه مضى وباع كل شيء واشترى ذلك الحقل .
وأيضاً يشبه ملكوت السماوات إنساناً تاجراً بطلب الجوهر الفاخر الحسن .
فوجد درة كثيرة الثمن فمضى وباع كل ماله واشتراها .
وأيضاً يشبه ملكوت السماوات شبكة ألقيت في البحر فجمعت من كل جنس ، فلما امتلأت أطلعوها إلى الشّط فجلسوا وجمعوا الخيار في الأوعية ، والرديء رموه خارجاً ، هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان ، تخرج الملائكة(2/567)
صفحة رقم 568
ويميزون الأشرار من وسط الصديقين .
ويلقونهم في أتون النار .
هناك يكون البكاء وصرير الأسنان .
فلما أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك وجاء إلى بلدته وكان يُعلِّم في مجامعهم حتى أنهم بهتوا وقالوا : من أين له هذه الحكمة والقوة وقال مرقس : من أين له هذا التعليم وهذه الحكمة التي أعطيها والقوات التي تكون على يديه - انتهى .
أليس هذا ابن النجار ؟ وقال لوقا : وكان جميعهم يشهدون له ويتعجبون من كلام النعمة الذي كان يخرج من فمه ، وكانوا يقولون : أليس هذا ابن يوسف ؟ انتهى .
أليس أمه تسمى مريم وإخوته يعقوب ويوسا وسمعان ويهودا ؟ أليس هو وأخواته عندنا جميعاً ؟ فمن أين له هذا كله ؟ وكانوا يشكون فيه ، فإن يسوع قال لهم : لا يهان نبي إلا في بلدته وبيته ؛ وقال مرقس : ليس يهان نبي إلا في بلدته وعند أنسابه وبيته ؛ وقال لوقا : فقال لهم : لعلكم تقولون لي هذا المثل : أيها الطبيب اشف نفسك والذي سمعنا أنك صنعته في كفرناحوم افعله أيضاً ههنا في مدينتك ، فقال لهم : الحق أقول لكم ، إنه لا يقبل نبي في مدينته ، الحق أقول لكم ، إن الأرامل كثيرة كنّ في إسرائيل في ايام إليا إذ أغلقت السماء ثلاث سنين وستة أشهر ، وصار جوع عظيم في الأرض كلها ، ولم يرسل إلياء إلى واحدة منهن إلا أرملة في صارفة صيدا ، وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل على عهد اليشع النبي ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان الشامي ، فامتلأ جميعهم غضباً عندما سمعوا هذا وأخرجوه خارج المدينة ، وجاؤوا به إلى أعلى الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليطرحوه إلى أسفل ، فأما هو فجاز وسطهم ومضى ، ونزل إلى كفرناحوم مدينة في الجليل ، وكان يعلمهم في السبت وبهتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان .
وقال في موضع آخر : وجاء إليه ناس من الفريسيين وقالوا له : اخرج فاذهب من ههنا فإن ثيرودس يريد ليقتلك ، فقال لهم : امضوا وقولوا لهذا الثعلب : إني هوذا أخرج الشياطين وأتم الشفاء اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل ، وينبغي أن أقيم اليوم وغداً ، وفي اليوم الآتي أذهب ، لأنه ليس يهلك نبي خارجاً عن يروشليم ، أيا يروشليم أيا يروشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم من مرة أردت أن أجمع بنيك مثل الدجاجة التي تجمع فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا ، هوذا أترك بيتكم خراباً ، فسمع هيرودس رئيس الربع بجميع ما كان فتحير ، لأن كثيراً كانوا يقولون : إن يوحنا قام من الأموات ، وآخرون يقولون : إن إليا ظهر ، وآخرون يقولون : نبي من الأولين قام ، فقال هيرودس : أنا قطعت رأس يوحنا فمن هو الذي نسمع عنه هذا ، وطلب أن يبصره ؛ وفي إنجيل متى : وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه : هذا هو يوحنا المعمدان ، وهو قام من الأموات من أجل هذه القوات التي يعمل بها .
قوله :(2/568)
صفحة رقم 569
المعمد ، من أعمده - إذا غسله في ماء المعمودية ، قوله : تبررت ، أي صارت برية بالنسبة إليهم ، قوله : يعيّر المدن ، أي يذكر ما أوجب لها العار ، قوله : القوات جمع قوة وهي المعجزات هنا ، قول : الذي هويت ، يعني أحببت حباً شديداً ، ولفظ الهوى الظاهر أنه يفهم نقصاً فلا يحل في شرعنا إطلاقه على الله تعالى ، قوله : مطفطف ، أي مملوء إلى رأسه ، لا يزال كذلك ، قوله : شرق - وزن : فرح ، أي ضعف ، من : شرق بريقه ، وشرقت الشمس - إذا ضعف ضوءها ، قوله : أتون وهو وزن تنور وقد يخفف : أخدود الجيار والجصاص ، قوله : بسيطة ، أي على الفطرة الأولى ، قوله : يروشليم - بتحتانية ومهملة وشين معجمة : بيت المقدس ، قوله : ملكوت أبيهم ، تقدم ما فيه غير مرة .
المائدة : ( 112 - 114 ) إذ قال الحواريون. .. . .
) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ( )
ولما كان من المقصود بذكر معجزات عيسى عليه السلام تنبيه الكافر ليؤمن ، والمؤمن ليزداد إيماناً ، وتسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتوبيخ اليهود المدعين أنهم أبناء وأحباء - إلى غير ذلك مما أراد الله ، قرعت به الأسماع ، ولم يتعلق بما يجيب به يوم القيامة عند أمره بذلك غرض فطوي ؛ ولما كان أجلّ المقاصد تأديب هذه الأمة لنبيها عليه السلام لتجلّه عن أن تبدأه بسؤال أو تقترح عليه شيئاً في حال من الأحوال ، ذكر لهم شأن الحواريين في اقتراحهم بعدما تقدم من امتداحهم بِعَدِّهم في عداد أولي الوحي ومبادرتهم إلى الإيمان امتثالاً للأمر ثم إلى الإشهاد على سبيل التأكيد بتمام الانقياد وسلب الاختيار ، فقال معلقاً ب ( قالوا آمنا ) مقرباً لزمن تعنتهم من زمن إيمانهم ، مذكراً لهذه الأمة بحفظها على الطاعة ، ومبكتاً لبني إسرائيل بكثرة تقلبهم وعدم تماسكهم إبعاداً لهم عن درجة المحبة فضلاً عن البنوة ، وهذه القصة قبل قصة الإيحاء إليهم فتكون ( إذ ) هذه ظرفاً لتلك ، فيكون الإيحاء إليهم بالأمر بالإيمان في وقت سؤالهم هذه بعد ابتدائه ، ويكون فائدته حفظهم من أن يسألوا آية أخرى كما سألوا هذه بعدما رأوا منه ( صلى الله عليه وسلم ) من الآيات : ( إذ قال ( وأعاد وصفهم ولم يضمره تنصيصاً عليهم لبُعد ما يذكر من حالهم هذا من حالهم الأول فقال : ( الحواريون ( وذكر أنهم نادوه باسمه واسم أمه فقالوا : ( يا عيسى ابن مريم ( ولم يقولوا : يا رسول الله ولا يا روح الله ، ونحو هذا من التبجيل أو التعظيم(2/569)
صفحة رقم 570
) هل يستطيع ربك ( بالياء مسنداً إلى الرب وبالتاء الفوقانية مسنداً إلى عيسى عليه السلام ونصب الرب ، ومعناهما واحد يرجع إلى التهييج والإلهاب بسبب الاجتهاد في الدعاء بحيث تحصل الإجابة ، وتكون هذه العبارة أيضاً للتلطف كما يقول الإنسان لمن يعظمه : هل تقدر أن تذهب معي إلى كذا ؟ وهو يعلم أنه قادر ، ولكنه يكنى بذلك عن أن السائل يحب ذلك ولا يريد المشقة على المسؤول ) أن ينزل ) أي الرب المحسن إليك ) علينا مائدة ( وهي الطعام ، ويقال أيضاً : الخوان إذا كان عليه الطعام ، والخوان شيء يوضع عليه الطعام للأكل ، هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص ، وهي من ماده - إذا أعطاه وأطعمه .
ولما كان هذا ظاهراً في أنها سماوية ، صرحوا به احترازاً عما عوَّدهم به ( صلى الله عليه وسلم ) من أنه يدعو بالقليل من الطعام فيبارك فيه فيمده الله فيكفي فيه القيام من الناس فقالوا : ( من السماء ) أي لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدمنا من الأمم .
ولما كان المقصود من هذا وعظنا وإرشادنا إلى أن لا نسأل نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً ، اكتفاء بما يرحمنا به ربنا الذي رحمنا بابتدائنا بإرساله إلينا لإيصالنا إليه سبحانه ، وتخويفاً من أن نكون مثل من مضى من المقترحين الذين كان اقتراحهم سببَ هلاكهم ؛ دل على ذلك بالنزوع من أسلوب الخطاب إلى الغيبة فقال مستأنفاً إرشاداً إلى السؤال من جوابهم : ( قال ( ولم يقل : فقلت ) اتقوا الله ) أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم الذي له الكمال وقاية تمنعكم عن الاجتراء على الاقتراح ) إن كنتم مؤمنين ) أي بأنه قادر وإني رسوله ، فلا تفعلوا فعل من وقف إيمانه على رؤية ما يقترح من الآيات .
ولما كانت المعجزات إنما تطلب لإيمان من لم يكن آمن ، وكان في هذا الجواب أتم زجر لهم ، تشوف السامع إلى جوابهم فقيل : لم ينتهوا بل ) قالوا ( إنا لا نريدها لأجل إزالة شك عندنا بل ) نريد ( مجموع أمور : ( أن نأكل منها ( فإنا جياع ؛ ولما ك ان التقدير : فتحصل لنا بركتها ، عطف عليه : ( وتطمئن قلوبنا ) أي بضم ما رأينا منها إلى ما سبق من معجزاتك من غير سؤالنا فيه ) ونعلم ) أي بعين اليقين وحقه أن قد صدقتنا ) أي في كل ما أخبرتنا به ) ونكون عليها ( وأشاروا إلى عمومها بالتبعيض فقالوا : ( من الشاهدين ) أي شهادة رؤية مستعلية عليها بأنها وقعت ، لا شهادة إيمان بأنها جائزة الوقوع ) قال عيسى ( ونسبه زيادة في التصريح به تحقيقاً ولأنه لا أب له وتسفيهاً لمن أطراه أو وضع من قدره فقال : ( ابن مريم اللهم ( فافتتح دعاءه بالاسم الأعظم ثم بوصف الإحسان فقال : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) أنزل علينا ( وقدم المقصود فقال : ( مائدة ( وحقق موضع الإنزال بقوله : ( من السماء ( ثم وصفها بما(2/570)
صفحة رقم 571
تكون به بالغة العجب عالية الرتب فقال : ( تكون ) أي هي أو يوم نزولها ) لنا عيداً ( وأصل العيد كل يوم فيه جمع ، ثم قيد بالسرور فالمعنى : نعود إليها مرة بعد مرة سروراً بها ، ولعل منها ما يأتي من البركات حين ترد له عليه السلام - كما في الأحاديث الصادقة ، ويؤيد ذلك قوله مبدلاً من ( لنا ) : ( لأولنا وآخرنا ( .
ولما ذكر الأمر الدنيوي ، أتبعه الأمر الديني فقال : ( وآية منك ) أي علامة على صدقي ) وارزقنا ) أي رزقاً مطلقاً غير مقيد بها ؛ ولما كان التقدير : فأنت خير المسؤولين ، عطف عليه قوله : ( وأنت خير الرّازقين ) أي فإنك تغني من تعطيه وتزيده عما يؤمله ويرتجيه بما لا ينقص شيئاً مما عندك ، ولا تطلب منه شيئاً غير أن ينفع نفسه بما قويته عليه من طاعتك بذلك الرزق ) قال الله ) أي الملك المحيط علماً وقدرة .
المائدة : ( 115 - 117 ) قال الله إني. .. . .
) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ( )
ولما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب وإن كان للإلهاب ، أكد الجواب فقال : ( إني منزلها عليكم ) أي الآن بقدرتي الخاصة بي ) فمن يكفر بعد ) أي بعد إنزالها ) منكم ( وهذا السياق معشر بأنه يحصل منهم كفر ، وقد وجد ذلك حتى في الحواريين على ما يقال في يهودا الإسخريوطي أحدهم الذي دل على عيسى عليه السلام ، فألقى شبهه عليه ، ولهذا خصه بهذا العذاب فقال : ( فإني أعذبه ) أي على سبيل البتّ والقطع ) عذاباً لا أعذبه ) أي مثله أبداً فيما يأتي من الزمان ) أحداً من العالمين ( وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات ، وفي ذكر قصة المائدة في هذه السورة التي افتتحت بإحلال المآكل واختتمت بها أعظم تناسب ، وفي ذلك كله إشارة إلى تذكير هذه الأمة بما أنعم عليها بما أعطى نبيها من المعجزات ومنَّ عليها به من حسن الاتباع ، وتحذير من كفران هذه النعم المعددة عليهم ، وقد اختلف المفسرون في حقيقة هذه المائدة وفي أحوالها ؛ قال أبو حيان : وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً ، وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا ، (2/571)
صفحة رقم 572
فخانوا وادخروا ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير ( ) انتهى .
قلت : ثم صحح الترمذي وقفه على عمار وقال : لا نعلم للحديث المرفوع أصلاً ، غير أن ذلك لا يضره لكونه لا يقال من قِبَل الرأي ، ولا اعلم أحداً ذكر عماراً فيمن أخذ عن أهل الكتاب ، فهو مرفوع حكماً ، وهذا الخبر يؤكد أن الخبر في الآية على بابه ، فيدفع قول من قال : إنها لم تنزل ، لأنهم لما سمعوا الشرط قالوا : لا حاجة لنا بها ، لأن خبره تعالى لا يخلف ولا يبدل القول لديه ، وهذا الرزق الذي من السماء قد وقع مثله لآحاد الأمة ؛ روى البيهقي في أواخر الدلائل عن أبي هريرة قال : كانت امرأة من دوس يقال لها أم شريك أسلمت في رمضان ، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلقيت رجلاً من اليهود فقال : ما لك يا أم شريك ؟ قالت : أطلب رجلاً يصحبني إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : فتعالي فأنا أصحبك ، قالت : فانتظرني حتى أملأ سقائي ماءً ، قال : معي ماء ما لا تريدين ماءً ، فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا ، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى وقال : يا أم شريك تعالي إلى العشاء فقالت : اسقني من الماء فإني عطشى ، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب ، فقال لها : لا اسقيك حتى تهودي فقالت : لا جزاك الله خيراً غربتني ومنعتني أن أحمل ماء ، فقال : لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهودي ، فقالت : لا والله لا أتهود أبداً بعد إذ هداني الله للإسلام ؛ فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته فنامت ، قالت : فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني ، فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، فشربت حتى رويت ، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل ثم ملأته ، ثم رفع بين يديّ وأنا أنظر حتى توارى عني في السماء ، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال : يا أم شريك قلت : والله قد سقاني الله ، قال : من أين أنزل عليك ؟ من السماء ؟ قلت : نعم ، والله لقد أنزل الله عليّ من السماء ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء ؛ ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقصت عليه القصة ، فخطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليها نفسها فقالت : يا رسول الله لست أرضي نفسي لك ولكن بضعي لك فزوجني من شئت ، فزوجها زيداً وأمر لها بثلاثين صاعاً وقال : ( كلوا ولا تكيلوا ) ، وكان معها عكة سمن هدية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت لجارية لها : بلغي هذه العكة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قولي : أم شريك تقرئك(2/572)
صفحة رقم 573
السلام ، وقولي : هذه عكة سمن أهديناها لك ، فانطلقت بها الجارية إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذوها ففرغوها ، وقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( علقوها ولا توكوها ) ، فعلقوها في مكانها ، فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمناً ، فقالت : يا فلانة أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : قد والله انطلقت بها كما قلت ، ثم أقبلت بها أضربها ما يقطر منها شيء ولكنه قال : علقوها ولا توكوها ، فعلقتها في مكانها ، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة فأكلوا منها حتى فنيت ، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعاً لم ينقص منه شيء ، قال : وروي ذلك من وجه آخر ، ولحديثه شاهد صحيح عن جابر رضي الله عنه .
وروي بإسناده عن أبي عمران الجوني أن أم أيمن هاجرت من مكة إلى المدينة وليس معها زاد ، فلما كانت عند الروحاء وذلك عند غيبوبة الشمس عطشت عطشاً شديداً ، قالت : فسمعت هفيفاً شديداً فوق رأسي ، فرفعت رأسي فإذا دلو مدلى من السماء برشاء أبيض ، فتناولته بيدي حتى استمسكت به ، قالت : فشربت منه حتى رويت ، قالت : فلقد أصوم بعد تلك الشربة في اليوم الحار الشديد الحر ثم أطوف في الشمس كي أظمأ فما ظمئت بعد تلك الشربة .
قال : وفي الجهاد عن البخاري عن أبي هريرة قال : ( بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة رهط سرية عيناً ، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم - فذكر الحديث حتى قال : فابتاع خبيباً - يعني ابن عدي الأنصاري - بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيراً ، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث قالت : والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب ، والله لقد وجدته يوماً ياكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر ، وكانت تقول : إنه لرزق من الله رزق خبيباً ) الحديث .
ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقول في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها ، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله ، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع ، فمن أنسب الأمور حينئذ(2/573)
صفحة رقم 574
سؤاله - وهو المحيط علماً بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر التهديد لمن يكفر - عما كفر به النصارى ، فلذلك قال تعالى عاطفاً على قوله
77 ( ) إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ( ) 7
[ المائدة : 110 ] ) وإذ قال الله ) أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيراً إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء : ( يا عيسى بن مريم ( وذلك تحقيقاً لأنه عمل بمقتضى النعمة وتبكيتاً لمن ضل فيه من النصارى وإنكاراً عليهم ) أأنت قلت للناس ) أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل ، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم ، لكونهم اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب ، فكأنه لا ناس غيرهم ) اتخذوني ) أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله بأن تأخذوني ) وأمي إلهين ( .
ولما كانت عبادة غير الله - ولو كانت على سبيل الشرك - مبطلة لعبادة الله ، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء ، ولا يرضى الشرك إلا فقير ، قال : ( من دون الله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، فيكون المعنى : اتخذوا تألهنا سلماً تتوصلون به إلى الله ، ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة ، ولا دخل حينئذ للمشاركة .
ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك ، صرح به هنا توبيخاً لمن أطراه ، وتأكيداً لما عندنا من العلم ، وتبجيلاً له ( صلى الله عليه وسلم ) بما يبدي من الجواب ، وتفضيلاً بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب ، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد ، وتقريعاً لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلاً لهم ، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان ، وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه ، ذكره سبحانه قائلاً : ( قال ( مفتتحاً بالتنزيه ) سبحانك ) أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص ، ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعاً منه فقال : ( ما يكون لي ) أي ما ينبغي ولا يصح أصلاً ) وأن أقول ) أي في وقت من الأوقات ) ما ليس لي ( وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال : ( بحق ( .
ولما بادر عليه السلام إعظاماً للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل عنه ، أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه : أنت أعلم ، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة إلى تبكيت من ادّعاه له ، فقال دالاً على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع : ( إن كنت قلته ) أي مطلقاً للناس أو حدثت به نفسي ) فقد علمته ( وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة ؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال : ( تعلم ( ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات ، وكان القول يطلق على النفس ، (2/574)
صفحة رقم 575
فإذا انتفى انتفى اللساني ، قالك ) ما في نفسي ) أي وإن اجتهدت في إخفائه ، فإنه خلقك ، وما أنا له إلا آلة ووعاء ، فكيف به إن كنت أظهرته .
ولما أثبت له سبحانه ذلك ، نفاه عن نفسه توبيخاً لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة : ( ولا أعلم ما في نفسك ) أي ما أخفيته عني من الأشياء ؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله : ( إنك أنت ) أي وحدك لا شريك لك ) علام الغيوب ( .
ولما نفى عن نفسه ما يستحق النفي ودل عليه ، أثبت ما قاله لهم على وجه مصرح بنفي غيره ليكون ما نسب إليه من دعوى الإلهية منفياً مرتين : إشارة وعبارة ، فقال معبراً عن الأمر بالقول مطابقة للسؤال ، وفسر بالأمر بياناً لأن كل ما قاله من مباح أو غيره دائر على الأمر من حيث الإعتقاد بمعنى أن المخاطب بما قاله الرسول مأمور بأن يعتقد فيه أنه بتلك المنزلة ، لا يجوز أن يعتقد فيه أنه فوقها ولا دونها ، يعبد الله تعالى بذلك : ( ما قلت لهم ) أي ما أمرتهم بشيء من الأشياء ) إلا ما أمرتني به ( ثم فسره دالاً بشأن المراد بالقول الأمر بالتعبير في تفسيره بحرف التفسير بقوله : ( أن اعبدوا ) أي ما أمرتهم إلا بعبادة ) الله ) أي الذي لم يستجمع نعوت الجلال والجمال أحد غيره ؛ ثم أشار غلى أنه كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فقال : ( ربي وربكم ) أي أنا وأنتم في عبوديته سواء ، وهذا الحصر يصح أن يكون للقلب على أن دون بمعنى غير ، وللإفراد على أنها بمعنى سفول المنزلة ، وهو من بدائع الأمثلة .
ولما فهم ( صلى الله عليه وسلم ) من هذا السؤال أن أتباعه غلوا في شأنه ، فنزه الله سبحانه وعز شأنه من ذلك وأخبره بما أمر الناس به في حقه سبحانه من الحق ، اعتذر عن نفسه بما يؤكد ما مضى نفياً وإثباتاً فقال : ( وكنت عليهم ) أي خاصة لا على غيرهم .
ولما كان سبحانه قد أرسله شاهداً ، زاد في الطاعة في ذلك إلى أن بلغ جهده كإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فقال معبراً بصيغة المبالغة : ( شهيداً ) أي بالغ الشهادة ، لا أرى فيهم منكراً إلا اجتهدت في إزالته ) ما دمت فيهم ( وأشار إلى الثناء على الله بقوله : ( فلما توفيتني ) أي رفعتني إلى السماء كامل الذات والمعنى مع بذلهم جهدهم في قتلي ) كنت أنت ) أي وحدك ) الرقيب ) أي الحفيظ القدير ) عليهم ( لا يغيب عليك شيء من أحوالهم ، وقد منعتهم أنت أن يقولوا شيئاً غير ما أمرتهم أنا به من عبادتك بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم على لساني من البينات ) وأنت على كل شيء ) أي منهم ومن غيرهم حيوان وجماد ) شهيد ) أي مطلع غاية الاطلاع ، لا يغيب عنك شيء منه سواء كان في عالم الغيب أو الشهادة ، فإن كانوا قالوا ذلك فأنت تعلمه دوني ، لأني لما بعدت عنهم في المسافة انقطع علمي عن أحوالهم .(2/575)
صفحة رقم 576
المائدة : ( 118 - 120 ) إن تعذبهم فإنهم. .. . .
) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ( )
ولما كان هذا الذي سلف كله سؤالاً وجواباً وإخباراً حمد الله تعالى وثناء عليه بما هو أهله بالتنزيه له والاعتراف بحقه والشهادة له بعلم الخفايا والقدرة والحكمة وغير ذلك من صفات الجلال والجمال ، وكان هذا السؤال يفهم إرادة التعذيب للمسؤول عنهم مشيراً إلى الشفاعة فيهم على وجه الحمد لله سبحانه وتعالى والثناء الجميل عليه لأن العذاب ولو للمطيع عدل ، والعفو عن المعاصي بأيّ ذنب كان فضل مطلقاً ، وغفران الشرك ليس ممتنعاً بالذات ، قال : ( إن تعذبهم ) أي القائلين بهذا القول ) فإنهم عبادك ) أي فأنت جدير بأن ترحمهم ولا اعتراض عليك في عذابهم لأن كل حكمك عدل ) وإن تغفر لهم ) أي تمح ذنوبهم عيناً وأثراً ) فإنك أنت ) أي خاصة أنت ) العزيز ( فلا أحد يعترض عليك ولا ينسبك إلى وهن ) الحكيم ( فلا تفعل شيئاً إلا في أعلى درج الإحكام ، لا قدرة لأحد على تعقيبه ولا الاعتراض على شيء منه .
ولما انقضى جوابه عليه الصلاة والسلام على هذا الوجه الجليل ، تشوف السامع إلى جواب الله له ، فقال تعالى مشيراً إلى كون جوابه حقاً ومضمونه صدقاً ، منبهاً على مدحه حاثاً على ما بنيت عليه السورة من الوفاء بالعقود : ( قال الله ) أي الملك المحيط بالجلال والإكرام جواباً لكلامه ) هذا ) أي مجموع يوم القيامة ؛ ولما كان ظهور الجزاء النافع هو المقصود قال : ( يوم ( هذا على قراءة الجماعة بالرفع ، وقراءة نافع بالنصب غير منون أيضاً لإضافته إلى متمكن بمعنى : هذا الذي ذكر واقع ؛ أو قال الله هذا الذي تقدم يوم ) ينفع الصادقين ) أي العريقين في هذا الوصف نفعاً لا يضرهم معه شيء ) صدقهم ) أي الذي كان لهم في الدنيا وصفاً ثابتاً ، فحداهم على الوفاء بما عاهدوا عليه ، فكأنه قيل : ينفعهم بأيّ شيء ؟ فقال : ( لهم جنات ) أي هي من ريّ الأرض الذي يستلزم زكاء الشجر وطيب الثمر بحيث ) تجري ( ولما كان تفرق المياه في الأراضي أبهج ، بعض فقال : ( من تحتها الأنهار ( ولما كان مثل هذا لا يريح إلا إذا دام قال : ( خالدين فيها ( وأكد معنى ذلك بقوله : ( أبداً ( .
ولما كان ذلك لا يتم إلا برضى المالك قال : ( رضي الله ) أي الذي له صفات الكمال ) عنهم ) أي بجميع ما له من الصفات ، وهو كناية عن أنه أثابهم بما يكون من الراضي ثواباً متنوعاً بتنوع ما له من جميع صفات الكمال والجمال ؛ ولما كان ذلك لا يكمل ويبسط ويجمل إلا برضاهم قال : ( ورضوا عنه ( يعني أنه لم يدع لهم شهوة إلا(2/576)
صفحة رقم 577
أنالهم إياها ، وقال ابن الزبير بعدما أسلفته عنه : فلما طلب تعالى المؤمنين بالوفاء فيما نقض به غيرهم ، وذكّرهم ببعض ما وقع فيه النقض وما أعقب ذلك فاعله ، وأعلمهم بثمرة التزام التسليم والمتثال ، أراهم جل وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته ، فقال تعالى
77 ( ) وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنت قلت للناس ( ) 7
[ المائدة : 116 ] إلى قوله - ) هذا يوم ينفع الصادقين ( - إلى آخرها .
فيحصل من جملتها الأمر بالوفاء فيما تقدمها وحالُ من حاد ونقض ، وعاقبة من وفى ، وأنهم الصادقون ، وقد أمرنا أن نكون معهم
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( ) 7
[ التوبة : 119 ] - انتهى .
ولما كان سبحانه قد أمرهم أول السورة بالوفاء شكراً على ما أحل لهم في دنياهم ، ثم أخبر أنه زاد الشاكرين منهم ورقاهم إلى أن أباحهم أجلّ النفائس في أخراهم ، ووصف سبحانه هذا الذي أباحه لهم إلى أن بلغ في وصفه ما لا مزيد عليه ، أخذ يغبطهم به فقال : ( ذلك ) أي الأمر العالي لا غيره ) الفوز العظيم ( .
ولما كان هذا الذي أباحه لهم وأباحهم إياه لا يكون إلا بأسباب لا تسعها العقول ، ولا تكتنه بفروع ولا أصول ، علل إعطاءه إياه وسهولته لديه بقوله مشيراً إلى أن كل ما ادعيت فيه الإلهية مما تقدم في هذه السورة وغيرها بعيد عن ذلك ، لأنه ملكه وفي ملكه وتحت قهره : ( الله ) أي الملك الذي لا تكتنه عظمته ولا تضعف قدرته ، لا لغيره ) ملك السماوات ( بدأ بها لأنها أشرف وأكبر ، وآياتها أدل وأكثر ) والأرض ( على اتساعهما وعظمهما وتباعد ما بينهما ) وما فيهن ) أي من جوهر وعرض .
ولما كان ذلك أنهى ما نعلمه ، عمم بقوله : ( وهو على كل شيء ) أي من ذلك وغيره من كل ما يريد ) قدير ( فلذلك هو يحكم ما يريد لأنه هو الإله وحده ، وهو قادر على إسعاد من شاء وإشقاء من شاء ، وإحلال ما شاء وتحريم ما شاء ، والحكم بما يريد ونفع الصادقين الموفين بالعقود الثابتين على العهود ، لأن له ملك هذه العوالم وما فيها مما ادعى فيه الإلهية من عيسى وغيره ، والكل بالنسبة إليه أموات ، بل موات جديرون بأن يعبر عنهم ب ( ما ) لا ب ( من ) ، فمن يستحق معه شيئاً ومن يملك معه ضراً أو نفعاً وقد انطبق آخر السورة على أولها كما ترى أي انطباق ، واتسقت جميع آياتها أخذاً بعضها بحجز بعض أيّ اتساق ؛ فسبحان من أنزل هذا القرآن على أعظم البيان مخجلاً لمن أباه من الأمم ، معجزاً لأصحاب السيف والقلم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
.. . .(2/577)
صفحة رقم 578
سورة الأنعام
الأنعام : ( 1 - 2 ) الحمد لله الذي. .. . .
) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ( } )
مقصودها الاستدلال على ما دعا إليه الكتابُ في السورة الماضية من التوحيد بأنه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة عل البعث وغيره ، وأنسب الأشياء المذكورة فيها لهذا المقصد الأنعام ، لأن الإذن فيها - كما يأتي - مسبب عما ثبت له من الفلق والتفرد بالخلق ، تضمن باقي ذكرها إبطال ما اتخذوه من أمرها ديناً ، لأنه لم يأذن فيه ولا أذن لأحد معه ، لأنه المتوحد بالإلهية ، لا شريك له ، وحصر المحرمات من المطاعم التي هي جُلُّها في هذا الدين وغيره ، فدل ذلك على إحاطة علمه ، وسيأتي في سورة طه البرهان الظاهر على أن إحاطة العلم ملزومة لشمول القدرة وسائر الكمالات ، وذلك عين مقصود السورة ، وقد ورد من عدة طرق - كما بينتُ ذلك في كتابي ( مصاعد النظر ) أنها نزلت جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك ، لهم زجل بالتسبيح ، وفي رواية : إن نزولها كان ليلاً ، وإن الأرض كانت ترتج لنزولها .
وهي كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة والقدرية وأهل الملل(2/578)
صفحة رقم 579
الزائغة ، وعليها مبنى أصول الدين لاشتمالها على التوحيد والعدل ولنبوة والمعاد وإبطال مذاهب الملحدين ، وإنزالها على الصورة المذكورة يدل على أن أصول الدين في غاية الجلالة ، وأن تعلّمه واجب على الفور لنزولها جملة ، بخلاف الأحكام فإنها تفرق بحسب المصالح ، ولنزولها ليلاً دليلٌ على غاية البركة لأنه محل الأنس بنزوله تعالى إلى سماء الدنيا ، وعلى أن هذا العلم لا يقف على أسراره إلا البصراء الأيقاظ من سنة الغفلات ، أولو الألباب أهل الخلوات ، والأرواح الغالبة على الأبدان وهم قليل .
) بسم الله ( الذي بين دلائل توحيده بأنه الجامع لصفات الكمال ) الرحمن ( الذي أفاض على سائر الموجودات من رحمته بالإيجاد والإعدام ما حيَّر لعمومه الأفهام ، فضاقت به الأوهام ) الرحيم ( الذي حبا أهل الإيمان بنور البصائر حتى كان الوجود ناطقاً لهم ، بالإعلام بأنه الحي القيوم السلام .
) الحمد ) أي الإحاطة بأوصاف الكمال ) لله ( .
لما ختم سبحانه تلك بتحميد عيسى عليه السلام لجلاله في ذلك اليوم في ذلك الجمع ، ثم تحميد نفسه المقدسة بشمول الملك والقدرة ، إذ الحمد هو الوصف بالجميل ؛ افتتح سبحانه وتعالى هذه السورة بالإخبار بأن ذلك الحمد وغيره من المحامد مستحق له استحقاقاً ثابتاً دائماً قبل إيجاد الخلق وبعد إيجاده سواء شكره العباد أو كفروه ، لما له سبحانه وتعالى من صفات الجلال والكمال - على ما تقدمت الإشارة إليه في الفاتحة - فأتى بهذه الجملة الاسمية المفتتحة باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أنواعه الدالة على الاستغراق ، إما بأن اللام له عند الجمهور ، أو بأنها للجنس - كما هو مذهب الزمخشري ، ويؤول إلى مذهب الجمهور ، فإن الجنس إذا كان مختصاً به لم يكن فردٌ منه لغيره ، إذ الجنس لا يوجد إلا ضمن أفراده ، فمتى وجد فرد منه لغيره كان الجنس موجوداً فيه فلم يكن الجنس مختصاً به وقد قلنا : إنه مختص ، وهذا التحميد صار بوصفه فرداً من أفراد تحميد الفاتحة تحقيقاً لكونها أمّاً ، وعقبها سبحانه بالدليل الشهودي على ما ختم به تلك من الوصف بشمول القدرة بوصفه بقوله : ( الذي خلق ( .
ولما كان تعدد السماوات ظاهراً بالكواكب في سيرها وحركاتها في السرعة والبطوء واستتار بعضها ببعض عند الخسوف وغيره وغير ذلك مما هو محرر عند أهله : جمعها فقال : ( السماوات ) أي على علوها وإحكامها ، قدمها لما تقدم قريباً ) والأرض ) أي على تحليها بالمنافع وانتظامها .
ولما كان في الجعل معنى التضمن فلا يقوم المجعول بنفسه قال : ( وجعل ) أي أحدث وأنشأ لمصالحكم ) الظلمات ) أي الأجرام المتكاثفة كما تقدم ) والنور ( وجمع الأول تنبيهاً على أن طرق الشر والهلاك كثيرة تدور على الهوى ، وقد تقرر بهذا(2/579)
صفحة رقم 580
ما افتتح به السورة ، لأن من تفرد باختراع الأشياء كان هو المختص بجميع المحامد ، ومن اختص بجميع المحامد لم يكن إله سواه ولم يكن له شريك ، لا ثاني اثنين ولا ثالث ثلاثة ولا غير ذلك ، وما أحسن ختمها - بعد الإشارة إلى هذه المقاصد المبعدة لأن يكفر به أو يعدل به شيء - بقوله : ( ثم الذين كفروا ) أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من أدلة وحدانيته التي لا خفاء بها عن أحد جرّد نفسه من الهوى ، وعالج أدواءه بأنفع دواء ، لإحاطته بجميع صفات الكمال ، وزاد الأمر تقبيحاً عليهم بإبدال ما كان الأصل في الكلام من الضمير بقوله : ( بربهم ) أي المحسن إليهم الذي لم يروا إحساناً إلا منه ) يعدلون ) أي يجعلون غيره ممن لا يقدر على شيء معادلاً له مع معرفتهم به بأنه الذي أبدع الأشياء ، كفراً لنعمته وبُعداً من رحمته ، فبعضهم عدل به بعض الجواهر من خلقه من السماء كالنجوم ، أو من الأرض كالأصنام ، أو بعض ما ينشأ عن بعض خلقه من الأعراض وهو خلقه كالنور والظلمة ، والحال أن تقلباتهما تدل بأدنى النظر على أمرين : الأول بُعدهما عن الصلاحية للإلهية لتغيرهما
77 ( ) قال لا أحب الآفلين ( ) 7
[ الأنعام : 76 ] ، والثاني قدرة خالقهما ومغيرهما على البعث لإيجاد كل منهما بعد إعدامه كما هو شأن البعث - إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار ، وتقديمُ الظلمة مناسب لسياق العادلين ، والتعبير بثم للتنبيه على ما كان ينبغي لكل راوٍ لهذا الخلق من الإبعاد عن الكفر لبعده عن الصواب ، فقد لاح أن مقصد السورة الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب الذي تبين أنه الهدى من توحيد الله والاجتماع عليه والوفاء بعهوده بأنه سبحانه وحده الخالق الحائز لجميع الكمالات من القدرة على البعث وغيره ، وما أنسب ذلك بختم المائدة بذكر يوم الجمع وأن لِمَلِكِه جميع الملك ، وهو على كل شيء قدير ، وهذه السورة أول السور الأربع المشيرة إلى جميع النعم المندرجة تحت النعم الأربع التي اشتملت عليها الفاتحة ، وكل سورة منها مشيرة إلى نعمة من النعم الأربع ، فقوله : ( خلق السماوات والأرض ( - الآية ثم ) خلقكم من طين ( ثم
77 ( ) وما من دابة في الأرض ( ) 7
[ الأنعام : 38 ] - الآية ، متكفل بتفصيل نعمة الإيجاد الأول لجميع العالمين من السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من آدمي وغيره المشار إليه في الفاتحة برب العالمين كما تقدم .
ولما تكفلت السور المتقدمة بالرد على مشركي العرب واليهود والنصارى مع الإشارة إلى إبطال جميع أنواع الشرك ، سيق مقصود هذه السورة في أساليب متكفلة بالرد على بقية الفرق ، وهم الثنوية من المجوس القائلون بإلهين اثنين وبأصلين : النور والظلمة ، ويقرون بنبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقط ، والصابئة القائلون بالأوثان(2/580)
صفحة رقم 581
السماوية والأصنام الأرضية متوسطين إلى رب الأرباب ، وينكرون الرسالة في الصورة البشرية ، وأصحاب الروحانيات ، أعني مدبرات الكواكب والأفلاك ، وينتسبون إلى ملة إبراهيم عليه السلام ، ويدعون أنه منهم - وقد أعاذه الله من ذلك ، والسُّمْنية القائلون بإلهية الشمس ، مع تأكيد الرد على الفرق المتقدمة على أن جميع فرقهم يجتمعون في اعتبار النجوم ، يتبين ذلك لمن نظر في كتب فتوح بلاد الفرس في أيام الصديق والفاروق رضي الله عنهما ، وقال تنكلوشا البابلي في أول كتابه في أحكام الدرج الفلكية : إن القدماء من الكسدانيين استنبطوا غوامض أسرار الفلك ، وكان عندهم أجل العلوم ولم يكونوا يظهرون علم الفلك لكل الناس ، بل كانوا يخفون أكثره عن عامتهم ، ويعطونهم منه بمقدار ما يصلح ، ويتدارسون الباقي بينهم مطوياً بين علمائهم وحكمائهم ، ثم ذكر تقسيمهم درج الفلك على ثلاثمائة وستين ، ثم قال : وقسموا الدرج أقساماً كثيرة حتى قالوا : إن بعضها ذكور وبعضها إناث ، وبعضها مسعدة وبعضها منحسة ، ثم قال : كل ذلك يريدون فيه الدلالة منها على ما تدل عليه في عالمنا وعلى أحوالنا حتى جعلوا لكل درجة عالماً وخلقاً منفرداً بمدته ، وأن ذلك العالم والخلق يندرسون وينشأ بعدهم غيرهم - إلى غير ذلك من الكلام الذي يرجع إلى اعتقاد تأثير النجوم بنفسها - تعالى الله عن أن يكون له شريك أو يكون له كفواً أحد .
ولما قرر سبحانه أنه هو الذي خلق المساوات والأرض اللتين منهما وفيهما الأصنام والكواكب والأجرام التي عنها النور والظلمة ، فثبت وجوده على ما هو عليه من الإحاطة بأوصاف الكمال التي أثبتها الحمد ، فبطلت جميع مذاهبهم ، فعجب منهم بكونهم يعدلون به غيره ، أتبع ذلك اختصاصه بخلق هذا النوع البشري ، وهو - مع ما فيه من الشواهد له بالاختصاص بالحمد والرد على المُطرِين لعيسى عليه السلام المخلوق من الطين بخلق أبيهم آدم عليه السلام - مؤكدٌ لإبطال مذهب الثنوية ، وذلك أنهم يقولون : إن النار خالق الخير ، والظلمة خالقة الشر ، فإذا ثبت أنه الخالق لنوع الآدميين الذين منهم الخير والشر من شيء واحد ، وهو الطين الذي ولد منه المني الذي جعل منه الأعضاء المختلفة في اللون والصورة والشكل من القلب وغيره من الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف ، والرباطات والأوتار ، ثبت أن خالق أوصافهم من الخير والشر واحد قدير عليم ، لأن توليد الصفات المختلفة من المادة المتشابهة لا يكون إلا ومبدعه واحد مختار ، لا اثنان ، وهو الذي خلق الأرض التي منها أصلهم ، وهو الله الذي اختص(2/581)
صفحة رقم 582
بالحمد فقال : ( هو الذي خلقكم ( ولما كانوا يستبعدون البعث لصيرورة الأموات تراباً واختلاط تراب الكل بعضه ببعض وبتراب الأرض ، فيتعذر التمييز ، وكان تمييز الطين لشدة اختلاط أجزائه بالماء أعسر من تميز التراب قال : ( من طين ) أي فميز طينة كل منكم - مع أن منكم الأسود والأبيض وغير ذلك والشديد وغيره - من طينة الآخر بعد أن جعلها ماء ثخيناً له قوة الدفق ونماها إلى حيث شاء من الكبر .
ولما كان من المعلوم أن ما كانا من شيء واحد كانت مدة بقائهما واحدة ، نبه بأداة التراخي على كمال قدرته واختياره من المفاوتة بين الآجال فقال : ( ثم قضى ) أي حكم حكماً تاماً وبتّ وأوجد ) أجلاً ) أي وقتاً مضروباً لانقضاء العمر وقطع التأخر لكل واحد منكم خيراً كان أو شريراً ، قوياً كان أو ضعيفاً ، من أجل يأجل أجولاً - إذا تأخر ، وجعل تلك الآجال - مع كونها متفاوتة - متقاربة لا مزية لأحد منكم بصفة على آخر بصف ةمغاترة لها ، وفاعل ذلك لا يكون إلا واحداً فاعلاً باختيار .
ولما ذكر الأجل الأول الذي هو الإبداع من الطين إشارة إلى ما فرع منه من الآجال المتفاوتة ، ذكر الأجل الآخر الجامع للكل ، لأن ذكر البداية يستدعي ذكر النهاية ، فقال مشيراً إلى تعظيمه بالاستئناف والتنكير : ( وأجل ) أي عظيم ) مسمى ) أي لكم أجمعين لانقضاء البرزخ للإعادة التي هي في مجاري عاداتكم أهون من الابتداء لمجازاتكم والحكم بينكم الذي هو محط حكمته ومظهر نعمته ونقمته في وقت واحد ، يتساوى فيه الكل ، وستر علمه عن الكل كما أشار إليه بالتنكير ، وهذا لا يصح أن يكون إلا لواحد ، لا متعدد ، وإلا لتباينت المقادير والإرادات وانشق كل مقدور في صنف لا يتعداه ، وإلا لعلا بعضهم على بعض وانهتكت أسرار البعض بالبعض - سبحان الله وتعالى عما يصفون ، وغير السياق إلى الاسمية إشارة إلى اختصاصه بعلمه وأنه ثابت لا شك فيه ويؤكده إثبات قوله : ( عنده ( في هذه الجملة وحذفها من الأولى هنا وفي قوله
77 ( ) ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ( ) 7
[ الأنعام : 60 ] ، وقدم المبتدأ مع تنكيره - والأصل تأخيره - إفادة لتعظيمه .
ولما كان في هذا البيان لوحدانيته وتمام قدرته لا سيما على البعث الذي هو مقصود حكمته ما يبعد معه الشك في الإعادة ، أشار إليه بأداة التراخي وصيغة الافتعال فقال : ( ثم أنتم تمترون ) أي تكلفون أنفسكم الشك في كل من الوحدانية والإعادة التي هي أهون على مجاري عاداتكم من الابتداء بتقليد الآباء ، والركون إلى مجرد الهوى والإعراض عن الأدلة التي هي أظهر من ساطع الضياء ، وهذه الآية نظير آية الروم
77 ( ) أولم يتفكروا في أنفسهم ( ) 7
[ الروم : 8 ] أي كيف خلقهم الله من طين ، وسلط بعضهم(2/582)
صفحة رقم 583
على بعض بالظلم والعدوان ، وجعل لهم آجالاً فاوت بينها وساوى في ذلك بين الأصل والفرع ، فأنتج هذا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، أي بسبب إقامة العدل في جميع ما وقع بينكم من الاختلاف كما هو شأن كل مالك في عبيده ) وأجل مسمى ( - الآية .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما بين سبحانه وتعالى حال المتقدمين وهو الصراط المستقيم ، وأوضح ما يظهر الحذر من جانبي الأخذ والترك ، وبين حال من تنكب عنه ممن كان قد يلمحه ، وهم اليهود والنصارى ، وكونهم لم يلتزموا الوفاء به وحادوا عما أنهج لهم ، وانقضى أمر الفريقين ، ذماً لحالهم وبياناً لنقضهم وتحذيراً للمتقين أن يصيبهم ما أصابهم ، وختم ذلك ببيان حال المؤقنين في القيامة يوم ينفع الصادقين صدقهم ، وقد كان انجرّ مع ذلك ذكر مشركي العرب وصممهم عن الداعي وعماهم عن الآيات ، فكانوا أشبه بالبهائم منهم بالأناسي ، أعقب ذلك تعالى بالإشارة غلى طائفة مالت إلى النظر والاعتبار ، فلم توفق لإصابة الحق وقصرت عن الاستضاءة بأنوار الهدى .
وليسوا ممن يرجع إلى شريعة قد حرفت وغيرت ، بل هم في صورة من هَمَّ ، أن يهتدي بهدى الفطرة ويستدل بما بسط الله تعالى في المخلوقات فلم يمعن النظر ولم يوفق فضلَّ وهم المجوس وسائر الثنوية ممن كان قصارى أمره نسبة الفعل إلى النور والإظلام ، ولم يكن تقدم لهؤلاء ذكر ولا إخبار بحال فقال تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ( فبدأ تعالى بذكر خلق السماوات والأرض التي عنها وجد النور والظلمة ، إذ الظلمة ظلال هذه الأجرام ، والنور عن أجرام نيرة محمولة فيها وهي الشمس والقمر والنجوم ، فكان الكلام : الحمد لله الذي أوضح الأمر لمن اعتبر واستبصر ، فعلم أن وجود النور والظلمة متوقف بحكم السببية التي شاءها تعالى على وجود أجرام السماوات والأرض وما أودع فيها ، ومع بيان الأمر في ذلك حاد عنه من عمي عن الاستبصار
77 ( ) ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( ) 7
[ الأنعام : 1 ] وقوله تعالى :
77 ( ) هو الذي خلقكم من طين ( ) 7
[ الأنعام : 2 ] مما يزيد هذا المعنى وضوحاً ، فإنه تعالى ذكر أصلنا والمادة التي عنها أوجدنا ، كما ذكر للنور والظلمة ما هو كالمادة ، وهو وجود السماوات والأرض ، وأشعر لفظ ) جعل ( بتوقف الوجود بحسب المشيئة على ما ذكر ، وكان قد قيل : أيّ فرق بين وجود النور والظلمة عن وجود السماوات والأرض وبين وجودكم عن الطين حتى يقع امتراء فيه عن نسبة الإيجاد إلى النور والظلمة ، وهما لم يوجدا إلا بعد مادة أو سبب كما طرأ في إيجادكم ؟ فالأمر في ذلك أوضح شيء
77 ( ) ثم أنتم تمترون ( ) 7
[ الأنعام : 2 ] ثم مرت السورة من أولها إلى آخرها منبهة على بسط الدلالات في الموجودات مع التنبيه على أن ذلك لا(2/583)
صفحة رقم 584
يصل إلى استثمار فائدته إلا من هيئ بحسب السابقة فقال تعالى :
77 ( ) إنما يستجيب الذين يسمعون ( ) 7
[ الأنعام : 36 ] ثم قال تعالى :
77 ( ) والموتى يبعثهم الله ( ) 7
[ الأنعام : 36 ] ، وهو - والله أعلم - من نمط ) أو من كان ميتاً فأحييناه ( ، أجمل هنا ثم فسر بعد في السورة بعينها ، والمراد أن من الخلق من جعله الله سامعاً مطيعاً متيقظاً معتبراً بأول وهلة ، وقد أري المثال سبحانه وتعالى في ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام في قوله :
77 ( ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ( ) 7
[ الأنعام : 75 ] ، فكأنه يقول لعباده المتقين : تعالوا فانهجوا طريق الاعتبار ملة أبيكم إبراهيم كيف نظر عليه السلام نظر السامع المتيقظ فلم يعرج في أول نظره على ما سبب وجوده بيِّنٌ فيحتاج فيه إلى غرض في الكواكب والقمر والشمس ، بل نظر فيما عنه صدر النور ، لا في النور ، فلما جن عليه الليل رأى كوكباً ، فتأمل كونه عليه ا لسلام لم يطول النظر بالتفات النور ، ثم كان يرجع إلى اعتبار الجرم الذي عنه النور ، بل لما رأى النور عن أجرام سماوية تأمل تلك الأجرام وما قام بها من الصفات ، فرأى الأفول والطلوع والانتقال والتقلب فقال : هذا لا يليق بالربوبية لأنها صفات حدوث ، ثم رقى النظر إلى القمر والشمس فرأى ذلك الحكم جارياً فيهما فحكم بأن وراءها مدبراً لها يتنزه عن الانتقال والغيبة والأفول فقال :
77 ( ) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ( ) 7
[ الأنعام : 79 ] وخص عليه السلام ذكر هذين لحملهما أجرام النور وسببيتهما في وجود الظلمة ، ثم تأمل هذا النظر منه عليه السلام وكيف خص بالاعتبار أشرف الموجودين وأعلاهما ، فكان في ذلك وجهان من الحكمة : أحدهما علو النظر ونفوذ البصيرة في اعتبار الأشرف الذي إذا بان منه الأمر فهو فيما سواه أبين ، فجمع بين قرب التناول وعلو التهدي ، والوجه الثاني التناسب بين حال الناظر والمنظور فيه والتناول والجري على الفطرة العلية ( وهو من قبيل أخذ نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) اللبن حين عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن ، فقيل له : اخترت الفطرة فكان قد قيل : هذا النظر والاعتبار بالهام ، لا نظر من أخلد إلى الأرض فعمد الضياء والظلام ، وينبغي أن يعتمد في قصة إبراهيم عليه السلام في هذا الاعتبار أنه ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ( هذا ربي ( إنما قصد قطع حجة من عبد شيئاً من ذلك إذ كان دين قومه ، فبسط لهم الاعتبار والدلالة ، وأخذ يعرض ما قد تنزه قدرُه عن الميل إليه ، فهو كما يقول(2/584)
صفحة رقم 585
المناظر لمن يناظره : هب أن هذا على ما تقول .
يريد بذلك إذعان خصمه واستدعاءه للاعتبار حتى يكون غير مناظر له ما لا يعتقده ، ليبني على ذلك مقصوده ليقلع خصمه وهو على يقين من أمره ، فهذا ما ينبغي أن يعتمد هنا لقول يوسف عليه السلام
77 ( ) ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ( ) 7
[ يوسف : 38 ] ، فالعصمة قد اكتنفتهم عما يتوهمه المبطلون ويتقوله المفترون ، ويشهد لما قلناه قوله تعالى :
77 ( ) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ( ) 7
[ الأنعام : 83 ] فهذه حال من علت درجته من الذين يسمعون ، فمن الخلق من جعله الله سامعاً بأول وهلة وهذا مثال شاف في ذلك ، ومنهم الميت ، و الموتى على ضربين : منهم من يزاح عن جهله وعمهه ، ومنهم من يبقى في ظلماته ميتاً لا حراك به ، يبين ذلك قوله تعالى :
77 ( ) أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ( ) 7
[ الأنعام : 122 ] ؛ ولما كانت السورة متضمنة جهات الاعتبار ومحركة إلى النظر ومعلنة من مجموع آيها أن المعتبر والمتأمل - وإن لم يكن متيقظاً بأول وهلة ، ولا سامعاً أول محرك ، ولا مستجيباً لأول سامع - قد ينتقل حاله عن جموده وغفلته إلى أن يسمع ويلحق بمن كان يتيقظ في أول وهلة ؛ ناسب تحريكُ العباد وأمرهم بالنظر أن تقع الإشارة في صدر السورة إلى حالتين : حالة السامعين لأول وهلة ، وحالة السامعين في ثاني حال ، فقيل :
77 ( ) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ( ) 7
[ الأنعام : 36 ] ولم تقع هنا إشارة غلى القسم الثالث مع العلم به ، وهو الباقي على هموده وموته ممن لم يحركه زاجر ولا واعظ ولا اعتبار ، ولأن هذا الضرب لو ذكر هنا لكان فيه ما يكسل من ضعفت همته ، رجعت حالةُ ابتدائه ، فقيل : ( والموتى يبعثهم الله ( وأطلق ليعمل الكل على هذا البعث من الجهل والتيقظ من سِنة الغفلة كما دعا لكل إلى الله دعاء واحداً فقيل : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ( ثم اختلفوا في إجابة الداعي بحسب السوابق هكذا ، وردّ هذا ) والموتى يبعثهم الله ( إسماعاً للكل ، وفي صورة التساوي مناسبة للدعاء لتقوم الحجة على العباد ، حتى إذا انبسطت الدلائل وانشرحت الصدور لتلقيها وتشبثت النفوس وتعلقت بحسب ما قدر ، وفاز بالخير أهله ، قال تعالى بعد آي :
77 ( ) أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ( ) 7
[ الأنعام : 122 ] وكان قد قيل لمن انتقل عن حالة الموت فرأى قدر نعمة الله عليه بإحيائه : هل يشبه الآن حالك النيرة - بما منحت حين اعتبرت - بحالك الجمادية ؟ فاشكر ربك واضرع إليه في طلب الزيادة ، واتعظ بحال من لزم حال موته فلم تغن عنه الآيات ، وهو المشار إليه بقوله : ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ( ) إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ( ) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا(2/585)
صفحة رقم 586
عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ( ) ) سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( ) [ البقرة : 6 ] وكان القسم المتقدم الذي سمع لأول وهلة لم يكن ليقع ذكره هنا من جهة قصد أن أراه قدر هذه النعمة وإنقاذ المتصف بها من حيرة شك موقعها فيما تقدم من قوله ) ) إنما يستجيب الذين يسمعون ( ) [ الأنعام : 36 ] فذكر هنا ما هو واقع في إراءة قدر نعمة الإنقاذ والتخليص من عمى الجهل ، هذا حال من انتقل بتوفيق الله وحال من بقي على موته ، أو يكون الضربان قد شملهما قوله ) ) أو من كان ميتاً فأحييناه ( ) [ الأنعام : 122 ] وأما الثاني وهو الذي ثبتت فيه صورة النقل فأمره صريح من الآية وأما الضرب الأول وهو السامع لأول وهلة المكفي المؤنة لواقي العصمة من طوارق الجهل والشكوك ، فدخوله تحت مقتضى هذا اللفظ من حيث إن وقايته تلك أو سماعه بأول وهلة ليس من جهته ولا بما سبق أو تكلف ، بل بإسداء الرحمة وتقديم النعمة ، ولو أبقاه لنفسه أو وكله إليها لم يكن كذلك ) ) وما بكم من نعمة فمن الله ( ) [ النحل : 53 ] ، فبهذا النظر قد تكون الآية قد شملت الضروب الثلاثة وهو أولى ، أما سقوط الضرب الثالث من قوله : ( ) إنما يستجيب الذين يسمعون ( ) [ الأنعام : 36 ] فلِما تقدم - والله أعلم بما أراد ؛ ولما تضمنت هذه السورة الكريمة من بسط الاعتبار وإبداء جهات النظر ما إذا تأمله المتأمل علم أن حجة الله قائمة على العباد ، وأن إرسال الرسل رحمة ونعمة وفضل وإحسان ، وإذا كانت الدلالات مبسوطة والموجودات مشاهدة مفصحة ، ودلالة النظر من سمع وأبصار وأفئدة موودة ، فكيف يتوقف عاقل في عظيم رحمته تعالى بإرسال الرسل فتأكدت الحجة وتعاضدت البراهين ، فلما عرف الخلق لقيام الحجة عليهم بطريقي الإصغاء إلى الداعي والاعتبار بالصنعة ؛ قال تعالى : ( ) قل فللّه الحجة البالغة ( ) [ الأنعام : 149 ] ) ) فقد جاءكم بينة من ربكم وهدة ورحمة ( ) [ الأنعام : 157 ] فيما عذر المعتذر بعد هذا ؟ أتريدون كشف الغطاء ورؤية الأمر عياناً لو استبصرتم لحصل لكم ما منحتم ، ) ) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ( ) [ الأنعام : 158 ] ، ثم ختمت السورة من التسليم والتفويض بما يجدي مع قوله : ( ) فلو شاء لهداكم أجمعين ( ) [ الأنعام : 149 ] وحصل من السور الأربع بيان أهل الصراط المستقيم وطبقاتهم في سلوكهم وما ينبغي لهم التزامه أو تركه ، وبيان حال المتنكبين عن سلوكه من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس - انتهى .
الأنعام : ( 3 - 6 ) وهو الله في. .. . .
) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ(2/586)
صفحة رقم 587
مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالاً على أن العلم بها هو خالقه ، وأن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته : عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو منها ، فلم يكن إلهاً ، وكان الإله هو العالم وحده ، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال أبو سفيان بن حرب يوم الفتح : لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء ، قال تعالى عاطفاً ) هو الذي ( دالاً على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام القدرة والاختيار ، لأن إنكارهم المعاد لأمرين : أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو قادر مختار ، والثاني أنه - على تقدير تسليم الاختيار - غير عالم بالجزئيات ، فلا يمكنه تمييز بدن زيد عن أجزاء بجن عمرو ، فإذا قام الدليل على كمال قدرته سبحانه واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات : الكليات والجزئيات ، زالت جميع الشبهات : ( هو الله ) أي الذي له هذا الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألهاً له وخضوعاً وتعبداً ، وعلق بهذا المعنى قوله : ( في السماوات ( لأن من في الشيء يكون متصرفاً فيه .
ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال : ( وفي الأرض ) أي هذه صفته دائماً على هذا المراد من أنه سبحانه ثابت له هذا الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي العلو والسفل ، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي ، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره ، ضعيف التصرف فيما وراءه ، ومن كان محتاجاً نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية : أين الله ؟ قالت : في السماء ، ومحجوج بحديث : ( أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت(2/587)
صفحة رقم 588
الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ) فإن ظاهره منافٍ لظاهر الأول ، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج ، ومؤيد بصحيح النقل ) ليس كمثله شيء ) أي لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه ، و ( قد كان الله ولا شيء معه ) ، وحديث ( ليس فوقك شيء ) - رواه مسلم والترمذي وابن ماجه في الدعوات وأبو داود في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه - والله الموفق .
ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط ، نسبةُ كل من الخفي والجلي إليه على السواء ، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه ، ثم أقدره على ذلك ؛ قدم الخفي فقال شارحاً لكونه لا يغيب عنه شيء : ( يعلم سركم ( .
ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه ، صرح به فقال : ( وجهركم ( ونسبة كل منها إليه على حد سواء ، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولا بد ؛ ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال ، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع ، ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر فقال : ( ويعلم ما تكسبون ( فأفاد ذلك صفتي السمع والبصر مع إثبات العلم ، فملا تظاهرت الأدلة وتظافرت الحجج وهم عنها ناكبون ، وصل بذلك في(2/588)
صفحة رقم 589
جملة حالية قولَه ، معرضاً عنهم إيذاناً باستحقاقهم شديد الغضب : ( وما تأتيهم ) أي هؤلاء الذين هم أهل للإعراض عنهم ، وأعرق في النفي بقوله : ( من آية ) أي علامة على صحة ما دعاهم إليه رسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبعض بقوله : ( من آيات ربهم ) أي المحسن إليهم بنصب الأدلة وإفاضة العقول وبعث الرسول ) إلاّ كانوا عنها معرضين ) أي هذه صفتهم دائماً قصداً للعناد لئلا يلزمهم الحجة ، ويجوز أن يكون ذلك معطوفاً على ( يعدلون ) .
ولما كان إعراضهم عن النظر سبباً لتكذيبهم ، وهو سبب لتعذيبهم قال : ( فقد كذبوا ) أي أوقعوا تكذيب الصادق ) بالحق ) أي بسبب الأمر الثابت الكامل في الثبات كله .
لأن الآيات كلها متساوية في الدلالة على ما تدل عليه الواحدة منها ) لما جاءهم ) أي لم يتأخروا عند المجيء أصلاً لنظر ولا لغيره ، وذلك أدل ما يكون على العناد .
ولما كان الإعراض عن الشيء هكذا فعل المكذب المستهزئ الذي بلغ بتكذيبه الغايةَ القصوى ، وهي الاستهزاء ، قال : ( فسوف يأتيهم ) أي بوعد صادق لا خلف فيه عند نزول العذاب بهم وإن تأخر إتيانه ) أنباء ما كانوا ( أ يجبلة وطبعاً ) به يستهزئون ) أي يجددون الهزء به بغاية الرغبة في طلبه ، وهو أبعد شيء عن الهزء ، والنبأ : الخبر العظيم ، وهو الذي يكون معه الجزاء ، وأفاد تقديم الظرف أنهم لم يكونوا يهزؤون بغير الحق الكامل - كما ترى كثيراً من المترفين لا يعجب من العجب ويعجب من غير العجب ، أو أنه عد استهزاءهم بغيره بالنسبة إلى الاستهزاء به عدماً .
ولما أخبر بتكذيبهم على هذا الوجه وتوعدهم بتحتم تعذيبهم ، أتبعه ما يجري مجرى الموعظة والنصيحة ، فعجب من تماديهم مع ما علموا من إهلاك من كان أشد منهم قوة وأكثر جمعاً وجنى من سوابغ النعم بما لم يعتبروه فيه مع ما ضموه إلى تحقق أخبارهم من مشاهدة آثارهم وعجيب اصطناعهم في أبنيتهم وديارهم مستدلاً بذلك على تحقيق ما قبله من التهديد على الاستهزاء ، فقال مقرراً منكراً موبخاً معجباً : ( ألم يروا ( ودل على كثرة المخبر عنهم تهويلاً للخبر بقوله : ( كم أهلكنا ( .
ولما كان المراد ناساً معينين لم يستغرقوا زمن القبل ، وهم أهل المكنة الزائدة كقوم نوح وهود وصالح ، أدخل الجار فقال : ( من قبلهم ( وبيَّنَ ) كم ( بقوله : ( من قرن ) أي جماعة مقترنين في زمان واحد ، وهم أهل كل مائة سنة - كما صححه القاموس لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لغلام : ( عش قرناً ) ، فعاش مائة .
هذا نهاية القرن ، والأقرب(2/589)
صفحة رقم 590
أنه لا يتقدر ، بل إذا انقضى أكثر أهل عصر قيل : انقضى القرن ، ودل على ما شاهدوا من آثارهم بقوله : ( مكناهم ) أي ثبتناهم بتقوية الأسباب من البسطة في الأجسام والقوة في الأبدان والسعة في الأموال ) في الأرض ) أي بالقوة والصحة والفراغ ما لم نمكنكم ، ومكنا لهم بالخصب والبسطة والسعة ) ما لم نمكن ) أي تمكيناً لم نجعله ) لكم ) أي نخصكم به ، فالآية من الاحتباك أو شبهه ، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لئلا يلتبس الحال ، لأن ضمير الغائب يصلح لكل من المفضول والفاضل ، ولا يُبقي اللبس التعبيرُ بالماضي في قوله ) وأرسلنا السماء ) أي المطر تسمية للشيء باسم سببه أو السحاب ) عليهم ( .
ولما كان المراد المطر ، كان التقدير : حال كونه ) مدراراً ) أي ذا سيلان غزير متتابع لأنه صفة مبالغة من الدر ، قالوا : ويستوي فيه المذكر والمؤنث .
ولما ذكر نفعهم بماء السماء ، وكان غير دائم ، أتبعه ماء الأرض لدوامه وملازمته للبساتين والرياض فقال : ( وجعلنا الأنهار تجري ( ولما كان عموم الماء بالأرض وبُعده مانعاً من تمام الانتفاع بها ، أشار إلى قربه وعدم عموم الأرض به بالجار فقال : ( من تحتهم ) أي على وجه الأرض وأسكناه في أعماقها فصارت بحيث إذا حفرت نَبَعَ منها من الماء ما يجري منه نهر .
ولما كان من المعلوم أنه من الماء كل شيء حي ، فكان من أظهر الأشياء أنه غرز نباتهم واخضرت سهولهم وجبالهم ، فكثرت زروعهم وثمارهم ، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم ، أعلم سبحانه أن ذلك ما كان إلاّ لهوانهم استدراجاً لهم بقوله مسبباً عن ذلك : ( فأهلكناهم ) أي بعظمتنا ) بذنوبهم ) أي التي كانت عن بطرهم النعمةَ ولم نبال بهم ولا أغنت عنهم نعمهم .
ولما كان الإنسان ربما أبقى على عبده أو صاحبه خوفاً من الاحتياج إلى مثله ، بين أنه سبحانه غير محتاج إلى شيء فقال : ( وأنشأنا ( ولما كان سبحانه لم يجعل لأحد الخلد ، أدخل الجار فقال : ( من بعدهم ) أي فيما كانوا فيه ) قرناً ( ودل على أنه لم يُبق من المهلكين أحداً ، وأن هذا القرن الثاني لا يرجع إليهم بنسب بقوله : ( آخرين ( ولم ينقص ملكُنا شيئاً ، فاحذروا أن نفعل بكم كما فعلنا بهم ، وهذه الآية مثل آية الروم
77 ( ) أو لم يسيروا في الأرض ( ) 7
[ الروم : 9 ] - الآية ، فتمكينهم هو المراد بالشدة هناك ، والتمكين لهم هو المراد بالعمارة ، والإهلاكُ بالذنوب هو المراد بقوله
77 ( ) فما كان الله ليظلمهم ( ) 7
[ الروم : 9 ] و [ التوبة : 70 ] - إلى آخر الآيتين .(2/590)
صفحة رقم 591
الأنعام : ( 7 - 10 ) ولو نزلنا عليك. .. . .
) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ ( ( )
ولما كانت ترجمة ما مضى : ثم هم يعدلون بربهم غيرَه ويكذبونك فيما جئت به من الحق مع ما أوضحت عليه من الحجج ونصبت من الدلائل ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الحرص على إيمانهم ، كان المقام يقتضي أن يقول لسان الحال : أنزل عليهم يا رب ما ينتقلون به من النظر بالفكر إلى العيان كما اقترحوا عليّ ، فأخبره أنهم لا يؤمنون بذلك ، بقوله عطفاً على ) وما تأتيهم من آية ( تحقيقاً له وتصويراً في جريته : ( ولو نزلنا ) أي على ما لنا من العظمة ) عليك كتاباً ) أي مكتوباً من السماء ) في قرطاس ) أي ورق ، إجابة لما أشار عليهم اليهود باقتراحه ، ثم حقق أنه واضح الأمر ، ليس بخيال ولا فيه نوع لبس بقوله : ( فلمسوه ) أي زيادة على الرؤية .
وزاد في التحقيق والتصوير ودفع التجوز بقوله : ( بأيديهم لقال ( وأظهر ولم يضمر تعليقاً للحكم بالوصف وتنبيهاً على أن من الموجودين من يسكت ويؤمن ولو بعد ذلك فقال : ( الذين كفروا ) أي حكماً بتأبد كفرهم ستراً للآيات عناداً ومكابرة ، ولعله أسقطُ منهم إشارة إلى عموم دعوته ، أي من العرب ومن غيرهم من أمة دعوتك ولا سيما اليهود المشار إلى تعنتهم وكذبهم بقوله ) ) يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء ( ) [ النساء : 153 ] ) إن ) أي ما ) هذا إلاّ سحر ) أي تمويه وخيال لا حقيقة له ، وزادوا في الوقاحة فقالوا : ( مبين ) أي واضح ظاهر ، قال صاحب كتاب الزينة : معنى السحر في كلام العرب التعليل بالشيء والمدافعة به والتعزيز بشيء لا محصول له ، يقال : سحره - إذا علله وعزره وشبه عليه حتى لا يدري من أين يتوجه ويقلب عن وجهه ، فكأن السحرة يعللون الناس بالباطل ويشبهون الباطل في صورة الحق ويقلبونه عن جهته .
ولما بين ما يترتب على الإجابة إلى ما أشار إلى أن اليهود اقترحوه من إنزال الكتاب ، أخبر أنهم اقترحوا ظهور الملك لهم ، وبين لوازمه ، فإنهم قالوا : لو بعث الله رسولاً لوجب كونه ملكاً ليكون أكثر علماً وأقوى قدرة وأظهر امتيازاً عن البشر ، فتكون الشبهة في رسالته أقل ، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم كان الأولى تحصيله بما هو أسرع إيصالاً إليه ، فقال : ( وقالوا لولا ) أي هلا ولِمَ لا ) أنزل عليه ملك ) أي من المساء ظاهراً لنا يكلمنا ونكلمه ولا يحتجب عنا .
ولما ذكر قولهم مشيراً إلى شبهتهم ، نقضه بقوله : ( ولو ) أي والحال أنا لو(2/591)
صفحة رقم 592
) أنزلنا ( وأسقط أداة الاستعلاء لعدم الاحتياج في رد كلامهم إلى ذكرها .
ولئلا يكون فيه تسليهم لما لوحوا إليه من إنكارهم نزول الملك عليه بالوحي ) ملكاً ) أي كما اقترحوه ، فلا يخلو إما أن يكون على صورته أولاً ، فإن كان على صورته التي خلق عليها لم يثبتوا لرؤيته ، ولو كان كذلك ) لقضي الأمر ) أي بهلاكهم ، وبناه للمفعول إشارة على طريق طلام القادرين إلى غاية السرعة لسهولة الأمر وخفة مؤنته ، فإنه لا ينظره أحد منهم إلاّ صعق ، ولئن أعطيناهم قوة يثبتون بها لنظره ليكونن قضاءٌ للأمر وانفصال للنزاع من وجه آخر ، وهو أن ذلك كشف للغطاء وفوات للإيمان بالغيب ، وقد جرت عادتنا بالإهلاك عند ذلك ، فإذا هم هالكون على كل من هذين التقديرين ، وهو معنى قوله مهولاً لرتبته بحرف التراخي : ( ثم لا ينظرون ) أي علىحالة من هاتين ، وأما إن جعلناه على صورة يستطيعون نظرها فإنا نجعله على صورة رجل ، فإنها أكمل الصور ؛ وحينئذٍ يقع لهم اللبس الذي وقع لهم بدعائك ، وهو معنى ) ولو جعلناه ) أي مطلوبَهم ) ملكاً ) أي يمكن في مجاري العادات في هذه الدار رؤيتهم له وبقاؤهم بعد رؤيته ) لجعلناه رجلاً ) أي في صورة رجل ، ولكنه عبر بذلك إشارة إلى تمام اللبس حتى أنه لا يشك أحد يراه في كونه رجلاً ، كما كان جبريل عليه السلام ينزل في بعض الأوقات على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في صورة دحية الكلبي ، فإذا رآه بعض الصحابة رضي الله عنهم لم يشك أنه دحية رضي الله عنه ) و ( لو جعلناه رجلاً ) للبسنا عليهم ما يلبسون ) أي لخلطنا عليهم بجعلنا إياه رجلاً ما يخلطونه على أنفسهم وعلى غيرهم في قولهم : إن الرسالة لا تصح من البشر ، فلو كان هذا الذي يقول : إنه رسول رسولاً لكان ملكاً ، فوقع اللبس عليهم بأنه لما كان هذا الذي يقول : إنه رسول ، ملكاً كان رجلاً ، ويجوز أن يقرر ذلك على وجه آخر ، وهو أن يكون ) ولو نزلنا ( في حيز ) كانوا عنها معرضين ( ، أي أعرضوا عنا لو نزلناها عليك في غير قرطاس ، ولو نزلنا عليك من السماء كتاباً في قرطاس فجعلنا لهم في ذلك بين حس البصر واللمس لأعرضوا ، وقال الذين أبَّدْنا كفرَهم عناداً ومكابرة : ما هذا إلاّ سحر ظاهر ، ويكون ) وقالوا ( معطوفاً على ) لقال الذين كفروا ( ويكون ذلك قبل اقتراحهم لذلك بما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الإسراء بقوله
77 ( ) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ( ) 7
[ الإسراء : 90 ] .
إلى آخرها ، فيكون إخباراً بمغيب .
ولما قطع الرجاء لهداية من حكم بشقاوته ، وكان طلبهم لإنزال الملك ونحوه إنما هو على سبيل التعنت والاستهزاء ، وكان ذلك يشق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين رضي الله عنهم غاية المشقة ، التفتت النفس إلى الإراحة منهم وتوقعته لما تقدم من مظاهر(2/592)
صفحة رقم 593
العظمة ، فأخبره أنه فاعل ذلك في سياق متكفل بتسليته ، وأن ذلك لم يزل سنته فيمن فعل فعلهم ، فقال - عاطفاً على قوله ) ) فسوف يأتيهم أنباؤا ( ) [ الأنعام : 5 ] - : ( ولقد ) أي هذا منهم إنما هو استهزاء بك ) ولقد استهزئ ) أي أوقع الهزء وأوجد من الأمم ، وبني للمفعول لأن المنكي الاستهزاء ، لا كونه من معين ، وإشارة إلى أنه كان يقع لهم ذلك من الأعلى والأدني ) برسل ( .
ولما كان القرب في الزمن في مثل هذا مما يسلي ، وكان كل من الاستهزاء والإرسال لم يستغرق الزمن ، أدخل الجار فاقل : ( من قبلك ( فأهلكنا من هزأ بهم ، وهو معنى ) فحاق ) أي فأحاط ) بالذين سخروا منهم ) أي من أولئك الرسل ) ما كانوا به يستهزئون ) أي من العذاب الذي كانوا يتوعدون به ، وكان سبباً لهزئهم .
الأنعام : ( 11 - 13 ) قل سيروا في. .. . .
) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ( )
ولما علم الله تعالى أنهم يقولون في جواب هذا : إن هذا إلا أساطير الأولين ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ما مضى من التعجيب من كونهم لم ينظروا بقلوبهم أو أبصارهم مصارع الماضين في قوله : ( ) ألم يروا كم أهلكنا ( ) [ الأنعام : 6 ] أن يأمرهم بأن يشاهدوا مصارع من تمكن في قلوبهم علم أنهم أهلكوا بمثل تكذيبهم من قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ليغنيهم ذلك عن مشاهدة ما اقترحوا فقال تعالى : ( قل سيروا ) أي أوقعوا السير للاعتبار ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم ) في الأرض ( - الآية ، وهي كالدليل على قوله تعالى : ( ) لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ) [ الأنعام : 6 ] .
ولما كان السياق للتهديد بالتحذير من مثل أخذ الأمم الماضية ، وكان قد سلف أنه لا تقدمهم عن آجالهم ، أمهلهم في النظر فإنه أقوى في التهديد ، وأدل على القدرة ، وأدعى إلى النصفة ولا سيما والسورة من أوائل القرآن نزولاً وأوائله ترتيباً فقال : ( ثم انظروا ( وأشار إلى أن هذا أهل لأن يسل عنه بقوله : ( كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) المكذبين ) أي أنعموا النر وبالغوا في التفكر وأطيلوا التدبر إذا رأيتم آثار المعذبين لأجل تكذيب الرسل ، فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار وقوي الاستبصار ، وذلك إشارة إلى أن الأمر في غاية الانكشاف ، فكلما طال الفكر فيه ازداد ظهوراً .
ولما أمرم سبحانه بالسير ، سألهم هل يرون في سيرهم وتطوافهم وجولانهم(2/593)
صفحة رقم 594
واعتسافهم شيئاً لغير الله ؟ تذكيراً لهم بما رحمهم به من ذلك في إيجاده لهم أولاً وتيسير منافعه ودفع مضاره ثانياً ، استعطافاً لهم إلى الإقبال عليه والإعراض عن الخضوع لما هو مثلهم أو أقل منهم ، وهو ملكه سبحانه وفي قبضته ، وتقبيحاً لأن يأكلوا خيره ويعبدوا غيره .
فقال مقرراً لهم على إثبات الصانع والنبوة والمعاد ، ومبكتاً بسفههم وشدة جهلهم وعمههم : ( قل لمن ( ونبه بتقديم المعمول على الاهتمام بالمعبود ) ما في السماوات والأرض ( .
ولما كانوا في مقام العناد حيث لم يبادروا إلى الإذعان بعد نهوض الأدلة وإزاحة كل علة ، أشار إلى ذلك بقوله معرضاً عن انتظار جوابهم توبيخاً لهم بعدم النصفة التي يدعونها : ( قل الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة قدرة وعلماً ولا كفوء له ، لا لغيره ، وهم وإن كانوا معاندين فإنهم لا يمكنهم رد قولك ، لا سيما وجواب الإنسان عما سأله إنما يحسنأن يتعاطاه هو بنفسه إذا كان قد بلغ في الظهور إلى حد لا يقدر على إنكاره منكر ، وهو هنا كذلك لأن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة على صفحات الأكوان ، فكان الإقرار بن ضروري ، لا خلاف فيه .
ولما كان أكثر ما في هذا الكون منافع مع كونها حسننة لذيذة طيبة شهية ، وما كان فيها من مضار فهي محجوبة ممنوعة عنهم ، يقل وصولها إليهم إلا بتسببهم فيها ، والكل مع ذلك دلائل ظاهرة على وحدانيته وتمام علمه وقدرته ، وكان ذلك أهلاً لأن يتعجب منه لعموم هذا الإحسان ، مع ما هم عليه من الإثم والعدوان ، وتأخير العذاب عنهم مع العناد والطغيان ، قال دالاً على أن رحمته سبقت غضبه مستأنفاً : ( كتب ) أي وعد وعداً هو كالمكتوب الذي ختم ، وأكد غاية التأكيد ، أو كتب حيث أراد سبحانه .
ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات على ما هي عليه قال : ( على نفسه الرحمة ) أي فلذلك أكرمكم هذا الإكرام بوجوه الإنعام ، وأخر عنكم الانتقام بالاستئصال ، ولو شاء هو لسلط عليكم المضار ، وجعل عيشكم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي يعيش بها بعض الحيوانات .
ولما كان ذلك مطمعاً للظالم البطر ، ومعجباً محيراً مؤسفاً للمظلوم المنكسر ، قال محذراً مرحباً مبشراً ملتفتاً إلى مقام الخطاب لأنه أبلغ وأنص على المقصود دالاً على البعث بما مضى من إثبات أن الأكوان لله ، لأن كل ما فيها موصوف بصفات يجوز اتصافه بأضدادها ، فاختصاص كل جسم بصفته المعينة إنما يكون بتخصيص الفاعل المختار ، فيكون قادراً على الإعادة ، لأن التركيب الأول إنما كان لأن صانعه قادر على جميع الممكنات لكونه عالماً بجميع المعلومات ، والاتصاف بذلك لا يجوز انفكاكه عنه(2/594)
صفحة رقم 595
فهو ملك مطاع آمرناه مرسل من يبلغ عنه أوامره ونواهيه لإظهار ثمرة الملك من الثواب والعقاب في يوم الجمع : ( ليجمعنكم ) أي والله محشورين شيئاً فشيئاً ) إلى يوم القيامة للعدل بين جميع العباد كائناً ) لا ريب فيه ) أي بوجه من الوجوه ، وذلك الجمع لتخصيص الرحمة في ذلك اليوم بأوليائه والمقت والنقمة بأعدائه بعد أن كان عم بالرحمة الفريقين في يوم الدنيا ، وجعل الرحمة أظهر في حق الأعداء ، وبهذا الجمع تمت الرحمة من كثير من الخلق ، ولولاه ارتفع الضبط وكثر الخبط كما كان في الجاهلية .
ولما كان ذلك كذلك في عدم الريب لإخبار الله به على ألسنة رسله ولما عليه من الأدلة لما في هذا الخلق من بدائع الحكم مع خروج أكثر أفعال الحيوان عن العدل ، فصار من المعلوم لكل ذي وعي أن البعث محط الحكمة لإظهار التحلي بالصفات العلى لجميع الخلق : الشقي والسعيد القري والبعيد ، كان كأنه قيل : فما لنا نرى أكثر الناس كافراً به ، فقال جواباً : ( الذين خسروا أنفسهم ) أي بإهلاكهم إياها بتكذيبهم به لمخالفة الفطرة الأولى التي تهدي الأخرس ، وستر العقل السليم ) فهم ) أي بسبب خسارتهم لأنفسهم بإهمال العقل وإعمال الحواس والتقيد بالتقليد ) لا يؤمنون ( فصاروا كمن يلقي نفسه من شاهق ليموت لغرض من الأغراض الفاسدة ، لا بسبب خفاء في أمر القيامة ولا لبس بوقع ربنا ، وصار المعنى : إن الذين لا يؤمنون في هذا اليوم هم المقضي بخسارتهم في ذلك اليوم .
ولما استنارت الأدلة استنارة الشمس وانتصبت البراهين حتى لم يبق أصلاً نوع لبس ، عم بالخبر عما تقدم مما يشاهدونه وغيره ، فقال ذاكراً الزمان بعد المكان ، وقدمه لأنه أظهر ، والمعلم الكامل هو الذي يبدأ بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى ، فتم بذلك الخبر عن الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات : ( وله ) أي وحده ) ما سكن ) أي حل وتحيز وحصل ) في الليل والنهار ) أي ما من شأنه أن يسكن فيهما وإن كان متحركاً ، ولكنه عبر بذلك دون التحرك لأنها دار الموت ، ودخل في ذلك النور والظلمة اللذان أشرك بهما من أشرك .
ولما دل ما مضى على القدرة التامة ، وانقسم إلى متحرك وساكن ، وكانت القدرة لا تتم إلا بالعلم ، دل عليه بقوله : ( وهو ) أي لا غيره ) السميع ) أي البالغ السمع لكل متحرك ) العليم ) أي العام العلم بالبصر والسمع وغيرهما بكل متحرك وبكل ساكن من أقوالكم وأفعالكم وغيرهما ، فلا تطمعوا في أن يترك شيء من مجازاتكم ، والعليم هنا أبلغ من البضير ، وذلك مثل ما تقدم في قوله :
77 ( ) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم ( ) 7
[ المائدة : 76 ] وهو ترجمة قوله :
77 ( ) يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ( ) 7
[ الأنعام : 3 ] .(2/595)
صفحة رقم 596
الأنعام : ( 14 - 17 ) قل أغير الله. .. . .
) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ( ( )
ولما نهض من الحجج ما لم يبق معه لذي بصيرة شك ، كان لسان الحال مقتضياً لأن ينادي بالإنكار عليهم في الالتفات عن جنابه والإعراض عن بابه فأبرز تعالى ذلك في قالب الأمر له ( صلى الله عليه وسلم ) بالإنكار على نفسه ، ليكون أدعى لهم وأرفق بهم ، ولأن ما تقدم منبئ عن غاية المخالفة ، منذر بما أنذر من سوء عاقبة المشاققة ، فكأنهم قالوا : فهل من سبيل إلى المواقة ؟ فقيل : لا إلا باتخاذكم إلهي ولياً ، وذلك لعمري سعادتكم في الدارين ، وبتطمعكم في اتخاذي أندادكم أولياء ، وهذا ما لا يكون أبداً ، وهو معنى قوله تعالى : ( قل ) أي مصرحاً لهم بإنكار أن تميل إلى أندادهم بوجه .
ولما كان الإنكار منصباً إلى كون الغير متخذاً ، لا إلى اتخاذ الولي ، أولى ( غير ) الهمزة فقال : ( أغير الله ) أي الذي لا شيء يدانيه في العظمة ) أتخذ ) أي أكلف نفسي إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل المجرد عن الهوى كما فعلتم أنتم وآخذ ) ولياً ) أي أعبده لكونه يلي جميع أموري ، ثم وصفه بما يحقق ولايته ويصرف عن ولاية غيره فقال : ( فاطر السماوات والأرض ) أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق ) وهو ) أي والحال أن الله ) يطعم ) أي يرزق كل من سواه مما فيه روح .
ولما كان المنفي كونه سبحانه مفعولاً من الطعم ، لا كون ذلك من مطعم معين ، بني للمفعول قوله : ( ولا يطعم ) أي ولا يبلغ أحد بوجه من الوجوه أن يطعمه ، والمعنى أن المنافع من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع ، فامتنع في العقل اتخاذ غيره ولياً ، لأن غيره محتاج في ذاته وفي جميع صفاته إليه ، وهو سبحانه الغني على الإطلاق ، وهذا التفات إلى قوله تعالى : ( ) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ( ) [ المائدة : 75 ] وتعريض بكل ما عبد من دون الله ولا سيما الأصنام ، فإنهم كانوا يهدون لها الأطعمة فتأكلها الدواب والطيور ، فمعلوم أنها لا تطعم ولا تطعم روى الدارمي في أول مسنده بسند حسن عن الأعمش عن مجاهد قال : ( حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم ، قال : فمنعني أن آكل الزبد مخافتها ، فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم ) ومولاه كان شريك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الإسلام ، واختلف فيه فقيل : هو قيس بن(2/596)
صفحة رقم 597
السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وقيل : قريبه السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخروم .
وقيل : ابنه عبد الله بن السائب - والله أعلم ؛ وله عن أبي رجاء - هو العطاردي وهو مخضرم - قال : ( كنا في الجاهلية إذا أصبنا حجراً حسناً عبدناه ، وإن لم نصب حجراً جمعنا كثبة من رمل ، ثم جئنا بالناقة الصفي فنفاج عليها فنحلبها على الكثبة حتى نرويها ، ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان ) وفيه أيضاً إيماء إلى أنه كما خلقكم كلكم من طين على اختلافكم في المقادير والألوان والأخلاق وهو غني عنكم ، فكذلك خلق المطعومات على اختلاف أشكالها وطعومها ومنافعها وألوانها من طين ، وجعلها منافع لكم وهو غني عنها ، وسيأتي التصريح بذلك في قوله :
77 ( ) وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ( ) 7
[ الأنعام : 99 ] المستوفي في مضماره
77 ( ) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ( ) 7
[ الأنعام : 118 ] وفي الآية كلها التفات إلى قوله أول السورة
77 ( ) ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( ) 7
[ الأنعام : 1 ] وقوله في التي قبلها
77 ( ) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ( ) 7
[ المائدة : 81 ] في أمثالها مما فيه تولي الكفار لغير خالقهم سبحانه وتعالى ، هذا لو لم يرد أمر من قبل الخالق كان النظر السديد كافياً في التنزه عنه ، كما كنت قبل النبوة لا ألتفت إلى أصنامكم ولا أعتبر للعبادة شيئاً من أنصابكم ، فكيف وقد أمرت بذلك وهو معنى ) قل إني أمرت ) أي من جهة من له الأمر ، ولا أمر إلا له وهو من تقدم أن له كل شيء ، وهو الله وحده ) أن أكون ) أي بقلبي وقالبي ) أول من أسلم ( في الرتبة مطلقاً ، وفي الزمان بالنسبة إلى الأمة .
ولما كان الأمر بالإسلام نهياً عن الشرك ، لم يكتف به ، بل صرح به جمعاً بين الأمر والنهي من هذا الرب الكريم الذي يدو إحسانه وكرمه إلى ولايته ، وينهى تمام ملكه وجبروته عن شيء من عداوته ، في قوله عطفاً على ) قل ( على وجه التأكيد : ( ولا تكونن ) أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات أصلاً ) من المشركين ) أي في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم ، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه ( صلى الله عليه وسلم ) في سؤالهم أن يطرد بعض أتباعه ليوالوه ، ونحو ذلك مما كانوا يرجون مقاربته منهم به ، إعلاماً بأن فعل شيء مما يريدون مصحح للنسبة إليهم والكون في عدادهم ( من تشبه بقوم فهو منهم )(2/597)
صفحة رقم 598
ولما كان فعل المنهي قد لا يعذب عليه ، قال معلماً بأن المخالفة في هذا من أبلغ المخالفات ، فصاحبها مستحق لأعظم الانتقام ، وكل ذلك فطماً لهم عن الطمع فيه ، وأكده لذلك ولإنكارهم مضمونه : ( قل إني ( ولما كان المقام للخوف ، قدمه فقال : ( أخاف إن عصيت ) أي شيء مما تريدون مني أن أوافقكم فيه بما أمرت به أو نهيت عنه ) ربي ) أي المحسن إليّ ) عذاب يوم ( ولما كان عظم الظرف بعظم مظروفه قال : ( عظيم ( .
ولما كان قد قدم من عموم رحمته ما أطمع الفاجر ثم أيأسه من ذلك بما أشير إليه من الخسارة ، صرح هنا بما اقتضاه ذلك المتقدم ، فقال واصفاً لذلك العذاب مبيناً أن الرحمة في ذلك اليوم على غير المعهود الآن ، فإنها خاصة لا عامة دائمة السبوغ على من نالته ، لا زائلة وكذا النعمة ، هكذا شأن ذلك اليوم ) من يصرف عنه ) أي ذلك العذاب ؛ ولما كان المراد دوام الصرف في جميع اليوم ، قال : ( يومئذ ) أي يوم إذ يكون عذاب ذلك اليوم به ) فقد رحمه ) أي فعل به بالإنعام عليه فعل المرحوم ) وذلك ) أي لا غيره ) الفوز ) أي الظفر بالمطلوب ) المبين ) أي الظاهر جداً ، ومن لم يصرف عنه فقد أهانه ، وذلك هو العذاب العظيم .
ولما كان التقدير : فإن يصرف عنك ذلك العذاب فقد قرت عينك ، عطف عليه دليلاً آخر لأنه لا يجوز في العقل أن يتخذ غيره ولياً ، فقال معمماً للحكم في ذلك العذاب وغيره مبيناً أنه لا مخلص لمن أوقع به : ( وإن يمسسك الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ؛ ولما كان المقام للترهيب ، قدم قوله : ( بضر ) أي هنا أو هناك ) فلا كاشف له ( أصلاً بوجه من الوجوه ) إلا هو ) أي لأنه لا كفوء له ، فهو قادر على إيقاعه ، ولا يقدر غيره على دفاعه ، لأنه على كل شيء قدير ) وإن يمسسك بخير ) أي في أي وقت أراد .
ولما كان القياس على الأول موجباً لأن يكون الجزاء : فلا مانع له ، كان وصفه من صفة قوله ) فهو على كل شيء ) أي من ذلك وغيره ) قدير ( ولا يقدر غيره على منعه ، منبهاً على أن رحمته سبحانه سبقت غضبه .(2/598)
صفحة رقم 599
الأنعام : ( 18 - 20 ) وهو القاهر فوق. .. . .
) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ( )
ولما كانت الجملتان من الاحتباك ، فأفادتا بما ذكر وما دل عليه المذكور مما حذف أنه تعالى غالب على أمره ، قال مصرحاً بذلك : ( وهو القاهر ) أي الذي يعمل مراده كله ويمنع غيره مراده إن شاء ، وصور قهره وحققه لتمكن الغلبة بقوله : ( فوق عباده ( وكل ما سواه عبد ؛ ولما كان في القهر ما يكون مذموماً ، نفاه بقوله : ( وهو ) أي وحده ) الحكيم ( فلا يوصل أثر القهر بإيقاع المكروه إلا لمستحق ، وأتم المعنى بقوله : ( الخبير ) أي بما يستحق كل شيء ، فتمت الأدلة على عظيم سلطانه وأنه لا فاعل غيره .
ولما ختم بصفتي الحكمة والخبرة ، كان كأنه قيل : فلم لم يعلم أنا نكذبك بخبرته فيرسل معك بحكمته من يشهد لك - على ما يقول من أنه أمرك أن تكون أول من أسلم ، ونهاك عن الشرك لنصدقك - من ملك كما تقدم سؤالنا لك فيه أو كتاب في قرطاس أو غيرهما ؟ فقال : قد فعل ، ولم يرض لي إلا بشهادته المقدسة فقال - أو يقال : إنه لما أقام الأدلة على الوحدانية والقدرة ووصل إلى صفة القهر المؤذن بالانتقام ، لم يبق إلا الإشهاد عليهم غيذاناً مبا يستحقونه من سوء العذاب وإنذاراً به لئلا يقولوا إذا حل بهم : إنه لم يأتنا نذير ، فقال : ( قل ) أي يا أيها الرسول لهم ) أي شيء أكبر ) أي أعظم وأجل ) شهادة ( فإن أنصفوا وقالوا : الله فقل : هو الذي يشهد لي ، كما قال في النساء ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) ولكنه قطع الكلام هنا إشارة إلى عنادهم أو سكوتهم ، أو إلى تنزيلهم منزلة المعاند ، أو العالم بالشيء العامل عمل الجاهل ، فقال آمراً له ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل الله ) أي الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة أكبر شهادة .
ولما كانوا بمعرض أن يسلموا ذلك ويقولوا : إنه لَكذلك ، ولكن هلم شهادته قال : ( شهيد ) أي هو أبلغ شاهد يشهد ) بيني وبينكم ) أي بهذا القرآن الذي ثبت بعجزكم عنه أنه كلامه ، وبغيره من الآيات التي عجزتم عن معارضتها ؛ ولما قرر أنه أعظم شهيد ، وأشار إلى شهادته بالآيات كلها ، نبه على أعظمها ، لأن إظهاره تعالى للقرآن على لسانه ( صلى الله عليه وسلم ) على وفق دعواه شهادة من الله له بالصدق ، فقال ذاكراً لفائدته في سياق تهديد متكفل بغثبات الرسالة وإثبات الوحدانية ، وقدم الأول لأنه المقرر للثاني والمفهم له بغايته ، عاطفاً على جملة ( شهيد ) بانياً للمفعول ، تنبيهاً على أن الفاعل(2/599)
صفحة رقم 600
معروف للإعجاز ، وبني للفاعل في السواد : ( وأوحي إلي ( وحقق الموحى به وشخّصه بقوله : ( هذا القرآن ( ولما كان في سياق التهديد قال مقتصراً على ما يلائمه : ( لأنذركم ) أي أخوفكم وأحذركم من اعتقاد شائبة نقص في الإله لا سيما الشرك ) به ومن ) أي وأنذر به كل من ) بلغ ) أي بلغه ، قال الفراء : والعرب تضمر الهاء في صلات ( الذي ) و ( من ) و ( ما ) .
وقال البخاري في آخر الصحيح : ( لأنذركم به ( يعني أهل مكة ، ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير علقه بصيغة الجزم عن ابن عباس ووصله إليه ابن أبي حاتم كما أفاده شيخنا في شرحه .
وقال عبد الرزاق في تفسيره : أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : بلغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله .
وقال الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي في جواب سؤال ورد عليه سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هل بعث إلى الجن - ومن خطه نقلتُ : الكتاب والسنة ناطقان بذلك ، والإجماع قائم عليه ، لا خلاف بين المسلمين فيه ؛ ثم أسند الإجماع إلى أبي طالب القضاعي وأبي عمر بن عبد البر في التمهيد وأبي محمد بن حزم في كتاب الفِصَل وغيرهم ثم قال : أما الكتاب فآيات إحداها ) نذركم به ومن بلغ ( قال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال ابن عباس - فذكره ، وقال السدي : من بلغ القرآن فهو له نذير ، وقال ابن زيد : من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره .
وهذه كلها أقوال متفقة المعنى ، وقد أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول هذا الكلام وأن ينذر بالقرآن كل من بلغه ، ولم يخص إنساً ولا جناً من أهل التكليف ، ولا خلاف أن الجن مكلفون - انتهى .
وسيأتي مما ذكر من الآيات وغيرها ما يليق بالاستدلال على الإرسال إلى الملائكة عليهم السلام ، فالمعنى : فمن صدق هذا القرآن فقد أفلح ، ومن كذب فليأت بسورة من مثله ، ثم عجزه شاهد على نفسه بالكذب ، وهو شهادة الله لي بالصدق ، ولأجل أن الله هو الشاهد لم تنقض الشهادة بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، بل استمرت على مرّ الأيام وكرّ الأعوام لبقاء الشاهد وتعاليه عن شوائب النقص وسمات الحدث ، وإلى ذلك الإشارة بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم(2/600)
صفحة رقم 601
تابعاً يوم القيامة ) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه .
ولعل الاقتصار على الإنذار مع ما تقدم إشارة إلى أن أكثر الخلق هالك ، وقد ذكر في نزول هذه الآية أن أهل مكة أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : أما وجد الله رسولاً غيرك ؟ ما نرى أحداً يصدقك بما تقول ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم منك ذكر ، فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم ، فأنزلها الله .
ولما لم يبق لمتعنت شبهة ، ساق فذلكة ذلك وقطب دائرته - وهو لزوم التوحيد الذي جعلت الرسالة مُرَقَّى إليه ، فإذا ثبت في قلب فاضت أنواره بحسب ثباته حتى أنها ربما ملأت الأكوان وعلت على كيوان - مساق استفهام على طريقة الإنكار والتعجيب تعظيماً لشأنه وتفخيماً لمقامه وتنبيهاً لهم على أن يعدوا عن الشرك فقال : أئنكم لتشهدون أن مع الله ) أي الذي حاز جميع العظمة ) آلهة ( .
ولما كانوا لكثرة تعنتهم رمبا أطلقوا على أسمائه سبحانه إله كما قالوا حين سمعوه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( يا الله يا رحمن ) كما سيأتي إن شاء الله تعالى آخر الحِجْر وآخر سبحان ، صرح بالمقصود على وجه لا يحتمل النزاع فقال : ( أخرى ( ولما كان كأنه قيل : إنهم ليقولون ذلك ، فماذا يقال لهم ؟ قال : ( قل لا أشهد ) أي معكم بشيء مما تقولونه لأنه باطل ، ولو كان حقاً لشهدت به .
ولما كان هذا غير قاطع لطمعهم فيه ، اجتثَّه من أصله وبرمته بقوله : ( قل إنما هو ) أي الإله ) إله واحد ( وهو الله الذي لا يعجزه شيء وهو يعجز كل شيء ، لأنه واحد لا كفوء له ، فإنكم عجزتم عن الإتيان بسورة من مثل كلامه وأنتم أفصح الناس .
ولما كان معنى هذا البراءة من إنذارهم ، صرح به في قوله مؤكداً في جملة اسمية : ( وإنني بريء مما تشركون ) أي الآن وفي مستقبل الزمان إبعاداً من تطمعهم أن تكون الموافقة بينه وبينهم باتخاذه الأنداد أو شيئاً منها ولياً ، فثبت التوحيد بهذه الآية بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد ، ولقد امتثل ( صلى الله عليه وسلم ) الأمر بإنذار من يمكن إبلاغه القرآن ، فلما استراح عن حرب قريش وكثير ممن حوله من العرب في عام الحديبية ، (2/601)
صفحة رقم 602
وهو سنة ست من الهجرة ، وأعلمه الله تعالى أن ذلك فتح مبين ، أرسل إلى من يليه من ملوك الأمصار في ذلك العام وما بعده ، وكان أكثر عند منصرفه من ذلك الاعتمار يدعوهم إلى جنات وأنهار في دار القرار ، وينذرهم دار البوار ، قال أهل السير : خرج ( صلى الله عليه وسلم ) - بعد رجوعه من عمرة الحديبية التي صد عنها - على أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فقال : ( أيها الناس إن الله بعثني رحمة وكافة ، وإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم ) وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن عبد الرحمن بن عبد القادر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم قال : ( أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم ، فأدوا عني يرحمكم الله ، ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون ) وقال ابن عبد الحكم : بنو إسرائيل - على عيسى ابن مريم عليهما السلام ، فقال المهاجرون : يا رسول الله والله لا نختلف عليك في شيء أبداً ، فمرنا وابعثنا ، فسألوه : كيف اختلف الحواريون على عيسى عليه السلام ؟ قال : دعاهم إلى الذي وفي رواية لمثل الذي - دعوتكم إليه ، وقال ابن عبد الحكم : إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام أن ابعث إلى مقدس الأرض ، فبعث الحواريون - فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم ، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل - قال ابن عبد الحكم : وقال : لا أحسن كلام من تبعثني إليه - فشكا ذلك عيسى عليه السلام إلى الله عز وجل ، فأصبح كل رجل - وقال ابن عبد الحكم : فأوحى الله تعالى إليه أني سأكفيك ، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم - يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها .
فقال عيسى عليه السلام : هذا أمر قد عزم الله عليه فامضوا له .
وقال الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس : إن المكان الذي جمع فيه عيسى عليه السلام الحواريين وأنفذهم إلى النواحي قرية بناحية طبرية تسمى الكرسي .
وقال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب المصري أنه وجد كتاباً فيه ذكر من بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى البلدان وملوك العرب والعجم وما قال لأصحابه حين بعثهم ، قال : فبعث به إلى محمد بن شهاب الزهري فعرفه - فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال : قال ابن إسحاق : وكان من بعث عيسى ابن مريم ( صلى الله عليه وسلم ) من الحواريين والأتباع الذين كانوا بعدهم في الأرض بطرس(2/602)
صفحة رقم 603
الحواري ومعه بولس - وكان بولس من الأتباع ولم يكن من الحواريين - إلى رومية ، وأندرائس ومنتا إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق وقيبليس إلى قرطاجنة ، وهي إفريقية ، ويحنس إلى أقسوس قرية الفتية أصحاب الكهف ، ويعقوبس إلى أوراشلم وهي إيلياء قرية بيت المقدس ، وابن ثلما إلى الأعرابية ، وهي أرض الحجاز ، وسيمن إلى أرض البربر ، ويهودا ولم يكن من الحواريي ، جُعل مكان يودس - انتهى .
كذا رأيت في نسخة معتمدة مقابلة من تهذيب السيرة لابن هشام ، وكذا في مختصرها للامام جمال الدين محمد بن المكرم الأنصاري عدد رسله وأسمائهم ، وفي أخرهم : قوله : مكان يودس ، ولم يتقدم ليودس ذكر ، والذي حررته أنا من الأناجيل التي بأيدي النصارى غير هذا ، ولعله أصح ، وقد جمعت ما تفرق من ألفاظها ، قال في إنجيل متى ما نصه - ومعظم السياق له : ودعا يعني عيسى عليه السلام - تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض ؛ وفي أنجيل مرقس : وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه ، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ولكي يرسلهم ليكرزوا ، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين ، وفي إنجيل لوقا : وكان في تلك الأيام خرج إلى الجبل يصلي ، وكان ساهراً في صلاة الله ، فلما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر ؛ وقال في موضع آخر : ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء المرضى ، وأرسلهم يكرزون بملكوت الله ويشفون الأوجاع ؛ وهذه أسماء الاثني عشر الرسل : سمعان المسمى بطرس - ونسبه في موضع من إنجيل متى : ابن يونا - وأندراوس أخوه ، ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه قال في إنجيل مرقس : وسماهما باسمي بوانرجس اللذين ابنا الرعد - وفيلبس وبرثولوماوس ، وتوما ومتى الشعار ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس الذي يدعى تداوس ، وجعل في إنجيل مرقس بدل هذا : تدى ، وفي إنجيل لوقا بدلهما : يهوذا بن يعقوب ، ثم اتفقوا : وسمعان القاناني ، وقال في إنجيل لوقا : المدعو الغيور ، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - أي دل عليه في الليلة التي ادعى اليهود القبض عليه فيها - هؤلاء الاثنا عشر الرسل الذين أرسلهم يسوع - وفي إنجيل مرقس : ودعا الاثني عشر وجعل يرسلهم اثنين اثنين ، وأعطاهم السلطان على الأرواح النجسة - قائلاً : لا تسلكوا طريق الأمم ، ولا تدخلوا مدينة السامرة ، وانطلقوا خاصة إلى الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل ، وإذا ذهبتم فاكرزوا وقولوأ : قد اقتربت ملكوت السماوات ، اشفوا المرضى ، أقيموا الموتى ، طهروا البرص ، أخرجوا الشياطين ، مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا ، لا تكنزوا ذهباً ولا فضة ولا(2/603)
صفحة رقم 604
نحاساً في مناطقكم ولا همياناً في الطريق ولا ثوبين ولا حذاء ولا عصى ، والفاعل مستحق طعامه ، وفي إنجيل مرقس : وأمرهم أن لا يأخذوا في الطريق غير عصى فقط ولا همياناً ولا خبزاً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقهم إلا نعالاً في أرجلهم ولا يلبسوا قميصين ؛ وفي إنجيل لوقا : وقال لهم : لا تحملوا في الطريق شيئاً ، لا عصى ولا همياناً ولا خبزاً ولا فضة ، ولا يكون لكم ثوبان ، وأي مدينة أو قرية دخلتموها فحصوا فيها عمن يستحقكم ، وكونوا هناك حتى تخرجوا ، فإذا دخلتم إلى البيت فسلموا عليه ، فإن كان البيت مستحقاً لسلامكم فهو يحل عليه ، وإن كان لا يستحق فسلامكم راجع إليكم ، ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فإذا خرجتم من ذلك البيت وتلك القرية أو تلك المدينة انفضوا غبار أرجلكم ؛ وفي إنجيل مرقس : وقال لهم : أي بيت دخلتموه أقيموا فيه إلى أن تخرجوا منه ، وأي موضع لم يقبلكم ولم يسمع منكم فإذا خرجتم من هناك فانفضوا الغبار الذي تحت أرجلكم للشهادة عليهم ، الحق أقول لكم إن الأرض سدوم وعامورا راحة في يوم الدين أكثر من تلك المدينة ، هو ذا أنا مرسلكم كالخراف بين الذئاب ، كونوا حكماء كالحية وودعاء كالحمام ، احذروا من الناس ، فإنهم يسلمونكم إلى المحافل ، وفي مجامعهم يضربونكم ، ويقدمونكم إلى القواد والملوك من أجلى شهادة لهم وللأمم - وفي إنجيل مرقس : شهادة عليهم وعلى كل الأمم ، ينبغي أولاً أن يكرزوا بالإنجيل - فإذا أسلموكم فلا تهتموا بما تقولون - وفي إنجيل مرقس : ولا ماذا تجيبون - فإنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به ، ولستم أنتم المتكلمين لكن روح أبيكم - وفي إنجيل مرقس : لكن روح القدس يتكلم فيم - وسيسلم الأخ أخاه إلى الموت والأب ابنه ، ويقوم الأبناء على آبائهم فيقتلونهم ، وتكونون مبغوضين من الكل من أجل اسمي ، والذي يصبر إلى المنتهى يخلص ، فإذا طردوكم من هذه المدينة اهربوا إلى أخرى ، الحق الحق أقول لكم إنكم لا تكلمون مدائن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان ، ليس تلميذ أفضل من معلمه ، ولا عبد أفضل من سيده ، وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه والعبد مثل سيده ، إن كانوا سموا رب البيت باعل زبول فكم بالحري أهل بيته فلا تخافوهم ، فليس خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيعلم ، الذي اقول لكم في الظلمة قولوه أنتم في النور ، وما سمعتموه بآذانكم فاكرزوا به على السطوح ، ولا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس ، خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس(2/604)
صفحة رقم 605
والجسد جميعاً في جهنم ، أليس عصفوران يباعان بفلس ، وواحد منهما لا يسقط على الأرض دون إرادة أبيكم ، وأنتم فشعور رؤوسكم كلها محصاة ، فلا تخافوا ، فإنكم أفضل من عصافير كثيرة ، لا تظنوا أني جئت لألقي على الأرض سلامة ، لكن سيفاً ، أتيت لأفرق الإنسان من أبيه والابنة من أمها ، والعروس من حماتها ، وأعداء الإنسان أهل بيته ، من أحب أباً أو أماً أكثر مني فما يستحقني ، ومن وجد نفسه فليهلكها ، ومن أهلك نفسه من أجلي وجدها ، ومن قبلكم فقد قبلني ، ومن قبلني فهو يقبل الذي أرسلني ، ومن يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ ، ومن يأخذ صديقاً باسم صديق فأجر صديق يأخذ ، ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ - الحق أقول لكم - إن أجره لا يضيع ، ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر ، انتقل من هناك ليعلم ويكرز في مدنهم ؛ وفي إنجيل مرقس : فلما خرجوا - يعني الرسل - كرزوا بالتوبة وأخرجوا شياطين كثيرة ومرضى عديدة يدهنونهم بالزيت فيشفون ؛ وفي إنجيل لوقا : ومن بعد هذا أيضاً ميز الرب سبعين آخرين ويرسلهم اثنين اثنين قدام وجهه إلى كل مدينة وموضع أزمَعَ أن يأتيه ، وقال لهم : إن الخصاد كثير والفعلة فليلون ، أطلبوا من رب الحصاد ليخرج فعلة لحصاده ؛ وفي إنجيل متى ما ظاهره أن هذا الكلام كان للاثني عشر ، فإنه قال قبل ذكر عددهم : فلما رأى الجمع تحنن عليهم لأنهم كانوا ضالين ومطرحين كالخراف التي ليس لها راع ، حينئذ قال لتلاميذه الاثني عشر - إلى آخر ما ذكرته عنه أولاً ، فيجمع بأنه قاله للفريقين - رجع إلى السياق الأول : اذهبوا ، وهو ذا أرسلكم كالخراف بين الذئاب ، لا تحملوا همياناً ولا حذاء ولا مزوداً ولا تقبلوا أحداً في الطريق ، وأي بيت دخلتموه فقولوا أولاً : سلام لأهل هذا البيت ، فإن كان هناك ابن سلامكم فإن سلامكم يحل عليه ، وإلا فسلامكم راجع إليكم ، وكونوا في ذلك البيت ، كلوا واشربوا من عندهم ، فإن الفاعل مستحق أجرته ، ولا تنتقلوا من بيت إلى بيت ، وأي مدينة دخلتموها ويقبلكم أهلها فكلوا مما يقدم لكم ، واشفوا المرضى الذين فيها ، وقولوا لهم : قد قربت ملكوت الله ، وأي مدينة دخلتموها ولا يقبلكم أهلها فاخرجوا من شوارعها وقولوا لهم : نحن ننفض لكم الغبار الذي لصق بأرجلنا من مدينتكم ، لكن اعلموا أن ملكوت الله قد قربت ، أقول لكم : إن سدوم في ذلك اليوم لها راحة أكثر من تلك المدينة ، الويل لك يا كورزين والويل لك يا بيت صيدا لأنه لو كان في صور وصيدا القوات التي كنَّ فيكما جلسوا وتابوا بالمسوح والرماد ، وأما صور وصيدا فلهما راحة في الدينونة أكثر منكم ، وأنت يا كفرناحوم لو أنك ارتفعت إلى السماء سوف تهبطين إلى الجحيم ، من سمع منكم فقد سمع مني ، ومن جحدكم فقد جحدني ، ومن(2/605)
صفحة رقم 606
جحدني فقد شتم الذي أرسلني ؛ فرجع السبعون بفرح قائلين : يا رب الشياطين باسمك تخضع لنا يا رب فقال لهم : قد رأيت الشيطان سقط من السماء مثل البرق ، وهو ذا قد أعطيتكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ، ولا يضركم شيء ، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم ، افرحوا لأن أسماءكم مكتوبة في السماوات ، وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح ، والتفت إلى تلاميذه خاصة وقال : طوبى للأعين التي ترى ما رأيتم أقول لكم : إن أنبياء كثيرين وملوكاً اشتهوا أن ينظروا ما نظرتم فلم ينظروا ، ويسمعوا ما سمعتم فلم يسمعوا ؛ وفي إنجيل متى - بعد ما ادعى اليهود صلبه - أنه ظهر لتلاميذه الأحد عشر - وهم من تقدم غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - في الجليل في الجبل الذي أمرهم به يسوع ، وكلمهم قائلاً : أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض ، فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم ؛ وفي آخر إنجيل مرقس أنه ظهر لهم وهم مجتمعون ، وكانوا في تلك الأيام يبكون وينوحون فبكّتهم لقلة إيمانهم وقسوة قلوبهم وقال لهم : امضوا إلى العالم أجمع ، واكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها ، فمن آمن واعتمد خلص ، ومن لم يؤمن يدان ، وهذه الآيات تتبع المؤمنين ، يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة ، ويحملون بأيديهم الحيات ولا تؤذيهم .
ويشربون السم القاتل فلا يضرهم ، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون ، ومن بعد ما كلمهم يسوع ارتفع إلى السماء ، فخرج أولئك يكرزون في كل مكان ؛ وفي إنجيل لوقا : فلما خرجوا كانوا يطوفون في القرى ويبشرون ويشفون في كل موضع وفي آخره بعد أن ذكر تلامذته الأحد عشر وكلاماً كانوا يخوضون فيه بعد ادعاء اليهود لصلبه : وفيما هم يتكلمون وقف يسوع في وسطهم وقال لهم : السلام لكم ، أنا هو لا تخافوا ، فاضطربوا وظنوا أنهم ينظرون روحاً فقال : ما بالكم تضطربون ؟ ولِمَ تأتي الأفكار في قلوبكم ؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو جسّوني وانظروا ، إن الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون أنه لي ؛ ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه ، وإذا هم غير مصدقين من الفرح ، قال لهم : أعندكم ههنا ما يؤكل ؟ فأعطوه جزءاً من حوت مشوي ومن شهد عسل ، فأخذ قدامهم وأكل ، وأخذ الباقي وأعطاهم ، وقال لهم : هذا الكلام الذي كلمتكم به إذ كنت معكم ، وأنه سوف يكمل كل شيء هو مكتوب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير لأجلي ، وحينئذ فتح أذهانهم ليفهموا ، وقال لهم : اجلسوا أنتم في المدينة يروشليم حتى تتذرعوا لقوة من العلى ، ثم أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ، فرفع يديه وباركهم ، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء أمامهم ، فرجعوا إلى يروشليم بفرح(2/606)
صفحة رقم 607
عظيم ، وكانوا في كل حين يسبحون ويباركون الله - انتهى ما نقلته من الأناجيل .
وما كان فيه من لفظ يوهم نقصاً ما فقد تقدم في أول آل عمران أنه لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى وإن كان صح إطلاقه في شرعهم ، فهو مؤول وقد نسخ ؛ وقال الإمام محيي السنة البغوي في تفسير آل عمران فميا نقله عن وهب : فلما كان بعد سبعة أيام - أي من ادعاء اليهود لصلبه - قال الله تعالى لعيسى عليه السلام : اهبط على مريم المجدلانية في جبلها ، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ، ولم يحزن عليك أحد حزنها ، ثم لتجمع لك الحواريين فتبثهم في الأرض دعاة إلى الله تعالى ، فأهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نوراً ، فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ، ثم رفعه الله إليه ، وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى ، فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه السلام إليهم ، فذلك قوله تعالى
77 ( ) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( ) 7
[ آل عمران : 54 ] هذا ما ذكر من شأن رسل عيسى عليه السلام أنهم كانوا دعاة ، وأما رسل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنهم كانوا مبلغين لكتبه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فمن قبل ذلك كان حظه من الله ، ومن أبى كان جوابه السيف الماحق لدولته - كما ذكرته مستوفى في شرحي لنظمي للسيرة وهو مذكور في فتوح البلاد ؛ ولما بعث ( صلى الله عليه وسلم ) رسله اتخذ لأجل مكاتبة الملوك الخاتم ، أخرج أبو يعلى في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى كسرى وقيصر - وفي رواية : وأكيدر دومة وإلى كل جبار - يدعوهم إلى الله وأخرج الشيخان في صحيحهما - وهذا لفظ مسلم - عن أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنه قال : لما أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكتب إلى الروم - وفي رواية : إلى العجم - قالوا : إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً ، فاتخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاتماً من فضة كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نقشه ( محمد رسول الله ) .
فبعث دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه إلى قيصر ملك الروم وأمره أن يوصل الكتاب إلى عظيم(2/607)
صفحة رقم 608
بصرى ليوصله إليه ، فعظم كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقبله وقرأه ووضعه على وسادة وعلم صدقه ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه سيغلب على ملكه ، فجمع الروم وأمرهم بالإسلام فأبوا ، فخافهم فقال : إنما أردت أن أجربكم ، ثم لم يقدر الله له الإسلام ، فأزال الله حكمه عن الشام وكثير من الروم على يدي أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ثم عن كثير من الروم أيضاً على يد من بعدهم ، ومكن يها الإسلام ، لكن أثابه الله على تعظيم كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأن أبقى ملكه في أطراف بلاده إلى الآن ، وبلغني أن الكتاب محفوظ عندهم إلى هذا الزمان ؛ وبعث شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني - وقال القضاعي : المنذر بن أبي شمر عامل قيصر على تخوم الشام - ثم إلى جبلة بن الأيهم الغساني ، فأما الحارث أو المنذر فغضب من الكتاب وهمّ بالمسير إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليقاتله ، زعم فنهاه عن ذلك قيصر ، فأكرم شجاعاً ورده وأسلم حاجبه مري الرومي بما عرف من صفة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الإنجيل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( باد ملك الحارث ، وفاز مري ) فقلّ ما لبث الحارث حتى مات ، وولي بعده في مكانه جبلة بن الأيهم الغساني ، وهو آخر ملوك غسان على نواحي الشام ، فرد إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شجاع بن وهب رضي الله عنه ، فرد على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رداً جميلاً ولم يسلم ، واستمر يتربص حتى أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه ملا رأى من ظهور نور الإسلام وخمود نار الشرك ، ثم إنه ارتد - ولحق ببلاد الروم - في لطمة أريد أن يقتص منه فيها ، فسبحان الفاعل لما يشاء وبعث عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه إلى كسرى ملك الفرس ، وأمره أن يدفع الكتاب إلى(2/608)
صفحة رقم 609
عظيم البحرين ليوصله إليه ، فلما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بدأ باسمه الشريف مزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه ، فرجع عبد الله ، فلما سكن غضب الخبيث التمسه فلم يجده فأرسل في طلبه فسبق الطلب ، فلما أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن تمزيق الكتاب ، دعا على كسرى أن يمزق كل ممزق ، فأجاب الله دعوته فشتت شملهم وقطع وصلهم على يد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ثم قتل يزدجرد آخر ملوكهم في خلافة عثمان رضي الله عنه ، فأصبح ملك الأكاسرة كأمس الدابر ، وعم بلادهم الإسلام وظهرت بها كلمة الإيمان ، بل تجاوز الإسلام ملكهم إلى ما وراء النهر وإلى بلاد الخطا .
وبعث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية ، فعلم من صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما علمه قيصر من الإنجيل ، فأكرم الرسول وأهدى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورد رداً جميلاً ولم يسلم ، فأباد الله ملكه على يد عمرو بن العاص أمير لعمر رضي الله عنهما .
وبعث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي فآمن رضي الله عنه وقال : أشهد أنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل عليهم السلام .
وأن العيان ليس بأشفى من الخبر ، وأهدى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) هدايا كثيرة ، وأرسل ابنه بإسلامه في سبعين من الحبشة ، وقال في كتابه : وإني لا أملك إلا نفسي ومن آمن بك من قومي ، وإن أحببت أن آتيك يا رسول الله فعلتُ ؛ فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على النجاشي واستغفر له ؛ وبعث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين وإلى أسيحت مرزبان هجر بكتاب يدعوهما فيه إلى الإسلام أو الجزية ، وأرض البحؤين من بلاد العرب ، لكن كان الفرس قد غلبوا عليها ، وبها خلق كثير من عبد القيس وبكر بن وائل وتميم فأسلم المنذر وأسيحت وجميع من هناك من العرب وبعض العجم ، فأقره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على عمله ؛ وبعث سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة ، وكان عاملاً لقيصر على قومه ، فقرأ كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورد رداً دون رد ، فصادف أن قدم عليه راهب من دمشق ، فأخبره أنه لم يجب إلى الإسلام ، فقال : لم ؟ قال : ضننت بملكي ، قال الراهب : لو تبعته لأقرك والخير لك في اتباعه ، فإنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، بشر به عيسى عليه السلام ، قال هوذة للراهب :(2/609)
صفحة رقم 610
فما لك لا تتبعه ؟ فقال : أجدني أحسده وأحب الخمر ، فكتب هوذة كتاباً وبعث إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهدية مكانه ذلك ، وشعر به قومه فأتوه فهددوه ، فرد الرسول واستمر على نصرانيته ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رجع إليه سليط : ( با هوذة وباد ما في يده ) فلما انصرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من فتح مكة جاءه جبرئيل عليه السلام بأن هوذة مات ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي ) ، فكان كذلك كما هو مشهور من أمر مسيلمة الكذاب ، وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن ، فلما بلغه رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال الحارث : قد كان هذا النبي عرض نفسه عليّ فخطئت عنه ، وكان ذخراً لمن صار إليه ، وسأنظر ، وتباطأ به الحال إلى أن أسلم عند رجوع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من تبوك سنة الوفود ، وكاتب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ؛ وبعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان ، فتوقفا واضطرب رأيهما ، ثم عزم الله لهما على الرشد فقال جيفر : إنه والله قد دلني على هذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الأمي أنه لا يأمر بخير إلاّ كان أول آخذ به ، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له ، وأنه يغلب فلا يبطر ، ويغلب فلا يفجر ، وأنه يوفى بالعهد وينجز الوعد ، ولا يزال يطع على سر قوم يساوي فيه أهله ، وإني أشهد أنه رسول الله ، وأسلم أخوه أيضاً ، وكتبا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإسلامهما ، فقال خيراً وأثنى خيراً ، وكان في سير هؤلاء الرسل لعمري غير ما ذكر أحاديث عجائب وأقاصيص غرائب من دلائل النبوة وأعلام الرسالة ، خشيت من ذكرها الإطالة وأن تمل وإن لم يكن فيها ما يقتضي ملاله ، وقد شفيت في شرحي لنظمي للسيرة باستيفائها القليل في ترتيب جميل ونظم أسلوبه لعمري جليل ، هؤلاء رسل البشر ، وأما الرسل من الجن فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :
77 ( ) وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن ( ) 7
[ الجن : 29 ] قال : كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رسلاً إلى قومهم ( قال الهيثمي : وفي سنده النضر أبو عمر(2/610)
صفحة رقم 611
وهو متروك ، ويؤيد عموم هذه الآية في تناولها الملائكة عليهم السلام قوله تعالى
77 ( ) ليكون للعالمين نذيراً ( ) 7
[ الفرقان : 1 ] وإذا تأملت سياق الآيات التي بعدها مع آخر السورة التي قبلها قطعت بذلك
77 ( ) لينذر من كان حياً ( ) 7
[ يس : 70 ] ،
77 ( ) إنما تنذر من اتبع الذكر ( ) 7
[ يس : 11 ] إذ هم من جملة العالمين وممن بلغه القرآن وممن هو حي وممن اتبع الذكر ، والخطاب بالإنذار وارد مورد التغليب ، إذ الإنس والجن أهل له ، فانتفى ما يقال : إن الملائكة في غاية الخوف من الله تعالى مع عصمتهم فليسوا ممن يخوف ، ويزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى :
77 ( ) ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( ) 7
[ الأنبياء : 29 ] ولا إنذار أعظم من ذلك ، وإن عيسى عليه السلام من هذه الأمة وممن شملته الآيات الدالة على عموم الرسالة بغير شك ، وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ملا وسعه إلا اتباعي ( أخرجه الإمام أحمد والدارمي والبيهقي في الشعب عن جابر رضي الله عنه ، ومذهب أهل السنة أن رسل البشر أفضل من رسل الملائكة ، وقد ثبتت رسالته إلى الأفضل المعصوم بالفعل لعيسى ، وبالتعليق بالحياة بموسى عليه السلام ، وقد أخذ الله سبحانه ميثاق النبيين كلهم عليهم السلام إن أدركوه ليؤمنن به ، وقد خوطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - وهو أشرف الخلق وأكملهم - بالإنذار في غير آية ، فمهما أول به ذلك في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) قيل مثله في حقهم عليهم السلام ، ومما يرفع النزاع ويدفع تعلل المتعلل بالإنذار قوله تعالى
77 ( ) لتنذر به وذكرى للمؤمنين ( ) 7
[ الأعراف : 2 ] فخذل مفعول ) تنذر ( دال على عموم رسالته ، وتعليق الذكرى بالمؤمنين مدخل لهم بلا ريب لأنهم من رؤوسهم - عليهم السلام ، وقوله تعالى
77 ( ) لتبشر به المتقين ( ) 7
[ مريم : 97 ] إلى غيرها من الآيات ، فيكون عموم رسالته لهم زيادة شرف له ، وهو واضح ، وزيادة شرف لهم بحمل أنفسهم على طاعته والتقيد بما حده لهم من أعمال ملته طاعة لله تعالى زيادة في أجورهم ورفعة درجاتهم ، وذلك مثل ما قال أبو حيان في قوله تعالى
77 ( ) فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ( ) 7
[ الأعراف : 144 ] : إن في الأمر له(2/611)
صفحة رقم 612
بذلك مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال ؛ وقال القاضي عياض في الفصل السابع من الباب الأول من القسم الأول من الشفا في قوله تعالى
77 ( ) وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ( ) 7
[ آل عمران : 81 ] قال المفسرون : أخذ الله الميثاق بالوحي ، فلم يبعث نبياً إلا ذكر له محمداً ونعته وأخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنن به ، وبعضد ذلك ما قال في أول الباب الأول : وحكي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لجبرئيل عليه السلام : ( هل أصابك من هذه الرحمة المذكورة في قوله تعالى ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( شيء ) ؟ قال نعم كنت أخشى العاقبة فآمنت لثناء الله عز وجل عليّ بقوله
77 ( ) ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ( ) 7
[ التكوير : 20 ، 21 ] وروى مسلم في كتاب الصلاة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون ) وحمل من حمل الخلق على الناس - للرواية التي فيها ( إلى الناس ) تحكم ، بل العكس أولى لمطابقة الآيات ، وقد خرج من هذا العموم من لا يعقل بالدليل العقلي ، فبقي غيرهم داخلاً في اللفظ ، لا يحل لأحد أن يخرج منه أحداً منهم إلا بنص صريح ودلالة قاطعة ترفع النزاع ، وقال عياض في الباب الثالث من القسم الأول : وذكر البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لما أراد الله تعالى أن يعلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الأذان - فذكر المعراج وسماع الأذان من وراء الحجاب ثم قال : ثم أخذ الملك بيد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقدمه ، فأمّ بأهل السماء فيهم آدم ونوح - انتهى .
وروى عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا كان الرجل بأرض قيّ فحانت الصلاة فليتوضأ ، فإن لم يجد الماء فليتيمم ، فإن أقام صلى معه ملكاه ، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه ) قال(2/612)
صفحة رقم 613
المنذري : القيّ - بكسر القاف وتشديد الياء ، وهي الأرض القفر .
وروى مالك والستة إلا الترمذي وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا قال الإمام ) غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( فقولوا آمين ) - وفي رواية إذا أمن الإمام فأمنوا - فإنه من وافق تأمينه - تأمين الملائكة - وفي رواية : من وافق قوله قول الملائكة - غفر له ما تقدم من ذنبه .
وفي رواية في الصحيح : ( إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، وقالت الملائكة في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم له من ذنبه ) .
وفي رواية لأبي يعلى : إذا قال الإمام ) غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( قال الذين خلفه : آمين ، التقت من أهل السماء وأهل الأرض آمين ، غفر للعبد ما تقدم من ذنبه .
وللشيخين عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) ؛ وفي رواية : فإذا وافق قول أهل السماء قول أهل الأرض غفر له ما تقدم من ذنبه ؛ في أشكال ذلك مما يؤذن بائتمام الملائكة بأئمتنا ، وذلك ظاهر في التقيد بشرعنا ؛ وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم - وجزم ابن معين والذهلي بصحته - عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة ) وأدل من جميع ما مضى ما(2/613)
صفحة رقم 614
روى مالك والشيخان وأبو داود وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ) ؛ وفي رواية : ( فإذا قعد الإمام طويت الصحف ) ؛ وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد : فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر .
فإن تركهم لكتابة الناس وإقبالهم على الاستماع دليل واضح على الائتمام ، بما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت ، والإمام يخطب فقد لغوت ) قال الحليمي في الرابع من شعب الإيمان في الجواب عما أورد على قوله :
77 ( ) لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ( ) 7
[ الإسراء : 87 ] من أن التخصيص بالإنس والجن لا يمنع قدرة الملائكة على المعارضة ما نصه : وأما الملائكة فلم يتحدوا على ذلك لأن الرسالة غذا لم تكن إليهم لم يكن القرآن حجة عليهم ، فسواء كانوا قادرين على مثله أو عاجزين ، وهم عندنا عاجزون ؛ وقال في الخامس عشر في أن من أنواع تعظيمه الصلاة عليه فأمر الله عباده أن يصلوا عليه ويسلموا ، وقدم قبل ذلك إخبارهم بأن ملائكته يصلون عليه ، فأمر الله عباده لنبيهم بذلك على ما في الصلاة عليه من الفضل إذا كانت الملائكة مع انفكاكهم عن شريعته تتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والتسليم عليه ، ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أول وأحق - هذا نصه في الموضعين ، ولم يذكر لذلك دليلاً ، ونسب الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع مثل ذلك إلى البيهقي في الشعب فإنه قال : وصرح الحليمي والبيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه(2/614)
صفحة رقم 615
الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة ، وفي الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه ، قال : وفي تفسير الإمام الرازي والبرهان النسفي حكاية الإجماع في تفسر الآية الثانية - أي
77 ( ) ليكون للعالمين نذيراً ( ) 7
[ الفرقان : 1 ] أنه لم يكن رسولاً إليهم - انتهى .
وهو شهادة نفي كما ترى ، لا ينهض بما ذكرته من النصوص على أن الحليمي لم يقل بذلك إلا لقوله بأن لملائكة أفضل من الأنبياء - كما نقله عنه الإمام فخر الدين في كتاب الأربعين والشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد وغيرهما ، ولم يوافقه على ذلك أحد من أهل السنة إلا القاضي أبو بكر الباقلاني ، فكما لم يوافق على الأصل لا يوافق على الفرع ، وأما البيهقي فإنما نقله عن الحليمي وسكوته عليه لا يوجب القطع برضاه ، قال الزركشي في شرح جمع الجوامع : وهي مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم وقال لهم : الملائكة ما دخلت في دعوته ، فقاموا عليه ، وقد ذكر الإمام فخر الدين في تفسير سورة الفرقان الدخول محتجاً بقوله تعالى ) ليكون للعالمين نذيراً ( : والملائكة داخلون في هذا العموم - انتهى .
وهذا يقدح فيما نقل عنه من نقل الإجماع ، وعلى تقدير صحته ففيه أمور ، أما أولاً فالإجماع لا يرجع إلا إلى أهل الاطلاع على المنقولات من حفاظ الآثار وأقاويل السلف فيه ، وأما ثانياً فإنه نقل يحتمل التصحيح والتضعيف ، لأنه بطرقه احتمال أن يكون نقل عمن لا يعتد به ، أو يكون أخذه عن أحد مذاكرة وأحسن الظن به ، أو حصل له سهو ، ونحو ذلك ، فلا وثوق غلا بعد معرفة المنقول عنه وسند النقل والاعتضاد بما يوجب الثقة ليقاوم هذه الظواهر الكثيرة ، وأما ثالثاً فإنه سيأتي عن الإمام تقي الدين السبكي أن بعض المفسرين قال بالإرسال إلى الملائكة ، وقا لالإمام ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن الحافظ زين الدين العراقي في شرحه لجمع الجوامع : وأما كونه مبعوثاً إلى الخلق أجمعين فالمراد المكلف منهم ، وهذا يتناول الإنس والجن والملائكة ، فأما الأولان فبالإجماع ، وأما الملائكة فمحل خلاف فأين الإجماع هذا على تقدير صحة هذا النقل وأنى لمدعي ذلك به فإني راجعت تفسير الإمام للآية المذكورة فلم أجد فيه نقل الإجماع ، وإنما قال : ثم قالوا : هذه الآية تدل على أحكام : الأول أن العالم كل ما سوى الله ، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة ، لكنا نبئنا أنه عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة ، فوجب أن ينفى كونه رسولاً إلى الجن والإنس جميعاً ، وبطل قول من قال : إنه كان رسولاً إلى البعض دون البعض ، الثاني أن لفظ ) العالمين ( يتناول جميع المخلوقات ، فتدل الآية على أنه رسول إلى المكلفين إلى يوم القيامة ، فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل - هذا لفظه في أكثر النسخ ، وفي بعضها : لكنا أجمعنا - بدل : نبئنا - وهي غير(2/615)
صفحة رقم 616
صريحة في إجماع الأمة كما ترى ، ولم يعين الموضع الذي أحال عليه في النسخ الأخرى - فليطلب من مظانه ويتأمل ، وأما النسفي فمختصر له - والله الموفق ؛ ثم رأيت في خطبة كتاب الإصابة في أسماء الصحابة لشيخنا حافظ عصره أبي الفضل بن حجر في تعريف الصحابي : وقد نقل الإمام فخر الدين في أسرار التنزيل الإجماع على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن مرسلاً إلى الملائكة ، ونوزع في هذا النقل ، بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مرسلاً إليهم واحتج بأشياء يطول شرحها - انتهى .
والعجب من الرازي في نقل هذا الذي لا يوجد لغيره مع أنه قال في اسرار التنزيل في أواخر الفصل الثاني من الباب الثالث في الاستدلال بخلق الآدمي على وجود الخالق : الوجه الرابع - أي في تكريم بني آدم - أنه جعل أباهم رسولاً إلى الملائكة حيث قال
77 ( ) أنبئهم باسمائهم ( ) 7
[ البقرة : 31 ] وقد تقرر أن كل كرامة كانت لنبي من الأنبياء فلنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) مثلها أو أعظم منها ، وقال في تفسيره الكبير في
77 ( ) وعلم آدم الأسماء ( ) 7
[ البقرة : 31 ] : ولا يبعد أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى من يوجه التحذير إليهم من الملائكة ، لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسول لبعثة إبراهيم إلى لوط عليهما السلام - انتهى .
وأنت خبير بأمر عيسى عليه السلام بعد نزوله من السماء ، والحاصل أن رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم صلوات الله عليهم - رتبة فاضلة ودرجة عالية كاملة جائزة له ، لائقة بمنصبه ، مطابقة لما ورد من القواطع لعموم رسالته وشمول دعوته ، وقد دلت على حيازته لها ظواهر الكتاب والسنة مع أنه لا يلزم من إثباتها له إشكال في الدين ولا محذور في الإعتقاد ، فليس لنا التجريء على نفيها إلا بقاطع كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة في آية الأنعام
77 ( ) قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً ( ) 7
[ الأنعام : 145 ] قال : فاحتملت معنيين : أحدهما أن لا يحرم على طاعم يطعمه أبداً إلا ما استثنى الله عز وجل ، وهذا المعنى الذي إذا وُوجه رجل مخاطباً به كان الذي يسبق إليه أنه لا يحرم عليه غير ما سمى الله عز وجل محرماً ، وما كان هكذا فهو الذي يقال له أظهر المعاني وأعمها وأغلبها والذي لو احتملت الآية معاني سواه - كان هو المعنى الذي يلزم أهل العلم القول به إلا أن تأتي سنة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) - بأبي هو وأمي - تدل على معنى غيره مما تحتمله الآية ، فنقول : هذا معنى ما أراد الله عزّ وجلّ ، ولا يقال بخاص في كتاب الله ولا سنة إلا بدلالة فيهما أو في واحد منهما ، ولا يقال بخاص حتى تكون الآية تحتمل أن تكون أريد بها ذلك الخاص ، فأما ما لم تكن محتملة له فلا يقال فيها بما لا تحتمل الآية - انتهى .
وشرحه الإمام أبو محمد بن حزم في المحلى فقال : ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو في خبر : هذا منسوخ أو مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه ، ولا أن لهذا النص تأويلاً غير(2/616)
صفحة رقم 617
مقتضى ظاهر لفظه ، ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر ، أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر ، أو بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر ، برهانه :
77 ( ) وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ( ) 7
[ النساء : 64 ]
77 ( ) وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين له ( ) 7
[ إبراهيم : 4 ] وقال
77 ( ) فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ( ) 7
[ النور : 63 ] ، ومن ادعى أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية ، لا كل ما يقتضيه فقد أسقط بيان النص ، وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة ، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه من سائر ما يقتضيه - انتهى .
وقال أهل الأصول : إن الظاهر ما دل على المعنى دلالة ظنية اي راجحة ، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، فإن حمل عليه لدليل فصيح - أو لما نظن دليلاً وليس في الواقع بدليل - فاسد ، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ، قال الإمام الغزالي في كتاب المحبة من الإحياء في الكلام على أن رؤية الله تعالى في الآخرة هل هي بالعين أو بالقلب : والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ، ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلاّ لضرورة - انتهى ، وقال الإمام تقي الدين السبكي في جواب السؤال عن الرسالة إلى الجن الذي تقدم في أول الكلام على هذه الآية أني رأيته بخطه : الآية العاشرة :
77 ( ) ليكون للعالمين نذيراً ( ) 7
[ الفرقان : 1 ] قال المفسرون كلهم في تفسيرها : للجن والإنس ، وقا لبعضهم : والملائكة .
الثانية عشرة
77 ( ) وما أرسلناك إلا كافة للناس ( ) 7
[ سبأ : 28 ] قال المفسرون : معناها : إلا إرسالاً عاماً شاملاً لجميع الناس ، أي ليس بخاص ببعض الناس ، فمقصود الآية نفي الخصوص وإثبات العموم ، ولا مفهوم لها فيما وراء الناس ، بل قوتها في العموم يقتضي عدم الخصوصية فيهم وحينئذ يشمل الجن ، ولو كان مقصود الآية حصر رسالته في الناس لقال : وما أرسلناك إلا إلى الناس ، فإن كلمة ( إلا ) تدخل على ما يقصد الحصر فيه ، فلما أدخلها على ) كافة ( دل على أنه المقصود بالحصر ، ويبقى قوله ) للناس ( لا مفهوم له ، أما أولاً فلأنه مفهوم قلب وأما ثانياً فلأنه لا يقصد بالكلام ، أما ثالثاً فلأنه قد قيل : إن ) الناس ( يشمل الإنس والجن ، أي على القول بأنه مشتق من النوس ، وهو التحرك ، وهو على هذا شامل للملائكة أيضاً ، وممن صرح من أهل اللغة بأن ) الناس ( يكون من الإنس ومن الجن الإمام أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي في كتابه ديوان الأدب ، قال السبكي : السابعة عشرة
77 ( ) إن هو إلا ذكر للعالمين ( ) 7
[ ص : 87 ] الثامنة عشرة
77 ( ) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ( ) 7
[ يس : 11 ] ونحوهما كقوله(2/617)
صفحة رقم 618
77 ( ) لتنذر من كان حياً ( ) 7
[ يس : 70 ] وكذا قوله ) هدى للمتقين ( ، وأما السنة فأحاديث : الأول حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ( وأرسلت إلى الخلق كافة ) ، ( إلى الخلق ) عام يشمل الجن بلا شك ، ولا يرد على هذا أنه ورد في روايات هذا الحديث من طرق أخرى في صحيح البخاري وغيره ( الناس ) موضع ( الخلق ) لأنا نقول : ذلك من رواية جابر ، وهذا من رواية أبي هريرة ؛ فلعلهما حديثان ، وفي رواية الخلق زيادة معنى على الناس ، فيجب الأخذ به إذ لا تعارض بينهما ، ثم جوز أن يكون من روى ( الناس ) روى بالمعنى فلم يوف به ، قال : وهذا الحديث يؤيد قول من قال : إنه مرسل إلى الملائكة ولا يستنكر هذا ، فقد يكون ليلة الإسراء يسمع من الله كلاماً فبلغه لهم في السماء أو لبعضهم ، وبذلك يصح أنه مرسل إليهم ، ولا يلزم من كونه مرسلاً إليهم من حيث الجملة أن يلزمهم جميعُ الفروع التي تضمنتها شريعته ، فقد يكون مرسلاً إليهم في بعض الأحكام أو في بعض الأشياء التي ليست بأحكام ، أو يكون يحصل لهم بسماع القرآن زيادةُ إيمان ، ولهذا جاء فيمن قرأ سورة الكهف : فنزلت عليه مثل الظلة ، ثم قال في أثناء كلام : بخلاف الملائكة ، لا يلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قيل بعموم الرسالة لهم ، بل يحتمل ذلك ويحتمل في شيء خاص كما أشرنا إليه فيما قبل - انتهى .
قلت : ولا ينكر اختصاص الأحكام ببعض المرسل إليهم دون بعض في شرع واحد في الأحرار والعبيد والنساء والرجال والحطّابين والرعاء بالنسبة إلى بعض أعمال الحج وغير ذلك مما يكثر تعداده - والله الموفق ؛ ومن تجرأ على نفي الرسالة إليهم من أهل زماننا بغير نص صريح يضطره إليه ، كان ضعيف العقل مضطرب الإيمان مزلزل اليقين سقيم الدين ، ولو كان حاكياً لما قيل على وجه الرضى به ، فما كل ما يُعلَم يقال ، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع ، ولعمري إن الأمر لعلى ما قال صاحب البردة وتلقته الأمة بالقبول ، وطرب عليه في المحافل والجموع :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
ولما أثبت شهادة الله تعالى له بالتصديق بأنه محق ، وكان ذلك ربما أوهم أن غير الله تعالى لا يعرف ذلك ، لا سيما وقد ادعى كفار قريش أنهم سألوا أهل الكتابين فادعوا أنهم لا يعرفونه ، أتبعه بقوله على طريق الاستئناف : ( الذين آتيناهم ) أي بما لنا من العظمة من اليهود والنصارى ) الكتاب ) أي الجامع لخيري الدنيا والآخرة ، وهو التوراة(2/618)
صفحة رقم 619
والإنجيل ) يعرفونه ) أي الحق الذي كذبتم به لما جاءكم وحصل النزاع بيني وبينكم فيه لما عندهم في كتابهم من وصفي الذي لا يشكون فيه ، ولما هم بمثله آنسون مما أثبت به من المعجزات ، ولما في هذا القرآن من التصديق لكتابهم والكشف لما أخفوا من أخبارهم ، ولأساليبه التي لا يرتابون في أنها خارجة من مشكاة كتابهم مع زيادتها بالإعجاز ، فهم يعرفون هذا الحق ) كما يعرفون أبناءهم ) أي من بين الصبيان بحُلاهم ونعوتهم معرفة لا يشكون فيها ، وقد وضعتموهم موضع الوثوق ، وأنزلتموهم منزلة الحكم بسؤالكم لهم عني غير مرة ، وقد آمن بي جماعة منهم وشهدوا لي ، فما لكم لا تتابعونهم لقد بان الهوى وانكشف عن ضلالكم الغطاء .
ولما كان أكثرهم يخفون ذلك ولا يشهدون به ، قال جواباً لمن يسأل عنهم : ( الذين خسروا ) أي منهم ، ولكنه حذفها للتعميم ) أنفسهم فهم ) أي بسبب ذلك ) لا يؤمنون ) أي لما سبق لهم من القضاء بالشقاء الذي خسروا به أنفسهم بالعدول عما دعت إليه الفطرة السليمة والفكرة المستقيمة ، ومن خسر نفسه فهو لا يؤمن فكيف يشهد فقد بينت هذه الجملة أن من لا يشهد منهم فهو في الحقيقة ميت أو موات ، لأن من ماتت نفسه كذلك ، بل هم أشقى منه ، فلقد أداهم ذلك الشقاء إلى أن حرفوا كتابهم وأخفوا كثيراً مما يشهد لي بالنبوة ، فكانوا أظلم الخلق بالكذب في كتاب الله للتكذيب لرسل الله .
الأنعام : ( 21 - 26 ) ومن أظلم ممن. .. . .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ( )
ولما كان التقدير : خسروا ففاتهم الإيمان ، لأنهم ظلموا بكتمان الشهادة ، فكان الظلم سبب خسرانهم ، فمن أظلم منهم عطف عليه ما يؤذن بأنهم بدلوا كتابهم ، أو نسبوا إليه ما ليس فيه ، فقال واضعاً للظاهر موضع ضميرهم لذلك : ( ومن أظلم ممن افترى ) أي تعمد ) على الله كذباً ( كهؤلاء الذين حرفوا كتابهم ونسبوا إلى الله ما لم يقله ، زيادة كتبوها بأيديهم لا أصل ها ، إضلالاً منهم لعباده ) أو كذب بآياته ) أي الآتي بها الرسل كالقرآن وغيره من المعجزات كالمشركين ، لا أحد أظلم منهم فهم لا يفلحون ) إنه لا يفلح الظالمون ) أي فكيف بالأظلمين(2/619)
صفحة رقم 620
ولما كان معنى هذا أنهم أكذب الناس ، دل عليه بكذبهم يوم الحشر بعد انكشاف الغطاء فقال : ( ويوم ) أي اذكر كذبهم على الله وتكذيبهم في هذه الدار ، واذكر أعجب من ذلك ، وهو كذبهم في عالم الشهادة عند كشف الغطاء وارتفاع الحجب يوم ) نحشرهم ) أي نجمعهم بما لنا من العظمة وهم كارهون صاغرون ) جميعاً ) أي أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ومعبوداتهم ، وأشار إلى عظمة ذلك اليوم وطوله ومشقته وهوله بقوله بأداة التراخي : ( ثم نقول ( أى بما لنا من العظمة التي انكشفت لهم أستارها وتبدت لهم بحورها وأغوارها توبيخاً وتنديماً ) للذين أشركوا ) أي سموا شيئاً من دوننا إلهاً وعبدوه بالفعل من الأصنام أو عزير أو المسيح أو الظلمة أو النور أو غير ذلك ، أو بالرضى بالشرك ، فإن الرضى بالشيء فعل له لا سيما إن انضم إليه تكذيب المحق والشهادة للمبطل بأن دينه خير ) أين شركاؤكم ( أضافهم إلى ضميرهم لتسميتهم لهم بذلك ) الذين كنتم تزعمون ) أي أنهم شركاؤنا بالعبادة أو الشهادة بما يؤدي إليها ، ادعوهم اليوم لينقصوكم مما نريد من ضركم ، أو يرفعوكم مما نريد من وضعكم ، وسؤالهم هذا يجوز أن يكون مع غيبة الشركاء عنهم وأن يكون عند إحضارهم لهم ، فيكون الاستفهام عما كانوا يظنون من نفعهم ، فكأن غيبته غيبتهم .
ولما كان إخبارهم بغير الواقع في ذلك اليوم مستبعداً بعد رفع الحجاب عن الأهوال وإظهار الزلازل والأوجال .
أشار إليه بأداة البعد فقال : ( ثم لم تكن فتنتهم ) أي عاقبة مخالطتنا لهم بهذا السؤال وأمثاله من البلايا التي من شأنها أن يميل ما خالطته فتحيله - ولو أنه جبل - عن حاله بما ناله من قوارعه وزلزاله إلاّ كذبهم في ذلك الجمع ، وهو معنى قوله : ( إلاّ أن قالوا ( ثباتاً منهم فيما هم عريقون فيه من وصف الكذب : ( والله ( فذكروا الاسم الأعظم الذي تندك لعظمته الجبال الشم ، وتنطق بأمره الأحجار الصم ، الجامع لجميع ماني الأسماء الحسنى التي ظهر لهم كثير منها في ذلك اليوم ، وأكدوا ذلك بذكر الوصف المذكر بتربيتهم ودوام الإحسان إليهم فقالوا : ( ربنا ( فلم يقنعوا بمجرد الكذب حتى أقسموا ، ولا بمجرد القسم حتى ذكروا الاسم الجامع والوصف المحسن ) ما كنا مشركين ) أي إن تكذيبهم لك أوصلهم إلى حد يكذبون فيه في ذلك اليوم بعد كشف الغطاء تطمعاً بما لا ينفعهم ، كما ترى الحائر المدهوش في الدنيا يفعل مثل ذلك فهو إيئاس من فلاح الجميع : المشركين وأهل الكتاب ، أو يكون المعنى تنديماً لهم وتأسيفاً : أنه لم يكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به في لزومه والافتخار به والقتال عليه - لكونه دين الآباء - إلاّ جحوده والبراءة منه والحلف على الانتفاء من التدين به ، والمعنى على قراءتي النصب والرفع في ( فتنة ) على جعلها خبراً أو اسماً واحداً ، فمعنى قراء النصب : لم يكن شيء إلاّ قولهم - أي غير قولهم الكذب - فتنتهم ، (2/620)
صفحة رقم 621
أي لم يكن شيء فتنتهم إلاّ هذا القول ، فهذا القول وحده فتنتهم ، فنفى عن فتنتهم وسلب عنها كل شيء غير قولهم هذا ، فالفتنة مقصورة على قولهم الكذب ، والكذب قد يكون ثابتاً لغيرها ، أي إنهم يكذبون من غير فتنة ، بل في حال الرخاء ، وهذا بعينه معنى قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص برفع فتنة ، أي لم تكن فتنتهم شيئاً غي ركذبهم ، فقد نفيت فتنتهم عن كل شيء غير الكذب ، فانحصرت فيه ، ويجوز أن يكون ثابتاً في حال غيرها - على ما مر ، وهذا التقدير نفيس عزيز الوجود دقيق المسلك - يأتي إن شاء الله تعالى عند
77 ( ) وما كان صلاتهم عند البيت ( ) 7
[ الأنفال : 35 ] في الأنفال ما ينفع هنا فراجعه .
ولما كان هذا من أعجب العجب ، أشار إليه بقوله : ( انظر ( وبالاستفهام في قوله : ( كيف كذبوا ( وبالإشارة إلى أنهم فعلوه مع علمهم بما انكشف لهم من الغطاء أنه لا يجديهم بقوله : ( على أنفسهم ( وهو نحو قوله
77 ( ) فيحلفون له كما يحلفون لكم ( ) 7
[ المجادلة : 18 ] - الآية .
ولما كان قولهم هذا مرشداً إلى أن شركاءهم غابوا عنهم ، فلم ينفعوهم بنافعة ، وكان الإعلام بفوات ما أنهم مقبل عليه فرح به ، ساراً لخصمه جالباً لغمه ، صرح به في قوله : ( وضل ) أي غاب ) عنهم ( إما حقيقة أو مجازاً ، أو هما بالنظر إلى وقتين ، ليكون إنكاراً ) ما كانوا يفترون ) أي يتعمدون الكذب في ادعاء شركته عناداً لما على ضده من الدلائل الواضحة .
ولما علم أن هذه الآيات قد ترابطت حتى كانت آية واحدة ، وختم بأن مضمون قوله
77 ( ) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ( ) 7
[ الأنعام : 5 ] - الآية ، قد صار وصفاً لهم ثابتاً حتى ظهر في يوم الجمع ، قسم الموسومين بما كانت تلك الآية سبباً له ، وهو الإعراض عن الآيات المذكور في قوله
77 ( ) إلاّ كانوا عنها معرضين ( ) 7
[ الأنعام : 4 ] ، فكان كأنه قيل : فمنهم من أعرض بمليته ، فعطف عليه قوله : ( ومنهم من يستمع إليك ) أي يصغي بجهده كما في السيرة عن أبي جهل بن هشام وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق أن كلاًّ منهم جلس عند بيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الليل يستمع القرآن .
لا يعلم أحد منهم بمجلس صاحبه ، فلما طلع الفجر انصرفوا فضمهم الطريق فتلاوموا وقالوا : لو رآكم ضعفاؤكم لسارعوا إليه ، وتعاهدوا على أن لا يعودوا ، ثم عادوا تمام ثلاث ليال ، ثم سأل الأخنس أبا سفيان عما سمع فقال : سمعت أشياء عرفتها وعرفت المراد منها ، وأشياء لم أعرفها ولم أعرف المراد منها ، فقال : وأنا كذلك ، ثم سأل أبا جهل فأجاب(2/621)
صفحة رقم 622
بما يعرف منه أنه علم صدقه وترك تصديقه حسداً وعناداً ، وذلك هو المراد من قوله : ( وجعلنا ) أي والحال أنا قد جعلنا ) على قلوبهم أكنة ) أي أغطية ، جمع كنان أي غطاء ) أن ) أي كراهة أن ) يفقهوه ) أي القرآن ) وفي آذانهم وقراً ) أي ثقلاً يمنع من سمعه حق السمع ، لأنه يمنع من وعيه الذي هو غاية السماع ، فهم لا يؤمنون بما يسمع منك لذلك .
ولما ذكر ما يتعلق بالسمع ، ذكر ما يظهر للعين ، معبراً بما يعم السمع وغيره من أسباب العلم فقال : ( وإن يروا ) أي بالبصر أو البصيرة ) كل آية ) أي من آياتنا سواه ) لا يؤمنوا بها ( لما عندهم من العناد والنخوة في تقليد الآباء والأجداد ) حتى ( كانت غايتهم في هذا الطبع على قلوبهم أنهم مع عدم فقههم ) إذا جاءوك يجادلونك ) أي بالفعل أو بالقوة ، والغاية داخلة ، وكأنه قيل تعجباً : ماذا يقولون في جدالهم ؟ فقال مظهراً للوصف الذي أداهم إلى ذلك : ( يقول الذين كفروا ) أي غطوا لما هو ظاهر لعقولهم وهو معنى الطبع ) إن ) أي ما ) هذا ) أي الذي وصل إلينا ) إلا أساطير ( جمع سطور وأسطر جمع سطر وهي أيضاً جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأسطور ، وبالهاء في الكل ) الأولين ( وقد قال ذلك النضر بن الحارث ، فصدق قوله إخبار هذه الآية ) وهم ( حال من فاعل ) يستمع ) أي يستمعون إليك والحال أنهم ) ينهون عنه ) أي عن الاستماع أو عن اتباع القرآن ) وينأون ) أي يبعدون ) عنه ) أي كما وقع لأبي جهل وصاحبيه في المعاهدة على ترك المعاودة للسماع وما يتبعه ) وإن ) أي وما ) يهلكون ) أي بعبادتهم ومكابدتهم إلاّ أنفسهم ) أي وما هم بضاريك ولا بضاري أحد من أتباعك فيما يقدح في المقصود من إرسالك من إظهار الدين ومحو الشرك وإذلال المفسدين ) وما يشعرون ) أي وما لهم نوع شعور بما يؤديهم إليه الحال ، بل هم كالبهائم ، بل هي أصلح حالاً منهم .
الأنعام : ( 27 - 30 ) ولو ترى إذ. .. . .
) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( ( )
ولما جعل عدم إيمانهم في هذه بشيء من الآيات موصلاً لهم إلى غاية من الجهل عظيمة موئسة من ادعائهم في هذه الدار ، وهي مجادلتهم له ( صلى الله عليه وسلم ) ، وختم الآية بما رأيت من عظيم التهديد استشرفت النفس إلى معرفة حالهم عند ردهم إلى الله تعالى والكشف(2/622)
صفحة رقم 623
لهم عما هددوا به ، فأعلم نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) أن حالهم إذ ذاك الإيمان ، حيث يسر غاية السرور تصديقهم له ، وتمنيهم متابعته لما يركبهم من الذل ويحيط بهم من الصغار ، ولا يزيدهم ذلك إلاّ ضرراً وعمى وندماً وحسرة ، فكأنه قيل : فلو رأيت حالهم عند كشف الغطاء - وهو المطلع - لرأيتهم يؤمنون : ( ولو ترى إذ ) أي حين ) وقفوا ( في الحشر ، وبني للمجهول لأن المنكىّ الإيقاف ، لا كونه من معين ) على النار ) أي عندها ليدخلوها مشرفين على كل ما فيها من أنواع النكال ، وذلك أعظم في النكاية أو على الجسر وهو على الصراط وهي تحتهم ، أو عرفوا حقيقتها ومقدار عذابها من قولك : أوقفته على كذا - إذا عرفته إياه ) فقالوا ( تمنياً للمحال ) يا ليتنا نرد ) أي إلى الدنيا .
ولما كان التقدير بشهادة قراءة من نصب الفعلين - جواباً للتمني - أو أحدهما : فنطيع ، عطف على الجملة قوله : ( ولا ) أي والحال أنا لا ، أو ونحن لا ) نكذب ( إن رددنا ) بآيات ربنا ) أي المحسن إلينا ) ونكون من المؤمنين ) أي الراسخين في الإيمان ، والتقدير عند ابن عامر في نصب الثالث : ليتنا نرد ، وليتنا لا نكذب فنسعد وأن نكون ، وعلى قراءة حمزة والكسائي وحفص بنصب الفعلين : ليتنا نرد فنسعد ، وأن لا نكذب وأن نكون ، والمعنى : لو رأيت إيقافهم ووقوفهم في ذلك الذل والانكسار والخزي والعار وسؤالهم وجوابهم لرأيت أمراً هائلاً فظيعاً ومنظراً كريهاً شنيعاً ، ولكنه حذف تفخيماً له لتذهب النفس فيه كل مذهب ، وجاز حذفه للعلم به في الجملة .
ولما أخبرنا - في قراءة الرفع - عن أنفسهم بما تمنوا لأجله الرد ، وتضمنت قراءة النصب الوعد ، فإنه كما لو قال قائل : ليت الله يرزقني مالاً فأكافئك على صنيعك ، فإنه ينجر إلى : إن رزقني الله مالاً كافأتك ، فصار لذلك مما يقبل التكذيب ، أضرب عنه سبحانه تكذيباً لهم بقوله : ( بل ) أي ليس الأمر كما قالوا ، لأن هذا التمني ليس عن حقيقة ثابتة في أنفسهم من محبة مضمونه وثمرته ، بل ) بدا ) أي ظهر ) لهم ( من العذاب الذي لا طاقة لهم به ) ما كانوا يخفون ) أي من أحوال الآخرة ومرائهم على باطل ولما كان إخفاؤهم ذلك في بعض الزمان قال : ( من قبل ) أي يدعون أنه خفي ، بل لا حقيقة له ، ويسترون ما تبديه الرسل من دلائله عناداً منهم مع أنه أوضح من شمس النهار بما يلبسون من الهيبة فلذلك تمنوا ما ذكروا ) ولو ردوا ) أي إلى الدنيا ) لعادوا لما نهوا عنه ) أي من الكفر والفضائح التي كانوا عليها وستر ما اتضح لعقولهم من الدلائل ) وإنهم لكاذبون ) أي فيما أخبروا به عن أنفسهم من مضمون تمنيهم أنهم يفعلونه لو ردوا ، وأكد طبعهم على الكفر بقوله عطفاً على قوله ) لعادوا ( : ( وقالوا ) أي بعد الرد ما كانوا يقولونه قبل الموت في إنكار البعث ) إن هي أي ما هذه الحياة التي نحن ملابسوها ) إلا حياتنا الدنيا ) أي التي كنا عليها قبل(2/623)
صفحة رقم 624
ذلك ) وما نحن ( وأغرقوا في النفي فقالوا : ( بمبعوثين ) أي بعد أن نموت ، وما رؤيتنا لما رأينا قبل هذا من البعث إلاّ سحر لا حقيقة له ، ولم ينفعهم مشاهدة البعث بل ضرتهم ، هذا محتمل وظاهر ، ولكن الأنسب لسياق الآيات قبل وبعد أن يكون هذا حكاية لقولهم له ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الدار عطفاً على قوله
77 ( ) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ( ) 7
[ الأنعام : 8 ] على الوجه الأول ، وقوله : ( ولو ترى ( متصل بذلك ، أي قالوا هذا القول لما أخبرتهم بالبعث ، فساءك ذلك من قولهم والحال أنك لو رأيت اعترافهم به إذا سألهم خالقهم لسرك ذلك من ذلهم وما يؤول إليه أمرهم ، وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم ذلك ، وقولُه : ( إذ وقفوا على ربهم ( مجازاً عن الحبس في مقام من مقامات الجلال بما اقتضاه إضافة الرب إليهم ، أي الذي طال إحسانه إليهم وحلمه عنهم ، فأظهر لهم ما أظهر في ذلك المقام من تبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم ، وأطلعهم بما يقتضيه أداة الاستعلاء - على ما له سبحانه من صفات العظمة من الكبرياء والانتقام من التربية إذ لم يشكروا إحسانه في تربيتهم ، وسياق الآية يقتضي أن يكون الجواب : لرأيتهم قد منعتهم الهيبة وعدم الناصر وشدة الوجل من الكلام ، فكأن سائلاً قال : المقام يرشد إلى ذلك حتى كأنه مشاهد فهل يكلمهم الله لما يشعر به التعبير بوصف الربوبية ؛ قيل : نعم ، لكن كلام إنكار وإخزاء وإذلال ) قال أليس هذا ) أي الذي أتاكم به رسولي من أمر البعث وغيره مما ترونه الآن من دلائل كبريائي ) بالحق ) أي الأمر الثابت الكامل في الحقية الذي لا خيال فيه ولا سحر ) قالوا ) أي حين إيقافهم عليه ، فكان ما أراد : ( بلى ( ، وزادوا على ما أمروا به في الدنيا القسم فقالوا : ( وربنا ) أي الذي أحسن إلينا بأنواع الإحسان ، وكأن كلامهم هذا منزل على حالات تنكشف لهم فيها أمور بعد أخرى ، كل أمر أهول مما قبله ، ويوم القيامة - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما - ذو ألوان : تارة لا يكلمهم الله ، وتارة يكلمهم فيكذبون ، وتارة يسألهم عن شيء فينكرون ، فتشهد جوارحهم ، وتارة يصدقون كهذا الموقف ويحلفون على الصدق .
ولما أقروا قهراً بعد كشف الغطاء وفوات الإيمان بالغيب بما كانوا به يكذبون ، تسبب عنه إهانتهم ، فلذا قال مستأنفاً : ( قال ) أي الله مسبباً عن اعترافهم حيث لا ينفع ، وتركهم في الدنيا حيث كان ينفع ) فذوقوا العذاب ) أي الذي كنتم به توعدون ) بما كنتم تكفرون ) أي بسبب دوامكم على ستر ما دلتكم عليه عقولكم من صدق رسولكم ، ولا شك أن الكلام - وإن كان على هذه الصورة - فيه نوع إحسان ، لأنه أهون من التعذيب مع الإعراض في مقام
77 ( ) اخسؤوا فيها ولا تكلمون ( ) 7
[ المؤمنون : 108 ] ولذلك كان ذلك آخر المقامات .(2/624)
صفحة رقم 625
الأنعام : ( 31 - 34 ) قد خسر الذين. .. . .
) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( ( )
ولما أنتج هذا ما تقدم الإخبار به عن خسرانهم لأنفسهم في القيامة توقع السامع ذكره ، فقال تحقيقاً لذلك ، وزاده الحمل فإنه من ذوق العذاب : ( قد خسر ( وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتنبيهاً على ما أوجب لهم ذلك فقال : ( الذين كذبوا بلقاء الله ) أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ، ولا أمر لأحد معه ، قد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم واستمر تكذيبهم ) حتى إذا جاءتهم الساعة ) أي الحقيقة ، وكذا الموت الذي هو مبدأها فإن من مات جاءت ساعته ، وحذرهم منها بقوله : ( بغتة ) أي باغتة ، أو ذات بغتة ، أو بغتتهم بإتيانها على حين غفلة ، لا يمكن أن يشعروا بعين الوقت الذي تجيء فيه نوعاً من الشعور ) قالوا يا حسرتنا ) أي تعالى احضرينا أيها الحسرة اللائقة بنا في هذا المقام فإنه لا نديم لنا سواك ، وهو كناية عن عظمة الحسرة وتنبيه عليه ، لينتهي الإنسان عن أسبابها ) على ما فرطنا ) أي قصرنا ) فيها ) أي بسبب الساعة ، ففاتنا ما يسعد فيها من تهذيب الأخلاق المهيئة للسباق بترك اتباع الرسل ، وذلك أن الله خلق المكلف وبعث له النفس الناطقة القدسية منزلاً لها إلى العالم السفلي ، وأفاض عليه نعماً ظاهرة وهي الحواس الظاهرة المدركة والأعضاء والآلات الجثمانية ، ونعماً باطنة وهي العقل والفكر وغيرهما ، ليتوسل باستعمال هذه القوى والآلات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت ، وبعث الأنبياء عليهم السلام للهداية وأظهر عليهم المعجزات ليصدقوا ، فأعرضوا عما دعوا إليه من تركية النفس ، وأقبلوا على استعمال الآلات والقوى في اللذات والشهوات الفانية ففاتت الآلات البدنية التي هي رأس المال ، وما ظنوه من اللذات التي عدوها أرباحاً فات ففقدوا الزاد ، ولم يهيئوا النفوس للاهتداء ، فلا رأس مال ولا ربح ، فصاروا في غاية الانقطاع والغربة ، ولا خسران أعظم من هذا .
ولما كان هذا أمراً مفظعاً ، زاد في تفظيعه بالإخبار في جملة حالية بشدة تعبهم في ذلك الموقف ووهن ظهورهم بذنوبهم ، حتى كأن عليهم أحمالاً ثقالاً فقال : ( وهم ((2/625)
صفحة رقم 626
أي وقالوا ذلك والحال أنهم ) يحملون أوزارهم ) أي أحمال ذنوبهم التي من شأنها أن يثقل ، وحقق الأمر وصوره بقوله : ( على ظهورهم ( لاعتقاد الحمل عليه ، كما يقال : ثقل عليك كلام فلان ، ويجوز أن يجسد أعمالهم أجساداً ثقالاً ، فيكلفوا حملها ؛ ولما كان ذلك الحمل أمراً لا يبلغ الوصف الذي يحتمله عقولنا كل حقيقة ما هو عليه من البشاعة والثقل ، أشار إلى ذلك بقوله جامعاً للمذام : ( ألا ساء ما يزرون ( .
فلما تأكد أمر البعث غاية التأكد ، ولم يبق فيه لذي لب وقفة ، صرح بما اقتضاه الحال من أمر هذه الدار ، فقال منبهاً على خساستها معجباً منهم في قوة رغبتهم في إيثار لذاذتها ، معلماً بأنه قد كشف الحال عن أن ما ركنوا إليه خيال ، وما كذبوا به حقيقة ثابتة ليس لها زوال ، عكس ما كانوا يقولون : ( وما الحياة الدنيا ( .
ولما كان السياق للخسارة ، وكانت أكثر ما تكون من اللعب - وهو فعل ما يزيد سرور النفس على وجه غير مشروع ، ويسرع انقضاؤه - قدمه فقال : ( إلا لعب ولهو ) أي للأشقياء ، وللحياة الدنيا شر للذين يلعبون ، واللهو ما من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء على وجه لم يؤذن فيه ، فيكون سبباً للغفلة عما ينفع ، فتأخيره إشارة إلى أن الجهلة كلما فتروا في اللعب وهو اشتغال بالأمور السافلة والشواغل الباطلة بعلو النفوس أثاروا الشهوات بالملاهي ، والمعنى أنه تحقق من هذه الآيات زوال الدنيا ، فتحققت سرعته ، لأن كل آتٍ قريب ، فحينئذ ما هي إلا ساعة لعب ، يندم الإنسان على ما فرط فيها ، كما يندم اللاعب - إن كان له عقل - على تفويت الأرباح إذا رأى ما حصل أولو الجد وأرباب العزائم .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه المعنى : وما الدار الآخرة إلا جد وحضور وبقاء للأتقياء ، أتبعه قوله مؤكداً : ( وللدار الآخرة خير ( ولما كان الكل مآلهم إلى الآخرة ، خصص فقال : ( للذين يتقون ) أي يوجدون التقوى ، وهي الخوف من الله الذي يحمل على فعل الطاعات وترك المعاصي ، ليكون ذلك وقاية لهم من غضب الله ، فذكر حال الدنيا وحذف نتيجتها لأهلها لدلالة ثمرة الآخرة عليه وحذف ذكر حال الآخرة لدلالة ذكر حال الدنيا عليه ، فهو احتباك ؛ ولما كان من شأن العقلاء الإقبال على الخير وترك غيره ، تسبب عن إقبالهم على الفاني وتركهم الباقي قوله منكراً : ( أفلا تعقلون ( ولما كرر في هذه السورة أمره بمقاولتهم ، وأطال في الحث على مجادلتهم ، وختم بما يقتضي سلبهم العقل مع تكرير الإخبار بأن المقضي بخسارته منهم لا يؤمنون لآية من الآيات ، وكان من المعلوم أنهم حال إسماعهم ما أمر به لا يسكتون لما عندهم من عظيم النخوة وشماخة الكبر وقوة الجرأة ، وأنه لا جواب لهم إلا التبعة والبذاءة كما(2/626)
صفحة رقم 627
هو دأت المعاند المغلوب ، وأن ذلك يحزنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما جبل عليه من الحياء والشهامة والصيانة والنزاهة ، كان الحال محتاجاً إلى التسلية فقال تعالى : ( قد نعلم ( والمراد بالمضارع وجود العلم من غير نظر إلى زمان ، وعدل عن الماضي لئلا يظن الاختصاص به ، فالمراد تحقق التجدد لتعلق العلم بتجدد الأقوال ) إنه ليحزنك ) أي يوقع على سبيل التجديد والاستمرار لك الحزن على ما فاتك من حالات الصفاء التي كدرها ) الذي يقولون ) أي من تكذيبك ، فقد علمنا امتثالك لأوامرنا في إسماعهم ما يكرهون من تنزيهنا ، وعلمنا ردهم عليك بما لا يرضيك ، وعلمنا أنه يبلغ منك ، فلا تحزن لأن من علم أن ربه يرضي المطيع له ويجزي عاصيه ، وهو عالم بما ينال المطيع في طاعته لا ينبغي أن يحزن بل يسر ، وهو كقوله تعالى في سورة يس
77 ( ) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ( ) 7
[ يس : 76 ] ولا شك أن الحزن عند وقوع ما يسوء من طبع البشر الذي لا يقدر على الانفكاك عنه ، فالنهي عنه إنما هو نهي عما ينشأ عنه من الاسترسال المؤدي إلى الجزع المؤدي إلى عدم الصبر ونسيان ما يعزي ، فهو من النهي عن السبب للمبالغة في النهي عن المسبب ، وما أنسب ذكر ما يحزن بعد تقرير أن الدنيا لأهلها لعب ولهو وأن الآخرة خير للمتقين ، ومن المعلوم أنهما ضدان ، فلا تنال إحداهما إلاّ بضد ما للأخرى ، فلا تنال الآخرة إلا بضد ما لأهل الدنيا من اللعب واللهو ، وذلك هو الحزن الناشئ عن التقوى الحامل عليها الخوف كما روي في حديث قدسي ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ) .
ولما أخبره سبحانه بعلمه بذلك ، سبب عنه قوله : ( فإنهم ) أي فلا يحزنك ذلك فإنهم ) لا يكذبونك ( بل أنت عندهم الأمين ، وليكن علمنا بما تلقى منهم سبباً لزوال حزنك ، وكذا إخبارنا لك بعدم تكذيبهم لك ، بل أنت عندهم في نفس الأمر أمين غير متهم ولكنهم لشدة عنادهم ووقوفهم مع الحظوظ وعجزهم عن جواب يبرد غللهم ويشفي عللهم ينكرون آيات الله مع علمهم بحقيتها ، فليخفف حزنك لنفسك ما انتهكوه من حرمة من أرسلك ، والآية من الاحتباك : حذف من الجملة الأولى - إظهاراً لشرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأدباً معه - سبب الحزن ، وهو التكذيب لدلالة الثانية عليه ، ومن الثاني النهي عن المسبب لدلالة الأولى عليه ؛ روى الطبري في تفسيره عن السدي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة إن محمداً ابن أختكم ، وأنتم أحق من كف عنه ، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته ، قفوا(2/627)
صفحة رقم 628
ههنا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غَلِب محمد رجعتم سالمين ، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً ، فيومئذ سمي ( الأخنس ) ، وكان اسمه ( أبي ) ، فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس به فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ، فقال أبو جهل : ويحك والله إن محمداً لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش وعن ناجية قال قال أبو جهل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به ، فأنزل الله الآية وعلى ذلك يدل قوله تعالى : ( ولكن ( ، وقال : ( الظالمين ( في موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ، اي الذين كانوا في مثل الظلام ) بآيات ) أي بسبب آيات ) الله ) أي الملك الأكبر الذي له الكمال كله ) يجحدون ( قال أبو علي الفارسي في أول كتاب الحجة : أي يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك ، وعلق باء الجر بالظالمين كما هي في قوله
77 ( ) وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ( ) 7
[ الإسراء : 59 ] ونحوها ، وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال : جحد الشيء جحداً وجحوداً : أنكره وهو عالم به .
هذا قصدهم غير أنه لا طريق لهم إلا إنكار الآيات إلا بالتكذيب ، أو ما يؤول إليه ، وأنت تعلم أن الذي أرسلك على كل شيء قدير ، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، فاقتضت قدرته وقهره وانتصاره لأهل ولايته وجبره أن يحل بأعدائهم سطوة تجل عن الوصف ، واقتضت حكمته عدم المعاجلة بها تشريفاً لك وتكثيراً لأمتك .
ولما سلاه بوعده النصرة المسببة عن علم المرسل القادر ، وبأن تكذيبهم إنما هو له سبحانه ، وهو مع ذلك يصبر عليهم ويحلم عنهم ، بل ويحسن إليهم بالرزق والمنافع ، زاده أن ذلك سنة في إخوانه من الرسل فقال : ( ولقد ( ولما كان المنكي هو التكذي لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : ( كذبت رسل ( .
ولما كان تكذيبهم لم يستغرق الزمان ، وكان الاشتراك في شيء يهوّنه ، وكلما قرب الزمان كان أجدر بذلك أدخل الجار فقال : ( من قبلك ( بأن جحد قومهم ما يعرفون من صدقهم وأمانتهم كما فعل بك ) فصبروا ) أي فتسبب عن تكذيب قومهم لهم أنهم صبروا ) على ما كذبوا وأوذوا ) أي فصبروا أيضاً على ما أوذوا ، ثم أشار إلى(2/628)
صفحة رقم 629
الوعد بالنصر بشرط الصبر فقال : ( حتى ) أي وامتد صبرهم حتى ) آتاهم نصرنا ( فليكن لك بهم أسوة ، وفيهم مسلاة ، فاصبر حتى يأتيك النصر كما أتاهم ، فقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون في قولنا ) ) فإن حزب الله هم الغالبون ( ) [ المائدة : 56 ] ) ولا مبدل لكلمات الله ) أي لأن له جميع العظمة فلا كفوء له ، ودل سبحانه على صعوبة مقام الصبر جداً بالتأكيد فقال : ( ولقد جاءك ( ودل على عظيم ما تحملوا بقوله : ( من نبإى المرسلين ) أي خبرهم العظيم في صبرهم واحتمالهم وطاعتهم وامتثالهم ورفقهم بمن أرسلوا إليهم ونصرنا لهم على من بغى عليهم ، ومجيء نبأهم تقدم إجمالاً وتفصيلاً ، أما إجمالاً ففي مثل قوله ) ) وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ( ) [ آل عمران : 146 ] ، ) ) أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم ( ) [ البقرة : 87 ] وأما تفصيلاً ففي ذكر موسى وعيسى وغيرهما ؛ وفي قوله ) فصبروا ( أدل دليل على ما تقدم من أن النهي عن الحزن نهي عن تابعه المؤدي إلى عدم الصبر ، والتعبير بمن التبعيضية تهويل لما لقوا ، فهو أبلغ في التعزية .
الأنعام : ( 35 - 37 ) وإن كان كبر. .. . .
) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ( )
ولما سلاه بما هو في غاية الكفاية في التسلية ، أخبره بأنه لا حيلة له غير الصبر ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فتسلّ واصبر كما صبروا ، وليصغر عندك ما تلاقي منهم في جنب الله : ( وإن كان كبر ) أي عظم جداً ) عليك إعراضهم ) أي عما يأتيهم به من الآيات الذي قدمنا الإخبار عنه بقولنا ) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ) [ الأنعام : 4 ] وأردت أن تنتقل - في إخبارنا لك بأنه لا ينفعهم الآيات المقترحات - من علم اليقين إلى عين اليقين ) فإن استطعت أن تبتغي ) أي تطلب بجهدك وغاية طاقتك ) نفقاً ) أي منفذاً ) في الأرض ( تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر على الانتهاء إليه ) أو سلماً في السماء ) أي جهة العلو لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه ) فتأتيهم بآية ) أي ما اقترحوا عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك ، لأ الله قد شاء ضلال بعضهم ، والمراد بهذا بيان شدة حرصه ( صلى الله عليه وسلم ) على هدايتهم بأنه لو قدر على أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل .
ولما كان هذا السياق ربما أوهم شيئاً في القدرة ، نفاه إرشاداً إلى تقدير ما قدرته(2/629)
صفحة رقم 630
فقال : ( ولو شاء الله ) أي الذي له العظمة الباهرة والقدرة الكاملة القاهرة ) لجمعهم على الهدى ) أي لأن قدرته شاملة ، وإيمانهم في حد ذاته ممكن ، ولكنه قد شاء افتقراقهم بإضلال بعضهم ؛ ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) - بعد إعلام الله له بما أعلم من حكمه بأن الآيات لا تنفع من حتم بكفره - حريصاً على إجابتهم إلى ما يقترحونه رجاء جمعهم على الهدى لما طبع عليه من مزيد الشفقة على الغريب فضلاً عن القريب ، مع ما أوصاه الله به ليلة الإسراء من غير واسطة - كما أفاده الحرالي - من إدامة الشفقة على عباده والرحمة لهم والإحسان إليهم واللين لهم وإدخال السرور عليهم ، فتظافر على ذلك الطبع والإيصاء حتى كان لا يكف عنه إلا لأمر جازم أو نهي مؤكد صارم ، سبب عن ذلك قوله : ( فلا تكونن ( فأكد الكلام سبحانه ليعلم ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قد حتم بافتراقهم ، فيسكن إلى ذلك ويخالف ما جبل عليه من شدة الشفقة عليهم ) من الجاهلين ) أي إنك أعلم الناس مطلقاً ولك الفراسة التامة والبصر النافذ والفكرة الصافية بمن لم تعاشره ، فكيف بمن بلوتهم ناشئاً وكهلاً ويافعاً فلا تعمل بحجة ما أوصاك الله به من الصبر والصفح ، وجبلك عليه من الأناة والحلم في ابتغاء إيمانهم بخلاف ما يعلم من خسرانهم ، فلا تطمع نفسك فيما لا مطمع فيه ، فإن ما شاءه لا يكون غيره ، فهذه الآية وأمثالها - مما في ظاهره غلظة - من الدلالة على عظيم رتبته ( صلى الله عليه وسلم ) ومن لطيف أمداح القرآن له - كما يبين إن شاء الله تعالى في سورة التوبة عند قوله تعالى
77 ( ) عفا الله عنك ( ) 7
[ التوبة : 43 ] .
ولما أفهم هذا القضاء الحتم أنه قد صار حالهم حال من حتم بالموت ، فلا يمكن إسماعه إلا الله ، ولا يمكن أن يستجيب عادة ، قال : ( إنما يستجيب ) أي في مجاري عاداتكم ) الذين يسمعون ) أي فيهم قابلية السمع لأنهم أحياء فيتدبرون حينئذ ما يلقى إليهم فينتفعون به ، وهؤلاء قد ساووا الموتى في عدم قابلية السماع للختم على مشاعرهم ) والموتى ) أي كلهم حساً ومعنى ) يبعثهم الله ) أي الملك المحيط علماً وقدرة ، فهو قادر على بعثهم بإفاضة الإيمان على الكافر وإعادة الروح إلى الهالك فيسمعون حينئذ ، فالآية من الاحتباك : حذف من الأول الحياة لدلالة ) الموتى ( عليها ، ومن الثاني السماع لدلالة ) يسمعون ( عليه .
ولما قرر أن من لا يؤمن كالميت ، حثاً على الإيمان وترغيباً فيه ، وقدر قدرته على البعث ، خوَّفَ من سطواته بقوله : ( ثم إليه ) أي وحده ) يرجعون ) أي معنى في الدنيا فإنه قادر على كل ما يشاء منهم ، لا يخرج شيء من أحوالهم عن مراده أصلاً وحساً بعد الموت ، فيساقون قهراً إلى موقف يفصل فيه بين كل مظلوم وظالمه .
ولما سلاه ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخبرته من أقوالهم بما شرح صدره وسر خاطره ، وأعلمه(2/630)
صفحة رقم 631
تخفيفاً عليه أن أمرهم إنما هو بيده ، ذكَّره بعضَ كلامهم الآئل إلى التكذيب عقب إخباره بالحشر الذي يجازي فيه كلاًّ بما يفعل ، فقال عطفاً على قوله ) ) وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ( ) [ الأنعام : 29 ] وقوله ) ) وقالوا لولا أنزل عليه الملك ( ) [ الأنعام : 8 ] يعجب منه تعجيباً آخر : ( وقالوا ) أي مغالطة أو عناداً أو مكابرة ) لولا ) أي هلا ) نزل ) أي بالتدريج ) عليه ) أي خاصة ) آية ) أي واحدة تكون ثابتة بالتدريج لا تنقطع ، وهذا منهم إشارة إلى أنهم لا يعدون القرآن آية ولا شيئاً مما رأوه منه ( صلى الله عليه وسلم ) من غير ذلك نحو انشقاق القمر ) من ربه ) أي المحسن إليه على حس ما يدعيه لنستدل بها على ما يقول من التوحيد والبعث .
ولما كان في هذا - كما تقدم - إشارة منهم إلى أنه لم يأت بآية على هذه الصفة إما مكابرة وإما مغالطة ، أمره بالجواب بقوله : ( قل إن الله ) أي الذي له جميع الأمر ) قادر على أن ( وأشار بتشديد الفعل إلى آية القرآن المتكررة عليهم كل حين تدعوهم إلى المبارزة وتتحداهم بالمبالغة والمعاجزة فقال : ( ينزل ( وقراءة ابن كثير بالتخفيف مشيرة إلى أنهم بلغوا في الوقاحة الغاية ، وأنهم لو قالوا : لولا أنزل ، أي مرة واحدة ، لكان أخف في الوقاحة ، أو إلى أنه أنزل عليهم أيّ ىية ، كانت تلجئهم وتضطرهم إليه في آن واحد كما قال تعالى ) ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ) [ الشعراء : 4 ] ولكنه لا يسأل ذلك إلا بالتدريج كما يشير غليه صيغة التفعيل في قراءة غيره المذكرة بأن آية القرآن لا تنقضي ، بل كلما سمعها أحد منهم أو من غيرهم طول الدهر كانت منزلة عليه لكونها واصلة إليه ، فهو أبلغ من مطلوبهم آية ينزل عليه وحده ، والحاصل أنهم طلبوا آية باقية محضة ، فلوح لهم إلى آية هي - مع كونها خاصة به فيما حصل له من الشرف - عامة لكل من بلغته ، باقية طول المدى ) آية ) أي مما اقترحوه ومن غيره ، لا يعجزه شيء ، وفي كل شيء له من الآيات ما يعجز الوصف ، وكفى بالقرآن العظيم مثالاً لذلك ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أي ليس فيهم قابلية العلم ، فهم لا يتفكرون في شيء من ذلك الذي يحدثه من مصنوعاته ليدلهم على أنه على كل شيء قدير ، فلا فائدة لهم في إنزال ما طلبوه ، وأما غير الأكثر فهو سبحانه يردهم بآية القرآن أو غيرها مما لم يقترحوه .
الأنعام : ( 38 - 41 ) وما من دابة. .. . .
) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ(2/631)
صفحة رقم 632
السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) 73
( ) 71
ولما عجب منهم في قولهم هذا الذي يقتضي أنهم لم يروا له آية قط بعد ما جاءهم من الآيات الخاصة به ما ملأ الأقطار ، ورد إلى الصم الأسماع ، وأنار من العمى الأبصار ؛ ذكرهم بآية غير آية القرآن تشتمل على آيات مستكثرة كافية لصلاحهم ، رتبها سبحانه قبل سؤالهم تفضلاً منه عليهم دالة على باهر قدرته على البعث وغيره من الآيات التي طلبوها وغيرها وعلى تفرده بجميع الأمر ، إذا تأملوها حق تأملها كفتهم في جميع ما يراد منهم فقال تعالى : ( وما ) أي قالوا ذلك والحال أنه ما ، وهي ناظرة أتم نظر إلى قوله
77 ( ) هو الذي خلقكم من طين ( ) 7
[ الأنعام : 2 ] أي فعل ذلك بكم وما ) من دابة في الأرض ) أي تدب أي تنتقل برجل وغير رجل ) ولا طائر يطير ( وقرر الحقيقة بقوله : ( بجناحيه ( وشمل ذلك جميع الحيوان حتى ما في البحر ، لأن سيرها في الماء إما أن يكون دبيباً أو طيراناً مجازاً .
ولما كان المراد بالدابة والطائر الاستغراق قال : ( إلا أمم ) أي يقصد منها في نفسه ، ويقصد هو نوعه وينضم إلى شكله ) أمثالكم ) أي في ذلك وفي أنا خلقناكم ولم يكونوا شيئاً وحفظنا جميع أحوالهم ، وقدرنا كل أرزاقهم وآجالهم ، وجعلنا لكم فيهم أحكاماً جددناها لكم ، وجعلنا لكل منهم أجلاً للموت لا يتعداه بعد أن فاوتنا بينهم في الحياة ، وللكل أجل في علمنا في البرزخ مثبت قبل أن نخلقهم ، لا ينقص ذرة ولا يزيد خردلة ، وجعلنا في هذه الحيوانات ما هو أقوى منكم وما هو أضعف ، وجعلناكم أقوى من الجميع بالعقل ، ولو شئنا لجعلنا له بين قوة البدن والعقل ، وربما سلطنا الأضعف عليكم كالجراد والفأر والدود بما تعجز عنه عقولكم ، ولو شئنا لسلطنا عليكم من أضعفها خلقاً - البعوض - ما أخذ بأنفاسكم ومنعكم القرار وأخرجكم عن حركات الاختيار إلى أن أهلككم جميعاً هلاك نفس واحدة - إلى غير ذلك من أمور تكل عنها العقول وتقف دونها نوافذ الفكر ، وهذا كله معنى قوله : ( ما فرطنا ) أي تركنا وأغفلنا لما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل ) في الكتاب ) أي اللوح المحفوظ والقرآن ، وأعرق في النفي بقوله : ( من شيء ) أي ليذهب ذكره كما يذهب العقد الذي ينقطع سلكه فيتفرط ، بل ذكرنا جميع أحوال خلقنا من الجن والإنس والملائكة وغيرهم من كل ناطق وصامت ، فصارت في غاية الضبط حتى أن الحفظة يعرضون ما يحدث من عمل المكلفين وغيره آخر النهار على ما كان مثبتاً في أم الكتاب فيجدونه كما هو ، لا يزيد شيئاً ولا ينقص ، فيزدادون إيماناً ، وأثبتنا في هذا القرآن مجامع الأمور ، فهو تبيان(2/632)
صفحة رقم 633
لكل شيء من الأحكام الأصلية والفرعية والدلالات على كل ذلك وأخبار الأولين والآخرين وكل علم يمكن أن يحتاجه المخلوق ، فمن أراد الهداية هداه بدقيق أسراره ، ومن أعرض أوقعه في الردى ، وعمي حتى عن واضح أنواره ، والآية كما قال تعالى ) إن في خلق السماوات والأرض ( إلى أن قال :
77 ( ) وبث فيها من كل دابة - لآيات لقوم يعقلون ( ) 7
[ البقرة : 164 ]
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
أفلا يكون لكم في ذلك آيات تغنيكم عن إرسال الرسل فضلاً عن أن توقفوا بعد إرسالهم ولا ترضوا منهم من خوارق العادات إلا بما تقترحونه .
ولما أشار إلى ما شارك فيه سائر الحيوان للآدميين من أحوال الحياة وغيرها ، نص على الحشر الذي هو محط الحكمة فقال : ( ثم ) أي بعد طول الحياة والإقامة في البرزخ ) إلى ربهم ) أي خاصة ، وبني للمفعول على طريق كلام القادرين قوله : ( يحشرون ) أي يجمعون كرهاً بعد أن يعيدهم كلهم كما بدأهم ، وينصف كل مظلوم منهم من ظالمه ، كل ذلك عليه هيّن
77 ( ) ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ( ) 7
[ لقمان : 28 ] والكل محفوظون في كتاب مبين على اختلاف أنواعهم وتباين حقائقهم وأشخاصهم وزيادتهم في الجد على أن يوجه نحوهم العد - سبحان من أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، إن ذلك على الله يسير ، وهو على كل شيء قدير .
ولما كان التقدير بعد التذكير بهذه الآية التي تنوعت فيها الآيات وتكررت وتكثرت فيها الدلالات : فالذين آمنوا أحياء سامعون لأقوالنا ، ناطقون بمحامدنا راؤون لأفعالنا ، عطف عليه قوله : ( والذين كذبوا ) أي أوقعوا التكذيب ) بآياتنا ) أي على ما لها من العظمة المقتضية لإضافتها إلينا ، مرئية كانت أو مسموعة ، تكذيباً متكرراً على عدد الآيات بالفعل أو بالقوة ولو بالإعراض عنها ) صم ) أي أموات فهم لا يسمعون ) وبكم ( لا ينطقون ) في الظلمات ) أي عمي لا يبصرون ، فلذلك لا يزالون خابطين خبط العشواء ساعين غاية السعي إلى الردى ، لأن ذلك شأن من في الظلمة ، فكيف بمن هو في جميع الظلمات ولعله جمعها إشارة إلى أن المكذب لا ينتفع ببصر ولا ببصيرة ، وذلك أنهم لما لم ينتفعوا بحياتهم ولا بأسماعهم ولا نطقهم ولا أبصارهم ولا عقولهم كان كل ذلك منهم عدماً .
ولما بين أن الأصم الأبكم الأعمى لا يتمكن هدايته ، بين أن ذلك إنما هو بالنسبة لغيره سبحانه فطماً عن طلب إجابتهم إلى ما يقترحون من الآيات وأما هو سبحانه ففعال لما يريد ، فقال في جواب من كأنه قال : إنما تمكن هدايتهم : ( من يشإ الله أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه إضلاله ) يضلله ومن يشاء ( هدايته(2/633)
صفحة رقم 634
) يجعله ( وأشار إلى تمكينه بأداة الاستعلاء فقال : ( على صراط مستقيم ( بأن يخلق الهداية في قلبه - ومن يهد الله فما له من مضل ومن يضلل الله فما له من هاد ، مع أن الكل عباده وخلقه ، متقلبون في نعمه ، غادون رائحون في بره وكرمه - إن في ذلك على وحدانيته وتمام قدرته لآيات بينات لقوم يعقلون .
ولما كانت هذه الآية - بما فيها من التصريح بالتكذيب - شديدة الاعتناق لقوله
77 ( ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( ) 7
[ الأنعام : 21 ، 39 ] وقوله
77 ( ) كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباؤا ( ) 7
[ الأنعام : 5 ] الآيتين رجع بالذي بعدها إلى فذلكة التفاصيل الماضية وواسطة عقدها وفريدة درها ، وهو التوحيد الذي أبانته الأدلة قبل الآيتين ، فقال دالاً على اعتقادهم القدرة التي استلزم نعتُهم بطلب الآية نفيها ، واعتقادهم للتوحيد في الجملة وهم يكذبون به ، بياناً لأنهم في الظلماتمقهورون بيد المشيئة لعدم تحاشيهم من التناقض معجباً منهم : ( قل أرءيتكم ) أي أخبروني يا من كذب بالآيات والقدرة عناداً وشهد أن مع الله آلهة أخرى ، وعدل بالله الذي يعلم السر والجهر ، وهو مع من يدعوه في كل سماء وكل أرض بعنايته ونصره .
ولما كانت حقيقة ) أرءيتكم ( : هل رأيتم أنفسكم ، وكان هذا لكونه سؤالاً عن معلوم لا يجهله أحد - مشيراً إلى أن السؤال عن غيره مما قد يخفى من أحوال النفس ، كان كأنه قيل : عن أيّ أحوال نفوسنا نُسأل ؟ فقيل تنبيهاً لهم على حالة تلزمهم بالتوحيد أو العناد الذي يصير في العلم به كالسؤال عن رؤية النفس سواء : ( إن أتاكم ) أي قبل مجيء الساعة كما آتى من قبلكم ) عذاب الله ) أي المستجمع لمجامع العظمة ، فلا يقدر أحد على كشف ما يأتي به ) أو أتتكم الساعة ) أي القيامة بما فيها من الأهوال .
ولما عجب منهم ما مضى - كما مضى ، قال مجيباً للشرط موبخاً لهم منكراً عليهم عدم استمرارهم على دعائه ولزوم سؤاله وندائه ، ويجوز أن يكون جواب الشرط محذوفاً تقديره : من تدعون ؟ ثم زادهم توبيخاً وتبكيتاً بقوله : ( أغير الله ) أي الملك الذي له العظمة كلها ) تدعون ) أي لشدة من تلك الشدائد ، ولا تدعون الله مع ذلك الغير ) إن كنتم صادقين ) أي في أن غير الله يغني شيئاً حى يستحق الإلهية ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فادعوا ذلك الغير ، وهذه حجة لا يسعهم معها غيرُ التسليم ، فإن عادتهم كانت مستمرة أنهم إذا اشتد الأمر وضاق الخناق لا يدعون غير الله ولا يوجهون الهمم إلا إليه ، فإن سلكوا سبيل الصدق الذي له ينتحلون وبه يتفاخرون فقالوا : لا ندعو غيره ، فقد لزمتهم الحجة في أنه لا يعدل به شيء ولا شريك له ، وإن عاندوا نطق لسان الحال أنهم على محض الضلال ، وإن سكتوا أثبت عليك الخطاب ، وهي مع(2/634)
صفحة رقم 635
ذلك - كما ترى - دليل على ما أخبرت به الآية قبلها من أن الأمر كله لله ، أي إنكم كلكم مشتركون في وضوح الأمر في أنه لا منصرف إلا إليه وقد افترقتم فصدق بعض وكذب آخرون ، فلو أن الأمر موقوف على وضوح الدلالة فقط كان الكل على نهج واحد ، هذا ونقل أبو حيان عن الفراء أنه قال : للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان : أحدهما أن تسأل الرجل : أرأيت زيداً ، أي بعينك ، فهذه مهموزة ، وثانيهما أن تقول : أرأيت ، وأنت تريد : أخبرني ، فههنا تترك الهمزة إن شئت ، وهو أكثر كلام العرب ، وتومئ إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين ؛ ثم قال أبو حيان : وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه وغيره من أئمة العرب ، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، لأن أخبرني يتعدى بعن ، وأرأيت متعد لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني ؛ وقال في سورة يونس عليه السلام : تقدم في سورة الأنعام أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ، ينعقد منها ومما قبلها مبتدأ وخبر ، يقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ المعنى : أخبرني عن زيد ما صنع وقبل دخول أرأيت كان الكلام : زيد ما صنع - انتهى .
قلت : وحقيقة المعنى كما مر : هل رأيت زيداً ؟ فلما استفهم عن رؤيته - والمراد الخبر لا البصر - عُلم أن السؤال عن بعض أحواله ، فكأنه قيل : ما له ؟ فقيل : ما صنع ؟ ولما كان استفهام الإنكار بمعنى النفي ، كان كأنه قيل : لا تدعون غيره ، فعطف عليه قوله : ( بل إياه ) أي خاصة ) تدعون ) أي حينئذ ؛ ولما كان يتسبب عن دعائهم تارة الإجابة وأخرى غيرها قال : ( فيكشف ) أي الله في الدنيا أو في الآخرة ، فإنه لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء ) ما تدعون إليه ) أي إلى كشفه ) إن شاء ) أي ذلك تفضلاً عليكم كما هي عادته معكم في وقت شدائدكم ، ولكنه لا يشاء كشفه في الآخرة ، لأنه لا يبدل القول لديه وإن كان له أن يفعل ما يشاء ، ولو كان يجيبكم دائماً وأنتم لا تدعون غيره ، لكان ذلك كافياً في الدلالة على اعتقادكم أنه لا قادر إلا هو ، فكيف وهو يجيبكم في الدنيا إذا دعوتموه تارة ويجيبكم أخرى ، ومع ذلك فلا يردكم عدم إجابته عن اعتقاد قدرته ودوام الإقبال عليه في مثل تلك الحال لما ركز في العقول السليمة والفطر الأولى من أنه الفاعل المختار ، وعلى ذلك دل قوله عطفاً على ( تدعون ) : ( وتنسون ) أي تتركون في تلك الأوقات دائماً ) ما تشركون ) أي من معبوداتكم الباطلة لعلمكم أنها لا تغني شيئاً ، كما هي عادتكم دائماً في أوقات الشدائد رجوعاً إلى حال الاستقامة .
أفلا يكون لكم هذا زاجراً عن الشرك في وقت الرخاء خوفاً من إعادة الضراء(2/635)
صفحة رقم 636
الأنعام : ( 42 - 45 ) ولقد أرسلنا إلى. .. . .
) وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإًّذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما أقام لهم بهذه الآية على توحيده الدليل حتى استنارت السبل في تذكيرهم أن التضرع قد يكشف ب البلاء ، أخبرهم أن تركه يوجب الشقاء ، ترغيباً في إدامته وترهيباً من مجانبته فقال : ( ولقد أرسلنا ) أي بما لنا من العظمة ) إلى أمم ) أي أناس يؤم بعضهم بعضاً ، وهم أهل لأن يقصدهم الناس ، لما لهم من الكثرة والعظمة .
ولما كان المراد بعض الأمم ، وهم الذين اراد الله إشهادهم وقص أخبارهم ، أدخل الجار فقال : ( من قبلك ) أي رسلاً فخالفوهم ، وحسّن هذا الحذف كونه مفهوماً ) فأخذناهم ) أي فكان إرسالنا إليهم سبباً لأن أخذناهم بعظمتنا ، ليرجعوا عما زين لهم الشيطان إلى ما تدعوهم إليه الرسل ) بالبأساء ( من تسليط القتل عليهم ) والضراء ( بتسليط الفقر والأوجاع ) لعلهم يتضرعون ) أي ليكون حالهم حال من يرجى خضوعه وتذلله على وجه بليغ ، بما يرشد إليه - مع صيغة التفعيل - الإظهار ، ولأن مقصودها الاستدلال على التوحيد ، وعند الكشف للأصول ينبغي الإبلاغ في العبادة ، بخلاف ما يأتي في الأعراف .
ولما لم يقع منهم ما أوجبت الحال رجاءه ، تسبب عنه الإنكار عليهم ، فقال معبراً بأداة التخصيص ليفيد مع النفي أنهم ما كان لهم عذر في ترك التضرع : ( فلولا ) أي فهلا ) إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ( ولما كان معنى الإنكار أنهم ما تضرعوا قال : ( ولكن قست قلوبهم ) أي فلم يذكروا ربهم أصلاً ) وزين لهم الشيطان ) أي بما دخل عليهم به من باب الشهوات ) ما كانوا يعملون ( من العظائم والمناكر التي أوجبها النكس بالرد أسفل سافلين ) فلما نسوا ما ذكروا به ) أي فتسبب - عن تركهم التذكير والأخذ بفائدته التي هي التخشع والتسكن ، كما هو اللائق بهم لا سيما في تلك الحالة - أنا ) فتحنا ) أي بما يليق بعظمتنا ) عليهم أبواب كل شيء ) أي من الخيرات والأرزاق والملاّد التي كانت مغلقة عنهم ونقلناهم من الشدة إلى الرخاء ، وذلك استدراجاً لهم ، ومددنا زمانه وطوّلنا أيامه ) حتى إذا فرحوا ) أي تناهى بهم الفرح ) بما أوتوا ) أي معرضين عمن آتاهم هذا الرخاء بعد أن كان ابتلاهم بذلك ، فعلم أنهم في غاية من الغباوة ، لا يرتدعون بالتأديب بسياط البلاء ، ولا ينتفعون ببساط المنة والرخاء ، بل ظنوا أن البلاء عادة الزمان ، والرخاء باستحقاقهم الامتنان ، فعلم أن قلوبهم لا يرجى لها انتباه بحار ولا(2/636)
صفحة رقم 637
بارد ولا رطب ولا يابس ) أخذناهم ( بعظمتنا ، وإنما أخذناهم في حال الرخاء ليكون أشد لتحسرهم ) بغتة ( فلم نمكنهم من التضرع عند خفوق الأمر ، ولا أمهلناهم أصلاً بل نزل عليهم من أثقال العذاب ، وأباح بهم من أحمال الشدائد وصروف البلايا ما أذهلهم وشغلهم عن كل شيء حتى بهتوا ) فإذا هم مبلسون ) أي تسبب عن ذلك البغت أن فاجؤوا السكوتَ على ما في أنفسهم واليأس تحسراً وتحيراً ، و استمروا بعد أن سكتوا إلى أن همدوا وخفتوا ، ففي نفي التضرع عن المتقدمين بعد أن أثبته لمشركي هذه الأمة استعطاف لطيف ، وفي ذكر استدراج أولئك بالنعم عند نسيان ما ذكروا به إلى ما أخذهم بغتة من قواصم النقم غاية التحذير .
ولما كان من عادة الغالب من أهل الدنيا أن يفوته آخر الجيوش وشُذّابهم لملل أصحابه من الطلب وضجرهم من النصب والتعب وقصورهم عن الإحاطة بجميع الأرب ، أخبر تعالى أن أخذه على غير ذلك ، وأن نيله للآخر كنيله للأول على حد سواء ، فقال مسبباً عن الأخذ الموصوف مشيراً بالبناء للمفعول إلى تمام القدرة ، وبالدابر إلى الاستئصال : ( فقطع دابر ) أي آخر ) القوم الذين ظلموا ) أي بوضع الشيء في غير موضعه دأب الماشي في الظلام ، وضعوا لقسوة موضع الرقة التي تدعو إليها الشدة ، ووضعوا الفرح بالنعمة موضع الخشية من الرد إلى الشدة ، كما ظلمتم أنتم بدعاء الأصنام وقت الرخاء وكان ذلك موضع دعاء من أفاض تلك النعم ، ودعوتم الله وقت الشدة وكان ذلك موضع دعاء من عبدتموه وقت الرخاء ، لئلا تقعوا فيما جرت عادتكم بالذم به .
وإن تكون كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
ولما كان استئصالهم من أجل النعم على من عادوهم فيه من الرسل عليهم السلام وأتباعهم رضي الله عنهم ، نبه على ذلك بالجملة مع ما يشير إليه من ظهور الاستغناء المطلق فقال : ( والحمد ) أي قطع أمرهم كله والحال أن الإحاطة بأوصاف الكمال ) لله ( المتفرد بنعوت الجلال والجمال ) رب العالمين ( الموجد لهم أجمعين ، أي له ذلك كله بعد فناء الخلق على أيّ صفة كانوا من إيمان أو كفر ، كما كان له ذلك قبل وجودهم وعند خلقهم على كل من حالتيهم - كما أشير إليه بأول السورة ، فكأنه قيل : الكمال لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، فقطع دابرهم ، والكمال له لم يتغير ، لأنه لا يزيده وجود موجود ، ولا ينقصه فقد مفقود ، فهو محمود حال الإعدام والمحق كما كان محموداً حال الإيجاد والخلق ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإنه لا يخرج شيء عن إيمانهم ولا كفرانهم عن إرادته سبحانه ، فلا عليك منهم اقترحوا الآيات أولا ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ .(2/637)
صفحة رقم 638
الأنعام : ( 46 - 50 ) قل أرأيتم إن. .. . .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ( ( )
ولما قدم التنبيه بإتيان مطلق العذاب في مطلق الأحوال ، وكان الإتيان بالكاف ثَمَّ مشيراً مع إفادة التأكيد إلى أن ثَمَّ نوع مهلة ، وأتبعه أن أخذ الأمم كان بغتة ، أعقبه التنبيه بعذاب خاص تصورُ شناعته يهذأ الأركان ويقطع الكبود ويملأ الجنان ، فإنه لا أشنع حالاً من اصم أعمى مجنون ، فقال مشيراً - بإسقاط كاف الخطاب ممع التعبير بالأخذ الذي عهد أنه للبغث بالسطوة والقهر - إلى غاية التحذير من سرعة أيّ الأخذ : ( قل أرءيتم ( فكانت حقيقة المقترن بالكاف : هل رأيتم أنفسكم ، وهذا هل رأيتم مطلق رؤية ، لما تقدمت الإشارة إليه من الإيماء إلى طلب الإسراع بالجواب خوف المفاجأة بالعذاب وإن كان المراد في الموضعين : أخبروني ) إن أخذ الله ) أي القادر على كل شيء العالم بكل شيء ) سمعكم ( وأفرده لقلة المفاوتة فيه ، لأنه أعظم الطرق لإدراك القلب الذي لا أعظم من المفاوتة فيه حتى للإنسان الواحد بالنسبة إلى الأحوال المختلفة ، ليكون ذلك أدل على الفعل بالاختيار ) وأبصاركم ) أي فأصمكم وأعماكم عمى وصمماً ظاهرين وباطنين بسلب المنفعة ) وختم على قلوبكم ( فجعلها لا تعي أصلاً أو لا ينتفع بالوعي ) من إله ) أي معبود بحق ، لأن له إحاطة لعلم والقدرة ؛ ثم وصف هذا الخبر بقوله : ( غير الله ) أي الذي له جميع العظمة ) يأتيكم به ) أي بذلك الذي هو أشرف معاني أشرف أعضائكم ، أو بشيء منه .
ولما بلغت هذه الآيات - من الإبلاغ في البيان في وحدانيته وبطلان كل معبود سواه - أعلى المقامات ، نبه على أنه على ذلك ، بالأمر بالنظر فيها وفي حالهم بعدها ، دالاً على ما تقدم من أن المقترحات لا تنفع من أراد سبحانه شقاوته فقال : ( انظر كيف نصرف أي بما لنا من العظمة ) الآيات ) أي نوحيها لهم ولغيرهم في كل وجه من وجوه البيان بالغ من الإحسان ما يأخذ بالعقول ويدهش الألباب ، ويكون كافياً في التراخي فقال : ( ثم هم ) أي بعد هذا البيان بصميم ضمائرهم ) يصدفون ) أي يعرضون إعراضاً لازماً لهم لزوم الصفة .(2/638)
صفحة رقم 639
ولما قرن الأخذ بالبغت تارة صريحاً وتارة بإسقاط الكاف ؛ كان ربما وقع في وهم السؤالُ عن حالة الجهر ، أتبع ذلك ذكره مفصلاً لما أجمل من الأحوال في الآيتين قبل فقال : ( قل أرءيتكم ( ولما كان المعنى : أخبروني ، وكان كأنه قيل : عما ذا ؟ قيل : ( إن أتاكم عذاب الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال فلا يعجزه شيء ) بغتة ) أي بحيث لا يرى إلا ملتبساً بكم من غير أن يشعر به ويظهر شيء من أماراته ، ) أو جهرة ) أي بحيث ترونه مقبلاً إليكم مقدماً عليكم ) هل ( .
ولما كان المخوف بالذات هو الهلاك من غير نظر إلى تعيين الفاعل ، بني للمفعول قوله : ( يهلك ) أي في واحدة من الحالتين هلاكاً هو الهلاك ، وهو هلاك السخط ) إلا القوم ) أي الذين لهم قوة المدافعة وشدة المقاتلة في زعمكم والمقاومة ) الظالمون ) أي بوضع الأشياء في غير مواضعها من إعطاء الشيء لمن لا يستحقه ومنع المستحق ما له ، وأما المصلح فإنه ناج إما في الدارين وإما في الآخرة التي من فاز فيها فلا توى عليه ؛ وذكر أبو حيان أنه لما كان مطلق العذاب صالحاً لكل ما يعلم من تفاصيل أهواله وما لا يعلم ، كان التوعد به أهول ، فلذلك أكد فيه في الآيتين الخطاب بالضمير بحرف الخطاب ، والتوعد بأخذ السمع وما معه من جملة الأنواع التي اشتمل عليها ذلك المطلق فأعري من حرف الخطاب .
ولما كان ذلك كله في مناضلة من كذب الرسل ، وأعرض عما أرسلهم به ربهم من الآيات التي ما منها إلا ما آمن على مثله البشر ، وطلبه منهم ما لا يقدر عليه إلا مرسلهم من الإتيان بغير ما أتوا به من الآيات ؛ بين لهم حقيقة الرسالة إشارة إلى ظلمهم في طلبهم من الرسل ما لا يطلب إلا من الإله ، فقال عاطفاً على
77 ( ) ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ( ) 7
[ الأنعام : 42 ] ) وما نرسل ) أي بما لنا من العظمة ) المرسلين ) أي نوجد هذا الأمر في هذا الزمان وكل زمان من الماضي وغيره ) إلا مبشرين ( لمن أطاع ) ومنذرين ( لمن عصى ، عريقين في كل من الوصفين ، لا مجيبين إلى ما يقترح الأمم ، ولا معذبين لمن يعاندهم ؛ ثم سبب عن ذلك غاية الرسالة من النفع والضر فقال : فمن آمن وأصلح ) أي تصديقاً لإيمانه ) فلا خوف عليهم ) أي في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا الفانية فلأن خوفهم فيها يزيد أمنهم في الآخرة الباقية ، فهو إلى فناء ثم إلى سرور دائم ، فهو عدم ) ولا هم يحزنون ) أي حزناً يضر بحياتهم الأبدية .
ولما بين حال المصلحين ، أتبعه حال المفسدين فقال : ( والذين كذبوا بآياتنا ) أي حزناً يضر بحياتهم الأبدية .
ولما بين حال المصلحين ، أتبعه حال المفسدين فقال : ( والذين كذبوا بآياتنا ) أي على ما لها بنسبتها إلينا من العظمة ) يمسهم العذاب ) أي الدائم المتجدد ، وكني عن(2/639)
صفحة رقم 640
قربه بأن جعل له قوة المس ، كأنه حي مريد فقال : ( بما كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) يفسقون ) أي يديمون الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه من الإيمان وما يقتضيه ، وأما الفسق العارض فإن صاحبه يصدر التوبة منه فيعفى عنه .
ولما بين وظيفة الرسل ، وقسم المرسل إليهم ، أمره بنفي ما يتسبب عنه قولهم من أن البشر لا يكون رسولاً ، واقتراحهم عليه الآيات من ظن قدرته على ما يريد ، أو أن كل ما يقدر عليه يبديه لهم ، أو إلزامه بذلك ، منها لهم على وجه ظلمهم بغلظهم أو عنادهم فقال : ( قل ) أي في جواب قولهم
77 ( ) لولا أنزل عليه آية ( ) 7
[ يونس : 20 ] ونحوه .
ولما لم يكن لهم عهد بأن بشراً يكون عنده الخزائن ، يتصرف فيها بما يريد ، وكان يأتيهم من الآيات من انشقاق القمر ومشي الشجر وكلام الضب والحجر ونبع الماء والحراسة بشواظ النار وفحل الجمال ونحو ذلك مما هو معلوم في دلائل النبوة بما ربما أوقع في ظنهم أن لازمه دعواه لأنه يملك الخزائن ، فكانوا يقترحون عليه الآيات الدالة إلزاماً له بذلك لقصد التكذيب .
نفى ما ظنوا أنه يلزمه دعواه فقال : ( لا أقول لكم ) أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان ، ولما كان تعالى قد أعطاه مفاتيح خزائن الأرض ، فأباها تواضعاً لله سبحانه ، قيد بقوله ( لكم ) إفهاماً لما يخبر به المؤمنين من ذلك ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ، وأما الكفرة فإن إخبارهم بذلك مما يغريهم على الاقتراحات استهزاء فلا فائدة له ) عندي خزائن الله ) أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق والعزة البالغة ، فلا كفوء له أي فآتيكم ما تقترحون من الآيات وما تشتهونه من الكنوز وما تستهزئون به من العذاب ، وإنما الخزائن بيده ، يفعل فيها ما يشاء .
ولما كانوا يعهدون أن بعض البشر من الكهان يخبرون بشيء من المغيبات ، وكان الكهان يخلطون الصدق بالكذب ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرهم بمغيبات كثيرة فيكون كما قال دائماً لا خلف في شيء منها ولا زيادة ولا نقص ، فصاروا يظنون أنه يعلم الغيب ، ولكنهم يظنونه من آيات الكهان حتى أطلقوا عليه أنه كاهن ، فكانوا يسالونه عن وقت العذاب الذي يتوعدهم به وعن غيره ، لعلهم يظفرون عليه بشيء مما يقوله الكهان ولا يكون ، فيعدونه عليه ؛ نفى ما ظنوه غيره على هذا المقام أن ينسب إلى غير مالكه الذي لا يجوز أن يكون لغيره ، فقال نافياً له من أصله ، لا للقول فقط كما في سابقه ولاحقه ، اطفاً على ) لا أقول ( لا على ) عندي ( ) ولا أعلم الغيب ) أي فأخبركم بوقت الفصل بيني وبينكم من مطلق العذاب أو قيام الساعة ، فإن هاتين الحالتين - ملك الخزائن وعلم الغيب - ليستا إلا لمرتبة الألوهية ، وإنما لم أدّع الأول كما ألزمتموني به ، ولا اتصفت بالثاني بما ظننتم .(2/640)
صفحة رقم 641
ولما كانوا يظنون أن الرسول لا يكون إلا ملكاً ، فكانوا يلزمونه بدعواه الرسالة دعوى الملائكة ليلزموه بذلك ادعاء ما هو ظاهر البطلان ، قال : ( ولا أقول ) أي بدعوى الرسالة ؛ ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) أعلى الأنبياء صفاء وأنورهم قلباً وأشدهم في كل هدى إضاءة وأنقاهم من نقائص البشر ، وكان هذا أمراً من الله له .
قيد بقوله : ( لكم ( إفهاماً لأنه لا يمتنع عليه أن يقول ذلك ، بل لو قاله كان صادقاً ، ومثله كثير في مجازاتهم ومجاري عاداتهم في محاوراتهم ، وأما إسقاط ( لكم ) في قصة نوح من سورة هود عليهما السلام فتواضعاً منه لكونه من قوله ، من غير تصريح بإسناد الأمر فيه إلى الله تعالى ) إني ملك ( فأقوى على الأفعال التي تقوى عليها الملائكة من التحرز عن المأكل والمشرب وغيرهما من أفعال الملائكة .
فلما انتفى عنه ما ألزموه به وما ظنوه فيه من كونه إلهاً أو ملكاً ، انحصر الأمر في أنه رسول واقف عندما حده له مرسله ، فقال على وجه النتيجة : ( إن ) أي ما ) أتبع ) أي بغاية جهدي ) إلا ما يوحى إلي ) أي ما رتبتي إلا امتثال ما يأمرني به ربي في هذا القرآن الذي هو - بعجزكم عن معارضته - أعظم شاهد لي ، ولم يوح إلي فيه أن أقول شيئاً مما تقدم نفيه ، وأوحى إلي لأنذركم به خصوصاً ، وأنذر به كل من بلغه عموماً ، وذلك غير منكر في العقل ولا مستبعد بل قد وقع الإرسال لكثير من البشر ، وقد قام على ثبوته لي واضح الدلائل وثابت الحجج وقاطع البراهين ، فإن كان فيه الإذن لي بإبراز خارق أبرزته ، وإن كان يه الإعلام بمغيب أبديته ، وإلا اقتصرت على الإبلاغ مع التحدي ، وهو مخبر بأن الله - الذي ثبت بعجزكم عن معارضته أنه قوله - شاهد لي بصحة الرسالة وصدق المقالة .
ولما ثبت بهذا أنهم عمي الأبصار والبصائر ، لا يهتدون إلى ما ينفعهم ، ولا يقدرون على إفحام خصم ولا التفصي عن وهم ولا وصم ، بل هم كالسالك بين المهالك ، يتبين بادئ بدئه في دعواه الحكمة زوره وكذبه وفجوره لأتباع الهوى الذي هو أدوأ أدواء ، وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أبصر البصراء وأحكم الحكماء لأتباعه علام الغيوب ، وكان موضع أن يقال : ما يوحى إليك في هذا المقام ؟ قال على وجه التبكيت لهم : ( قل ) أي لكل من يسمع قولك بعد هذا البيان الفائت لقوى الإنسان ) هل يستوي ) أي يكون سواء من غير مرية ) الأعمى والبصير ( فإن قالوا : نعم ، كابروا الحس ، وإن قالوا : لا ، قيل : فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ، ومن أعرض عنها فهو العمى ، ومن سوى بين الخالق وبين شيء من خلقه فهو أعمى العمى ؛ ثم أمره بعد الإنكار للتسوية بينهما بأن ينكر عليهم فساد نظرهم وعمى فكرهم بقوله : ( أفلا تتفكرون ) أي فيردكم فكركم عن هذه الضلالات .(2/641)
صفحة رقم 642
الأنعام : ( 51 - 53 ) وأنذر به الذين. .. . .
) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( ( )
ولما أمره بتوبيخهم ، أمره - عاطفاً على قوله ( قل ) - بالإنذار على وجه مخز لهم أيضاً فقال : ( وأنذر به ) أي بما يوحى إليك ، وليس المراد تخصيص الإنذار بالخائف ، بل الإشارة إلى جلافتهم وعظيم بلادتهم وكثافتهم في عدم تجويز الجائز الذي هو أهل لأن يخافه كل واحد بقوله : ( الذين يخافون ) أي تجويزاً للجائز عقلاً وعادة .
ولما كان المرهوب الحشر نفسه ، لا بقيد كونه من معين ؛ بني للمفعول قوله ) أن يحشروا ) أي يجمعوا وهم كارهون ) إلى ربهم ) أي المحسن إليهم بالإيجاد والتربية مع التقصير في الشكر ، حال كونهم ) ليس لهم ( وأشار إلى تحقير ما سواه وسفوله بالجار فقال : ( من دونه ) أي من المنزلة التي هي تحت منزلته ، ومن المعلوم أن كل شيء تحت قهر عظمته ومتضائل عن رتبته ، ليس لهم ذلك ، أي على وجه الانفراد أو التوسل ) ولي ( يتولى أمورهم فينقذهم قهراً مما يخافون ) ولا شفيع ( ينقذهم بحسن سفارته وعظيم رتبته وترتيبه ) لعلهم يتقون ) أي ليكون حالهم حال من يرجى أن يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية .
ولما أمره بدعاء من أعرض عنه ومجاهرته ، أمره بحفظ من تبعه وملاطفته ، فقال : ( ولا تطرد الذين يدعون ( وهم الفقراء من المسلمين ) ربهم ) أي المحسن إليه عكس ما عليه الكفار في دعاء من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ؛ ثم بين من حالهم من الملازمة ما يقتضي الإخلاص فقال : ( بالغداة والعشي ) أي في طرفي النهار مطلقاً أو بصلاتيهما أو يكون كناية عن الدوام ؛ ثم أتبع ذلك نتيجته فقال معبراً عن الذات بالوجه ، لأنه أشرف - على ما نتعارفه - وتذكّره يوجب التعظيم ويورث الخجل من التقصير : ( يريدون وجهه ) أي لأنه لو كان رياء لاضمحل على طول الزمان وتناوب الحدثان باختلاف الشأن .
ولما كان أكابر المشركين وأغنياؤهم قد وعدوه ( صلى الله عليه وسلم ) الاتباع إن طرد من تبعه ممن يأنفون من مجالستهم ، وزهدوه فيهم بفقرهم وبأنهم غير مخلصين في اتباعه ، إنما دعاهم إلى ذلك الحاجة ؛ بين له تعالى أنه لا حظ له في طردهم ولا في اتباع أولئك بهذا الطريق إلا من جهة الدنيا التي هو مبعوث للتنفير عنها ، فقال معللاً لما مضى أو(2/642)
صفحة رقم 643
مستأنفاً : ( ما عليك ( قدم الأهم عنده وهو تحمله ) من حسابهم ( وأغرق في النفي فقال : ( من شيء ) أي ليس لك إلا ظاهرهم ، وليس عليك شيء من حسابهم ، حتى تعاملهم بما يستحقون في الباطن من الطرد إن كانوا غير مخلصين ) وما من حسابك ( قدم أهم ما إليه أيضاً ) عليهم من شيء ) أي وليس عليهم شيء من حسابك فتخشى أن يحيفوا عليك فيه على تقدير غشهم ، أو ليس عليك من رزقهم شيء فيثقلوا به عليك ، ومامن رزقك عليهم من شيء فيضعفوا عنه لفقرهم ، بل الرازق لك ولهم الله ؛ ثم أجاب النفي مسبباً عنه فقال : ( فتطردهم ) أي فتسبب عن أحد الشيئين طردك لهم ليقبل عليك الأغنياء فلا يكلفوك ما كان أولئك يكلفونك ، وإن كلفتهم ما كان أولئك عاجزين عنه أطاقوه ؛ والحاصل أنه يجوز أن يكون معنى جملتي ) ما عليك من حسابهم ( - إلى آخرهما راجعاً إلى آية الكهف
77 ( ) ولا تعد عينك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ( ) 7
[ الكهف : 28 ] فيكون المعنى ناظراً إلى الرزق ، يعني أن دعاءك إلى الله إنما مداره الأمر الأخروي ، فليس شيء من رزق هؤلاء عليك حتى تستنفر بهم وترغب في الآغنياء ، ولا شيء من رزقك عليهم فيعجزوا عنه ، وفي اللفظ من كلام أهل اللغة ما يقبل هذا المعنى ؛ قال صاحب القاموس وغيره : الحساب : الكافي ومنه
77 ( ) عطاء حساباً ( ) 7
[ النبأ : 36 ] وحسّب فلان فلاناً : أطعمه وسقاه حتى شبع وروي .
وقال أبو عبيد الهروي : يقال : أعطيته فأحسبته ، أي أعطيته الكفاية حتى قال : حسبي ، وقوله
77 ( ) يرزق من يشاء بغير حساب ( ) 7
[ البقرة : 212 ] أي بغير تقتير وتضييق ، وفي حديث سماك : ما حسبوا ضيفهم ، أي ما أكرموه ، وقال ابن فارس في المجمل : وأحسبته : أعطيته ما يرضيه ، وحسّبته أيضاً ، وأحسبني الشيء : كفاني .
ولما نهاه عن طردهم مبيناً أنه ضرر لغير فائدة ، سبب عن هذا النهي قوله ) فتكون من الظالمين ) أي بوضعك الشيء في غير محله ، فإن طردك هؤلاء ليس سبباً لإيمان أولئك ، وليس هدايتهم إلا إلينا ، وقد طلبوا منا فيك لما فتناهم بتخصيصك بالرسالة ما لم يخف عليك من قولهم
77 ( ) لولا أنزل عليه ملك ( ) 7
[ الأنعام : 8 ] ونحوه مما أرادوا به الصرف عنك ، فكما لم تقبلهم فيك فلا تقبلهم أنت في أوليائنا ، فإنا فتناهم بك حتى سألوا فيك ما سألوا وتمنوا ما تمنوا ) وكذلك ) أي ومثل ما فتناهم بإرسالك ) فتنا ) أي فعلنا فعل المختبر قسراً بما لنا من العظمة ) بعضهم ببعض ( بالتخصيص بالإيمان والغنى والفقر ونحو ذلك ) ليقولوا ) أي إنكاراً لأن تفضل غيرهم عليهم احتقاراً لهم واستصغاراً ) أهؤلاء ) أي الذين لا يساووننا بل لا يقاربوننا في خصلة من خصال الدنيا ) منَّ الله ) أي على جلاله وعظمه ) عليهم ) أي وفقهم لإصابة الحق وما يسعدهم(2/643)
صفحة رقم 644
عنده وهم فيما نرى من الحقارة ) من بيننا ( فالآية ناظرة إلى ما يأتي في هذه السورة من قوله تعالى ) ) حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ( ) [ الأنعام : 124 ] .
ولما كان الإنكار لا يسوغ إلاّ مع نهاية العلم بمراتب المفضلين ، وأن المفضل لا يستحق التفضيل من الوجه المفضل به ، أنكر إنكارهم بقوله : ( أليس الله ) أي الذي له جميع الأمر ، فلا اعتراض عليه ) بأعلم بالشاكرين ) أي الذين يستحقون أن يفضلوا لشكرهم على غيرهم لكفرهم .
الأنعام : ( 54 - 56 ) وإذا جاءك الذين. .. . .
) وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ( )
ولما نهاه ( صلى الله عليه وسلم ) عن طردهم ، علمه كيف يلاطفهم فقال عاطفاً على ما تقديره : وإذا جاءك الذين يحتقرون الضعفاء من عبادي فلا تحفل بهم : ( وإذا جاءك ( وأظهر موضع الإضمار دلالة على الوصف الموجب لإكرامهم وتعميماً لغيرهم فقال : ( الذين يؤمنون ) أي هم أو غيرهم أغنياء كانوا أو فقراء ، وأشار بمظهر العظمة إلى أنهم آمنوا بما هو جدير بالإيمان به فقال : ( بآياتنا ( على ما لها من العظمة بالنسبة إلينا ) فقل ) أي لهم بادئاً بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لخواطرهم ) سلام عليكم ) أي سلامة مني ومن الله ، ونكره لما يلحقهم في الدنيا من المصائب ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( كتب ربكم ) أي المحسن إليكم ) على نفسه الرحمة ( ثم علل ذلك بقوله واستأنف بما حاصله أنه علم من الإنسان النقصان ، لأنه طبعه على طبائع الخسران إلا من جعله موضع الامتنان فقال : ( أنه من عمل منكم سوءاً ) أي أيّ سوء كان ملتبساً ) بجهالة ) أي بسفه أو بخفة وحركة أخرجته عن الحق والعلم حتى كان كأنه لا يعلم شيئاً ) ثم تاب ) أي رجع بالندم والإقلاع وإن طال الزمان ، ولذا أدخل الجار فقال : ( من بعده ) أي بعد ذلك العمل ) وأصلح ( بالاستمرار على الخير ) فإنه ) أي ربكم بسبب هذه التوبة يغفر له لأنه دائماً ) غفور ) أي بالغ الستر والمحو لما كان من ذلك ) رحيم ( يكرم من تاب هذه التوبة بأن يجعله كمن أحسن بعد أن جعله بالغفر كمن لم يذنب ، ومن أصر وأفسد فإنه يعاقبه ، لأنه عزيز حكيم ، وربما كانت الآية ناظرة إلى ما قذفهم به المشركون من عدم الإخلاص ، ويكون حينئذ مرشحاً لأن المراد بالحساب المحاسبة على الذنوب .(2/644)
صفحة رقم 645
ولما أتى في هذه السورة وما قبلها بما أتى من عجائب التفاصيل لجميع الأحوال متضمنة واضح الدلالات وباهر الآيات البينات ، قال عاطفاً على ) وكذلك فتنا ( عطفاً للضد على ضده ، فإن في الاختبار نوع خفاء : ( وكذلك ) أي ومثل الفتن بإيراد بعض ما فيه دقة وخفاء من بعض الوجوه لنضل من نشاء ، فيتميز الضال من المهتدي ) نفصل الآيات ( التي نريد بيانها ليتضح سبيل المصلحين فيتبع ) ولتستبين ) أي تظهر ظهوراً بيناً ) سبيل المجرمين ( فتجتنب ، وخص هذا بالذكر وإن كان يلزم منه بيان الأول ، لأن دفع المفاسد أهم .
ولما كان محط حالهم في السؤال طرد الضعفاء قصد اتباع أهوائهم ، أمره تعالى بأن يخبرهم أنه مباين لهم - لما بين له بالبيان الواضح من سوء عاقبة سبيلهم - مباينة لا يمكن معها اتباع أهوائهم ، وهي المباينة في الدين فقال : ( قل إني نهيت ) أي ممن له الأمر كله ) أن أعبد الذين تدعون ) أي تعبدون بناء منكم على محض الهوى والتقليد في أعظم أصول الدين ، وحقر أمرهم وبين سفول رتبتهم بقوله : ( من دون الله ) أي الذي لا أعظم منه ، فقد وقعتم في ترك الأعظم ولزوم الدون الذي هو دونكم في أعظم الجهل المؤذن بعمى القلب مع الكفر بالمحسن ، فمباينتي مبناها على المقاطعة ، فكيف تطمع في متابعة ثم أكد ذلك بأمر آخر دال على أنه لا شبهة لهم في عبادتهم فقال : ( قل لا أتبع أهواءكم ) أي عوضاً عما أنا عليه من الحكمة البالغة المؤيدة بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة .
ولما كان من المعلوم أن الهوى لا يدعو إلى هدى ، بل إلى غاية الردى ، حقق ما أفهمته هذه الجملة بقوله : ( قد ضللت إذاً ) أي إذا اتبعت أهواءكم ؛ ولما كان الضال قد يرجع ، بين أن هذا ليس كذلك ، لعراقتهم في الضلال ، فقال معبراً بالجملة الاسمية الدالة على الثبات : ( وما أنا ) أي إذ ذاك على شيء من الهداية لأعد ) من المهتدين ( .
الأنعام : ( 57 - 59 ) قل إني على. .. . .
) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( ( )
ولما كان طلبهم للآيات - أي العلامات الدالة على الصدق تارة بالرحمة في إنزال(2/645)
صفحة رقم 646
الأنهار والكنوز وإراحة الحياة ، وتارة بالعذاب من إيقاع السماء عليهم كسفاً ونحو ذلك - ليس في يده ولا عنده تعين وقت نزوله ، وأمره هنا أن يصرح لهم بالمباينة ويؤيسهم من الملاينة ما داموا على المداهنة ، أمره بأن يخبرهم بما هو متمكن فيه من النور وما هم فيه من العمى بقوله : ( قل إني ( وأشار إلى تمكنه في الأدلة الظاهرة والحجج القاهرة بحرف الاستعلاء فقال : ( على بينة ) أي إن العدو إنما يصانع عدوه إما لعدم الثقة بالنصرة عليه وتعذيبه بعداوته ، وإما العدم وثوقه بأنه على الحق ، وأما أنا فواثق بكلا الأمرين ) من ربي ) أي المحسن إليّ بإرسالي بعد الكشف التام لي عن سر الملك والملكوت ) و ( الحال أنكم ) كذبتم به ) أي ربي حيث رددتم رسالته فهو منتقم منكم لا محالة .
ولما قيل ذلك ، فرض أن لسان حالهم قال : فائتنا بهذه البينة فقال : إن ربي تام القدرة ، فلا يخاف الفوت فلا يعجل ، وأما أنا فعبد ) ما عندي ) أي في قدرتي وإمكاني ) ما تستعدلون به ) أي في قولكم ( امطر علنيا حجارة من السماء ) ونحوه حتى أحكم فيكم بما يقتضيه طبع البشر من العجلة ) إن ) أي ما ) الحكم ( في شيء من الأشياء هذا وغيره ) إلا الله ) أي الذي له الأمر كله فلا كفوء له ، ثم استأنف قوله مبيناً أنه سبحانه يأتي بالأمر في الوقت الذي حده له على ما هو الأليق به من غير قدرة لأحد غيره على تقديم ولا تأخير فقال : ( يقضُّ ) أي يفصل وينفذ بالتقديم والتأخير ، وهو معنى قراءة الحرميين وعاصم ( يقص ) أي يقطع القضاء أو القصص ) لحق ( ويظهره فيفصله من الباطل ويوضحه ، ليتبعه من قضى بسعادته ، ويتنكب عنه من حكم بشقاوته ) وهو خير الفاصلين ( لأنه إذا أراد ذلك لم يدع لبساً لمن يريد هدايته ، وجعل في ذلك الظاهر سبباً لمن يريد ضلالته ؛ ثم أكد ذلك لمن زاد قلبه في الجلافة مبيناً ما في غيره من وخيم العاقبة فقال : ( قل لو أن عندي ) أي على سبيل الفرض ) ما تستعجلون به ) أي من العذاب ) لقضي ( وبناه للمفعول لأن المخوف إنما هو الإهلاك ، لا كونه من معين ) الأمر بيني وبينكم ) أي فكنت أهلك من خالفني غضباً لربي بما ظهر لي منه من التكبر عليه ، وقد يكون فيهم مَنْ كُتِبَ في ديوان السعداء ، لكنه لم يكن الأمر إليّ لأني لا أعلم الظالم عند الله من غيره ، فليس الأمر إلا إلى الله ، لأنه أعلم بالمنصفين فينجيهم ) والله ) أي الذي له الكمال كله ) أعلم بالظالمين ) أي المكتوبين في ديوان الظلمة فيهلكهم .
ولما كانت هذه الآيات مثبتة لجزيئات من علمه تعالى وقدرته ، وكان ختامها العلم بالظالم وغيره ، أتبعها الاختصاص بما هو أعم من ذلك ، وهو علم مفاتح الغيب الذي لا يصل إليه إلا من حازها ، إذ لا يطلع على الخزائن إلا من فتحها ، ولا يفتحها إلا من حاز(2/646)
صفحة رقم 647
مفاتيحها وعلم كيف يفتح بها ، فإثبات ذلك في هذا الأسلوب من باب الترقية في مراقي الإعتقاد من درجة كاملة إلى أكمل منها ، فقال عاطفاً على معنى ما سبق ، وهو : فعنده خاصة جميع ذلك : ( وعنده ) أي وحده ) مفاتح الغيب ) أي التي لا يدرك الغيب إلا من علمها .
ولما كان معنى ذلك الاختصاص ، صرح به في قوله : ( لا يعلمها إلا هو ( وتخصيصها بالنفي دون الخزائن دال على ما فهمته من أن التقييد فيها ب ( لكم ) يفهم أنه يجوز أن نقول ذلك للمؤمنين .
ولما ذكر علم الغيب ، أتبعه علم الشهادة ، لأن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام إلا للكُمَّل من الأنام الذين تجردوا فتعودوا استحضار المعقولات المجردة ، والقرآن إنما أنزل لنفع جميع الخلق : الذكي منهم والغبي ، فكان ذكر المحسوسات الداخلة تحت القضية العقلية الكلية معيناً على تصور ذلك المعقول ورسوخه في القلب ، فقال مؤكداً لهذا المعقول الكلي المجرد بمثال داخل تحته يجري مجرى المحسوس ، وعطفُه بالواو عطفَ الخاص على العام إشارة إلى تعظيمه فقال : ( ويعلم ما في البر ( وقدمه لأن الإنسان أكثر ملابسة له بما فيه من القرى والمدن والمفاوز والجبال والتلال وكثرة ما بها من الحيوان والنبات النجم وذي الساق والمعادن ) والبحر ( وأخره لأن إحاطة العقل بأحواله أقل وإن كان الحس يدل على أن عجائبها أكثر ، وطولها وعرضها أعظم ، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب ، فكان هذا الأمر المحسوس مقوياً لعظمة ذلك الأمر المعقول .
ولما ذكر ما يعم الثابت والمنتقل : خص المنتقل تنصيصاً على الجزئيات وتعظيماً للعلم بتعظيم المعلومات فقال : ( وما تسقط ( وأغرق في النفي بقوله : ( من ورقة ( ونكرها إتماماً للتعميم ) إلا يعلمها ( ولما ك ان هذا مع عظمه ظاهراً ، ذكر ما هو أدق منه فقال : ( ولا ) أي وما من ) حبة ( ودل على أن الأرض ليس لها من نفسها نور تنبيهاً على ما أودع هذا الآدمي المكوّن منها من الغرائب بقوله : ( في ظلمات الأرض ) أي ولو كان في أقصى بطنها ، فكيف بماهو في النور وهو أكبر من الحبة .
ولما خص ، رجع إلى التعميم رداً للآخر على الأول فقال : ( ولا رطب ولا يابس ) أي وجد أو لم يوجد أو سيوجد ) إلا في كتاب مبين ) أي موضح لأحواله وأعيانه وكل أموره وأحيانه ، فثبت أنه فاعل لجميع العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان ، لأنه وحده عالم بجميع المعلومات ، ومن اختص بعلم جميع المعلومات كان مختصاً بصنع جميع المصنوعات قادراً على جميع المقدورات .(2/647)
صفحة رقم 648
71 (
72 ( س 6
60
62
) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( )
ولما كان من مفاتح الغيب الموت والبعث الذي ينكرونه ، ومان من أدلته الغظمة
النوم والإيقاظ منه مع ما فيه من الإحسان المتكرر ، وكان فيه مع ذلك تقرير لكمال القدرة بعد تقريره لكمال العلم ، أتبع ذلك قوله ) وهو ) أي وحده ) الذي يتوفاكم ) أي يقبض أرواحكم كاملة بحيث لا يبقى عندكم شعور أصلا ، فيمنعكم التصرف بالنوم كما يمنعكم بالموت ، وذكر الأصل في ذلك فقال : ( بالليل ويعلم ) أي والحال أنه يعلم ) ما جرحتم ) أي كسبتم ) بالنهار ) أي الذي تعقبه النوم ، من الذنوب الموجبة للإهلاك ، ويعاملكم فيها بالحلم بعد العلم ولا يعجل عليكم ، وهو معنى ) ثم يبعثكم ) أي يوقظكم بعد ذلك النوم المستغرق ، فيثصرفكم فيما يشاء ) فيه ) أي في النهار الذي تعقب ذلك النوم بعد استحقاقكم للانتقام ) ليقضي ) أي يتم ) أجل مسمى ( كتبه للمونة الكبرى .
ولما تمهد بهذا النشر بعد ذاك الطي في الموتة الصغرى القدرة على مثل ذلك في الموتى الكبرى ، وكان فيه تقريب عظيم له قال : ( ثم ( يبعثكم من تلك الموتة كما بعثكم من هذه ، ويكون ) إليه ) أي وحده ) مرجعكم ) أي حسا بالحشر إلأى دار الجزاء ، ومعنى بانقطاع الأسباب على ما عهد في الدنيا ) ثم ( بعد تلك المواقف الطوال والزلازل والأهوال ، ويمكن أ ، تشير أداة التراخي إلى عظمة العلم بذلك ، وإليه يرشد أكثر ما قبله من السياق ) ينبئكم ) أي يخبركم إخبارا عظيما جليلا مستقصى ) بما كنتم تعملون ( أ ] فيجازيكم عليه ، ولعلمه عبر العمل لأن الحساب يكون على المكلفين الذين لهم أهلية العلم ، فتقرر مع كمال قدرته سبحانه على اختراع هذه الأشياء والعلم بها. استقلاله يحفزها في كل حال وتدبيرها على أحسن وجه .
ولما أخبر بتمام العلم والقدرة ، أخبر بغالب سلطنته وعظيم جبروته وأن أفعاله هذه على سبيل القهر لا يستطاع مخالفتها ، فلو بالغ أحد في الاجتهاد في أن ينام في غير وقته ما قدر ، أو أن يقوم وقت النوم لعجز أو أن يحيى وقت الموت لم يستطع إلى غير ذلك فقال ) وهو ) أي يفعل ذلك والحال أنه وحده بما له من غيب الغيب وحجب الكبرياء ) القاهر ( وصور ذلك بقوله ) فوق عباده ) أي في الإحاطة بالعلم والفعل ، أما قهره للعدم فبالتكوين والإيجاد ، وأما قهره للوجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من(2/648)
صفحة رقم 649
العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى ، فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور ، والنهار بالليل والليل بالنهار ، إلى غير ذلك من ضروب الكائنات الممكنات ) ويرسل ( ورجع إلى الخطاب لأنه أصرح فقال ك ) عليكم ( من ملائكته ) حفظة ) أي يحفظون عليكم كل حركة وسكون لتستحيوا منهم وتخافوا عاقبة كنتبتهم ، ويقوم علييكم بشهادتهم الحجة على مجاري عاداتكم وإلا فهو سبحانه وتعالى غني عنهم ، لأنه العالم القادر فيحفظونكم على حسب مراده فيكم ) حتى إذا جاء (
ولما كان تقديم المفعول أخوف قال : ( أحدكم الموت ) أي الذي لا محيد له عنه ولا محيص ) توفته ) أي أخذت روحه كاملة ) رسلنا ( من ملك الموت وأعوانه على ما لهم من العظمة بالإضافة إلينا ) وهم لا يفرطون ( في نفس واحد ولا ما دونه وإلا مت فوقه بالتواني عنه ليتقدم ذلك عن وقته أو يتأخر ، ولما أشار سبحانه إلى قوله بالجنود التي تفوت الحصر وإن كانم معهم غنيا بصفة القهر نبه بصيغة المجهول إلى استحضار عظمته وشامل جبروته وقدرته ، فقلا : ( ثم ) أي بعد حبسهم في قيد البرزخ ) ردوا ) أي ردهم راد منه لا يستطيعون دفاعه أصلا ) إلى الله ) أي الذي لا تحد عظمته ولا تعد جنوده وخدمته ) مولهم ) أي مبدعهم ومدبر أمورهم كلها ) الحق ) أي الثابت الولاية ، وكل ولاية غير ولايته من الحفظة وغيرهم عدم ، لأن الحفظة لا يعلمون إلا ما ظهر لهم ، وهو سبحانه يعلم السر وأخفى .
ولما أستحضر المخاطب عزته وقهره ، وتصور جبروته وكبره ، فتأهل قلبه وسمعه لما يلقى إليه ويتلى عليه ، قال ) ألا له ) أي وحده حقا ) الحكم ( ولما كان الانفراد بالحكم بين جميع الخلق أمرا يحير الفكر ، ولا يكاد يدخل تحت الوهم ، قال محقرا في جنب قدرته : ( وهو ) أي وحده ) أسرع الحاسبين ( يفضل بين الخلائق كلهم في أسرع من اللمح كما أنه يقسم أرزاقهم في الدنيا في مثل ذلك ، لا يقدر أحد ألأن ينفك عن عقابه بمطاولة في الحساب ولا مغالطة في ثواب ولا عقاب ، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى فكر وروية ولا عقد ولا كتابة ، فال يشغله حساب عن حساب ولا شيء عن شيء .
الأنعام : ( 63 - 66 ) قل من ينجيكم. .. . .
) قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( ( )(2/649)
صفحة رقم 650
ولما تعرف بأفعاله وشؤونه حتى اتضحت وحدانيته وثبتت فردانيته ، ذكرهم أحوالهم في إقرار توحيده وقت الشدائد والرجوع عن ذلك عند الإنجاء منها ، فكانوا كمن طلب من شخص شيئاً وأكد له الميثاق على الشكر ، فلما أحسن إليه بإعطائه سؤله نقض عهده وبالغ في الكفر ، وذلك عندهم في غاية من القبائح لا توصف فقال : ( قل ) أي لهؤلاء الذين يدعون محاسن الأعمال ) من ينجيكم ) أي كثيراً وعظيماً ) من ظلمات البر والبحر ) أي حيث لا هداية لكم بنجم ولا جبل ولا غيرهما ، أإو عبر بالظلمات عن الكروب التي بلغت شدتها إلى أن صاحبها يكون كأنه في أشد ظلام ، فهو بحيث إنه لا يهتدي فيها إلى وجه حيلة بنوع وسيلة ) تدعونه ) أي على وجه الإخلاص له والتوحيد والإعراض عن كل شرك وشريك لزوال الحظوظ عند إحاطة الرعب واستيلائه على مجامع القلب ، فلا يقى إلا الفطرة السليمة ؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي : ( تضرعاً ) أي مظهرين الضراعة ، وهي شدة الفقر ، وحقيقته الخشوع ) و ( قوله : ( خفية ) أي تخفون في أنفسكم مثل ما تظهرون ؛ قال شمر : يقال : ضرع له وهو ضارع بيّن الضراعة ، وهؤلاء قوم ضرع ، أي أذلاء ، وهم ضرعة أي متضرعون ، والتضرع إلى الله : التخشع إليه والتذلل ، وإذا كان الرجل مختل الجسم قلت : إنه لضارع الجسم بيّن الضروع ، وفي الذل بين الضراعة - انتهى .
ولما بين وصفهم وقت الدعاء ، بين قولهم إذ ذاك فقال : ( لئن أنجانا من هذه ( فأكدوا وخصوا وبينوا غاية البيان ) لنكونن من الشاكرين ) أي العريقين في الشكر ؛ ولما كانوا مقرين بأن فاعل ذلك هو الله ، ولكنهم يكفرون نعمته ، عدوا منكرين فأمره بالجواب غي رمنتظر لجوابهم بقوله : ( قل الله ) أي الذي له جميع العظمة ) ينجيكم منها ) أي من تلك الشدة ) ومن كل كرب ) أي وقعتم فيه ، وما أعظم موقع قولُه : ( ثم أنتم ( مع التزام الإخلاص في وقت الكرب ومع التزام الشكر تشركون ( مشيراً إلى استبعاد نقضهم بأداة التراخي مع ما فيه من الجِناس لما كان ينبغي لهم من أنهم يشكرون .
ولما كانوا بإشراكهم كأنهم يظنون أن الشدة زالت عنهم زوالاً لا يعوده ، وكان اللائق بهم دوام التذلل إما وفاء وإما خوفاً ، أخبرهم ترهيباً لهم من سطوته وتحذيراً من بالغ قدرته أن شدتهم تلك التي أذلتهم لم تزل في الحقيقة ، فإن قدرة الملك عليها حالة الرخاء كقدرته عليها في وقتها سواء ، فإنه خالق الحالتين وأسبابهما وما فيهما ، ولكنهم عمي الأبصار أجلاف الطبائع فقال : ( قل هو ) أي وحده ) القادر ( ولم يصغه صيغة(2/650)
صفحة رقم 651
مبالغة لأنهم لم يكونوا ينكرون قدرته إنما كانوا يدعون المشاركة التي نفاها بالتخصيص ، على أن التعريف يفيد به المبالغة ) على أن يبعث ) أي في أيّ وقت يريده ) عليكم ) أي في كل حالة ) عذاباً من فوقكم ( بإسقاط السماء قطعاً أو شيء منها كالحجارة التي حصب بها قوم لوط وأصحاب الفيل أو بتسليط أكابركم ) أو من تحت أرجلكم ) أي بالخسف أو إثارة الحيات أو غيرها من الأرض كما وقع لبعض من سلف ، أو بتسليط سفلتكم وعبيدكم عليكم ) أو يلبسكم ) أي يخلط بينكم حال كونكم ) شيعاً ) أي متفرقين ، كل شيعة على هوى ، فيكون ذلك سبباً للسيف ) ويذيق بعضكم ) أي بعض تلك الشيع ) بأس بعض ( فيساوي في ذلك بين الحرم وغيره ، ويصير التخطف بالنهب والغارات عاماً ، وسوق هذا الكلام هكذا يفهم إيقاعه في وقت ما لناس ما ، لأن كلام الملوك يصان عن أن لا يكون له صورة توجد وإن كان على سبيل الشرط ونحوه ، فكيف بملك الملوك علام الغيوب وللتدريب على مثل هذا الفهم في كلام الله تعالى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الترمذي في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ( أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ) وقال : حسن غريب ، وسيأتي لهذا مزيد بسط وتحقيق في قوله تعالى في الفرقان
77 ( ) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك ( ) 7
[ الفرقان : 10 ] .
ولما كان هذا بياناً عظيماً ، أشار إلى عظمه بقوله : ( انظر ( وعظمه تعظيماً آخر بالاستفهام فقال ) كيف نصرف الآيات ) أي أي نكررها موجهة في جميع الوجوه البديعة النافعة البليغة ) لعلهم يفقهون ) أي ليكون حالهم حال من يرجى فهمه وانتفاعه به ، كان هذا ) و ( الحال أنه ) كذب به ) أي هذا العذاب أو القرآن المشتمل على الوعد والوعيد والأسباب المبينة للخلق جميع ما ينفعهم ليلزموه وما يضرهم ليحذروه ) قومك ) أي الذين من حقهم أن يقوموا بجميع أمرك ويسروا بسيادتك ، فإن القبيلة إذا ساد أحدها عزت به ، فإن عزه عزها وشرفه شرفها ، ولا سيما إذا كان من بيت الشرف ومعدن السيادة ، وإذا سفل أحدها اهتمت به غاية الاهتمام وسترت عيوبه مهما أمكنها فإن عاره لاحق بها ، فهو من عظيم التوبيخ لهم ودقيق التقريع ، وزاد ذلك بقوله :(2/651)
صفحة رقم 652
) وهو ) أي والحال أنه ) الحق ) أي الثابت الذي لا يضره التكذيب به ولا يمكن زواله بمعرض أن يخاف عاقبة ذلك ويقول : فماذا أصنع بهم ؟ فقال تعالى معلماً أنه ليس عليه بأس من تكذيبهم : ( قل لست ( وقدم الجار والمجرور للاهتمام به معبراً بالأداة الدالة على القهر والغلبة فقال : ( عليكم بوكيل ) أي حفيظ ورثيب لأقهركم على الرد عما أنتم فيه .
الأنعام : ( 67 - 70 ) لكل نبإ مستقر. .. . .
) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( ( )
ولما كانوا بصدد أن يقولوا تهكماً : كن كذلك ، فلا علينا منك قال مهدداً : ( لكل ( وأشار إلى جلالة خبره بقوله : ( نبإ ) أي خبر أخبرتكم به من هذه الأخبار العظيمة ، ومعنى ) مستقر ( موضع ووقت قرار من صدق أو كذب ، أي لا بد أن يحط الخبر على واحد منهما ، لا ينفك خر من الأخبار عن ذلك ) وسوف تعلمون ) أي محط خبره العظيم بوعد صادق لا خلف فيه وإن تأخر وقوعه .
ولما أمره بما يقول جواباً لتكذيبهم ، تقدم إليه فيما يفعل وقت خوضهم في التكذيب فقال : ( وإذا رأيت ( خاطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد غيره ليكون أردع ) الذين يخوضون ) أي يتكلمون ) في آياتنا ) أي بغير تأمل ولا بصيرة بل طوع الهوى ، كما يفعل خائض الماء في وضعه لرجله على غير بصيرة لستر مواضع الخُطأ وبغير تمام الاختيار لغلبة الماء ) فأعرض عنهم ( بترك المجالسة أو ما يقوم مقامها ؛ ولما كان الخوض في الآيات دالاً على قلة العقل قال : ( حتى يخوضوا في حديث غيره ( فحكم على حديثهم فميا سوى ذلك أيضاً بالخوض ، لأن فيه الغث والسمين ، لأنه غير مقيد بنظام الشرع .
ولما كان الله تعالى - وله الحمد - قد رفع حكم النسيان عن هذه الأمة ، قال(2/652)
صفحة رقم 653
مؤكداً : ( وإما ينسينك الشيطان ) أي إنساء عظيماً إشارة إلى أن مثل هذا الأمر جدير بأن لا ينسى ) فلا تقعد بعد الذكرى ) أي التذكر لهذا النهي ) مع القوم الظالمين ( أظهر موضع الإضمار تعميماً ودلالة على الوصف الذي هو سبب الخوض ، وهو الكون في الظلام .
ولما كانت هذه الآية مكية ، وكانوا إذ ذاك عاجزين عن الإنكار بغير القلب ، قال : ( وما على الذين يتقون ) أي يخافون الله فلا يكذبون بىياته في مجالسة الكفرة ) من حسابهم ) أي الخائضين إذا كانوا أقوى منهم ) من شيء ( وما نهينا عن المجالسة لأن عليهم فيها - والحالة هذه - إثماً ) ولكن ( نهينا لتكون المفارقة إظهاراً للكراهة ) ذكرى ( للخائضين لاستحيائهم من أذى الجليس ) لعلهم يتقون ) أي ليكون حالهم بذلك حال من يرجى منه التقوى ، فيجتنب الخوض في الآيات إكراماً للجليس .
ولما أبرز هذا الأمر في صيغة النهي ، أعاده بصيغة الأمر اهتماماً به وتأكيداً له ، وأظهر لهم وصفاً آخر هو غاية الوصف الأول مع ما ضم إليه من الإرشاد إلى الإنقاذ من المعاطب فقال : ( وذر ) أي اترك أي ترك كان ولو كان على أدنى الوجوه ) الذين اتخذوا ) أي كلفوا أنفسهم في اتباع الهوة بمخالفة العقل المستقيم والطبع الفطري السليم بأن أخذوا ) دينهم ( على نمط الأسخف من دنياهم ؛ ولما كان الدين ملكة راسخة في النفس ، ولا شيء من كيفيات النفس أرسخ منها ولا أثبت ، وهو أشرف ما عند الإنسان ، وكان اللعب ضده لا شيء أسرع من انقضائه ولا أوهى من بنائه ، قال ذامّاً لهم بأنهم بدلوا مقصود هذه السورة - الذي هو من الاستدلال على التوحيد الذي لا أشرف منه مطلقاً ولا أعلى ولا أنفس بوجه ولا أحلى - بما لا أدنى منه ولا أوهى ولا أمحق للمروءة ولا أدهى : ( لعباً ( ولما كان ربما قيل : إنهم إذا انقضى اللعب عادوا إلى الاشتغال بالدين ، أتبعه الباعث عليه إشارة إلى أنه كلما ملوا اللعب بعثوا النفوس إليه باللهو كما ترى الراقص كلما فتر في رقصة بعثوه عليه بتقوية اللهو أو الانتقال من فن إلى آخر من فنونه وشأن بديع من شؤونه فقال : ( ولهواً ) أي في الاستهزاء بالدين الحق بالمكاء والتصدية وبالبحائر والسوائب وغير ذلك ، فلا تبال بهم ولا يشغل قلبك بهم ) وغرتهم ) أي خدعتهم ) الحياة الدنيا ( التي هم من أعرف الناس بزوالها ، وأن كل من بها هالك ، فمنَتْهم النعم التي منَّ عليهم سبحانه بها فيما لا ينالونه من السعادة إلا باتباع أوامره واجتناب نواهيه .
ولما كان ربما أفهم ذلك تركهم في كل حالة ، نفاه بقوله : ( وذكر به ) أي تحديث الآيات ، وهي القرآن المتجدد إنزاله ، والضمير في الحقيقة للآيات ، أي دعهم(2/653)
صفحة رقم 654
يفعلوا ما أرادوا ، لا تبال بشيء من ذلك ، ولا تترك وعظّهم بهذا القرآن ، أي ما عليك إلا البلاغ ، لم نكلفك في هذه الحالة أكثر منه ) أن تبسل ( قال في المجمل : السبل : النخل ، وأبسلته : أسلمته للهلكة ، فالمعنى : كراهة أن تخلي وتسلم ) نفس بما ) أي بسبب ما ) كسبت ( في دنياها كائنة ) ليس لها من دون الله ) أي المنفرد بالعظمة ) ولي ) أي يتولى نصرها ) ولا شفيع ( ينقذها بشفاعته .
ولما كان الفداء من اسباب الخلاص قال : ( وإن تعدل ) أي تلك النفس لأجل التوصل إلى الفكاك ) كل عدل ) أي كل شيء يظن أنه يعدلها ولو كان أنفس شيء ؛ ( ولما ) كان الضار عدم الأخذ ، لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : ( لا يؤخذ منها ( ولما أنتج ذلك قطعاً أن من هذا حاله هالك ، قال : ( أولئك ) أي الذين عملوا هذه الآيات ما ظهر على ألسنتهم ) وعذاب أليم ) أي يعم دائماً ظواهرهم وبواطنهم بما ظهر عليهم من ذلك بعد ما بطن ) بما ) أي بسبب ما ) كانوا يفكرون ) أي يجددون من تغطية الآيتات .
الأنعام : ( 71 - 72 ) قل أندعو من. .. . .
) قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ( )
ولما تقرر أن غير الله لا يمنع من الله بنوع ، لا آلهتهم التي زعموا أنها شفعاؤهم ولا غيرها ، ثبت أنهم على غاية البينة من أن كل ما سواء لا ينفع شيئاً ولا يضر ، فكان في غاية التبكيت لهم قوله : ( قل ) أي بعد ما أقمت من الأدلة على أنه ليس لأحد مع الله أمر ، منكراً عليهم موبخاً لهم ) أندعوا ) أي دعاء عبادة ، وبين حقارة معبوداتهم فقال : ( من دون الله ) أي المنفرد بجميع الأمر .
ولما كان السياق لتعداد النعم ) ) الذي خلق السماوات والأرض ( ) [ الأنعام : 73 ] ) ) خلقكم من طين ( ) [ الأنعام : 2 ] ) ) يطعم ولا يطعم ( ) [ الأنعام : 14 ] ) ) ويرسل عليكم حفظة ( ) [ الأنعام : 61 ] ) ) من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ( ) [ الأنعام : 63 ] ) ) الله ينجيكم منها ومن كل كرب ( ) [ الأنعام : 64 ] قدم النفع في قوله : ( ما لنا لا ينفعنا ولا يضرنا ) أي لا يقدر على شيء من ذلك ، ليكونوا على غاية اليأس من اتباع حزب الله(2/654)
صفحة رقم 655
لهم ، وهذا كالتعليل لقوله
77 ( ) إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ( ) 7
[ الأنعام : 56 ] .
ولما ذكر عدم المنفعة في دعائهم ، أشار إلى وجود الخسارة في رجائهم فقال : ( ونرد ) أي برجوعنا إلى الشرك ، وبناه للمفعول لأن المنكر الرد نفسه من أيّ راد كان ) على أعقابنا ) أي فنأخذ في الوجه المخالف لقصدنا فنصير كل وقت في خسارة بالبعد عن المقصود ) بعد إذ هدانا الله ) أي الذي لا خير إلا وهو عنده ولا ضر إلا وهو قادر عليه ، إلى التوجه نحو المقصد ، ووفقنا له وأنقذنا من الشرك .
ولما صور حالهم ، مثَّلَه فقال : ( كالذي ) أي نرد من علو القرب إلى المقصود إلى سفول البعد عنه رداً كرد الذي ) استهوته ) أي طلبت مزوله عن درجته ) الشياطين ( فأنزلته عن أفق مقصده إلى حضيض معطبه ، شبه حاله بحال من سقط من عال في مهواة مظلمة فهو في حال هويه في غاية الاضطراب وتحقق التلف والعمى عن الخلاص ) في الأرض ( حال كونه ) له ) أي هذا الذي هوى ) أصحاب ) أي عدة ، ولكنه لتمكن الحيرة منه لا يقبل ) يدعونه إلى الهدى ( وبين دعاءهم بقوله : ( ائتنا ( وهو قد اعتسف المهمة تابعاً للشياطين ، لا يجيبهم ولا يأتيهم لأنه قد غلب على نفسه ، وحيل بينه وبين العبر والنزوان .
ولما كان هذا مما يعرفونه وشاهدوه مراراً ، وكانوا عالمين بأن دعاء أصحابه له في غاية النصيحة والخير ، وأنه إن تبعهم نجا ، وإلا هلك هلاكاً لا تدارك له ، فكان جوابهم : إن دعاء أصحابه به لهدى ، بين أنه مضمحل تافه جداً بحيث إنه يجوز أن يقال : ليس هدى بالنسبة إلى هذا الذي يدعوهم إليه ، بقوله : ( قل إن هدى الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ) هو ) أي خاصة ) الهدى ) أي لا غيره كدعاء أصحاب المستهوي ، بل ذاك الهدى مع إنقاذه من الهلاك إلى جنب هذا الهدى كلا شيء ، لأن الشيء هو الموصل إلى سعادة الأبد .
ولما كان التقدير : فقد أمرنا أن نلزمه ونترك كل ما عداه ، عطف عليه أمراً عاماً فقال : ( وأمرنا لنسلم ) أي ورد علينا الأمر ممن لا أمر لغيره بكل ما يرضيه لأن نسلم بأن نوقع الإسلام وهو الانقياد التام فنتخلى عن كل هوى ، وأن نقيم الصلاة بأن نوقعها بجميع حدودها الظاهرة والباطنة فنتحلى بفعلها أشرف حلى ) لرب العالمين ) أي لإحسانه إلى كل أحد بكل شيء خلقه ؛ ثم فسر المأمور به ، فكأنه قال : أن أسلموا ) وأن أقيموا الصلاة ( لوجهه ) واتقوه ( مع ذلك ، أي افعلوها لا على وجه الهزء(2/655)
صفحة رقم 656
واللعب ، بل على وجه التقوى والمراقبة ليدل ما ظهر منها على ما بطن من الإسلام للمحسن .
ولما كان التقدير : فهو الذي ابتدأ خلقكم من طين فإذا أنتم بشر مصورون ، وجعلكم أحياء فبقدرته على مدى الأيام تنتشرون ، عطف عليه قوله : ( وهو الذي إليه ) أي لا إلى غيره بعد بعثكم من الموت ) تحشرون ( فأتى بالبعث الذي هم له منكرون لكثرة ما أقام من الأدلة على تمام القدرة في سياق دال على أنه مما لا مجال للخلاف فيه ، وأن النظر إنما هو فيما وراء ذلك ، وهو أن عملهم للباطل سوَّغ تنزيلهم منزلة من يعتقد أنه يحشر إلى غيره سبحانه ممن لا قدرة له على جزائهم ، فأخبرهم أن الحشر إليه لا إلى غيره ، لأنه لا كلام هناك لسواه ، فلا علق بين المحشورين ولا تناصر كما في الدنيا ، والجملة مع ذلك كالتعليل للأمر بالتقوى ، وقد بان أن الآية من الاحتباك ، فإنه حذف الصلاة أولاً لدلالة ذكرها ثانياً ، والإسلام ثانياً لدلالة ذكره أولاً .
الأنعام : ( 73 - 76 ) وهو الذي خلق. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ( )
ولما كانوا بعبادة غيره تعالى - مع إقرارهم بأنه هو خالق السماوات والأرض - في حال من يعتقد أن ذلك الذي يعبدونه من دونه هو الذي خلقهما ، أو شاركاً فيهما .
فلا قدرة لغيره على حشر من في مملكته ، قال تعالى منبهاً لهم من غفلتهم وموقظاً من رقدتهم معيداً الدليل الذي ذكره أول السورة على وجه آخر : ( وهو ) أي وحده ) الذي خلق ) أي أوجد واخترع وقدر ) السماوات والأرض ) أي على عظمهما وفوت ما فيهما من الحكم والمنافع الحصر ) بالحق ) أي بسبب إقامة الحق ، وأنتم ترون أنه غير قائم في هذه الدار ولا هو قريب من ا لقيام ، فوجب على كل من يعلم أن الله حكيم خبير أن يعتقد أنه لا بد من بعثة العباد بعد موتهم - كما وعد بذلك - ليظهر العدل بينهم ، فيبطل كل باطل ويحق كل حق ، ويظهر الحكم لجميع الخلق .
ولما قرر أن إقامة الحق هي المراد ، قرر قدرته عليها بقوله : ( ويوم يقول ) أي للخلق ولكل شيء يريده في هذه الدار وتلك الدار ) كن فيكون ) أي فهو يكون لا يتخلف أصلاً .(2/656)
صفحة رقم 657
ولما قرر أنه لا يتخلف شيء عن أمره ، علله فقال : ( قوله الحق ) أي لا قول غيره ، لأن أكثر قول غيره باطل ، لأنه يقول شيئاً فلا يكون ما أراد ؛ ولما كان في مقام الترهيب من سطوته ، قال مكرراً لقوله ( وهو الذي إليه تحشرون ) : ( وله ) أي وحده بحسب الظاهر والباطن ) الملك يوم ( ولما كان المقصود تعظيم النفخة ، بني للمفعول قوله : ( ينفخ في الصور ( لانقطاع العلائق بين الخلائق ، لا كما ترون في هذه الدار من تواصل الأسباب ، وقولُه - : ( عالم الغيب ( وهو ما غاب عن كل ما سواه سبحانه ) والشهادة ( وهو ما صار بحيث يطلع عليه الخلق - مع كونه علة لما قبله من تمام القدرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه من تمام الترهيب ، أي أنه لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ، فاحذروا جزاءه يوم تنقطع الأسباب ، ويذهب التعاذد والتعاون ، وهو على عادته سبحانه في أنه ما ذكر أحوال البعث إلاّ قرر فيه أصلين : القدرة على جميع الممكنات ، والعلم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات ، لأنه لا يقدر على البعث إلا من جمع الوصفين ) وهو ) أي وحده ) الحكيم ) أي التام الحكمة ، فلا يضع شيئاً في غير محله ولا على غير أحكام ، فلا معقب لأمره ، فلا بد من البعث ) الخبير ( بجميع الموارد والمصادر ، فلا خفاء لشيء من أفعال أحد من الخلق عليه في ظاهر ولا باطن ليهملهم عن الحساب .
ولما كان مضمون هذه الآيات مضمون الآيات الثلاث المفتتح بها السورة الهادمة لمذهب الثنوية ، وهم أهل فارس قوم إبراهيم عليه السلام ، وكان إبراهيم عليه السلام يعرف بفضله جميع الطوائف ، لأن أكثرهم من نسله كاليهود والنصارى والمشركين من العرب ، والمسلمون لما يعلمون من إخلاصه لله تعالى وانتصابه لمحاجة من أشرك به واحتمال الأذى فيه سبحانه ، تلاها بمحاجته لهم بما أبطل مذهبهم وأدحض حججهم فقال : ( وإذ ) أي اذكر ذلك المتقدم كله لهم في الدلائل على اختصاصنا بالخلق وتمام القدرة ، ما أعظمه وما أجله وأضخمه وتفكر في عجائبه وتدبر في دقائقه وغرائبه تجد ما لا يقدر على مثله إلا الله ، واذكر إذ ) قال إبراهيم ) أي اذكر قوله ، وحكمة التذكير بوقته التنبيهُ على أن هذا لم يزل ثابتاً مقرراً على ألسنة جميع الأنبياء في جميع الدهور ، وكان في هذه المحاجة التصريح بما لوح إليه أول هذه السورة من إبطال هذا المذهب ، وانعطف هذا على ذاك أيّ انعطاف وصار كأنه قيل : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الأصنام والنجوم والنور والظلمة ، فنبههم يا رسول الله على ذلك بأنه لا متصرف غيرنا ، اذكر لهم أني أنا الذي خلقتهم وخلقت جميع ما يشاهدون من الجواهر والأعراض ، فإن تنبهوا فهو حظهم ، وإلا فاذكر لهم محاجة خليلنا إبراهيم عليه السلام إذ قال ) لأبيه ( ثم(2/657)
صفحة رقم 658
بينه في قراءة الجر بقوله : ( آزر ( وناداه في قراءة يعقوب بالضم ؛ قال البخاري في تاريخه الكبير : إبراهيم بن آزره وهو في التوراة : تارح - انتهى - وقد مضى ذلك عن التوراة في البقرة ، فلعل أحدها لقب ، وكان أهل تلك البلاد وهم الكلدانيون ، ويقال لهم أيضاً الكسدانيون - بالمهملة موضع اللام - يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض ويجعلون لكل نجم صنماً ، إذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم - كما زعموا - إلى النجم ، فقال عليه السلام لأبيه منكراً عليه منبهاً له على ظهور فساد ما هو مرتكبه : ( أتتخذ ) أي أتكلف نفسك إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل ) أصناماً آلهة ) أي تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر ، فنبهه بهذا الإنكار على أن معرفة بطلان ما هو متدين به لا يحتاج إلى كثير تأمل ، بل هو أمر بديهي أو قريب منه ، فإنهم يباشرون أمرها بجميع جوانبهم ويعلمون أنها مصنوعة وليست بصانعة ، وكثرتها تدل على بطلان إلهيتها بما أشار إليه قوله تعالى
77 ( ) لو كان فيهما آلهة " لا الله لفسدت ( ) 7
[ الأنبياء : 22 ] .
ولما خص بالنصيحة أقرب الخلق إليه ، عم بقية أقاربه فقال : ( إني إراك وقومك ) أي في اتفاقكم على هذا ) في ضلال ) أي بُعد عن الطريق المستقيم ) مبين ) أي ظاهر جداً ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبي نبأه الله تعالى من آدم عليه السلام فمن بعده ، فهو مع ظهوره في نفسه مظهر للحق من أن الإله لا يكون إلا كافياً لمن يعبده ، وإلا كان فقيراً إلى تأله كم يكفيه .
ولما كان كأنه قيل : بصرنا إبراهيم عليه السلام هذا التبصير في هذا الأمر الجريء من بطلان الأصنام ، قال عاطفاً عليه : ( وكذلك ) أي ومثل هذا التبصير العظيم الشأن ، وحكى الحال الماضية بقوله : ( نري ) أي بالبصر والبصيرة على مر الزمان وكر الشهور والأعوام إلى ما لا آخر له بنفسه والصلحاء من أو لاده ) إبراهيم ملكوت ) أي باكن ملك التوحيد فيعلم أن كل من عبد غير الله صنم وغيره من قومه وغيرهم في ضلال ، كما علم دلك في قومه في الأصنام ) وليكون من الموقنين ) أي الراسخين في وصف الإيقان في أمر التوحيد كله بالنسبة إلى جميع الجزئيات لما أريناه ببصره وبصيرته ، فتأمل فيه حتى وقع فيه بعد علم اليقين على عين اليقين بل حق اليقين .
ولما كانت الأمور السماوية مشاهدة لجميع الخلق : دانيهم وقاصيهم ، وهي أشرف(2/658)
صفحة رقم 659
من الأرضية ، فإذا بطلت صلاحيتها للإلهية بطلت الأرضية من باب الأولى ؛ نصب لهم الحجاج في أمرها ، فقال مسبباً عن الإراءة المذكورة : ( فلما جن ) أي ستر وأظلم ، وقصره - وإن كان متعدياً - دلالة على شدة ظلام تلك الليلة ، ولذلك عداه بأداة الاستعلاء فقال : ( عليه الّيل ) أي وقع الستر عليه ، فحجب ملكوت الأرض فشرع ينظر في ملكوت السماء ) رأى كوكباً ) أي قد بزغ ، فكأنه قيل : فماذا فعل ؟ فقيل : ( قال هذا ربي ( فكأنه مِنْ بَصْرِه أن أتى بهذا الكلام الصالح لأن يكون خبراً واستفهاماً ، ليوهمهم أنه مخبر ، فيكون ذلك انفى للغرض وأنجى من الشعب ، فيكون أشد استجلاباً لهم إلى إنعام النظر وتنبيهاً على موضع الغلط وقبول الحجة ، ولمثل ذلك ختم الآية بقوله : ( فلما أفل ) أي غاب بعد ذلك الظهور الذي كان آية سلطان ) قال لا أحب الآفلين ( لأن الأفول حركة ، والحركة تدل على حدوث المتحرك وإمكانه ، ولا نظن أن يظن به أنه قال ما قاله أولاً عن اعتقاد ربوبية الكواكب ، لأن الله تعالى قد دل على بطلان هذا التوهم بالإخبار بأنه أراه ملكوت الخافقين وجعله موقناً ، فاسند الأمر إلى نفسه تنبيهاً لهم ، واستدل بالأفول لأن دلالته لزوال سلطانه وحقارة شأنه اتم ، ولم يستدل بالطلوع لأنه - وإن كان حركة دالة على الحدوث والنقصان - شرف في الجملة وسلطان ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان ، والممكن لا بد له من موجد واجب الوجود ، يكون منتهى الآمال ومحط الرحال ) ) وأن إلى ربك المنتهى ( ) [ النجم : 42 ] والأوساط يفهمون منه الحدوث للحركة ، فلا بد من الأستناد إلى قديم ، والعوام يفهمون أن الغارب كالمعزول لزوال نوره وسلطانه ، وأن ما كان كذلك لا يصلح للإلهية ، وخص الأفول أيضاً لأن قومه الفرس كانوا منجمين ، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان صاعداً من المشرق إلى وسط السماء كان قوياً عظيم التأثير ، فإذا كان نازلاً إلى المغرب كان ضعيف الأثر ، والإله هو من لا يتغير ، وهذا الاستدلال برهان في أن أصل الدين مبني على الحجة دون التقليد .
الأنعام : ( 77 - 82 ) فلما رأى القمر. .. . .
) فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ( ( )(2/659)
صفحة رقم 660
ولما بصرهم قصور صغير الكواكب ، رقي النظر إلى أكبر منه ، فسبب عن الإعراض عن الكواكب لقصوره قولَه : ( فلما رأى القمر بازغاً ) أي طالعاً أول طلوعه ؛ قال الأزهري : كأنه مأخوذ من البزغ الذي هو الشق ، كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً ) قال هذا ربي ( دأبَه في الأولى .
ولما كان تأمل أن الكوكب محل الحوادث بالأفول قد طرق أسماعهم فخالج صدورهم ، قال : ( فلما أفل قال ( مؤكداً عاية التأكيد ) لئن لم يهدني ربي ) أي الذي قدر على الإحسان إليّ بالإيجاد والتربية لكونه لا يتغير ولا شريك له بخلق الهداية في قلبي ، فدل ذلك على أن الهداية ليست إلى غيره ، ولا تحمل على نصب الأدلة ، لأنها منصوبة قبل ذلك ، ولا على معرفة الاستدلال فإنه عارف به ) لأكونن ) أي بعبادة غيره ) من القوم الضالين ( فكانت هذه أشد من الأولى وأقرب إلى التصريح بنفي الربوبية عن الكواكب وإثبات أن الرب غيرها ، مع الملاطفة وإبعاد الخصم عما يوجب عناده .
ولما كان قد نفي عن الأجرام السماوية ما ربما يضل به الخصم قال : ( فلما رأى ) أي بعينه ) الشمس بازغة ) أي عند طلوع النهار وإشراق النور الذي ادعوا فيه ما ادعوا ) قال ( مبيناً لقصور ما هو أكبر من النور وهو ما عنه النور ) هذا ( مذكراً إشارتَه لوجود المسوغ ، وهو تذكير الخبر إظهاراً لتعظيمها إبعاداً عن التهمة ، وتنبيهاً من أول الأمر على أن المؤنث لا يصلح للربوبية ) ربي ( كما قال فيما مضى ؛ ثم علل ذلك بياناً للوجه الذي فارق فيه ما مضى فأورث شبهة ، فقال : ( هذا أكبر ) أي مما تقدم ) فلما أفلت ) أي غربت فخفي ظهورها وغلب نورها وهزمه جيش الظلام بقدرة الملك العلام ) قال يا قوم ( فصرح بأن الكلام لهم أجمعين ، ونادى على رؤوس الأشهاد .
ولما كانت القلوب قد فرغت بما ألقي من هذا الكلام المعجب للحجة ، وتهيأت لقبول الحق ، ختم الآية بقوله : ( إني بريء مما تشركون ) أي من هذا وغيره من باب الأولى ، فصرح بالمقصود لأنه لم يبق في المحسوس من العالم العلوي كوكب أكبر من الشمس ولا أنور ، فلما أبطل بذلك جميع مذهبهم أظهر التوجه إلى الإله الحق ، وأنه قد انكشف له الصواب بهذا النظر ، والمراد هم ، ولكن سوقه على هذا الوجه أدعى لقبولهم إياه ، فقال مستنتجاً عما دل عليه الدليل العقلي في الملكوت : ( إني وجهت وجهي ) أي أخلصت قصدي غير معرج على شيء أصلاً ، فعبر بذلك عن الانقياد التام ، لأن من انقاد لشيء أقبل عليه بوجهه ، ودل على كماله وتفرده بالكمال مبدعاتُه ، وعبر باللام دون إلى لئلا يوهم الحيز ، فقال : ( للذي فطر ) أي لأجل عبودية من شق وأخرج ) السماوات والأرض ( فختم الدليل بما افتتحت به السورة من قوله ( الذي خلق السماوات والأرض )(2/660)
صفحة رقم 661
وأدل دليل عى ما تقدم - أني فسرت الحنف به من أنه الميل مع الدليل سهولة ولطافة على ما هو دأب الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها - قولُه بعد نصب هذا الدليل : ( حنيفاً ) أي سهلاً هيناً ليناً لطيفاً ميالاً مع الدليل غير كزّ جاف جامد على التقليد دأب الغليظ البليد ، وأكد البراءة منهم بقوله : ( وما أنا من المشركين ) أي منكم ، ولكنه أظهر الوصف المقتضي للبراءة والتعميم ، أي لا أعد في عدادكم بشيء أقاربكم به .
ولما أبدى هذه الأدلة في إبطال الضلال بالكواكب والشمس التي هي أوضح من الشمس ، عطف عليها الإخبار بأنهم لم يرجعوا إليه بل حاجوه ، فقال : ( وحاجه قومه ( بأنهم لا ينفكون عن عبا تها لأنهم وجدوا آباءهم كذلك ، وأنه إن لم يرجع عن الكلام فيها أصابته ببعض النوازل ، وذلك من أعظم التسلية لهذا النبي العربي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم .
ولما كان من المعلوم أن محاجتهم - بعد هذه الأدلة الواضحة في غاية من السقوط - سفلت عن الحضيض ، نزه المقام عن ذكرها ، إشارة إلى أنها بحيث لا يستحق الذكر ، وبين جوابه لما فيه من الفوائد الجمة بقوله : ( قال ) أي بقول منكراً عليهم موبخاً لهم : ( أتحاجوني ( وصرح باسم الرب العلم الأعظم في قوله : ( في الله ) أي شيء مما يختص به المستجمع لصفات الكمال لا سيما التوحيد ) وقد ) أي والحال أنه قد ) هدان ) أي أرشدني بالدليل القطعي إلى معرفة كل ما يثبت له وينفى عنه ، أي لأنه قادر ، فبين أنه تعالى قد أحسن إليه ، فهو يرجوه لمثل ذلك الإحسان ، ويخافه من عواقب العصيان ، لأن من رُجي خيره خيف ضيره ، ومن كان بيده النفع والضر والهداية والإضلال فهو من وضوح الأمر وظهور الشأن بحيث لا توجه نحوه المحاجة ، وأتبعه بيان أن معبوداتهم مسلوب عنها ما يوجه إليه الهمم ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فأنا أرجوه وأخافه لأنه قادر : ( ولا أخاف ما تشركون به ( ولا أرجوه لهداية ولا إضلال ولا غيرهما لأنه عاجز ، فأثبت لله القدرة بالهداية لأنها أشرف ، وطوى الإضلال لدلالتها ودلالة ما نفي في جانب الشركاء عليه ، وأثبت لآلهتهم العجز بنفي الخوف المستلزم لنفي القدرة على الضر .
وذلك دال على أن الله تعالى أهل لأن يخاف منه .
كل ذلك تلويحاً لهم بأن العاقل لا ينبغي له أن يخالف إلاّ من يأمن ضره ، فهم في مخالفتهم لله في غاية من الخطر ، لا يرتكبها عاقل ، والآية من الاحتباك .
ولما نفى عن نفسه خوف آلهتهم أبداً في الحال والاستقبال ، وكان من الأمر البين في الدين الحق أنه لا يصبح الإيمان إلاّ مع الإقرار بخفاء العواقب على العباد وإثبات العلم بها لله تسليماً لمفاتيح الغيب إليه ، وقصرها عليه ؛ قال مستثنياً من سبب النفي ، (2/661)
صفحة رقم 662
وهو أنها لا تقدر على شيء : ( إلا أن يشاء ربي ( المحسن إليّ في حال الضر كما هو محسن في حال النفع ) شيئاً ) أي من تسليطها بأنفسها أو باتباعها ، لأنه قادر على ما يريد ، فإن أراد أنطق الجماد وأقدره ، وأخرس الناطق الفصيح وأعجزه ، فأنا لا أخاف في الحقيقة غيره .
ولما كان هذا في صورة التعليق ، وكان التعليق وما شابهه من شأنه أن لا يصدر إلاّ من متردد ، فيكون موضع إطماع للخصم فيه ، علله بما أزال هذا الخيال فقال : ( وسع ربي كل شيء علما ) أي فأحاط بكل شيء قدرة ، فهو إذا أراد إقدار العاجز أزال عنه كل مانع من القدرة ، وأثبت له كل مقتض لها ، وذلك ثمرة شمول العلم - كما سيأتي برهانه إن شاء الله تعالى في سورة طه ، فالمراد أني ما تركت الجزم لشك عندي ، وإنما تركته لعدم علمي بالعواقب إعلاماً بأن تلك رتبة لا تصلح إلاّ لله الذي وسع علمه كل شيء ، وأدل دليل على هذا اتباعه له بإنكاره عليهم عدمَ الإبلاغ في التذكر بقوله مظهراً تاء التفعل إشارة إلى أن في جبلاتهم أصل التذكر الصاد عن الشرك : ( أفلا تتذكرون ) أي يقع منكم تذكر ، فتميزوا بين الحق والباطل بأن تذكروا مآلكم من أنفسكم بأن من غاب عن مربوبه فسد أو كاد ، وأن هذه الجمادات لا تنفع ولا تضر ، وأنها مصنوعكم ، وتعجب منهم في ظنهم خوفه من معبوداتهم بقوله منكراً : ( وكيف أخاف ما أشركتم ) أي من دون الله من الأصنام وغيرها مع أنها لا تقدر على شيء ) ولا ) أي والحال أنكم أنتم لا ) تخافون أنكم أشركتم بالله ) أي المستجمع لصفات العظمة والقدرة على العذاب والنقمة .
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء قال : ( ما لم ينزل به ) أي بإشراكه ؛ ولما كان المقام صعباً لأنه أصل الدين ، أثبت الجار والمجرور وقدمه فقال : ( عليكم سلطاناً ) أي حجة تكون مانعة من إنزاله الغضبَ بكم ، والحاصل أنه عليه السلام أوقع الأمن في موضعه وهم أوقعوه في موضع الخوف ، فعجب منهم لذلك فبان أن هذا وقول شعيب عليه السلام في الأعراف
77 ( ) وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله ربنا ( ) 7
[ الأعراف : 89 ] - الآية ، وقوله تعالى في الكهف
77 ( ) ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله ( ) 7
[ الكهف : 24 ] من مشكاة واحدة ؛ ولما كان المحذور المنفي هنا إنما هو خوف الضرر من آلهتهم ، وكان حصول الضرر لمخالفها بواسطة أتباعها أو غيرهم من سنن الله الجارية في عباده ، اقتصر الخليل عليه السلام على صفة الربوبية المقتضية للرأفة والرحمة والكفاية والحماية ، وقد وقع في قصته الأمران : إمكانهم من أسباب(2/662)
صفحة رقم 663
ضرره بإيقاد النار وإلقائهم له فيها ، ورحمته بجعلها عليه برداً وسلاماً ؛ ولما كان المحذور في قصة شعيب عليه السلام العود في ملتهم ، زاد الإتيان بالاسم الأعظم الجامع لجميع الكمالات المنزه عن جميع النقائص المقتضي لاستحضار الجلال والعظمة والتفرد والكبر المانع من دنو ساحات الكفر - والله الموفق .
ولما بدأ كالشمس بما أقام من الدليل أنه أحق بالأمن منهم ، قال مسبباً عما مضى تقريراً لهم : ( فأيّ الفريقين ) أي حزب الله وحزب ما أشركتم به ، ولم يقل : فأيّنا ، تعميماً للمعنى ) أحق بالأمن ( وألزمهم بالجواب حتماً بقوله : ( إن كنتم تعلمون ) أي إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه ؛ ثم وصل بذلك دلالة على أنه لا علم لهم أصلاً ليخبروا عما سئلوا عنه قولَه مستأنفاً : ( الذين آمنوا ) أي أوجدوا هذا الفعل ) ولم ) أي وصدقوا دعواهم بأنهم لم ) يلبسوا إيمانهم ) أي يخالطوه ويشوبوه ) بظلم ( .
ولما كان المعنى : أحق بالأمن ، عدل عنه إلى قوله مشيراً إليهم بأداة البعد تنبيهاً على علو رتبتهم : ( أولئك لهم ) أي خاصة ) الأمن ) أي لما تقدم من وصفهم ) وهم مهتدون ) أي وأنتم ضالون ، فأنتم هالكون لإشرافكم على المهالك ( وتفسيرُ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لهذا الظلم المطلق في قوله تعالى ) بظلم ( بالشرك ) الذي هو ظلم موصوف بالعظم في قوله تعالى ) ) إن الشرك لظلم عظيم ( ) [ لقمان : 13 ] تنبيه للصحابة رضوان الله عليهم على أن هذا التنوين للتعظيم ، ولأنهم أهل اللسان المطبوعون فيه صفوا بذلك واطمأنوا إليه ، ولا شك أن السياق كله في التنفير عن الشرك ، وأنه دال على الحث على التبريء عن قليل الشرك وكثيره ، فآل الأمر إلى أن المراد : ولم يلبسوا إيمانهم بشيء من الشرك ، فالتنوين حينئذٍ للتحقير كما هو للتعظيم ، فهو من استعمال الشيء في حقيقته ومجازه أو في معنيه المشترك فيهما لفظه معاً - والله أعلم .
الأنعام : ( 83 - 86 ) وتلك حجتنا آتيناها. .. . .
) وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن(2/663)
صفحة رقم 664
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان إبراهيم عليه السلام قد انتصب لإظهار حجة الله في التوحيد والذب عنها ، وكان التقدير تنبيهاً للسامع على حسن ما مضى ندباً لتدبره : هذه مقاولة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه ، عطف عليه قوله معدداً وجوه نعمه عليه وإحسانه إليه ، دالاً على إثبات النبوة بعد إثبات الوحدانية : ( وتلك ) أي وهذه الحجة العظيمة الشأن التي تلوناها عليكم ، وهي ما حاج إبراهيم عليه السلام به قومه ، وعظمه بتعظيمها فقال : ( حجتنا ) أي التي يحق لها بما فيها من الدلالة أن تضاف إلينا ، لأنها من أشرف النعم وأجل العطايا ) آتيناها ) أي بما لنا من العظمة ) إبراهيم ( وأوقفناه على حقيقتها وبصرناه بها ، ونبه على ارتفاع شأنها بأداة الاستعلاء مضمناً لآتينا وأقمنا ، فقال : ( على قومه ) أي مستعلياً عليهم غالباً لهم قائمة عليهم الحجة التي نصبها ، ثم زاد في الإعلام بفضله بقوله مستأنفاً : ( نرفع ) أي بعظمتنا ) درجات من نشاء ( بما لنا من القدرة على ذلك كما رفعنا درجة إبراهيم عليه السلام على جميع أهل ذلك العصر .
ولما كانت محاجته لهم على قانون الحكمة بالعالم العلوي الذي نسبوا الخلق والتدبير بالنور والظلمة إليه ، وكان في ختام محاجته لهم أن الجاري على قانون الحكمة أن الملك الحق لا يهين جنده فلا خوف عليهم ، وكان قبل ذلك في الاستدلال على البعث الذي هو محط الحكمة ؛ كان الأنسب أن يقدم في ختم الآية وصف الحكمة فقال : ( إن ربك ) أي خاصاً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالمخاطبة باسم الإحسان تنبيهاً على أن حَجبَه الدليل عمن يشاء لِحِكَم أرادها سبحانه ، ففيه تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) ) حكيم ) أي فلا يفعل بحزبه إلاّ ما ظنه به خليله ( صلى الله عليه وسلم ) مما يقر أعينهم ، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما ) عليم ( فلا يلتبس عليه أحد من غيرهم ، فيفعل به ما يحل بالحكمة .
ولما أشار إلى رفعته بأنه بصّره بالحجة حتى كان على بصيرة من أمره ، وأنه علا على المخالفين برفع الدرجات ، أتبع ذلك ما دل عليها وعلى حكمته بعلمه بالعواقب ، فقال معلماً بأنه جعله عزيزاً في الدنيا لأن أشرف الناس الأنبياء والرسل ، وهم من نسله وذريته ، ورفع ذكره أبداً لأجل قيامه بالذب عن توحيده : ( ووهبنا له ) أي لخليلنا عليه السلام بما لنا من العظمة ) إسحاق ( ولداً له على الكبر حيث لا يولد لمثله ولا لمثل زوجته ) ويعقوب ) أي ولد ولد ، وابتدأ سبحانه بهما لأن السياق للامتنان على الخليل عليه السلام ، وهو أشد سروراً بابنه الذي متع به ولم يؤمر بفراقه وابن ابنه الذي أكثر(2/664)
صفحة رقم 665
الأنبياء الداعين إلى الله من نسله ومن خواصه ، وهو الموجب الأعظم للبداءة أن أبناءه طهروا الأرض المقدسة التي هي مهاجر إبراهيم عليه السلام ومختاره للسكنى بنفسه ونسله ، بل مختار الله له ولهم بعده بمدد طهورها من الشرك وعبادة الأوثان ، ودعوا إلى الله ونوروا الأرض بعبادته .
ولما كانت النعمة لا تم إلاّ بالهداية ، قال مستانفاً مقدماً للمفعول ليشمل الكلام إياهما : ( كلاًّ ) أي منهما ومن أبيهما ) هدينا ( ثم أتبع ذلك المهتدين قديماً وحديثاً تأكيداً لأن هذا المذهب لم يزل خلص العباد دعاة إليه في قديم الزمان وجديده ، فكأنه يقول : إن كنتم تلزمون دينكم لأنه عندكم حق ، فقد تبين لكم بطلانه ، وأن الحق إنما هو التوحيد ، وإن كنتم تلزمونه لِقِدَمِه فهذا الدين - الذي - دعاكم إليه رسولي مع وضوح الدلالة على حقيته - هو القديم الذي دعاكم إليه نوح ومن تلاه من خلص ذريته إلى إبراهيم أبيكم الأعظم ومن بعده من خلص ذريته إلى عيسى ، ثم إلى هذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم وبشارة عيسى - على الكل أبلغ الصلاة وأتم التسليم ، فهو أحق بالاتباع من جهة الحقية والأقدمية ، وإن كنتم تلزمونه لمجرد اتباع الآباء فليس في أبائكم مثل إبراهيم عليه السلام ، وقد تلوت عليكم في كلامي الذي أقمت الدليل القطعي بعجزكم عنه على صحة نسبته إلى ما حاج به أباه وقومه في إبطال الأوثان التي أضلتكم ، فهو أولى ىبائكم أن تعتدوا به - والله الموفق .
ولما كان ربما وقع في وهم أن هداية كل من إسحاق وابنه بتربية أبيه ، ذكر العاشر من آباء الخليل وهو نوح عليهما السلام لدفع ذلك ، ولأن السياق لإنكار الأوثان ، وهو أول من نهى عن عبادتها ، وهو أجلّ آباء الخليل عليه السلام فقال : ( ونوحاً هدينا ) أي بما لنا من العظمة من بين ذلك الجيل الأعوج .
ولما كانت لم تتجاوز منه ، وكان زمنه بعض الزمن المتقدم ، أثبت الجار وقطعه عن الإضافة لتراخي زمانهم كثيراً عن زمانه فقال : ( من قبل ) أي ولم تكن هدايته إلاّ بنا في زمان كان أهله من شدة الضلال ولزوم الظلم في مثل استقبال الليل ، كلما امتد احلولك ظلامه واشتد ، وطالما دعاهم إلى الله وربّاهم فلم يرجع منهم كثيراً أحد حتى لقد خالفه زوجه وبعض ولده ، ولمثل ذلك فصل بين إسماعيل وأبيه ويوسف وأبيه عليهم السلام إشارة غلى فراق كل منهما لأبيه في الحياة ، وأنه ما حفظ كلاًّ منهما على سنن الهدى طول المدى إلاّ الله ؛ ثم ابتدأ المذكورين بعدُ بمن بنى على يده ويد ابنه مسجداً هو بعد المسجد الي بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام فقال : ( ومن ذريته ( .(2/665)
صفحة رقم 666
ولما كان السياق كله لمدح الخليل ، وكان المذكورون - إلا لوطاً - من نسله ، وكان التغليب مستعملاً شائعاً في لسان العرب ، لا سيما ولوط ابن أخيه ومثل ولده ؛ حكم بأن الضمير لإبراهيم عليه السلام ، وقولُ من قال : إن يونس عليه السلام ليس من نسله ، غير صحيح ، بل هو من بني إسرائيل ، وهو أحد من ذكر في سفر الأنبياء ، وسيأتي خبره من السفر المذكور في سورة ) والصافات ( إن شاء الله تعالى ، وقد صرح أبو الحسن محمد بن عبد الله الكسائي في قصص الأنبياء أنه من ذرية إبراهيم ، واقتضى كلامه أنه من بني إسرائيل ، كما اقتضى ذلك كلام البغوي في سورة الأنبياء عليهم السلام ، وأما أيوب فروى ؛ من نسل عيص بن إسحاق عليهم السلام ) داود ) أي هديناه ) وسليمان ) أي اللذين بنيا بيت المقدس بأمر الله : داود بخطه وتأسيسه ، وسليمان بإكماله وتشييده .
وما كان مع ذلك ملكين ، تلاهما بمن شابههما في الملك أو الحكم على الملوك فقال : ( وأيوب ( وقدمه لمناسبة ما بينه وبين سليمان في أن كلاًّ منهما ابتلى بأخذ كل ما في يده ثم ردّ الله إليه ) ويوسف ( وكل من هؤلاء الأربعة ابتلى فصبر ، واغتنى فشكر ، وأيوب إن لم يكن ملكاً فقد كانت ثروته غير مقصرة عن ثروة الملوك ، على أن بعض الطلبة أخبرني عن تفسير الهكاري - فيما أظن - أنه صرح بأنه ملك ، وأيضاً فالاثنان الأولان كانا سبب إصلاح بني إسرائيل بعد الفساد واستنقاذهم من ذل الفلسطين ، والاثنان الباقيان كل منهما ابتلى بفراق أهله ثم ردوا عليه : أيوب بعد أن ماتوا ، ويوسف قبل الموت ، وأيضاً فداود عليه السلام شارك إبراهيم عليه السلام في أنه كان سبب سلامته من ملك زمانه الاختفاءُ في غار ، وذلك أن نمرود بن الكنعان كان ادعى الإلهية وأطمع فيها ، وقال له منجموه : يولد في بلدك هذا العام غلام يغير دين أهل الأرض ، ويكون هلاكك على يده ، فأمر بذبح كل غلام في ناحيته في تلك السنة ، وأمر بعزل الرجال عن النساء ، وحملت أم إبراهيم عليه السلام به في تلك السنة ، فلما وجدت الطلق خرجت ليلاً إلى غار قريب منها فولدت فيه إبراهيم وأصلحت من شأنه ، ثم سدت فم الغار ورجعت ، ثم كانت تطالعه فتجده يمتص إبهامه ، وكان يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة ؛ وأما داود عليه السلام فإنه لما قتل جالوت وزوَّجَه طالوتُ ابنته ، وناصفه ملكه - على ما كان شرط لمن قتل جالوت - مال إليه الناس وأحبوه ، فحسده فاراد قتله ، فطلبه فهرب منه ، فدخل غاراً فنسجت عليه العنكبوت ، فقال طالوت : لو دخل هنا لخرق بناء العنكبوت ، فأنجاه الله منه ؛ وتلاه بسليمان لأنه مع كونه من أهل الملك والبلاء شارك إبراهيم عليهما السلام في إبطال عبادة الشمس في قصة(2/666)
صفحة رقم 667
بلقيس رضي الله عنها ؛ وقصة يوسف عليه السلام في إبطال عبادة الأوثان شهيرة في قوله تعالى
77 ( ) يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ( ) 7
[ يوسف : 39 ] .
ولما كان يوسف عليه السلام ممن أعلى الله كلمته على كلمة ملك مصر وأعز ملكها وأهلها وأحياهم به ، أتبعه من أعلى الله كلمتهما على كلمة ملك مصر وأهلها وأهلكهم بهما ، فكأن بعض قصصهم وفاق ، وبعضها تقابل وطباق ، فقال : ( وموسى وهارون ( ولما كان التقدير : هديناهم جزاء لإحسانهم باهتدائهم في أنفسهم ودعائهم لغيرهم إلى الهدى ، لم يشغل أحداً منهم منحةُ السراء ولا محنة الضراء ، عطف عليه قوله : ( وكذلك ) أي ومثل ما جزيناهم ) نجزي المحسنين ) أي كلهم ، ففي ذلك إشارة إلى علو مقامهم من هذه الجهة ، وهي أنهم من أهل السراء المطفئة والضراء المسنية ، ومع ذلك فقد أحسنوا ولم يفتروا ولم ينوا .
ولما كان المذكوران قبله ممن سلطهما على الملوك ، أتبعهما من سلط الملوك عليهما ، وأدام الله سبحانه حياتهما إلى أن يريد سبحانه فقال : ( وعيسى وإلياس ( ولما كان هؤلاء الأربعة من الصابرين ، قال مادحاً لهم على وجه يعم من قبلهم : ( كل ) أي من المذكورين ) من الصالحين ( ثم أتبعهم من لم يكن بينهما وبين الملوك أمر ، وهدى بهما من كان بين ظهرانيه فقال : ( وإسماعيل واليسع ( هذا إن كان اليسع هو ابن أخطوب ابن العجوز خليفة إلياس ، كما ذكر البغوي في سورة الصافات أن الله تعالى أرسل غلى إلياس - وهو من سبط لاوي من نسل هارون عليه السلام - فرساً من نار فركبه فرفعه الله وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وكساه الريش ، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً ، وسلط الله على آجب - يعني الملك الذي سلط على إلياس - عدواً فقتله ونَبأ الله اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل ، وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وإن كان اليسع هو يوشع بن نون - كما قال زيد بن أسلم - فالمناسبة بينه وبين إسماعيل عليهما السلام أن كلاًّ منهما كان صادق الوعد ، لأن يوشع أحد النقيبين اللذين وفيا لموسى عليه السلام حين بعثهم يجسون بلاد بيت المقدس كما أشير إليه في قوله تعالى
77 ( ) ولقد أخذ الله ميثاق بني إسراءيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً ( ) 7
[ المائدة : 12 ] وقوله
77 ( ) وقال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ( ) 7
[ المائدة : 23 ] وأيضاً فكل منهما كان سبب عمارة بلد الله الأعظم بالتوحيد ، فإسماعيل سبب عمارة مكة المشرفة ، ويوشع سبب عمارة البلدة المقدسة - كما سيأتي في سورة يونس إن شاء الله تعالى .
ولما كان إسماعيل واليسع ممن هدى الله بهما قومهما من غير عذاب ، أتبعهما مَن هدى الله قومه بالعذاب وأنجاهم بعد إتيان مخايله فقال : ( ويونس ) أي هديناه ؛ ولما(2/667)
صفحة رقم 668
انقضت ذرية إبراهيم عليه السلام ، ختم بابن أخيه الذي ضل قومه فهلكوا بغتة ، فبين قصتي هذين الآخرين طباق من جهة الهلاك والنجاة ، ووفاق من حيث إن كلاًّ منهما أرسل إلى غير قومه فقال : ( ولوطاً ( ثم وصفهم بما يعم من قبلهم فقال : ( وكلاًّ ) أي ممن ذكرنا ) فضلنا ) أي بما لنا من العظمة بتمام العلم وشمول القدرة ) على العالمين ( فكل هؤلاء الأنبياء ممن هداه الله بهداه وجاهد في الله حق جهاده ، وبدأهم تعالى بإبراهيم عليه السلام وختمهم بابن أخيه لوط عليه السلام على هذه المناسبة الحسنة ؛ وقيل : إن الله تعالى أهلك قوم إبراهيم - نمرود وجنوده - بعد هجرته ، فإن صح ذلك تمت المناسبة في هلاك كل من قومه وقوم ابن أخيه لوط بعد خروج نبيهم عنهم ، فيكون بينهما وفاق كما كان بين قصته وقصة يونس عليه السلام طباق .
ومن لطائف ترتيبهم هكذا أيضاً أن إسماعيل عليه السلام يوازي نوحاً عليه السلام ، فإنه رابع في العدّ لهذا العقد إذا عددته من آخره ، كما أن نوحاً عليه السلام رابعه إذا عددته من أوله ، والمناسبة بينهما أن نوحاً عليه السلام نشر الله منه الآدميين حتى كان منهم إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله أباً للأنبياء والمرسلين ، وإسماعيل عليه السلام نشر الله منه العرب الذين هم خلاصة الخلق حتى كان منهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين ، فهذا كان بداية وهذا كان نهاية ، وأن المذكورين قبل ذرية إبراهيم عليه السلام وبعدها - وهما نوح ولوط عليهما السلام - أهلك الله قوم كل منهما عامة ، وغيب هؤلاء في جامد الأرض كما أغرق أولئك في مانع الماء ، وأشقى بكل منهما زوجته ، بياناً لأن الرسل كما يكونون لناس رحمة يكونون على قوم نقمة ، وأنه لا نجاة بهم ولا انتفاع إلا بحسن الاتباع ، وأن ابن عمران اشترك مع إبراهيم عليهم السلام في أن كلاًّ من ملكي زمانهم أمر بقتل الغلمان خوفاً ممن يغير دينه ويسلبه ملكه ، وكما أن الله تعالى أنجى إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوطاً عليه السلام من ملك زمانهما المدعي للإلهية فكذلك أنجى موسى وأخاه هارون عليهما السلام من ملك زمانهما المدعي للآلهة ، وأنجى ذرية إبراهيم بهما ، فإذا جعلت إبراهيم وابن أخيه لوطاً - لكونه تابعاً له - واحداً ، وموسى وأخاه هارون واحداً لمثل ذلك ، ونظمت أسماء جميع هذه الأنبياء في سلك النقي : لوط مع إبراهيم كموسى مع هارون ، وكان الأربعة واسطة عقدة ، فبين إبراهيم وموسى حينئذ سبعة كما أن بين هارون ولوط سبعة ، وإذا ضممت إليهم المقصود بالذات المخاطب بهذه الآيات المأمور بقوله
77 ( ) فبهداهم اقتده ( ) 7
[ الأنعام : 90 ] كان منزله في السلك بين ابن عمه لوط وأبيه إبراهيم ، ويكون من بين يديه تسعة ، ومن خلفه تسعة ، فمن إبراهيم إلى موسى تسعة ، ومن لوط إلى هارون كذلك ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (2/668)
صفحة رقم 669
واسط العقد ومكمل العقد ، فإنه العاشر من كل جانب ، فبه تكمل الهدى وإيجاب الردى ، وذلك طبق قوله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه : مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين .
وللبخاري نحوه عن جابر ، هذا مع اقترانه بأقرب أولي العزم رتبة ونسباً صاحب القصة إبراهيم عليه السلام ، وإن جعلت موسى وهارون عليهما السلام كشيء واحد كانا واسطة من الجانب الآخر ، فإن عددت من جهة إبراهيم عليه السلام كان بينه وبينهما ثمانية ، وإن عددت من جهة لوط عليه السلام كان كذلك .
71 (
72 ( س 6
8
91
) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( ) ولما نص سبحانه على هؤلاء ، وختم بتفضيل كل على العالمين ، أتبعه على سبيل الإجمال أن غيرهم كان مهديا ، وأن فضل هؤلاء علة النص لهم على أسمائهم ، فقال ترغيبا في سلوك هذا السبيل بكثرة سالكيه وحثا على منافستهم في حسن الاستقامة عليه والسلوك فيه : ( ومن ) أي وهدينا أو وفضلنا من ) آبائهم ) أي أصولهم ) وذرياتهم ) أي من فروعهم عن الرجال والنساء ) وإخوانهم ) أي فروع أصولهم ، وعطف على العامل المقدر قوله ) واجتبيناهم ) أي واخترناهم ثو عطف عليه بيان ما هجوا إليه حثا لنا على شكره على ما زادنا من فضله فقال : ( وهديناهم ) أي بما تقدم من الهداية ) إلى صثراط مستقيم ( وأما الصراط المستقيم فخصصناكم به وأقمناكم عليه ، فاعرفوا نعمتنا عليكم واذكروا تفضيلنا لكم .(2/669)
صفحة رقم 670
ولما كان ربما أوهم تنكيره فيه ، قال مستأنفا بيانا لكماله وتعظيما لفضله وإفضاله ، ) ذلك ) أي الهدى العظيم الرتبة ) هدى الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ) يهدي ) أي يخلق الهداية ، ) به ) أي بواسطة الإقامة عليه ) من يساء من عباده ) أي سواء كان له أب يعمله أو كان له من يحمله على الضلال أولا ، ولما بين فضل الهدى ونص على رؤوس أهله ، تهدد من تركه كائنا من كان ، فقال مظهرا لعز الإلهية بالغنى المطلق منزها نفسه عما لوحظ فيه غيره ولو بأدنى لحظ ) ولو أشركوا ) أي هؤلاء الذين ذكرنا من مدحهم ما سمعت وبينا من اختصاصنا لهم ما علمت ، شيئا من شرك وقد أعاذهم الله من ذلك ، وأقام بهم معوج المسالك ، وأنار بهم ظلام الأرض بطولها العرض ) لحيط عنهم ) أي فسد وسقط ) ما كانوا يعملون ) أي وإن كان في غاية الإتقان بقوانين العلم ، وزاد في الترهيب من التواني في السير والزيغ عن سوء القصد بقوله : ( أولئك ) أي العالو الرتبة الذين قدمنا ذكرهم وأخبرنا أنهم لو أشركوتا سقطت أعمالهم ) الذين آتيناهم ) أي بعظمتنا ) الكتب ) أي الجامع لكل الخير ، فمن ملك ما فيه من العلوم والمعارف حكم على البواطن ، وذلك لأن الناس يحبونه فينقادون له ببواطنهم ) الحكم ) أي العمل المتقن بالعلم ، ومنه نفوذ الكلمة على الظواهر بالسلطنة وإن كرهت البواطن ) والنبوة ) أي العلم المزين بالحكم وهي وضع كل شيء في أحق مواضعه ، فهي جامعة للمرتبتين الماضيتيين ، فلذلك كان الأنبياء يحكمون على البواطن بما عندهم من العلم ، وعلى الظواهر بما يظهر من المعجزات ، ثم سبب عن تعظيمها بذلك تعظيمها بأنها لاتبور ، فقال تسلية عن المصيبة بطعن الطاعنين فيها وإعراض الجاهلين عنها وترجية عندما يوجب اليأس من نفرة أكثر المدعوين : ( فإن يكفر بها ) أي هذه الأشياء العظيمة ) هؤلاء ) أي أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم / وقد حبوناهم بها على أتم وجه وأكمله وأعلاه وأجمله ، وأنت تدعوهم إلى أن يكونوا سعداء بما اشتملت عليه من الهدى وةعن عنه معرضون ، ولعل الإشارة على هذا الوجه لتحقيرهم ) فقد وكلنا ) أي لما لنا من العظمة في الماضي والحال والاستقبال ) بها قوما ) أي ذوي قوة على القيام بالأمور بالإيمان بها والحفظ لحقوقها ) ليسوا ( وقد الجار اهتماما فقال ) بها بكافرين ) أي بسائرين الشيء مما ظهر من شموس أدلتها ، وهم الأنبياء ومن تبعهم ، وقد صدق الله ، ومن أصدق من الله حديثا فقد جاء في هذه الأمة من العلماء الأخبار والراسخين الأخبار من لا يحصيهم إلا الله .
ولما كان المراد يسوقهم هكذا والله أعلم أكلا منهم بادر بعد الهداية إلى الدعاء إلى الله والغيرة على جلاله من الإشراك ، لم يشغل أحدا منهم عن ذلك سراء ولا(2/670)
صفحة رقم 671
ضراء بملك ولا غيره من ملك أو غيره بل لا زموا الهدى الدعاء إليه على كل حال ، تقال مستأنفا لتكرار أمداحهم بما يحمل على التخلي بأوصافهم ، مؤكذا لإثبات الرسالة : ( أولئك ) أي العالو المراتب ) الذين هدى الله ) أي الملك الحائز لرتب الكمال ، الهدى الكامل ، ولذلك سبب عن مدحهم قوله : ( فبهداهم ) أي خاصة في واجبات الإرسال وغيرها ) اقتده ( وأشار بهاء السكت التي أمارة الوقوف ، وهي ثابته في جميع المصاحف إلى أن الاقتداء بهم كان غير محتاج إلى شيء ، ثم فسر الهدى بمعظم أسبابه فقال ) قل ) أي لمن تدعوهم كما كانوا يقولون مما ينفى التهمة ويمحص النصيحة فيوجب الاتباع إلا من شقي ) لا اسئلكم ( أ بأيها المدعون ) عليه ) أي على الدعاء ) أجرا ( فإن الدواعي تتوفر بسبب ذلك على الإقبال إلى الداعي والاستجابة للمرشد ، ثم استأنف قوله ) إن ) أي ما ) هو ) أي هذا الدعاء الذي أدعوكم به ) إلا ذكرى ) أي تذكير بليغ من كل ما يحتاج إليهع في المعاش والمعاد ) للعاملين ) أي الجن والإنس والملائكة دائما ، لا ينقضي دعاؤه ولا ينقطع نداؤه ، وفي التعبير بالاقتداء إيماء إلى تبكيت كفار العرب حيث اقتدوا بمن لا يصلح للقدوة من آبائهم ، وتركوا من يجب الاقتداء به. ولما حصر الدعاء في الذكرى ، وكان ذلك نفعا لهم ورفقا بهم ، لا تزيد طاعتهم في ملك الله شيئا ولا ينقض إعراضهم من عظمته شيئا ، لأن كل ذلك بإرادته ، بنى حالهم منهم ، فقال تأكيدا لأمر الرسالة بالإنكار على من جحدها وإلزاما لهم بما هم معترفون به ، أما أهل الكتاب فعلما قطعيا ، وأما العرب فتقليدا لهم خاصة والحال أنهم ما ) قدروا ) أي عظموا ) الله ) أي المستجمع لصفات الكال ) حق قدره ) أي تعظيمه في جحدهم لذكراهم وصدهم عن بشراهم ومقابلتهم للشكر عليه بالكفر له ، قال الواحدي : يقال قدر الشيء إذا سبره وحزره وأراد أن يعلم مقداره ، يقدره - بالضم - قدرا ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : فإن غم عليكم فاقدروا له ، أي فاظلبوا أن تعرفوه - هذا أصله في اللغةى ، ثم قيل لمن عرف شيئا : هو يقدر قدره ، وإذا لم يعرفه بصفاته : إنه لا يقدر قدره ) إذ ) أي حين ) قالوا ) أي اليهود ، والآية مدنية وفريش تسألهم عنه ( صلى الله عليه وسلم ) في أمر رسالته واحتجاجه عليهم بإرسال موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه ) ما أنزل الله ) أي ناسين ما له من صفات الكمال ) على بشر من شيء ( لأن من نسب ملكا نام الملك إلى أنه لم يثبت أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه وما يسخط ليجتنبوه ، فقد نسبوه إلى نقص عظيم فكيف إذا كانت تلك النسبة كذبا وهذا وإن كان ما قاله إلا بعض العالمين بل بعض أهل الكتاب(2/671)
صفحة رقم 672
الذين هم بعض العالمين ، أسند إلى الكل ، لأنهم لم يردوا على قائله ولم يعالجوه بالأخذ تفظيعا للشأن وتهويلا للأمر ، وبيانا لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها وبتعرف أمرها ، فإذا تحققه فمن طعن فيها أخذ على يده بما يصل إليه قدرته ، كما أنه كذلك كان يفعل لو كان ذلك ناشئا عن أبيه أو أحد ممن يكون فخره به من أبناء الدنيا ، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عماد الأمور كلها ، من فرط فيه هلك وأهلك ، روى الواحدي في أسباب النزول بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي أن اليهود قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله تعالى - يعني هذه الآية ، فقال مشيرا إلى ا ، اليهوجد قائلو ذلك ، وملزما بالاعتراف بالكذب أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب ، موبخا لهم ناعيا عليهم سوء جهلهم وعظيم بهتهم وشدة وقاحتهم وعدم حيائهم : ( قل ) أي لهؤلاء السفهاء الذين تجرؤوا على هذه المقالة غير ناظرين في عاقبتها وما يلزم منها توبيخا لهم وتوقيفا على موضع جهلهم ) من أنزل الكتاب ) أي الجامع للأحكام والمواعظ وخيري الدنيا والآخرة ) الذي جاء به موسى ) أي الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه ، حال كون الكتاب ) نورا ) أي ذا نور يمكن الأخذ به من وضع الشيء في حاق موضعه ) وهدى للناس ) أي ذا هدى لهم ملهم ، أمات في ذلم الزمان فبالتقيد به ن وأما عند إنزال الإنجيل فبالأخذ بما أرشد إليه من أتباعه ، وكذا عند
إنزال القرآن ، فقد أخفوا منه ماهو نص وصريح في الدعاء إلى غيره اتباعا منهم للهوى ولزوما للعمى فقال : ( تجعلون ) أي أيها اليهو ) قراطيس ) أي أوراقا مفرقة لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم ) لآ تبدونها ) أي نظهرونها للناس ) وتخفون كثيرا ) أي منها ما تريدون به تبد
يل الدين هذا على قراءة الجماعة بالفوقانية ، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيبة هو التفات مؤذن بشدة الغضب مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحيى من ذكره فكيف بفعله ثم التفت إليهم للزيادة في تبكيتهم إعلاما بأنهم متساوون لبقية الإتسان في أصل الفطرلاة ، بل العرب أزكى منهم وأصح أفهاما ، فلولا ما أتاهم به موسى عليه السلام ما فاقوهم بفهم ، ولا زادوا عليهم في علم فقال : ( وعلمتم ) أي أيها ليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى ) ما لم تعلموا أنتم ) أي أيها ليهود من أهل هذا الزمان ) ولا آباؤكم ) أي الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم .(2/672)
صفحة رقم 673
ولما كانوا قد وصلوا في هذه المقالة إلى حد من الجهل عظيم ، قال مشيرا إلى عتادهم : ( قل ) أي أنمت في الجواب عن هذا السؤال غير منتظر لجوابهم فإنهم أجلف الناس وأعتاهم ) الله ) أي الذي أنزل ذلك الكتاب ) ثم ( بعد أن تقول ذلك لا تسمع لهم شيئا بل ) ذرهم في خوضهم ) أي قولهم وفعلهم المثبتين على الجهل المبنييين أنهم في ظلام الضلال كالخائض في الماء يعملونت ما لا يعلمون ) يلعبون ) أي يفعلون فعل اللاعب ، وهعو ما لا يجر لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرلاا مع تضييع الزمان
الأنعام : ( 92 - 93 ) وهذا كتاب أنزلناه. .. . .
) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( ( )
ولما أثبت سبحانه أنه الذي أنزل التوراة والإنجيل تكميلاً لإثبات الرسالة بدليل علم اليهود دون من لا كتاب لهم ، عطف على ذلك قوله تأكيداً لإثباتها وتقريراً : ( وهذا ) أي القرآن الذي هو حاضر الآن في جميع الأذهان ) كتاب ) أي جامع لخيري الدارين ، وكان السياق لأن يقال : أنزل الله ، ولكنه أتى بنون العظمة ، لأنها أدل على تعظيمه فقال : ( أنزلناه ) أي وليس من عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من نفسه ، وإنما هو بإنزالنا إياه إليه وإرسالنا له به ) مبارك ) أي كثير الخير ثابت الأمر ، لا يقدر أحد من الخلق على إنكاره لإعجازه ، لتعلم أهل الكتاب خصوصاً حقيقته بتصديقه لكتابهم لأنه ) مصدق الذي بين يديه ) أي كله من كتبهم وغيرها ، فيكون أجدر لإيمانهم به ، وتعلم جميع أهل الأرض عموماً ذلك بذلك وبإعجازه ) ولتنذر ) أي به ) أم القرى ) أي مكة لأنها أعظم المدن بما لها من الفضائل ) ومن حولها ( ممن لا يؤمن بالآخرة فهو لا يؤمن به من أهل الأرض كلها من جميع البلدان والقرى ، لأنها أم الكل ، وهم في ضلالتهم مفرطون ) والذين يؤمنون بالآخرة ) أي فيهم قابلية الإيمان بها على ما هي عليه ، من أهل أم القرى ومن حولها بكل خير ينشرون ) يؤمنون به ) أي بالكتاب بالفعل لأن الإيمان بها داع إلى كل خير بالخوف والرجاء ، والكفر بها حامل على كل بشر .
ولما تكرر وصف المنافقين بالتكاسل عن الصلاة جعل المحافظة عليها علماً على الإيمان فقال : ( وهم على صلاتهم يحافظون ) أي يحفظونها غاية الحفظ ، فالآية من عجيب فن الاحتباك : ذكر الإندار والأم أولاً دالاً على حذفهما ثانياً ، وإثبات الإيمان والصلاة ثانياً دليل على نفيهما أولاً .(2/673)
صفحة رقم 674
ولما كان في قولهم ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) صريح الكذب وتضمن تكذيبه - وحاشاه ( صلى الله عليه وسلم ) أما من اليهود فبالفعل ، وأما من قريش فبالرضى ، وكان بعض الكفرة قد ادعى الإيحاء إلى نفسه إرادة للطعن في القرآن ؛ قال تعالى مهولاً لأمر الكذب لا سيما عليه لا سيما في أمر الوحي ، عاطفاً على مقول طقل من أنزل ( مبطلاً للتنبؤ بعد تصحيح أمر الرسالة وإثباتها إثباتاً لا مرية فيه ، فكانت براهين إثباتها أدلة على إبطال التنبؤ وكذب مدعيه : ( ومن أظلم ممن افترى ) أي بالفعل كاليهود والرضى كقريش ) على الله كذباً ) أي أيّ كذب كان ، فضلاً عن إنكار الإنزال على البشر ) أو قال أوحي إليّ ولم ) أي والحال أنه لم ) يوح إليه شيء ( فهذا تهديد على سبيل الإجمال كعادة القرآن المجيد ، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك كمسيلمة والأسود العنسي وغيرهما ، ثم رأيت في كتاب غاية المقصود في الرد عل النصارى واليهود للسموأل بن يحيى المغربي الذي كان من أجل علمائهم في حدود سنة ستين وخمسمائة ، ثم هداه الله للإسلام ، وكانت له يد طولى في الحساب والهندسة والطب وغير ذلك من العلوم ، فأظهر بعد إسلامه فضائحَهم أن الربانيين منهم زعموا أن الله كان يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات ، ثم قال بعد أن قسمهم إلى قرّائين وربانيين : إن الربانيين أكثرهم عدداً ، وقال : وهم الذين يزعمون أن الله كان يخاطبهم في كل مسالة بالصواب ، قال : وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم ) ومن قال سأنزل ) أي بوعد لا خلف فيه ) مثل ما أنزل الله ( كالنضر بن الحارث ونحوه ولما كان الجواب قطعاُ في كل منصف : لا أحد أظلم منه ، بل هم أظلم الظالمين ، كان كأنه قيل : فلو رايتهم وقد حاق بهم جزاء هذا الظلم كرد وجوههم مسودة وهم يسحبون في السلاسل على وجوههم ، وجهنم تكاد تتميز عليهم غيظاً ، وهم قد هدّهم الندم ولحسرة ، وقطع بهم الأسف والحيرة لرأيت أمراً يهول منظره ، فكيف يكون مذاقه ومخبره فعطف عليه ما هو أقرب منه ، فقال كالمفصل لإجمال ذلك التهديد مبرزاً بدل ضميرهم الوصف الذي أداهم إلى ذلك : ( ولو ترى ) أي يكون منك رؤية فيما هو دون ذلك ) إذ الظالمون ) أي لأجل مطلق الظلم فكيف بما ذكر منه واللام للجنس الداخل فيه هؤلاء دخولاً أولياً ) في غمرات الموت ) أي شدائده التي قد غمرتهم كما يغمر البحر الخضم من يغرق فيه ، فهو يرفعه ويخفضه ويبتلعه ويلفظه ، لا بد له منه ) والملائكة ) أي الذين طلبوا جهلاً منهم إنزال بعضهم على وجه الظهور لهم ، وأخبرناهم أنهم لا ينزلون إلا لفصل الأمور وإنجاز المقدور ) باسطوا أيديهم ) أي إليهم بالمكروه لنزع أرواحهم وسلّها وافية من أشباحهم كما يسل السفود المشعب من الحديد(2/674)
صفحة رقم 675
من الصوف المشتبك المبلول ، لا يعسر عليهم تمييزها من الجسد ، ولا يخفى عليهم شيء منها في شيء منه ، قائلين ترويعاً لهم وتصويراً للعنف والشدة في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط الملازم ) أخرجوا أنفسكم ( فكأنهم قالوا : لماذا يا رسل ربنا ؟ فقالوا : ( اليوم ) أي هذه الساعة ، وكأنهم عبروا به لتصوير طول العذاب ) تجزون عذاب الهون ) أي العذاب الجامع بين الإيلام العظيم والهوان الشديد ولخزي المديد بالنزع وسكرات الموت وما بعده في البرزخ - إلى ما لا نهاية له ) بما كنتم تقولون ) أي تجددون القول دائماً ) على الله ) أي الذي له جميع العظمة ) غير الحق ) أي غير القول المتمكن غاية التمكن في درجات الثبات ، ولو قال بدله : باطلاً ، لم يؤد هذا المعنى ، ولو قال : الباطل ، لقصر عن المعنى أكثر ، وقد مضى في المائدة ما ينفع هنا ، وإذا نظرت إلى أن السياق لأصول الدين ازداد المراد وضوحاً ) وكنتم ) أي وبما كنتم ) عن آياته تستكبرون ) أي تطلبون الكبر للمجاوزة عنها ، ومن استكبر عن آية واحدة كان مستكبراً عن الكل ، أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً فظيعاً وحالاً هائلاً شنيعاً ، وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم .
الأنعام : ( 94 - 96 ) ولقد جئتمونا فرادى. .. . .
) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ( )
ولما كانوا ينكرون أن يحس الميت شيئاً بعد الموت أو يفهم كلاماً ، وكان التقدير كما دل عليه السياق : فتتوفاهم الملائكة ، لا يقدر أحد على منعهم ، فيقول لهم : قد رأيتم ملائكتنا الذين أخبرناكم أول السورة أنهم إذا أبصروا كان القضاء الفصل والأمر البت الحتم الذي ليس فيه مهل ، عطف عليه قوله مشيراً إلى ما كان سبب استكبارهم من الاجتماع على الضلال والتقوى بالأموال : ( ولقد جئتمونا ) أي ملا لنا من العظمة بالموت الذي هو دال على شمول علمنا وتمام قدرتنا قطعاً ، ودل على تمام العظمة وأن المراد مجيئهم بالموت قوله : ( فرادى ) أي متفرقين ، ليس أحد منكم مع أحد ، ومنفردين على كل شيء صدكم عن اتباع رسلنا ) كما خلقناكم ) أي بتلك العَظمة التي أمتناكم بها بعينها ) أول مرة ( في الانفراد والضعف والفقر ، فأين جمعكم الذي كنتم به تستكبرون ) وتركتم ما خولناكم ) أي ملكناكم من المال ومكناكم من إصلاحه نعمة(2/675)
صفحة رقم 676
عليكم لتتوصلوا به إلى رضانا ، فظننتم أنه لكم بالأصالة ، وأعرضتم عنا وبدلتم ما دل عليه من عظمتنا بضد ذلك من الاستهانة بأوامرنا ) وراء ظهوركم ( فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكبرون .
ولما كانوا يعدون الأصنام آلهة ، ويرجون شفاعتها ، إما استهزاء ، وإما في الدنيا ، وإما في الآخرة - على تقدير التسليم لصحة البعث ، قال تهكماً بهم واستهزاء بشأنهم : ( وما نرى معكم شفعاءكم ) أي التي كنتم تقولون فيها ما تقولون ) الذين زعمتم ) أي كذباً وجراءة وفجوراً ) أنهم فيكم شركاء ) أي أن لهم فيكم نصيباً مع الله حتى كنتم تعبدونهم في وقت الرخاء وتدعونه في وقت الشدة ، أروناهم لعلهم سترهم عنا ساتر أو حجبنا عنهم حاجب ؛ ثم دل على بهتهم في جواب هذا الكلام الهائل المرعب حيرة وعجزاً ودهشاً وذلاً بقوله : ( لقد تقطع ) أي تقطعاً كثيراً .
ولما كان ذكر البين في شيء يدل على قربه في الجملة وحضوره ولو في الذهن ، لأنه يقال : بيني وبين كذا كذا ، وكان فلان بيننا ، ونحو ذلك مما يدل على الحضور ؛ قال منبهاً على زوال ذلك حتى بالمرور بالبال والخطور في الذهن لشدة الاشتغال ) بينكم ( فأسند القطع المبالغ فيه إلى البين ، وإذا انقطع البين تقطّع ما كان فيه من الأسباب التي كانت تسبب الاتصال ، فلم يبق لأحد منهم اتصال بالآخر ، لأن ما بينهما صار كالخندق بانقطاع نفس البين ، فلا يتأتى معه الوصول ، ها على قراءة الجماعة بالرفع ، وهذا المثال معنى قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على الظرفية ؛ ولما رجع المعنى إلى تقطع الوصل ، بين سبب ذلك ، وهو زوال المستند الذي كانوا يستندون إليه فقال : ( وضل عنكم ) أي ذهب وبطل ) ما كنتم تزعمون ) أي من تلك الأباطيل كلها .
ولما ثبتت الوحدانية والنبوة والرسالة وتقاريع من تقاريعها ، وانتهى الكلام هنا إلى ما تجلى به مقام العظمة ، وانكشف له قناع الحكمة وتمثل نفوذ الكلمة ، فتهيأ السامع لتأمله ، وتفرع فهمه لتدبره ؛ قال دالاً عليه مشيراً غليه ، معلماً أن ما مضى أنتجه وأظهره لا بد وأبرزه ، مذكراً بآياته ) والذين يؤمنون بالآخرة ( وبمحاجة إبراهيم عليه السلام ، مصرفاً ما مضى أول السورة من دلائل الوحدانية على أوجه أخرى ، إعلاماً بأن دلائل الجلال تفوق عدد الرمال ، وتنبيهاً على أن القصد بالذات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته : ( إن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ، فهو قادر على كل ما يريد ) فالق الحب ) أي فاطره وشاقه عن الزروع والنبات ، وعبر بذلك لأن الشيء قبل وجوده كان معدوماً ، والعقل يتوهم ويتخيل من العدم ظلمة متصلة ، فإذا خرج من العدم المحض والفناء الصرف فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك لعدم(2/676)
صفحة رقم 677
) والنوى ) أي وهو ما يكون داخل الثمار المأكولة كالتمر ، ولا يكون مقصوداً لذاته بفلقها عن الأشجار ، وفي ذلك حكم وأسرار تدق عن الأفكار ، وتدل على كمال الواحد المختار ؛ قال الإمام الرازي ما حاصله : إن النواة والحبة تكون في الأرض الرطبة مدة ، فيظهر الله فيها شقاً في أعلاها وآخر في أسفلها ، وتخرج الشجرة من الأعلى فتعلو وتهبط من الأسفل شجرة أخرى في أعماق الأرض ، هي العروق ، وتلك الحبة أو النواة سبب واصل بين الشجرتين : الصاعدة والهابطة ، فيشهد الحس والعقل بأن طبع الصاعدة والهابطة متعاكس ، وليس ذلك قطعاً بمقتضى الطبع والخاصية ، بل بالإيجاد والاختراع والتكوين والإبداع ، ولا شك أن العروق الهابطة في غاية اللطافة والرقة بحيث لو دلكت باليد بأدنى قوة صارت كالماء ، وهي مع ذلك تقوى على النفوذ في الأرض الصلبة التي لا ينفذ فيها المسلّة والسكين الحادة إلا بإكراه عظيم ، فحصول هذا النفوذ لهذه الأجرام اللطيفة لا يكون قطعاً غلا لقوة الفاعل المختار ، لا سيما إذا تأملت ظهور شجرة من نواة صغيرة ، ثم تجمع الشجرة طبائع مختلفة في قشرها ثم فيما تحته من جرم الخشبة ، وفي وسط تدوير الخشبة جرم ضعيف كالعهن المنفوش ، ثم يتولد من ساقها أغصانها ، ومن الأغصان أوراقها أولاً ثم أنوارها وأزهارها ثانياً ، ثم الفاكهة ثالثاً ، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشور ، مثل الجوز واللوز قشره الأعلى ذلك الجرم الأخضر ، وتحته القشر الذي كالخشب ، وتحته القشر الذي كالغطاء الرقيق المحيط باللبة ، وتحته اللب المشتمل علىجرم كثيف هو أيضاً كالقشرة ، وعلى جرم لطيف هو الزهر ، وهو المقصود بالذات ، فتولدُ هذه الأجسام المختلفة طبعاً وصفة ولوناً وشكلاً وطعماً مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والعناصر والفصول الأربعة دال على القادر المختار بتلوه في الفرحة ، وقد تجتمع الطبائع الأربعة في الفاكهة الواحدة كالأترج قشره حار يابس ونوره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه يابس حار رطب مع أنك تجد أحوالها مختلفة ، بعضها لبه في داخله وقشره في خارجه كالجوز واللوز ، وبعضها يكون المطلوب منه في الخارج وخشبه في الداخل كالخوخ والمشمش ، وبعضه لا لب لنواه كالتمر ، وبعضه يكون كله مطلوباً كالتين ، واختلاف هذه الطبائع والأحوال المتضادة والخواص المتنافرة حتى في الحبة الواحدة لا يكون عن طبيعة ، بل عن الواحد المختار ، والحبوب مختلفة الألوان والأشكال والصور ، فشكل الحنطة كأنه نصف مخروط ، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما وشكل الحمص على وجه آخر ، وأودع سبحانه في كل نوع منها خاصية ومنفعة غير ما في الآخر ، وقد تكون الثمرة غذاء لحيوان وسمّاً لحيوان آخر ، فهذا الاختلاف مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب دالّ(2/677)
صفحة رقم 678
على أنها إنما حصلت بالفاعل المختار ، ثم إنك تجد في ورقة الشجرة خطاً في وسطها مستقيماً نسبته لتلك الورقة نسبة النخاع إلى بدن الإنسان ، ينفصل عنه خيوط مختلفة ، وعن كل واحد منها خيوط أخرى أدق من الأولى ، ولا يزال على هذا النهج حتى تخرج الخيوط عن الحس والبصر ، كما أن النخاع يتفصل منه أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في البدن ، ثم لا يزال يتفصل عن كل شعبة أخرى ، ولا يزال يستدق حتى تلطف عن الحس ، فعل سبحانه ذلك في الورقة لتقوى القوى المذكورة في جرم تلك الورقة على جذب لأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة ، فهذا يعلمك أن عنايته سبحانه في اتخاذ جملة تلك الشجرة أكمل ، فعنايته في تكوين جملة النبات أكمل ، وهو إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان فعنايته في تخليق الحيوان أكمل ، والمقصود من تخليق جملة الحيوان هو الإنسان فعنايته في تخليقه أكمل ، وهو سبحانه إنما خلق الحيوان والنبات في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده ، والمقصود من جسده حفظ تركيبه لأجل المعرفة والمحبة والعبودية ، فسبيلك أن تنظر في ورقة الشجرة وتتأمل في تلك الأوتار ثم تترقى منها إلى أوج تخليق الشجرة ثم إلى ما فوقها رتبة رتبة لتعلم أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية ، وحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر لك أن نعم الله في خلقك غير متناهية
77 ( ) وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ( ) 7
[ إبراهيم : 34 ] - والله الهادي .
ولما كان فلقهما عن النبات من جنس الإحياء لما فيه من النمو فسر معنى الفلق وبينه إشارة إلى الاعتناء به وقتاً بعد وقت بقوله : ( يخرج ) أي على سبيل التجدد والاستمرار تثبيتاً لأمر البعث ) الحي ) أي كالنجم والشجر والطير والدواب ) من الميت ( من الحب والنوى والبيض والنطف فكيف تنكرون قدرته على البعث ؛ ولما انكشف معناه وبان مغزاه بإخراج الأشياء من أضدادها لئلا يتوهم - لو كان لا يخرج عن شيء إلا مثله - أن الفاعل الطبيعة والخاصية ، عطف على ) فالق ( زيادة في البيان قوله معبراً باسم الفاعل الدال على الثبات لأنه لا منازعة لهم فيه ، فلم تدع حاجة إلى التعبير بالفعل الدال على التجدد : ( ومخرج الميت ) أي من الحب وما معه ) من الحي ) أي من النجم وما معه .
ولما تقررت له سبحانه هذه الأوصاف التي لا قدرة أصلاً لأحد غيره على شيء منها ، قال منبهاً لهم على غلطهم في إشراكهم ، إعلاماً بأن كل شريك ينبغي أن يساوي شريكه في شيء ما من الأمر المشرك فيه ، ولا مكافئ له سبحانه وتعالى في شيء من الأشياء فلا شريك له بوجه : ( ذلكم ) أي العالي المراتب المنيع المراقي هو ) الله ( أي(2/678)
صفحة رقم 679
المستجمع لصفات الكمال وحده فلا يحق الإلهية إلا له ؛ ولما كان هذا معنى الكلام ، سبب عنه قوله : ( فأنَّى ) أي فكيف ومن أيّ وجه ) تؤفكون ) أي تصرفون وتقلبون عما ينبغي اعتقاده .
ولما وصف سبحانه وتعالى نفسه المقدسة من فلق الجواهر بما اقتضى حتماً اتصافه بصفات الكمال ، وقدمه لكونه من أظهر أدلة القدرة على البعث الذي هذا أسلوبه ، مع الإلف له بقربه ومعالجته ، أتبعه ما هو مثله في الدلالة على الإحياء لكنه في المعاني وهو سماوي ، شارحاً لما أشار إليه الخليل عليه السلام في محاجة قومه من إبطال إلهية كل من النور والظلمة والكواكب التي هي منشأ ذلك ، فقال ترقية من العالم السفلي إلى العالم العلوي : ( فالق الإصباح ) أي موجده ، وحقيقته : فالق ظلمة الليل عن الصباح ، لكنه لما كثر استعماله وأمن اللبس فيه أسند الفعل إلى الصبح ، كما يقال : انفجر الصبح ، وانفجر عنه الليل ، ويمكن أن يراد بالفلق الكشف ، لأنه يكشف من المفلوق ما ان خفياً ، فعبر عن المسبب الذي هو الإظهار بالسبب الذي هو الفلق ، وعبر عن الصباح بهذه الصيغة التي يقال المدخول في الصبح لتصلح لإرادة فلق السكون بالنور أو غيره عن التصرف بالحركة المرتبة على الدخول في الصبح ، فدلنا ذلك على وجاعل الإصباح حركة وسادل الليل ) وجاعل الَّيل ( بما يكون من إظلامه ) سكناً ( يسكن الناس فيه وإليه ويستريحون فيه ، فالآية من الاحتباك : حذف من الأول الحركة ودل عليها بالسكن ، وحذف من الثاني السدل ودل عليه بالفلق ، وهذا الفلق من أعظم الدلائل على قدرته سبحانه ، وفيه دلالتان لأن الإصباح يشمل الفجر الكاذب والصادق ، والأول أقوى دلالة لأن مركز الشمس إذا وصل غلى دائرة نصف الليل فالموضع - الذي تكون تلك الدائرة أفقاً له - تطلع الشمس من مشرقه ، فيضيء في ذلك الموضع نصف كرة الأرض ، فيحصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتك ، ويكون ذلك الضوء منتشراً مستطيراً في جميع الجو ، ويجب أن يقوى لحظة فلحظة ، فلو كان الأول من قرص الشمس لامتنع أن يكون خطاً مستطيلاً ، بل كان يجب أن يكون مستطيراً في الأفق منتشراً متزايداً لحظة فلحظة ، لكن ليس هو كذلك ، فإنه يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى شبهته العرب بذنب السِرحان ثم يحصل عقبه ظلمة خالصة ، ثم يكون الثاني الصادق المستطير فكان الأول أدل على القدرة ، لأنه بتخليق الله ابتداء تنبيهاً على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بإبداعه ، والظلمات ليس لها ثبات إلا بتقديره .
ولما ذكر الضياء والظلمة ، ذكر منشأهما وضم إليه قرينه فقال عاطفاً على محل ) والليل ( لأن جاعلاً ليس بمعنى المضيء فقط لتكون الإضافة حقيقية ، بل المراد(2/679)
صفحة رقم 680
استمراره في الأزمنة كلها : ( والشمس ) أي التي ينشأ عنها كل منهما ، هذا عن غروبها وهذا عن شروقها ) والقمر ) أي الذي هوآية الليل ) حسباناً ) أي ذويّ حسبان وعَلَمَين عليه ، لأن الحساب يعلم بدورهما وسيرهما ، وبسبب ذلك نظم سبحانه مصالح العالم في الفصول الأربعة ، فيكون عن ذلك ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات ، وعبر عنهما بالمصدر المبني على هذه الصيغة البليغة إشارة إلى أن الحساب بهما أمر عظيم كبير النفع كثير الدخول ، مع ما له من الدنيا في أبواب الدين فهو جل نفعهما الذي وقع التكليف به ، فكأنه لما كان الأمر كذلك ، كان حقيقتهما التي يعبر عنهما بها ، وأما غير ذلك من منافعهما فلا مدخل للعباد فيه .
ولما كان هذا أمراً باهراً ووصفاً قاهراً ، أشار إليه بأداة البعد فقال : ( ذلك ) أي التقدير العظيم الذي تقدم من الفلق وما بعده ) تقدير العزيز ) أي الذي لا يغالب فهو الذي قهرهما على ما سيّرهما فيه ، وغلب العباد على ما دبر من أمرهم بهما ، فلو أراد أحد أن يجعل ما جعله من النوم يقظة واليقظة نوماً ، أو يجعل محل السكن للحركة أو بالعكس أو غير ذلك مما أشارت إليه الآية لأعياه ذلك ) العليم ) أي الذي جعل ذلك بعلمه على منهاج لا يتغير وميزان قويم لا يزيغ .
الأنعام : ( 97 - 98 ) وهو الذي جعل. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( ( )
ولما ذكر ذلك ، أتبعه منفعة أخرى تعمهما مع غيرهما مبيناً ما أذن فيه من علم النجوم ومنافعها فقال : ( وهو ) أي لا غيره ) الذي جعل ( ولما كانت العناية بنا أعظم ، قدم قوله : ( لكم النجوم ) أي كلها سائرها وثابتها وإن كان علمكم يقصر عنها كلها كما يقصر عن الرسوخ والبلوغ في علم السير للسيارة منه ) لتهتدوا ) أي لتكلفوا أنفسكم علم الهداية ) بها ( لتعلموا القبلة وأوقات الصلوات والصيام وغير ذلك من منافعكم دنيا وديناً .
ولما كانت الأرض والماء ليس لهما من نفسهما إلا الظلمة ، وانضمت إلى ذلك ظلمة الليل ، قال : ( في ظلمات البر ) أي الذي لا عَلَم فيه ، وإن كانت له أعلام فإنها قد تخفى ) والبحر ( فإنه لا عَلَم به ، والإضافة إليهما للملابسة أو تشبيه الملبَّس من الطرق وغيرها بالظلمة ؛ روى الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في جزء جمعه في النجوم من طريق أحمد بن سهل الأشناني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : تعلموا من(2/680)
صفحة رقم 681
النجوم ما تهتدون في البر والبحر ثم انتهوا ، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم وتعرفون ما يحل لكم ويحرم عليكم من النساء ثم انتهوا .
وفيه من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد في زياداته على المسند عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا علي أسبغ الوضوء وإن شق عليك ، ولا تأكل الصدقة ولا تنز الحمير على الخيل ، ولا تجالس أصحاب النجوم ) .
وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا تسألوا عن النجوم ، ولا تفسروا القرآن برايكم ، ولا تسبوا أصحابي ، فإن ذلك الإيمان المحض ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن النظر في النجوم - رواه من طرق كثيرة ؛ وعن عائشة رضي الله عنها مثله سواء ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ، وإذا ذكر القدر فأمسكوا ، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا ) - رواه من طرق وأسند عن قتادة قوله تعالى
77 ( ) وأنهاراً وسبلاً ( ) 7
[ النحل : 15 ] قال : طرقاً
77 ( ) وعلامات ( ) 7
[ النحل : 16 ] قال : هي النجوم ، قال : إن الله عز وجل إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجوماً للشياطين ، فمن تعاطى فيها شيئاً غير ذلك فقد أخطأ حظه وقال رأيه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به - في كلام طويل حسن ، وهذا الأثر الذي عن قتادة أخرجه عنه البخاري في(2/681)
صفحة رقم 682
صحيحه ، وقال صاحب كنز اليواقيت في استيعاب المواقيت في مقدمة الكتاب : واعلم أن العلم منه محمود ، ومنه مذموم لا يذم لعينه ، إنما يذم في حق العباد لأسباب ثلاثةك أولها أن يكون مؤدياً إلى ضرر كعلم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن به وأنه سبب للتفرقة بين الزوجين ، وسحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومرض بسببه ، حتى أخبره جبرئيل عليه السلام وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر - كما ورد في الحديث الصحيح ؛ ومعرفة ذلك من حيث إنه معرفة ليس مذموماً ، أو من حيث إنه لا يصلح إلا لإضرار بالخلق يكون مذموماً .
والوسيلة إلى الشر شر ؛ الثاني أن يكون مضراً بصاحبه في غالب الأمر كالقسم الثاني من علم النجوم الاحكامي المستدل به على الحوادث بالأسباب كاستدلال الطبيب بالنبض على ما يحدث من المرض ، وهو معرفة مجاري سنة الله وعادته في خلقه ، ولكنه ذمه الشرع وزجر عنه لثلاثة أوجه : أحجها أنه يضر بأكثر الناس فإنه إذا قيل : هذا الأمر لسبب سير الكواكب ، وقر في نفس الضعيف العقل أنه مؤثر ، فينمحي ذكر الله عن قلبه ، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط بخلاف العالم الراسخ ، فإنه يطلع على الشمس والقمر والنجوم مسخرات ، وفرق كبير بين من يقف مع الأسباب وبين من يترقى إلى مسبب الأسباب ، ثم ذكر ما حاصله أن السبب الثاني في النهي عنه أنه تخمين لا يصل إلى القطع ؛ والثالث أنه لا فائدة فيه ، فهو خوض في فضول ، وأن السبب الثالث مما يذم به ما يذم من العلوم أنه مما لا تبلغه عقول اكثر الناس ولا يستقل به ، ولا ينكر كون العلم ضاراً لبعض الأشخاص كما يضر لحم الطير بالرضيع - انتهى .
وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ) وقال صاحب كتاب الزينة في آخر كتابه بعد أن ذكر العيافة والزجر ونحوهما ، ويأتي أكثره عنه في سورة الصافات : وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إياكم والنجوم فإنها تدعو إلى الكهانة ) ، قال : هذه الأشياء كلها لها أصل صحيح ، فمنها ما كانت من(2/682)
صفحة رقم 683
علوم الأنبياء مثل النجوم والخط وغير ذلك ، ولولا الأنبياء الذين أدركوا علم النجوم وعرفوا مجاري الكواكب في البروج وما لها من السير في استقامتها ورجوعها ، وما قد ثبت وصح من الحساب في ذلك بما لا ارتياب فيه ، لما قدر الناس على إدراكه ، وذلك كله بوحي من الله عز وجل إلى أنبيائهم عليهم السلام ، وقد روي أن إدريس عليه السلام أول من علم النجوم ، وروي في الخط أنه كان علم نبي من الأنبياء ، ولولا ذلك لما أدرك الناس هذه اللطائف ولا عرفوها .
ولما كانت هذه الآيات قد بلغت في البيان حداً علا عن طوق الإنسان والملائكة والجان لكونها صفة الرحمن ، فكانت فخراً يتوقع فيه التنبيه عليه فقال : ( قد فصلنا ) أي بينا بياناً شافياً على ما لنا من العظمة ) الآيات ( واحدة في إثر واحدة على هذا الأسلوب المنيع والمثال الرفيع ؛ ولما كانت من الوضوح في حد لا يحتاج إلى كثير تأمل قال : ( لقوم يعلمون ) أي لهم قيام فيما إليهم ، ولهم قابلية العلم ليستدلوا بها بالشاهد على الغائب .
ولما ذكر سبحانه بعض هذا الملكوت الأرضي والسماوي ، أتبعه - كما مضى في أول السورة - الخلق المفرد الجامع لجميع الملكوت ، وهو الإنسان ، دالاً على كمال القدرة على كل ما يريد ، مبطلاً بمفاوتة أول الإبداع وآخر الآجال ما اعتقدوا في النور والظلمة والشمس والقمر وغيرهما ، لأن واحداً منها لا اختيار له في شيء يصدر عنه ، بل هو مسخر ومقهور كما هو محسوس ومشهور ، فقال : ( وهو ) أي لا غيره ) الذي أنشأكم ) أي وأنتم في غاية التفاوت في الطول والقد واللون والشكل وغير ذلك من الأعراض التي دبرها سبحانه على ما اقتضته حكمته ) من نفس واحدة ( ثم اقتطع منها زوجها ثم فرّعكم منهما .
ولما كان أغلب الناس في الحياة الدنيا يعمل عمل من لا يحول ولا يزول ، لا يكون على شرف الزوال ما دامت فيه بقية من حياة ، قال : ( فمستقر ) أي فسبب عن ذلك أنه منكم مستقر على الأرض - هذا على قراءة ابن كثير وابن عمر وبكسر القاف اسم فاعل ، والمعنى في قراءة الباقين بفتحه اسم مكان
77 ( ) ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( ) 7
[ البقرة : 26 ] .(2/683)
صفحة رقم 684
ولما كان من في البرزخ قد كشف عنهم الغطاء فهم موقنون بالساعة غير عاملين على ضد ذلك ، وكذا من في الصلب والرحم ، عبر بما يدل على عدم الاستقرار فقال : ( ومستودع ) أي في الأصلاب أو الأرحام أو في بطن الأرض ، فدلت المفاوتة من كل منهما - مع أن الكل من نفس واحدة - على القادر المختار ، لا يقدر غيره أن يعكس شيئاً من ذلك ، وكل ذلك مضمون الآيتين في أول السورة ، وقدم الإصباح والليل ومتعلقهما لتقدمهما في الخلق ، ثم تلاه بخلق الإنسان على حسب ما مرّ أول السورة ، وذكر هنا أنهجعل ذلك الطين نفساً واحدة فرّع الإنس كلهم منها مع تفاوتهم فيما هناك وفي غيره .
ولما ذكر هذا المفرد الجامع ، وفصّله على هذه الوجوه المعجبة ، كان محلاً لتوقع التنبيه عليه فقال : ( قد فصلنا ) أي بعظمتنا ) الآيات ) أي أكثرنا بيانها في هذا المفرد الجامع في أطوار الخلقة وأدوار الصنعة ، تارة بأن يكون من التراب بشر ، وأخرى بأن يخرج الأنثى من الذكر ، وتارة بأن يفرّع من الذكر والأنثى ما لا يحيط به العد ولا يجمعه الخبر من النطفة إلى الولادة إلى الكبر .
ولما كان إنشاء الناس من نفس واحدة وتصريفهم على تلك الوجوه المختلفة جداً ألطف وأدق صنعة ، فكان ذلك محتاجاً إلى تدبر واستعمال فطنة وتدقيق نظر ، قال : ( لقوم يفقهوه ) أي لهم أهلية الفقه والفطنة .
الأنعام : ( 99 - 100 ) وهو الذي أنزل. .. . .
) وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( ( )
ولما ذكر وجوه الإبداع التفريعي من هذين الكونين وأسباب البقاء له بما ينشأ عنه الفصول وغيرها ، أتبعه سببه القريب ، وهو الماء الذي جعل منه كل شيء حي ، فقال مفصلاً ما أجمله في الحب والنوى ، سائقاً له مساق الإحسان لما قبله من الدلائل ، فإن الدليل إذا كان على وجه الإحسان ومذكراً بالإنعام كان تأثيره في القلب عظيماً ، فينبغي للمشتغل بدعوة الخلق أن يسلك هذا المسلك ليكون للقلوب أملك : ( وهو ) أي لا غيره ) الذي أنزل ) أي بقدرته وعلمه وحكمته ) من السماء ) أي الحقيقية التي تعرفونها كما دل عليه صريح العبارة وما أشبهها من ذكور الحيوان المنبه عليه بطريق الإشارة ) ماء ) أي منهمراً ودافقاً .(2/684)
صفحة رقم 685
ولما كان تفريع الخلق من الماء بمكان من العظمة لا يوصل إليه ، نبه عليه بالانقال إلى التكلم في مظهر العظمة فقال : ( فأخرجنا ) أي على ما لنا من العظمة التي لا يدانيها أحد ) به ) أي الماء ) نبات كل شيء ( مختلفة طعومه وألوانه وروائحه وطبائعه ومنافعه وهو بماء واحد ، فالسبب واحد والمسببات كثيرة منفتة ، سواء كان ذلك النبات حقيقياً من النجم والشجر ، أو مجازياً من الأنثى والذكر ؛ ثم سبب عن الحقيقي لظهوره قوله دالاً على العظمة : ( فأخرجنا منه ) أي النبات ) خضراً ) أي شيئاً أخضر غضاً طرياً ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة ؛ ثم زاد في بيان عظمته بقوله : ( نخرج ) أي حال كوننا مقدرين أن نخرج ) منه ) أي من ذلك الخضر ) حباً متراكباً ) أي في السنبل يركب بعضه بعضاً ويحرسه من أن يلتقطه الطير بعد ستره بالقشر بحسك طويل لطيف جداً كالإبر خشن ، بعد أن كان أصله حبة واحدة على صورتها ، أو منفتة في التراب بعد أن طوّره سبحانه في عدة أطوار ، إن فاعل ذلك لقادر مختار .
ولما كان نسبة الإخراج والإبداع إليه سبحانه وحده في مظهر العظمة خصوصاً وعموماً ، فعلم أن الكل منه ، وصار الحال في حد من الوضوح جدير بأن يؤمن من نسبة شيء إلى غيره لا سيما الذي هم له معالجون ، وبالعجز عن إبداعه عالمون ، وبدأ بما بدأ به أولاً في آية الفلق من الحب ؛ ثنى بما من النوى ، فقال معبراً لذلك الأسلوب : ( ومن النخل ( وتقديم الحب عليه هنا وفيما قبل يدل على أن الزرع أفضل منه ، فإنه قوت في أكثر البلاد ولأغلب الحيوانات والغذاء مقدم على الفاكهة ؛ فإنها خلقت من طينة آدم ؛ ثم أبدل مما أجمل من ذلك قوله مبيناً : ( من طلعها ) أي النخل ، وهو أول ما يخرج منها في أكمامه ) قنوان ( جمع قنو ، وهو العذق بالكسر للشمراخ وهو الكباسة ، والعرجون عوده الذي يكون فيه البسر ) دانية ) أي قريبة التناول وإن طال أصلها بما علمكم وسهل لكم من صنعة الوصول إليها .
ولما لم يكن لهم من معالجة الأعناب وغيرها ما لهم من معالجة النخيل ، عطف على ( نبات ) منبهاً لهم على أنها - كالنخيل - هو سبحانه المتفرد بإبداعها كما تقدم - فقال : ( وجنات ) أي بساتين ) من أعناب ( وجمعها لكثرة أنواعها ، وبدأ بهاتين الشجرتين لفضلهما كما تقدم على غيرهما ، لأن ثمرهما فاكهة وقوت ، وقدم الأول لأنهم له أكثر ملابسة ، وإن كان العنب أشرف أنواع الفواكه ، فإنه ينتفع به من أول ظهوره لأنه أولاً يكون له خيوط خضر دقيقة حامضة لذيذة ، ثم تكون الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى ، وقد يتخذ منه رُبّ الحصرم وأشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء ، ويطبخ منه ألذ الأطعمة الحامضة ، وهو عنباً ألذ الفواكه وأشهاها ، (2/685)
صفحة رقم 686
ويدخر عنباً قريباً من سنة ، ويكون زبيبه غذاء ، ويكون منه الدِبس والخل وغير ذلك ، وأحسن ما فيه عجمه ، وهو يتخذ منه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة وقدم النخيل لأنها قوت للعرب ، وبينها وبين الإنسان مشابهة في خواص كثيرة لا توجد في النبات ، ولذا جاء في الحديث ( أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من طينة آدم عليه السلام ، وليس من الشجر يلقح غيرها ) - رواه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وأبو الشيخ عن علي رضي الله عنه ؛ وأتبعهما ما يليهما في الفضيلة فقال : ( والزيتون ( و قدمه لكثرة نفعه ، وينفصل منه دهن عظيم النفع في الأكل والضياء وسائر وجوه الاستعمال ) والرمان ( ختم به لحسنه وعظيم نفعه ، وهو مركب من أربعة أشياء : قشره وشحمه وعجمه ومائه ، فالثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة عفصية فائضة جداً ، والماء بضدها وهو ألذ الأشربو وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطبع المعتدل ، وفي ذلك تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه .
ولما ذكر الأقوات من الثمار والحبوب والأدهان وأشرف الفواكه وأعمها ، وكانت أشبه شيء بالآدمي في نشئه وبعثه واتفاقه واختلافه ، وكان اشتباه بعضها واختلاف بعضها - مع كونها تسقى بماء واحد وفي أرض واحدة - دالاً على القدرة والاختيار ، وكان السياق لإثبات الوحدانية ونفي الشريك بإثبات كمال القدرة التي هي منفية عن غيره ، فلا يصح أن يكون له شريك ، لأنه لا يكون إلا مشابهاً لشريكه كمال المشابهة فيما وقعت الشركة فيه ، وللبعث فكان المراد التفكر في ظواهرها وتقلباتها من العدم إلى الوجود وبعد الوجود ، ولمحاجة أهل الكتاب الموسومين بالعلم المنسوبين إلى حدة الأذهان وغيرهم من الفرق ، وكان افتعل يأتي للتعريف ، وهو المبالغة في إثبات أصل الفعل والاجتهاد في تحصيله والاعتمال ، فكان حصوله إذا حصل أكمل ، قال بانياً حالاً من كل ما تقدم : ( مشتبهاً ) أي في غاية الشبه بعضه لبعض حتى لا يكاد يتميز ، فلو قطع ثمرتا شجرتين منه لم يتميز ثمرة هذه من ثمرة هذه ، فلا يقابله حينئذ نفي التفاعل ، فإنه لمجرد مشاركة أمرين أو أكثر في أصل الفعل ، فعلم أن التقدير : وغير مشتبه ومتشابهاً ، ثم لما كان ربما تمسك القائل بالطبائع بهذه العبارة ، نفى ما ربما ظن من أن لهذه الأشياء عملاً في اشتباه بعضها ببعض فقال : ( وغير متشابه ) أي غير طالب للاشتباه مع أنه لا بد من شبه ما ، فالآية من الاحتباك : أثبت الاشتباه دلالة على نفي ضده ، وهو عدم التشابه ، (2/686)
صفحة رقم 687
ولأجل أن الاشتباه أبلغ من التشابه ، علق الأمر بالنظر الذي هو أثبت الحواس ، ودلالة على أن المراد إنما هو ظاهر ذلك ، لأنه كان في الدلالة على البعث والتوحيد الذي هذا سياقه فقال : ( انظروا إلى ثمره ( وهذا بخلاف الحرف الثاني ، فإنه في سياق الرد على العرب فيما يجعلون من خلقه لأصنامهم التي لا قدرة لها على شيء أصلاً ، ولذلك ختم الآية بالإذن لهم في الأكل منه للانتهاء عما كانوا يحرمونه منه على أنفسهم ، وبالأمر بالتصدق على من أمر بالصدقة عليه ، وأما الباطن الذي هو الأكل فسيأتي ؛ ثم نبه على تعميم النظر في جميع حالاته بقوله : ( إذا أثمر ) أي حين يبدو من كمامه ضعيفاً قليل النفع أو عديمه ) وينعه ) أي وانظروا إلى إدراكه إذ أدرك وحان قطافه ، ويعلم من ذلك النظر فيما بين ذلك ، لأنه يلزم من مراقبة الأول والآخر ، فيعلم استحالة ألوانه ومقاديره وطعومه وأشكاله وغير ذلك من شؤونه وأحواله ، ويلزم من ذلك أيضاً النظر إلى أشجاره ليعلم تفاوت بعضها واشتباه البعض الآخر في الطول والقصر والصغر والكبر وغير ذلك من سائر الأحوال ، كما أن ذلك موجود في التمر ، فاستناد هذه التبدلات والتغيرات ليس إلا إلى الفاعل المختار ، لأن نسبته إلى الطبائع والفصول على حد سواء ، فلو استندت إليها لم تتغير .
ولما كان اتخاذ هذه المذكورات أولاً والمخالفة بين أشكالها ومقاديرها وألوانها ثانياً دالاً على كمال القدرة المستلزم للوحدانية ، دل على عظمته بقوله مستأنفاً مشيراً بأداة البعد وميم الجمع : ( إن في ذلكم ) أي الأمر العظيم الشأن العالي الرتبة ) لآيات ) أي علامات على قدرة الصانع واختياره .
ولما كانت الآيات لا تغني عمن أريدت شقاوته قال : ( لقوم يؤمنون ) أي حكم بأنهم - بحذقهم ونشاطهم وقوتهم على ما يحاولونه - يجددون الإيمان كلما تأملوا في مصنوعات الله سبحانه وتعالى الدالة عليه المشيرة بكل لسان إليه .
ولما كان المشركون على أصناف : منهم عدة أصنام ، شركوا في العبودية لا في الخلق ، ومنهم آزر الذي حاجه إبراهيم عليه السلام ومنهم عبدة الكواكب وهم فريقان : منهم من قال : هي واجبة الوجود ، ومنهم من قال : ممكنة ، خلقها الله وفوض إليها تدبير هذا العالم الأسفل ، وهم الذين حاجهم الخليل عليه السلام بالأفول ، ومنهم من قال : لهذا العالم كله إلهان : فاعل خير ، وفاعل شر ، وقالوا : إن الله وإبليس أخوان ، فالله خالق الناس والدواب والأنعام ، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور ، ويلقبون الزنادقة وهم المجوس ، لأن الكتاب الذي زعم زردشت أنه نزل من عند الله سمي بالزند ، فالمنسوب إليه زندي ، ثم عرب فقيل : زنديق ، وكان هذا كله في قوله(2/687)
صفحة رقم 688
) فالق الإصباح ( شرحاً لآية ) إن الله فالق الحب والنوى ( دلالة على تمام القدرة الدالة على الوحدانية للدلالة على البعث ؛ حسن كل الحسن العود إلى تقبيح حال المشركين بالتعجيب منهم في جملة حالية من الضمير في ) فالق ( أو غيره مما تقدم ، فقال تعالى شارحاً أمر هذا الصنف ، لأن أمر غيرهم تقدم ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن هذه الآية نزلت في الزنادقة : ( وجعلوا ) أي هو سبحانه فعل هذا الذي لا يدع لبساً في تمام علمه وقدرته وكمال حكمته ووحدانيته والحال أن الذي فعل ذلك لأجلهم قد جعلوا وعبر بالاسم الأعظم وقدمه استعظاماً لأن يعدل به شيئاً ) لله ) أي الذي له جميع الأمر .
ولما كان الشرك في غاية الفظاعة والشناعة ، قدمه فقال : ( شركاء ( يعني وما كان ينبغي أن يكون له شريك مطلقاً ، لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء كان ما يتعلق بها من النفي عاماً في كل ما يجوز أن يكون له الصفة ، وحكم الإنكار حكم النفي .
ولما اهتز السامع من هذا التقديم لزيادة المعنى من غير زيادة اللفظ ، تشوف إلى معرفة النوع الذي كان منه الشركاء فبينهم بقوله : ( الجن ) أي الذين هم أجرأ الموجودات عليهم وأعداهم لهم ، فأطاعوهم كما يطاع الإله فكان عبادة لهم وتشريكاً ، وقد رأيت ما للبيان بعد الانتهاء مما يحسن للناظرين ) وخلقهم ) أي والحال أنهم قد علموا أن الله خلقهم أي قدرهم بعلم وتدبير ، فلذلك كان خلقه لهم محكماً ) وخرقوا ) أي العابدون ) له بنين ) أي كعزير والمسيح ) وبنات ) أي من الملائكة ، فجمعوا لذلك جهالات هي غاية في الضلالات : وصف الملائكة بالأنوثة والاجتراء على مقام الربوبية بالحاجة ، تخصيصه بعد ذلك بما لا يرضونه لأنفسهم بوجه ؛ ومادة خرق تدور على النفوذ والاتساع والإطلاق والتقدير بغير علم ولا معرفة ليحدث عنه الفساد ، ولذلك قيل لمن لا يحسن العمل : خرق ؛ وللمرأة : خرقاء ، يعني أنهم كذبوا واختلفوا واتسعوا في هذا القول الكذب ، وأبعدوا به في هذه المجاوزة عن حقيقته ، اتساع من سار في خرق أي برية واسعة بهماء وسوفة جوفاء متباعدة الأرجاء إلى حيث لم يسبقه إليه بشر ، فضل عن الجادة ضلالاً لا ترجى معه هدايته إلا على بعد شديد ، فصار جديراً بالهلاك ، وإلى ذلك يرجع معنى ما قرئ في الشاذ : وحرفوا - بالمهملة والفاء .
ولما لم يكن لقولهم أصلاً حقيقة ولا شبهة ، وكان الخرق التقدير بغير علم ، دل على ذلك مصرحاً بما أفهمه محققاً له تنبيهاً على الدليل القطعي في اجتياح قولهم من أصله ، وذلك أنه قول لا حجة له ، ومسائل أصول الدين لا يصار إلى شيء منها إلا بقاطع ، وذلك بنكرة في سياق النفي فقال : ( بغير علم ( ثم نزه نفسه المقدسة تنبيهاً(2/688)
صفحة رقم 689
على ما يجب قوله على كل من سمع ذلك ، فقال : ( سبحانه ) أي أسبحه سبحاناً يليق بجلاله أن يضاف إليه ؛ ولما كان معنى التسبيح الإبعاد عن النقص ، وكان المقام يقتضي كونه في العلو ، صرح به فقال : ( وتعالى ) أي تباعد أمر علوه إلى حد لا حد له ولا انتهاء ) عما يصفون ( .
الأنعام : ( 101 - 104 ) بديع السماوات والأرض. .. . .
) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( ( )
ولما ختم بالتنزيه عما قالوا من الشريك والولد ، استدل على ذلك التنزيه بأن الكل خلقه ، محيط بهم علمه ، ولن يكون المصنوع كالصانع ، فقال : ( بديع السماوات والأرض ) أي مبدعهما ، وله صفة الإبداع ، أي القدرة على الاختراع ثابتة ، ومن كان كذلك فهو غني عن التوليد ، فلذا حسن التعجب في قوله : ( أنَّى ) أي كيف ومن أيّ وجه ) يكون له ولد ( وزاد في التعجيب بقوله : ( ولم ) أي الحال أنه لم ) يكن له صاحبة و ( الحال أنه ) خلق كل شيء ) أي مقدور ممكن من كل صاحبة تفرض ، وكل ولد يتوهم ، وكل شريك يدعي فكيف يكون المبدع محتاجاً إلى شيء من ذلك على وجه التوليد أو غيره .
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بشمول العلم قال : ( وهو ( ولم يضمر تنبيهاً على أن عموم العلم لا تخصيص فيه كالخلق فقال : ( بكل شيء عليم ) أي فهو على كل شيء قدير ، لأن شمول العلم يلزمه تمام القدرة - كما يأتي برهانه إن شاء الله في طه ، ومن كان له ولد لم يكن محيط العلم ولا القدرة ، بل يكون محتاجاً إلى التوليد .
ولما ثبت أنه لا كفوء له بما ذكر من صفاته وأفعاله ، وبين فساد أقوال المشركين ، وفصل مذاهبهم على أحسن الوجوه ، وبين فساد كل واحد منها بأمتن الحجج ، فثبت بذلك ما افتتح السورة به من إحاطته بصفات الكمال ، قال مشيراً إلى ذلك كله بمبتدأ خبر بعده أخبار : ( ذلكم ) أي العالي الأوصاف جداً الذي لا حاجة له إلى شيء ، وكل شيء محتاج إليه ) الله ) أي الذي له كل كمال ) ربكم ) أي الموجد لكم والمحسن بجميع أنواع الإحسان ، فهي فذلكة ما قبلها وثمرته ، لأن من اتصف بذلك كان هو رب الكل وحده والخالق للجميع واستحق العبادة وحده فلذا أتبع ذلك قوله : ( لا إله إلا(2/689)
صفحة رقم 690
هو ( لأن المقام للتوحيد اللازم للإحاطة بأوصاف الكمال التي هي معنى الحمد المفتتح به السورة ، وساق قوله : ( خالق كل شيء ( الذي هو مطلع ما بعده مساق التعليل دليلاً على ذلك ، فلما أقام الدليل سبب عنه الأمر بالعبادة فقال : ( فاعبدوه ) أي وحده ، لأن من أشرك به لم يعبده ، لأنه الغنى المطلق ، ومن كان له الغنى المطلق لا يحسن أن يقبل مشركاً ، وختم الآية بقوله : ( وهو ( ولما كان المقام لنفي احتياجه إلى شيء ، قدم قوله : ( على كل شيء وكيل ( إشارة إلى أن الولد أو الشريك إنما يحتاجه العاجز المفتقر ، وأما هو فهو القادر ، ومن سواه عاجز ، وهو الغني ومن سواه فقير ، فكيف يحتاج القدير الغني إلى العاجز الفقير ، هذا ما لا يكون ، ولا ينبغي أن يتخيله الظنون ، وفيه إشارة إلى أن العابد ينبغي أن يتفرغ لعبادته ويقطع أموره عن غير وكالته ، فإنه يكفيه بفضله عمن سواه .
ولما كان كل والد وكل شريك لا بد أن يكون مجانساً لولده وشريكه بوجه ، وصل بذلك من وصفه ما اقتضاه المقام من تنزيهه ، فقال : ( لا تدركه ) أي حق الإدراك بالإحاطة ) الأبصار ) أي أن من جعلتموه ولده أو شريكه هو مدرك بأبصاركم كعيسى وعزير عليهما السلام والأوثان والنجوم والظلمة والنور ، وأما الملائكة والجن فإن كان حكمكم عليهم بذلك عن مشاهدة فهم كمن تقدمهم ، وإن كان عن إخبار فهو عن الأنبياء ليس غير ، وكل منهم مخبر بأنهم عباد الله كغيرهم ، وأنه منزه عن شريك وولد ، وهذه كتبهم وصحاح أخبارهم شاهدة بذلك ، ووراء ذلك كله أنهم بحيث يدركون بالأبصار في الجملة ، ليس إدراكهم مستحيلاً ، وأما هذا الإله العزيز فهو غير مدرك لكم بالبصر كما يدرك غيره إدراكاً تاماً ، فيتأمله ناظره فيزنه وينقده بالخبرة بما فيه من رضى وغضب وغيرهما ، بما أبدته الفراسة وأوضحه التوسم ، لأنه سبحانه متعال عن أن يحاط به ، هذا على أنه من عموم السلب ، وإن كان من سلب العموم فالمعنى أنه عزيز لا يراه كل أحد ، بل يراه الخواص إذا أراد فكشف لهم الحجاب وأوجد لهم الأسباب ) وهو ( مع ذلك يدرككم ، بل و ) يدرك ( ما لا تدركونه من أنفسكم ) الأبصار ( وهي القوى المودعة في عصبة العين لتدرك بها المبصرات ) وهو اللطيف ( عن أن يحيط به الأبصار ، لأنه يمنع الأسباب عن أن ينشأ عنها مسبباتها ، ويوجد أدق الأسباب وأغربها ، فلا يستغرب عليه إدراك المعاني لأنه الذي أوجدها
77 ( ) ألا يعلم من خلق ( ) 7
[ الملك : 14 ] وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء ) الخبير ) أي المحيط بالأبصارن فإحاطته بأصحابها أجدر ، ويتحقق معنى الاسمين لتحقق المعنى ؛ قال الحرالي في شرح الأسماء : اللطف إخفاء التوسل إلى الشيء بإظهار ما يضاده ، ولا يتم إلا بخبرة ، ولذلك(2/690)
صفحة رقم 691
نظم باسمه ) الخبير ( لأنه أخفى حكمته في ظاهر يضادها ، فاللطف مخبرة في حكمة ، وباسمه تعالى اللطيف أقام أمر حكمته ما بين الدنيا والآخرة ، وبذلك أقام أمر أهل ولايته في الدنيا لما جمع لهم من أمره فيها ، فيبدو زهم من وراء ذل ، ويتراءى ذلهم ومن دونه عز ، فيسبق عزهم إلى القلوب مع تذللهم في الحواس ، ويؤول محسوسهم إلى عز ي عقبى الدنيا ، ومبادرة الآخرة مع تأنس القلوب بهم ،
77 ( ) إن ربي لطيف لما يشاء ( ) 7
[ يوسف : 100 ] لما أراد أن يملكه مصر وجعل وسيلة ذلك استبعاده بها ، وبحصول معناه بتمام الخبرة والحكمة - وتلك إبداء الشيء في ضده - يتضح اختصاصه بالحق ، فهو الذي أطعم من جوع وآمن من خوف ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً ، فهو تعالى اللطيف الذي لا لطيف إلا هو ، ثم قالك الخبرة إدراك خبايا الأشياء وخفاياها بحيث لا يبدو منه خبيثة أمر إلا كان إدراك الخبير سابقاً لبدوها ، وذلك لا يتم إلا لمبديها الذي هو يخرج خبأها ، وهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ، ومخبرة الخلق لا بد فيها من إظهار باد ينبئ عن الخبء بمقتضى التجرية ، وإلاّ لم يصح لهم الخبرة ، كما قيل : مخبرة المرء فيما يبدو من نطقه وما يظهره اليوم والليلة من عمله ، والخبير الحق خبير بالشيء دون باد يرى الظاهر خبيثة أمره ، فهو بالحقيقة الذي لا خبير إلاّ هو - انتهى .
ولما أكثر لهم من إقامة الأدلة على وحدانيته ، وختمها بهذا الدليل المحسوس الذي معناه أن كل شريك وكل ابن يدرك شريكه وأباه ، وهو متناه عن أن يدركه ، أي يحيط به أحد ، ناسب أن يعظهم ويمدح الأدلة حثاً على تدبرها ، وجعل ذلك على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) إشارة إلى أنه - لنور قلبه وكمال عقله وصفاء لبه وغزارة علمه وشريف أخلاقه واستقامة غرائزه وبُعد مدى همته عن أن ينسب إلى جور أو يرمى بعناد - حقيق بأن يقول بعد إقامتها من غير تلعثم تقريراً لأمر دعوته بعد تقرير المطالب العالية الإلهية : ( قد جاءكم ( .
ولما كانت الآيات - لقوتها وجلالتها التي أشار إليها تذكير الفعل - توجب المعرفة فتكون سبباً لانكشاف الحقائق الذي هو كالنور في جلاء المحسوسات ، قال : ( بصائر ) أي أنوار هي لقلوبكم بمنزلة الضياء المحسوس لعيونكم ) من ربكم ) أي المحسن إليكم بكل إحسان ، فلا إحسان أصلاً لغيره عندكم ، فاصعدوا عن النظر بالأبصار إلى الاعتبار بالبصائر ، ولا تهبطوا في حضيض التقليد إلى أن تصلوا إلى حد لا تفهمون معه إلا ما يحس بالأبصار بل ترقوا في أوج المعرفة إلى سماوات الاجتهاد وجرّدوا لقطاع الطريق صوارم البصائر ، فإنكم إن رضيتم بالدون لم تضروا إلا أنفسكم ، وإن نافستم في المعالي(2/691)
صفحة رقم 692
فإياها نفعتم .
ولذلك سبب عن هذا النور الباهر والسر الظاهر قوله : ( فمن أبصر ) أي عمل بالأدلة ) فلنفسه ) أي خاصة إبصاره لأنه خلصها من الضلال المؤدي إلى الهلاك ) ومن عمي ) أي لم يهتد بالأدلة ) فعليها ) أي خاصة عماه لأنه يضل فيعطب .
ولما كان المعنى أنه ليس لي ولا لغيري من إبصاره شيء ينقصه شيئاً ، ولا علي ولا غيري شيء من عماه ، كان التقدير : فإنما أنا بشير ونذير ، عطف عليه قوله ) وما أنا ( وأشار إلى أن حق الآدمي التواضع وإسلام الجبروت والقهر لله بأداة الاستعلاء فقال : ( عليكم ( وأغرق في النفي بقوله : ( بحفيظ ) أي أقودكم قسراً إلى ما ينجيكم ، وأمنعكم قهراً مما يرديكم .
الأنعام : ( 105 - 108 ) وكذلك نصرف الآيات. .. . .
) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ( )
ولما كان التقدير التفاتاً إلى مقام العظمة إعلاماً بأن القضاء كله بيده لئلا يظن نقص في نفوذ الكلمة : فانظروا ما صرفنا لكم في هذه السورة من الآيات وأوضحنا بها من شريف الدلالات ، لقد اتينا فيها بعجائب التصاريف وكشفنا عن غرائب التعاريف ، عطف عليه قوله : ( وكذلك ) أي ومثل هذا التصريف العظيم ) نصرف ) أي ننقل جميع ) الآيات ( من حال إلى حال في المعاني المتنوعة سالكين من وجوه البراهين ما يفوت القوى ويعجز القُدَر لتحير ألباب المارقين وتنطلس أفكار المانعين ، علماً منهم بأنهم عجزة عن الإتيان بما يدانيها فتلزمهم الحجة ) وليقولوا ( اعتداء لا عن ظهور عجزهم ( دارست ) أي غيرك من أهل الكتاب أو غيرهم في هذا حتى انتظم لك هذا الانتظام وتم لك هذا التمام ، فيأتوا ببهتان بيّن عواره ظاهرة أسراره ، مهتوكة أستاره ، فيكونوا كأنهم قالوا : إنك أتيت به عن علم ونحن جاهلون لا نعلم شيئاً ، فيعلم كل موفق أنهم ما رضوه لأنفسهم مع ادعاء الصدق والمنافسة في البعد عن أوصاف الكذب إلا لفرط الحيرة وتناهي الدهشة وإعواز القادح ، والحاصل أنه أتى به على هذا المنهاج الغريب والأسلوب العجيب ليعمى ناس عن بينة ويبصر آخرون ، وهم المرادون بقوله :(2/692)
صفحة رقم 693
) ولنبينه ) أي القرآن لأنه المراد بالآيات المسموعة ) لقوم يعلمون ) أي أن المراد من الإبلاغ في البيان أن يزداد الجهلة به جهلاً ، ويهتدي من كان للعلم أهلاً ، فلا يقولون : ( دارست ) بل يقولون : إنه من عند الله ، فالآية من الاحتباك : إثبات ادعاء المدارسة أولاً يدل على نفيها ثانياً ، وإثبات العلم ثانياً يدل على عدمه أولاً ، وهي من معنى
77 ( ) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ( ) 7
[ البقرة : 26 ] .
ولما انكشف بهذا في أثناء الأدلة وتضاعيف البراهين أن القرآن كنز لا يلقى مثله كنز ، وعز لا يدانيه عز ، وأنه في الذروة التي تضاءلت دونها سوابح الأفكار ، وكلّت عن التماعها نوافذ الأبصار ، وختم بأن المراد بالبيان العلماء ، ناسب له أن ينبه على ذلك لئلا يفتر عنه طعنهم بقولهم ( دارست ) ونحوه ، فقال مخصصاً له ( صلى الله عليه وسلم ) بالخطاب إعلاماً بأنه العالم على الحقيقة : ( اتبع ) أي أنت ومن تبعك ) وما أوحي إليك ) أي فالزم العمل به ؛ ثم أكد مدحه بقوله : ( من ربك ) أي المحسن إليك بهذا البيان ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( لا إله إلا هو ) أي فلا يستحق غيره أن يتبع له أمر ، ولا يلتفت إليه في نفع ولا ضر ) وأعرض عن المشركين ) أي بغير التبليغ ، فإنه ما عليك غيره ، ومزيد حرصك على إيمانهم لا يزيد من أريدت شقوته إلا تمادياً في إشراكه وارتباكاً في قيود أشراكه .
ولما كان الحبيب أسر شيء بما يزيده حبيبه ، قال مسلياً له ( صلى الله عليه وسلم ) عن استهزائهم به وردهم لقوله ، عاطفاً على ما تقديره : فلو شاء الله ما خالفوك ولا تكلموا فيك ببنت شفة : ( ولو شاء الله ما أشركوا ) أي ما وقع منهم إشراك أصلاً ، فقد أراد لك من الوقوع فيك ما أراده لنفسه ، فليكن لك في ذلك مسلاة .
ولما كان التقدير : فإنه سبحانه حفيظ عليهم ، عطف عليه قوله : ( وما جعلناك ) أي بعظمتنا ، وأشار إلى أن العلو ليس بغير الله سبحانه فقال : ( عليهم حفيظاً ) أي تحفظ أعمالهم لئلا يكون منها ما لا يرضينا فتردهم عنه قسراً ) وما أنت ( وقدم ما هو أعم من نفي التحقق بالعلو المحيط القاهر الذي هو خاص بالإله فقال : ( عليهم بوكيل ) أي فتأخذ الحق منهم قهراً ، وتعاملهم بما يستحقونه خيراً أو شراً ، إنما أنت مبلغ عنا ، ثم الأمر في هدايتهم وإضلالهم إلينا .
ولما طال التنفير عما اتخذ من دونه من الأنداد والبنات ، لأنها أقل من ذلك وأحقر ، كان ذلك ربما كان داعية إلى سبها ، فنهى عنه لمفسدة يجرها السب كبيرة جداً ، فقال عاطفاً على قوله ) وأعرض عن المشركين ( غير مواجه له وحده ( صلى الله عليه وسلم ) إكراماً له : ( ولا تسبوا ( ولما كانت الأصنام لا تعقل ، وكان المشركون يزعمون بها العقل والعلم ، ويسندون إليها الأفعال ، أجري الكلام على زعمهم لأنه في الكف عنها فقال : ( الذين(2/693)
صفحة رقم 694
يدعون ) أي دعاء عبادة من الأصنام أو غيرهم بذكر ما فيهم من النقص ، ثم بين دفعاً لتوهم إكرامهم أنهم في سفول بقوله : ( من دون الله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له عدلاً ، بعلم منكم بما لهم من المعايب ، بل أعرضوا عن غير دعائهم إلى الله حتى عن سب آلهتهم بما تستحقه ، فإنا زينا لهم أعمالهم فغرقوا مع غزارة عقولهم فيما لا يرتضيه عاقل ، وكذبوا بجميع الآيات الموجبة للإيمان ، فربما جرهم سبُّكم لها - لما عندهم من حمية الجاهلية - إلى ما لا يليق ) فيسبوا ) أي فيتسبب عن ذلك أن يسبوا ) الله ) أي الذي تدعونه وله الإحاطة بصفات الكمال ، وأظهر تصريحاً بالمقصود وإعظاماً لهذا وتهويلاً له وتنفيراً منه .
ولما كان الخنو يوجب الإسراع ، أشار إليه سبحانه بقوله : ( عدواً ) أي جرياً إلى السب ؛ ولما كان العدو قد يكون مع علم ، قال مبيناً لأنه يراد به مع الإسراع أنه مجاوز للحد : ( بغير علم ( لأنا زينا لهم عملهم ، فالطاعة إذا استلزمت وجود منكر عظيم احترز منه ولو أدى الحال إلى تركها وقتاً ما ، لتحصل القوة على دفع ذلك المنكر ، فحكم الآية باق وليس بمنسوخ .
ولما كان ذلك شديداً على النفس ضائقاً به الصدر ، اقتضى الحال أن يقال : هل هذا التزيين مختص بهؤلاء المجرمين أم كان لغيرهم من الأمم مثله ؟ فقيل : ( كذلك ) أي بل كان لغيرهم ، فإنا مثل ذلك التزيين الذي زينا لهؤلاء ) زينا لكل أمة ) أي طائفة عظيمة مقصودة ) عملهم ) أي القبيح الذي أقدموا عليه بغير علم بما خلقه في قلوبهم من المحبة له ، رداً منا لهم بعد العقل الرصين أسفل سافلين ، حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن لتبين قدرتنا ؛ فكان في ذلك أعظم تسلية وتأسية وتعزية ، والآية من الاحتباك : إثبات ) بغير علم ( أولا دال على حذفه ثانياً ، وإثبات التزيين ثانياً دليل على حذفه أولاً .
ولما كان سبحانه طويل الأناة عظيم الحلم ، وكان الإمهال ربما كان من جهل بعمل العاصي ، نفى ذلك بقوله ) ثم ) أي بعد طول الإمهال ) إلى ربهم ) أي المحسن إليهم بالحلم عنهم وهم يتقوون بنعمه على معاصيه ، لا إلى غيره ) مرجعهم ) أي بالحشر الأعظم ) فينبئهم ) أي يخبرهم إخباراً عظيماً بليغاً ) بما ) أي بجميع ما ) كانوا يعملون ) أي على سبيل التجدد والاستمرار بما في جبلاتهم من الداعية إليه وإن ادعوا أنهم عاملون على مقتضى العلم .(2/694)
صفحة رقم 695
الأنعام : ( 109 - 111 ) وأقسموا بالله جهد. .. . .
) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( ( )
ولما نصب سبحانه هذه الدلالات في هذه الآيات البينات حتى ختمها بما علم منهم من الإسراع إلى سب من أحسن إليهم بأن أوجدهم وأوجد لهم كل ما في الكون ، وما من نعمة عليهم إلا وهي منه ، عجب منهم في الوعد بالإيمان على وجه التأكيد بما يأتيهم من مقترحاتهم إعلاماً بأن ذلك مما زين لهم من عملهم ، وهي أمنية كاذبة ويمين حانثة فقال عاطفاً على ) ) وجعلوا لله شركاء الجن ( ) [ الأنعام : 100 ] ) وأقسموا ) أي المشركون ) بالله ) أي الذي لا أعظم منه ) جهد أيمانهم ) أي باذلين فيها جهدهم حتى كأنها هي جاهدة ، ووطأ للقسم فقال : ( لئن جاءتهم آية ) أي من مقترحاتهم ، وتلقى القسم بقوله : ( ليؤمنن بها ( .
ولما كانوا بهذا ظالمين من أجل أنهم طلبوا من الرسول ما ليس إليه بعد إتيانه من المعجزات بما أزال معاذيرهم ، وأوجب عليهم الاتباع ، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً : ( قل ) أي رداً لتعنتهم ) إنما الآيات ) أي هذا الجنس ) عند الله ) أي الحائز لجميع صفات الكمال ، وليس إليّ ولا إلى غيري شيء من هذا الجنس ليفيد الاقتراح شيئاً غير إغضابه .
ولما كان العبد لعجزه لا قدرة له على شيء أصلاً ، فلا يصح له أن يحكم على آت أصلاً لا من أفعاله ولا من أفعال غيره ، قال منكراً عليهم ملتفتاً إلى خطابهم إشارة إلى أنهم حقيقون بالمواجهة بالتبكيت : ( وما ) أي وأي شيء ) يشعركم ) أي أدنى شعور بما أقسمتم عليه من الإيمان عند مجيئها حتى يتوهموه أدنى توهم فضلاً عن الظن فكيف بالجزم ولا سيما على هذا الوجه ثم علل الاستفهام بقوله مبيناً أنه لا فائدة في الإتيان بالآية المقترحة : ( أنها ( بالفتح في قراءة نافع وابن عامر وشعبة في رواية عنه وحفص وحمزة والكسائي ، فكان كأنه قيل : أنكرت عليكم لأنها ) إذا جاءت لا يؤمنون ( بالخطاب في قراءة ابن عامر وحمزة ، والالتفات إلى الغيبة في قراءة غيرهم للإعلام بأنهم بعيدون من الإيمان فهم أهل للإعراض عنهم لما استحقوا من الغضب ، والتعليل عند من كسر ( أنها ) واضح .(2/695)
صفحة رقم 696
ولما كان التقدير : فإنا نطبع على قلوبهم ، ونزين لهم سوء أعمالهم ، عطف عليه قوله : ( ونقلب ) أي بما لنا من العظمة ) أفئدتهم ) أي قلوبهم حتى لا يهتدوا بها ) وأبصارهم ( حتى لا ينفعهم الإبصار بها ، فلا يعتبرون فلا يؤمنون ) كما لم يؤمنوا به ) أي بمثل ذلك ) أو لمرة ) أي عند إتيان الآيات التي قبل تلك ) ونذرهم ) أي نتركهم ) في طغيانهم ) أي تجاوزهم للحدود ) يعمهون ) أي يديمون التحير على أن الحال لما فيه من الدلالة لا يقتضي حيرة بوجه .
ولما أخبر أنهم لا يؤمنون عند آية مقترحة عمم على وجه مفصل لإجمال ما قبله فقال : ( ولو أننا ) أي على عظمتنا البالغة بما أشار إليه جمع النونات ) نزلنا ) أي على وجه يليق بعظمتنا ) إليهم الملائكة ) أي كلهم فرأوهم عياناً ) وكلمهم الموتى ) أي كذلك ) وحشرنا عليهم ) أي بما لنا من العظمة ) كل شيء قبلاً ( جمع قبيل جمع قبيلة في قراءة من ضم القاف والباء كرغيف ورغف ، أي جاءهم ذلك المحشور كله قبيلة قبيلة تترى ومواجهة ) ما كانوا ليؤمنوا ) أي على حال من الأحوال ) إلا أن يشاء الله ) أي إلا حال مشيئته لإيمانهم لأنه الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه ، فإذن لا عبرة غلا بمشيئته ، فالآية دامغة لأهل القدر ، ولا مدخل لآية ولا غيرها في ذلك ، فلا يطمع أحد في إيمانهم بغير ذلك ، ويقرب عندي - وإن بعُد المدى - أن يكون ) وأقسموا ( معطوفاً على قوله تعالى ) وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه ( وهذا من المتعارف في كلام البلغاء أن يحكي الإنسان جملة من كلام خصمه ، ثم يشرع في توهينها ، ويخرج إلى أمور - يجرّها المقام - كثيرة الأنواع طويلة الذيول جداً ، ثم يحكي جملة أخرى فيقول معجباً منه : وقال كذا وكذا ، ثم يشرع فيما يتعلق بذلك من النقد والرد ، ومما يؤيد ذلك توحيد ختمهما ، فختم الأولى ) ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( ) [ الأنعام : 37 ] وختم هذه ) ولكن أكثرهم يجهلون ) أي أهل جهل مطبوعون فيه ، يقسمون على الإيمان عند مجيء آية مقترحة ولا يشعرون أن المانع لهم من الإيمان إنما هو المشيئة وإلا لآمنوا بما جاءهم من الآيات ، فإنه كفاية في المبادرة إلى الإيمان ، والآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة على صدق الداعي بخرق العادة والعجز عن الإتيان بمثلها .
الأنعام : ( 112 - 113 ) وكذلك جعلنا لكل. .. . .
) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( ( )
ولما كان مضمون ما تقدم إثبات عداوة الكفار للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، كان كأنه قيل تسلية له وتثبيتاً لفؤاده : فقد جعلناهم أعداء لك لأنك عالم ، والجاهلون لأهل العلم أعداء(2/696)
صفحة رقم 697
) وكذلك ) أي ومثل ما جعلنا لك أعداء من كفار الإنس والجن ) جعلنا لكل نبي ) أي ممن كان قبلك ، وعبر عن الجمع بالمفرد - والمراد به الجنس - إشارة إلى أنهم يد واحدة في العداوة فقال : ( عدواً ( وبين أن المراد به الجنس ، وأنهم أهل الشر فقال مبدلاً : ( شياطين ) أي أشرار ) الإنس والجن ( المتمردين منهم ، وربما استعان شيطان الجن شيطان الإنس لقرب قلبه منه ، أم يكون نوعه إليه أميل ، وأشار إلى هوان أمرهم وسوء عاقبتهم بقوله : ( يوحي بعضهم ) أي الشياطين من النوعين ) إلى بعض ) أي يكلمه في خفاء ) زخرف القول ) أي مزينه ومنمقه .
ولما كان هذا يدل على أنه - لكونه لا حقيقة له - لولا الزخرفة ما قيل ، زاده بياناً بقوله : ( غروراً ) أي لأجل أن يغروهم بذلك ، أي يخدعوهم فيصيروا لقبولهم كلامهم كالغافلين الذين شأنهم عدم التحفظ ، والغرور هو الذي يعتقد فيه النفع وليس بنافع .
ولما كان أول الآية معلماً أن هذا كان بمشيئة الله وجعله ، أيد ذلك ومكنه في آخرها بأنه لو شاء ما كان ، وكل ذلك غيرة على مقام الإلهية وتنزيهاً لصفة الربوبية أن يخرج شيء عنها فيدل على الوهن ، ويجر قطعاً إلى اعتقاد العجز ، فقال : ( ولو شاء ( ولما كان في بيان أعدائه ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلطين عليه ، أشار إلى أن ذلك لإكرامه وإعزازه ، لا لهوانه ، فقال ) ربك ) أي بما له إليك من حسن التربية وغزير الإحسان مع ما له من تمام العلم وشمول القدرة ، أن لا يفعلوه ) ما فعلوه ) أي هذا الذي أنبأتك به من عداوتهم وما تفرع عليها .
ولما قرر أن هذا من باب التربية فعاقبته إلى خير ، سبب عنه قطعاً قوله : ( فذرهم ) أي اتركهم على أيّ حالة اتفقت ) وما يفترون ) أي يتعمدون كذبه واختلافه ، واذكر ما لربك عليك من العاطفة لتعلم أن الذي سلطهم على هذا في غاية الرأفة بك والرحمة لك وحسن التربية كما لا يخفى عليك ، فثق به واعلم أن له في هذا لطيف سريرة تدق عن الأفكار ، بخلاف الآيات الآتية التي عبر فيها باسم الجلالة ، فإنها في عظيم تجرئهم على مقام الإلهية .
ولم كان التقدير : ذرهم لتعرض عنهم قلوب الذين يؤمنون بالآخرة وليسخطوه ، وليعلموا ما هم له مبصرون وبه عارفون ، فترفع بذلك درجاتهم ، عطف عليه قوله : ( ولتصغى ) أي تميل ميلاً قوياً تعرض به ) إليه ) أي كذبهم وما في حيزه ) أفئدة ) أي قلوب ) الذين لا يؤمنون بالآخرة ) أي ليس في طبعهم الإيمان بها لأنها غيب ، وهم لبلادتهم واقفون مع الوهم ، ولذلك استولت عليهم الدنيا التي هي أصل الغرور ) وليرضوه ) أي بما تمكن من ميلهم إليه ) وليقترفوا ) أي يفعلوا بجهدهم ) ما هم(2/697)
صفحة رقم 698
مقترفون ( وهذه الجمل - كما نبه عليه أبو حيان - على غاية الفصاحة ، لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضى فيكون فعل الاقتراف ، فكأن كل واحد مسبب عما قبله .
الأنعام : ( 114 - 116 ) أفغير الله أبتغي. .. . .
) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ( ( )
ولما كان فيما تقدم الإخبار عن مغيب ، وهو أنهم لا يؤمنون عند مجيء الآيات المقترحة ، وكانت عادة العرب دعاء الأعداء والمخالفين إلى حاكم يفصل بينهم ، وكانوا إنما يفزعون في الأمور المغيبة إلى الكهان لما كانوا يكشفون لهم بما يقذف غليهم إخوانهم من الجان مما يسترقونه من السمع ، فيزيدونه كذباً كثيراً ، ثم لا يضرهم ذلك عندهم لذلك القليل الذي يصدقون فيه - كما ابتلينا به في هذا الزمان من الافتتان بمن يفعل مثل ذلك من المجانين والمتشبهين بهم ، وكانت الآيات التي فرغ منها قد أثبتت أن اتخاذهم غرور ، سبب عن ذلك وجو بنفي اتخاذهم غير الله لما اتصف به من إيحاء ما خالف إيحاءهم ، ففات القوى في إخباره عن حقائق الأمور مفصلة أحسن تفصيل في أساليب قصرت دونها سوابق الأفكار ، وكعّت عنها نوافذ الأفهام ، فثبتت به نبوته ووضحت رسالته ، فكان اقتراحهم ظاهراً في كونه نعنتاً لأنهم كذبوا بأعظم الآيات : القرآن ، ولم يؤمنوا به ، وطعنوا فيه بما زادهم فضائح ، فثبت أنه لا فائدة في إجابتهم إلى مقترحاتهم ، فكان الجواب - عما اقتضاه لسان حالهم من طلب التحاكم إلى أوليائهم ببليغ الإنكار عليهم بقوله : ( أفغير الله ) أي الملك الأعظم - على غاية من البلاغة لا تدرك ، والفاء فيه للسبب ، وإنما تقدمت عليها همزة الإنكار لاقتضائها الصدر ) أبتغي ) أي أطلب حال كون ذلك الغير ) حكماً ) أي يحكم بيني وبينكم ويفصل نزاعنا ؛ ثم استدل على هذا الإنكار بتفصيل الكتاب هذا التفصيل المعجز فقال : ( وهو ) أي والحال أنه لا غيره ) الذي أنزل إليكم ) أي خاصة نعمة علي بالقصد الأول وعليكم بالقصد الثاني ) الكتاب ) أي الأكمل المعجز ، وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء ) مفصلاً ) أي مميزاً فيه الحلال والحرام ، وغير ذلك من جميع الأحكام ، مع ما تفيده فواصل الآيات من اللطائف والمعارف الكاشفة لحقائق البدايات والنهايات ، ولقد اشتد الاعتناء في هذه السورة بالتنبيه على التفصيل لوقوع العلم من أرباب البصائر في الصنائع بأن من لا يحسن التفصيل لا يتقن التركيب .(2/698)
صفحة رقم 699
ولما كان التقدير : فأنتم وجميع أرباب البلاغة تعلمون حقيقته بتفصيله والعجز عن مثيله ، عطف عليه قوله : ( والذين ( ويجوز أن يكون جملة حالية ) آتيناهم ) أي بعظمتنا التي تعرفونها ويعرفون بها الحق من الباطل ) الكتاب ) أي المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور ) يعلمون ) أي لما لهم من سوابق الأنس بالكتب الإلهية ) أنه منزل ( .
ولما تقدم ذكر الجلالة الشريفة في حاق موضعه في سياق الحكم الذي لا يكون إلا مع التفرد بالكمال ، وكان هذا المقام بسياق الإنزال يقتضي الإحسان ، لم يضمر بل قال : ( من ربك ) أي المحسن إليك بما خصك به في هذا الكتاب من أنواع الفضائل ) بالحق ) أي الأكمل لما عندهم به ن البشائر في كتبهم ولما له من موافقتها في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب وتفيض الدموع وتصدع الصدور ، مع ما يزيد به على كتبهم من التفصيل بما يفهم معارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية والإعجاز بكل آية .
ولما كان أهل الكتاب يخفون ما عندهم من العلم ، ويقولون للمشركين : إنهم أهدى سبيلاً ، بما قد يوهم أنهم يعتقدون بطلانه ، أو أن الأمر ملبس عليهم ، سبب عن إخباره سبحانه قوله على طريق التهييج والإلهاب : ( فلا تكونن ) أي انف نفياً مؤكداً جداً أن تكون في وقت ما ) من الممترين ) أي العاملين عمل الشاك فيما أخبرناك به وإن زاد إخفاؤهم له وإظهارهم لما يوهم خلافه ؛ وإذا حاربتهم في ذلك وأنت أفطن الناس وأعرفهم بما يظهره المجاوزات من خفايا الأسرار - تحققت ما قلناه وإن اجتهدوا في الكتمان ، كما كشفت عنه قصة المناشدة في أمر الزانيين وغيرها ؛ وقال أبو حيان : قال مشركو قريش لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود ، وإن شئت من أساقفة النصارى ، ليخبرناعنك بما في كتابهم من أمرك فنزل .
ولما دل على كونه حقاً من عند الله بعلم أهل الكتاب صريحاً وأهل اللسان تلويحاً ، دل عليه بوجه آخر شهودي ، وهو أنه ما قال شيئاً إلا كان على وفق ما قال ، وأنه لم يستطع - ولا يستطيع أحد - منع شيء مما أخبر به ولا تعويقه ساعة من نهار ولا أقل ولا أكثر بقوله تعالى مظهراً في موضع الإضمار ، لتذكيره ( صلى الله عليه وسلم ) مبا له سبحانه من الإحسان ، والتنبيه على ما يريد به من التشريف والإكرام : ( وتمت ) أي نفذت وتحققت ) كلمة ربك ) أي المحسن إليك المدبر لأمرك حال كونها ) صدقاً ) أي لا يقدر أحد أن يبدي في شيء منها حيثاً بتخلف ما عن مطابقة الواقع .
ولما كان الصدق غير مناف للجور ، قال : ( وعدلاً ( ولما كان الصدق العدل قد(2/699)
صفحة رقم 700
لا يتم معه مراد القائل ، ولا ينفذ فيه كلام الآمر لمنع من هو أقوى منه ، أخبر أنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه ، تصريحاً بما أفهم مطلع الآية من التمام ، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتبركاً وتلذيذاً فقال : ( لا مبدل لكلماته ) أي من حيث إنها كلماته مطلقاً من غير تخصيص بنوع ما ، بل كل ما أخبرت به فهو كائن لا محالة ، رضي من رضي وسخط من سخط .
ولما كان المغير لشيء إنما يتم له ما يرد من التغيير بكون المغير عليه لا يعلم الأسباب المنجحة لما أراد ليحكمها ، والموانع العائقة ليبطلها ، قال عاطفاً على ما تقديره : فهو العزيز الحكيم : ( وهو ) أي لا غيره ) السميع ) أي البالغ السمع لجميع ما يمكن سمعه من الأقوال والأفعال ) العليم ) أي البالغ العلم لجميع ذلك ، فهو إذن الكامل القدرة النافذ الأمر في جميع الأسباب والموانع ، فلا يدع أحداً يغير شيئاً منها وإن دلس أو شبه .
ولما أجاب عن شبهات الكفار ، وبين صحة نبوته عليه السلام ، شرع في الحث على الإعراض عن جهل الجهال ، والإقبال على ذي الجلال ، فكان التقدير : فإن أطعته فيما أمرك به اهتديت إلى صراط الله الذي يتم لك بسلوكه جميع ما وعدك به ، عطف عليه قوله : ( وإن تطع ( ولما كانت أكثر الأنفس متقيدة بالأكثر ، أشار إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل مخلد إلى التقليد فقال : ( أكثر من في الأرض ) أي توجد طاعتك لهم في شيء من الأوقات بعد أن علمت أن أكثرهم إنما يتبع الهوى ، وأن أكثرهم فاسقون لا يعلمون لا يشكرون ) يضلوك عن سبيل الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إن ) أي لأنهم ما ) يتبعون ( في امورهم ) إلا الظن ) أي كما يظن هؤلاء جهلاً أن آباءهم كانوا على الحق .
ولما كان أكثر من يجزم بالأمور مبا دعاه إليه ظنه كذباً ، وكان الخارص يقال على الكاذب والمخمن الحازر ، قال : ( وإن هم ) أي بصميم ضمائرهم ) إلا يخرصون ) أي يجزمون بالأمور بحسب ما يقدرون ، فيكشف الأمر عن أنها كذب ، فيعرف الفرق بينك وبينهم في تمام الكلام ونفوذه نفوذ السهام ، أو تخلفه عن التمام ونكوصه بالسيف الكهام ، فلا يبقى شبهة في أمر المحق والمبطل .
الأنعام : ( 117 - 119 ) إن ربك هو. .. . .
) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( ( )(2/700)
صفحة رقم 701
ولما كان المقام للعلم الكاشف للحقائق المبين لما يتبع وما يجتنب ، قال معللاً لهذا الإخبار : ( إن ربك ) أي المحسن إليك بإنزال هذا الكتاب الكاشف للارتياب الهادي إلى الصواب ) هو ) أي وحده ) أعلم ( ولكون الحال شديد الاقتضاء للعلم ، قطعه عما بعده ليسبق إلى الفهم أنه أعلم من كل من يتوهم فيه العلم مطلقاً ثم قال : ( من ) أي يعلم من ) يضل ) أي يقع منه ضلال يوماً ما ) عن سبيله ) أي الذي بينه بعلمه ) وهو ) أي وحده ) أعلم بالمهتدين ( كما أنه أعلم بالضالين ، فمن أمركم باتباعه فاتبعوه ، ومن نهاكم عنه فاجتنبوه ، فمن ضل أرداه ، ومن اهتدى أنجاه ، فاستمسكوا بأسبابه حذراً من وبيل عقابه يوم حسابه .
ولما قدم سبحانه ما مضى من السوائب وما معها وفي المائدة مما يدين به أهل الجاهلية في أكل الحيوان الذي جر إليه الشرك ، وأتبعه بيان أنه لا ضرر على أهل الإيمان من دين أهل الضلال إذا اهتدوا ، وأتبع ذلك ما لاءمه ، وانتظم في سلكه ولاحمه ، حتى ظهر أي ظهور أن الكل مِلكه ومُلكه ، وأنه لا شريك له ، فوجب شكره وحده ، وكانوا مع ذلك قد كفروا نعمه تتعالى فاتخذوا معه شركاء ولم يكفهم ذلك حتى جعلوا لها مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، فكانوا بذلك المانعين الحق عن أهله ، ومانحين ما خولهم فيه من له الملك لما لا يملك ضراً ولا نفعاً ، وتاركين بعض ما أنعم عليهم به صاحب الحق رعاية لمن لا حق له ولا حرمة ، وكانت سنة الله تعالى قد جرت بأنه يذكر نفسه الشريفة بالوحدانية .
ويستدل على ذلك بخلق السماوات والأرض وما أودع فيهما لنا من المنافع وما أبدع من المرافق والمصانع ، ثم يعجب ممن أشرك به ، ثم يأمر بالأكل مما خلق تذكيراً بالنعمة ، ليكون ذلك داعية لكل ذي لب إلى شكره ، كما قال تعالى في البقرة عقب ) وإلهكم إله واحد (
77 ( ) إن في خلق السماوات والأرض ( ) 7
[ البقرة : 164 ] ثم قال
77 ( ) ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ( ) 7
[ البقرة : 165 ] ثم قال
77 ( ) يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ( ) 7
[ البقرة : 168 ] ؛ أجرى هذه السنة الجليلة في هذه السورة أيضاً ، فقال :
77 ( ) إن الله فالق الحب والنوى ( ) 7
[ الأنعام : 95 ] بعد
77 ( ) إني وجهت وجهي للذي فطر ( ) 7
[ الأنعام : 79 ] ثم
77 ( ) وجعلوا لله شركاء الجن ( ) 7
[ الأنعام : 100 ] ودل على أنه لا شريك له في مِلكه ولا مُلكه ، وختم بأنه لا حكم سواه ينازعه في حكمه أو يباريه في شيء من أمره ، وبين أن من آيها الهداية التي جعلها شرطاً لعدم ضرر يلحق من دين أهل الشرك ؛ فسبب عن جميع ما ذكرت قوله : ( فكلوا مما ذكر ) أي وقت الذبح ) اسم الله ) أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة فله كل شيء ) عليه ) أي كأن قائلاً لذلك سواء ذكر بالفعل أولا ، وعدل عن التعبير بما جعلته المراد ليفهم أن الذكر بالفعل مندوب إليه ، ولا يكونوا ممن بنى دينه على اتباع الأهوية والظنون الكاذبة ، فكأنه قيل : اتبعوا من يعرف الحق لأهله فإنه مهتد غير معرجين على غيره فإنه ضال ، (2/701)
صفحة رقم 702
والله أعلم بالفريقين ، فكونوا من المهتدين ، فكلوا مما خلق الله لكم حلالاً شاكرين لنعمته ، وإنما أطال هنا دون البقرة ما بين الجمل الكلام تقريراً لمضامينها وما يستتبعه واحتجاجاً على جميع ذلك لأنها سورة التفصيل ، وأتى بالذكر والمراد قبول المأكول له ، أي كلوا مما يقبل أن يسمى عليه على مقتضى ما شةعه ، وذلك هو الذي أحله من الحيوان وغيره سواء كان مما جعلوه لأوثانهم أولا ، دون ما مات من الحيوان حتف أنفه ، أو ذكر عليه اسم غير الله أو كان مما حرم أكله وإن ذبح وذكر عليه اسم الله ، فإنه لا يقبل التحليل بالتسمية ، فالتسمية في غير موضعها ، لورود النصوص بالتحريم ، ولا تتبعوا المشركين في منعهم أنفسهم من خير مما خلق الله لهم من الحرث والأنعام بتسميتهم إياه لآلهتهم التي لا غناء عندها ، ويكون ذلك حثاً على التسمية على جميع المأكول الحلال ، فتكون الآية كآية البقرة بزيادة .
ولما كان هذا الأمر لا يقبله إلا من زال دين الشرك وجميع توابعه من قبله ؛ قال : ( إن كنتم ) أي بما لكم من الجِِبِلَّة الصالحة ) بآياته ) أي عامة التي منها آيات التحليل والتحريم ) مؤمنين ) أي عريقين في وصف الإيمان ، وقد لاح بذلك حسن انتظام قوله : ( وما لكم ) أي أيّ شيء يكون لكم في ) ألا تأكلوا مما ذكر ) أي يقبل أن يذكر ) اسم الله ) أي الذي له كل شيء ) عليه ( فإن التسمية قائمة مقام إذنه ) وقد ) أي والحال أنه قد ) فصل لكم ) أي من قبل ذلك والخلق خلقه والأمر أمره ) ما حرم عليكم ) أي مما لم يحرم تفصيلاً واضح البيان ظاهر البرهان ) إلا ما اضطررتم إليه ) أي فإن الضرورة تزيل التفصيل عنه برده إلى ما كان عليه قبل التفصيل ؛ فيصير الكل حلالاً لا تفصيل فيه ، والمراد في هذه الآية مختلف باختلاف المخاطبين ، فأما من خوطب بها وقت الإنزال فالمراد بالتفصيل الذي ىتاه الآية الآتية أخير هذه فإنها نزلت جملة ، وكذا كل ما شاكلها مما أنزل بمكة قبل هذه السورة ، وكذا ما أخبر به ( صلى الله عليه وسلم ) في وحي متلو إذ ذاك ، ولعله نسخت تلاوته وبقي حكمه ، أو وحي غير متلو من جميع الأحاديث التي تقدمت على هذه السورة ، وأما من خوطب بها بعد ترتيبه على هذا الوجه فالمراد في حقه كما في البقرة والمائدة وغيرهما من السور الماضية - من الحلال والحرام .
ولما كان التقدير : من عمل بهذه الأوامر اهتدى بما نال من العلم وهم قليل ، عطف عليه قوله : ( وإن كثيراً ) أي من الناس ) ليضلون ) أي يقع منهم الضلال فيوقعون غيرهم فيه بنكوبهم عما دعت إليه أوامر الله وهدى إليه بيانه ، فيكونون بمعرض العطب ) بأهوائهم ) أي بسبب اتباعهم للهوى ؛ ولما كان الهوى - وهو ميل النفس - ربما كان موافقاً لما أدى إليه العم بصحيح الفكر وصريح العقل قال : ( بغير علم ) أي دعا إلى ذلك ممن له العلم من شريعة ماضية ممن له الأمر .
ولما كانوا ينكرون هذا ، أثبت لنفسه الشريفة ما هو مسلم عند كل أحد وقال دليلاً(2/702)
صفحة رقم 703
على صحة ما أخبر به : ( إن ربك ) أي المحسن إليك بإنزال هذا الكتاب شاهداً لك بإعجازه بالتصديق ) هو ) أي وحده ) أعلم ( وكان الموضع للإضمار فأظهر للتعميم والتنبيه على الوصف الذي أوجب لهم ذلك فقالك ) بالمعتدين ) أي الذين يتجاوزون الحدود مجتهدين في ذلك .
الأنعام : ( 120 - 122 ) وذروا ظاهر الإثم. .. . .
) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ( )
] ولما كان مما يقبل في نفسه في الجملة أن يذكر اسم الله عليه ما يحرم لكونه ملكاً للغير أو فيه شبهة ، نهى عنه على وجه يعم غيره ، فقال عطفاً على ( فكلوا ) ) وذروا ) أي اتركوا على أيّ حالة اتفقت وإن كنتم تظنونها غير صالحة ) ظاهر الإثم ) أي المعلوم الحرمة من هذا وغيره ) وباطنه ( من كل ما فيه شبهة من الأقوال والأفعال والعقائد ، فإن الله جعل له في القلب علامة ، وهو أن يضطرب عنده ولا يسكن كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر ) - أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إن الذين يكسبون الإثم ) أي ولو بأخفى أنواع الكسب ، مبا دل عليه تجريد الفعل ، وهو الإعتقاد للاسم الشريف .
ولما كان العاقل من خاف من مطلق الجزاء بني للمفعول قوله ) سيجزون ) أي بوعد لا خلف فيه ) بما ) أي بسبب ما ) كانوا ( بفاسد جبلاتهم ) يقترفون ) أي يكتسبون اكتساباً يوجب الفرق وهو أشد الخوف ويزيل الرفق ، وصيغة الافتعال للدلالة على أن أفعال الشر إنما تكون بمعالجة من النفس للفطرة الأولى السليمة .
ولما أمرهم بالأكل مما ينفعهم ويعينهم على شكره محذراً من أكل ما يعيش مرأى بصائرهم ، أتبعه نهيهم نهياً جازماً خاصاً عن الأكل مما يضرهم في أبدانهم وأخلاقهم ، وهو ما ضاد الأول في خلوه عن الاسم الشريف فقال ) ولا تأكلوا مما لم يذكر ) أي مما لا يقبل أن يذكر ) اسم الله ) أي الذي لا يؤخذ شيء إلا منه ، لأن له الكمال كله فله(2/703)
صفحة رقم 704
الإحاطة الكاملة ، وأشار بأداة الاستعلاء إلى الإخلاص ونفي الإشراك فقال : ( عليه ) أي لكون الله قد حرمه فصار نجس العين أو المعنى ، فصار مخبثاً للبدن والنفس مما ذكر عليه غير اسمه سبحانه بما دل عليه من تسميته فسقاً ، وتفسير الفسق في آية أخرى بما أهل به لغير الله وكذا ما كان في معناه مما مات أو كان حراماً بغير ذلك ، واسمه تعالى منزه عن أن يذكر على غير الحلال ، فإن ذكر عليه كان ملاعباً فلم يطهره ، وأما ما كان حلالاً ولم يذكر عليه اسم الله ولا غيره فهو حلال - كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : قالوا : يا رسول الله إن هنا أقواماً حديث عهد بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله أم لا قال : ( اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ) قال البغوي : ولو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح - انتهى .
ولما كان التقدير : فإنه خبيث في نفسه مخبث ، عطف عليه قوله : ( وإنه ) أي الأكل منه أو هو نفسه لكونه السبب ) لفسق ( فجعله نفس الفسق - وهو الخروج عما ينبغي إلى ما لا ينبغي - لأنه عريق جداً في كونه سببه لما تأصل عندهم من أمره وانتشر من شره ، وهذا دليل على ما أولت به لأن النسيان ليس بسبب الفسق ، والذي تركت التسمية عليه نسياناً ليس بفسق ، والناسي ليس بفاسق - كما قاله البخاري ، وإلى ذلك الإشارة بما رواه عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن قوماً يأتونّا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال : ( سموا عليه أنتم وكلوه ) ، قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر - انتهى .
فهذا كله يدل على أن المراد إنما هو كونه مما يحل ذبيحته ، وليس المراد اشتراط التسمية بالفعل .
ولما كانت الشبه ربما زلزلت ثابت العقائد ، قال محذراً منها : ( وإن الشياطين ) أي أخابث المردة من الجن والإنس البعيدين من الخير المهيئين للنشر المحترقين باللعنة من مردة الجن والإنس ) ليوحون ) أي يوسوسون وسوسة بالغة سريعة ) إلى أوليائهم ) أي المقاربين لهم في الطباع المهيئين لقبول كلامهم ) ليجادلوكم ) أي ليفتلوكم عما أمركم به بأن يقولوا لكم : ما قتله الله أحق بالأكل مما قتلتموه أنتم وجوارحكم - ونحو ذلك ، وأهل الحرم لا ينبغي أن يقفوا في غيره ، والغريب لا ينبغي أن يساويهم في الطواف في ثيابه ، والنذر للأصنام كالنذر للكعبة ، ونحو هذا من خرافاتهم التي بنوا أمرهم فيها على الهوى الذي هم معترفون بأنه مضل مضر ، ومبالغون في الذم باتباعه والميل إليه ، ويكفي في هدم جميع شبههم إجمالاً أن صاحب الدين ومالك الملك منع منها .(2/704)
صفحة رقم 705
ولما كان التقدير : فإن أطعتموهم تركتم الهدى وتبعتم الهوى ، وكان من المعلوم أن الهوى يعود إلى الشرك ، عطف على هذا قوله : ( وإن أطعتموهم ) أي المشركين تديناً بما يقولونه في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه والأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ، أو في شيء مما جادلوكم فيه ) إنكم لمشركون ) أي فأنتم وهم في الإشراك سواء كما إذا سميتم غير الله على ذبائحكم على وجه العبادة ، لأن من اتبع أمر غير الله فقد اشركه بالله كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه في قوله تعالى
77 ( ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ( ) 7
[ التوبة : 31 ] من أن عبادتهم لهم تحليلهم ما أحلوا وتحريمهم ما حرموا ، فنبه ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك على أن الأسماء تتبع المعاني ؛ قال شيخ الإسلام محيي الدين النووي الشافعي في باب الضحايا من كتاب الروضة : حكي في الشامل وغيره عن نص الشافعي أنه لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله كالمسيح لم تحل ؛ وفي كتاب القاضي ابن كنج أن اليهودي لو ذبح لموسى والنصراني لعيسى عليهما السلام أو للصليب حرمت ذبيحته ، وأن المسلم لو ذبح للكعبة أو لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فينبغي أن يقال : تحرم ، لأنه ذبح لغير الله تعالى ، قال : وخرّج أبو الحسن وجهاً آخر أنها تحل لأن المسلم يذبح لله ولا يعتقد في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما يعتقده النصراني في عيسى عليه السلام .
قال : وإذا ذبح للصنم لم تؤكل ذبيحته سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانياً ، وفي تعليقه للشيخ إبراهيم المروزي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله ، واعلم أن الذبح للمعبود باسمه نازل منزلة السجود له .
وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم ، العبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة ، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحل ذبيحته ، وكان فعله كفراً كمن سجد لغيره سجدة عبادة ، وكذا لو ذبح له ولغيره على هذا الوجه ، فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه - بأن ضحى أو ذبح للكعبة تعظيماً لها لأنها بيت الله تعالى أو لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا لا يجوز أن يمنع حل الذبيحة ، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل : أهديت للحرم أو للكعبة ، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان ، فإنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود ، ومثل هذا لا يوجب الكفر ، وكذا السجود لغير الله تذللاً(2/705)
صفحة رقم 706
وخضوعاً ، فعلى هذا إذا قال الذابح : بسم الله واسم محمد ، وأراد : أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد ، فينبغي أن لا يحرم ، وقول من قال : لا يجوز ذلك ، يمكن أن يحمل على أن اللفظ مكروه ، لأن المكروه يصح نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه ، وحكى الرافعي أنه وقعت في هذا منازعة بين أهل قزوين أفضت إلى فتنة في أنه تحل ذبيحته وهل يكفر بذلك قال : والصواب ما بينا ؛ قال الشيخ محيي الدين : ومما يؤيد ما قاله - أي الرافعي - ما ذكره الشيخ إبراهيم المروزي في تعليقه : قال : حكى صاحب التقريب عن الشافعي رحمه الله أن النصراني إذا سمى غير الله كالمسيح لم تحل ذبيحته ، قال صاحب التقريب : معناه أن يذبحها له .
فأما إن ذكر المسيح على معنى الصلاة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجائز ، قال : وقال الحليمي : تحل مطلقاً وإن سمى المسيح - والله أعلم ، ثم قال في المسائل المنثورة : الثالثة : قال ابن كج : من ذبح شاة وقال : أذبح لرضى فلان ، حلت الذبيحة ، لأنه لا ينصرف إليه بخلاف من تقرب بالذبح إلى الصنم ؛ وقال الروياني : إن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه فهو حلال ، وإن قصد الذبح لهم فحرام ؛ ومما يوضح لك سر هذا الانتظام ويزيده حسناً أن هذه الآيات كلها من قوله تعالى
77 ( ) إن الله فالق الحب والنوى ( ) 7
[ الأنعام : 100 ] إلى آخر السورة تفصيل لقوله تعالى في أول السورة
77 ( ) قل أغير الله اتخذ ولياً فاطر السماوات الأرض ( ) 7
[ الأنعام : 14 ] ، فلما ذكر إبداعه السماوات والأرض بقوله
77 ( ) إن الله فالق الحب والنوى ( ) 7
[ الأنعام : 95 ] ونحوه ، وأنكر اتخاذ من دونه بقوله
77 ( ) وجعلوا لله شركاء الجن ( ) 7
[ الأنعام : 100 ] وما نحا نحوه ، قال
77 ( ) فكلوا ( ) 7
[ الأنعام : 118 ] إشارة إلى
77 ( ) وهو يطعم ولا يطعم ( ) 7
[ الأنعام : 14 ] وقوله
77 ( ) و من كان ميتاً فأحييناه ( ) 7
[ الأنعام : 122 ] وقوله
77 ( ) فمن يرد الله أن يهديه ( ) 7
[ الأنعام : 125 ] ونحوهما إشارة إلى قوله
77 ( ) قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ( ) 7
[ الأنعام : 14 ] ، وقوله
77 ( ) ويوم نحشرهم جميعاً ( ) 7
[ الأنعام : 22 ] ونحوه مشير إلى
77 ( ) إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( ) 7
[ الأنعام : 15 ] .
ولما انقضى التفصيل عند قوله ) فسوف يعلمون ( شرع في تفصيلها ثانياً بقوله :
77 ( ) وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ( ) 7
[ الأنعام : 136 ] إلى آخرها ، والسر في الإعادة أن الشيء إذا أثبت أو نفي ، وأقيمت الدلائل على إثبات ما ثبت منه ونفي ما نفي ، ثم أعيد ذلك في أسلوب آخر ، كان أثبت في النفس وألصق بالقلب ، لا سيما إن كان في الأسلوب الثاني - كما هي عادة القرآن - زيادة في البيان وتنبيه على ما لم يتقدم أولاً ، ولا سيما إن كانت العبارة فائقة والألفاظ عذبة رائقة وأنت خبير بأن هذا كله دأب(2/706)
صفحة رقم 707
القرآن في أساليب الافتنان ؛ قال الغزالي في أوائل كتاب الجواهر في الفصل الذي فيه اشتمال الفاتحة على ثمانية أقسام : وقوله ثانياً ) الرحمن الرحيم ( إشارة إلى الصفة مرة أخرى ، ولا تظن أنه مكرر ، فلا مكرر في القرآن ، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة ، وذكر الرحمة بعد ذكر ) العالمين ( ، وقبل ذكر ) العالمين ( ، وقبل ذكر ) مالك يوم الدين ( ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفصيل مجاري الرحمة ثم ذكر ما حاصله أن إحداهما ملتفت إلى خلق كل عالم من العالمين على أكمل أنواعه وأفضلها وإيتائه كل ما احتاج إليه ، والثانية ملتفت غلى ما بعده بالإشارة إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد ، قال : وشرح ذلك يطول والمقصود أنه لا مكرر في القرآن ، وإن رأيت شيئاً مكرراً من حيث الظاهر فانظر إلى سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته - انتهى .
وفي ذلك نكتة أخرى ، وهي أن الرحمن مشير غلى ما قال من جهة الربوبية في الإيجادين : الأول والثاني ، والرحيم مشير بخصوصه بما ترضاه الإلهية إلى الإيجاد الثاني والإبقاء الثاني بالرحمة الجزائية وإلى ما يفهمه الخصوص من النعمة بمن لم يخصه الرحمة - كما مضت الإشارة إليه في الفاتحة .
ولما كان معنى التحذير من طاعة المشركين أنكم إن فعلتم كنتم قد رددتم أنفسكم إلى ظلام الضلال بعد أن منحتم نور الهداية ، فكان التقدير : أفمن كان هكذا كان كمن نصح لنفسه باتباع الأدلة وتوقي الشبه ، عطف عليه قوله : ( أو من كان ميتاً ) أي بالغرق في أمواج ظلام الكفر ، ليس لهم من ذواتهم إلا الجمادية بل العدمية ) فأحييناه ) أي بما لنا من العظمة بإشراق أنوار الإيمان على قبله الذي إن صلح صلح الجسد كله ، وإن فسد فسد الجسد كله ) وجعلنا ) أي بعظمتنا على وجه الخصوص ) له نوراً ) أي بالهداية إلى كل خير ) يمشي ( مستضيئاً ) به في الناس ( فيعرفون أفعاله وأخلاقه وأقواله ) كمن مثله ) أي الذي يمثل به ، وهو ما ينكشف بوجه الشبه روح لبه وخلاصة حال قلبه ، حال قلبه ، أو يكون المعنى : صفته أنه ) في الظلمات ) أي ما له من نفسه من ظلمة الجهل وظلمة ما ينشأ عنه من الهوى وظلمة ما نشأ عن الهوى من الكفر ، وإذا كان المثل الذي هو الأعلى من الممثول في شيء كان الممثول عريقاً فيه بطريق الأولى ، فلذلك قال : ( ليس بخارج ) أي ذلك المثل ) منها ) أي الظلمات بما زين له من سوء أعماله حتى صارت أحب إليه من نفسه وماله ، وإذا لم يخرج المثل من شيء لم يخرج الممثول منه وإلا لم تكن بينهما مماثلة ، وذلك لأنه زين له عمله ، وهي ناظرة إلى قوله أول السورة
77 ( ) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ( ) 7
[ الأنعام : 36 ] وقوله :
77 ( ) والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ( ) 7
[ الأنعام : 39 ] .(2/707)
صفحة رقم 708
ولما كان إيحاء الشياطين إلى أوليائهم مما يوجب لزوم العمى ليس إلاّ تزييناً للقبائح ، فكان حالهم مما يشتد العجب منه ، كان كأنه قيل : لولا رؤيتنا لحالهم ما صدقنا أن عاقلاً يرضى ما فعلوه بأنفسهم ، فهل وقع لأحد قط مثل حالهم ؟ فقيل : نعم ) كذلك ) أي مثل ما زين لهم سوء أعمالهم ) زين للكافرين ) أي كلهم ) ما كانوا ( بما جبلناهم عليه ) يعملون ( فهم أبداً في الظلمات ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً كونه في الظلمات دليلاً على تقديره ثانياً ، وثانياً التزيين دليلاً على تقديره أولاً .
الأنعام : ( 123 - 124 ) وكذلك جعلنا في. .. . .
) وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ( ( )
ولما كان معلوماً أن عداوتهم له ( صلى الله عليه وسلم ) المشار إليها بقوله ) وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً ( الآية ، لا يقوم بها إلا أكابر الناس ، لما كان عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من جلالة المنصب وشرف العشيرة وكثرة الأقارب وأنه لا يتمادى عليها إلا جاهل مطموس البصيرة مزين له قبيح أعماله ، عطف تعالى على التزيين للكافرين قوله : ( وكذلك ) أي مثل ما زينا للكافرين سوء أعمالهم ، فكان أكابر أهل مكة يمكرون فيتبع غيرهم مكرهم ) جعلنا ) أي بما لنا من العظمة في إقامة الأسباب لما يعلي كلمة الإنسان أو يجعله حقير الشأن ) في كل قرية ) أي بلد جامع ، ولما كان الكبر مختلف الأنواع باختلاف أشخاص المجرمين ، طابق بأفعال التفضيل المقصودين لها في الجمع على إحدى اللغتين ، وعبر بصيغة منتهى الجمع دلالة على تناهيهم في الكثرة فقال : ( أكبر مجرميها ) أي القاطعين لما ينبغي أن يوصل .
ولما كان من شأن الإنسان استجلاب أسباب الرفعة لنفسه ، وكان لا يصل إلى ذلك في دار ربط المسببات بحكمة الأسباب إلا بالمكر ، وكان الأكابر أقدر على إنفاذ المكر وترويج الأباطيل بما لأغلب الناس من السعي في رضاهم طمعاً فيما عندهم ، وكان الإنسان كلما تمكن من ذلك أمعن فيه ، وكان الكبير إنما يصل إلى ما قدر له من ذلك بتقدير الله له ؛ كان بما قدر له من ذلك كأنه خلقه له ، فقال معبراً بالجعل لما فيه من التصيير والتسبيب : ( ليمكروا فيها ) أي يخدعوا أصاغرهم ويغروهم بما يلبسون عليهم من الأمور حتى يتبعوهم فيعادوا لهم حزب الله .
ولما كان ذلك موجعاً وغائظاً محزناً ، قال تصغيراً لشأنهم وتحقيراً لأمرهم :(2/708)
صفحة رقم 709
) وما ) أي والحال أنهم ما ) يمكرون إلا بأنفسهم ( لأن عملهم بالمكر وبال عليهم موبق لهم ، ولأن مكرهم بأولياء الله إنما هو مكر بالله ، وذلك غير متأت ولا كائن بوجه من الوجوه ، وكيف يتأتى مكر من لا يعلم شيئاً من الغيب بمن يعلم جميع الغيب ) وما يشعرون ) أي وما لهم نوع شعور بأن مكرهم عائد على نفوسهم ، لأن الله تعالى الذي يعلم سرهم وجهرهم يجعل بما يزين لهم تدميرهم في تدبيرهم ، وإنما أجرى سنته الإلهية بذلك لما يشتمل عليه من أعلام النبوة ، فإن غلبة شخص واحج - بمفرده أو باتباع كثير منهم ممن لا يؤبه لهم مع قلة العدد وضعف المدد لرؤساء الناس وأقويائهم مع طول مكثه بينهم منابذاً لهم منادياُ عليهم بأن دينكم يمحى وديني يظهر وإن كرهتم - من خوارق الادات وبواهر الآيات تصديقاً لقوله تعالى :
77 ( ) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ( ) 7
[ المجادلة : 21 ]
77 ( ) وإن جندنا لهم الغالبون ( ) 7
[ الصافات : 173 ] - في أمثال ذلك .
ولما قرر هذا ، أتبعه بمقالة لهم تدل على تعظيمهم وتكبرهم فقال عاطفاً على
77 ( ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( ) 7
[ الأنعام : 109 ] تعجيباً من حالهم فيما زين لهم من ضلالهم ، وتصديقاً لما تقدم من الإخبار بأنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية إلاّ أن يشاء الله ؛ وتحقيقاً لما في الآية السالفة من مكرهم لغيرهم وعوده على أنفسهم : ( وإذا جاءتهم ) أي الكافرين من أكابر المجرمين وأتباعهم ) آية قالوا ( حسداً لمن خصه الله بالنبوة لكونهم أكابر مؤكدين للنفي لما لمعجزات الأنبياء عليهم السلام من العبر الموجب لظن الإذعان لأعتى أهل الكفران ) لن نؤمن ) أي أبداً ) حتى نؤتى ( لما لنا من العلو والعظمة المقتضية لأن لا يختص أحد عنا بشيء ) مثل ما ( .
ولما كان نظرهم مقصوراً على عالم الحس من غير نظر إلى جانب الله لكونه غيباً بنوا للمفعول قولهم : ( أوتي رسل الله ( يجوز أن يكون المراد : حتى يوحي إلينا لئلا يكونوا أعظم منا كما قال تعالى
77 ( ) بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتي صحفاً منشرة ( ) 7
[ المدثر : 52 ] وكما تقدم في أول السورة عن أبي جهل أنه قال : تنازعنا نحن وبنو عد مناف الشرف حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، ويحك متى ندرك هذا والله لا نؤمن به أبداً .
وأن يكون المراد إتيانه ( صلى الله عليه وسلم ) بمثل آيات الأولين من شق البحر واليد والعصا وإحياء الموتى ونحوها ، وسموهم تنزلاً واستهزاء ، وعبروا بالجلالة إشارة إلى القدرة التامة فلا عذر .
ولما ذكر اسم الجلالة إيذاناً بعظيم ما اجترؤوا عليه لعماهم - بما طمس على أنوار قلوبهم من ظلمات الهوى - عما للرسل من الجلال الذي يخضع له شوامخ الأنوف ، أعادها أيضاً تهويلاً للأمر وتنبيهاً على ما هناك من عظيم القدر ، فقال رداً عليهم فيما(2/709)
صفحة رقم 710
تضمن قولهم من دعوى التعلم بالحكمة والاعتراض على الله عز وجل : ( الله ) أي بما له من صفات الكمال ) أعلم ) أي من كل من يمكن منه علم ) حيث يجعل ) أي يصير بما يسبب من الأمور ) رسالته ) أي كلها بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الخلق فهو لا يضع شيئاً منها بالتشهي .
ولما كشف هذا النظم عن أنهم اجترؤوا عليه ، وأنهم أصروا على أقبح المعاصي الكفر ، لا لطلب الدليل بل لداء الحسد ؛ تاقت النفس إلى معرفة ما يحل بهم فقال جواباً : ( سيصيب ) أي بوعد لا خلف فيه ، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( الذين أجرموا ) أي قطعوا ما ينبغي أن يوصل ) صغار ) أي رضى بالذل لعدم الناصر ؛ ولما كان الشيء تعظم بعظمة محله ومن كان منه ذلك الشيء قال : ( عند الله ) أي الجامع لصفات العظمة ) وعذاب ) أي مع الصغار ) شديد ) أي في الدنيا بالقتل والخزي وفي لآخرة بالنار ) بما ) أي بسبب ما ) كانوا يمكرون ( .
الأنعام : ( 125 - 127 ) فمن يرد الله. .. . .
) فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ( )
ولما تقدم أنه تعالى أعلم بمن طبع على قلبه فلا ينفك عن الضلال ، ومن يقبل الهداية في الحال أو المآل ، وأن مكر المجرمين إنما هو بإرادته ونافذ قدرته ، علم أن الأمر أمره ، والقلوب بيده ، فتسبب عن ذلك قوله : ( فمن يرد الله ) أي الذي له جميع الجلال والإكرام ) أن يهديه ) أي يخلق الهداية في قلبه من أكابر المجرمين أو غيرهم ) يشرح صدره ) أي يوسعه بأن يجعله مهيئاً قابلاً بالنور ) للإسلام ( قال الإمام أبو جعفر النحاس : روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : يا رسول الله وهل ينشرح الصدر ؟ فقال : نعم ، يدخل القلب نور ، فقال : وهل لذلك من علامة ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل الموت ) ، وفي(2/710)
صفحة رقم 711
رواية : الفوت ) ومن يرد ) أي الله ، ولم يظهر هنا إشارة إلى أن الضلال على مقتضى الطبع ) أن يضله ) أي يخلق الضلال ويديمه في قلبه ) يجعل صدره ) أي الذي هو مسكن قلبه الذي هو معدن الأنوار ) ضيقاً حرجاً ) أي شديد الضيق فيكون مرتجساً أي مضطرباً ، روي أن عمر رضي الله عنه أحضر أعرابياً من كنانة من بني مدلج فقال له : ما الحرجة ؟ فقال : شجرة لا تصل إليها وحشية ولا راعية ، وساق البغوي القصة ولفظه : وقال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية لا وحشية ولا شيء - ثم اتفقا - فقال عمر رضي الله عنه : كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الإيمان و الخير ؛ وزاد البغوي : يقال سيبويه : الحرج - بالفتح المصدر ، ومعناه : ذا حرج ، وبالكسر الاسم وهو أشد الضيق ، وقال المهدوي : هنا الحرج الشديد الضيق وقد تقدم القول فيه ، وقال في النساء في قوله تعالى
77 ( ) ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ( ) 7
[ النساء : 65 ] أي ضيقاً ، وإلى هذا المعنى يرجع قول مجاهد : إنه الشك ، وقول الضحاك : إنه الإثم ، كأنه ضيق شك أو ضيق إثم ؛ وقال النحاس : ( حرجاً مما قضيت ) أي شكاً وضيقاً ، وأصل الحرج الضيق - انتهى .
وتحقيق ذلك أن الآية هنا فيها - بعد التأكيد بالإتيان بصيغة فعيل دون فاعل - تأكيد أخر إما بالمصدر أو باسم الفاعل ، فأفاد زيادة على أصل الفعل وهي الشدة فيه ، فمعنى الفتح : ضيقاً - بكسر الضاد وإسكان الياء ومعناه - إن كسرتَ حرجاً - ضيقاً بإعادة اسم الفاعل ، ومادة حرج بخصوص هذا الترتيب تدور على المكان الضيق الكثير الشجر ، ويلزمه الشخوص على وجه الأرض والارتفاع والجمع والمنع والشدة والحيرة والحر والبرد ، وهي - بأي ترتيب كان وهي خمسة : حرج جحر رجح حجر جرح - تدور على الحجر الذي هو الجسم المعروف ، ويلزمه الثقل والمنع والحدة والشخوص والصلابة التي هي القسوة ويلزمها الضيق ، فيرجع إلى الصلابة الحرجُ بمعنى الضيق ، والحرجة للغيضة ، ولحرج للقلادة من الودع ، والحرجوج للريح الشديدة الباردة ، والناقة الحرجوج للوقادة القلب ، ويجوز رجوعها إلى الحدة ، والجرح لسرير الموتى لضيق الصدر من ذكره ، ولضيقه عن أسرّة الأحياء ، ومنه أيضاً جحر الضب ونحوه للثقب المحتفر في الأرض ، ويرجع إلى الثقل الحرجُ بمعنى الإثم ، وينشأ عن ذلك البعث المفضي غلى الحيرة ، ومنه حرجت عينه ، أي حارت فلا تطرف ، ويلزم الثقل أيضاً الجرحُ بمعنى الطعن النافذ في البدن ، ومن ذلك اجترح - إذا اكتسب مالاً ، لأنه من آثاره ، ومنه الرجحان بمعنى الثقل ، والحكم الراجح الذي يوجب(2/711)
صفحة رقم 712
رزانة صاحبه ، ومنه الأرجوحة لأن كلاًّ من طرفيها يرجح بالآخر ، ويرجع إلى المنع الحجرُ بمعنى العقل وبمعنى الحضن والحرام والفرس الأنثى لأنها قد تمنع من الركوب للحمل أو الولد ، والحجر في المال ، والحجرة للناحية القريبة لأن الشيء إذا بعد عنك - ولو قدر باع - امتنع منك ، وكان التأنيث فيه لقربه ، ويرجع إلى الشخوص الحرجُ للناقة الطويلة ؛ وقال الإمام أبو الفتح بن جني رحمه الله في كتابه ( المحتسب في توجيه القراءات الشواذ ) عند قوله تعالى في هذه السورة ( وحرث حرج ) فيمن قرأ بتقديم الراء : إن جميع تراكيب هذه المادة الخمسة تلتقي معانيها في الضيق والشدة والاجتماع ، وإذا أنعمت النظر وتركت الملل والضجر وجدت الأمر كما قال - والله أعلم - نحو الحجر واستحجر الطين والحجرة وبقيته ، وكله إلى التماسك والضيق ، ومنه الحرج للضيق والجرح مثله ، والحرجة ما التف من الشجر فلم يمكن دخوله ، ومنه الحجر وبابه لضيقه ، ومنه الجرح لمخالطة الحديد للحم وتلاحمه عليه ، ومنه رجح الميزان - لأنه مال أحد شقيه نحو الأرض فقرب منها وضاق ما كان واسعاً بينه وبينها ، فإن قلت : فإنه إذا مال أحدهما إلى الأرض فقد بعد الآخر ؟ قيل : كلامنا على الراجح والراجح هو الذي إلى الأرض ، فأما الآخر فلا يقال له : راجح ، وإذا ثبت ذلك - وقد ثبت - فكذلك قوله تعالى ) وحرث حرج ( في معنى حجر ، معناه عندهم أنها ممنوعة محجورة لن يطعمها إلاّ من يسألون أن يطعموه إياها بزعمهم - انتهى .
ولما كان صاحب هذا الصدر لا يكاد الهداية تصل إليه ، وإن وصل غليه شيء منها على لسان واعظ ومن طريق مرشد ناصح لم تجد مسلكاً فنكصت ، وهكذا لا تزال في اضطراب وتردد أبداً ؛ كانت ترجمته قوله : ( كأنما يصعد ) أي يتكلف هذا الشخص في قبول الهداية الصعود ) في السماء ( في خفاء حياء من مزاولة ما لا يمكن ، بما أشار إليه قراءة من أدغم التاء في الصاد ، فكلما أصعدته حركته الاختيارية أهبطته حركته الطبيعية القسرية ، كما نرى بعض الحشرات يحمل شيئاً ثقيلاً ويصعد به في جدار أملس ، فيصير يتكلف ذلك فيقع ، ثم يتكلف الصعود ايضاً فربما وصل إلى مكانه الأول وسقط ، وربما سقط دونه ، فهو مما يمتنع عادة ، فلا يزال مرتجساً أي مضطرباً ومجامع الاضطراب عقبه بما بعده كما يأتي .
ولما كان ما وصف به صدر الضال مما ينفر منه ، وكان الرجس في الأصل لما يستقذر ، والمستقذر ينفر منه ، وكان هذا الكلام ربما أثار سؤالاً ، وهو أن يقال : هل هذا - وهو جعل الضال على هذه الصفة - خاص بأهل هذا الزمان ، أجيب بما حاصله : لا ، ) كذلك ) أي مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان ) يجعل(2/712)
صفحة رقم 713
الله ) أي بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة ) الرجس ) أي الاضطراب والقذر ) على الذين لا يؤمنون ( من أهل كل زمان لإرادته سبحانه دوام ضلالهم ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً الضلال دليلاً على حذفه ثانياً ، وذكر الرجس ثانياً دليلاً على حذفه أولاً ، والآية نص في أن الله يريد هدى المؤمن وضلال الكافر .
ولما ذكر ما ألزمه لأهل الضلال بلفظ ما يستقذر ، كان في غاية الحسن تعقيبه بالصراط ، فإنه مما يعشق لاستقامته وإضافته إلى الرب الذي له - مع استجماع الكمالات كلها - صفة العطف والإحسان واللطف ، وإضافة الرب إلى هذا الرسول الذي يعشق خلقه وخلقه كلُ من يراه أو يسمع به ، وأحسن من ذلك وأمتن أن مادة ( رجس ) تدور على الاضطراب الملزوم للعوج الملزوم للضلال المانع من الإيمان ، فلما مثل سبحانه حال الضال بحال المضطرب ، وأخبر أنه ألزم هذا الاضطراب كل من لا يؤمن ، أتبعه وصف سبيله بالاستقامة التي هي أبعد شيء عن الاضطراب الملزوم للعوج ، وكان التقدير : فهذا حال أهل الضلال ، فعطف عليه قوله : ( وهذا ) أي الذي ذكرناه من الشرائع الهادية في هذا القرآن التي ختمناها بأن الهادي المضل هو الله وحده ، لا الإتيان بالمقترحات ولو جاءت كل آية ) صراط ) أي طريق ) ربك ) أي المحسن إليك حال كون هذا الصراط ) مستقيماً ) أي لا عوج فيه أصلاً ، بل هو على منهاج الفطرة الأولى التي هي في أحسن تقويم بالعقل السليم الذي لم يشبه هوى ولم يشبه خلل في أن الأمر كله بيد الله لكيلا يزال الإنسان خائفاً من الله وراجياً له لأنه القادر على كل شيء ، وأما غيره فلا قدرة له إلاّ بتقديره لأنه خلق القوى والقدر عندنا وعند المعتزلة ، فلتكن الجزئيات كذلك لأن الخلق لا يتصور بغير علم ، وليس غير الله محيط العلم ؛ قال الإمام : فالآية التي قبلها من المحكمات ، فيجب إجراؤها على ظاهرها ، ويحرم التصرف فيها بالتأويل .
ولما كان جميع ما في هذا الصراط على منهاج العقل ليس شيء منه خارجاً عنه وإن كان فيه ما لا يستقل بإدراكه العقل ، بل لا بد له فيه من إرشاد الهداة من الرسل الآخذين على الله ، قال مبيناً لمدحه مرشداً إلى انتظامه مع العقل : ( قد فصلنا ) أي غاية التفصيل بما لنا من العظمة ) الآيات ) أي كلها فصلاً فصلاً بحيث تميزت تميزاً لا يختلط واحد منها بالآخر ) لقوم يذكرون ) أي يجهدون أنفسهم في التخلص من شوائب العوائق للعقل من الهوى وغيره - ولو على أدنى وجوه الاجتهاد بما يشير إليه الإدغام - ليذكروا أنه قال : ما من شيء ذكرناه إلاّ وقد أودعنا في عقولهم شاهداً عليه .
ولما كان التذكر - عند الآيات لا يكون إلاّ من أهل العنايات في طرق الهدايات ، (2/713)
صفحة رقم 714
قال مرغباً في التذكر فإنه سبب الفيض الإلهي على القلوب المهيأة له : ( لهم ) أي المتذكرين ) دار السلام ) أي الجنة ، أضافها سبحانه إليه زيادة في الترغيب فيها ، وخص هذا الاسم الشريف لأنه لا يلم بها شيء من عطب ولا خوف ولا نصب ؛ ثم زاد الترغيب فيها بقوله : ( عند ربهم ) أي في ضمان المحسن إليهم وحضرته بما هيأهم له ويسره لهم ) وهو ) أي وحده ) وليهم ) أي المتكفل بتولي أمورهم ، لا يكلهم إلى أحد سواه ، وهذا يدل على قربه منهم ، والعندية تدل على قربهم منه لما شرح من صدورهم بالتوحيد ؛ ولما كان ذلك ربما قصر على التذكر ، بين أن المراد منه التأدية إلى الأعمال فإنها معيار الصدق وميزانه فقال : ( بما ) أي بسبب ما ) كانوا ) أي كما جبلهم عليه ، فما كان ذلك إلاّ بفضله ) يعلمون ( .
الأنعام : ( 128 - 130 ) ويوم يحشرهم جميعا. .. . .
) وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ( ( )
ولما فصل سبحانه أحوال الفريقين ، وحض على التذكر تنبيهاً على أن كل ما في القرآن مما يهدي إليه العقل ، وذكر مآل المتذكرين فأفهم أن غيرهم إلى عطب ، لأنهم تولوا ما يضرهم لأنهم تبعوا شهواتهم ، وكان من المعلوم أنهم يعبدون غير مالكهم ، وأنه ما من عبد يخدم غير سيده بغير أمر سيده إلاّ عاتبه أو عاقبه ، هذا مركوز في كل عقل ؛ ذكر سبحانه ما يتقدم ذلك المآل من الأهوال في الأجل المسمى الذي أخفاه عنده وجعله من أعظم مباني هذه السورة ، وأبهمه في أولها ، وبيّن في أثنائها بعض أحواله مراراً في وجوه من أفانين البيان ، وهو يوم الحشر ، فذكر هنا سبحانه بعض أحوال الغافلين وبعض ما يقول لهم فيه وما يفعله معهم من عتاب وعقاب ، لطفاً بهم واستعطافاً إلى المتاب ، فقال جامعاً الفريقين ) ويوم ) أي اذكر في تذكرك يوم ) يحشرهم ) أي أهل ولايتنا وأهل عداوتنا ) جميعاً ( لا نذر منهم أحداً ) يا ) أي فنقول على لسان من نشاء من جنودنا لأهل عداوتنا تبكيتاً وتوبيخاً حين لا يكون لهم مدافعة أصلاً : ( معشر الجن ) أي المستترين الموحشين من مردة الشياطين المسلطين على الإنس ، وهم يرونهم من حيث لا ترونهم ) قد استكثرتم ) أي طلبتم وأوجدتم الكثرة ) من الإنس ) أي من إغواء(2/714)
صفحة رقم 715
المؤنسين الظاهرين حتى صار أكثرهم أتباعكم ، فالآية من الاحتباك : عبر بما يدل على الستر أولاً دلالة على ضده - وهو الظهور - ثانياً ، وبما معناه الاستئناس والسكون ثانياً دلالة على ضده وهو الإيحاش والنفرة - أولاً .
) وقال ( هو عطف على جواب الجن المستتر عن العامل في ( يا معشر ) الذي تقديره كما يهدي إليه الآيات التي تأتي في السورة الآتية في تفصيل هذه المحاورة : فقالوا : ربنا هم ضلوا ، لأنهم كانوا يستمعون بنا في نفوذهم وسماعهم الأخبار الغريبة منا ، فاستوجبوا العذاب بمفردهم ، وستر جواب الجن لأنه - مع كونه لا يخفى لدلالة المعطوف عليه - مناسب لحالهم في الاستتار مع شهرتهم ، وذكره بلفظ الماضي إشارة إلى تحقق وقوعه ، لأنه خبر من لا يخلف الميعاد ، والمراد بهذه المحاورة ضرب مما بأتي تفصيله بقوله
77 ( ) قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا ( ) 7
[ الأعراف : 38 ] - الآية ، وقوله ) فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً ( - الآية ) أولياؤهم ) أي الجن ) من الإنس ) أي الذين تولوهم بالاتباع والطاعة فيما دعوهم إليه من الضلال ، معترفين مستعطفين ) ربنا ( أيها المربي لنا المحسن إلينا ) استمتع ) أي طلب المتاع وأوجده ) بعضنا ببعض ( نحن بهم فيما قالوا ، وهم بنا في طاعتنا لهم وعياذنا بهم ) وبلغنا ) أي نحن وهم ) أجلنا ( وأحالوا الأمر على القدر فقالوا : ( الذي أجلت لنا ( وهو الموت الذي كتبته علينا وسويت بيننا في سوط قهره وتجرع كؤوس حره وقره ، ثم هذا اليوم الذي كنا مشتركين في التكذيب به ، فاستوجبنا العذاب كلنا .
ولما تم ذلك كان كأنه قيل : فما قال الله لهم بعد هذه المحاورة الغريبة التي هي ضرب من كلام أهل الباطن في الدنيا لجلج مضطرب لا حاصل له ؟ فقيل : ( قال ) أي المخاطب لهم عن الله ) النار مثواكم ) أي منزلكم جميعاً من غير أن تنفعكم الإحالة على القدر ) خالدين فيها ) أي إلى ما لا آخر له ، لأن الأعمال بالنية وقد كنتم على عزم ثابت أنكم على هذا الكفر ما بقيتم ولو إلى ما لا آخر له ، فالجزاء من جنس العمل .
ولما كان من المقرر أنه لا تمام لملك من يجب عليه شيء ويلزمه بحيث لا يقدر على الانفكاك عنه ، بين سبحانه أن ملكه ليس كذلك ، بل هو على غاية الكمال ، لا يجب عليه شيء بل كل فعله جميل ، وجميع ما يبدو منه حسن ، فعلق دوام عذابهم على المشيئة فقال : ( إلا ما شاء ( ولما كان القصد في هذه السورة إلى إظهار العظمة للغيرة على مقام الإلهية ، عبر بالاسم الأعظم فقال : ( الله ) أي الذي له رداء الكبر فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه ولا أن يهم بذلك ، هيهات هيهات انقطعت دون ذلك الآمال ، فطلت ناكسة أعناق الرجال ، وبيده إزار العز ، فمن اختلج في سره أن يرفع ناكس عنقه ضربه بمقامع الذل ، وأنزله في مهاوي الخزي ، وقد تقرر أنه سبحانه لا يشاء انقطاع(2/715)
صفحة رقم 716
شيء من ذلك عنهم في حال من الأحوال ، ونطق الكتاب بذلك في صرائح الأقوال ، وفي سوقه معلقاً هكذا مع ما تقدم زيادة في عذابهم بتعليق رجائهم من انقطاع بلائهم بما لا مطمع فيه .
ولما كان في إظهار الجلال في هذا الحال من عظيم الأهوال ما لا يسعه المقال ، أتبعه اللطف بالمخاطب به ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إن ربك ) أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك .
ولما كان السياق - في مثل هذه المقاولة في مجمع الحكم - للحكمة والعلم ، وكان النظر إلى الحكمة في تنزيل كل شيء منزلة أعظم ، قدم وصفها فقال : ( حكيم ) أي فلا يعذب المخلص ويترك المشرك ولا يعذب بعض من أشرك ويترك بعضاً ) عليم ) أي بدقائق الأمور وجلائلها من الفريقين ، فلا يخفى عليه عمل أحد فيهمله لذلك .
ولما استبان بهذا أنه ولّى الكفرة من ظالمي الجن ظالمي الإنس وسلطهم عليهم ، أخبر تعالى أن هذا عمله مع كل ظالم من أي قبيل كان سواء كان كافراً أو لا فقال : ( وكذلك ) أي ومثل تلك التولية التي سلطنا بها الجن على الإنس بما زاد عذاب الفريقين ) نولي ) أي نتبع في جميع الأزمان من جميع الخلق ) بعض الظالمين ) أي الغريقين في الظلم ) بعضاً ) أي بأن نجمع بين الأشكال ، في الأوصاف الباطنة والخصال ، ونسلط بعضهم على بعض في الضلال والإضلال ، والأوجاع والأنكال ) بما كانوا ( بجبلاتهم ) يكسبون ) أي بسبب اجتماعهم في الطباع التي طبعناهم عليها يجتمعون وينقاد بعضهم لبعض ، بحسب ما سببنا من الأسباب الملائمة لذلك الظلم الذي يسرناه لهم ، حتى صارت أعمالهم كلها في غير مواضعها ، فيظلم بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً ، وهم لا يزدادون إلا الالتئام حتى يستحق الكل ما كتبنا لهم من عذاب ؛ روى الطبراني في الأوسط ن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله عزّ وجلّ يقول : أنتقم ممن أبغض بمن أبغض ثم أصيّر كلاًّ إلى النار ) وعن مالك بن دينار قال : رأيت في بعض كتب الله المنزلة أن الله تعالى يقول : افني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي .
أو يقال : فقد أخبرنا أن الله عزّ وجلّ ولى المؤمنين بسبب محاسن أعمالهم ، ومثل ما ولاهم ليعزهم يولي بعض الظلمة بعضاً ليهينهم بسبب ما كانوا يتعاطونه من مساوئ الأعمال ورديء الخلال وغث الخصال فيؤديهم إلى مهلك(2/716)
صفحة رقم 717
الأوجاع والأوجال ، أو يقال : فقد بان أن كلاًّ من ظالمي الإنس والجن كان ولياً لكل ، وكما جعلنا بعضهم أولياء بعض في الدنيا نفعل إذا حشرناهم في النار فنجعل بعضهم أولياء - أي أتباع بعض ، ليستمتع بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً إن قدروا ، وهيهات منهم ذلك هيهات شغلهم البكاء والعويل والندم والنحيب .
ولما انقضت هذه المحاورة وما أنتجته من بغيض الموالاة والمجاورة وكان حاصلها أنها موالاة من ضرت موالاته ، أتبعها سبحانه بمحاورة أخرى حاصلها معاداة من ضرت معاداته ، فقال مبدلاً من الأولى إتماماً للتقريع والتوبيخ والتشنيع : ( يا معشر الجن ( قدمهم لأن السياق لبيان غلبتهم ) والإنس ( وبكتهم بقوله محذراً للسامعين الآن ومستعطفاً لهم إلى التوبة : ( ألم يأتكم رسل ( ولما صار القبيلان بتوجيه الخطاب نحوهم دفعة كالشيء الواحد قال : ( منكم ( وإن كان الرسل من الإنس خاصة .
ولما كان النظر في هذه السورة إلى العلم غالباً لإثبات تمام القدرة الذي هو من لوازمه بدليل
77 ( ) يعلم سركم وجهركم ( ) 7
[ الأنعام : 3 ] ،
77 ( ) أليس الله بأعلم بالشاكرين ( ) 7
[ الأنعام : 53 ]
77 ( ) وعنده مفاتح الغيب ( ) 7
[ الأنعام : 59 ] وغيرها ، ولذلك أكثر فيها من ذكر التفصيل الذي لا يكون إلاّ للعالم ، كان القص - الذي هو تتبع الأثر - أنسب لذلك فقال ) يقصون ( بالتلاوة والبيان لمواضع الدلائل ) عليكم آياتي ) أي يتبعون بالعلامات التي يحق لها بما لها من الجلال والعظمة أن تنسب إلى مواضع شبهكم ، فيحلونها حلاً مقطوعاً به ) وينذرونكم ) أي يخوفونكم ) لقاء يومكم هذا ) أي بما قالوا لكم أنه يطلبكم طلباً حثيثاً وأنتم صائرون إليه في سفن الأيام ومراكب الآثام وأنتم لا تشعرون سيراً سريعاً ) قالوا ( معذرين من أنفسهم بالذل والخضوع ) شهدنا ( بما فعلت بنا أنت سبحانك من المحاسن وما فعلنا نحن من القبائح ) على أنفسنا ) أي بإتيان الرسل إلينا ونصيحتهم لنا بدليل الآية الأخرى
77 ( ) قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ( ) 7
[ الزمر : 71 ] وبين أن ضلالهم كان بأردإ الوجوه وأسخفها الدنيا ، بحيث إنهم اغتروا بها مع دناءتها لحصورها عن الآخرة مع شرفها لغيابها فقال : ( وغرتهم ) أي شهدوا هذه الشهادة والحال أنهم قد غرتهم ) الحياة الدنيا ) أي الحاضرة عندهم إذ ذاك الدنية في نفسها لفنائها ، عن اتباع الرسل دأب الجاهل في الرضى بالدون والدابة في القناعة بالحاضر ، فشهادتهم ضارة بهم ، ولكن لم يستطيعوا كتمانها ، بل ) وشهدوا ) أي في هذا الموطن من مواطن القيامة الطوال ) على أنفسهم ( أيضاً بما هو أصرح في الضرر عليهم من هذا ، وهو ) أنهم كانوا ( جبلة وطبعاً ) كافرين ) أي غريقين في الكفر ، ويجوز أن يكون الغرور بأنهم ظنوا أحوال الآخرة تمشي على ما كانوا يألفونه في الدنيا من أن الاعتراف بالذنب والتكلم بالصدق قد ينفع المذنب ويكف من سورة المغضب(2/717)
صفحة رقم 718
حتى يترك العقاب ويصفح عن الجريمة ، فلذلك شهدوا بإتيان الرسل إليهم وإقامة الحجة عليهم ، وشهدوا على أنفسهم بالكفر ، فما زادهم ذلك إلا وبالاً وحزناً ونكالاً .
الأنعام : ( 131 - 135 ) ذلك أن لم. .. . .
) ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ( )
ولما ذكر سبحانه إقامة الحجة على الكافر في المعاد بالرسل عليهم السلام ، علل إرسالهم ترغيباً وحثاً في اتباعهم في أيام المهلة بعد ترهيب ، وتنبيهاً وإرشاداً في صادع تخويف وتأديب فقال : ( ذلك ) أي الأمر العظيم الجدوى هو أن أرسلنا الرسل ) أن ) أي لأجل أنه ) لم يكن ربك ) أي المحسن إليك بتشريف قومك ) مهلك ) أي ثابتاً إهلاكه ) القرى بظلم ) أي بسبب ظلم ارتكبوه ) وأهلها غافلون ) أي غريقون في الغفلة عما يجب عليهم مما لا تستقل به عقولهم ، أي بما ركب فيهم من الشهوات وغلب عليهم من اللذات ، فأوقف عقولهم عن نافذ المعرفة بما يراد بهم ، فأرسلنا إليهم الرسل حتى أيقضوهم من رقدتهم وأنبهوهم من غفلتهم ، فصار تعذيبهم بعد تكذيبهم هو الحق الواجب والعدل الصائب ، ويجوز أن يكون المعنى : مهلكهم ظالماً ، فيكون المنفي من الظلم كالمنفي في قوله تعالى ) ) وما ربك بظلام للعبيد ( ) [ فاطر : 46 ] وعلى الأول المنفي ظلمهم .
ولما بيّن سبحانه أن لأحد الفريقين دار السلام ، والآخر دار الملام ، قال جامعاً للفريقين عاطفاً على قوله ) ) لهم دار السلام عند ربهم ( ) [ الأنعام : 127 ] : ( ولكل ) أي عامل من الفريقين صالح أو طالح في قبيلي الجن والإنس في الدارين ) درجات ) أي يعليهم الله بها ) مما ) أي من أجل ما ) عملوا ( ودركات يهويهم فهيا كذلك .
ولما تقدم أنه تعالى لا يهلك المجرمين إلاّ بعد الإعذار إليهم ، وتضمن ذلك إمهالهم ، وختم أحوالهم بأنهم موضع لثبوت الغفلة ودوامها ، نفى أن يسلم شيء من ذلك بجناب عظمته على وجه أثبت له ذلك إحاطة العلم بجميع أعمالهم فقال : ( وما ربك ) أي المحسن إليك بإعلاء أوليائك وإسفال أعدائك ، وأغرق في النفي لإثبات مزيد العلم فقال : ( بغافل عما يعملون ) أي عن شيء يعمله أحد من الفريقين ، بل هو(2/718)
صفحة رقم 719
عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل قادر على جزائه ، فلا يقع في وهم أن الإمهال لخفاء الاستحقاق بخفاء الموجب له ، فالآية من النصوص في كتابة الصالحين من الجن .
ولما كان طلب العبادة للائتمار والانتهاء ربما أوهم الحاجة إليها لنفع في الطاعة أو ضرر يلحقه سبحانه من المعصية ، وكان الإمهال مع المبارزة ربما ظن أنه عن عجز ، قال مرغباً مرهباً : ( وربك ) أي المحسن إليك وإليهم بغرسالك ، وحصر الخير في المبتدإ بقوله : ( الغني ) أي وحده الغني المطلق عن كل عابد وعبادته ، فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها ) ذو الرحمة ) أي وحده بلإمهال والإرسال للتنبيه على ما يستحقه من الأعمال ؛ وملا كان اختصاصه بالغنى والرحمة فلا رحمة إلا منه ولا غنى إلا عنه ، وأنه ما رتب الثواب والعقارب إلا رحمة منه وجوداً ، استأنف بيان ذلك ، وأخبر عن هذا المبتدإ بوصفيه عند من جعلها وصفين بقوله مصرحاً بما أفاده : ( إن يشأ يذهبكم ) أي جميعاً بالإهلاك ، فلا يقع في ظن أحد منكم أن الإهلاك متوقف على شيء غير مشيئته ، ولكنه قضى بإمهالكم إلى آجالكم رحمة لكم وإكراماً لنبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ ثم قال تحقيقاً لغناه أيضاً : ( ويستخلف ( .
ولما كان لم يجعل لأحد الخلد ، أدخل الجار فقال : ( من بعدكم ) أي بعد هلاككم ) ما يشاء ) أي يبدع غيركم من الخلق من جنسكم أو غير جنسكم كما أبدع أباكم آدم من التراب والتراب من العدم وفرعكم منه ) كما أنشأكم من ذرية ) أي نسل ) قوم آخرين ) أي بعد أن أهلكهم أجمعين ، وهم أهل السفينة وقد كنتم نطفاً في أصلابهم ، لم يكن في واحدة منها حياة .
ولما تقرر أن له الوصفين الملزومين للقدرة ، أنتج ذلك قوله جواباً لاستعجالهم بالعذاب استهزاء : ( إن ما توعدون ) أي من البعث وغيره ) لآت ) أي لا بد من وقوعه لأن المتوعد لا يبدل القول لديه ولا كفوء له يعارضه فيه ) وما أنتم بمعجزين ) أي بثابت لكم الإتيان بشيء يعجز عنه الخصم ، فتمهد الأمر من جهته ومن جهتكم لوجود المقتضي وانتفاء المانع ، وفي ذلك تقرير لأمر رحمته لأن القادر إذا اراد النقمة أخذ على غرة ولم يهدد ، وإذا أراد الرحمة تقدم بالوعيد ليحذر الفائزون ويستسلم الخاسرون .
ولما تقرر ذلك من التهديد على إنكار البعث وتحرر ، فأنتج الاجتهاد للعاقل - ولا بد - في العمل ، وكان أكثر الخلق أحق ، أمره سبحانه بالنصيحة بقوله : ( قل يا قوم ) أي يا أقرب الخلق إليّ وأعزهم عليّ ومن لهم قيام في الأمور وكفاية عند المهمات ) اعملوا ( وأشار إلى مزيد القوة بعد التعبير بالقوم بحرف الاستعلاء فقال : ( على(2/719)
صفحة رقم 720
مكانتكم ) أي على ما لكم من القدرة على العمل والمكنة قبل أن تأتي الدواهي وتسبقكم القواصم بخفوق الأجل ، وفيه مع النصيحة تخويف أشد مما قبله ، لأن تهديد الحاضر على لسان الغير مع الإعراض أشد من مواجهته بالتهديد ، أي أنكم لم تقبلوا بذلك التهديد الأول كنتم أهلاً للإعراض والبعد .
ولما كان أدل شيء على النصيحة مبادرة الناصح إلى مباشرة ما نصح به ودعا إليه ، قال مستانفاً أو معللاً : ( إني عامل ) أي على مكانتي وبقدر استطاعتي قبل الفوت بحادث الموت ، ويمكن أن يكون متمحضاً للتهديد ، فيكون المعنى : اعملوا بما أنتم تعملونه الآن من مخالفتي بغاية ما لكم من القوة ، إني كذلك أعمل فيما جئت به .
ولما كان وقوع المتوعد به سبباً للعلم بالعاقبة ، وكان السياق لعدم تذكرهم وغرورهم وقلة فطنتهم ، حسن إثبات الفاء في قوله : دون إسقاطها لأن الاستئناف يتعطف للسؤال فقال : ( فسوف تعلمون ) أي يقع لكم بوعد لا خلف فيه العلم ، فكأنه قيل : أيّ علم ؟ فقيل : ( من تكون له ( كوناً كأنه جبل عليه ) عاقبة الدار ) أي بيني وبينكم ، وهذا في إثبات الفاء بخلاف ما في قصة شعيب عليه السلام من سورة هود عليه السلام في حذفها ؛ ولما كان التقدير جواباً لما تقرر من سؤالهم : عاقبة الدار للعامل العدل ، استأنف قوله : ( إنه لا يفلح الظالمون ) أي الغريقون في الظلم كائنين من كانوا ، فلا يكون لهم عاقبة الدار ، فالآية من الاحتباك : ذكرُ العاقبة أولاً دليل على حذفها ثانياً ، وذكر الظلم ثانياً دليل على حذف العدل أولاً .
الأنعام : ( 136 - 137 ) وجعلوا لله مما. .. . .
) وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( ( )
ولما تمت هذه الآيات من قبح طريقتهم في إنكار البعث وحسن طريقة الإسلام على هذا الأسلوب البديع والمثال البعيد المنال الرفيع وختمت بحال الظالم ، شرع في تفصيل قوله ) ) أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض ( ) [ الأنعام : 14 ] على أسلوب آخر ابتدأه ببيان ظلمهم وجهالاتهم وأباطيلهم تنبيهاً على سخافة عقولهم تنفيراً عنهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها وإخراجها عمن هي له ونسبتها إلى من لا يملك شيئاً(2/720)
صفحة رقم 721
وقتل الأولاد وتسييب الأنعام وغير ذلك ، فقال عاطفاً على
77 ( ) وجعلوا لله شركاء الجن ( ) 7
[ الأنعام : 100 ] : ( وجعلوا ) أي المشركون العادلون بربهم الأوثان ) لله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ) مما ذرأ ) أي خلق وأنشأ وبث ولم يشركه في خلقه أحد ) من الحرث والأنعام نصيباً ) أي وجعلوا لشركائهم نصيباً ؛ ولما كان الجعل لا يعرف إلا بالقول ، سبب عنه قوله : ( فقالوا ) أي بألسنتهم بعد أن قالوا بأفئدتهم ) هذا لله ) أي الملك الأعلى ) بزعمهم ) أي ادعائهم الباطل وتصرفهم بكذب ادعائهم التخصيص بالله ، ولذا أسقط الزعم من قوله : ( وهذا لشركائنا ) أي وليس لهم سند في هذه القسمة إلا أهوائهم .
ولما كان هذا سفهاً بتسويتهم من لا يملك شيئاً بمن يملك كل شيء ، بين من فعلهم ما هو أشد سفهاً منه بشرح ما لوح إليه العبير بالزعم فقال مسبباً عن ذلك ومفرعاً : ( فما كان لشركائهم ) أي بزعمهم أنهم شركاء ) فلا يصل إلى الله ) أي الذي هو المالك مع اتصافه بصفات الجلال والجمال ) وما كان لله ) أي على ما له من الكبر والعظمة والجلال والعزة ) فهو يصل إلى شركائهم ( فإذا هلك ما سموا لشركائهم أو أجدب وكثر ما لله قالوا : ليس لآلهتنا بد من نفقة ، فأخذوا ما لله فأنفقوه على آلهتهم ، وإذا أجدب الذي لله وكثر ما لآلهتهم قالوا : لو شاء الله لأزكى الذل له ، فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة .
ولما بلغ هذا غاية السفه قال : ( ساء ما يحكمون ) أي حكمهم هذا أسوأ حكم ؛ ذكر الإمام أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي في سيرته في وفد خولان أنه كان لهم صنم يسمى عم أنس ، وأنهم لما وفدوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكروا له أنهم كانوا يجعلون من أنعامهم وحروثهم جزءاً له وجزءاً لله بزعمهم ، قالوا : كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعاً آخر حجرة لله عزّ وجلّ ، فإذا مالت الريح بالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس ، وإذا مالت الريح بالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله ، فذكر لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله عزّ وجلّ أنزل عليه في ذلك ) وجعلوا لله ( الآية ، قالوا : وكنا نتحاكم إليه فيتكلم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( تلك الشياطين تكلمكم ) ، قالوا : فأصبحنا برسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ولا يذري من عبده ممن لم يعبده .
وقال ابن هشام في مقدمة السيرة إنهم كانوا يقسمون له ، فما دخل في حق عم أنس من(2/721)
صفحة رقم 722
حق الله الذي سموه له تركوه له ، وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه ، قال : وهم بطن من خولان يقال لهم الأديم ؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره : أخبرنا معمر عن قتادة قال : كانوا يعزلون من أموالهم شيئاً فيقولون : هذا لله وهذا لأصنامهم ، فإن ذهب شيء مما جعلوا لشركائهم يخالط شيئاً مما جعلوه ردوه ، وإن ذهب شيء مما جعلوه لله يخالط شيئاً مما جعلوه لشركائهم تركوه ، وإن أصابتهم سنة أكلوا مما جعلوا لله وتركوا ما جعلوا لشركائهم ، فقال عزّ وجلّ ) ساء ما يحكمون ( وقال البغوي : كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً ، فما جعلوه لله صرفوه للضيفان والمساكين ، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها ، فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا : إن الله غني عن هذا ، وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فميا جعلوه لله ردوه إلى الأوثان وقالوا : إنها محتاجة ، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به ، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله .
ولما كان هذا متضمناً لأنهم نقصوا أموالهم بأنفسهم في غير طائل فجعلوها لمن لا يستحقها ، نبه تعالى على أن ذلك تزيين من أضلهم من الشياطين من سدنة الأصنام وغيرهم من الإنس ومن الجن المتكلمين من أجواف الأصنام وغيرهم ، فقال منبهاً على أنهم زينوا لهم ما هو أبين منه ) وكذلك ) أي ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم ) زين لكثير من المشركين ( .
ولما كان المزين لخسته أهل لأن لا يقبل تزيينه ولا يلتفت إليه ، فكان امتثال قوله غريباً ، وكان الإقدام على فعل الأمر المزين أشد غرابة ، قدمه تنبيهاً على ذلك فقال : ( قتل أولادهم ) أي بالوأد خشية الإملاق والنحر لآلهتهم ، وشتان بين من يوجد لهم الولد ويرزقه والرزق ويخلقه وبين من لا يكون إلا سبباً في إعدامه ؛ ولما كان في هذا غاية الغرابة تشوفت النفس إلى فاعل التزيين فقال : ( شركاؤهم ) أي وهم أقل منهم بما يخاطبون به من أجواف الأصنام وبما يحسن لهم السدنة والأهوية بسبب الأصنام .
ولما كان هذا أمراً معجباً ، كان الأمر في قراءة ابن عامرالمولود في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المشمول ببركة ذلك العصر الآخذ عن جلة من الصحابة الموصوف بغزارة العلم ومتانة الدين وقوة الحفظ والضبط وحجة النقل في إسناد الفعل إلى الشركاء بإضافة المصدر إلى فاعله أعجب ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول - وهو الأولاد - لأن وقوع القتل فيهم كما تقدم أعجب .(2/722)
صفحة رقم 723
ولما كان ذلك ربما كان لفائدة استهين لها هذا الفعل العظيم ، ذكر أنه ليس له فائدة إلا الهلاك في الدنيا والدين الذي هو هلاك في الآخرة ليكون ذلك أعجب فقال : ( ليردوهم ) أي ليهلكوهم هلاكاً لا فائدة فيه بوجه ) وليلبسوا ) أي يخلطوا ويشبهوا ) عليهم دينهم ) أي وهو دين إبراهيم الذي أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فما أقدم عليه إلاّ بأمر الله ثم إنه فداه ولم يمض ذبحه ، فخالف هؤلاء عن أمر الشركاء الأمرين معاً فجمعوا لهم بذلك بين إهلاكين : في النفس والدين ، فان القتل في نفسه عظيم جداً ، ووقوعه تديناً بغير أصل ولا شبهة أعظم ، فلا أضل ممن تبع من كان سبباً لإهلاك نفسه ودينه .
ولما كان العرب يدعون الأذهان الثاقبة والأفكار الصافية والآراء الصائبة والعقول الوافرة النافذة ، ذكر لهم ذلك على سبيل التعليل استهزاء بهم ، يعني أنهم فعلوا ذلك لهذه العلة فلم يفطنوا بهم ولم يدركوا ما أرادوا بكم مع أنهم حجارة ، فأنتم أسفل منهم ؛ وملا أثبت للشركاء فعلاً هو التزيين ، وكان قد نفي سابقاً عنهم وعن سائر أعداء الأنبياء الاستقلال به ، وأناط الأمر هناك - لأن السياق للأعداء - بصفة الربوبية المقتضية للحياطة والعناية ، وكان الكلام هنا في خصوص الشركاء ، علق الأمر باسم الذات الدال على الكمال المقتضي للعظمة والجبروت والكبر وسائر الأسماء الحسنى على وجه الإحاطة الجلال فقال : ( ولو شاء الله ) أي بما له من العظمة والإحاطة بجميع أوصاف الكمال المقتضية للعلو عن الأنداد والتنزه عن الشركاء والأولاد أن لا يفعله المشركون ) ما فعلوه ) أي ذلك الذي زين لهم ، بل ذلك إنما هو بإرادته ومشيئه احتراساً من ظن أنهم يقدرون على شيء استقلالاً ، وتسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتخفيفاً ، وأكد التسلية بقوله : ( فذرهم وما يفترون ) أي يتقولون من الكذب ويتعمدونه .
الأنعام : ( 138 - 139 ) وقالوا هذه أنعام. .. . .
) وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ ( ( )
ولما ذكر إقدامهم على ما قبحه الشرع ، ولامه على تقبيحه العقلُ من قتل الأولاد ، أتبعه إحجامهم عما حسنه الشرع من ذبح بعض الأنعام لنفعهم ، وضم غليه جملة مما منعوا أنفسهم منه ودانوا به لمجرد أهوائهم فقال : ( وقالوا ) أي المشركون سفهاً وجهلاً(2/723)
صفحة رقم 724
) هذه ( إشارة إلى قطعة من أموالهم عينوها لآلهتهم ) أنعام وحرث حجر ) أي حرام محجور عليه فلا يصل أحد إليه ، وهو وصف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ) لا يطعمها ) أي يأكل منها ) إلا من نشاء ) أي من السدنة ونحوهم ) بزعمهم ) أي بتقولهم بمجرد الهوى من غير سند عن الله الذي له ملكوت السماوات والأرض ، وهم كاذبون في هذا الزعم في أصل التحريم وفي نفوذ المنع ، فلو أراد الله أن تؤكل لأكلت ولم يقدروا على منع ) وأنعام ( .
ولما كان ذمهم على مجرد التجريم لا على كونه من معين ، بني للمجهول قوله : ( حرمت ظهورها ( يعني البحائر وما معها فلا تركب ) وأنعام لا يذكرون ) أي هؤلاء المتقولون على الله ) اسم الله ( الذي حاز جميع العظمة ) عليها ) أي في الذبح أو غيره ) افتراء ) أي تعمداً للكذب ) عليه ( .
ولما كان هذا لعظمه من جهة أنه تعمد للكذب على ملك الملوك موضع تشوف السامع إلى ما يكون عنه ، استأنف قوله : ( سيجزيهم ) أي بوعد صادق لا خلف فيه ) بما ) أي بسبب ما ) كانوا ( أ يجبلة وطبعاً ) يفترون ) أي يتعمدون من الكذب ، أما بعد إظهار الحق فواضح ، وأما قبله فلكونه في غاية ما يكون من ظهور الفساد .
ولما ذكر من سفههم ما فيه إقدام محض وما فيه إحجام خالص محت ، أتبعه ما هو مختلط منهما فقال : ( وقالوا ) أي المشركون أو بعضهم وأقره الباقون ) ما في بطون هذه ( إشارة إلى ما اقتطعوه لآلهتهم ، وبينوه بقولهم : ( الأنعام ) أي من الأجنة ) خالصة ) أي خلوصاً لا شوب فيه ، أنث للحمل على معنى الأجنة ، أو تكون التاء للمبالغة أو تكون مصدراً كالعافية ، أي ذو خالصة ) لذكورنا ( ؛ ولما كان المراد العراقة في كل صفة ، أتى بالواو فقال : ( ومحرم ( وحذف الهاء إما حملاً على اللفظ أو تحقيقاً لأن المراد ب ( خالصة ) المبالغة ) على أزواجنا ) أي إناثنا ، وكأنه عبر بالأزواج بياناً لموضع السفه بكونهن شقائق الرجال ، هذا إن ولد حياً ) وإن يكن ) أي ما في بطونها ) ميتة ( وكأنه أثبت هاء التأنيث مبالغة ، وأنث الفعل أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر عن عاصم حملاً على معنى ( ما ) ورفع الاسم على التمام ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ، وذكر ابن كثير لأن التأنيث غير حقيقي ، ونصب الباقون على جعلها ناقصة مع التذكير حملاً على لفظ ( ما ) ) فهم ) أي ذكورهم وإناثهم ) فيه ) أي ذلك الكائن الذي في البطون ) شركاء ) أي على حد سواء .
ولما كان ذلك كله وصفاً منهم للأشياء في غير مواضعها التي يحبها الله قال : ( سيجزيهم وصفهم ) أي بأن يضع العذاب الأليم في كل موضع يكرهون وصفه فيه ، (2/724)
صفحة رقم 725
حتى يكون مثل وصفهم الذي لم يزالوا يتابعون الهوى فيه حتى صار خلقاً لهم ثابتاً فهو يريهم وخيم أثره ، ثم علل ذلك بقوله : ( إنه حكيم ) أي لا يجازى على الشيء إلا بمثله ويضعه في أحق مواضعه وأعدلها ) عليم ) أي بالمماثلة ومن يستحقها وعلى أيّ وجه يفعل ، وعلى ايّ كيفية يكون أتم وأكمل ، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن هذه الأشياء في غاية البعد عن الحكمة ، فهو متعال عن أن يكون شرعها وهي سفه محض لا يفعلها إلاّ ظالم جاهل .
الأنعام : ( 140 - 141 ) قد خسر الذين. .. . .
) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( ( )
ولما ذكر تعالى تفاصيل سفههم ، وأشار إلى معانيها ، جمعها - وصرح بما أثمرته من الخيبة - في سبع خلال كل واحدة منها سبب تام في حصول الندم فقال : ( قد خسر ( وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( الذين قتلوا ( قرأها ابن عامر وابن كثير بالتشديد لإرادة التكثير والباقون بالتخفيف ) أولادهم سفهاً ) أي خفة إلى الفعل المذموم وطيشاً ، تؤزهم الشياطين الذين يتكلمون على ألسنة الأصنام أو سدنتها إلى ذلك أزاً .
ولما كان السفه منافياً لرزاننة العلم الذي لا يكون الفعل الناشئ عنه إلا عن تأن وتدبر وتفكر وتبصر ، قال مصرحاً بما أفهمه : ( بغير علم ) أي وأما من قتل ولده بعلم - كما إذا كان كافراً أو قاتلاً أو محصناً زانياً - فليس حكمه كذلك ؛ ولما ذكر عظيم ما أقدموا عليه ، ذكر جليل ما أحجموا عنه فقال : ( وحرموا ما رزقهم الله ) أي الذي لا ملك سواه رحمة لهم ، من تلك الأنعام والغلات ، بغير شرع ولا نفع بوجه ) افتراء ) أي تعمداً للكذب ) على الله ) أي الذي له جميع العظمة .
ولما كانوا قد خسروا ثلاث خسرات مع ادعائهم غاية البصر بالتجارات : النفس بقتل الأولاد ، والمال بتحريم ما رزقهم الله ، فأفادهم ذلك خسارة الدين ، كانت نتيجته قوله : ( قد ضلوا ) أي جاوزوا وحادوا عن الحق وجاروا ؛ ولما كان الضال قد تكون ضلالته فلتة عارضة له ، وتكون الهداية وصفاً أصيلاً فيه ، نبه على أن الضلال وصفهم الثابت بقوله : ( وما كانوا ) أي في شيء من هذا من خلق من الأخلاق ) مهتدين ((2/725)
صفحة رقم 726
أي لم يكن في كونهم وصف الهداية ، بل زادوا بذلك ضلالاً ؛ قال البخاري في المناقب من صحيحه : حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً ( - إلى قوله : ( وما كانوا مهتدين ( .
وله في وفد بني حنيفة من المغازي عن مهدي بن ميمون قال : سمعت أبا رجاء العطاردي بقول : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه فأخذنا الآخر ، وإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به ، فإذا دخل شهر رجب قلنا : منصل الأسنة ، فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب .
ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار ، وأتقن تقرير هذه الأصول لا سيما في هذه السورة ، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ، وعجب سبحانه ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيباً بعد تعجيب ، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخاً في إثر توبيخ بتكذيبهم للداعي من غير حجة ، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة مع ادعائهم أنهم أنصف الناس ، ومخالفتهم للهادي بغير ثبت ولا بينة مع ادعائهم أنهم أبصر الناس ، وبطلبهم للآيات تعنتاً مع ادعائهم أنهم أعقل الناس ، وإخلاصهم في الشدة وإشراكهم في الرخاء مع ادعائهم أنهم أشكر الناس ، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم مع ادعائهم أنهم أشجع الناس - إلى أن عجب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فميا رزقهموه سبحانه من حيوان وجماد ومضوا عليه خلفاً عن سلف ، تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة علومهم تنفيراً للناس عن الالتفات إليهم واغترار بأقوالهم ، قال في موضع الحال من
77 ( ) وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام ( ) 7
[ الأنعام : 136 ] مبيناً عظيم ملكه وشمول قدرته وباهر اختياره وعظمته ، زيادة في التعجيب منهم في تصرفهم في ملكه بغير إذنه سبحانه وشرعهم ما لم يأذن فيه في سياق كافل بإقامة الحجة على تقرير التوحيد عوداً على بدء وعللاً بعد نهل ، لأنه المدار الأعظم والأصل الأقوم : ( وهو ) أي لا غيره ) الذي أنشأ ) أي من العدم ) جنات ) أي من العنب وغيره ) معروشات ) أي مرفوعات عن الأرض على الخشب ونحوه ، أي لا تصلح إلا معروشة ، ومتى لم ترفع عن الأرض تلف ثمرها ) وغير معروشات ) أي غير مرفوعات على الخشب ، أي لا تصلح إلا مطروحة على(2/726)
صفحة رقم 727
الأرض مثقلة بما يحكم وصولها إليها ، ومتى ارتفعت عن الأرض تلفت ، فما ذلك لطبيعة ولا غيرها وإلاّ لاستوت الجنات كلها لأن نسبتها إلى السماء والأرض واحدة ، فما اختلف إلا بفاعل مختار واحد لا شريك له ، لا يكون إلا ما يريد .
ولما ذكر الجنات الجامعة ، خص أفضلها وأدلها على الفعل بالاختيار ، وبدأ بأشهرها عند المخاطبين بهذه الآيات ] فقال : ( والنخل ) أي وأنشأ النخل ) والزرع ( حال كونه ) مختلفاً أكله ) أي أكل أحد النوعين ، وهو ثمره الذي يؤكل بالنسبة إلى الآخر ، وأكل كل نوع بالنسبة إلى الأشجار وغيرها في الحمل والطعم وغيره ، بل ويوجد في العذق الواحد الاختلاف ، وأما اختلاف مقداره بكون هذا في غاية الطول وهذا في غاية القصر فأمر واضح جداً ) والزيتون والرمان ( .
ولما كان معظم القصد في هذا السياق نفي الشريك وإثبات الفعل بالاختيار ، لم يدع الحال إلى ذكر كمال الشبه فاكتفى بأصل الفعل فقيل : ( متشابهاً ) أي كذلك ) وغير متشابه ) أي في اللون والطعم والفساد وعدمه والتفكه والاقتيات والدهن والماء - إلى غير ذلك من أحوال وكيفيات لا يحيط بها حق الإحاطة إلا بارئها سبحانه وعز شأنه ، ولعله جمع الأولين لأن كلاًّ منهما يدخر للاقتيات ولا يسرع فساده مع المفارقة في الشكل ، والاختلاف في النوع بالشجر والنجم ، والتفاوت العظيم في المقدار ، والأخيرين لأن الأول لا يفسد بوجه ، والثاني يسرع فساده ، ويدخر كل منهما على غير الهيئة التي يدخر عليها الآخر مع كونهما من الأشجار وتقاربهما في المقدار وتفاوت ثمرتهما في الشكل والقدر وغير ذلك .
ولما كان قوله
77 ( ) وهو الذي أنزل من السماء ماء ( ) 7
[ الأنعام : 99 ] في سياق الاستدلال على أنه لا فاعل إلا الله ، أمر فيه بالنظر إلى الثمر والينع ليعتبر بحالهما ، وكانت هذه الآية في سياق التعنيف لمن حرم ما رزقه الله والأمر بالأكل من حلال ما أنعم به والنهي عن تركه تديناً فقال تعالى هنا : ( كلوا ( وقدم الأولى المستدل بها على وجود البارئ وتفرده بالأمر لأن اعتقاد ذلك سعادة روحانية أبدية ؛ وقال أبو حيان في النهر : لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب ، قال
77 ( ) انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ( ) 7
[ الأنعام : 99 ] إشارة إلى الإيجاد أولاً وإلى غايته ، وهنا لما كان في معرض الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال : كلوا ، ودل على أن الرزق أكثر من خلقه بقوله : ( من ثمره ( ، ولما كان هذا الأمر للإباحة لا للارادة ، قيده لئلا يقتضي إيجاد الثمر في كل جنة في كل وقت فقال : ( إذا(2/727)
صفحة رقم 728
أثمر ( فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة الدنياوية السريعة الانقضاء وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب .
انتهى .
وعبر ب ( إذا ) دون ( إن ) تحقيقاً لرجاء الناس في الخصب وتسكيناً لآمالهم رحمة لهم ورفقاً بهم إعلاماً أنه إن وقع جدب كان في ناحية دون أخرى وفي نوع دون آخر ، وإباحة للأكل في جميع أحوال الثمرة نضيحة وغير نضيجة .
ولما كان في الآيات الحاكية مذاهب الكفار تقبيح أن يجعلوا شيئاً من أموالهم لأحد بأهوائهم ، أشار هنا إلى أنه فرض فيها حقاً وجعل له مصارف بقوله : ( وآتوا حقه ( ولما أباح سبحانه أكله ابتداء وانتهاء ، بين أنه خفف عنهم الوجوب قبل الانتهاء فقال : ( يوم حصاده ) أي قطعه جذاذاً كان أو حصاداً ، فكذلك أول وقت نصاب الأمر وهو موسع ، والحق أعم من الواجب والمندوب ، فإن أريد الندب عم الأنواع الخمسة الماضية : العنب المشار إليه بالعرش وما بعده ، وإن أريد الوجوب فقد أشير بالتعبير بالحصاد إلى أن الأصل في ذلك الحبوب المقتاتة ، وأما غيرها فتابع علمه ببيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيطلق عليه الحصاد مجازاً .
ولما أمر الله بالأكل من ثمره وبإيتاء حقه ، نهى عن مجاوزة الحد في البسط أو القبض فقال : ( ولا تسرفوا ( وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف ، فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى شيء منها للزكاة ، والإسراف في الصدقة حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئاً ، ويؤيده ) ) وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ( ) [ الأعراف : 31 ] ، ) ) ولا تبسطها كل البسط ( ) [ الإسراء : 29 ] ، ثم علله بقوله : ( إنه لا يحب المسرفين ) أي لا يعاملهم معاملة المحب فلا يكرمهم ، وقيل لحاتم الطائي : لا خير في السرف فقال : ولا سرف في الخير .
الأنعام : ( 142 - 144 ) ومن الأنعام حمولة. .. . .
) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ( )
ولما كان السياق للمآكل من الحرث والأنعام من حلال وحرام ، وفرغ من تقرير(2/728)
صفحة رقم 729
أمر الحرث الذي قدم في الجملة الأولى لأنه مادة الحيوان ، قال : ( ومن ) أي وأنشأ من ) الأنعام حمولة ) أي ما يحمل الأثقال ) وفرشاً ) أي وما يفرش للذبح أو للتوليد ، ويعمل من وبره وشعره فرش ؛ ولما استوفى القسمين أمر بالأكل من ذلك كله على وجه يشمل غيره مخالفة للكفار فقال : ( كلوا مما رزقكم الله ) أي لأنه الملك الأعظم الذي لا يسوغ رد عطيته ) ولا تتبعوا ( ولعله شدد إشارة إلى العفو عن صغيرة إذا ذكّر الإنسان فيها رجع ولم يعتد في هواه ) خطوات الشيطان ) أي طريقه في التحليل والتحريم كما قال في البقرة
77 ( ) كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( ) 7
[ البقرة : 168 ] وعبر بذلك لأنه - مع كونه من مادة الخطيئة دال على أن شرائعه شريعة الأندراس ، لولا مزيد الاعتناء من الفسقة بالتتبع في كل خطوة حال تأثيرها لبادر إليها المحو لبطلانها في نفسها ، فلا أمر من الله يحييها ولا كتاب يبقيها ، وإنما أسقط هنا ) حلالاً طيباً ( لبيانه سابقاً في قوله
77 ( ) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ( ) 7
[ الأنعام : 118 ] ،
77 ( ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ( ) 7
[ الأنعام : 121 ] ، ولاحقاً في قوله
77 ( ) قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً ( ) 7
[ الأنعام : 125 ] ؛ ثم علل نهيه عن اتباعه فقال : ( إنه لكم عدو ) أي فهو لذلك لا يأمركم بخير ) مبين ) أي ظاهر العداوة لأن أمره مع أبيكم شهير .
ولما رد دين المشركين وأثبت دينه ، وكانوا قد فصلوا الحرمة بالنسبة إلى ذكور الآدمي وإناثه ، ألزمهم تفصيلها بالنسبة إلى ذكور الأنعام وإناثه ، ففصل أمرها في أسلوب أبان فيها أن فعلهم رث القوى هلهل النسيج بعيد من قانون الحكمة ، فهو موضع للاستهزاء وأهل للتهكم ، فقال بياناً ل ) حمولة وفرشاً ( ) ثمانية أزواج ) أي أصناف ، لا يكمل صنف منها غلا بالآخر ، أنشأها بزواج كل من الذكر والأنثى الآخر ، ولحق بتسميتهم الفرد بالزوج - بشرط أن يكون آخر من جنسه - تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر .
ولما كان الزوج يطلق على الاثنين وعلى ما معه آخر من نوعه ، قال مبيناً أن هذا هو المراد لا الاثنان مفصلاً لهذه الثمانية : ( من الضأن ( جمع ضائن وضائنة كصاحب وصحب ) اثنين ) أي ذكراً وأنثى كبشاً ونعجة ) ومن المعز ( جمع ماعز وماعزة كخادم وخدم في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ، وتاجر وتجر في قراءة غيرهم ) اثنين ) أي زوجين ذكراً وأنثى تيساً وعنزاً .
ولما كان كأنه قيل : ما المراد بهذا التفصيل قبل سؤالهم عن دينهم ، قال : ( قل ) أي لهم مستفهماً ؛ ولما كان هذا الاستفهام بمعنى التوبيخ والتهكم والإنكار ، أتى فيه ب ( أم ) التي هي مع الهمزة قبلها بمعنى ( أيّ ) ليتفهم بها عما يعلم ثبوت بعضه وإنما يطلب(2/729)
صفحة رقم 730
تعيينه ، فقال معترضاً بين المعدودات تأكيداً للتوبيخ ، لأن الاعتراضات لا تساق إلاّ للتأكيد : ( ءالذكرين ( .
ولما كان المستفهم عنه بنصبه ما بعده لا ما قبله ، قال : ( حرم ) أي الله ، فإن كان كذلك لزمكم تحريم جميع الذكور ) أم الأنثيين ( ليلزمكم تحريم جميع الإناث ، واستوعب جميع ما يفرض من سائر الأقسام في قوله : ( أما ) أي أم حرم ما ) اشتملت ) أي انضمت ) عليه ( وحملته ) أرحام الأنثيين ) أي من الذكور والإناث ، ومتى كان كذلك لزمكم تحريم الكل فلم تلزموا شيئاً مما أوجبه هذا التقسيم فلم تمشوا على نظام .
ولماعلم أنه لا نظام لهم فعلم أنهم جديرون بالتوبيخ ، زاد في توبيخهم فقال : ( نبئوني ) أي أخبروني عما حرم الله من هذا إخباراً جليلاً عظيماً ؛ ولما كان هذا الإخبار الموصوف لا يكون بشيء فيه شك ، قال : ( بعلم ) أي أمر معلوم من جهة الله لا مطعن فيه ) إن كنتم صادقين ) أي إن كان لكم هذا الوصف .
ولما فصل الغنم إلى ضان ومعز ، أغنى ذلك عن تنويع الإبل إلى العراب والبخت والبقر إلى العراب والجواميس ، - ولأن هذه يتناتج بعضها من بعض بخلاف الغنم فإنها لا يطرق أحد نوعيها الآخر - نقله الشيخ بدر الدين الزركشي في كتاب الوصايا من شرح المنهاج عن كتاب الأعداد لابن سراقة فقال : ( ومن الإبل اثنين ) أي ذكراً وأنثى ) ومن البقر اثنين ) أي كذلك ) قل ) أي لهؤلاء الذين اختلفوا جهلاً وسفهاً ما تقدم عنهم ) ءالذكرين ) أي من هذين النوعين ) حرم ) أي حرمهما الله ) أم الأنثيين ) أي حرمهما ) أما ) أي الذي ) اشتملت عليه ) أي ذلك المحرم على زعمكم ) أرحام الأنثيين ) أي حرمهما الله .
ولما كان التقدير : أجاءكم هذا عن الله الذي لا حكم لغيره على لسان نبي ؟ عادله توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم بقوله : ( أم كنتم شهداء ) أي حاضرين ) إذ وصاكم الله ) أي الذي لا ملك غيره فلا حكم لسواه ) بهذا ) أي كما جزمتم عليه به ، أو جزمتم بالحرمة فيما حرمتموه والحل فيما أحللتموه ، ولا محرم ولا محلل غير الله ، فكنتم بذلك ناسبين الحكم إليه ؛ ولما كان التقدير كما أنتجه السياق : لقد كذبتم على الله حيث نسبتم إليه ما لم تأخذوه عنه لا بواسطة ولا بغير واسطة ، سبب عنه قوله معمماً ليعلم ليعلم أن هذا إذا كان في التحريم والتحليل كان الكذب في أصول الدين أشد : ( فمن أظلم ( ووضع موضع ( منكم ) قوله معمماً ومعلقاً للحكم بالوصف : ( ممن افترى ) أي تعمد ) على الله ) أي الذي لا أعظم منه لأنه ملك الملوك ) كذباً ( كعمرو بن لحي الذي غيرشريعة إبراهيم عليه السلام ، وكل من فعل مثل فعله .(2/730)
صفحة رقم 731
ولما كان يلزم من شرعهم لهذه الأمور إضلال من تبعهم فيها عن الصراط السوي ، وكانوا يدعون أنهم أفطن الناس وأعرفهم بدقائق الأمور في بداياتها ونهاياتها وما يلزم عنها ، جعل غاية فعلهم مقصوداً لهم تهكماً بهم فقال : ( ليضل الناس ( ولما كان الضلال قد يقع من العالم الهادي خطأ ، قال : ( بغير علم ( .
ولما كان هذا محل عجب ممن يفعل هذا ، كشفه سبحانه بقوله استئنافاً : ( إن الله ( وهو الذي لا حكم لأحد سواه لا يهديهم ، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً بما هو أعم من وصفهم ليكون الحكم عليهم بطريق الأولى فقال : ( لا يهدي القوم الظالمين ) أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها فكيف بالأظلمين وما أحسن هذا الختم لأحكامهم وأنسبه لما بناها عليه من قوله ) ) إنه لا يفلح الظالمون ( ) [ الأنعام : 21 ] .
الأنعام : ( 145 ) قل لا أجد. .. . .
) قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما تضمن قوله افتراء عليه افتراء على الله والتعبير في ذلك كله بالاسم الأعظم أن كون التحريم ليس غلاّ من الله أمر معلوم ليس موضعاً للشك لأنه الملك الأعظم ولا حكم لغير الملك ، ومن حكم عن غير أمره عذب ؛ حسن بعد إبطال دينهم والبيان لأن من حرم شيئاً بالتشهي مضل وظالم قولُه مبيناً البيان الصحيح لما يحل ويحرم جواباً لمن يقول : فما الذي حرمه سبحانه وما الذي أحله : ( قل ( معلماً بأن التحريم لا يثبت إلاّ بوحي من الله ) لا أجد ) أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان ، فإن ( لا ) كلمة لا تدخل على مضارع إلاّ وهو بمعنى الاستقبال ) في ما ( ولما كان ما آتاه ( صلى الله عليه وسلم ) قد ثبت بعجزهم عن معارضته أنه من الله ، بني للمفعول قوله : ( أوحي إليّ ) أي من القرآن والسنة شيئاً مما تقدم مما حرمتموه مطلقاً أو على حال دون حال وعلى ناس دون آخرين طعاماً ) محرماً على طاعم ( أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى ) يطعمه ) أي يتناوله أكلاً وشرباً أو دواء أو غير ذلك ) إلا أن يكون ) أي ذلك الطعام ) ميتة ) أي شرعاً ، والميتة الشرعية هي ما لا يقبل التذكية ، وهو كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية ) أو دماً مسفوحاً ) أي مراقاً من شأنه السيلان لا من شأنه الجمود كالكبد والطحال .
ولما كان النصارى قد اتخذوا أكل الخنزير ديناً ، نص عليه وإن كان داخلاً في قوله ( ميتة ) على ما قررته في المراد بها ، وقال : ( أو لحم خنزير ( ليفيد تحريمه على كل(2/731)
صفحة رقم 732
حال سواء ذبح أم لا ، ولو قيل : أو خنزيراً لاحتمل أن يراد تحرم ما أخذ منه حياً فقط ، وقال : ( فإنه ) أي الخنزير ) رجس ( ليفيد نجاسة عينه وهو حي ، فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى ، وكل ما وافقه في هذه العلة كان نجساً ، لا يعاد الضمير على اللحم لأنه قد علمت نجاسته من تحريمه لعينه ، فلو عاد عليه كان تكراراً .
ولما ذكر المحرم لعينه ذكر المحرم لعارض ، فقال مبالغاً في النفي عنه بأن جعله نفس المعنى الذي وقع النهي لأجله : ( أو فسقاً ) أي أو كان الطعام خروجاً مما ينبغي القرار فيه من فسيح جناب الله الذي من توطنه أمن واهتدى وسلم من ضيق الهوى في ذكر الغير الذي من خرج إليه خاف وضل ، وهلك وتوى ؛ ثم قال مفسراً له مقدماً لما هو داخل في الفسق من الالتفات إلى الغير : ( أهل لغير الله ) أي الذي له كل شيء لأن له الكمال كله ) به ) أي ذكر غير اسمه عليه بأن ذبح له تديناً ؛ ثم ذكر لطفه بهذه الأمة في إباحته لهم في حال الضرورة كل محرم رحمة منه لهم وستراً لتقصيرهم فقال : ( فمن اضطر ) أي حصل له جوع خشي منه التلف ، وبني للمفعول لأن المعتبر حصول الاضطرار لا كونه من معين ، ومن التعبير بذلك تؤخذ حرمة ما زاد على سد الرمق لأنه حينئذٍ لا يكون مضطراً ) غير باغ ) أي على غيره بمكيدة ) ولا عاد ) أي على غيره بقوته ولا متجاوز سد الضرورة ) فإن ربك ) أي المحسن إليك بإرسالك وغلى أمتك الضعيفة بجعل دينها الحنيفية السمحة ) غفور ) أي يمحو الذنب إذا أراد ) رحيم ) أي يكرم المذنب بعد الغفران بأنواع الكرامات ، فهو جدير بأن يمحو عن هذا المضطر أثر تلك الحرمة التي كدرها ويكرمه بأن يجعل له - في حفظه بذلك لنفسه إذا صحت فيه نيته - أجراً عظيماً ، وقد تكلفت الآية على وجازتها بجميع المحرمات من المأكولات مع الإشارة بلفظ الرجس والفسق إلى جميع أصناف المحرمات وإلى أن ارتكابها موجب للخبث والانسلاخ من الخير ، وذلك هو سبب تحريمها ؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة : وجه إنزال هذا الحرف - أي حرف الحرام - طهرة الخلق من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم ، فما اجتمعت فيه كان أشد تحريماً وما وجد فيه شيء منها كان تحريمه بحسب تأكيد الضرورة إلى طهرته ، وكما اختلف أحوال بني آدم بحسب اختلاف طينتهم من بين خبيث وطيب وما بين ذلك ، اختلف أحوالهم فيما به تجدد خلقهم من رزقهم ، فمن اغتذى بدنه من شيء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذى به وأوصافه في نفسه ، ورين على القلب أو صفاء ، لتقويه بما يسمى عليه من ذكر الله أو كفر به بذكر غيره ، وجامع منزله على حده من استثناء قليله من متسع الحلال قوله تعالى
77 ( ) قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو(2/732)
صفحة رقم 733
دماً مسفوحاً ( ) 7
[ الأنعام : 125 ] هذا لمضرته بالبدن ) أو لحم خنزير ( وهذا لتخبيثه للنفس وترجيسه لها كما قال تعالى ) فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به ( وهذا لرينه على القلب ، وهذه الآية مدنية وأثبتها تعالى في سورة مكية إشعاراً بأن التحريم كان مستحقاً في أول الدين ولكن أخر إلى حين اجتماع جمة الإسلام بالمدينة تأليفاً لقلوب المشركين وتيسيراً على ضعفاء الدين الذين آمنوا واكتفاء للمؤمنين بتنزههم عن ذلك وعما يشبهه استبصاراً منهم حتى أن الصديق رضي الله عنه كان قد حرم الخمر على نفسه في زمن الجاهلية لما رأى فيها من نزف العقل ، فكيف بأحوالهم بعد الإسلام وألحق بها في سورة ) الذين آمنوا ( ما كان قتله سطوة من غير ذكر الله عليه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما أدرك بالتذكية المنهرة للدم الموصل في التحريم لفساد مسفوحه بما هو خارج عن حد الطعام في الابتداء والأعضاء في الانتهاء المستدركة ببركة التسمية أثر ما أصابها من مفاجأة السطوة ، وألحق بها أيضاً في هذه السورة تحريم الخمر لرجسها كالخنزير كما ألحقت المقتولة بالميتة ، وكما حرم الله ما فيه جماع الرجس من الخنزير وجماع الإثم من الخمر حرم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان فيه حظ من ذلك ، فألحق بالخنزير السباع حماية من سورة غضبها لشدة المضرة في ظهور الغضب من العبيد لأنه لا يصلح إلاّ لسيدهم ، وحرم الحمر الأهلية حماية من بلادتها وحرانها الذي هو علم غريزة الخرق في الخلق ، وألحق ( صلى الله عليه وسلم ) بتحريم الخمر التي سكرها مطبوع تحريمَ المسكر الذي سكره مصنوع ، وكما حرم الله ما يغر العبد في ظاهره وباطنه حرم عليه فيما بينه وبينه ما يقطعه عنه من أكل الربا ، والربا بضع وسبعون باباً والشرك مثل ذلك ، وجامع منزله في قوله تعالى ) الذين يأكلون الربا ( إلى قوله :
77 ( ) وأحل الله البيع وحرم الربا ( ) 7
[ البقرة : 275 ] إلى انتهاء ذكره إلى ما ينتظم من ذلك في قوله :
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ( ) 7
[ آل عمران : 113 ] - الآية ما يلحق بذلك في قوله :
77 ( ) وما آتيتم من ربا ( ) 7
[ الروم : 39 ] - الآية ، هكذا قال : إن هذه الآية مدنية ، وهو - مع كوني لم أره لغيره - مشكل بقوله
77 ( ) وقد فصل لكم ما حرم عليكم ( ) 7
[ الأنعام : 119 ] - الآية .
ولما كان تحريم الربا بين الرب والعبد ، كان فيه الوعيد بالإيذان بحرب من الله ورسوله ، ولذلك حمت الأئمة ذرائعه أشد الحماية ، وكان أشدهم في ذلك عالم المدينة حتى أنه حمي من صورته من الثقة بسلامة الباطن منه ، وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين العبد ونفسه ، وكما حرم الله الربا فيما بينه وبين عبده من هذا الوجه الأعلى كذلك حرم أكل المال بالباطل فيما بين العبد وبين غيره نم الطرف الأدنى ، وجامع منزله في(2/733)
صفحة رقم 734
قوله تعالى :
77 ( ) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ( ) 7
[ البقرة : 188 ] - الآية إلى ما ينتظم به من قوله تعالى
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ( ) 7
[ النساء : 29 ] إلى ما ينتظم به من قوله تعالى :
77 ( ) وآتوا اليتامى أموالهم ( ) 7
[ النسا : 2 ] - الآيات في أموال اليتامى ، فحرمه تعالى من جهة الأعلى والمثيل والأدنى ، وانتظم التحرير في ثلاثة أصول : من جهة ما بين الله وبين عبده ومن جهة ما بين العبد وبين نفسه ، ومن جهة ما بين العبد وبين غيره ، مما تستقرأ جملة آية في القرآن وأحاديثه في السنة ومسائله في فقه الأئمة ؛ ولما كان له متسع ، وقع فيما بين الحلال البين والحرام البين أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس ، لأنها تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه ، فلوقوعها بينهما يختلف فيها ولعرضه في الأولى ، وعن حماية الله عباده عن وبيل الحرام تحقق لهم اسمه ( الطيب ) ، فلم يتطبب بطب الله من لم يحتم عن محرماته ومتشابهاتها ، وهو الورع الذي هو ملاك الدين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف الحرام تماماً في العلم والحال والعمل : اعلم أن الإنسان لما كان خلقاً جامعاً كانت فيه بزرتان : بزرة للخير وبزرة للشر ، وبحسب تطهره وتخلصه من مزاحمة نبات بزرة الشر تنمو فيه وتزكو بزرة الخير ، ولكل واحدة من البزرتين منبت في جسمه ونفسه وفؤاده ، فأول الحروف في الترتيب العمل ، والأساس لما بعده هو قراءة حرف الحرام ، لتحصل به طهرة البدن الذي هو السابق في وجود الإنسان فمن غذي بالحرام في طفولته لم يقدر على اجتناب الآثام في كهولته إلا أن يطهر الله بما شاء من نار الورود في الدنيا من الأمراض والضراء ، فهو الأساس الذي ينبني عليه تطهر النفس من المناهي وتطهر الفؤاد من العمه والمجاهل ، والذي تحصل به قراءة هذا الحرف هو الورع الحاجز عما يضر بالجسم ويؤذي النفس وما يكره الخلق وما يغضب الرب ، فمن أصاب شيئاً من ذلك ولم يبادر إليه بالتوبة عذب بكل آية قرأها وهو مخالف لحكمها ( من لم يبال من أيّ باب دخل عليه رزقه لم يبال الله من أيّ باب أدخله النار ) .
ولما كان الورع كف اليد ظاهراً عن الشيء الضار ، وكانت الجوارح لا ت نقاد إلا عن تأثر من النفس ، لم يصح الورع ظاهراً إلا أن يقع في النفس روعة باطنه من تناول ذلك الشيء ؛ ولما كانت النفس لا تتأثر إلا عن تبصر القلب في الضار كما لا ينكف اليد إلا عند تقذر النفس لما تدرك العين قذره حتى أن النفس الرضية تانف من المحرمات كما يأنف المستنطف من المستقذرات ، فأكلة الحرام هم دود جيفة الدنيا يستقذرهم أهل البصائر كما يستقذرون هم دود جيف المزابل .(2/734)
صفحة رقم 735
ولما كان الحرام ما يضر العبد في نفسه كالميتة ، تيسر على المستبصر كف يده عنها لما يدري من مضرتها بجسمه ، وكذلك الدم المسفوح لأنه ميتة بانفصاله عن الحي ومفارقته لروح الحياة التي تخالطه في العروق ، قلت : وسيأتي قريباً تعليله في التوراة بما يقتضي أنه أكثر فعلاً في النفس وتطبيعاً لها بخلق ما هو دمه من اللحم - والله الموفق ؛ وكذلك ما يضر بنفسه كلحم الخنزير لأنه رجس ، والرجس هو خبائث الأخلاق التي هي عند العقلاء أقبح من خبائث الأبدان ، وذلك لأن من اعتذى جسمه بلحم حيوان اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الحيوان وبخلق من أخلاقه ، وفي نفس الخنزير مجامع رذائل الأخلاق من الإباء والحران والمكر والإقدام على ما يعانيه فيه الهلاك ومتابعة الفساد ، والانكباب على ما تقبل عليه في أدنى الأشياء على ما أظهرت في خلقته آياته فإنه ليس له استشراف كذوات الأعناق ، وكذلك ما يضر بهما وبالعقل كالخمر في نزفها للعقل وتصديعها للرأس وإيقاعها العداوة والبغضاء في خلق النفس ، ولذلك هي جماع الإثم ، فالمتبصر في المحرمات يأنف منها لما يدري من مضرتها وأذاها في الوقت الحاضر وفي معيبها في يوم الدنيا إلى ما أخبر به من سوء عقباها في يوم الدين ، ومن شرب الخمر ومات ولم يتب منها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال ، وهي عصارة أهل النار ، ولو هدد شاربها في الدنيا من له أمر بأن يسقيه من بوله ورجيعه لوجد من الروع ما تحمله على الورع عنها ، وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية نفسه لحق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه درك من جهة غيره فيتورع من أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما أخبر به من المعاقبة عليها في الآجل ، ولها في ذاته مضرة في الوقت بتعرفها من موارد القرآن بنور الإيمان
77 ( ) الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً ( ) 7
[ النساء : 10 ] وإن لم يحس بها ، وليس تأويله الوعد بالنار لأن ذلك إنباء عند قوله تعالى
77 ( ) وسيصلون سعيراً ( ) 7
[ النساء : 10 ] ، وكذلك إذا أنف مما يضره في نفسه وخاف مما يتطرق إليه ضره من غيره ، أعظم أن يقرب حمى ما يتطرق إليه السطوة من ربه لأجله ، وذلك فيما حرم عليه حماية لعظيم ملكه وعدم التفاوت في أمر رحمانيته في محرم الربا ، ولما فيه أيضاً من مضرة وقته الحاضر التي يقيدها بالإيمان من تعريف ربه ، فإنه تعالى كما عرف أن أكل مال الغير بالباطل نار في البطن ، عرف أن أكل مال الربا جنون في العقل وخبال في النفس
77 ( ) الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ( ) 7
[ البقرة : 275 ] وأعظم من ذلك ما حرمه الله لعرائه عن اسمه عند إزهاق روحه ، لأنه مأخوذ عن غير الله ، وما أخذ عن غير الله كان أكله فسقاً وكفراً لأنه تناول الروح من يد(2/735)
صفحة رقم 736
من لا يملكها ، ولذلك فرضت التسمية في التذكية ونفلت فيما سوى ذلك ، فلا تصح قراءة هذا الحرف إلا بتبصرة القلب فيه وروعة النفس منه وورع اليد عنه ، وإلا فهو من الذين يقرؤون حروفه ويضيعون حدوده ، الذين قال فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كثر هؤلاء من القراء ، لا كثّرهم الله ) ومن لم تصح له قراءة هذا الحرف لم تصح له قراءة حرف دعاؤه ( الرجل يطلب الله مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام ، يقول : يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك ) فهذه قراءة هذا الحرف وشرطه - والله ولي التوفيق .
الأنعام : ( 146 - 148 ) وعلى الذين هادوا. .. . .
) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ( ( )
ولما كان قوله ) طاعم ( نكرة في سياق النفي ، يعم كل طاعم من أهل شرعنا وغيرهم ، وكان سبحانه قد حرم على اليهود أشياء غير ما تقدم ، اقتضت إحاطة العلم أن قال مبيناً لإحاطة علمه وتكذيباً لليهود في قولهم : لم يحرم الله علينا شيئاً ، إنما حرمنا على أنفسنا ما حرم إسرائيل على نفسه : ( وعلى الذين هادوا ) أي اليهود ) حرمنا ( بما لنا من العظمة التي لا تدافع ) كل ذي ظفر ) أي على ما هو كالإصبع للآدمي من الإبل والسباع والطيور التي تتقوى بأظفارها ) ومن البقر والغنم ) أي التي هي ذوات الأظلاف ) حرمنا ) أي بما لنا من العظمة ) عليهم شحومهما ) أي الصنفين ؛ ثم استثنى فقال : ( إلا ما حملت ظهورهما ) أي من الشحوم مما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما(2/736)
صفحة رقم 737
) أو الحوايا ( وهي الأمعاء التي هي متعاطفة متلوية ، جمع حوية فوزنها فعائل كسفينة وسفائن ، وقيل : جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء ) أو ما اختلط ) أي من الشحوم ) بعظم ( مثل شحم الألية فإن ذلك لا يحرم ، وهذا السياق بتقدم الجار وبناء الكلام عليه يدل على أن ما عدا المذكور من الصنفين حلال لهم .
ولما كان كأنه قيل : لم حرم عليهم هذه الطيبات ؟ قيل : ( ذلك ) أي التحريم العظيم والجزاء الكبير وهو تحريم الطيبات ) جزيناهم ) أي بما لنا من العظمة ) ببغيهم ) أي في أمورهم التي تجاوزوا فيها الحدود ، وفي إيلاء هذه الآية - التي فيها ما حرم على اليهود - لما قبلها مع الوفاء بالمقصود من حصر محرمات المطاعم على هذه الأمة وغيرها أمران جليلان : أحدهما بيان اطلاعه ( صلى الله عليه وسلم ) على تفصيل ما أوحي إلي من تقدمه ولما يشامم أحداً من أتباعهم ولا دارس عالماً ولا درس علماً قط ، فلا دليل على صدقه على الله أعظم من ذلك ، والثاني تفضيله هذه الأمة بأنه أحل لها الخبائث عند الضرورة رحمة لهم ، وأزال عنها في تلك الحالة ضرها ولم يفعل بها كما فعل باليهود في أنه حرم عليهم طائفة من الطيبات ولم يحلها لهم في حال من الأحوال عقوبة لهم ، وفي ذلك أتم تحذير لهذه الأمة من أن يبغوا فيعاقبوا كما عوقب من قبلهم على ما نبه عليه في قوله
77 ( ) غير محلي الصيد وأنتم حرم ( ) 7
[ المائدة : 1 ] فبان الصدق وحصحص الحق ولم يبقى لمتعنت كلام ، فحسن جداً ختم ذلك بقوله ) وإنا لصادقون ) أي ثابت صدقنا أزلاً وأبداً كما اقتضاه ما لنا من العظمة ، وتعقيبه بقوله : ( فإن ) أي وتسبب عن هذا الإيحاء الجامع الوجيز الدال على الصدق الذي لا شبهة فيه أنا نقول ذلك : ( كذبوك فقل ( والتعبير بأداة الشك مشير إلى أن الحال يقتضي أن يستبعد أن يقع منهم تكذيب بعد هذا ) ربكم ) أي المحسن إليكم بالبيان والإمهال مع كل امتنان ) ذو رحمة واسعة ) أي فهو مع اقتداره قضى أنه يحلم عنكم بالإمهال إلى أجل يعلمه .
ولما أخبر عن رحمته ، نوه بعظيم سطوته فقال : ( ولا يرد بأسه ) أي إذا أراد الانتقام ) عن القوم المجرمين ) أي المحسن إليكم بالبيان والإمهال مع كل امتنان ) ذو رحمة واسعة ) أي فهو مع اقتداره قضى أنه يحلم عنكم بالإمهال إلى أجل يعلمه .
ولما أخبر عن رحمته ، نوه بعظيم سطوته فقال : ( ولا يرد بأسه ) أي إذا أراد الانتقام ) عن القوم المجرمين ) أي القاطعين لما ينبغي وصله ، فلا يغتر أحد بإمهاله في سوء أعماله وتحقيق ضلاله ، وفي هذه الآية من شديد التهديد ما لطيف الاستعطاف ما هو مسبوك على الحد الأقصى من البلاغة .
ولما تم ذلك فعلم أن إقدامهم على الأحكام الدينية بغير حجة أصلاً ، اقتضى الحال أن يقال : قد بطل بالعقل والنقل جميع ما قالوه في التحريم على وجه أبطل شركهم ، فهل بقي لهم مقال ؟ فأخبر سبحانه بشبهة يقولونها اعتذاراً عن جهلهم على وجه هو وحده كاف في الدلالة على حقية ما يقوله من الرسالة ، فوقع طبق ما قال عن(2/737)
صفحة رقم 738
أهل الضلال ، فقال مخبراً بما سيقولونه قبل وقوعه دلالة على صدق رسله وكذب المشركين فيما يخالفونهم فيه : ( سيقول ) أي في المستقبل ، وأظهر موضع الإضمار تنصيصاً عليهم وتبكيتاً لهم فقال : ( الذين أشركوا ( تكذيباً منهم ) لو شاء الله ) أي الذي له جميع الكمال عدم إشراكنا وتحريمنا ) ما أشركنا ) أي بصنم ولا غيره ) ولا أباؤنا ) أي ما وقع من إشراك ) ولا حرمنا من شيء ) أي ما تقدم من البحائر والسوائب والزروع وغيرها أي ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل ففعلنا طوع مشيئته ، وهو لا يشاء إلا الحق والحكمة لأنه قادر ، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه ، وهو لم يمنعنا منه فهو حق .
ولما كان هذا عناداً منهم ظاهراً بعد وضوح المر بما أقام على صدق رسله من البينات ، كان كأنه قيل تعجباً منهم : هل فعل أحد غيرهم مثل فعلهم هذا أو قال مثل ما قالوا ؟ فقيل : نعم ) كذلك ) أي مثل ذلك التكذيب البعيد عن الصواب ) كذب الذين ( ولما لم يكن التكذيب عاماً أدخل الجار فقال : ( من قبلهم ( من الأمم الخالية بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثاً ، فكانت دعوى الأنبياء باطلة ، وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام ومِلكه عام ، فهو لا يسأل عما يفعل ، وتمادى بهم غرور التكذيب ) حتى ذاقوا بأسنا ) أي عذابنا لما لنا من العظمة ، فإن من له الأمر كله لا يسأل عما يفعل ، فلم ينفعهم عنادهم عند ذوق البأس ، بل انحلت عزائم همهم فخضعوا لنا وآمنوا برسلنا ، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً الإشراك دليلاً على حذفه ثانياً ، وثانياً التكذيب دليلاً على حذفه أولاً ، وسيأتي توجيه أنه لا بد من تضليل إحدى الطائفتين المتعاندتين وإن كان الكل بمشيئة الله ، لأنه لا مانع من إتيان الأمر على خلاف الإرادة .
ولما كان ما قالوه شبهة بعيدة عن العلم ، أعلى درجاتها أن يكون من أنواع الخطابة فتفيد الظن في أعظم مسائل علم الأصول الذي لا يحل الاعتماد فيه إلا على القواطع ، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على ذلك فقال : ك ) قل ) أي لهؤلاء الذين تلقوا ما يلقيه الشيطان إليهم - كما أشير إليه في سورة الحج - تهكماً بهم في بعدهم عن العلم وجدالهم بعد نهوض الحجج ) هل عندكم ( أيها الجهلة ، وأغرق في السؤال فقال : ( من علم ) أي يصح الاحتجاج به في مثل هذا المقام الضنك ) فتخرجوه لنا ) أي لي ولأتباعي وإن كان مما يجب أن يكون مكنوناً مضنوناً به على غير أهله مخزوناً ، فهو تهكم بهم .
ولما كان جوابهم عن هذا السكوت لأنه لا علم عندهم ، قال دالاً على ذلك :(2/738)
صفحة رقم 739
) إن ) أي ما ) تتبعون ) أي في قولكم هذا وغالب أموركم ) إلا الظن ) أي في أصول دينكم وهي لا يحل فيها قول إلا بقاطع ) وإن ( ي وما ) أنتم إلا تخرصون ) أي تقولون تارة بالحزر والتخمين وتارة بالكذب المحض اليقين .
الأنعام : ( 149 - 150 ) قل فلله الحجة. .. . .
) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( ( )
ولما انتفى أن يكون لهم حجة ، وثبت أن الأمر إنما هو لله ، ثبت أنه المختص بالحجة الواضحة ، فقال مسبباً عن ذلك : ( قل فلله ) أي الإله الأعظم وحده ) الحجة البالغة ) أي التي بلغت أعلى درجات الحق قوة ومتانة وبياناً ووضوحاً ورصانة بسبب أنه شامل العلم كامل القدرة كما أقررتم بذلك حين قلتم ( ولو شاء الله ما أشركنا ) وإن كنتم قلتموه على سبيل الإلزام والعناد لا لأجل التدين والاعتقاد ) فلو شاء ) أي الله ) لهداكم ) أي أنتم ومخالفيكم ) أجمعين ( ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء هداية بعض وضلال آخرين ، فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه ، فلزم على قولكم أن يكون الفريقان محقين ، فيكون الشيء الواحد حقاً غير حق في حال واحد ، وهذا لا يقوله عاقل ، ويلزمكم على ذلك أيضاً أن توالوا أخصامكم ولا تعادوهم وإن فعلوا ما فعلوا ، لأنه حق رضى الله لأنه بمشيئته وأنتم لا تقولون ذلك ، فبطل قولكم فثبت أنه قد يشاء الباطل لأنه لا يسأل عما يفعل ويرسل الرسل إليكم لإزالته ليقيم بهم الحجة على من يريد عقابه على ما يتعارفه الناس بينهم ، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع .
ولما صدق الحق ، وانكسر جند الباطل واندق ببطلان جميع شبههم ، ونطقت الدلائل وأفحم المجادل ، فيان أنه لا شاهد لهم بحق لأنه لا حق لهم ، كان كأنه قيل : قل لهم : ها أنا قد شهد لي بما قلته من لا ترد شهادته وزكاتي الذي لا يقبل إلا تزكيته بهذا الكتاب الذي كان عجزكم عن الإتيان بشيء من مثله شاهداً بأنه قوله ، فهل لكم أنتم من شاهد يقبل ولما لم يكن لهم شاهد غير متخرصيهم ، فإن المبطل يظهر باطله عند المحاقفة سنة من الله مستمرة ، فيظهر للمشهود لهم بما يلوح من بهتهم أنهم ليسوا على شيء ، أمره سبحانه أن يأمرهم بدعائهم ليظهر خزيهم وتشتهر فضيحتهم فقال : ( قل هلم ) أي احضروا ، وهي كلمة دعوة يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع عند الحجازيين ) شهداءكم ( .
ولما كان كأنه قيل : أيّ شهداء ؟ قال : ( الذين يشهدون ) أي يوقعون الشهادة على(2/739)
صفحة رقم 740
) أن الله ) أي الذي لا حكم لغيره ) حرم هذا ) أي الذي ذكرتموه من قبل ، وإضافة الشهداء إليهم ووصفهم ب ( الذين ) دليل على أنهم معروفون موسومون بنصرة مذهبهم بالباطل ، ولو قال : شهداء - من غير إضافة لأفهم أن المطلوب من يشهد بالحق وليس كذلك ، لأنه أقيم الدليل العقلي على أنه لا حجة لهم وأن الحجة لله على خلاف ما ادعوه ، فبطل قطعاً أن يكون أحد يشهد على ذلك بحق .
ولما كان كأنه قيل : فإنهم إذا أحضروا لا يقدرون - إن كان لهم عقل أو فيهم حياء - على النطق إذا سمعوا هذا الحق ، بني عليه قوله : ( فإن ( اجترؤوا بوقاحة ) شهدوا ) أي كذباً وزوراً بذلك الذي أبطلناه بالأدلة القطعية ) فلا تشهد معهم ) أي فاتركهم ولا تسلم لهم ، فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى ) ولا تتبع أهواء ( وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف دلالة على أن القائد إلى التكذيب وكل ردى إنما هو الهوى ، وأن من خالف ظاهر الآيات إنما هو صاحب هوى ، فقال : ( الذين كذبوا ) أي أوقعوا التكذيب ) بآياتنا ) أي على ما لها من الظهور بما لها من العظمة بإضافتها إلينا .
ولما وصفهم بالتكذيب ، أتبعه الوصف بعدم الإيمان ، ودل بالنسق بالواو على العراقة في كل من الوصفين فقال : ( والذين لا يؤمنون بالآخرة ) أي التي هي دار الجزاء ، فإنهم لو جوزوها ما اجترؤوا على الفجور ) وهم بربهم ) أي الذين لا نعمة عليهم ولا خير عندهم إلا وهو منه وحده ) يعدلون ) أي يجعلون غيره عديلاً له ، وسيعلمون حين يقولون لشركائهم وهم في جهنم يختصمون ) ) تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ( ) [ الشعراء : 97 ، 98 ] .
الأنعام : ( 151 ) قل تعالوا أتل. .. . .
) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ( )
ولما أبطل دينهم كله أصولاً وفروعاً في التحريم والإشراك ، وبين فساده بالدلائل النيرة ، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق مما حرمه الملك الذي له الخلق والأمر ومن غيره ، فليس التحريم لأحد غيره فقال : ( قل تعالوا ) أي أقبلوا إليّ صاعدين من حضيض الجهل والتقليد وسوء المذهب إلى أوج العلم ومحاسن الأعمال ؛ قال صاحب الكشاف : هو من الخاص الذي صار عاماً ، يعني حتى صار يقوله الأسفل للأعلى(2/740)
صفحة رقم 741
) أتل ) أي أقرأ ، من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً .
ولما كان القصد عموم كل أحد بالتلاوة وإنما خص المخاطبين بالذكر لاعتقادهم خلاف ذلك ، وكان المحرم أهم ، قدمه فقال : ( ما حرم ربكم ) أي المحسن إليكم بالتحليل والتحريم ) عليكم ( فسخطه منكم ، وما وصاكم به إقداماً وإحطاماً فرضيه لكم من قبيلي الأصول والفروع ؛ ثم فسر فعل التلاوة ناهياً عن الشرك ، وما بعده من مضمون الأمر إنما عدي عنها ، فقال : ( ألا تشركوا به شيئاً ( الآيات مرتباً جملها أحسن ترتيب ، فبدأ بالتوحيد في صريح البراءة من الشرك إشارة إلى أن التخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل ، فإن التقية بالحمية قبل الدواء ، وقرن به البر لأنهما من باب شكر المنعم وتعظيماً لأمر العقوق ، ثم أولاه القتل الذي هو أكبر الكبائر بعد الشرك ، وبدأه بقتل الولد لأنه أفحشه وأفحش من مطلقه فعله خوف القلة ، فلما وصى بأول واجب للمنعم الأول الموجد من العدم ، أتبعه ما لأول منعم بعده بالتسبب في الوجود ، فقال ناهياً عن الإساءة في صورة الأمر بالإحسان على أوكد وجه لما للنفوس من التهاون في حقهما ، وكذا جميع المأمورات ساقها هذا السياق المفهم لأن أضدادها منهي عنها ليكون مأموراً بها منهياً عن أضدادها ، فيكون ذلك أوكد لها وأضخم : ( وبالوالدين ) أي افعلوا بهما ) إحساناً ( .
ولما أوصى بالسبب في الوجود ، نهى عن التسبب في الإعدام وبدأ بأشده فقال : ( ولا تقتلوا أولادكم ( ولما كان النهي عاماً ، وكان ربما وجب على الولد قتل ، خص لبيان الجهة فقال : ( من إملاق ) أي من أجل فقر حاصل بكم ، ثم علل ذلك ، ولأجل أن الظاهر هو حصول الفقر قدم الآباء فقال : ( نحن نرزقكم ( بالخطاب ، أي أيها الفقراء ، ثم عطف عليه الأبناء فقال : ( وإياهم ( وظاهر قوله في الإسراء
77 ( ) خشية إملاق ( ) 7
[ الإسراء : 31 ] أن الآباء موسرون ولكنهم يخشون من إطعام الأبناء الفقر ، فبدأ بالأولاد فقال : ( نحن نرزقهم ) ثم عطف الآباء فقال ( وإياكم ) - نبه عليه أبو حيان .
ولما كان قتلهم أفحش الفواحش بعد الشرك ، أتبعه النهي عن مطلق الفواحش ، وهي ما غلظت قباحته ، وعظم أمرها بالنهي عن القربان فضلاً عن الغشيان فقال : ( ولا تقربوا الفواحش ( ثم أبدل منها تأكيداً للتعميم قوله : ( ما ظهر منها ) أي الفواحش ) وما بطن ( ثم صرح منها بمطلق القتل تعظيماً له بالتخصيص بعد التعميم فقال : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ) أي الملك الأعلى عليكم قتلها ) إلا بالحق ) أي الكامل ، ولا يكون كاملاً غلا وهو كالشمس وضوحاً لا شبهة فيه ، فصار قتل الولد منهياً عنه ثلاث مرات ؛ ثم أكد المذكور بقوله : ( ذلكم ) أي الأمر العظيم في هذه المذكورات .
ولما كانت هذه الأشياء شديدة على النفس ، ختمها بما لا يقوله إلا المحب(2/741)
صفحة رقم 742
الشفوق ليتقبلها القلب فقال : ( وصّاكم به ( أمراً ونهياً ؛ ولما كانت هذه الأشياء لعظيم خطرها وجلالة وقعها في النفوس لا تحتاج إلى مزيد فكر قال : ( لعلكم تعقلون ) أي لتكونوا على رجاء من المشي على منهاج العقلاء ، فعلم من ذكر الوصية أن هذه المذكورات هي الموصى بها والمحرمات أضدادها ، فصار شأنها مؤكداً من وجهين : التصريح بالتوصية بها ، والنهي عن أضدادها .
الأنعام : ( 152 - 153 ) ولا تقربوا مال. .. . .
) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ( )
ولما كان المال عديل الروح من حيث إنه لا قوام لها إلا به ، ابتدأ الآية التي تليها بالأموال ، ولما كان أعظمها خطراً وحرمة مال اليتيم لضعفه وقلة ناصره ، ابتدأ به فنهي عن قربه فضلاً عن أكله أو شربه فقال : ( ولا تقربوا مال اليتيم ) أي بنوع من أنواع القربان عمل فيه أو غيره ) إلا بالتي هي أحسن ( من الخصال من السعي في تنميته وتثميره وليستمر ذلك ) حتى يبلغ أشده ( وهو سن يبلغ به أوان حصول عقله عادة وعقل يظهر به رشده ؛ ثم ثنى بالمقادير على وجه يعم فقال : ( وأوفوا ) أي أتموا ) الكيل والميزان ( لأنهما الحكم في أموال الأيتام وغيرهم ؛ ولما كان الشيء ربما أطلق على ما قاربه نحو ) قد قامت الصلاة ) أي قرب قيامها ، وهذا وقت كذا - وإذا قرب جداً ، أزيل هذا الاحتمال بقوله : ( بالقسط ) أي إيفاء كائناً به من غير إفراط ولا تفريط .
ولما كانت المقادير لا تكاد تتساوى لا سيما الميزان فإنه أبعدها من ذلك ، وأقربها الذرع وهو داخل في الكيل ، فإنه يقال : كال الشيء بالشيء : قاسه ، أشار إلى أنه ليس على المكلف المبني أمره على العجز للضعف إلا الجهد فقال : ( لا نكلف ) أي على ما لنا من العظمة ) نفساً إلا وسعها ( وما وراء الوسع معفو عنه ؛ ثم ثلث بالعدل في القول لأنه الحكم على الأموال وغيرها ، وقدم عليه الفعل لأنه دال عليه ، فصار الفعل موصى به مرتين فقال : ( وإذا قلتم ) أي في شهادة أو في حكم أو توفيق بين اثنين أو غير ذلك ) فاعدلوا ) أي توفيقاً بين القول والفعل .
ولما كانت النفوس مجبولة على الشفقة على القريب قال : ( ولو كان ) أي المقول في حقه له أو عليه بشهادة أو غيرها ) ذا قربى ( ولا تحابوه طمعاً في مناصرته أو خوفاً من مضارته ؛ ثم ختم بالعهد لجمعه الكل في القول والفعل فقال : ( وبعهد الله ( أي(2/742)
صفحة رقم 743
الملك الأعظم خاصة ) أوفوا ( وهذا يشمل كل ما على الإنسان وله ، فإن الله لم يهمل شيئاً بغير تقدم فيه ؛ ثم أكد تعظيم ذلك بقوله : ( ذلكم ) أي الأمر المعتنى به ) وصّاكم به ) أي ربكم المحسن إليكم .
ولما كانت هذه الأفعال والأقوال شديداً على النفس العدلُ فيها لكونها شهوات ، تقدم بالترغيب فيها والترهيب منها بأن كل من يفعل شيئاً منها مع غيره يوشك أن يفعل معه مثله ، فلذلك حض على التذكر في الوصية بها ولأنها خفية تحتاج إلى مزيد تدبر فقال : ( لعلكم تذكرون ) أي لتكونوا بحيث يحصل لكم التذكر - ولو على وجه خفي بما أشار إليه الإدغام - فيما جبلت عليه نفوسكم من محبة مثل ذلك لكم ، فتحكموا لغيركم بما تحكمون به لأنفسكم .
ولما قرر هذه الشرائع ، نبه على تعظيمها بالخصوص على وجه يعم جميع ما ذكر في السورة بل وفي غيرها ، فقال عاطفاً على ما تقديره - عطفاً على المنهيات وأضداد المأمورات على وجه يشمل سائر الشريعة - : ولا تزيغوا عن سبيلي : ( وأن ) أي ولأن - على قراءة الجماعة بالفتح ، أي اتبعوه لذلك ، وعلى قراءة ابن عامر ويعقوب بالكسر هو ابتداء ) هذا ) أي الذي شرعته لكم ) صراطي ( حال كونه ) مستقيماً فاتبعوه ) أي بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير .
ولما كان الأمر باتباعه متضمناً للنهي عن غيره ، صرح به تأكيداً لأمره فقال : ( ولا تتبعوا السبل ) أي المنشعبة عن الأهوية المفرقة بين العباد ، ولذا قال مسبباً ) فتفرق بكم ) أي تلك السبل الباطلة ) عن سبيله ( ولما مدحه آمراً به ناهياً عن غيره مبيناً للعلة في ذلك ، أكد مدحه فقال : ( ذلكم ) أي الأمر العظيم من اتباعه ) وصّاكم به ( .
ولما كان قد حذر من الزلل عنه ، وكان من المعلوم أن من ضل عن الطريق الأقوم وقع في المهالك ، وكان كل من يتخيل أنه يقع في مهلك يخاف ، قال : ( لعلكم تتقون ) أي اتبعوه واتركوا غيره ليكون حالكم حال من يرجى له أن يخاف من أن يزل فيضل فيهلك ، وهذا كما مدحه سبحانه سابقاً في قوله
77 ( ) وهذا صراط ربك مستقيماً ( ) 7
[ الأنعام : 126 ] ،
77 ( ) قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ( ) 7
[ الأنعام : 126 ] وفصل ما هنا من الأحكام في ثلاث آيات ، وختم كل آية لذلك بالوصية ليكون ذلك آكد في القول فيكون أدعى للقبول ، وختم كل واحدة منها بما ختم لأنه إذا كان العقل دعا إلى التذكير فحمل على التقوى .(2/743)
صفحة رقم 744
الأنعام : ( 154 - 157 ) ثم آتينا موسى. .. . .
) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ( ( )
ولما كانت هذه الآيات الثلاث وافية بالآيات العشر التي كتبها الله لموسى عليه السلام على لوحي الشهادة في أول ما أوحي إليه في طور سيناء المشار إليها بقوله ) ) وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ( ) [ الأنعام : 91 ] وبنى عليها التوراة وأمره أن يودعها في تابوت العهد لتكون شهادة عليهم وعلى أعقابهم كما هو مذكور في وسط السفر الثاني من التوراة وقد مضى بيانه في البقرة ويأتي في آخر هذه المقولة وزائدة عليها من الأحكام والمحاسن ما شاء الله ؛ حسن أن تذكر بعدها التوراة ، فقال مشيراً بأداة التراخي إلى كل من الترتيب والتعظيم : ( ثم آتينا ) أي بما لنا من العظمة التي تقتضي تعظيم ما كان من عندنا ) موسى الكتاب ) أي المشار إليه بقوله تعالى ) ) قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ( ) [ الأنعام : 91 ] - وهي - والله أعلم - معطوفة على قوله ) ) وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ( ) [ الأنعام : 146 ] لأنه تعالى بعد أن أعطى موسى العشر الآيات واعده إلى الجبل مواعدة ثانية ، فشرع له بعض الأحكام وأمره بنصب قبة الزمان التي يوحي إليه فيها ويصلون إليها ، وببعض ما يتخذ من آلاتها كما مضى في البقرة ، ثم ذكر بعد ذلك بيسير تحريم الشحوم عليهم ، فقال في أوائل السفر الثالث وهو سفر الكهنة ، وفيه تلخيص أمر القرابين : ودعا الرب موسى وكلمه في قبة الأمد وقال له : كلم بني إسرائيل وقل لهم : كل إنسان منكم إذا قرب للرب قرباناً من البهائم فلتكن قرابينكم من البقر ومن الغنم - إلى أن قال : ويقرب قرباناً للرب الحجاب المبسوط على الأحشاء وكل الثوب الذي على الأكشاح والكليتين والشحم الذي عليهما وعلى الجنب - إلى أن قال : وقال : الشحوم للرب عهد الأبد ، ولا تأكلوا دماً ولا شحماً ، ثم قال : وكلم الرب موسى وقال له : كلم بني إسرائيل وقل لهم : لا تأكلوا شحم البقر ولا شحم الغنم : الضأن والماعز جميعاً ، لأن كل من أكل شحم بهيمة ويقرب قرباناً للرب ، تهلك تلك النفس من شعبها ، ولا تأكلوا دماً حيث ما سكنتم ، لا دم البهائم ولا دم الطير ، وأيّة نفس أكلت دماً تهلك تلك النفس من شعبها ، وقال في السفر الخامس : فأما الدم فلا تأكلوا ولكن ادفقوه على الأرض مثل الماء ، ثم قال بعده(2/744)
صفحة رقم 745
بقليل : وكلوا في قراكم من كل شهوات أنفسكم ، ولكن إياكم أن تأكلوا دماً ، لأن دم البهيمة هو في نفسها ، فلا تأكلوا النفس مع اللحم ليحسن إليكم وإلى أولادكم من بعدكم إذا عملتم الحسنة أمام الله ربكم ؛ رجع إلى السفر الثالث ثم قال : ودخل موسى وهارون إلى قبة الزمان وخرجا ودعوا الشعب ، فظهر مجد الرب أمام جميع الشعب ، ونزلت نار من قبل الرب فأحرقت الشحم والذبيحة الكاملة له على المذبح ، وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله ، وخر الشعب كله على وجهه ؛ ثم ذكر عقب ذلك بيسير محرمات الحيوان ، وكذا ذكر في السفر الخامس وقد جمعت بينهما ومعظم السياق للخامس : قال : لا تأكلوا شيئاً نجساً ، هذا كلوا من جميع البهائم : الثور : والحمل والنعجة والمعز والأيل والظبي والجوذر والرخ والرئم والوعل والثيثل كل بهيمة ذات ظلف مقسوم ظلفها تجتر كلوها ، وحرموا من التي لا تجتر ، ومن التي لها ظلوف مقسومة ولا تجتر الجمل والأرنب والوبر التي تجتر وليس لها أظلاف مقسومة هي نجسة لكم ، وفي الثالث : وحرموا من البهائم التي ليست لها أظلاف التي تجتر : الجمل الذي يجتر وليس له أظلاف هو نجس محرم عليكم ، والأرنب الذي يجتر وليس له أظلاف منجس محرم عليكم ؛ ح رجع : والخنزير الذي له أظلاف ولا يجتر هو نجس ، لا تأكلوا من لحوم هذه ولا تقربوا إلى أجسادها ؛ وقال في الثالث : ولا تمسوا لحومها لأنها نجسة محرمة عليكم ؛ وقال في الخامس من ترجمة الاثنين والسبعين : وإياكم أن تأكلوا كل نجس ، ويكون الذي تأكلونه من الدواب العجل من البقر والخروف من الغنم والجدي من المعز أو الأيل والغزال والعين والوعل وعنز الجبل واليحمور وناقة القمر والزرافة ، وكل دابة مشقوقة الظلف وهي تنبت أظافير في كل ظلفها واجتر من الدواب .
فإياه فكلوا ، والذي لا تأكلون منه من الذي يجتر ومن المشقوق الظلف الذي ينبت له أظافير الجمل والأرنب واليربوع ، فإن ذلك يجتر ولكنه غير مشقوف الظلف ، وهو لا يحل لكم ، والخنزير أيضاً فإن ظلفه مشقوف وينبت في ظلفه أظافير غير أنه لا يجتر ، وما لا يجتر فإنه لا يحل لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تقربوا أجسادها ؛ وقال في الثالث منها : وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما : كلما بني إسرائيل وقولا لهما : إن الذي تأكلونه من المواشي من جميع الأنعام التي على الأرض كل بهيمة قد شق ظلفها وهي تخرج أظفاراً في كلا ظلفيها وتجتر ، فذلك الذي تأكلونه من الأنعام ، والذي لا يحل مما يجتر ولم يشق ظلفه الجمل الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم ، واليربوع - وفي نسخة : السنجاب - الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم لم يطهر لكم ، والأرنب الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه لا يطهر لكم والخنزير فإنه مشقوق(2/745)
صفحة رقم 746
الظلف ويخرج أظفاراً في ظلفه وهو لا يجتر فإنه لا يطهر لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تمسوا ما مات منها ، فإن ذلك لا يطهر لكم ؛ رجع إلى نسختي ، ثم ذكر في الطير ودواب البر قريباً مما في شرعنا إلى أن قال : ولا تأكلوا أشياء نجسة بل ادفعوها إلى السكان الذين في قراكم يأكلونها أو يبيعونها من الغرباء ، لأنك شعب طاهر لله ربك لا تطبخوا جدياً بلبن أمه ؛ وقال في ترجمة الاثنين والسبعين : ولا تطبخ الخروف بلبن أمه ؛ وقال في السفر الخامس : وكلوا من الطير ما كان زكياً وحرموا هذه التي أصف لكم ، لا تأكلوا منها شيئاً : النسر والحداء - وذكر نحواً مما عندنا ، وقال في نسختي في الثالث : فمن مس شيئاً من هذه - أي المحرمات - يكون نجساً إلى المساء ، ومن حمل منها شيئاً فليغشل ثيابه ويكون نجساً إلى الليل - انتهى .
الظبي - بالمعجمة المشاركة - معروف ، والجوذر - بفتح الجيم والذال المعجمة والراء : البقرة الوحشية ، والرئم - بكسر المهملة : الظبي الخالص البياض ، والثيثل - بمثلثتين مفتوحتين بينهما ياء تحتانية ساكنة : بقر الوحش ، والأيل - بفتح الهمزة وكسر التحتانية المشددة ، الوعل - بفتح الواو وكسر المهملة - وهو تيس الجبل ، والحمل - بفتح المهملة : الرضيع من أولاد الضأن ، وقوله : لا تطبخوا جدياً بلبن أمه ، الظاهر أن معناه النهي عن أكله ما دام يرضع ، وما بعد الذي في الثالث هو معظم التوراة ، والذي في الخامس إنما هو إعادة لما في الثالث ، فإن الخامس تلخيص لجميع ما تقدمه من القصص والأحكام مع زيادات ، فصدق أن إيتاء الكتاب أتى معظمه بعد تحريم ما حرم عليهم ، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره : ذلكم وصاكم به كما وصى بني إسرائيل في الفصل الذي نسبته من التوراة كنسبة أم القرآن من القرآن ، وذلك هي العشر الآيات التي هي أول ما كتبه الله لموسى عليه السلام ، وهي أول التوراة في الحقيقة لأنها أول الأحكام ، وما قبلها فهو قصص وحاصل هذه العشر آيات : الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر من العبودية والرق ، لا يكونن لك إله غيري ، لا تقسم باسمي كذباً ، احفظ يوم السبت ، أكرم والديك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد بالزور ، لا تمدن عينيك إلى ما في أيدي الناس ، فالمعنى : ذلك وصيناكم به كما وصينا بني إسرائيل به في العشر الآيات وبعض ما آتينا موسى من التوراة ، ويجوز أن يكون التقدير : لكون هذه الآيات محكمة في كل الشرائع لم تنسخ في أمة من الأمم ولا تنسخ ، وصاكم به يا بني آدم في الزمن الأقدم ، ولم يزدد الأمر بها في التوصية إلا شدة ) ثم آتينا ) أي بما لنا من العظمة ) موسى الكتاب ) أي جميعه وهي فيه ، حال كونه ) تماماً ( لم ينقص عما يصلحهم شيئاً ) على ( الوجه ) الذي أحسن ) أي أتى بالإحسان فأثبت الحسن وجمعه بما بيّن من(2/746)
صفحة رقم 747
الشرع وبما حمى طوائف أهل الأرض به من الإهلاك بعامه ، فإنه نقل أن الله تعالى لم يهلك قوماً هلاكاً عاماً بعد إنزال التوراة ) وتفصيلاً لكل شيء ( من جملة ذلك الفصل المحتوي على الكلمات الحاوية لكل شيء يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا ، كما أن القرآن تفصيل لكل شيء من الجوامع السبع التي حوتها أم القرآن الحاوية لمصالح الدارين ، وفي هذين الاحتمالين المقتضيين لكون ( ثم ) على حقيقتها من الترتيب والمهلة علم من أعلام النبوة ، وهو الاطلاع على أن العشر الآيات وتحريم ما حرم عليهم بالبغي في أوائل ما أوحي إلى موسى عليه السلام بعد إغراق فبعون وأن معظم التوراة أنزل بعد ذلك ، وهذا لا يعرفه إلا أحبارهم ) وهدى ) أي بياناً ) ورحمة ) أي إكراماً لمن يقبله ويعمل به ) لعلهم ) أي بني إسرائيل ) بلقاء ربهم ) أي الذي أخرجهم من مصر من العبودية والرق بقوته العظيمة وكلماته التامة ) يؤمنون ) أي ليكون حالهم بعد إنزال الكتاب - لما يرون من حسن شرائعه وفخامة كلامه وجلالة أمره - حال من يرجى أن يجدد الإيمان في كل وقت بلقاء ربه لقدرته على البعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء لأنه لا تستقل به العقول ، وإنما يثبت بالسمع مع تجويز العقل له ، فيعلموا أنه لا يشبهه شيء كما أن كلامه لا يشبهه كلام فلا يبغوا باتخاذ عجل غاية أمره خوار لا يفهم ومجمجة لا تفيد .
فلما بين أن إنزال الكتب رحمة منه لأن غايتها الدلالة على منزلها فتمتثل أوامره وتتقى مناهيه وزواجره ، بين أنه لم يخص تلك المم بذلك ، بل أنزل على هذه الأمة كتاباً ولم يرض لها كونه مثل تلك الكتب ، بل جعله أعظمها بركة وأبينها دلالة ، فقال : ( وهذا ) أي القرآن ) كتاب ) أي عظيم ) أنزلناه ) أي بعظمتنا إليكم بلسانكم حجة عليكم ) مبارك ) أي ثابت كل ما فيه من وعد ووعيد وخير وغيره ثباتاً لا تمكن إزالته مع اليمن والخير .
ولما كان هذا معناه : وكان داعياً إليه محبباً فيه ، سبب عنه قوله : ( فاتبعوه ) أي ليكون جميع أموركم ثابتة ميمونة ، ولما أمر باتباعه وكان الإنسان ربما تبعه في الظاهر ، أمر بإيقاع التقوى المصححة للباطن إيقاعاً عاماً ، ولذلك حذف الضمير فقال : ( واتقوا ) أي ومع ذلك فأوقعوا التقوى ، وهي إيجاد الوقاية من كل محذور ، فإن الخطر الشديد والسلامة على غير القياس ، فلا تزايلوا الخوف من منزله بجهدكم ، فإن ذلك أجدر أن يحملكم على تمام الاتباع وإخلاصه ) لعلكم ترحمون ) أي ليكون حالكم حال من يرجى له الإكرام بالعطايا الجسام ، والآيتان ناظرتان إلى قوله تعالى ) قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ( - إلى قوله - :
77 ( ) وهم على صلاتهم يحافظون ( ) 7
[ الأنعام : 92 ] ، ثم(2/747)
صفحة رقم 748
بين المراد من إنزاله وهو إقامة الحجة البالغة فقال : ( أن ) أي لأن لا ) تقولوا ( أو كراهة أن تقولوا أيتها الأمة الأمية ) إنما أنزل الكتاب ) أي الرباني المشهور ) على طائفتين ( وقرب الزمن وبعّضه بإدخال الجار فقال : ( من قبلنا ) أي اليهود والنصارى ) وإن ) أي وأنا - أو وأن الشأن - ) كنا عن دراستهم ) أي قراءتهم لكتابهم قراءة مرددة .
ولما كانت هي المخففة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية فقال : ( لغافلين ) أي لا نعرف حقيقتها ولا ثبتت عندنا حقيتها ولا هي بلساننا ) أو تقولوا ) أي أيها العرب : لم نكن عن دراستهم غافلين بل كنا عالمين بها ، ولكنه لا يجب اتباع الكتاب إلا على المكتوب إليه فلم نتبعه ، و ) لو أنا ( أهلنا لما أهلوا له حتى ) أنزل علينا الكتاب ) أي جنسه أو الكتاب الذي أنزل إليهم من عند ربنا ) لكنا أهدى منهم ) أي لما لنا من الاستعداد بوفور العقل وحدة الأذهان واستقامة الأفكار واعتدال الأمزجة والإذعان للحق ، ولذلك سبب عن هاتين العلتين قوله : ( فقد جاءكم ( وذكر الفعل مدحاً لهذا القرآن وتفضيلاً وتشريفاً له على كل ما تقدمه وتنبيهاً على أن بيان هذه السورة في النهاية لأنها سورة أصول الدين ) بينة ) أي حجة ظاهرة بلسانكم ) من ربكم ) أي المحسن إليكم على لسان رجل منكم تعرفون أنه أولاكم بذلك ) وهدى ) أي بيان لمن تدبره عظيم ) ورحمة ) أي إكرام لمن قبله ، فكذبتم بها .
ولما قامت عليهم الحجة ، حسن وقوع تحذير التقرير بقوله : ( فمن ) أي فتسبب عن تكذيبكم أنه يقال بياناً لأنكم أظلم الناس : من ) أظلم ممن كذب ) أي أوقع التكذيب ) بآيات الله ) أي الذي لا أعظم منه فلا أعظم من آياته ، لأن الأثر على قدر المؤثر ) وصدف ) أي أعرض إعراضاً صار به كأنه في صفد أي سد عن سهولة الانقياد للدليل ) عنها ( بعد ما عرف صحتها .
ولما كان الجواب قطعاً : لا أحد أظلم منه ، فكان الحال مقتضياً لتوقع ما يجازى به ، قال : ( سنجزي ) أي بوعد صادق لا خلف فيه ، وأظهر ما أصله الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( الذين يصدفون ) أي يجددون الإعراض ولا يتوبون ) عن آياتنا ) أي على ما لها من العظمة ) سوء العذاب ) أي الذي يسوء نفسه ) بما كانوا يصدفون ) أي بسبب إعراضهم الذي كان عادة لهم .
الأنعام : ( 158 - 159 ) هل ينظرون إلا. .. . .
) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ( )(2/748)
صفحة رقم 749
ولما كان أسوأ السوء حقوق العذاب ، وكان حقوقه بعدم قبول التوبة ، فسره بقوله مهوناً له ومسهلاً بتجريد الفعل : ( هل ينظرون ) أي ما ينتظرون هؤلاء المكذبون أدنى انتظار وأقربه وأيسره ) إلا أن تأتيهم ) أي حال تكذيبهم ) ( الملائكة أي بالأمر الفيصل من عذابهم كما هي عادتها في إتيانها المكذبين ) أو يأتي ربك ) أي ظهور أمر المحسن إليك أتم ظهور بجميع الآيات التي تحملها العقول وذلك يوم الجزاء ) أو يأتي ( وأبهم تهويلاً للأمر وتعظيماً فقال : ( بعض آيات ربك ) أي أشراط الساعة التي يكون فيها ظهوره التام وإحسانه إليك الأعظم مثل دابة الأرض التي تميز الكافر من المؤمن وطلوع الشمس من مغربها المؤذن بإغلاق باب التوبة ؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا رآها الناس آمن من عليها ، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، ثم قرأ الآية .
ولما كان إتيان الملائكة - أي كلهم أمراً لا يحتمل العقول وصف عظمته ، ولا بشرى للمجرمين عند رؤيته ، فإنه لو وقع على صورتهم لتقطعت أوصالهم ولم يحتمله قوهم فقضي الأمر ثم لا ينظرون ، وأما تجلي الرب سبحانه وعز اسمه وجلت عظمته .
فالأمر أعظم من مقالة قائل إن رقق البلغاء أو إن فخموا
ترك ما يترتب عليه وقال : ( يوم يأتي ) أي يكشف ويظهر ) بعض آيات ربك ) أي المحسن إليك بالإتيان بذلك تصديقاً لك وترويعاً وتدميراً لمخالفيك ) لا ينفع نفساً ) أي كافرة ) إيمانها ) أي إذ ذاك ، ولا نفساً مؤمنة كسبها الخير إذ ذاك في إيمانها المتقدم على تلك الآية بالتوبة فما رواءها ، ولذلك بينه وبقوله واصفاً نفساً : ( لم تكن ) أي الكافرة ) آمنت ( ويسر الأمر ببعض زمان القبل ، ولم يكلف باستغراقه بالإيمان فقال : ( من قبل ) أي قبل مجيء الآية في زمن متصل بمجيئها .
ولما ذكر الكافرة ، أتبعها المؤمنة فقال عاطفاً على ( آمنت ) : ( أو ( لم تكن المؤمنة العاصية ) كسبت ) أي من قبل ) في إيمانها ) أي السابق على مجيء الآية ) خيراً ) أي توبة ، وبعبارة أخرى : نفساً كافرة إيمانها المجدد بعد مجيء الآية ، وهو معنى ) لم تكن آمنت من قبل ( أو نفساً مؤمنوة كسبها الخير بعد مجيء الآية ما لم تكن كسبت في إيمانها السابق على الآية خيراً ، والحاصل أنه لا يقبل عند ذلك إيمان كافر ولا توبة فاسق - كما قاله البغوي - لأن المقصود من التصديق والتوبة الإيمان بالغيب وقد فات بالآية الملجئة ، فيكون فاعل الفعل المقدر في ( كسبت ) محذوفاً ، والتقدير : لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبل ، أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً إيمانها وكسبها ، فالإيمان راجع إلى من لم(2/749)
صفحة رقم 750
يؤمن ، والكسب راجع إلى من لم يكسب ، وهو ظاهر ، والتهديد بعدم نفع الإيمان عند مجيء الآية أعظم دليل على ما ذكرته من التقدير ، والآية من الاحتباك : ذكر إيمانها أولاً دليل على حذف كسبها من الجملة الثانية ، وذكر جملتي آمنت وكسبت ثانياً دال على حذف كافرة ومؤمنة أولاً .
ولما كان هذا تهديداً - كما ترى - هائلاً ، أتبعه ما هو أشد منه للتنبيه على أن أهل الإيمان سالمون من ذلك بقوله : ( قل انتظروا ) أي بغاية جهدكم أيها المكذبون ) إنا منتظرون ( بجهدنا ، وستعلمون لمن تكون العاقبة .
ولما نهى عن اتباع السبل لأنها سبب التفرق عن الحق ، وكان قد كرر في هذه السورة نصب الحجج وإنارة الأدلة وإزاحة الشكوك ومحو آثار الشبه ، وأشرفت السورة على الانقضاء .
وكان من المعلوم قطعاً أن الحق - من حيث هو حق - شديد التأثير في إزهاق الباطل فكيف إذا كان كلام الملك الذي لا يخالف أمره ولا يخرج عن إرادته ؛ اشتد استشراف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى رؤية ذلك الأثر مع ما عنده من الحرص على إسلام قومه لما طبعه الله عليه من الشفقة على جميع الخلق عموماً وعليهم خصوصاً ، وإنما يكون ذلك الأثر بإيجاد هدايتهم ومحو غوايتهم ، فملا ختم سبحانه بهذين التهديدين العظيمين الدالين على غشاوتهم ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان رجاه من هدايتهم أمر كأنه كان قد حصل ، وذلك مورث للشفوق من الأسف على ما لا يدري قدره ولا يوصف خبره ، فثبته سبحانه وسلاه بقوله : ( إن الذين فرقوا ) أي بعد إبلاغك إياهم ) دينهم ) أي بتكذيبهم ببعض آيات الله وصدوفهم عنها وإيمانهم ببعضها ففارقوه ، لأن الكفر بعضه كفر بكله ، وأضيف الدين إليهم لشدة رغبتهم فيه ومقاتلتهم عليه ) وكانوا شيعاً ( كل فرقة تشايع وتشيع إمامها كالعرب الذين تحزبوا أحزاباً بالاستكثار من الأصنام ، فكان في كل قطر لهم معبود أو اثنان فأكثر ، وكأهل الكتاب الذين ابتدعوا في دينهم بدعاً أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضاً وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ، وكالمجوس الذين مزقوا دينهم باعتقاد أن الإله اثنان : النور والظلمة ، وعبدوا اًنام والنجوم وجعلوا لكل نجم صنماً يتوسل به في زعمهم إليه ) لست منهم ) أي من حسابهم ولا من عقابهم ولا من خلق الهداية في قلوبهم ) في شيء ( وفي هذا غاية الحث على الاجتماع ونهاية التوعد على الافتراق .
ولما خفف عنه ( صلى الله عليه وسلم ) بتبرئته منهم ، أسند إلى نفسه المقدس ما يحق له في إحاطة علمه وقدرته ، فقال جواباً لمن يقول : فإلى من يكون أمرهم ؟ : ( إنما أمرهم ) أي في ذلك كله وفي كل ما يتعلق بهم مما لا يحصره حد ولا يحصيه عد ) إلى الله ) أي الملك(2/750)
صفحة رقم 751
الذي لا أمر لأحد معه غيره ، فمن شاء هداه ومن شاء أعماه ، ومن شاء أهلكه ومن شاء أبقاه لأن له كمال العظمة .
ولما كان الحشر متراخياً عن ذلك كله في الرتبة وفي الزمان ، لا تبلغ كنه عظمته العقول ، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي والتنبيه بقوله : ( ثم ( بعد استيفاء ما ضرب لهم من الآجال ) ينبئهم ) أي تنبئة عظيمة جليلة مستقصاة بعد أن يحشرهم إليه داخرين ) بما كانوا ) أي جبلة وطبعاص ) يفعلون ) أي من تلك الأشياء القبيحة التي كان لهم إليها أتم داعية غير متوقفين في إصدارها على علم مع ادعاء التدين بها ، والآية - مع ما تقدم من مقتضياتها - تعليل لقوله ) ) ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ( ) [ الأنعام : 153 ] .
الأنعام : ( 160 - 162 ) من جاء بالحسنة. .. . .
) مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما أخبر أن أمرهم ليس إلا إليه ، كان كأنه قيل : فماذا يفعل بهم حينئذ ؟ فأجيب بقوله : ( من جاء ( ولما أخبر أن أمرهم ليس إلا إليه ، كان كأنه قيل : فماذا يفعل بهم حينئذ ؟ فأجيب بقوله : ( من جاء ) أي منهم أو من غيرهم ) بالحسنة ) أي الكاملة بكونها على أساس الإيمان ) فله ( من الحسنات ) عشر أمثالها ( كرماً وإحساناً وجوداً ومتناناً ، يجازيه بذلك في الدنيا أو في الآخرة ، وهذا المحقق لكل أحد ويزداد البعض وضوحاً بحسب النيات ، وذكر العشر ، لأنه بمعنى الحسنة ، وهو مضاف إلى ضميرها .
ولما تضمن قوله ) ) وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ( ) [ الأنعام : 153 ] مع تعقيبه بقوله ) ) لا نكلف نفساً إلاّ وسعها ( ) [ الأنعام : 152 ] الإشارة إلى أن المساواة في الجزاء مما ينقطع دونه أعناق الخلق ، أخبر أن ذلك عليه هين لأن عمله شامل وقدرته كاملة بقوله : ( ومن جاء بالسيئة ) أي أيّ شيء كان من هذا الجنس ) فلا يجزى ) أي في الدارين ) إلا مثلها ( إذا جوزي ، ويعفو عن كثير .
ولما كانت المماثلة لا يلزم كونها من كل وجه وإن كانت ظاهرة في ذلك لا سيما في هذه العبارة ، صرح بما هو ظاهره لأنه أطيب للنفس وأسكن للروع فقال : ( وهم لا يظلمون ) أي بكونها مثلها في الوحدة وإن كانت أكبر أو من جنس أشد من جنسها ونحو ذلك ، بل المماثلة موجودة في الكم والكيف ، فلا ينقص أحد في ثواب ولا يزاد في عقاب .(2/751)
صفحة رقم 752
ولما تضمن ما مضى تصحيح التوحيد بالأدلة القاطعة وتحقيق أمر القضاء والقدرة وإبطال جميع أديان الضلال ووصفها بتفرق أهلها الدال على بطلانها واعوجاجها ، وختم بهذا التحذير الذي لا شيء أقوم منه ولا أعدل ، أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالإعلان بأمره وأن يصف دينه الذي شرعه له وهداه إليه بما فيه من المحاسن تحبيباً فيه وحثاً عليه ولأن ذلك من نتيجة هذه السورة فقال : ( قل ( وأكد بالإتيان بالنونين فقال : ( إنني هدانى ) أي بياناً وتوفيقاً ) ربي ) أي المحسن إليّ بكل خير لا سيما هذا الذي أوحاه إليّ وأنزله عليّ ) إلى صراط مستقيم ) أي طريق واسع بين ، ثم مدحه بقوله : ( ديناً قيماً ) أي بالغ الاعتدال والاستقامة ثابتها ، هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة ، وهو في قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الياء الخفيفة مصدر بمعنى القيام وصف به للمبالغة ، وزاده مدحاً بقوله مذكراً لهم - لتقليدهم الآباء - بأنه دين أبيهم الأعظم : ( ملة إبراهيم ( والملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظُلَم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا - أفاده الحرالي .
ولذلك قال : ( حنيفاً ) أي ليناً هيناً سهلاً قابلاً للاستقامة لكونه ميالاً مع الدليل غير جاف ولا كز واقف مع التقليد عمى عن نور الدليل - كما تقدم ذلك في البقرة ، وهو معنى قوله : ( وما ) أي والحال أنه ما ) كان من المشركين ) أي الجامدين مع أوهامهم في ادعاء شريك لله مع رؤيتهم له في كونه لا يضر ولا ينفع ولا يصلح لشركة آدمي فضلاً عن غيره بوجه ، لا ينقادون لدليل ولا يصغون إلى قيل ، فكان هذا مدحاً لهذا الدين الذي هدى إليه ( صلى الله عليه وسلم ) وبياناً لأنه الذي اختاره سبحانه لخليله إبراهيم عليه السلام رجوعاً إلى
77 ( ) وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ( ) 7
[ الأنعام : 74 ] الذي بنيت السورة في الحقيقة عليه ، وألقيت أزمة أطرافها إليه ، وترغيباً في هذا الدين لأن جميع المخالفين يتشبثون بأذيال إبراهيم عليه السلام : العرب وأهل الكتابين بنسبة الأبوة ، والمجوس بنسبة البلد والأخوة ، وأشار بذلك إلى أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فهم ما حاج به أبوه إبراهيم عليه السلام قومه وقبله ، فلم ينسب كغيره إلى جمود ولا عناد .
ولما كان كأن سائلاً قال : وما هذه الملة التي تكرر مدحها والدعاء إليها ؟ أجاب بقوله ليتأسى به أهل الإيمان ، فليلتزموا جميع ما يدعو إليه على وجه الإخلاص : ( قل إن صلاتي ) أي التي هي لباب الدين وصفاوته ) ونسكي ) أي جميع عبادتي من الذبائح وغيرها ) ومحياي ) أي حياتي وكل ما تجمعه من زمان ومكان وفعل ) ومماتي لله ) أي الملك الأعظم الذي لا يخرج شيء عن أمره ؛ ولما علم بالاسم الأعظم أنه يستحق ذلك لذاته ، أعلم أنه يستحقه من كل أحد لإحسانه إليه وإنعامه عليه فقال : ( رب العالمين ( الموجد والمدبر والموعي لهم .(2/752)
صفحة رقم 753
الأنعام : ( 163 - 165 ) لا شريك له. .. . .
) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما أعلم أنه يستحقه لذاته ووصفه ، أعلم أنه يستحقه وحده فقال : ( لا شريك له ) أي ليكون لشريكه على زعمكم شيء من العبادة لما كان له شيء من الربوبية ، فأبان بهذا أو وجهه ( صلى الله عليه وسلم ) ووجه من تبعه واحد لا افتراق فيه ، وهو قصد الله وحده على سبيل الإخلاص كما أنه يوحد بالإحياء والإماتة فينبغي أن يوحد بالعبادة .
ولما دل على ذلك ببرهان العقل ، أتبعه بجازم النقل فقال عاطفاً على ما تقديره : إلى ذلك أرشدني دليل العقل : ( وبذلك ) أي الأمر العالي من توجيه أموري إليه على وجه الإخلاص .
ولما كان له سبحانه في كل شيء آية تدل على أنه واحد ، فكان كل شيء آمراً بالتوحيد بلسان حاله أو ناطق قاله ، بني للمفعول قوله : ( أمرت ) أي يعني أن هذا الدين لو لم يرد به أمر كان يتبغي للعاقل أن يدين به ولا يعدل عنه لشدة ظهوره وانتشار نوره بما قام عليه من ادلائل ودرج على اتباعه من الأفاضل والأماثل ، فكيف إذا برزت به الأوامر الإلهية ودعت إليه الدواعي الربانية ) وأنا أول المسلمين ) أي المنقادين لما يدعو إليه داعي الله في هذا الدين ، لا اختيار لي أصلاً ، بل أنا مسلوب الاختيار فيه منقاد أتم انقياد ، وهذه الأولية على سبيل الإطلاق في الزمان والرتبة بالنسبة إلى أمته ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الرتبة بالنسبة إلى من تقدمه من الأنبياء وغيرهم ، وهذا أيضاً من باب الإحسان في الدعاء بالتقدم إلى ما يدعو إليه وأن يحب للمدعو ما يحب لنفسه ليكون أنفى للتهمة وأدل على النصيحة فيكون أدعى للقبول .
ولما حاجوه في الشرك في هذه السورة غير مرة كما حاج إبراهيم عليه السلام قومه ، وكان آخر ذلك أن دعاهم ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تلاوة ما أنزل عليه سبحانه في تحريم الشرك وشرح دينه القيم ، ثم كرر هنا ذمهم بالتفرق الدال على الضلال ولا بد ، ومدح دين الرسل الذي تقدم أنهم لم يختلفوا فيه أصلاً ، وأيأس الكفار من موافقته ( صلى الله عليه وسلم ) لهم نوعاً من الموافقة وميله معهم شيئاً من الميل ، أمره سبحانه - بعد أن ثبت بأول السورة وأثنائها وآخرها أنه لا رب غيره - بالإنكار على من يريد منه ميلاً إلى غير من تفرد بمحياه ومماته ، فكان له التفرد بما بينهما وما بعد ذلك من غير شبهة ، والتوبيخ الشديد فقال :(2/753)
صفحة رقم 754
) قل ) أي لهؤلاء الذي يطمعون أن تطرد أصحابك من أجلهم ) أغير الله ) أي الذي له الكمال كله ) أبغي ) أي أطلب وأريد بالإشراك فإن الغنى المطلق لا يقبل ممن أشرك به شيئاً ) رباً ) أي منعماً يتولى مصالحي كما بغيتم أنتم ، فهو تعريض بهم وتنبيه لهم ، والإسناد إليه ( صلى الله عليه وسلم ) - والمراد جميع الخلق - من باب الإنصاف في المناظرة للاستعطاف ) وهو ) أي والحال أنه كما ثبت بالقواطع وركز في العقول الثوابت وطبع في أنوار الأفكار اللوامع ) رب كل شيء ) أي موجده ومربيه ، أفينبغي لأحد أن يدين لغير سيده وذلك الغير مربوب مثله لسيده ، هذا ما لا يرضاه عاقل لنفسه .
ولما أنكر على من يجنح إلى غيره مع عموم بره وخيره ، أتبعه الترويع من قويم عدله في عظيم ضره فقال : ( ولا ) أي والحال أنه لا ) تكسب كل نفس ) أي ذنباً وإن قل مع التصميم والعزم القوي الذي هو بحيث يصدقه العمل - كما مضى في آية البقرة ) إلا عليها ) أي لا يمكن أن يكون باطلاً لا عليها ولا على غيرها ، وإذا كان عليها لا يمكن أن يحاسب به سبحانه سواها لأنه عدل حكيم فكيف أدعو غيره دعاء جلياً أو خفياً وذلك أعظم الذنوب وللتنفير من الشرك الخفي بالرياء وكل معصية وإن صغرت ، جرد الفعل عن الافتعال لئلا يتوهم أنه لا يكون علهيا إلا ما بالغت فيه ، والسياق هنا واضح في أن الكسب مقيد بالذنب فإنه في دعاء غير الله وىية البقرة للإيماء إلى الذنب الذي لا يقع إلا بشهوة شديدة من النفس له لطبعها على النقائص ، فهي لا تنافي هذه لأن ما كسبته من الذنوب قد علم من ثَمَّ أنه اكتساب ، وأحسن من هذا أن يقال : ولما كان المعنى أني إن بغيت رباً غيره وكلني إلى ما توليته ، وأنا إنسان والإنسان مطبوع على النقائص فهلكت ، عبر عنه بقوله مجرداً للفعل لقصد العموم : ( ولا تكسب كل نفس ( بما هي نفس ناظرة في نفاستها معرضة عن ربها موكولة إلى حولها وقوتها ) إلا عليها ( ولا يحمل عنها غيرها شيئاً من وزرها ؛ ولما كان ربما حمل أحد عن غيره شيئاً من أثقاله مساعدة له ، نفى ذلك بقوله : ( ولا تزر وازرة ) أي تحمل حاملة ولو كانت والداً أو ولداً ) وزر ) أي إثم ) أخرى (
77 ( ) وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ( ) 7
[ فاطر : 18 ] فإذا كان الأمر كذلك فلا يجعل بعاقل أن يعرض نفسه بحمل شيء من غضب هذا الملك الذي لا شريك له وإليه المرجع وإن طال المدى .
ولما عم في الكسب وحمل الوزر لئلا يقول متعنت أن خص هذا لك لا لنا ، عم في المرجع أيضاً لمثل ذلك ، فقال مهدداً لهم بعد كمال الإيضاح عاطفاً على ما أرشد إليه الإنكار من النفي في نحو أن يقال : إني لا أفعل شيئاً من ذلك ، لا أبغي رباً غير ربي أصلاً ، وأما أنتم فافعلوا ما أنتم فاعلون فإن ربكم عالم به : ( ثم ) أي بعد طول الإمهال(2/754)
صفحة رقم 755
لكم لطفاً منه بكم ) إلى ربكم ) أي الذي أحسن إليكم بكل نعمة ، لا إلى غيره ) مرجعكم ) أي بالحشر وإن عمرتم كثيراً أو بقيتم طويلاً ) فينبئكم ) أي يخبركم إخباراً جليلاً عظيماً مستوفى .
ولما كان قد تقدم أنهم فرقوا دينهم ، قال : ( بما كنتم ) أي جبلة وطبعاً ، ولذلك قدم الجار ليفيد الاهتمام به لقوة داعيتهم إليه من غير إكراه ولا ذهول ولا نسيان فقال : ( فيه تختلفون ) أي مع رسول وغيره ، ويدينكم على جميع ذلك بما تستحقونه ، وحالكم جدير بأن يعظم عقابكم لأنكم كفرتم نعمته ؛ قال أبو حيان : حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتكح ، فنزلت هذه الآية - انتهى .
ولما قدم أنه المحسن إلى كل شيء بالربوبية ، وختم بالتهديد بالحشر ، أتبعه التذكير بتخصيصهم بالإحسان ، فقال عاطفاً على ) وهو رب كل شيء ( مستعطفاً لهم إليه بالتذكير بنعمته : ( وهو ) أي لا غيره ) الذي جعلكم ) أي أيها الإنس ) خلائف الأرض ) أي تفعلون فهيا فعل الخليفة متمكنين من كل ما تريدونه ، ويجوز أن يراد بذلك العرب ، ويكون ظاهر الكلام أن المراد بالأرض ما هم فيه من جزيرة العرب ، وباطنه البشارة بإعلاء دينهم الإسلام على الدين كله وغلبتهم على أكثر أهل الأرض في هذه الأزمان وعلى جميع أهل الأرض في آخر الزمان ) ورفع بعضكم ( في مراقي العقل والعلم والدين المال والجاه والقوة الحسية والمعنوية ) فوق بعض درجات ) أي مع كونكم من نفس واحدة ، وربما كان الوضيع أعقل من الرفيع ولم ينفعه عقله فيدل ذلك دلالة واضحة على أن ذلك كله إنما هو فعل الواحد القهار ، لا بعجز ولا جهل ولا بخل ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( ليبلوكم ) أي يفعل معكم فعل المختبر ليقيم الحجة عليكم وهو أعلم بكم منكم ) في ما آتاكم ( فينظر هل يرحم الجليل الحقير ويرضى الفقير بعطائه اليسير ، ويشكر القوي ويصبر الضعيف .
ولما ذكر علو بعضهم على بعض ، وكان من طبع الآدمي التبجر ، أتبعه التهديد للظالم والاستعطاف للتائب بما يشير - بما له سبحانه من علو الشأن وعظيم القدرة - إلى ضعف العالي منهم وعجزه عن عقاب السافل بمن يحول بينه وبينه من شفيع وناصر وبما يحتاج إليه من تمهيد الأسباب ، محذراً من البغي والعصيان فقال موجهاً الخطاب إلى أكمل الخلق تطييباً لقلبه إعلاماً بأنه رباه سبحانه أجمل تربية وأدبه أحسن تأديب : ( إن ربك ) أي المحسن إليك ) سريع الحساب ) أي لمن يريد عقابه ممن يكفر نعمته لكونه لا حائل بينه وبين من يريد عقابه ولا يحتاج إلى استحضار آلات العقاب ، بل كل ما يريد(2/755)
صفحة رقم 756
حاضر لديه عتيد
77 ( ) إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ( ) 7
[ يس : 82 ] ، وفي ذلك تهديد شديد لمن لا يتعظ .
ولما هدد وخوف ، رجّى من أراد التوبة واستعطف فقال : ( وإنه لغفور رحيم ( معلماً بأنه - على تمام قدرته عليهم وانهماكهم فميا يوجب الإهلاك - بليغ المغفرة لهم عظيم الرحمة
77 ( ) ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ( ) 7
[ النحل : 61 ] ، حثاً على عفو الرفيع من الوضيع ، وتأكيده الثاني دون الأول ناظر إلى قوله
77 ( ) كتب على نفسه الرحمة ( ) 7
[ الأنعام : 12 ] ، ( إن رحمتي سبقت غضبي ) لأنه في سياق التأديب لهذه الأمة والتذكير بالإنعام عليهم بالاستخلاف ، وسيأتي في الأعراف بتأكيد الاثنين لأنه في حكاية ما وقع لبني إسرائيل من إسراعهم في الكفر ومبادرتهم إليه واستحقاقهم على ذلك العقوبة ، وجاء ذلك على طريق الاستئناف على تقدير أن قائلاً قال : حينئذ يسرع العالي إلى عقوبة السافل فأجيب بأن الله فوق الكل وهو أسرع عقوبة ، فهو قادر على أن يسلط الوضيع أو أحقر منه على الرفيع فيهلكه ؛ ثم رغب بعد هذا الترهيب في العفو بأنه على غناه عن الكل أسبل ذيل غفرانه ورحمته بإمهاله العصاة وقبوله اليسير من الطاعات بأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور منافع لهم ثم هم به يعدلون ولولا غفرانه ورحمته لأسرع عقابه لمن عدل به غيره فأسقط عليهم السماوات وخسف بهم الأرضين التي أنعم عليهم بالخلافة فيها وأذهب عنهم النور وأدام الظلام ، فقد ختم السورة بما به ابتدأها ، فإن قوله : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ( هو المراد بقوله :
77 ( ) هو الذي خلقكم من طين ( ) 7
[ الأنعام : 2 ] وقوله :
77 ( ) أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ( ) 7
[ الأنعام : 164 ] هو معنى قوله :
77 ( ) خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( ) 7
[ الأنعام : 1 ] ، - والله الموفق .
.. .. .(2/756)
صفحة رقم 3
سورة الأعراف
الأعراف : ( 1 - 2 ) المص
) المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( ( )
مقصودها إنذار من أعراض عما إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام ، وتحذيره بقوارع الدرارين ، وهذا أحسن مما كان ظهر لي وذكرته عند ( والوزن يومئذ الحق ) وأدل ما فيها على هذا المقصد أمر الأعراف فإن اعتقاده يتضمن الإشراف على الجنة والنار والوقوف على حقيقة ما فيها وما أعد لأهلها الداعي إلى امتثال كل خير واجتناب كل شر والاتعاظ بكل مرقق ) بسم الله ( المتردي برداء الكبر وإزار العظمة والجلال ) الرحمن ( الذي من رحمته انتقامه من أهل الكفر والضلال ) الرحيم ( الهادي لأهل الاصطفاء إلى لزوم طريق الوفاء )
( المص ).
لما ذكر سبحانه في آخر التي قبلها أنه أنزل إليهم كتاباً مباركاً ، وأمر باتباعه وعلل إنزال وذكر ما استتبعه ذلك مما لا بد منه في منهاج البلاغة وميدان البراعة ، وكان من جملته أن أمر المدعوين به ليس إلا ، إن شاء هداهم وإن شاء أضلهم واستمر فيها لا بد منه في تتميم ذلك إلى أن ختم السورة بما انعطف على ما افتتحت به ، فاشتد اعتناقع له حتى صارا كشيء واحد ؛ أخذ يستدل على ما ختم به تلك من سرعة العقاب وعموم البر والثواب وما تقدمه ، فقال مخبراً عن مبتدإ تقديره : هو كتاب ) أي عظيم أوضح الطريق المستقيم فلم يدع بها لبساً ولم يذر خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه ، فإنزاله من عظيم رحمته ؛ ثم وصفه بما أكد ما أشار إليه من رحمته بقوله : ( أنزل إليك ) أي وأنت أكرم الناس نفساً وأوسعهم صدراً وأجملهم قلباً وأعرقهم إصالة وأعرقهم باستعطاف المباعد واستحلاب المنافر المباغض ، وهذا شيء قد خصك به فرفعك على جميع الخلق درجات لا تحصى ومراتب لا حد لها فتستقصي(3/3)
صفحة رقم 4
ولما كان المقصود من البعثة أولاً النذارة للرد عما هم عليه من الضلال ، وكانت مواجهة الناس بالإنذار شديدة على النفوس ، وكان الإقدام عليها من الصعوبة بمكان عظيم ؛ قدم قوله مسبباً عن تخصيصه بهذه الرحمة : ( فلا يكن ( وعبر عن القلب بمسكنه الذي هو أوسع منه مبالغة في الأمر فقال : ( في صدرك حرج ) أي شيء من ضيق بهم أو خوف أو نحو ذلك ) منه ( على ما تعلق ب ( أنزل ) من قوله : ( لتنذر به ) أي نذري لكل من بلغه أو للمخالفين من سرعة العقاب على نحو ما أوقع سبحانه بالقرون الماضية والأمم السابقة - كما أشار إليه آخر الأنعام ، وسيقص من أخبارهم من هذه السورة ) و ( لتنذر به ) ذكرى ) أي عظمة ) للمؤمنين ) أي للبشر والمواعظ والغفران والرحمة على ما اشار إليه ختام الأنعام ، وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أماكن إنذاره وتذكيره من العقلاء ، ويجوز أن تتعلق لام ( لتنذر ) بمعنى النهي ، أي انف الحرج الواقع لأجل لكذا ، فإن من كان منشرح الصدر أقدم على ما يريد أو يحرج ، أي لا يكن الحرج الواقع لأجل أن تنذر ، أي لأجل إنذار به ، والنهي للنبي صلى الله عليع وسلم ، حُوّل إلى الحرج مبالغة وأدباً ، ويجوز أن يكون التقدير من الاحتباك : إثباته ( لتنذر ) أولاً ، فإن النفوس على قسمين : نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الحيوانية فبعثه الرسل في حقهم إنذار وتخويف ، ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية فبعثه الرسل في حقهم تذكير لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية وجبلتها الخلقية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الأجساد فيعرض لها نوع ذهول وغفلة ، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصلت بها أنوار أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها ، فاشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والريحان فطارت نحوهم كل مطار فتمحضت لديها تلك الأنوار ؛ وقال أبو حيان : واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله :
77 ( ) وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ( ) 7
[ الأنعام : 155 ] واستطرد ممنه لما بعده إلى قوله في آخر السورة
77 ( ) وهوالذي جعلكم خلائف الأرض ( ) 7
[ الأتعام : 165 ] وذكر ما يكون بع التكاليف ، وهو الكتاب الإلهي ، وذكر الأمر باتباعه كما امر في قوله
77 ( ) وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ( ) 7
[ الأنعام 155 ] - انتهى .
وقال شيخه الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال تعالى ابتداء بالاعتبار
77 ( ) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وارسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا(3/4)
صفحة رقم 5
الأنهار تجري من تحتهم فاهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين ( ) 7
[ الأنعام : 6 ] ثم قال تعالى
77 ( ) ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانو به يستهزئون ( ) 7
[ الأنعام : 10 ] ثم قال تعالى :
77 ( ) قل سيروا في الرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( ) 7
[ الأنعام : 11 ] ثم قال تعالى
77 ( ) ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا ( ) 7
[ الأنعام : 34 ] وقال تعالى
77 ( ) ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذتهم بالبأساء والضراء ( ) 7
[ الأنعام : 42 ] وقال تعالى
77 ( ) يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ( ) 7
[ ألانعام : 13 ] فوقعت الإحالة في هذه الآي على الاعتبار بالأمم السالفة وما كان منهم حين حين كذبوا أنبياءهم وهلاك تلك القرون بتكذيبهم وعتوهم وتسلية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بجريان ما جرى له بمن تقدمه مت الرسل
77 ( ) وقد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون ( ) 7
[ الأنعام : 33 ] فاستدعت الأحالة والتسلية بسط أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ، والإعلام بصبر الرسل - عليهم السلام - عليهم وتلطفهم في دعائهم ، ولم يقع في السور الأربع قبل سورة الأنعام مثل هذه الإحالة والتسلية وقد تكررت في سورة النعام كما تبين بعد انقضاء ما قصد من بيان طريق المتقين أخذاً وتركاً وحال من حاد عن سننهم ممن رامه أو قصده فلم يوفق له ولا أتم له أمله من الفريقين : المستندة للسمع والمعتمدة للنظر ، فحاد الأولون بطارئ التغيير والتبديل ، وتنكب الآخرون بسوء التناول وقصور الفهام وعلة حيد الفريقين السابقة الأزلية ؛ فلما انقضى أمر هؤلاء وصرف الخطاب إلى تسليته عليه السلام وتثبيت فؤاده بذ كر أحوال الأنبياء مع أممهم وأمر الخلق بالاعتبار بالأمم السالفة ، وقدّم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذكر الأنبياء
77 ( ) أولئك الذين هدى الله فبداهم اقنده ( ) 7
[ الأنعام : 90 ] بسط تعالى حال من وقعت الإحالة عليه ، واستوفى الكثير من قصصهم إلى آخر سورة هود إلى قوله سبحانه
77 ( ) وكلاّ نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فؤادك ( ) 7
) هود : 120 ( فتأمل بما افتتحت به السورة المقصودة بها قصص الأمم وبما اختتمت يلح للك ما أشرت إليه - والله أعلم بمراده ، وتأمل افتتاح سورة الأعراف بقوله )
77 ( ) فلنقص عليهم بعلم وما كنا غائبين ( ) 7
[ الأعراف : 7 ] بعد تعقيب قصص بني إسرائيل بقصة بلعام
77 ( ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه ( ) 7
[ الأعراف : 175 ] ، وثم قال :
77 ( ) ذلك مثل القوم الذين كذبوا يآيتنا ( ) 7
[ الأعراف : 176 ] فتأمل هذا الإيماء بعد ذكر القصص ، وكيف ألحق من كذب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العرب وغيرهم بمن قص ذكره من المكذبين ، وتأمل افتتاح ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام وكلاهما ممن كفر على علم ، وفي ذلك أعظم موعظة ، قال الله تعالى إثر ذلك
77 ( ) من يهد الله فهو الم ( ) 7(3/5)
صفحة رقم 6
[ الأعراف : 178 ] ، فبدأ الاستجابة بنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بذكر ما أنعم عليه وعلى من استجاب له فقال تعالى : ( ) آلمص كتاب أنزل ( ) [ الأعراف : 2 ] فأشار إلى نعمته بإنزال الكتاب الذي جعله هدى للمتقين ، واشار هنا ما يحمله عليه من التسلية وشرح الصدور بما جرى من العجائب والقصص مع كونه هدى ونوراً ، فقال ) ) فلا يكن في صدرك حرج من ( ) [ الأعراف : 2 ] أي أنه قد تضمن مما أحلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك ممن نقص خبره من الرسل ، ولتستن في إنذارك ودعائك وصبرك سننهم ، وليتذكر المؤمنون ؛ ثم أمر عباده بالاتباع لما أنزله فقال : ( ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( ( الأعراف : 3 ] فإنة هلاك من نقص عليكم خبره من الأمم إنما كان لعدم الاتباع والركون إلى أوليائهم من شياطين الجن والإنس ، ثم أتبع ذلك بقصة آدم عليه السلام ليبين لعباده ما جرت سنته فيهم من تسلط الشياطين وكيده وأنه عدو لهم ) ) يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ( ) [ الأعراف : 27 ] ووقع في قصة آدم هنا ما لم يقع في قصة البقرة من بسط ما اجمل هناك كتصريح اللعين بالحسد وتصور خيريته بخلقه من النار وطلبة الإنظار والتسلط على ذرية آدم والإذن له في ذلك ووعيده ووعيد متبعيه ثم أخذ في الوسوسة إلى آدم عليه السلام وحلفه له ) ) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ( ) [ الأعراف : 21 ] وكل هذا مما أجمل في سورة البقرة حتى لم يتكرر بالحقيقة ولا التعرض لقصص طائفة معينة فقط ، ومن عجيب الحكمة أن الواقع في السورتين من كلتا القصتين مستقل شاف ، وإذا ضم بعض ذلك إلى بعض ارتفع إجماله ووضح كماله ، فتبارك من هذا كلامه ومن جعله حجة قاطعة وآية باهرة .
ولما أعقب تعالى قصصهم في البقرة بأمره نبيه والمؤمنين بالعفو والصفح فقال تعالى ) ) فاعفوا واصفحوا ( ) [ البقرة : 109 ] أعقب تعالى أيضاً هنا بقوله لنبيه عليه الصلاة والسلام ) ) خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ) [ الأعراف : 199 ] وقد خرجنا عن المقصود فلنخرج إليه انتهى
الأعراف : ( 3 - 7 ) اتبعوا ما أنزل. .. . .
) اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ(3/6)
صفحة رقم 7
عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ) 73
( ) 71
ولما تقدم سبحانه إليه ( صلى الله عليه وسلم ) في امر الإنذاروالإذكار بالكتاب تقدم إلى اتباعه فأمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع أهل الضلال وما يوحي إليهم أولياؤهم من زخارفهم بعد أن أخبر بكونه ذكرى أنه سبب لعلو شأنهم وعز سلطانهم ، فقال متافتاً إليهم مقبلاً جلاله عليهم ) اتبعوا ) أي حملوا أنفسكم حملاً عظيماً بجد ونشاط على اتباع ) وما أنزل إليكم ( اي قد خصصتم به دون غيركم فاشكروا هذه النعمة ) من ربكم ) أي الذي محسناً إليكم ) ولاتتبعوا ( ولعله عبر بالافتعال إيماء إلى أن ما كان دون علاج - بل هفوة وبنوع غفلة - في محل العفو ) من دونه ) أي دون ربكم ) أولياء ) أي من الذين نهيناكم عنهم في الأنعام وبينا ضررهم لكم من شياطين الإنس والجن وعدم إغنائهم وأن الأمر كله لربكم .
ولما كانوا قد خالفوا في اتباعهم صريح العقل وسليم الطبع ، وعندهم أمثلة ذلك لو تذكروا ، قال منبهاً لهم على تذكر ما يعرفون من تصرفاتهم : ( قليلاً ( وأكد التقليل ب ( ما ) النافي وبإدغام تاء التفعيل فقال : ( ما تذكرون ) أي تعالجون أنفسكم على ذكر ما هو مركوز في فطركم الأولى فإنكم مقرون بأن ربكم رب كل شيء فكل من تدعون من دونه مربوب ، وأنتم لا تجدون في عقولكم ولا طباعكم ولا استعمالاتكم ما يدل بنوع دلالة على ان مربوباً يكون شريكاً لربه .
ولما كان من أعظم ما يتذكر سار النعم وضار النقم للغقبال على الله والإعراض عما سواه وعدم الأغترار باسباب الأمن والراحة ، قال : ( وكم ( اي قلّ تذكركم وخوفكم من سطواتنا والحال أنه كم ) من قرية ( وإن جلت ؛ ولما كان المراد المبالغة في افهلاك ، أسنده إلى القرية والمراد أهلها فقال : ( أهلكنا ها ) أي بما لنا من العظمة لظلمها باتباع من دون الله ، فلا تغتروا بأوليائكم من دونه وأنتم عالمون بأنهم لم ينفعوا من ضل من الأمم السالفة وقت إنزالنا بهم السطوة وإحلالنا بهم النقمة وتحقق المهلكون إذ ذاك - مع أنهم كانوا أشد بطشاً واكثر عدداً وأمتن كيداً - عدم إغنائهم فلم يوجهوا آمالهم نحوهم ولما كان المعنى : اردنا إهلاكها وحكمنا به ، سبب عنه قوله : ( فجاءها بأسنا ) أي عذابنا بما لنا من القوة والعظمة ، أو الإهلاك على حقيقة وهذا تفصيل له وتفسير ؛ ولما كان لا فرق في إتيان عذابه سبحانه بين كونه ليلاً أو نهاراً ، وكان أفحش الباس واشده ما كان في وقت الراحة والدعة والغفلة قال : ( بياتاً ) أي وقت الاستكنان في البيوت ليلاً كما أهللك قوم لوط عليه السلام وقت السحر(3/7)
صفحة رقم 8
ولما كان المراد بالقرية اهلها ، بينه بقوله لأنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران بحسب ما يحسن من المعنى : أن لا يلتفت إليه - كما في اول الآية ، وإن يلتفت إليه .
كما في هذا الأخير لبيان أن الأهل هم المقصودون بالذات لأنه موضع التهديد : ( أو هم قائلون ( اي نائمون وقت القائلة أو مستريحون من غير نوم كما أهللك قوم شعيب عليه السلام ، يعني أنهم كانوا في كل من الوقتين غافلين بسبب أنهم كانوا آمنين لم يظنوا أن شيئاً من اعمالهم موجب للعذاب ولا كانوا مترقبين لشيء منه ، فالتقدير : بياتاً هم فيه بائتون اي نائمون ، أو قائله هم فيها قائلون أي نا ئمون ، فالآية من الاحتباك : دل إثبات ( بياتاً ) أولاً على حذف ( قائلة ) ثانياً ، وإثبات ( هم قائلون ) ثانياً على حذف ( هم نائمون ) أولاً ، والذي أرشدنا إلى هذا المعنى الحسن سوق ( هم ) من غير واو ، وهذا قريب من قوله تعالى فيم يأتي
77 ( ) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم باسنا بياتاً وهم نائمون ( ) 7
[ الأعراف : 97 ] فالأقرب ان يكون المحذوف أولاً نائمون ، وثانياً نهاراً ، فيكون التقدير : بياتاً هم فيه نائمون ، أو نهاراً هم فيه قائلون ، وبين عظمة ما جاءهم وهوله بأنهم في كل من الوقتين لم يقع في فكر أحد منهم التصويت إلى مدافعته بما سبب عن ذلك من قوله ) فما كان دعواهم ) أي قولهم الذي استدعوه ) إذ جاءهم بأسنا ( اي بما لنا من العظمة ) إلا أن قالوا ( ألا قولهم ) إنا كنا ) أي بما لنا من الجبلة ) ظالمين ) أي في انا لم نتبع من انزل إلينا من ربنا فلم يفدهم ذلك شيئاً غير شدة التحسر ؛ ثم سبب عما مضى من امر الرسول والأمم قوله دفعاً لوهم من يظن أن الأمر انقضى بما عذبوا به في الدنيا : ( فلنسئلن ) أي بما لنا من العظمة على جهة التوبيخ والتقريع للعصاة والتشريف والتعظيم للمطيعين ، وأظهر موضع افضمار تعميقاً فقال : ( الذين ( ولما كانت الملامة على تكذيب الرسول لا بقيد كونه معيناً بنى للمفعول قوله : ( أرسل إليهم ) أي وهم الأمم ، هل امتثلوا أوامرنا وأحجموا عند زواجرنا كما أمرتهم الرسل أم لا ) ولنسئلن ) أي بعظمتنا ) المرسلين ) أي هل كان في صدورهم حرج مما أرسلناهم به وهل بلغوه أم لا يوم تكونون شهداء على الناس بما عملتم من شهادتي في هذا القرآن ويكون الرسول عليكم شهيداً فإنا لا بد أن نحييكم بعد الموت ثم نسألكم في يوم تظهر فيه السرائر وتنكشف - وإن اشتد خفاؤها - الضمائر ، ولنرين الأفعال والأقوال ، ولا نترك سيئاً من الأحوال .
ولما كان السؤال يفهم خفاء المسؤول عنه على السائل ، سبب عن ذلك ما يزيل هذا الوهم بقوله مؤذناً بانه أعلم من المسؤولين عما سألهم عن : ( فلنقصن ) أي بما لنا من صفات العظمة المستلزمة لكل كمال ) عليهم ) أي المسؤولين من الرسل وأممهم جميع أحوالهم وما يستحقون من جزائها ) بعلم ) أي مقطوع به لا مظنون ، فقد كنا معهم في جميع تقلباتهم ) وما كنا ) أي في وقت من الأوقات كما هو مقتضى ما لنا من(3/8)
صفحة رقم 9
العظمة ) غائبين ) أي مطلقاً ولا عن أحد من الخلق بل علمنا شامل لجميع الكليات والجزئيات لأن ذلك مقتضى العظمة ما لنا من صفات الكمال ، ومن لم يكن محيط العلم بأن يميز المطيع من العاصي لا يصح أن يكون إلهاً
الأعراف : ( 8 - 11 ) والوزن يومئذ الحق. .. . .
) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ ( ( )
ولما تقدمت الإشارة بقوله تعالى ) ) وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ( ) [ الأنعام 152 ] الآية إلى المساواة الحقيقية في الميزان معجوز عنها وأنه أبعد المقادير عن التساوي ، والنص في قوله تعالى ) ) ومن جاء بالسئية فلا يجزى إلابمثلها ( ) [ الأنعام : 160 ] على قدرة القدير على ذلك وختم الآية السالفة بإحاطة العلم على الوجه الأبلغ المقتضي لذلك على أعلى الوجوه ، أكد الأمر أيضاً وقصره على علمه هناك فقال ) والوزن ( يزان حقيقي لصحف الأعمال أو للاعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور أو بغير ذلك أن يقذف الله في القلوب العلم به ، ولعله حال من نون العظمة في الاية التي قبلها ، أي إنا لا نكتفي بما نقص بل نزنه فيصير بحيث يظهر لكل أحد أنه على غاية ما يكون من التساوي ؛ قال أبو حيان وعلي بن الحسن النحوي الأصفهاني في إعرابه : ( الوزن : مبتدأ ) يومئذ ( ظرف منصوب به ) الحق ( خبر المبتدأ ، زاد الصفاني فقال : واستضعف إعمال المصدر وفيه لام التعريف وقد ذكرنا أنه جاء في التنزيل ) ) يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ( ( - انتهى أي والوزن في ذلك اليوم مقصور على الحق ، يطابقه الواقع حقيقية لا فضل فيها أصلاً ولا ولا يتجاوز الوزن في ذلك ، فتحرر أن مقصود السورةالحث على اتباع الكتاب ، وهويتضمن الحث على اتباع الرسول والدلالة على التوحيد والقدرة على البعث ببيان الفعال الهائلة في ابتداء الخلق وإهلاك الماضيم إشارة إلى أن من لم يتبعه ويوحد - من غنزاله على هذا الأسلوب الذي لا يستطاع ، والمنهاج الذي وقفت دونه العقول والطباع ، لما قام من الدلة على توحيده بعجز من سواه عن أقواله وأفعاله - أوشك أن يعالجه قبل يوم البعث بعقاب مثل عقاب الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادخر له في ذلك اليوم من سوء المنقلب وإظهار اثر الغضب(3/9)
صفحة رقم 10
ولما أخبر أن العبرة بالميزان على وجه يظهر أنه لا حيف فيه بوجه ، تسبب عنه قوله : ( فمن ثقلت ) أي دست ورسبت على ما يعهد في الدنيا ) موازينه ) أي موزونات أعماله ، أي اعماله الموزونه ، ولعله عبر بها عنها إشارة إلى ان كل عمل يوزن على حدة ليسعى في إصلاحه ) فأولئك ( اي العالو الهمم ) هم ) أي خاصة ) المفلحون ) أي الظاهرون بجميع مآربهم ) ومن خفت ) أي طاشت ) موازينه ) أي التي توزن فيها الأعمال الصالحة ) فأولئك ( المبعدون ) الذين خسروا انفسهم ) أي التي هي رأس مالهم فكيف بما دونها ) بما كانوا بآياتنا ) أي على ما لها من العظمة ) يظلمون ) أي باستمرار ما يجددونه من وضعها في غير المحل الذي يليق بها فعل من هو في ظلام ؛ قال الحسن ، وحق الميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل ، وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف ولما أمر الخلق بمتابعة الرسل وحذرهم من مخالفتهم ، فأبلغ في تحذيرهم بعذاب الدنيا ثم بعذاب الآخرة ، التفت إلى تذكيرهم ترغيباً في ذلك بإسباغ نعمة وتحذيراًمن سلبها ، لأن المواجهة أردع للمخاطب ، فقال في موضع الحال من ) خسروا انفسهم ( : ( ولقد مكناهم ) أي خسروها والحال أنا مكناكم من إنجائها بخلق القوى والقدر وإدرار النعم ، وجعلنا مكاناً يحصل التمكن فيه ) في الأرض ) أي كلها ، ما منها من بقعة إلا وهي صالحة لا نتفاعهم بها ولو بالاعتبار ) وجعلنا لكم ) أي بما لنا من العظمة ) فيها معايش ) أي جميع معيشة ، وهي أشياء يحصل بها العيش ، وهوتصرف أيام الحياة بما ينفع ، والياء اصلية فلذا لا تهتز ، وهي أشياء يحصل بها العيش ، وهو تصرف أيام الحياة بما ينفع ، والياء اصلية فلذا لا تهتز ، وكذا ما ولي ألف جمعه حرف علة أصلي وليس قبل ألفه واو كأوائل ولا ياء كخيائر جمع أول وخير فإنه لات يهمز إلا شاذًاكمنائر ومصائب جمع منارة ومصيبة .
ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه أوجدهم وقوّاهم وخلق لهم ما يديم قواهم فأكلوا خيره وعبدوا غيره ، أنتج قوله على وجه التاكيد : ( قليلاً ما تشكرون ( اي لمن خوطبواب
77 ( ) اتبعوا ما أنزل إليكم ( ) 7
لأعراف : 3 ] وما بينهما أورد مورد الاعتبار والاتعاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة - انتهى ولما ذكر سبحانه ما منحهم به من التمكين ، ذكّرهم ما كانو عليه قبل هذه المكنة من العدم تذكيراً بالنعم في سياق دال على البعث الذي فرغ من تقريره ، وعلىما خص به اباهم آدم عليه السلام من التمكين في الجنة بالخلق والتصوير وإفاضة روح الحياة وروح العلم وامر أهل سماواته بالسجود له والغضب على من عاده وطرده عن محل(3/10)
صفحة رقم 11
كرامته ومعدن سعادته وإسكانه هو بذلك المحل الأعلى والموطن الأسنى مأذوناً له في كل ما فيه إلا شجرة واحدة ، فلما خالف الأمر ازالةعنه وأخراجه منه ؛ وفي ذلك تحذير لأهل المكنة من إزالة المنة في استدارة النعمة وإحلال النقمة فقال : ( ولقد خلقناكم ) أي بما لنا من صفات العظمة ) ثم صورناكم ) أي قدرنا خلقكم ثم تصويركم بأن جعلنا فيكم قابلية قريبة من ذلك بتخصيص كل جزء من المادة بمقدار المعين بتخمير طينة آدم عليه السلام على حالة تقبل ذلك كما يهيأ التراب بتخمير بإنزال المطر لأن يكون منه شجرة ، وقد تكون تلك الشجرة مهيأة لقبول صورة الثمرة وقد لا تكون كما قال تعالى
77 ( ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظماً فكسونا العظم لحماً ثم أنشأناه خلقاً اخر ( ) 7
[ المؤمنون : 12 - 14 ] وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه : ( ظغن احدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ) وعنه أيضاً رضى الله عنه عند مسلم قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ، وثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك ) الحديث فظاهر هذا الحديث مخالف اللفظ الذي قبله وللآية ، فيحمل على أن معنى صورها : هيأها في مدة الأربعين الثانية لقبول الصورة تهيئة قريبة من الفعل ، وسهل أولها بالتخمير على هيئةمخصوصة بخلاف ما قبل ذلك ، فإنها كانت نطفة فكانت بعيدة عن قبول الصورة ، ولذلك اختلفوا في احترامها وهل يباح إفسادها والتسبب في إخراجها ومعنى ( خلق ) قدر أي جعل لكل شيء من ذلك حداً لا يتجاوزه في الجملة والدليل على هذا المجاز شكة في كونها ذكراً أو انثى من جملة الصورة وبهذا تلتئم هذه الاية مع قوله تعالى
77 ( ) إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعواله ساجدين ( ) 7
[ ص : 71 ] فهذا خلق بالفعل ، والذي في هذه السورة بإيداعه القوة المقربة منه ، والمراد من الآية التذكير بالنعم استعطافاً إلى المؤالفة وتفظيغاً بحال المخالفة ، أي(3/11)
صفحة رقم 12
خسروا أنفسهم والحال أنا أنعمنا عليهم بنعمة التمكن بعد أن أشأناهم على الصورة المذكورة بعد أت كانوا عدماً واسجدنا ملائكتنا لأبيهم وطردنا من تكبر عليه طرداً لا طرد مثله وابعدناه عن محل قدسنا بعداً لا قرب معه ، وأسكنا أباهم الجنة دارحمتنا وقربنا فقال تعال مترجماً عن ذلك : ( ثم قلنا ) أي على ما لنا من الاختصاص بالعظمة ) للملائكة ) أي الموجودينفي ذلك الوقت من أهل السماوات والرض كلهم ، بما دلت عليه ( ال ) سواء قلنا : إنها للاستغراق أو الجنس ) اسجدوالآدم ) أي بعد كونه رجلاً قائماً سوياً روح كما هو معروف من التسمية ؛ ثم سبب عن هذا الأمر قوله : لإخراجه ممن سجد أنه لم يسجد صرح به فقال : ( لم يكن من الساجدين ) أي لآدم
الأعراف : ( 12 - 16 ) قال ما منعك. .. . .
) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( ( )
ولما كان مخالف الملك في محل العقاب ، تشوف السامع إلى خبره فاجيب بقوله : ( قال ( أب إبليس إنكاراً عليه توبيخاً له استخراجاً لكفره الذي كان يخفيه بما يبدي من جوابه ليعلم الخلق سبب طرده ) ما منعك ( ولما كانت العبارة قد صرحت بعدم سجوده فكان المعنى لإبليس بإدخال ( لا ) في قوله : ( ألا تسجد ( أتى بها لتنفيد التأكد بالدلالة على اللوم على الامتناع من الفعل والإقدام على الترك ، فيكون كانه قيل : ما منعك من السجود وحملك على تركه ) إذ ( اي حين ) أمرتك ) أي حين حضر الوقت الذي يكون فيه أداء المأمور به ) قال ) أي إبليس ناساً ربه سبحانه إلى الجور أو عدم العلم بالحق ) أنا خير ( اي فلا يليق لي السجود لمن هو دوني ولا أمري بذلك لأنه مناف للحكمة ؛ ثم بين وجه الخيرية التي تصورها بسوء فهمه أو بما قاده إليه سوء طبعة بقوله : ( وخلقته من طين ) أي عو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب ، وقد غلط غلطاً فاحشاً فإن الإيجاد خير من الإعدام بلا نزاع ، والنار سبب الإعدام والمحق لما خالطته والطين سبب النماء والتربية لما خالطة ، هذا لو كان الأمر في الفضل باعتبار العناصر والمبادئ وليس كذلك ، بل هو باعتبار الغايات .
ولما كان هذا امراً ظاهراً وكان مجرد التكبر على الله كفراً على أيّ وجه كانن ، أعرض عن جوابه بغير الطرد الذي معناه نزوله المنزلة الذي موضع ما طلب من علوها(3/12)
صفحة رقم 13
فاستأنف قوله ) قال ( مسبباً عن إبائه قوله : ( فاهبط منها ( مضمراً للدار التي كان فيها وهي الجنة فإنها لا تقبل عاصياً وعبر بالهبوط الذي يلزم من سقوط المنزلة دون الخروج ، لأن مقصود هذه السورة الإنذار وهو أدل عليه وسبب عن أمره بالهبوط الذي معناه النزول والحدور والانحطاط والنقصان والوقوع في شيْ منه قوله : ( فما يكون ) أي يصح ويتوجه بوجه من الوجوه ) لك ان تكبر ) أي تتعمد الكبر وهو الرفعة في الشرف والعظمة والتجبير ، ولا مفهوم لقوله ( لك ) ولا لقوله ) فيها ( بوجود الصرائح بالمنع من الكب مطلقاً
77 ( ) إنه لا يحب المستكبرين ( ) 7
[ النحل : 23 ]
77 ( ) كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر ( ) 7
[ غافر : 35 ]
77 ( ) قال الذين استكبروا إنا كل فيها ( ) 7
[ النساء : 48 ] وإنما قيد بذلك تهويلاً للأمر فكأنه قيل لا ينبغي التكبر إلا لنا ، وكلما قرب الشخص من محل القدس الذب هو مكان المطعين المتواتضعين جل تحريم الكبر عليه ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل كبر ) رواه مسلم وغيره عن من الجنة دار رضي الله عنه ، وسبب عن كونها لا تقبل الكبر قوله : ( فاخرج ) أي من الجنة دار الرضوان ، فانتقى أن يكون الهبوط من موضع عال من الجنة إلى موضع منها أحط منه ، ثم علل أمره بالبوط والخروج بقوله مشيراً إلى كل من ظهر الاستكبار ألبس الصغار ) إنك من الصاغرين ( اي الذين هم أهل للطرد والبعد والحقارة والهوان ولما علم أن الحسد قد أبعده ونزل به عن ساحة الرضى وأقعده تمادى فيه فسأل ما يتسبب به إلى إنزال المحسودين عن درجاتهم العاليه وذلك فقال ) قال ( إي إبليس وهو إستئناف ؛ ولما كان السياق ولاسيما الحكم بالصغار العاري عن تقيد - يأبى لأن يكون سبباًلسؤله الانتظار ذكره بصيغة الإحسان فقال ) أنظرني ( أبالإهمال أي اجعلني موجوداً بحيث أنظر واتصرف في زمن ممتد ) إلى يوم يبعثون ) أي من القبور ، وهو يوم القيامة ، وكان للعين طلب بهذا أنه لا يموت فإن ذلك الوقت ليس وقتاً للموت إنما هو وقت إضافة الحياة البدية في شقاوة أو سعادة فأعلم سبحانه أنه حكم له بالانتظار لكن لا على ما أراده ولا على أنه إجابة لهولكن هكذا سبق في الزل في حكمه في قديم علمه ، وإليه يرشد التعبير بقوله : ( قال إنك من المنظرين ( اي في الجملة ، ومنعه من الحماية عن الموت بقوله كما ذكره في سورتين الحجر وص(3/13)
صفحة رقم 14
) إلى يوم الوقت المعلوم ) [ الحجر : 38 ، ص : 81 ] وهو وقت النفخة الأولى التي يموت فيها الأحياء فيمون هو معهم ، وكان ترك هذه الجملة في هذه السورة لأن هذه السورة الإنذار ، وإبهام الأمر أشد في ذلك ، وأجابه إلى الأنظار وهو يريد به الفساد ، لأنه لا يعدو أمره فيه وتقديره به ، ولأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل ، ولتظهر حكمته تعالى في الثواب والعقاب .
ولما كان قد حكم عليه بالشقاء ، قابل نعمة الإمهال ، وإطالة العمر بالتمادي في الكفر ، وأخبر عن نفسه بذلك بأن ) قال ( مسببا عن إيقاعه في المصيبة بسبب نوع الآدميين ) فبما أغويتني ) أي فبسبب إغوائك لي ، وهو إيجاد الغي واعتقاد الباطل في قلبي من أجلهم والله ) لأقعدن لهم ) أي أفعل في قطعهم عن الخير فعل المتمكن المقبل بكليته االمتأني الذي لا شغل له غير ما أقبل عليه ، في مدة إمهالك لي بقطعهم عنك بمنعهم من فعل ما أمرتهم به ، وحملهم على فعل ما نهيتهم عنه ، كما يقعد قاطع الطريق على السابلة للخطف ) صراطك ) أي جميع صراطك ، بما دل عليه نزع الخافض ) المستقيم ( وهو الإسلام بجميع شعبه ، ومن أسند الإغواء إلى غير الله بسبب اعتقاده أن ذلك مما ينزه الله عنه ، فقد وقع في شر مما فر منه ، وهو أنه جعل في الوجود فاعلين يخالف اختيار أحدهما اختيار الآخر ؟
الأعراف : ( 17 - 20 ) ثم لآتينهم من. .. . .
) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( ( )
ولما كان قد اقام نفسه في ذلك بغاية الجد ، فهو يفعل فيه بالوسوسة بنفسه ومن أطاعه من شياطين الجن والإنس ما يفوت الحد ويعجز القوى ، أشار إليه بحرف التراخي فقال مؤكداً ) ثم لآتينهم ) أي إتيناى لا بد لي منه كائناً ابتداؤه ) من خلفهم ( اي مغالفة ، فيعملون ما هو فاسد في غاية الفساد ولا يشعرون لهم بشيء من فساده حين تعاصيه فأدلهم بذلك على تعاطي مثله وهم لا يشعرون ) وعن ) أي ومجاوزاً للجهة التي عن ) ايمانهم ( إليهم ) وعن ( ) شمائلهم ( إي مخايلة ، فيغفلون وهو مشتبه عليهم ، وهذه هي الجهات التي يمكن الإتيان منها ولعل فائدة ( عن ) المفهمة(3/14)
صفحة رقم 15
للمجاوزة وصل خطى القدام والخلف ليكون إتيانه مستوعباً لجميع الجهة المحيطة ، وافهمت الجهات الأربع قدحه وتلبيسيه فيما يعلومنه حق علمه وما يعلمون شيئاً منه وما هو مشتبه عليهم اشتباهاً قليلاً أو كثيراً ، وهم من ترك ذكره العلى أنه لا قدرة له على الإتيان من لئلا يلتبس امره بالملائكة ، قد ذكر ذلك بعض الآثار كما ذكره في ترجمة ورقة بن نوفل رضى الله عنه .
ولما عزم اللعين على هذا عزماً صادقاً ورأى أسبابه ميسرة من الإنظار ونحوه ظن أنه بما راى لهم من الشهوات والخطوط يظفر بأكثر حاجته ، فقال عاطفاً على تقديره : فلأغوينهم وليتبعنني : ( ولا تجد اكثرهم ( كما هي عادة الكثر في الخبث ) شاكرين ( فأريد به الشفاء فأغرق في الحسد ، ولو أريد بالشقي الخير لاستبدال بالحسد الغبطة فطلب أن يرتقي هو إلى درجاتهم العالية بالبكاء والنم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة خضوعاً لمقام الربويية ودلاً لعظيم شأنه ولما كان كأنه قيل ماذا قال له ؟ قيل : ( قال ( في جواب ما ذكر لنفسه في هذا السياق من القوة والاقتدار وأبان عنه نت الكبر والافتخار مادل على أنه من أهل الصغار ، لا يقدر على شيء إلا بإقرار العزيز الجبار ، مصرحاً بما أريد من الهبوط الذي ربما حمل على النزول من موضع من الجنة عال إلى مكانه منها أحط منه ) اخرج منها ) أي الجنة ) مذءوماً ( اي محقوراً محزناً بما تفعل ، قال القطاع ذامت الرجل خزيته وقال ابن فارس ذامته أي حقرته ) مدحوراً ) أي مبعداً مطروداً عن كل ما لا أريد ولما علم بعض حالة تشوفت النفس إلى حال من تبعه فقال مقسماً مؤكاً بما يحق له من القدرة التامة والعظمة الكاملة : ( لمن تبعك منهم ) أي منك ومن قبيلك ومنهم ) أجمعين ) أي لا يفوتني منكم أحد فلم يزل من فعل ذلك منكم على أذى نفسه ولا أبالي أنا بشيء. ولما أوجب له ما ذكر من الشقاوة تماديه في الحسد وكثرة كلامه في محسوده التفت إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة بل اشتغل بنفسه في البكاء على ذنبه واكتفى بفعل ربه بما ينجيه من حبائل مكره التي نصبها بما ذكر ليكون ذلك على سعادته فقال عطفاً على ) ويآدم اسكن ( ولما كان المراد بهذا الأمر هو نفسه لا التجوز به بعض من يلابسه أكد ضميره لتصحيح العطف ورفع التجوز فقيل ) أنت وزوجك ((3/15)
صفحة رقم 16
ولما كان السياق هنا للتعرف بأنه مكن لبينا في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارناً لوجوده ، ثم حسن في قوله : ( فكلا ( العطف بالفاء الدال على أن المأكول كان مع الإسكان لم يتاخر عنه ولا منافاة بينه وبين التعبير بالواو في البقرة لأن مفهوم الفاء نوع داخل تحت مفهوم الواو ولا منافاة بين التعبير بالواو في البقرة لأن مفهوم الفاء نوع داخل تحت مفهمو الواو ولا منافاة بين النوع والجنس وقوله : ( من حيث شئتما ( بمعنى رغداً أي واسعاً فإنه يدل على إباحة الأكل من كل شيء فيها غير المنهي عنه واما آية البقرة فتدل على إباحة الكل منها في أي مكان كان وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أن من خالف أمره تعالى ثل عرشه وهدم عزه وإن كان في غاية المكنة ونهاية القوة كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كل ما فيها غير شجرة واحده ؛ أكد تحريمها بالنهي عن قربانها دون الاكتفاء بالنهي عن غشيانها فقال : ( ولا تقربا ( اي فضلاً عن أن تتناولا من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه فقال : ( فتكونا ( أيبسبب قربها ) من الظالمين ) أي بالأكل منها الذي هو مقصود النهي فتكونا بذلك فاعلين فعل من يمشي في الظلام ثم سبب عن ذلك بيان حال الحاسد مع المحسودين فيما سأل الإنظار بسببه وأنه وقع على كثير من مراده واستغوى منه امماً تجاوزوا الحد وقصر عنهم مدى العد ؛ ثم بين أنه أقل من أن يكون فعل وأن الكل بيده سبحانه هو الذي جعله ىلة لمراده منه ومنهم وأن من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون فقال ) فوسوس ) أي القى في خفاء وتزيين وتكرير واشتهاء ) لهما ما روي ) أي ستر وغطى بان جعل كانه وراءهما لا يلتفتان إايه ) عنهما ( والبناء للمفعول إشارة إلى أن الستر بشء لا كلفة عليهما فيه كما ياتي في قوله
77 ( ) ينزع عنهما لباسهما ( ) 7
[ الأعراف : 27 ] ) ومن سوأتهما ) أي المواضع التي يسوءهما انكشافها وفي ذلك أن إظهار السوءة موجب للعبد من الجنة وأن بينهما منفية الجمع وكمال التباين .
ولما أخبر بالوسوسة وطوى مضمونها مفهماً أنه أمر كبير وخداع طويل عطف عليه قوله : ( وقال ( اي في وسوسته أيضاً أي زين لهما ما حدث بسببه في خواطرهاهما هذا القول : ( ما نهاكما ( وذكرهما بوصف الإحسان تذكيراً بإكرامه لهما تجزئة لهما على نا يريد منهما فقال : ( ربكما ) أي المحسن إليكما بما تعرفانه من انواع إحسانه ) عن ) أي ما جعل نهايتكما في الإباحة للجنة متجاوزة عن ) هذه الشجرة ( جمع بين الإشارة(3/16)
صفحة رقم 17
والاسم زيادة في الاعتناء بالتنصيص ) إلا ان ) أي كراهية أن ) تكونا ملكين ) أي في عدم الشهة والقدرة على الطيران والتشكيل وغير ذلك من خواصهم ) أو تكونا ( اي بما يصير لكما من الجبلة ) من الخالدين ) أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً
الأعراف : ( 21 - 24 ) وقاسمهما إني لكما. .. . .
) وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ( )
ولما أوصل إليهما هذا المعنى ، أخبره أنه أكده تاكيداً عظيماً كما كان يؤكد الحالف ما يحلف عليه فقال ) وقاسمهما ) أي اقسم لهما لكن ذكر المفاعلة ليدل على أنه حصلت بينهما في ذلك مراوغات ومحاولات بذل فيها الجهد وأكد لمعرفته انهما طبعاً على النفرة من المعصية - ما أقسم عليه أنواعاً من التأكد في قوله : ( إني لكما ( فأفاد تقديم الجار المفهم للاختصاص انه يقول إني خصصكما بجميع نصيحتي ) الناصحين ( وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف وان الأغلب ان كل حلاف كذاب فإنه لا يحلف إلا عند ظة ان سامعه لا يصدقه ولا يظن ذلك إلا هو معتاد للكذب ولما أخبر ببعض وسوسته لهما سبب عنها ترجمها بانهما إهباط من اوج شرف غلى حضيض أذى وسرف فقال : ( فدلّهما ( اي انزلهما عما كانا فيه من علو تالطاعة مثل ما فعل بنفسه بالمعصية التي أوجبت له الهبوط من دار الكرامة ) بغرور ) أي بخداع وحيلة حتى نسى ادم عهد ربه ، وقوله ) فلما ذاقا ( مشير إلى افسراع في الجزاء بالفاء والذوق الذي هو مبدأ الأكل ) الشجرة ) أي وجدا طعمهما ) بدت ) أي ظهرت ) لهما سواتهما ( اي عوراتهما اللاتي يسوءهما ظهورها وتهافت عنهما لباسهما فابصر كل واحد ما كان مستورداً عنه من عورة آلاخر وذلك قصد الحسود فاستجييا عند ذلك ) وطفقا ( اي شرعا وأقبلا ) يخصفان عليهما ) أي يصلان بالخياطة ) من ورق الجنة ( ورقة إلى آخرى ) ونادهما ربهما ) أي المحسن إليهما بأمرهما ونهيهما ولم يفعلا شيئاً من ذلك إلا بماى منه فقال منكراً عليهما ما فعلا ومعاتباً يا عبديّ ) ألم أنهكما ) أي أجعل لكما نهاية فيما أذن لكما فيه متجاوزة ) عن تلكما الشجرة ) أي التي كان حقها البعد منها الموجبة للقرية من هذا الموضع الشريف إحساناً إليكما ) وأقل لكما أن(3/17)
صفحة رقم 18
الشيطان ) أي الذي تكبر عن السجود حسداً لك يا ىدم ونفاسه عليك فاحترق بغضبي فطرد وابعد عن رحمتي ) لكما ) أي لك ولزوجك ولكل من تفرغ منكما ونسب إليكما ) عدو مبين ( ظاهر العدواة يأتيكم من كل موضع يمكنه الإتيان منه مجاهرة ومساترة ومماكرة فهو مع ظهور عدواته دقيق المكر بما أقرته عليه من غقامة الأسباب فإني أعطيته قوة على الكيد واعطيتهم قوة على الكيد قوة الخلاص وقلت لكم تغالبوا فإن غلبتموه فأنتم من حزبي وغن غلبكم فأنتم من حزبه مع ما له إليكم كم العداوة فالآتيه منبهة على أن من غوى فإنما هو تابع لأعدى أعدائه تارك لأولى أوليائه .
ولما كان هذا تشوف السامع إلى جوابهما فأجيب بقوله : ( قالا ) أي آدم وحواء - عليهما السلام وأزكى التحية والإكرام - قول الخزاص بإسراعهما في التوبة ) ربنا ( اي أيها المحسن إلينا والمنعم علينا ) ظلمنا أنفسنا ) أي ضررناها بأن أخرجناها من نور الطاعة إلى ظلام المعصية فإن لم ترجع بنا وتتب علينا لنستمر عاصيين ) اوإن لم تغفر لنا ) أي تمح ما عملناه عيناً واثراً ) وترحمن ( فتعلى درجاتنا ) لنكونن من الخاسرين ( فأعربت الآية عن انهما فزعا إلى الا نتصاب بالاعتراف وسيما ذنبهما وغنة كان إنما هو خلاف الولى لأنه بطريق النسيان كما في طه ظلماً كما هي عادة الأكابر في استعظام الصغيرة منهم ولم يجادلا كما فعل إبليس وفي ذلك إشارة إلى أن المبادرة إلى الإقرار بالذنب من فعال الأشراف لكونه من معالي الأخلاق وأنه لا مثيل له في اقتضاء العفو وإزالة الكدر وأن الجدال من فعال الأرذال ومن مساوي الأخلاق وموجبات الغضب المقتضى للطرد ولما تشوفت النفس إلى وجوب العلي الكبير سبحانه أجبيت بقوله ) قال اهبطوا ) أي إلى دار المجاهده والمقارعة والمناكدة حال كونكو ) بعضكم لبعض عدو ) أي أنتما ومن ولدتماه أعداء إبليس ومن ولد ، وبعض أولادكم أعداء لبعض ولا خلاص إلا باتباع ما منحتكم من هدى العقل وما أنزلت إليكم من تاييده بالنقل وفي ذلك تهديد صادع لمن له أدنى مسكة بالأشارة إلى قبح مغبة المخالفة ولو مع التوبة وحث على دوام المراقبة خوفاً من سوء المعاقبة ) ولكم في الأرض ) أي جنسها ) مستقر ) أي موضع استقرار كالسهول وما شابهها ) ومتاع إلى حين ) أي انقضاء آجالكم ثم انقضاء اجل الدنيا
الأعراف : ( 25 - 27 ) قال فيها تحيون. .. . .
) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي(3/18)
صفحة رقم 19
سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) 73
( ) 71
ولما علم بهذا أن للكون في الأرض آخراً ، وكان من الفلاسفة التناسخية وغيرهم ممن يقر بالوحدانية من يقول : إن النفوس مجردة عن الجسمية وعلائقها وإنه إذا هللك الجسد اتصلت بالعلوياتإما بكوكب أو غيره أو انحطت في سلك الملائكة وبطل تعلقها بالبدن من كل وجه فبل تتصل به لا بتدبير ولا غيره ولا بالبعث - عند من قال منهو بالبعث كان كأنه قيل : فماذا يكون بعد ذلك ؟ فاجيب بقوله ) قال ) أي الله راداً عليهم ما يعتقدون من بطلان التعلق بالبدن معبراً بالخطاب بالضمير الذي يعبر عن هذا الهيكل المخصوص روحاً وجسداً ) فيها ) أي الرلا في غيرها ) تحيون ) أي أولاً وثانياً على ما أنتم عليه بظواهركم وبواطنكم ابداناً وأرواحاً ) وفيها ) أي كذلك لا في غيرها كما أنتم لذلك مشاهدون ) تموتون ) أي من الحياة الأولى بجملتكم فيكون للارواح تعلق بالأبدان بوجه ما حتى يعقد الميت في القبر ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام وتلتذ الأجساد بلذتها وتتألم بتألمها فأشير إلى الحشر مع تفصيل حال الكون في الرض وختمت القصة بما ابتدئت به من الإعلام بالبعث بقوله : ( ومنها ) أي لا من غيرها بإخبار الصادق ) تخرجون ) أي روحاً وبدناً بعد موتكم فيها وعودكم إلى ما كنتم عليه أولاً تراباً للجزاء وإظهار ثمرة الملك بإنصاف بعضكم من بعض والتحلي بصفة العدل فما كان بعضكم يفغل مع بعض من العسف والجور الذي لا يرضي اقل رؤسائكم أن يقر عليه عبيده وعلم بهذا أن الدلالة على الحشر فذلكة القصة ، وهذا أبين من ذكره فيما مضى في قوله
77 ( ) فلسئلن الذين أرسل إليهم ( ) 7
[ الأعراف : 6 ] ولما بين فيما مضى أن موجب افخراج من الجنة هو ما أوجب كشف السوءة من المخالفة وفرغ مما استتبعه حتى أخبره بأنه حكم بإسكاننا هذه الدار شرع يحذرنا من عدونا كما حذر أبانا عليه السلام وبدا بقوله بياناً لأنه أنعم علينا فيها بكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإيذاناً بما في كشف العورة من الفضيحة والإبعاد عن كل خير وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من ابواب التقوى ) يابني آدم ( ولما كان الكلام في كشف العورة وأن آدم عليه السلام أعوزه الساتر حتى فزع إلى الورق كان موضع أن يتوقع ما يكون في ذلك فقال مفتتحاً بحرف التوقع : ( قد انزلنا ) أي بعظمتنا ) عليكم ( من آثار بركات السماء إما ابتداء بخلقه وإما بإنزال اسبابه لمطر ونحوه ) لباساً ( اي لم يقدر عليه ابوكم في الجنة ) يواري سوأتكم ( إرشاداً(3/19)
صفحة رقم 20
إلى ذلك الداء وإعلاماً بأن نفس الكشف نقص لا يصلح لحضرات الكمال وقال : ( وريشاً ( إشارة غلى أنه سبحانه زادنا على الساتر ما به الزينة والجمال استعارة من ريش الطائر مجبباً فيما يبعد من الذنب ويقرب إلى حضرة الرب .
ولما ذكر اللباس الحسي وقسمه على ساتر ومزين أتبعه المعنوي فقال مشيراً بقطعة في قراءة الجمهور عما قبله - غلى كمال تعظيمه حثاً عليه وندباً إليه : ( ولباس التقوى ( فعلم أن ساتر العورات حسي ومعنوي فالحسي لباس الثياب ، والمعنوي التحلي بما يبعث على المناب ؛ ثم زاد في تعظيم المنوي بقوله : ( ذلك خير ) أي ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب ، ولكنه فصل باسم افشارة المقترن بإداة البعد إيماء إلى علو رتبته وحسن عاقبته لكونه أهم اللباسين لن نزعه يكون بكشف العورة الحسية والمعنوية فلو تجمل الإنسان باحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوءات ، ولوكان متقياً وليس عليه إلا خريفة تواري عورته كان في غاية الجمال والستر والكمال بل كان مكشوف العورة في بعض الأحوال كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ستر ما بين عوراتكم وأعين الجن ان يقول أحدكم إذا دخل الخلاء : بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) رواه الترمذي وابن ماجه عن علي رضى الله عنه والذي يكاد يقطع به أن المعاصي سبب إحلال السوءة الذي منه ضعف البدن وقصر العمر حساً أو معنى بمحق البركة منه لما يفهمه ما تقدم في البقرة في بدء الخلق عن التوراة أن الله تعالى قال لآدم عليه السلام كل من جميع اشجار الفردوس فأما شجرة علم الخير والشر فلا تاكل منها لأنك في اليوم الذي تاكل منها تموت موتاً تتهيا للموت حساً ، ويقضي عليك بالاشتغال بأسباب المعيشة فيقصر عمرك معنى بذهاب بركته - والله اعلم ولما كان في شرع اللباس تمييز الإنسان عن بقية الحيوان وتهيئة اسبابه التي لم يجدها آدم عليه السلام في الجنة من الفضل والنعمة والدلالة على عظمة المنعم ورحمته وقدرته واختياره ما هو معلوم ، قال : ( ذلك ) أي إنزال اللباس ) من ىيات الله ) أي الذي حاز صفات الكمال الدالة على فضله ورحمته لعباده ، ولعل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ) لعلهم يذكرون ( - لو على أدنى وجوه التذكير بما يشير إليه الإدغام - لئلا يقول المتعنت : إن الحث على التذكير خاص بالمخاطب ويدعي أنه المسلمون فقط أي أنزلنا ذلك ليكون حالهم حال من يتذكر فيعرف أنه يستقبح منه ما يستقبح من غيرهولما كان المقصود من ذكر القصص لا سيما قصص الأنبياء الاعتبار بها فكان بيان ما وقع بين آدم عليه السلام وبين الشيطان من شديد العدواة مقتضياً للتحذير من الشيطان وكان المقام خطراً والتخلص عسراً أشار إلى ذلك بالتأكد وبيان ما سلط(3/20)
صفحة رقم 21
الشيطان به من المكان الخفية والأسباب الدقيقة ليعلم الناجي أنه إنما نجا بمحض التوفيق ومجرد اللطف فيقبل على الشكر متبرئاًُ من الحول والقوة ، فقال منادياً لهم بما يفهم الاستعطاب والتراؤف والتحنن والترفق والاستضعاف : ( يابني آدم ( اي الذي خلقته بيدي واسكنته جنتي ثم أنزلته إلى دار محبتي إرادة الإعلاءلكم إلى الذروة من عبادتي والإسفال إلى الحضيض من معصيتي ) لا يفتننكم ) أي لا يخالطنكم بما يميلكم عن الاعتدال ) الشياطين ) أي البعيد المحترق بالذنوب يصدكم عما يكون سبباً لردكم إلى وطنكم بتزين ما ينزع عنكم من لباس التقوى المفضي إلى هتك العورات الموجب لخزي الدنيا ، فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار ) كما اخرج ابويكم من الجنة ( بما فتنها به بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها وقد علمتكم ان الدفع أسهل من الرفع فإياكم فالآية من الاحتباك ذكر الفتنة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً دليلاًُ على حذف ضده أو نظيره أولاً ولما كان قد بذل الجهد فيإخراجها فسر افخراج - مشيراً إلى ذلك - بإطالة الوسواس وإدامة المكر والخديعة بالتعبير بالفعل المضارع فقال في موضع الحال من ضمير ( الشيطان ) : ( ينزع عنهما ) أي بالتسبيب بإدامة التزيين والأخذ من المأمن ) لباسها ( اي الذي كان الله سبحانه قد سترهما به ما داما حافظين لأنفسهما من مواقعه ما نهيا عنه ودل على منافاة الكشف للجنة بالتعليل بقوله : ( ليريهما سوأتهما ( فإن ذلك مبدأ ترك الحياةو ( الحياة والإيمان في قرن ) - كما أخرجه الطبراني وابو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما ، و ( الحياء لا ياتي إلا بخير ) - كما رواه الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ولما كان نهي الشيطان عن فتنتنا إنما هو في الحقيقة نهي لنا عن الافتتان به ، فهو في قوة ليشتد حذركم من فتنتة فإنه دقيق الكيد بعيد الغور بديع المخاتله ؛ علل ذلك(3/21)
صفحة رقم 22
بقوله : ( إنه يراكم ) أي الشيطان ) هو وقبيلة ( اي جنوده ) من حيث لا ترونهم ( عن مالك بن دينار أن عدواً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمة الله ولما كان كانه قيل : لم سلطوا علينا هذا التسلط العظيم الذي لا يكاد يسلم معه أحد قال مخففاً لأمرهم موهباً في الحقيقة لكيدهم : ( إنا ) أي فعلنا ذلك لأنا بما لنا من العظمة ) جعلنا الشياطين ) أي المحترقين بالغضب البعيدين من الرحمة ) أولياء ( اي قرباء وقرناء ) للذين لا يؤمنون ( اي يجددون الإيمان لأن بينهم تناسباً في الطباع يوجب الاتباع وأما أولياؤنا الذين منعناهم بقوتنا منه أو فتناهم يسيراً بهم ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء بل هم منهم أو فتناهم يسيراً بهم ، ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء ، بل هم لهم أعداء وىيتهم انهم يؤمنون ، والمعنى أنا مكناهم من مخاتلتكم بسترهم عنكم وإظهاركم لهم فسلطناهم بذلك على منحكمنا بأنه لا يؤمن بتزينهم لهم وتسويلهم واستخفافهم بأن ينصروهم في بعض المواطن ويوصلوهم إلى شيء من المطالب فعلنا ذلك ذلك ليتبين الرجل الكامل - الذي يستحق الدرجات العلى ويتردد إليه الملائكة بالسلام والجنى - من غير فخذوا حذركم فغن المر خطر والخلاص عسر وبعبارة أخرى إنا سلكناكم طريقاً وجعلنا بجنبتيها أعداء يرونكم ولا ترونهم ، وأقدرناهم على بعضكم فمن سلك سواء السبيل نجا ومن قاربه استغنواه رؤيتنا لهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم على أنه قد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريره رضى الله عنه وحديث خالد بن الوليد رضى الله عنه في شيطان العزى معروف في السير وكذا(3/22)
صفحة رقم 23
حديث سواد بن قارب رضى الله عنه في إرشاد رئية من الجن له وكذا خطر ابن مالك رضى الله عنه في مثل ذلك وغيرهما وفي شرحي لنظي للسيرة كثير من ذلك وكذا حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشغلة من نار ليقطع علية صلاته فأخزاه الله وأمكن منه رسول الله وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح مربوطاً بسارية المسجد يتلعب به ولدان أهل المدينة ) قال أبو حيان : إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة كما أن الملائكة عليهم السلام تبدو في صور كحديث جبريل عليه السلام .
الأعراف : ( 28 - 31 ) وإذا فعلوا فاحشة. .. . .
) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( ( )
ولما جعل امارتهم في ولاية الشيطان عدم الإيمان عطف على ذلك امارة أخرى فقال : ( وإذا فعلوا فاحشة ) أي أمراً بالغاً في القبح كالشرك وكشف العورة في الطواف ) قالوا ( معللين لارتكابهم إياها ) وجدنا عليها ) أي فاحشة ) آباءنا ( ولما كانت هذه العلة ظاهراً عارها بيناً عوارها ضموا إليها افتراء ما يصلح للعلية فقالوا معبرين بالاسم الأعظم غير محتشمين من جلاله وعظمة وكماله : ( والله أمرنا بها ( لما كانت العلة الأولى ملغاة ، وكان العلم ببطلانها بديهياً ، لأن من المعلوم أنهم لو وجدوهم على سفه في تحصيل المال ما تابعوهم ؛ أعراض عنها إشارة إلى ذلك ، وأمر بالجواب عن الثانية التي هي افتراء على الملك العلى مع ادعائهم أنهم أبعد الناس(3/23)
صفحة رقم 24
عن مطلق الكذب واشدهم تحرياً بقوله : ( قل إن الله ) أي الذي له الكمال كله ) لا يأمر بالفحشاء ) أي بشيء من هذا الجنس ولما كان الكذب قبيحاً في نفسه وهو عندهم أقبح القبيح مطلقاً فكيف به غلى كبير منهم فكيف إذا كان على اعظم العظماء قال منكراً عليهم موبخاً لهم مهدداً ) اتقولون على الله ) أي الذي له جميع العظمة ) ما لا يعلمون ( لأنكم لم تستمتعوا ذلك عنالله بلا واسطة ولا نقل إليكم بطريق صحيح عن نبي من النبياء عليهم السلام وفيه تهديد شديد على الجهل والقول على الله بالظنزلما كان تعليلهم بأمر الله مقتضياًُ لأنه إذا أمر بشيء اتبع أمره أن يبلغهم أمره الذي جاء به دليل العقل مؤيداً بجازم النقل فقال : ( قل ) أي لهؤلاء الذين نابذوا الشرع والعرف ) بالقسط ( وهو الأمر المحسن إليّ بالتكليف بمحاسن الأعمال التي تدعو إليها الهمم التفريط هابطاً منه ؛ ولما كان التقدير فاقسطوا اتباعاً لما أمر به ، أو كان القسط مصدراً ينحل إلى : أن أقسطوا عطف عليه ) وأقيموا وجوهكم ( مخلصين غير مرتكبين لشيء من الجور ) عند كل مسجد ) أي مكان ووقت وحال يصلح السجود فيه ، ولا يتقيدزن أحد بمكان ولا زمان بأن يقول وقد أدركته الصلاة أذهب فاصلى في مسجدي ) وادعوه ( عند ذلك كله دعاء عبادة ) مخلصين له الدين ) أي لا تشركوا به شيءاً ولما كان المعنى : فإن من لم يفعل ذلك بعد إعادته له بعد الموت ترجمه مستدلاً عليه بقوله معللاً : ( كما بداكم ) أي في النشأة الأولى فأنتم تبتدئون نعيدكم بعد الموت فأنتم ) تعودون ( حال كونكم فريقين : ( فريقاً هدى ) أي خلق الهدايةفي قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية ) وفريقاً ( أضل ، ثم فسر أضل - لأنه واجب الهداية في بالنصب - بقوله : ( حق ( اي ثبت ووجب ) عليهم الضلالة ) أي لأنه أضلهم فيحشرون على ما كانو عليه في الدنيا من الأديان ، والبدان ، وقد تبين أن ههنا احتباكين : أثبت في اولهما بدا دليلاً على حذف يعيد وذكر تعودون دليلاً على حذف تبتدئون ، وأثبت في الثاني هدى دليلاً على حذف أضل وذكر حقوق الضلالة دليلاً على حذف حقوق الهدى. ، ولما كرر سبحانه ذكر البعث كما تدعو إليه الحكمة في تقرير ما ينكره المخاطب تأنيساً له به وكسراً لشوكته وإيهاناً لقوته وقمعاً لسورته إلى أن ختم بما هو أدل عليه مما قبل من قوله ومنها تخرجون
77 ( ) فلنسئلن الذين أرسل إليهم ( ) 7
[ الأعراف : 6 ] عل ما ختم به هذا الدليل من حقوق الضلالة أي وجوبها اي وجوب وبالها عليهم بقوله ) إنهم(3/24)
صفحة رقم 25
اتخذوا ) أي كلفوا أنفسهم ضد ما دعتهم إليه الفطرة الأولى بأن أخذوا ) الشياطين أولياء ) أي أقرباء وانصاراً ) من دون الله ) أي الملك العلى الذي لا مثل له ) ويحبسون ) أي والحال أنهم يظنون بقلة عقولهم ) أنهم مهتدون ( فاشار بذلك إلى أنهم استحقوا النكال لأنهم قنعوا في الأصول - التي يجب فيها الابتهال ألى القطع بالظنون ولما أمر سبحانه بالقسط وبإفامة الوجه عند كل مسجد ، أمرهم بما ينبغي عند تلك الإقامة من ستر العورة الذي تقدم الحث عليه وبيان فحش الهتك وسوء أثره معبراً عنه بلفظ الزينة ترغيباًفيه وإذاناً في الزينة وبياناً لأنها ليس مما يتورع عنه لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يحب إذا بسط على عبد رزقه أن يرى أثر نعمته عليه ) رواه أحمد والترمذي وابن منيع عن أبي هريرة رضى الله عنه ، وأتبع أعظم ما ينبغي لابن آدم أن يعتبر فيه القسط من الماكل والمشرب فقال مكرراً النداء استعطافاً وإظهار لعظيم الإشفاق وتذكيراً بقصة أبيهم آدم عليه السلام التي أخرجته من الجنة مع كونه صفي الله ليش الحذر : ( يابني آدم ( اي الذي زيناه فعزه الشيطان ثم وقيناه شره بما أنعمنا عليه به من حسن التوبة وعظيم الرغبة ) خذوا زينتكم ) أي التي تقدم التعبير عنها بالريش لستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة ) عند كل مسجد ( واكد ذلك كونهم كانوا قد شرعوا أن غير الحمس يطوفون عراة ولما امر بكسوة الظاهر بالثياب لن صحة الصلاة متوقفة عليها ، أمر بكسوة الباطن بالطعام والشراب لتوقف القدرة عادة عليها فقال : ( وكلوا واشربوا ( وحسَّن ذلك أن بعضهم كان يتدين في الحج بالتضيق في ذلك ولما أمر بالملبس والمطعم ، نهى عن الاعتداء فيهما فقال : ( ولا تسرفوا ( بوضع(3/25)
صفحة رقم 26
شيء من ذلك فيما لا يكون أحق مواضعه ولو بالزيادة على المعاء ، ومن ذلك أن يتبع السنة في الشرب فيسير لأن العكر يرسب في الإناء فربما أذى من شربه ، ولذك نهى عن النفس ، وأما الطعام فليحسن إناءه والصابع لنيل البركة وهو أنظف ، ثم علل ذلك بقوله : ( إنه لا يحب المسرفين ) أي لا يكرمهم ، ولا شك أن من لا يحصل له شيءمن الخير فيحيط به كل شر ، ومن جملة السرف الكل في جميع البطن ، والاقتصاد الاقتصار على الثلث كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس ) و ( وما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن ) و ( الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد ) أخرجه البخاري عن ابن عمر رضى اله عنهما ، قال الطباء ، المعاء سبعة ، فالمعنى حينئذ أن الكافر ياكل شعباً فيملأ الأمعاء السبعة ، والمؤمن يأكل تقوتاً فياكل في معى واحد ، وذلك سبع بطنه وإليه الإشارة بلقيمات ، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهوالثلث - والله أعلم - وسبب الاية أنهم كانوا يطرحون ثيابهم إذا أرادوا الطواف ، يقولون : لا نطوف في ثياب إذ بتنا فيها ، ونتعرى منها لنتعرى من الذنوب إلا الحمس وهم قريش ومن ولده ، وكانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً ، فقال المسلمون : يارسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك - فانزلت .
الأعراف : ( 32 - 34 ) قل من حرم. .. . .
) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( ( )(3/26)
صفحة رقم 27
ولما كان من المعلوم أن ما كانوا الفوه واتخذوه ديناً يستعظمون تركه ، لأن الشيطان يوسوس لهم بأنه توسع الدنيا ، والتوسع فيها مما ينبغي الزهد فيه كما دعا غليه كثير نت الآيات ، اكد سبحاته الإذن في ذلك بالإنكار على من حرمه ، فقال منكراً عليهم إعلاماً بأن الزهد الممدوح ما كان مع صحة الإعتقاد في الحلال والحرام وأما ما كان مع تبديل شيء من الدين بتحليل حرام أو عكسه فهو مذموم : ( قل ( منكراً موبخاً ) من حرم زينة الله ( أ ي الملك الذي لا امر لأحد معه ) التي أخرج لعباده ) أي ليتمتعوا بها من الثياب والمعادن وغيرها. ولما ذكر الملابس التي هي شرط في صحة العبادة على وجه عم غيرها من المراكب وغيرها ، أتبعها المآكل والمشارب فقال : ( والطيبات ( اب من الحلال المستلذ ) من الرزق ( كالبحائر والسوائب ونحوها ؛ ولما كان معنى الإنكار : لم يحرمها من يعتبر تحريمه بل أحلها ، وكان ربما غلا في الدين غال تمسكاً بالآيات المنفرة عن الدينا المهونة لشأنها مطلقاً فضلاً عن زينة وطيبات الرزق ، قال مستأنفاً لجواب من يقول : لمن ؟ : ( قل هي ) أي زينة والطيبات ) للذين آمنوا ( وعبر بهذه العبارة ولم يقل : ولغيرهم ، تنبيهاً على أنها لهم بالأصالة ) في الحياة الدنيا ( في التمتع بها أكثر ، فهي غير خالصة لهم وهي للذين آمنوا ) خالصة ) أي لا يشاركهم فيها أحد ، هذا على قراءة نافع بالرفع ، والتقدير على قراءة غيره : حال كونها خالصة ) يوم القيامة ( وفي هذا نأكد لما مضى منإحلالها بعد تاكد ومحور الشكوك ، وداعية للتأمل في الفصل بين المقامين لبيان أن الزهد المأمور به إنما هو بالقلب بمعنى أنه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي اكبر همه ، وأما بالقلب بمعنى انه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي أكبر همه ، واما كونها ينتفع بها فيما أذن الله فيه وهي محقورة غير مهتم بها فذلك من المحاسن ولما كان هذا المعنى من دقائق المعاني ونفائس المباني ، أتبعه تعالى قوله جواباً لمن يقول : إن هذا التفصيل فائق فهل يفصل غيره هكذا ؟ ) كذلك ) أي مثل هذا التفصيل البديع ) نصل الايات ) أي نبين أحكامها ونميز بعض المشبهات من بعض ) لقوم يعلمون ) أي لهم ملكة وقابلية للعلم ليتوصلوا به إلى الإعتقاد الحق والعمل الصالح(3/27)
صفحة رقم 28
غيره فقال : ( قل إنما حرم ربي ( اي المحسن إليّ بجعل ديني احسن الديان ) الفواحش ) أي كل فرد منها وهي ما زاد قبحه ؛ ولما كانت الفاحشة ما يتزايد قبحه فكان ربما ظن أن افسرار بها غير مراد بالنهي قال : ( ما ظهر منها ( بين الناس ) وما بطن ( ولما كان هذا خاصاً بما عظمت شناعته قال : ( والإثم ) أي مطلق الذنب الذي يوجب الجزاء ، فظغن الإثم الذنب والجزاء ؛ ولما كان البغي زائد القبح مخصوصاً بانه من اسرع الذنوب عقوبة خصة بالذكر فقال : ( والبغي ( وهو الاستعلاء على الغير ظلماً ، ولكنه لما كان قد يطلق على مطلق الطلب ، حقق معناهاالعرفي الشرعي فقال : ( بغير الحق ) أي الكامل الذي ليس فيه شائبة باطل كان بغياً ، ولعله يخرج العلو بالحق بالانتصار من الباغي فإنه حق كامل الحقيقة ، وتكون تسمية بغياً على طريق المشاكلة تنفيراً - بإدخال تحت اسم البغي - من تعاطيه وندباً إلى العفو كما تقدم مثله في ) يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) [ النساء : 148 ] ويمكن أن يكون تقييده تأكيدا لمنعه بأ ، ه لا يتصور إلا موصوفا بأنه بغير الحق كما قال تخصيصا ) ما لم ينزل به سلطانا ( فإنه ل يوجد ما يسميه أحد شريكا إلا وهو مما لم ينزل إرشادا إلى أن أصول الدين لا يجوز أعتمادها إلا بقاطع فكيف بأغظمها وهو التوحيد ولذلك عقبه بقوله : ( وأن ) أي وحرم أن ) تقولوا على الله ) أي الذي لا أ " ظم منه ولا كفوء له ) ما لا تعلمون ) أي ما ليس لكم به علم بخصوصه ولا هو مستند إلى علم أعم من أن يكون من ألأصول أو لا .
ولما تقدم أن الناس فريقان : مهتد زضال ، وتكرر ذم الضال باجترتئه على الله بفعل ما منعه منه وترك ما أمره به ، وكانت العادة المستمرة للملوك أنهم لا يمهلون من تكرر مخالفته لهم ، كان كأنه قيل : فلم لا يهلك من يخالفه ؟ فقيل وعظا وتحذيرا : إنهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم ، ولا يفعلون شيئا منه إلا بإرادته ، فسواه عندهم بقاؤهمك وهلاكهم ، إنما يستعجل من يخاف الفوت أو يخشى الضرر ، ولهم أجل لا بد من استيفائه ، وليس ذلك خاصا بهم بل ) ولكل أمة أجل ( وهو عطف على ) فيها تحيون وفيها تموتون ) [ ألأعراف : 25 ] ) فإذا جاء أجلهم ( .
ولما كان نظرهم إلى الفسحة في الأجل ، وكان قطع رجائهم منه من جملة عذابهم ، قدمه فقال : ( لا يستأخرون ) أي من الأجل ) ساعة ( عبر بها والمراد أقل ما(3/28)
صفحة رقم 29
يمكن ، لأنها أقل ألأوقات في الاستعمال في العرف ، ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها لا على جزائها قوله : ( ولا يستقدمون ( أو على ألأجل المحتوم ، لأن الذي ضربه لهم ما ضربه إلا وهو عالم بكل ما يكون من أمرهم ، لم يتجدد له علم ، لم يكن يتجدد شيء من أحوالهم ، ويجوز أن يكون معطوفا على قوله ) ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) [ الأعراف : 24 ] وتكون الآية معلمة بأنهم ستناسلون فيكثرون حتى يكونوا أمما ، ولا يتعرضون جملة بل يكون لكل أمة وقت .
الأعراف : ( 35 - 37 ) يا بني آدم. .. . .
) يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ( ( )
ولما كان استشراف النفس إلى السؤال عما يكون بعد حين المستقر والمتاع أشد من استشرافها إلى هذا لكونه أخفى منه ، فهو أبعد من خطوره في البال ؛ قدم قوله ) ) قال فيها تحيون ( ) [ الأعراف : 25 ] ولما كان ذكر الدواء لداء هتك السوءة أهم قدم ) ) أنزلنا عليكم لباساً ( ) [ الأعراف : 26 ] ثم ما بعده حتى كان الأنسب بهذه الاية هذا الموضع فنظمت فيه .
ولما تقدمت الإشارة إلى الحث على اتباع الرسل بآيات المقصد الأول من مقاصد هذه السورة كقوله تعالى ) ) كتاب أنزل إليك ( ) [ الأعراف : 2 ] و ) ) لتنذر ( ) [ الأعراف : 2 ] و ) ) اتبعوا ما أنزل إليكم ( ) [ الأعراف : 3 ] وقوله ) ) فلنسئلن الذين أرسل لهم ( ) [ الأعراف : 6 ] وقوله ) ) قل أمر ربي بالقسط ( ) [ الأعراف : 29 ] ) ) ولا تتبعوا من دونه أولياء ( ) [ الأعراف : 3 ] وبقوله ) ) لأقعدن لهم صراظك المستقيم ( ) [ الأعراف : 16 ] ) ) لا يفتننكم الشيطان ( ) [ الأعراف : 27 ] وغيره فتحرر أنه لا سبيل إلى النجاة إلا بالرسل ، وختم ذلك بالأحل حثاً على العمل في أيام المهلة ؛ أتبع ذلك قوله حاثاً على التعلق بأسباب النجاة باتباع الدعاة الهداة قبل الفوت بحادث الموت ببيان الجزاء لمن احسن الأاتباع في الدارين ) يابني آدم ( ولما كان له سبحانه أن يعذب من خالف داعي العقل من غير إرسال رسول ، وكان إرسال الرسل جائزاً له وفضلاً منه سبحانه إذ لا يوجب عليه ، أشار إلى ذلك(3/29)
صفحة رقم 30
بحرف الشك فقال : ( إما ( هي إن ، الشرطية وصلت بها ما تأكيداً ) ياتينكم رسل ( ولما كانت زيادة الخبرة بالرسول أقطع للعذر واقوى في الحجة قال : ( منكم ) أي من نوعكم من عند ربكم. ولما كان الأغلب على مقصد هذه السورة العلم كما تقدم في
77 ( ) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ( ) 7
[ الأعراف : 7 ] ويأتي في
77 ( ) ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ( ) 7
الأعراف : 52 ] وغيرها ، كان التعبير بالقص - الذي هو تتبع الأثر كما تقدم في الأنعام اليق فقال ) يقصون عليكم آياتي ) أي يتابعون ذكرها لكم على وجه مقطوع به ، ويتبع بعضهم بها أثر بعض لا يتخالفون في أصل واحد من الأصول ولما لقاء الرسل حتماً والهجرة إليهم واجبة لأن العمل لا يقبل إلا بالاستناد إليهم مهما وجد إلى ذلك سبيل ، ربط الجزاء بالفاء فقال : ( فمن اتقى ) أي خاف مقامي وخاف وعيدي بسبب التصدق بالرسل والتلقي عنهم ) وأصلح ) أي عمل صالحاً باقتفاء آثارهم ) فلا خوف ) أي ) عليهم ) أي بسبب ذلك من شيء يتوقعونه ) ولا هم ) أي بضمائرهم ) يحزنون ) أي يتجدد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم ، لأن الله يعطيهم ما يقر به أعينهم ، وكأنه غاية في التعبير لأن إجلالهم لله تعالى وهيبتهم له يمكن أن يطلق عليهما خوف .
ولما ذكر المصدق ، اتبعه المكذب فقال ) والذين كذبوا بآيتنا ( اي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا ؛ ولما كان التكذيب قد يكون عن شبهة أو نوع من العذر ، نفي ذلك بقواه : ( واستكبروا عنها ) أي أوجدوا الكبر إيجاد من هو طالب له عظيم الرغبة فيه ، متجاوزين عنها إلى أضداد ما دعت إليه .
ولما ذلك ليس سبباً حقيقياً للتعذيب ، وإنما هو كاشف عمن ذرأه الله لجهنم لإقامة الحجة عليه ، أعري عن الفاء قوله : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) اصبحت النار ( ولما كان صاحب الشيء هو الملازم له المعروف به ، قال مصرحاً بذلك : ( هم ( تصدق بكل طبقة من طبقاتها ) خالدون ( فقد تبين أن إثيات الفاء أولاً للترغيب في الاتباع وتركها ثانياً للترهيب من شكاسة الطباع ، فالمقام في الموضعين خطر ، ولعل من فوائده الإشارة إلى أنه إذا بعث رسول وجب على كل من سمع به أن يقصده لتحرير امره ، فإذا بان له صدقه تبعه ، وإن تخلف عن ذلك كان مكذباً - الله الموافق .
ولما كان تكذيب الرسل تارة يكون بشرع شيء لم يشرعوه ، وتارة برد ما شرعوه(3/30)
صفحة رقم 31
قولاً وفعلاً ، واخبر أن المكذبين أهل النار ، علل ذلك بقوله : ( فمن اظلم ( اي أشنع ظلماً ) ممن افترى ) أي تعمد ) على الله ) أي الملك الأعلى ) كذباً ) أي كمن شرع في المطاعم والملابس غير ما شرع ، أو ادعىأنه يوحي إليه فحكم بوجود ما لم يوجد ) أو كذب بآيته ( اي برد ماأخبر به الرسل فحكم بإنكار ما وجد ولما كان الجواب لا أحد أظلم من هذا ، بل هو أظلم الناس ، وكان مما علم أن الظالم مستحق للعقوبة فكيف بالظلم قال : ( أولئك ( اي البعداء من الحضرات الربانسة ) ينالهم نصيبهم من الكتاب ) أي الذي كتب حين نفخ الروح أو من الآجال التي ضربها سبحانه لهم والأرزاق النتي قسمها ، تاكيداً لرد اعتراض من قال : إن كنا خالقنا فما له لا يهلكا ؟ ثم غيّي نيل النصيب بقوله : ( حتى إذا جاءتهم رسلنا ) أي الذين قسمنا لهم من عظمتنا ما شئنا حال كونهم ) يتوفونهم ( اي يقبوضون ارواحهم كاملة من جميع أبدانهم ) قالوا أين ما كنتم ( عناداً كمن هو في جبلته ) تدعون ) أي دعاء عبادة ) من دون الله ) أي تزعمون أنهم واسطة لكم عند الملك الأعظم وتدعونهم حال كونكم معرضين عن الله ، ادعوهم الآن ليمنعونهم من عذاب الهوان نذيقكم ) قالوا ضلوا ) أي غابوا ) عنا ( فلا ناصر لنا ولما كان افله لا يغيب فعملوا ضلالهم بغيب فعملوا ضلالهم عنهم ، قال مترجماً عن ذلك : ( وشهدوا علة أنفسهم ( اي بالغوا في الاعتراف ) أنهم كانوا كافرين ) أي ساترين عناداً لما لهم عنه نور العقل فلا مانع منه إلا خظوظ النفوس ولزوم البؤس
الأعراف : ( 38 - 39 ) قال ادخلوا في. .. . .
) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ( ( )
ولما كان كانه قبل : لقد اعترفوا ، والاعتراف - كما قيل - إنصاف ، فهل ينفعهم ؟ قيل : هيهات فات محله بفوات دار العمل لا حرم ) قال ) أي الذي جعل الله إليه ) ادخلوا ( كائنين ) في أمم ( اي في جملة جماعات وفرق أم بعضها بعضاً ؛ ثم وصفهم دالاً بتاء التانيب على ضعف عقولهم فقال : ( قد خلت ( ولما كان في الزمن الماضي من آمن أدخل الجار فقال ) من قبلكم ( ولما كان الجن الأصل في الإغواء قدمهم فقال : ( من الجن والإنس ( ثم ذكر محل الدخول فقال : ( في النار ( ولما جرت الرفاق بأنهم يتكالمون وحين الاجتماع يتسالمون تشوف السامع(3/31)
صفحة رقم 32
إلى حالهم في ذلك فقال مجيباً له : ( كلما دخلت أمه ) أي منهم في النار ) لعنت أختها ( اي القريبة منها في الدين والملة التي قضيت ىثارها واتبعت منارها ، يلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى - وهكذا ، واستمر ذلك منهم ) حتى إذا اداركوا ( اي تداركوا وتلاحقوا ، يركب بعضهم بعضاً - بما يشير أليه افدغام ) فيها جميعاً ( لم يبق منهم أمة ولا واحد من أمة ) قالت أخراهم ( اي في الزمن والمنزلة ، وهم الأتباع والسفل ) لأولاهم ) أي لأجلهم مخاطبين لله خطاب المخلصين ) ربنا ) أي الذي ما قطع إحسانه في الدنيا عنا على ما كان منا من مقابلة إحسانه بالإساءة ) هؤلاء ) أي الأولون ) اضلونا ) أي لكونهم أول من سن الضلال ) فاتهم ) أي أذقهم بسبب ذلك ) عذاباً ضعفاً ) أي يكون بقدر عذاب غيرهم مرتين لأنهم ضلوا وأضلوا لأنهم سنوا الضلال ( ومن سنَّ سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ومنه ( لا تقتل نفس ظلماً إلا على آدم الأول كفل من دمها ) لأنه أول من سن القتل ، ثم أكدوا شدة العذاب بقولهم : ( من النار ( ولما كان كانه قيل : لقد قالوا ماله وجه ، فبم أجيبوا ؟ قيل : ( قال ) أي جواباً لهم ) لكل ) أي من السابق واللاحق والمتبوع والتابع ) ضعف ( وإن لم يكن الضعفاء متساويين لأن المتبوع وإن كان سبباً لضلال التابع فالتابع أيضاً كان سبباً لتمادي المتبوع في ضلاله وشدة شكيمته فيه بتقويته بالاتباع وتاييده بالمناضله عنه والدفاع ؛ ولما كانوا جاهلين باستحقاقهم لسبب هذه الدقيقة قال : ( ولكن لا تعلمون ) أي بذلك ولما ذكر ملام الآخرين على الولين ، عطف عليه جواب الأولين فقال ) وقالت اولاهم ) أي أولى الفرق والأمم ) لأخراهم ( مسببين عن تاسيسهم لهم الضلال ودعئهم إليه ) فما كان لكم علينا ) أي بسبب انقيادكم لنا واتباعكم في الضلال ) من فضل ) أي لنحمل عنكم بسببه شيئاً من العذاب لنه لم يعد علينا من ضلالكم نفع وقد شاركتمونا في الكفر ) فذوقوا ) أي بسبب ذلك ) العذاب ( في سجين ) بما ( اي بسبب ما ) كنتم تكسبون ( لا بسبب اتباعكم لنا في الكفر
الأعراف : ( 40 - 42 ) إن الذين كذبوا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن(3/32)
صفحة رقم 33
فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) 73
( ) 71
ولما جرت العادة بأن أهل الشدائد يتوقعون الخلاص ، أخبر ان هؤلاء ليسوا كذلك ، لأنهم أنجاس فلييسوا أهلاً لمواطن القداس ، فقال مستأنفاً لجواب من كأنه قال : أما لهؤلاء خلاص ؟ واظهر موضع افضمار تعميقاً للحكم بالوصف : ( إن الذين كذبوا بآيتنا ) أي وهي المعروفة بالعظمة بالنسبة إلينا ) واستكبروا عنها ) أي واوجدوا الكبر متجاوزين عن اتباعها ) لا تفتح لهم ) أي الصعود أعمالهم ولا دعائهم ولا ارواحهم ولا لنزول البركات عليهم ) ابواب السماء ( لأنها طاهرة عن الأرجاس الحسية والمعنوية فإذا صعدت أرواحهم الخبيثة بعد الموت مع الملا ئكة العذاب اغلقت الأبواب دونها ثم ألقيت من هناك إلى سجين ) زلا يدخلون الجنة ) أي التي هي أطهر المنازل واشرفها ) حتى ( يكون ما لا يكون بان ) يلج ) أي يدخل ويجوز ) الجمل ( على كبره ) افي سم ) أي في خرق ) الخياط ) أي افبرة اي حتى يكون ما لا يكون إذاً فهو تعليق على محال ، فإن الجمل مثل في عظم الجرم عند العرب ، وسم الإبره مثل في ضيق المسلك ، يقال : اضيق من خرق الإبر ؛ وعن ابن مسعود رصى الله عنه أنه سئل عن الجمل فقال : زوج الناقة - اسجهالاً للسائل وإشارة إلى طلب معنى آخر غير هذا الظاهر تكلف ولما هذا للمكذبين المستكبرين أخبر أنه لمطلق القاطعين ايضاً فقال : ( وكذلك ) أي ومثل الجزاء بهذا العذاب وهو أن دخولهم الجنة محال عادة ) نجزي المجرين ) أي القاطعين لما امر الله به ان يوصل وإن كانوا أذناناً مقلدين للمستكرين المكذبين ؛ ثم فسر جزاء الكل فقال : ( لهم من جهنم مهاد ) أي فرش من تحتهم ، جمع مهد ، ولعله لم يذكره لأن المهاد كالصريخ فيه ) اومن فوقهم غواش ( اي أغطية - جمع غاشية - تغشيهم من جهنم ؛ وصرح في هذا بالفوقيه لأن الغاشية ربما كانت عن يمين أو شمال ، أو كانت بمعنى مجرد الوصول والإدراك ، ولعله إنما حذف الول لن لآية من الاحتياك فذكر جهنم أولاً دليلاً على إرادتها ثانياً ، وذكر الفوق ثانياً دليلاً على إرادة الحت أولاً ولما كان بعضهم ربما لا تكون له أهلية قطع ولا وصل ، قال لجميع انواع الضلال ، ) وكذلك ( اي ومثل ذلك الجزاء ) نجزي الظالمين ( ليعرف أن المدار على الوصف والمجرم : المذنب ومادته ترجع إلى القطع والظالم الواضع للشيء في(3/33)
صفحة رقم 34
غير موضعه كفعل من يمشي في الظلام ، يجوز أن يكون نبه سبحانه بتغاير الأوصاف على تلازمها ، فمن كان ظالماً لزمه الإجرام والتكذيب والاستكبار وبالعكس ولما أخبر عن أحوالهم ترهيباً ؟ أتبعه الإخبار عن أحوال المؤمنين ترغيباً فقال ) والذين آمنوا ( في مقابلة ) الذين كذبوا ( ولما قال : ( وعملوا ) أي تصديقاً في مقابلة ) الذين استكبروا ( ) الصالحات ( وكان ذلك مظنة لتوهم أن عمل جميع الصالحات - لأنه جمع محلى بالألف واللام - شرط في دخول الجنة ؛ خلل ذلك بجملة اعتراضية تدل على التخفيف فقال : ( لا نكلف نفساً إلا وسعها ( وترغيباً في اكتساب مالا يوصف من النعيم بما هو في الوسع ) أولئك ) أي العاتلوا الرتبه ) أصحاب الجنة ( ولما كانت الصحبة تدل على الدوام ، صرح به فقال : ( هم فيها خالدون. (
الأعراف : ( 43 - 46 ) ونزعنا ما في. .. . .
) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( ( )
ولما كانت الدار لا تصب إلا بحسن الجوار قال : ( ونزعنا ) أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ) ما ( كان في الدنيا ) في صدورهم من غل ) أي ضغينة وحقد وغش من بعضهم على بعض يغل أي يدخل بلطف ألى صميم القلب ومن الغلول ، وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة ويقال : غل في الشيء وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد ، حتى أن صاحب الدرجة السالفة لا يحسد صاحب العاليه ولما كان حسن الجوار لا يلذ إلاّ بطيب القرار باحكام الدار وكان الماء سبب العمارة وطيب المنازل ، وكان الجاري من اعم نغعاً وأشد استجلاباً للسرور قال تعالى ) تجري من ( وأشار إلى علومهم بقوله : ( تحتهم الأنهار ( فلما تمت لهم النعمة بالماء الذي به حياة كل حياة كل شيء فعرف أنه يكون عنه الرياض والشجار وكل ما به حسن الدار ، أخبر عن تعاطيهم الشكر لله ولرسوله المستجلب للزيارة بقوله : ( وقالوا الحمد ( الإحاطة بأوصاف الكمال ) لله ) أي المحيط بكل شيء علماًُ وقدرة لذاته لا لشيءآخر ؛(3/34)
صفحة رقم 35
ثم وصفوه بما يقتضي ذلك له له لأوصافه أيضاً ، فقالوا معلمين أنه لا سبب لهم في الوصول إلى النعيم غير النعيم غير فضله في الأولى والأخرى : ( الذي هدنا ( اي بالبيان والتوفيق ، وأ وقعوا الهداية على ما وصلوا إليه إطلاقاً للمسبب على السبب ) لهذه ( اي للعمل الذي أوصلنا إليه ) وما ) أي والحال أنا ما ) كنا لنهتدي ( أصلاً لبناء جبلاتنا على خلاف ذلك ) لولا أن هدانا الله ) أي الذي له الأمر كله ، وقراءة ابن عامر بغير واو على أن الجملة موضحة لما قلبها والقراءتان دامغتان للقدرة ولما كان تصديقهم للرسل في الدنيا إيماناً بالغيب من باب علم اليقين اخبروا في الآخرة بما وصلوا إليه من عين اليقين سروراً وتبججاً لا تعبداً ، وثناء على الرسل ومن أرسلهم بقولهم مفتتحين بحرف التوقع لأنه محله : ( لقد جاءت رسل ربنا ( اي المحسن إليينا ) بالحق ) أي الثابت الذي يطابقه الواقع الذي لا زوال له. ولما غبطوا أنفسهم وحقروها واثبتوا الفضل لأهله عطف على عطف قولهم قوله مانّاً عليهم بقبول اعمالهم ولما كان السار الإخبار عن الإيراث لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : ( ونودوا ) أي إتماماً لنعيمهم ) أن ( هي المخففة من الثقيلة أو هي المفسرة ) تلكم الجنة ( العالية ) أورثتموها ) أي صارت إليكم من غير تعب ولا منازع ) بما ( اي بسبب ما ) كنتم تعلمون ( لأنه سبحانه جعله سبباً ظاهرياً بكرمه ، والسبب الحقيقي هو ما ذكره هم من توفيقه ولما استقرت بهم الدار ، ونودوا بدوام الاستقرار ، ظاخبر سبحانه أنهم اقبلوا متبججين على اهل النار شامتين بهم في إحلالهم دارالبوار تلذيذاً لأنفسهم بالنعيم وتكديراً على الأشقياء في قوله : ( ونادى أصحاب الجنة ( اي بعد دخول كل من الفريقين إلى داره ) أصحاب النار ( يخبرونهم بما أسبغ عليهم من النعم ويقرورنهم بما كانوا يتوعدونهم به من حلول النقم ؛ ثم فسر ما وقع له النداء بقوله : ( أن ( أو هي مخففة من القيلة وذكر حرف التوقع لأنه محله فقال : ( قد وجدنا ) أي بالعيان كما كنا واجدين له بالإيمان ) ما وعدنا ربنا ) أي المحسن إلينافي الدارين من الثواب ) حقاً ) أي وجدنا جميع ما وعدنا ربنا لنا ولغيرنا حقاً كما كنا نعتقد ) فهل وجدتم ( اي كذلك ) ماوعد ( وأثبت المفعول الول تلذيذاٍ وحذفه هنا احتقاراً للمخاطبين وليشملما للفريقين فيكون وجد بمعنى العلم وبمعنى اللقى وفي التعبير بالوعد دون الوعيد مع ذلك تهكم بهم ) ربكم ( اي الذي احسن إليكم فقابلتم إحسانه بالكفران من العقاب ) حقاً ( لكونكم وجدتم ما توعدكم به ربكم حقاً ؛ قال سيبويه نعم عدة أي في جواب اتعطيني كذا وتصديق في مثل قد كان(3/35)
صفحة رقم 36
كذا ، والاية من الاحتباك أثبت المفعول الثاني أولاً دليلاً على حذف مثله ثانياً وحذفه ثانياً دليلاً على إثبات مثله أولاً - والله اعلم ولما حبوا من النعم بما تقدم وكان منه الجار الحسن ، وكان العيش مع ذلك لا يهنأ إلا بإبعاد جار السوء أخبروا ببعده وزيدوا سروراً بإهانته في قوله : ( فأذن ) أي بسبب ماأقربه أهل النار على انفسهم ) مؤذن بينهم ( اي بين الفريقين ) أن ( مخففه أو مفسرة في قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم وشددها الباقون ونصبوا ) لعنة الله ) أي طرد المللك الأعظم وإبعاده على وجه الغضب ) على الظالمين ) أي الذين كانوا مع البيان الواضح يضعون الأشياء في غير مواضعها كحال من لم ير نوراً اصلاً ) الذين يصدون ) أي لهم فعللمن أراد الإيمان ولمن آمن ولغيرهما بالإضلال بالإرغاب والإرهاب والمكر والخداع ) عن سبيل الله ) أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له الواضح الواسع ) ويبغونها ) أي يطلبون لها ) عوجاً ( بإلقاء الشكوك والشيهات وقدم تقدم ما فيه في آل عمران ) وهم بلآخرة كافرون ( اي ساترون ما ظهر لعقولهم من دلائلها فمتى وجدت هذه الصفات الأربع حققن اللعنة ) وبينهما ) أي وحال الفريقين عند هذه المنادة أنه بينهما أو بين الدارين ) رجال ( استوت حسناتهم وسيئاتهم فوفقوا هنالك حتى يقضي الله فيهم ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته كما جاء مفسراً في مسند ابن أبي خثيمة من حديث جابر رضى الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يعرفون كلاّ ) أي ) ونادوا ( اي أصحاب االأعراف ) أصحاب الجنة ) أي بعد دخولهم إليها واستقرارهم فيها ) أن سلام عليكم ) أي سلامة وامن من كل ضار ولما كان هذا السلام ربما أشعر أنه بعد دخول اهل الأعراف الجنة فكأنه قيل أكان نداؤهم بعد مفارقتهم الأعراف ودخولها ؟ فقيل لا ، ) لو يدخلوها ( اي الجنة بعد ) وهم ( اي الحال أنهم ) يطمعون ( في دخولها ، وعبر بالطمع لأنه لا سبب للعبادة إلى الله من أنفسهم وإن كانت لهم أعمال فضلاً عن هؤلاء الذين لا أعمال لهم(3/36)
صفحة رقم 37
الأعراف : ( 47 - 51 ) وإذا صرفت أبصارهم. .. . .
) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاٍ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( ( )
ولما دل ما تقدم على انهم مقبلون على الجنة وأهلها ، قال مرغباً مرهباً : ( وإذا صرفت ( بناه للمفعول لأن المخيف لهم الصرف لا كونه من معين ) ابصارهم ) أي صرفها صارف من قبل الله بغير اختيار منهم ) تلقاء ) أي وجاه ) أصحاب النار ) أي بعد استقرارهم فيها فرأوا ما فيها من العذاب ) قالوا ( اي أصحاب الأعراف حال كونهم لم يدخلوها وهم يخافون مستعيذين منها ) ربنا ( اي أيها المحسن إلينا في الدنيا بكل إحسان وفي الآخرة بكونك لم تدخلنا إلى هذا الوقت إلى النار ) لا تجعلنا مع القوم الظالمين ( بان تدخلنا مدخلهم ولما تقدم كلامهم لأهل الجنة بالسلام أخبرهم أنهم يكلمون أهل النا بالتوبيخ والملام فقال : ( ونادى ( وأظهر الفاعل لئلا يلبس باهل الحنة فقال ) أصحاب الأعراف ) أي الحال صرف وجوهم إلى جهة أهل النار ) رجالاً ( اي من أهل النار ) يعرفونهم ( اي بأعينهم وأما معرفتهم إجمالاً فتقدم وإنما قال هنا : ( بسيماهم ( لأن النار قد أكلتهم وغيرت معلمهم مع تغيرهم بالسمن وسواد الوجوه وعظم الجثث ونحوه ) قالوا ( نفياً أو استفهاماً توبيخاً وتقريعاً ) ما أغنى عنكم جمعكم ) أي للمال والرجال ) وما كنتم تستكبرون ( اي تجدون بهما هذه الصفة وتوجدونها دائماً في الدنيا زاعمين انه لا غالب لكم ؛ ثم زادوا في توبيخهم وتقريعهم وتحزينهم وتأسفهم والإنكار عليهم بقولهم مشيرين إلى ناس كانوا يستضعفون من أهل الجنة ويحقرونهم ) أهؤلاء ( وكأنه يكشف لهم عنهم حتى يروهم زيادة في عذابهم ) الذين أقسمتم ) أي في الدنيا ) لا ينالهم الله ) أي الذي له صفات الكمال ) برحمة ( فكيف بكمال الرحمة ولما كان التصريح بأمرهم بدخول الجنة إنكاء لأهل النار لأنه أنفى لما اقسموا عليه قالوا : ( ادخلوا ) أي قال الله لهم أو قائل من قبله ادخلوا ) الجنة لا خوفهم عليكم ) أي من شيء يمكن توقع أذاه ) ولا أنتم تحزنون ) أي يتجدد لكم حزن في(3/37)
صفحة رقم 38
وقت من الأوقات على شيء فات لما عندكم من الخيرات التي لا تدخل تحت الوصف ولما تقدم نداء أصحاب الجنة عندما حصل لهم السرور بدخولها لأصحاب النار بما يؤلم وينكي ، وختم بهذه الرحمة التي تطمع المحروم فيما يسر ويزكي ، أخبر أن أصحاب النار ينادون أصخحاب الجنة عندما حصل لهم من الغم بدخولها لكن بما شأنه أن يرقق ويبكي ، فقال ما يدل على أن عندهم كل ما نفي عن أهل الجنة في ختام الآية السالفة من الخوف والحزن : ( ونادى أصحاب النار ) أي بعد الاستقرار ) أصحاب الجنة ( بعد أن عرفهم إياهم وامر الجنة فتزحزحت فكان ذلكزيادة في عذابهم ؛ ثم فسر المنادي به فقال ) أن افيضوا علينا من الماء ( اي لأنكم اعلى منا ، فإذا أفضتموه وصل إلينا وهذا من فرط ما هم فيه بلاء فإن بين النار والجنة أهوية لا قرار لها ولا يمكن وصول شيء من الدارين إلى الخر معها ولما كانت الإضافة تتضمن افنزال قالوا : ( أو ) أي أو انزلوا علينا مما رزقكم الله ( اي الذي له الغنى المطلق ، من أي شيء هان عليكم إنزاله ) حرمها ) أي منعها بتلك الأهوية وغيرها من الموانع ) على الكافرين ( اي الساترين لما دلهم عليه قويم العقل وصريح النقل ) الذين اتخذوا ) أي تكلفوا غير ما دلهم عليه العقل الفطري حين نبه بالعقل الشرعي بأن أخذوا ) دينهم ( بعد ما محقوا صورته وحقيقة كما يمحق الطين إذا اتخذته خزفاً فصار الدين ) لهوا ) أي اشتغلا بما من شأنه أن يغفل وينسى عن كل ما ينفع من الأمور المعجبة للنفس من غير نظر في عاقبة ، فجوزوا من جنس عملهم بان لم ينظر لهم في إصلاح العاقبة ولما قدم ما هو أدعى إلى الاجتماع على الباطل الذي هوضد مقصود السود من الاجتماع على الجد وادعى إلى الغفلة وكان من شان الغفلة عن الخير أن تجر إلى استجلاب الأفراح والانهماك في الهوى حقق ذلك بقوله ) ولعباً ) أي إقبالاً على ما يجلب السرور ويقطع الوقت الحاضربالغرور ، ولذلك أتبعه قوله : ( وغرتهم ) أي في فعل ذلك ) الحياة الدني ) أي بما فيه من العراض عنها العيش حتى صاروا بذلك محجوبين عن نظر معانيها وعما دعا إليه تعالى من الإعراض عنها فلم يحسبوا حساب ما وراءها ولما كان تركهم من رحمته سبحانه مؤبداًأسقط الجار ) فاليوم ) أي سبب عن ذلك أن في هذا اليوم ) ننساهم ( اي نتركهم ترك المنسي ) اكما ( فعلوا هم بأنفسهم بان ) نسوا ) أي تركوا ) لقاء يومهم(3/38)
صفحة رقم 39
هذا ( فلم يعدوا له عدته ) وما ) أي وكما ) كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) ابآيتنا ( على ما لها من العظمة بنسبها إلينا ) يجحدون ) أي ينكورن وهم يعرفون حقيقتها لأنها في غاية الظهور
الأعراف : ( 52 - 54 ) ولقد جئناهم بكتاب. .. . .
) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ( )
ولما ذكر نسيانهم وجحودهم ذكر حالهم عند ذلك فقال ) ولقد ) أي فعلوا ذلك والحال أنا وعزتنا قد ) جئناهم ) أي على عظمتنا بإتيان رسولنا إليهم عنا ) بكتاب ( ليس هو موضعاً للجحد اصلاً ؛ ثم بين ذلك في سياق مرغب للوؤلف مرهب للمخالف فقال ) فصلناه ) أي بينا معاينة لم ندع فيها لبساً ، وجعلنا الاياته فواصل حال كون ذلك التفصيل ) علىعلم ) أي عظيم ، فجاء معجزاً في نظمه ومعناه وسائر علمه ومغزاه ، وحال كونه ) هدى ( اي بياناً ) ورحمة ) أي إكرماً ثم خص المنتفعين به لأن من لا ينتفع بالشيء فهو كالمعدوم في حقه فقال : ( لقوم يؤمنون ) أي فيهم قابلية ذلك وفيه رجوع إلى وصف الكتاب الذي هو أحد مقاصد السورة على أبداع وجه في احسن أسلوب ولما وصف الكتاب وذكر المنتفع به ، تشوقت النفس إلى السؤال عن حال من لا يؤمن به وهم الجاحدون ، فقال مشيراً إلى حالهم في قوتهم عن المتابعه بعد العلم بصدفه بعجزهم عنه كحال من ينتظر أن يأتي مضمون وعيده : ( هل ينظرون ) أي ينظرون ، ولكنه لما لم يكن لهم قصد في ذلك بغير ما يفهمه الحال ، جرد الفعل والإفادة أنه بتحقيق إتيانه في غاية القرب حتى كأنه مشاهد لهم ) إلا تأويله ) أي تصير ما فيه من وعد ووعيد إلى مقاره وعواقب أمره التي أخبره انه يصير إليها ولما كان كانه قيل : ما يكون حالهم حينئذ ؟ قال : التحسر والإذغان حيث لا ينفع والتصديق والإيمان حين لا يقبل وعبر عن ذلك بقوله : ( يوم يأتي تاويله ) أي بلوغ وعيده إلى مبلغه في النيا أو في الآخرة ؛ ولما قدم اليوم اهتماماً به ، اظتبعه العامل فيه فقال : ( يقول الذين نسوه ) أي تركوه ترك المنسي ، ويجوز أن يكون عد ذلك نسياناً(3/39)
صفحة رقم 40
لأنه ركز في الطباع ان كل ملك لا بد له من عرض جنده ومحاسبتهم ، فلما اعرضوا عن ذلك فيما هو من جانب الله عده نسياناً منهم لما ركز في طباعهم ولما كان نسيانهم في بعض الزمان السابق ، أدخل الجار فقال ) من قبل ( اي قبل كشف الغطاء محققين للتصديق ) قد جاءت ) أي فيما سبق من الدنيا ) رسل ربنا ) أي المحسن إلينا ) بالحق ) أي المطايق لهذا الواقع الذي نراه مما كانوا يتوعدوننا بع فما صدقوا حتى رأوا فلم يؤمنوا بالغيب ولا أوقعوا الإيمان في دار العمل فلذا لم ينفعهم ولما وصفوه سبحانه بافحسان لما كشف الحال عنه من حلمه وطول اناته ، سببوا لدخولهم في جملة الناس في الشفاعة العظمى لفصل القضاء ؛ ثم سببوا عن ذلك تحقيق كونهم لهم أي بالخصوص فقالوا ) فهل لنا من شفعاء ) أي في هذا اليوم ، وكأنهم جمعوا الشفعاء لدخولهم في جملة الناس في الشفاعة العظمى لفصل القضاء ؛ ثم سببوا عن ذلك تحقيق كونهم لهم اي بالخصوص فقال ) فيشفعوا لنا ) أي سواء كانوا من شركائنا الذين كنا نتوهم فيهم النفع ظاو من غيرهم ليغفر لنا ما تقدم من الجرائم ) أو نرد ) أي إن لم يغفر لنا إلى الدنيا التي هي دار العمل ، والمعنى أنه لا سبيل لنا إلى الخلاص إلا أحد هذين السببين ؛ ثم سببوا عن جواب هذا الاستفهام الثاني قولهم : ( فنعمل ( اي في الدنيا ) غير الذي كنا ) أي بجبلاتنا من غير نظر عقلى ) نعمل ( ولما كان من المعلوم عند من صدق القرآن وعلم مواقع ما فيه من الأخبار أنه لا يكون لهم شيء من ذلك ، كانت نتبجة قوله : ( قد خسروا أنفسهم ) أي فلا أحد أخسر منهم ) وضل ) أي غاب وبطل ) عنهم ما كانوا ( اي جبلة وطبعاً لا يمكنهم الرجوع عنه إلا عند عند رؤية البأس ) يفترون ) أي يتعمدون في الدنيا من الكذب في امره لقصد العناد للرسل من ادعاء أن الأصنام تشفع لهم ومن غير ذلك من أكاذيبهم ولما كان مدار القرىن على تقرير الأصول الربع التوحيد والنبوة والمعاد والعلم ، وطال الكلام في إخباره سبحانه عن أوامره ونواهيه وأفعاله بأولياءه واعدائه الدالة على تمام القدرة والعلم ، وختم بأن شركاءهم تعني عنهم ، علل ذلك بانه الرب لا غيره ، في وعلى المقصد الثاني - وهو الإعادة التي هي أعظم مقاصد السورة كفيل بإظهار الحجج عليها ، العقول انه اشد من الإعادة - بادلة متكلفة بتمام القدرة والعلم فقال : ( إن ربكم ( له وحده لا صنم ولا غيره ؛ ثم وصفه بما حقق ذلك فقال : ( الذي خلق السموات والأرض ) أي على اتساعها وعظمتها(3/40)
صفحة رقم 41
ولما كان ربما قال الكفار : ما له إذا كان قادراً وأنت محقق في رسالتك لا يعجل لنا الإتيان يتاويله ، بين أن عادته الأناه وإن كان أمره وأخذه كلمح بالبصر إذا أراده " فقال : ( في ستة ايام ( اي في مقدراها ؛ ولما كان تدبير هذا الخلق امراً باهراً لا تسعه العقول ، ولهذا كانت قريش تقول : كيف يسع الخلق إله واحد اشار إلى عظمته وعلو رتبته بأداة البعد فقال : ( ثم استوى على العرش ) أي أخذ في التدبير لما أوجده واحدث خلقه أخذاً مستوفي مستقصى مستقلاً به لأن هذا شان من يملك ملكاً ويأخذ في تدبيره وإظهار أنه لا منازع له في شيء منه ليكون خطاب الناس على ما ألفوه من ملوكهم لتستقر في عقولهم عظمة سبحانه ، وركز في فطرهم الأولى من نفي التشبيه منه ، ويقال : فلان جلس على سرير الملك ، وإن لم يكن هناك سرير ولا جلوس ، وكما يقال كناية لا يلتفت فيه إلى أجراء التركيب ، والألفاظ على ظواهرها كقولهم للطويل : طويل النجاد ، وللكريم : عظيم الوماد .
ولما كان سبحانه لا يشغله شان عن شأن ، ابتدأ من التدبير هو آية ذلكبمشاهدته في تغطية الرض بظلامه في آن واحد ، فقال على الكمال قدرته المراد بالاستواء بأمر يشاهد كل يوم على كثرة منافعة التي جعل سبحانه بها انتظامهذا الوجود ) يغشي ( اي استوى حال كونه يغشي ) الليل النهار ( وقال أبو حيان : قراء حميد بن قبس : يغشى الليل - بفتح بن جني عنحميد بنصب الليل ورفع النهار ، وقال ابن عطية : وابو الفتح أثبت ، وهذا الذي قاله - من أن أبا الفتح أثبت - كلام لا يصح ، إذ رتبة أبي عمرو الداني أحد من أئمة القراءة فضلاً عن النجاة الذين ليسوامقرئين ولا رووا القراءة عن أحد ولا روى عنهم القراءة أحد ، هذا مع الديانة الزائدة والتثبيت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من الحظ ، فقد رايت له كتاباً في كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلاً على إطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه ائمة النجاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه ، والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد امكن من حيث المعنى ، لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ ) اليّل ( في قراءتهم - وإن كان منصوباً - هو الفاعل من حيث المعنى ، إذ همزة النقل أو التضعيف صيرة مفعولاً ، ولا يجوز ان يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى ، لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل واحدهما فاعل من حيث المعنى ، فليلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في : ملكت زيداً عمراً ، إذ رتبة التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى - انتهى .(3/41)
صفحة رقم 42
ولما أخبر سبحانه أن الليل يغطي النهار ، دل على أن النهار كذلك بقوله مبيناً لحال الليل ) يطلبه ) أي الليل يجر ويطلب النهار دائماً طلباً ) حثيثاً ) أي سريعاًجداً لنغطية الليل ، وذلك لا يكون مطلوباً إلا بعد وجوده ، وإذا وجد النهار كان مغطياً لليل ، لأنهما ضدان ، وجو احدهما ماح لوجود الآخر ، وابتدأ سبحانه بذكر الليل لأن إغشاءه أول كائن بعد تكمل الخلق ، وحركتهما بواسطة حركة العرش ، ولذاربطهما به ، وهي أشد الحركات سرعة وأكملهاشدة ، وللشمس نوعان من الحركة : أحدهما بحسب ذاتها تتم بقطع في اليوم بليلته ، والليل والهنار إنما يحصلان بسبب حركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش لا بسبب حركة النيرين ، واجاز ابن جني ان يكون ) يطلبه ( حالاً من النهار في قراءة الجاعة وإن كان مفعولاً ، أي حال كون النهار يطلب الليل حثيثاً ليغطيه وان يكون حالاً من النهار في قراءة حميد ، فإن كلاً منهما يكون غاشياً للىخر قال في كتابه المحتسب في قراءات الشواذ : ووجه صحة القراءتبن والتقاء معنييهما أن الليل والنهار يتعاقبان ، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإ ؟ ن صاحبه ايضاً مزيل له ، وكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولاً ومفعول وإن كان فاعلاً ، على الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار لأنه بسفورة وشروقه أظهر أثراً في الاستحثاث من الليل ولما ذكر الملوين ، اتبعها آية كل فقال : ( والشمس والقمر والنجوم ) أي خلقها أو يغشى كل قبيل منهما ما الآخر آتية خال كون الكل ) مسخرات ( اي للسير وغيره ) بأمره ( وهو إرداته وكلامه تقودها الملائكة كما روي ان لله ملائكة يجرون الشمس والقمر ولما صح أن جميع ما نراه من الذوات خلقه ، وما نعلمه من المعاني أمره ، أنتج قطعاً قوله ) ألاله ) أي وحده ، وقدم المسبب على السبب ترقية - كما هو مقتضى الحكم - من المحسوس إلى المعقول فقال : ( الخلق ( وهو مقتضى الحكم - من المحسوس إلى المعقول فقال : ( الخلق ( وهو ما كان من الإيجاد يتسبيب وتنمية وتطوير قال الرازي فكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق ، فعالم الخلق بتسخيره ، وعالم الأمر بتدبيره ، واستيلاء الروحانية على الجسيمات بتقديره ) الأمر ( وهو ما كان من ذلك إخراجاً من العدم من غير تسبب كالروح ، وما كان حفظاَ وتدبيراً بالكلام كالأديان وكل ما يلاحظ القيومية ؛ وقال الرازي : كل ما كان بريئاً من الحجم والمقدار كان من عالم الأمر ، وعد الملائكة من عالم المر فأتنج ذلك قطعاً قوله على سبيل المدح الذي ينقطع دونه الأعناق ويتقاصر دون عليائه ذري ىلافاق ) تبارك ) أي ثبت ثبوتاً لا ثبوت في الحقيقة(3/42)
صفحة رقم 43
غيره اليمن والبركة وكثرة الاثار الفاضلة والنتائج الشريفة ) الله ) أي دو الجلال والإكرام ولما دل على أنه يستحق هذا الثناء لذاته ، دل على أنه يستحقه لصفاته فقال : ( رب العالمين ) أي مبدع ذلك كله ومربيه خلقاً وتصريفاً بامره ، وفي الجزء السادس من فزوائد المخلص عن سفيان بن عيينه أن قال : ما يقول هذه الدوبية - يعني بشراً المريسي ؟ قالوا : يا أبا محمد يزعم أن القرآن مخلوق فقال : كذب ، قال الله عزّ وجلّ ) ألا له الخلق والأمر ( فالخلق خلق الله ، والأمر القرىن - انتهى .
وهذا الذي فسر به مما تحتمله الاية بأن يكون الأمر هو المراد بقوله ) بأمره ( وهو الإرادة والكلام مع احتمال ما قدمته .
الأعراف : ( 55 - 57 ) ادعوا ربكم تضرعا. .. . .
) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ( )
ولما ذكر تعالى تفرده بالخلق والمر المقتضى لتفرده بالعبادة للتوجيه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقة ، أمر بهذا المقتضى اللائق بتلك المعارف ، وهو الدعاء الذي هو مخ العبادة فقال : ( ادعوا ربكم ) أي الدائم الإحسان إليكم دعاء عبادة وخضوع ) تضرعاً ) أي تذللاً ظاهراً ) وخفية ( اي وتذللاًباطناً ، وقد أثنى على عبده زكريا عليه السلام فقال : ( ) إذ نادى ربه نداء خفياً ( ) [ مريم : 3 ] اي اجمعوا إلى خضوع الظاهر خضوع الباطن ، أي أخلصوا لع العبادة إنه يحب المخلصين لأن تفرده بان يدعى هو اللائق بمقام عن الربوبية ، والتذلل على هذه الصفة هو اللائق بمقام عز الربوبية ، والتذلل على هذه الصفة هو اللائق بمقام ذل العبودية ، وهذا هو المقصود من الدعاء لا تحويل العلم الزلي ، وهو المقصود من جميع العبادات فإن العبد لا يدعو إلا تحويل العلم الأزلي ، وهو المقصود من جميع العبادات ، وقد جمع هذا الكلام على وجازته كل ما يراد تحقيقه وتحصيله من شرائط الدعاء بحيث إنه لا مزيد عليه ، ومن فعلخلاف ذلك فقد تجاوز الحد ، وإلى ذلك أوماً بتعليله بقوله : ( إنه لا يحب المعتدين ( اي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وغيره ، قالوا فامعنى أن من ترك هذا لا يحبه الله أي لا يثيبه ولا يحسن إليه ، فالآية من(3/43)
صفحة رقم 44
الاحتباك آخرها يدل على حذف ضده من صدرها ، وصدرها يدل على أنه حذف قبل الآخر ولا تتركوا الإخلاص تكونوا معتدين ولما كان ذلك من الوفاء بحق الربوبية والقيام بحق العبودية مقتضياًَ للصلاح أمر بإدامته بالنهي عن ضده في قوله : ( ولا تفسدوا ) أي لا تدفعوا فساداً ) في الأرض ) أي باشرك والظلم ، فهو منع من إيقاع ماهية الإفساد في الوجود ، وذلك يقتضي المنع من جميع أنواعه فيتناول الكليات الخمس التي اتفقت عليها الملل ، وهي الديان والأبدان والعقول والأنساب والأموال ) بعد إصلاحها ( والظاهر أن افضافة بمعنى اللام وهي إضافة في المفعول ، أي لا تدنسوها بفساد بعد أن أصلحها لكم خلقاً بما سوى فيها من المنافع المشار إليها بقوله
77 ( ) يغشى الليل النهار ( ) 7
[ الأعراف : 54 ] الدال على الوحدانية الداعي إلى الحق إقامة للأبدان ، وامر بما أنزل من كتبه على السنة رسله عليهم الصلاة والسلام إقامة للأديان فجمع إلى الإيجاد الأول الإبقاء الأول ولما كان ذلك اقتضى الاقتصار بكمال التذلل على مقام الخوف ، نفي ذلك بقوله ) وادعوه خوفاً ) أي من عدله ؛ ولما كان لا سبب للعبادة من أنفسهم في الوصول إليه سبحانه ، عبر بالطمع فقال : ( وطمعاً ) أي في فضله ، فإن من جمع بين الخوف والرجاء كان في مقام الإحسان وكأنه مشاهد للرحمن ، ما زجره زاجر الجلال بسياط سطوته إلا دعاه داعي الجمال إلى بساط رافته ، ومن حاز مقام الإحسان كان أهلاً للرحمة ) إن رحمت الله ) أي إكرام ذي الجلال وافكرام لمن يدعوه على هذه الصفة ، وفخمها بالتذكير لإضافتها إلى غير مؤنث فيما قال سيبوية فقال : ( قريب ( وكان الأصل منكم ، ولكنه اظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : ( من المحسنين ( ولما كان دوام الصلاح لا يكون إلا يكون بالغيث ، وهو من أجل أنواع الرحمة ، وهو لا يكون إلا بالسحاب ، وهو لا يكون إلا بالريح ، قال تعالى عاطفاً على ) إن ربكم الله ( تنبيهاً بعد تحقيق المبدأ على تحقيق المعاد : ( وهو ) أي لا غيره ) الذي يرسل ) أي بالتحريك ) الرياح ( هذا في قراءة الجماعة ، وانواعها خمس : جنوب وشمال وصبا ودبور ونكباء ، وهي كل ريح انحرفت فوقعت بين ريحين ، ووحد ابن كثير وحمزة والكسائي على إرادة الجنس ) بشرا ( بتضمين في قراءة اهل الحجاز والبصرة ، أي منتشرة جمع نشور من النشر ، وهو بسط ما كان مطوياً وتفرقه في كل وجه لا لذات الريح وإلا الدام ذلك منها ولا بقوة فلك أو نجم لأن نسبتها إلى الهواء واحدة ) بين يدي ) أي قبل ) رحمته ) أي المطر ، ولعله عبر فيه باليدين : اليمنى واليسرى ، لدلالته -(3/44)
صفحة رقم 45
مع ما فيه من الفخامة - على انه تارة يكون رحمة وتارة يكون عذاباً كما كان على قوم نوح عليه السلام وإن كانت الرحمة فيه أغلب وهي ذات اليمين ، وتارة تكون الرياح جامعة لها لحفظ الماء ، وتارة مفرقة مبطلة لها ، وتارة تكون مقومة للزروع والأشجار مكملة لها وهي اللواقح ، وتارة تكون منمية لها أو مهلكة كما يكون في الخريف ، وتارة تكون طبية وتارة مهلكة إما بشدة الحرارة والبرودة ؛ ثم غيّ الإرسال بقوله ) حتى إذا أقلت سحاباً ( اي حملتها لقلتها عندها لخفتها عليها ) ثقالاً ( اي بالماء ؛ ولما دل على العظمة بالجمع وحقق الأمر بالوصف ، أفرد اللفظ دلالة على غاية العظمة بسوقه مجتمعاً كأنه قطعة واحدة ، لا يفترق جزء منه عن سائره إذ لو تفرق لا ختل أمره فقال : ( سقناه لبلد ( اي لأجله وإليه ) ميت ( اي بعد النبات ) فأنزلها ) أي بما لنا من العظمة ) به ) أي البلد ، أو بسبب ذلك السحاب ) الماء ) أي هذا الجنس ، واشار إلى عظمة الإنبات بالنون فقال ) فأخرجنا به ) أي بالماء ) من كل الثمرات ( اي الحقيقة على الأشجار والمجازية من النبات وحبوبه ولما كان هذا - مع ما فيه من التذكير بالنعمة المقتضية لتوحيده بالدعوة - دليلاً ثانياً في غاية الدلالة على القدرة على البعث ، قال تعالى : ( كذلك ( اي مثل ما أخرجنا هذا النبات من الأرض بعد أن لم يكن ) نخرج الموتى ) أي من الرض بعد ان صاروا تراباً ) لعلكم تذكرون ( اي قلنا هذا لتكون حالكم حال من يرجي تذكره هذه الآية سبحانه كما قدر على إعادة النبات بجمع الماء له من جوف الأرض بعد أن كان تغيب في الرض وصار تراباً ، وأحيى الشجرة بعد أن كانت لا روح لها بإيداع الثمرة التي هي روحها ، فهو قادر على إعادة الأشباح وإيداعها الأرواح كما كانت أول مرة ، لأنه لا فرق بين الإخرجين
الأعراف : ( 58 - 60 ) والبلد الطيب يخرج. .. . .
) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ( )
ولما كانت الموت موتين : حسياً ومنعنوياً - كما اشير في الأنعام في آية ) ) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثم الله ( ) [ الأنعام : 36 ] ) ) أو من كان ميتاً فأحييناه ( ) [ ألانعام : 122 ] كان كأنه قيل : لا فرق في ذلك عندما بين أموات الإيمان وأموات الأبدان ، فكما انا فاوتنا بين جواهر الراضي بخلق بعضها جيداً وبعضها رديئاً كذلك فاوتنا بين عناصر الناسي بجعل بعضها طيباً وبعضها خبيثاً ، فالجيد العنصر يسهل(3/45)
صفحة رقم 46
إيمانه ، والخبيث الصل يعسر إذعانه وتبعد استقامة وإيقانه ) والبلد الطيب ( اي الذي طابت ارضه فكانت كريمة منتبه ) يخرج نباته ( اي إذا نزل عليه الماء خروجاً كثيراًُ حسناً سهلاً غزيراً ) بإذن ) أي بتمكين ) ربه ) أي المربي له بما هياة له ، والذي طاب في الجملة ولم يصل إلى الغاية يخرج له نبات دون ذلك ، والخبيث لا يخرج له نبات اصلاً بمنع ربه له ) لا يخرج ) أي نباته ) إلا ) أي حال كونه ) نكداً ) أي قليلاً ضعيف المنفعة ، وهو - مع كونه دالاً على أن ذلك ما كان على ما وصف مع استواء الأراضي في الصل واستواء المياه ونسبتها إلى الأفلاك والنجوم إلا بالفاعل المختار - مثل ضربة سبحانه للمؤمن والكافر عند سماعها للذكر من الكتاب والسنة والآية من الاحتباك ولما استوت هذه الآيات على الذروة من بدائع الدلالات ، كان السامع جديراً بأن يقول : هل تبين جميع هذه الآيات هذه البيان ؟ فقيل : ( كذلك ) أي نعم ، مثل هذا التصريف ، وهو الترديد مع اختلاف الأنحاء لا ختلاف الدلالات وإبرازها في قوالب الألفاظ الفائقة والمعاني الرائقة في النظوم المعجزة على وجوه لا تكاد تدخل تحت الحصر : ( نصرف الآيات ) أي كلها ؛ ولما تم ذلك على هذا المنهاج الغريب والمنوال العجيب المذكر بالنعم في اسلوب دال على التفرد وتمام القدرة ، كان أنسب الأشياء ختمه بقوله مخصصاً بها المنتفع لأنها بالنسبة إلى غيرهم كأنها لم توجد : ( لقوم يشكرون ) أي يوجد منهم الشكر للنعم وجوداً مستمراً فلا يشركون بل ينتفعون بما أنعم عليهم به وحده في عبادنه وحده ، وينظرون بعقولهم أنه أقدرهم بنعمة على ما هم عاجزون عنه ، فلا يسلبون عنه شيئاً من قدرته على بعث ولا غيره فإنهم يزعمون أنهم أهل معالي الأخلاق التي منها أنه جزاء التي منها جزاء الإحسان إلا الإحسان ولما طال تهديده سبحانه لمن أصرع على فساده ، ولم يرجع عن غيّة وعنادة بمثل مصارع الأولين ومهالك الماضين ، ونّوع في هذه الآيات محاسن الدلالات على التوحيد والمعاد بوجوه ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين قاطعة وحجج ساطعة ، ساق سبحانه تلك القصص دليلاً حسياً على أن في الناس الخبيث والطيب مع الكفالة في الدلالة على تمام القدرة والغيرة من الشرك على تلك الحضرة - بتفصيل احوال من سلفت الإشارلة إلى إهلاكهم وبيان مصارعهم وأنه لم تغن عنهم قوتهم شيئاً ولا كثرتهم بقوله تعالى
77 ( ) وكمة من قرية أهلكناه ( ) 7
[ الأعراف : 4 ] وقوله
77 ( ) فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ( ) 7
[ الأعراف : 34 ] الآية تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتقوية لصاحبي أتباعه بالتنبيه على أن الإعراض(3/46)
صفحة رقم 47
عن الآيات ليس من خواص هذه الأمة بلف هي عادة الأمم السالفة ، وعلى أن النعم خاصة بالشاكرين ، ولذا كانت النقم مقصورة على الكافرين ، فقال تعالى ) لقد ارسلنا ( أب بعظمتنا ، وافتتحه بحرف التوقع لما للسامع الفطن من التشوف إلى ذكرر ما تكرر من الإشارة إليه ، ولأن اللام المجاب بها القسم المحذمف لا ينطقون بها غالباً إلا مقترنة بقد ، لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تاكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة بمعنى التوقع الذي هو معنى ( ق ) عند استماع المخاطب كلمة القسم ) نوحاً ( يعني ابن لمك بم متوشلخ بن خنوخ ، وهو إدريس عليه السلام ، وكان عند الإرسال أبن خميسن سنة .
ولما كان إرساله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل القبائل باختلاف اللغات قال : ( إلى قومه ) أي الذين كانوا ملء الأرض كما في حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما عن أنس رضي الله عنه ، ائتونا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض .
وفيهم من القوة على القيام بما يريدون ما لا يخفي على من تامل آثارهم وعرف أخبارهم ، فإن كانت آثارهم فقد حصل المراد ، وإن كانت لمن بعدهم علم - بحكم قياس الاستقرار - انهم أقوى على مثلها وأعلى منها ، ولسوق ذلك دليلاً على ما ذكرجاء مجرداً عن ادوات العطف ، وهو مع ذلك كله منبه على أن جميع الرسل متطابقون على الدعوة إلى ما دل عليه برهان ) إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض ) [ الأعراف : 54 ] من التوحيد والصلاح إلى غير ذلك من بحور الدلائل والحجاج المتلاطمة الأمواج - والله الهادي إلى سبيل الرشاد ، وكون نوح عليه السلام رسولاً إلىجميع أهل الأرض - لأنهم قومه لوحده لسانهم - لا يقدح في تخصيص نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بعموم الرسالة ، لأن معنى العموم إرساله إلى جميع الأقوام المختلفة باختلاف الألسن وإلى جميع من ينوس من الإنس والجن والملائكة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الصافات لهذا مزيد بيان ولما كان من المقاصد العظيمة الإعلام بان الذي دعا إليه هذا الرسول لم تزل الرسل - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام - تدعو إليه ، وكان نوح أول رسول ذكرت رسالته عقب ذكر إرساله بذكر ما أرسل به بالفاء بقوله ) فقال ياقوم ( اي فتجيب إليهم بهذه بالإضافة ) اعبدوا الله ) أي الذي له جميع العظمة من الخلق والمر ، فإنه مستحق لذلك وقد كلف عباده به .
ولما كان المقصود إفراد بذلك ، علل بقوله مؤكداً له بإثبات الجار ) ما لكم ( وأغرق في النفي فقال : ( من إله غيره ( ثم قال معللاً أو مستأنفاً مخوفاً مؤكداً لأجل تكذيبهم : ( إني أخاف عليكم ( في الدنيا ولآخرة ، ولعلة قال هنا : ( عذاب يوم(3/47)
صفحة رقم 48
عظيم ( وفي هود ) ) أليم ( ) [ هود : 26 ] وقال المؤمنون ) ) أفلاتتقون ( ) [ المؤمنون : 23 ] ترتيب السور الثلاث - وإن كان الصحيح انه باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم فلعله جاء على ترتيبها في النزول ، لأنها مكيات ، وعلى ترتيب مقال نوح عليه السلام لهم فالان لهم أولاً المقال من حيث إنه اوهم أن العظم الموصوف به ) اليوم ( لا بسبب العذاب بل الأمر آخر ، فيصير العذاب مطلقاً يتناول أي عذاب كان ولو قل ، فلما تمادى تكذيبهم بين لهم أن عظمه إنما هو من جهة إيلام العذاب الواقع فيه ، فلما لجوا في عتوهم قال لهم القادر إذا هدد عند مخالفة غيره له : ألا تفعل ما اقول لك ؟ أي متى خالفت بعد هذا عاجلتك بالعقاب وأنت تعرف قدرتي ولما تم ذلك وكان الحال مقتضياً - مع ما نصب من الألة الواضحة على الوحدانية - لأن يجيبوا بالتصديق ، كان كأنه قيل : فبماذا كان جوابهم ؟ فقال ) قال الملأ ) أي الأشراف الذين يملأ العيون مرآهم عظمة ، وتتوجه العيون في المحافل إليهم ، ولم يصفهم في هذه السورة بالكفر لأن ذلك ادخل في التسلية ، لأنها أول سورة قص فيها مثل هذا في ترييب الكتاب ، ولأن من آمن به مطلقاً كانوا في جنب من لم يؤمن في غاية القلة ، فكيف عند تقييدهم بالشرف وأكد ذمهم تسلية لهذا النبي الكريم بالتعريف بقربهم منه في النسب بقوله : ( من قومه ( وقابلوا رقته وأدبه بغلطة مؤكداً ما تضمنته من البهتان لأن حالهم مكذب لهم فقالوا ) إنا لنراك ( اي كل واحد منا يعتقد اعتقاداً هو في الثقة به كالرؤية أنك ) في ضلال ( اي خطأ وذهاب عن الصواب ، هو ظرف لك محيط بك ) مبين ) أي ظاهر في نفسه حتى كأنه يظهر ذلك لغيره .
الأعراف : ( 61 - 68 ) قال يا قوم. .. . .
) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( ( )
ولما قذفوه بضلال مقيد بالوضوح ، نفي الضلال الذي هو الأعم وبنفية ينتفي كل اخصيّاته بل نفي أقل شيء من الضلال ، فقال تعالى مخبراً عنه ) قال ياقوم ( مجدداً لا ستعطافهم ) ليس بي ضلالة ( فنفي وحده غير معينة ، ولا يصدق ذلك إلا بنفي(3/48)
صفحة رقم 49
لكل فرد ، فهو أنص من نفي المصدر ، ولم يصف الملا من قومه هنا بالذين كفروا ووصفهم بذلك في سورة هود ، إمالأنها صفة يقصد بها التقييد فلا يختل المعنى بإثباتها ولا نفيها ، أو لأنهم أجابوه بذلك مرتين : إحدهما قبل أن يسلم أحد من أشرافهم ، والثانية بعد أن أسلم بعضهم .
ولما نفى ما رموه به على هذا الوجه البليغ ، أثبت له ضده باشراف ما يكون من صفات الخلق ، فقال مستدركاً - بعد نفي الضلال - إثبات ملزوم ضده : ( ولكني رسول ( اي إليكم بما امرتكم به فانا على اقوم طريق ) من رب العالمين ) أي المحسن إليهم بإرسال الرسل لهدايتهم بإنقاذهم من الضلال ، فرد الأمر عليهم بألطف إشارة ؛ ثم استأنف الإخبار عن وظيفة بياناً لرسالته فقال : ( أبلغكم ( وكأن ابواب كفرهم كانت كثيرة فجمع باعتبارها تعدد معجزاته أو تعدد نوبات الوحي في الأزمان المتطاولة والمعاني المختلفة ، أو أنه جمع صحيفة عليهما السلام فقال : ( رسالات ربي ( اي المحسن إليّ من الوامر والنواهي وجميع أنواع التكاليف من احوال الآخرة وغيرها ، لا أزيد فيها أنقص منها كما هو شأن كل رسول مطيع ولما كان االضلال من صفات الفعل ، واكتفى بالجملة الفعلية الدالة على حدوث في قوله : ( وانصح ( وقصر الفعل ودل على تخصيص النصح بهم ومحضه لهم فقال : ( لكم ( والنصيحة : الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية من الشوائب المكروه ، ولما كان الضلال من الجهل قال : ( وأعلم من الله ) أي من صفات الذي له صفات الكمال وسائر شؤونه ) ما لا تعلمون ) أي من عظيم أخذه لمن يعصيه وغير ذلك مما ليس لكم قابلية لعلمه بغير سفارتي فخذوه عني تصيروا علماء ، ولا تتركوه بنسبتي إلى الضلال تزدادوا ضلالاً ولما كان الحامل لهم على هذا مجرد استبعاد ان يختص عنهم بفضيلة وهو منهم كما سياتي في غير هذه السورة ، أنكر ذلك عليهم بقولة : ( أوعجبتم ( اي اكذبتم وعجبتم ) أن جاءكم ( وضمن جاء معنى أنزل ، فلذلك جعلت صلته ( على ) فقال : ( ذكر ( رسالة ) من ربكم ) أي المحسن إليكم بالإيجاد والتربية منزلاً ) على الرجل ( اي كامل في الرجولية وهو مع ذلك بحيث لا تتهمونه فأنه ) منكم ( لقولكم : ( ما سمعنا بهذا ( اي إرسال البشر ) في آبائنا الأولين ) [ المؤمنون : 24 ] ) لينذركم ( لتحذروا ما ينذركموه ) ولتتقوا ) أي تجعلوا بينكم وبين ما تحذرونه وقاية لعلكم تنجون ) ولعلكم ترحمون ( اي وليكون حالكم إذا لقيتم الله حال من ترجى رحمته بان يرفعه الله في الدارين(3/49)
صفحة رقم 50
ولما نسبوه أولاً إلى الضلال وهوقد يكون خطأ عن ذهول ونحوه ، فأقام لهم الدليل على أنه على الصواب ، أخبر أنه لم يتسبب عن ذلك إلا تصريحهم بمكا لوحوا إليه أولاً بالضلال من التكذيب فقال : ( فكذبوه ) أي الملأ وتبعهم من دونهم ؛ ولما تسبب عن تكذبيهم له تصديق الله لهم بإهلاكهم وإنجائه ومن آمن به ، قال مقدماً لأنجائه اهتماماً به : ( فأنجيناه ( بما لنا من العظمة من أهل الرض كلهم ومن عذابنا الذي اخذناهم به : ( والذين معه ) أي بصحبة الأعمال الدينية ) في الفلك ( وهو السفينة التي منّ الله على الناس بتعليمه عملها لتقية من الطوفان فكانت آية ومنفعة عظيمة لمن أتى بعدهم ) واغرقنا ) أي بالطوفان ، وهو الماء الذي طبق ظهر الرض فلم يبق منها موضعاً حتى أحاط به ، واظهر موضع الإضمار تعليقاً للفعل بالوصف إشارة إلى ان من فعل مع الرسول شيئاً فلإنما فعله مع مرسله فهو يجازيه بما يستحقه فقال : ( الذين كذبوا بآيتنا ) أي وهي من الظهور في حد لا خفاء به لما لها من العظمة بالنسبة إلينا ، وعدي هنا فعل النجاة بالهمزة وهي الأصل في التعدية وقرنت ب ) الذين ( لأنه أخلص الموصولات واصرحها ولما أعيدت القصة في سورة يونس عليه السلام ، كان الأليق بكلام البلغاء والأشبه بطرائق الفصحاء التفنن في العبارة ، فعدي التضعيف مع ما فيه من الأبلغية بإفهام مزيد الاعتناء مناسبة لما تقدم من مزيد الفويض في قوله
77 ( ) فاجمعوا أمركم وشركاءكم ( ) 7
[ يونس : 71 ] وتلاب ) من ( ضماً للفرع فإن ) من ( مشترك بين الوصول والشرط ، وهي أيضاً قد تطلق على ما لا يعقل ، فناسب ذلك الحال ، وزيدهناك في وصف الناجين
77 ( ) وجعلناكم خلائف ( ) 7
[ يونس : 10 ] نظراً إلى قوله تعالى في في أول السورة لآ
77 ( ) ولقد اهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ( ) 7
[ يونس : 13 ] فلوح لهم بالأهلا إن ظلموا ، ثم أشار لهم - في قصة نوح عليه السلام بكونه أعلمهم أن الخلائف هم الناجون الباقي ذكرهم وذريتهم - إلى أنه تفصيل عليهم بالتوفيق إلى الإجابة ورحمهم بهذا النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - فقضى أنهم غيلار مهلكين ولما افتتحت القصة بنسبتهم له إلى الضلال باطلاً وهو ناشىء عن عمى البصيرة أو البصير ، ناسب ان يقلب الأمر عليهم على وجه الحق فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك ) إنهم كانوا ( اي لما جبلتهم من العوج ) قوماً عمين ) أي مطبوعين في عمى القلب مع قوتهم يحاولون ، ثابت لهم ذلك ، بما أشار إليه فعل دون أن يقال فاعل ، وختمت القصة في يونس بقوله
77 ( ) فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( ) 7
[ يونس : 73 ] لقوله(3/50)
صفحة رقم 51
اولها
77 ( ) إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري ( ) 7
[ يونس : 71 ] أي إنذاري لأنه أعلم أنه كبر عليهم ولو كان تبشيراً لما عز عليهم ولما كان عاد بعدهم ، ولم يكن هنا ما يقتضي تشويش الترتيب ، اتبعهم بهم مقدماً المرسل إليه ليفيد تخصيص رسالته بهموهم بعض اهل الأرض فقال : ( وإلى عاد ( خاصة ارسلنا ) أخاهم ) أي في النسب لأنهم عنه افهم وبحالة في الثقة والأمانة اعرف ؛ ولما عظمه على نوح فإنهم كانوا جميع أهل الأرض ، لأن القبائل لم تكن فرقت الناس ولا الألسنة إذ كان لسان الكل واحداً ، ولم تفرق الألسنة إذ كان لسان الكل واحداً ، ولم تفرق الألسنة إلا بعد الصرح ، ولهذا عم الغرق جميع أهل الأرض ، فكان المعنى حينئذ لا يختلف في قصة بتقديم ولا تاخير ، فناسب تقديم الرسالة أو المرسل لأنه اهم ولما وكانت قصة نوح عليه السلام أول قصص النبياء مع قومهم ، ولم يكن للعرب عهد بمجاورات الأنبياء ومن يرسلون إليه ، فأتى فيها بالأصل ( أرسلناه ) فقال سياقاً واحداً إخباراً لمن هو فارغ الذهن من كل جزء من أجزائها ؛ أتت قصة هود عليه السلام بعدعلم السامعين بقصة نوح عليه السلام مما وقع من تبليغه لهم ودورهم عليه ، فلما ذكر إرساله تشوف السامع إلى انه هل قال لهم كما قال نوح وهل ردوا عليه كرد قومه أو كان الأمر بخلاف ذلك ؟ فأجيب سؤال المتشوف بقوله : ( قال ( كقوله نوح عليع السلام سواء ) ياقوم ( مذكراً لهم بانه احدهم يهمه ما يهمهم ) اعبدوا الله ( اي لا ستحقاقه ذلك لذاته ؛ ثم علل أو أستأنف بقوله : ( ما لكم ( وأغرق في النفي فقال : ( من إله غيره ( كانوا عارفين بما اصاب قوم نوح قال : ( افلا تتقون ( اي أفلا تجعلون بينكم وبين عذاب هذا الواحد الجبار وقاية ولما تشوف السامع إلى جوابهم بعد هذا الترغيب الممزوج بالترهيب ، أجيب بقوله ) قال الملأ ) أي الأشراف الذين يملؤون العيون بهجة والصدور هيبة ولما كانت عاد قليلاًبالنسبة إلى قوم نوح عليه السلام ، وكان قد أسلم من أشرافهم من له غنى في الجملة ، قيد بقوله : ( الذين كفروا ) أي ستروا ما من حقه الظهور من ادلة الوحدانية ، ووصفوا تسلية لهذا النبي الكريم فيما يرى من جفاء قومه بأن مثل ذلك كان لإخوانه من الأنبياء بقوله ) من قومه ( وأكدوا ما وجهوه به من الجفاء لأنهم عالمون بان حاله في عمله وحكمه يكذبهم بقولهم : ( إنا لنراك ( اي لنعلمك علماً متيقناً حتى كانه محسوس ) في سفاهة ( اي مظروفاً لخفة العقل ، فهي محيطة بك من جميع الجوانب ، لا خلاص(3/51)
صفحة رقم 52
لك منها فلذا أدتك إلى قول لا حقيقة له ، فالتنوين للتعظيم ، فإن قيل : بل للتحقير ، كأنهم توقفوا في وصفة بذلك كما توقفوا في الجزم بالكذب فقالوا : ( وإنا لنظنك من الكاذبين ) أي المتعمدين للكذب ، وذلك لأنه كان عندهم علم من الرسل وما يأتي مخالفهم من العذاب من قصة نوح عليه السلام ولم يكن العهد بعيداً وأما قوم نوح فجزموا بالضلال واكدوه بكونه مبيناً ، لأنه لم يكن عندهم شعور بأحوال الرسل وعذاب الأمم قبل ذلك ، ولهذا قالوا
77 ( ) ما سمعنابهذا في آبائنا الأولين ( ) 7
[ المؤمنون : 24 ] قيل : ليس كذلك ، فقد ورد في جواب قوم نوح في سورة هود مثل هذا ، وهو قوله
77 ( ) بل نظنكم كاذبين ( ) 7
[ هود : 27 ] ؛ فإن قيل : إنما كان هذا في ثاني الحال بعد ان نصب لهم الأدلة وأقام البراهين على صحة مدعاه وثارت حظوظ الأنفس بالجدال ، فإنه يبعد أن يكون قومه أجابوه بذلك أول ما دعاهم ، قيل والأمر كذلك في قصة هود عليه السلام سواء فإنه لم يقل له ذلك إلاالكفار من قومه فيقييدهم بالوصف يدل على أنه كان فيهم من اتبعه ، بل وإن متبعه كان من أشرافهم هم بالظن ، وتعبير في الكذب لإرادتهم أنه يكفي في وصفه بالسفاهة التي زعموها غقدامه على ما يحتمل معه ظنكم لكذبه ، أو يكون قوله غير الحق في زعمهم مردداً بين أن يكون قاله عن تعمد أو حمله عليه ما رموه به من السفه من غير تامل الحلم بضده ما سموه بان ) قال ( معلماً الأدب في مخاطبة السفهاء ) ياقوم ( مذكراً بما بينهم من النسب الداعي إلى الود والمناصحة والعطف والملاطفة ) ليس بي سفاهة ( فنفى أن يكون به شيء من خفة حلم ، فانتقى أن يكون كاذباً لأن الداعي إلى الكذب الخفة والطيش فلم يحتج إلى تخصيصه بنفي .
ولما نفى السفاهة ، أثبت ما يلزم منه ضدها بقوله : ( ولكني رسول ( وبين المرسل تعظيماً للامر بقوله ) من رب العالمين ) أي المحسن إليهم بعد نعمة الإيجاد والأرزاق بإرسال الرسل إليهم ليكسبوهم معالي الأخلاق التي بها انتظام نعمة الإبقاء ) ابلغكم ( وجع الرسالة لما تقدم في قصة نوح عليه السلام فقال : ( رسالات بي ( المحسن ألّي ما لم اكن أعلم وتاهيلي لما لم يكن في حسابي ولما كانوا قد رموه بالسفه الذي هو من غرائز النفس لأنه ضد الحلم والرزانة ، عبر عنة مضمون الجملة النافية له بما يقتضي الثياب فقال : ( وأنا لكم ناصح ) أي لم يزل النصح من صفتي ، وليس هو تكسبته بل عريزة فيّ ، وقد بلوتموني فيه قبل الرسالة وإظهار هذه المقالة دهراً دهيراً وزماناًطويلاً ؛ ولما قالوا إنهم يظنون كذبة زادهم صفة الأمانة فقال : ( أمين ((3/52)
صفحة رقم 53
الأعراف : ( 69 - 71 ) أوعجبتم أن جاءكم. .. . .
) أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونِي فِي أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( ( )
ولما كان يعرف ما يعتقدونه من امانته وعقله ، وظن أنه ما حملهم على هذا إلا العجب من ان يطلع على مالم يطلعوا عليه ، أنكر عليهم ذلك ذاكراً لما ظنه حاملاُ لهم ملوحاً بالعطف إلى التكذيب فقال : ( اوعجبم ( اي اكذبتم وعجبتم ) ان جاءكم ذكر ) أي شرف وتذكير ) من ربكم ) أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم قط ، منزلاً ) لينذركم ( اي يحذركم ما لمن كان على ما أنتم عليه من وخامة العاقبة ولما كان التقدير : فاحذروا ، عطف عليه تذكيرهم بالنعمة مشيراً به إلى التحذير من عظيم النقمة في قوله : ( واذكروا إذ ) أي حين ) من بعد قوم نوح ( أو يكون المحذوف ما اقتضاه الاستفهام في قوله ) أو عجبتم ( من طلب الجواب ، اي أجيبوا واذكروا ، اي ولا تبادروا بالجواب حتى تذكروا ما انعم بع عليكم ، وفيه الإشارة إلى التحذير مما وقع لقوم نوح ، أو يكون العطف على معنى الاستفهام الإنكاري في ) افلا تتقون ( ) أوعجبتم ) أي اتقوا ولا تعجبوا واذكروا ، أو يكون العطف - وهو احسن على ) اعبدوا الله ( وقوله ) خلفاء ( قيل : إنه يقتضى أن يكونوا قاموا مقامهم ، ومن المعلوم أن قوم نوح كانوا ملء الرض ، وأن عاداً إنما كانوا في قطعة منها يسيرة وهي الشجرة من ناحية اليمين فقيل : إن ذلك لكون شداد بن عاد ملك جميع الأرض فكأنه قيل : جعل جعدكم خليفة في جميع الأرض ، فلو حصل الشكر فيهم من ملك فأطيعوا يزيدكم من فضله ، وقيل : إن قصة ثمود مثل ذلك ، ولم يكن فيهم من ملك الأرض ولا أرض عاد ، فاجيب بما طرد ، وهو ان عاداً لما كانوا أقوى اهل الأرض ابداناً وأعظمهم أجساداً وأشدهم خلقاً أشهرهم قبيلة وذكراً ، كان سائر الناس لهم تبعاً ، وكذا ثمود فيما فيما أعطوه من القدرة على نحت الجبال ونحوها بيوتاً ، وعندي أن السؤال من أصله لا يريد فإن بين قولنا : فلان خليفة فلان ، وفلان خليفة من بعد فلان - من(3/53)
صفحة رقم 54
الفرق ما لا يخفي ، فالمخلوف في الثاني لم يذكر ، فكأنه قيل : جعلكم لمن كان قبلكم في هذه الأرض التي أنتم بها ، وخص قوم نوح وعاد بالذكر تذكيراً بما حل بهم من العذاب ، ولهذا زائدة على الحد عظيمة الانتشار في جميع الأقطار ، ومعلوم أن الله تعالى لم يترك واحدة منها بغير رسول
77 ( ) وما كان معذبين حتى نبعث رسولاً ( ) 7
[ الإسراء : 15 ] وفي قصة هود في سورة الأحقاف
77 ( ) وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ( ) 7
[ الأحقاق : 21 ] ؛ وله سر آخر وهو أن هذه الأمم كان عند العرب كثير من أخبارهم فصلت لهم أحوالهم ، طوي عنهم من لم يكن عندهم شعور بهم فلم يذكروا إلا إجمالاً لئلا يسارعوا إلى التكذيب بما ينزل فيهم من غير دليل شهودي يقام عليهم .
ولما ذكرهم بمطلق الإبقاء بعد ذلك لإغراق العام ، أتبعه التذكير بالزيادة فقال : ( وزادكم ) أي على من قبلكم أو على من هو موجود في الأرض في زمانكم ) في الخلق ( اي الخاص بكم ) بسطة ( اي في الحسن بطول البدان والمعنى بقوة الأركان قيل : كان طول كل واحد منهم أثتى عشر ذراعاً وقيل أكثر .
ولما عظمت النعمة ، كرر عليهم التذكير فقال مسبباً عن ذلك ) فاذكروا آلاء الله ( اي نعم الذي استجمع صفات العظمة التي أنعم عليكم بها من الاستخلاف والقوة وغيرهما ، واذكروا انه لا نعمة عندكم لغيره أصلاً فصار مستحقاً لأن تخصوه بالعبادة ) لعلكم تفلحون ( اي ليكون حالكم حال من يرجي فلاحة وهو ظفره بجميع مراده ، لأن الذكر موجب للشكر الموجب للزيادة ولما كان هذا منه موجباً ولا بد لكل سامع منصف من المبادرة إلى لإذعان لهذه الحجة القطعية ، وهي استحقاقه للافراد بالعبادة للتفرد بالإنعام ازداد تشوف المخاطب إلى جوابهم ، فأجيب بقوله : ( قالوا ( منكرين عليه معتمدين على محض التقليد ) أجئتنا ) أي من عند من ادعيت أنك رسوله ) لنعبد الله ( اي الملك الأعظم ) وحده ( ولما كان هذا منهم في غاية العجب المستحق للإنكار ، اتبعوه ماهو كالعلة لإنكارهم عليه ما دعاهم إليه فقالوا : ( ونذر ) أي نترك على غير صفة حسنة ) ما كان يعبد آباؤنا ( اي مواطنين على عبادته بما دلوا عليه ب ( كان ) وصيغة المضارع - مع افشارة بها إلى تصوير آبائهم في حالهم ذلك - ليحسن في زعمهم إنكار مخالفتهم لهم .
ولما كان معنى هذا الإنكار أنا لا نعطيك ، وكان قد لوح لهم بالتذكير بقوم نوح وقوله ) أفلا تتقون ( إلى من العذاب بما لوح إليه إيماؤهم إلى التكذيب يقولهم : ( إن كنت من الصادقين ( وتسميتهم للانذار بالعذاب وعداً من باب الاستهزاء(3/54)
صفحة رقم 55
ولما كانوا قد بالغوا في السفه في هذا القول ، وكان قد علم من محاورته ( صلى الله عليه وسلم ) لهم الحلم عنهم ، اشتد التطلع إلى ما يكون من جوابه لهذا والتوقع له ، فشفى غليل هذا التشوف بقوله : ( قال قد وقع ) أي حق ووجب وقرب أن يقع ) عليكم من ربكم ) أي الذي غربكم به تواتر إحسانه عليكم وطول إملائه لكم ) رجس ) أي عذاب شديد الاضطراب في تتبع اقصادكم وأدناكم موجب لشدة اضرابكم ) وغضب ( اي شدة في ذلك العذاب لا تفلتون منها .
ولما أخبرهم بذلك ، بين لهم ان سببه كلامهم هذا في سياق لإنكار فقال : ( اتجادلونني ( ولما كانت آلهتهم تلك التي يجادلون فيها لا تزيد على السماء لكونها خالية من كل معنى قال : ( افي اسماء ( ثم بين انه لم يسمها آلهة من يعبد به فقال : ( سميتموها أنتم وآباؤكم ( ولما كان لله تعالى أن يفعل ما يساء وان يامر بالخضوع لمن يشاء ، قال نافياً التنزيل فإنه يلزم من نفي الإنزال : ( ما نزل الله ( اي الذي ليس الأمر إلاله ) بها ) أي بتعبدكم لها أو بتسميتكم إياها ، وأغرق في النفي فقال : ( من سلطان ( ولعله أتى بصيغة التنزيل لأن التفعيل ياتي بمعنى الفعل المجدد وبمعنى الفعل بالتديج فقصد - لأنه في سياق المجادلة وفي سورة مقصودها إنذار من أعراض عما دعا إليه هذا الكتاب النازل بالتدريج - النفي بكل اعتبار ، سواء كان تجدداًاو تدريجاً وإشارة إلى أنه لو نزل عليهم في الأمر بعبادتها شيء واحد لتوقفوا في لعدم فهمهم لمعناة حتى يكرر عليهم الأمر فيه بعبادته شيء واحد لتقفوا فيه لعدم فهمهم لمعناة حتى يكرر عليهم الأمر فيه مرة بعدأخرى ، فيعلموا أن ذلك امر حتم لا بد منه كما فعله بنو إسرائيل في الأمر بذبح البقرة لأجل القتيل أنهم لم يعقلوا معناه ، دل ذلك قطعاً على ان المر لهم بعبادتها إنما هو ظلام الهوى لأنه عمى مخص من شأن الإنسان ركوبه بلادليل اصلاً .
ولما أخبرهم بوقوع العذاب وسببه ، بين لهم أن الوقوع ليس على ظاهرة في افنجاز وإنما معناه الوجوب الذي لا بد من فقال : ( فانتظروا ( ثم استأنف الإخبار عن حاله بقوله : ( إني ( واشارة بقوله ) معكم ( إلى أنه لا يفاركم لخشية منهم ولا غيرها ) من المنتظرين (
الأعراف : ( 72 - 74 ) فأنجيناه والذين معه. .. . .
) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ(3/55)
صفحة رقم 56
عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان هذا ينبغي أن يكون سبباً للتصديق الذي سبب الرحمة ، بين أنه إنما سبب لهم العذاب ، وله ولمن تبعه النجاة ، فبدأ المؤمنين اهتماماً بشأنهم بقوله : ( فانجيناه ) أي بما لنا من العظمة إنجاء وحيّاً سريعاً سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعر من العجين ) والذين معه ( اي في الطاعة ، وأشار إلى أنه لا يجب على الله بشيء بقوله : ( برحمة ) أي بإكرام وحياطة ) منا ) أي لا بعمل ولا غيره ولما قدم افنجاء اهتماماً به ، أتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غيره أخذ الملوك الذين الإنجاء اهتماماً به ، اتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب ، فتوفتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع ) وقطعنا ( دابرهم أي آخرهم ، هكذا كان الأصل ولكنه اظهر تصريحاً بالمقصود وبياناً لعلة أخذهم فقال : ( دابر ( اي آخر ، ايولم استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود عليه السلام ) الذين كذبوا بآيتنا ) أي ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة إلينا وقوله : ( وما كانوا ) أي خلقاً وجبلة ) مؤمنين ( عطف على صلة ) الذين ( وهي ) كذبوا بآيتنا ( وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم مؤذنة بأنه لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقول
77 ( ) إنهم كانوا قوماً عمي ( ) 7
[ الأعراف : 64 ] تعليلاً لإغراقهم ، أي أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك ، لأنهم غير قابلين للايمان لما فيهم من شدة العنادولزوم الإلحاد فالمعنى : وما كان الإيمان من صفتهم ، أي مآمنوا في الماضي ولا يؤمنون في ىلآتي ، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله انه سيؤمن ، ويزيده حسناً أنهم لما افتتحوا كلامهم بان نسبوه إلى السفاهة كاذبين ؛ ناسب ختم القصة بان يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقاً بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم ، لأن الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين ، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل ، وأيضاً فوصفهم بالتكذيب وان أخذهم إنما كان المطلق صدور التكذيب منهم ، وانهم لم يبادروا إلى الإيمان قبل التكذيب ، ويحتمل ان تكون الجملة حالاً ، والمعنى على كل تقدير : قطعنا دابرهم في حال تكذيبهم وعدم إيمانهم ولما أتم سبحانه ما اراد من قصة عاد ، اتبعهم ثمود فقال ) وإلى ثمود ) أي خاصة ، منع من الصرف لأن المراد به القبيلة ، وهو مشتق من الثمد وهو اتلماء القليل ، وكانت مسامنهم الحجر بين الحجار والشام إلى وادي القرى ، أرسلنا ) أخاهم صالحاً ((3/56)
صفحة رقم 57
ثم استنأنف غلإخبار عن قوله - كما مضى في هود عليه السلام فقال : ( قال ياقوم ( مستعطفاً لهم بالتذكير بالقرابة وعاطف النسابة ) اعبدوا الله ) أي الذي لا كمال إلا له ) ما لكم ( وأكد النفي بقوله : ( من إله غيره ( ولما دل على صدقه في ذلك أنهم دعوا أوثانهم فلم تجيبهم ، ودع هو ( صلى الله عليه وسلم ) ربه سبحانه فأخرج لهم الناقة ، علل صحة ما دعا إليه بقوله : ( قد جاءتكم بيينة ) أي ظاهرة جداً على صدقي في ادعاء رسالتي وصحة ما امرتكم به ، وازدهم رغبة بقوله : ( من ربكم ( اي الذي لم يزل محسناً إليكم ؛ ثم استأنف بيانها بقوله : ( هذه ( إليها بعد تكوينها تحقيقاً لها وتعظيماً لشأنها وشانه في عظيم خلقها وسرعةتكونها لجلة ولما أشار إليها ، سماها فقال : ( ناقة الله ( شرفها بالإضافة إلى الاسم العظم ، ودل على تخصيصها بهم بقوله : ( لكم ( فذرها أيمما أنبت الله الذي له كل سيء وهي ناقبة كما ان الأرض كلها مطلقاً أرضه والنبات رزقه ، ولذلك أظهر لئلا يختص أكلها بارض دون أخرى .
ولما أمرهم بتركها لذلك ، أكد المر بنهيهم عن أذاها فقال : ( ولا تمسوها بسوء ( فضلاً عما بعد المس ) فيأخذكم ) أي أخذ قهر بسبب ذلك المس وعقبه ) عذاب أليم ( اي مؤلم ولما أمرهم ونهاهم ، ذكر لهم ترغيباً مشيراً إلى ترهيب فقال : ( واذكوا ) أي نعمة الله عليكم ) إذ جعلكم خلفاء ) أي فيما أنتم فيه ) من بعد عاد ) أي إهلاكهم ) وبوأكم في الأرض ) أي جعل لكم في جنسها مسامن تبوءون أي ترجعون إليها وقت راحتكم ، سهل عليكم من عملها في أي أرض أردنم ما لم يسهله على غيركم ، ولهذا فسر المراد بقولم : ( تتخذون ) أي بما لكم من الصنائع ) من سهملها قصوراً ) أي أبنية بالطين واللبنوالآجر واسعة عالية حسنة يقصر أمل الآمل ونظر الناظر عليها مما فيها من المرافق والمحاسن ) وتنحتون الجبال ) أي أيّ جبل أرتم تقدرونها ) بيوتاً ( ولما ذكرها بهذه النعم مرغباً ، كرر ذلك إشارة وعبارة فقال مسبباً عما ذكرهم به : ( فاذكروا ( اي إذعان ورغبة ورهبقة ) الآء ) أي نعم ) الله ( اي الذي له صفات الكمال فلا حاجة به إلى أحد ، فإحسانه هو الإحسان في الحقيقة ) ولا تعثوا في(3/57)
صفحة رقم 58
الأرض ( من العثي وهو الفساد ، وهو مقلوب عن العيث - قاله ابن القطاع ، وحينئذ يكون قوله : ( مفسدين ( بمعنى معتمدين للفساد .
الأعراف : ( 75 - 79 ) قال الملأ الذين. .. . .
) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( ( )
ولما حصل الالتفات إلى جوابهم ، قيل : ( قال الملأ ) أي الأشراف ، وبينه بقول : ( الذين استكبروا ) أي أوقعوا الكبر واتصفوا به فصار لهم خلقاً فلم يؤمنوا ؛ ونبه على التأ سية بقوله : ( من قومه ( ولما قال : ( للذين استضعفوا ( كان ربما فهم انهم آمنوا كلهم ، فنفى ذلك بقوله مبدلاً منه : ( لمن آمن منهم ) أي المستضعفين ، فهو أوقع في النفس وأروع للجنان من البيان في أول وهلة مع الإشارة إلى أن أتباع الحق هم الضعفاء وأنه لم يؤمن إلا يؤمن إلا لبعضهم ، ففيه إيماء إلى أن الضعف أجلّ النعم لملازمته لطرح النفس المؤدي إلى الإدعان للحق ، وبناؤه للمفعول دليل على أنهم في غاية الضعف بحيث يستضعفهم كل أحد ) اتعلمون ) أي بدؤوهم بالإنكار صداً لهم عن يرضيهم ) أن صالحاً ( سموه باسمه جفاء وغلطة وإرهاباً للمسؤولين ليجيبوهم بما يرضيهم ) مرسل من ربه ( وكأنهم قالوه ليعلموا حالهم فيبنوا عليه ما يفعلونه ، لأن المستكبيرين لا يتم لهم كبرهم إلا بطاعة المستضعفين .
ولما عملوا ذلك منهم ، أعملوهم بالمنابذة اعتماداً على الكبير المتعال الذي يضمحل كل كبر عنده ولا يعد لأحد أمر مع امره بان ) قالوا ( منبهين لهم على غلطتهم في توسيمهم في حالهم معبرين بما دل على العلم بذلك والإذعان له ) إنا بما أرسل به ( ونبى للمفعول إشارة إلى التعميم التصديق وإلى أن كونه من عند الله أمر مقطوع به لا يحتاج إلى تعيين ) مؤمنون ( اي غريقوت في الإيمان به ، ولذلك ) قال الذين استكبروا ( اي في جوابهم معبرين بما يدل على المخالفة لهم والمعاندو ) إنا بالذي ( ووضعوا موضع ( أرسل به ) - رداً لما جعلوه معلوماً واخذوه مسلماً ) آمنتم به ) أي كائناً ما كان ) كافرون ( ثم سبب عن قولهم قوله ) فعقروا الناقة ) أي التي جعلها الله لهم آية ، وعبر بالعقر دون النحر لشموله كل سبب لقتلها لأن ابن إسحاق ذكر أنه(3/58)
صفحة رقم 59
اجتمع لها ناس منهم فرماها أحدهم بسهم وضرب ىخر قوائمها بالسيف ونحرها آخر فاطلق اسم السبب على المسبب ، ولكن قوله تعالى :
77 ( ) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقره ( ) 7
[ القمر : 29 ] وقوله
77 ( ) إذا انعث اشقاها ( ) 7
الشمس : 91 ] وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه ) قالوا : هو قدار بن سالف ، جعلت له امرأة من قومه ابنتها إن عقرها ، ففعل فكان أشقى الأولين ، وأشقى الاخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، جعلت له قطام امرأة من بني عجل جميلة نفسها إن قتله ، فالمناسبة بينهما أن كلاّ منهما ألقى نفسه في المعصية العظمى لأجل شهوة فرجه في زواج امراة ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اشقى الأولين عاقر الناقة ) يدل على أن عاقرها رجل واحد ، وحينئذ يكون المراد به قطع القوائم ، فحيث جمع أراد الحقيقة والمجاز معاً ، وحيث أفراد ألااد الحقبقة فقط ، فالتعبير به لأنه الصل والسبب الأعظم في ذبح الإبل ؛ قال البغوي : قال الأزهري : العقر هو قطع عرقوب البعير ، ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره - انتهى .
وكأن هذا إشارة إلى أن المراد بالعقر في كلامه النحر ، ولا ريب في أن أصل العقر في اللغة القطع ، ومادته تدور على ذلك ، عقر النخلة ، إذا قطع راسها فيبست ، والفرس : ضرب قوائهما بالسيف وأكثر ما يستعمل العقر في الفساد ، وأماالنحر فيستعمل غالباً في الانتفاع بالمنحور لحماً وجلداً وغيرهما ، فلعل التعبير به دون النحر إشارة إلى أنهم لم يقصدوا بنحرها إلا إهلاكهاعتواً على الله وعناداً وفعلاً للسوء مخالفة لنهي صالح عليه السلام ، ولا يشكل ذلك بما ورد من أنهم اقتسموا لحمها ، لأنه لم يدع أن العقر يلزمه عدم الانتفاع بالمنحور ، وعلى التنزيل فهم لم يريدوا بذلك الانتفاع باللحم ، وإنما قصدوا - حيث لم يمكنهم المشاركة جميعاً في العقر - ان يشتركوا فيما نشا عنه تعريضاً برضاهم به ومشاركتهمفيه بما يمكنهم ) وعتوا ) أي تجاوزوا الحد في الغلطة والتكبير ) عن أمر ( اي امتثال امر ) ربهم ) أي المحسن أي المحسن إليهم الذي اتاهم على لسان رسوله من تركها ) وقالوا ( زيادة في العتو ) ياصالح ائتنا ( ولما نزلوا وعيدهم له - حيث لم يؤمنوا به - منزلة الوعد والبشارة قالوا : ( بما تعدنا ( استخفافاً منهم ومبالغة في التكذيب ، كانهم يقولون : نحن على القطع بانك لا تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك ، وإن كنت صادقاً فافعل ولا تؤخره رفقاً بنا وشفقة(3/59)
صفحة رقم 60
علينا ، فإنا لا نتأذى بذلك ، بل نتلذذ من يلقى الوعد الحسن ، وحاصله التهكم منهم به والإشارة إلى عدم قدرته ؛ وأكدوا ذلك بقولهم بأداة الشك : ( إن كنت من المرسلين ( اي الذين سمعنا أخبارهم فيما مضى ؛ ثم سبب عن عتوهم قوله : ( فأخذتهم الرجفة ) أي التي كانت عنها أو منها الصحية ، أخذ من هو في القبضة على غاية من الصغار والحقارة ، ولعل توحيد الدار هنا مع الرجفة في قصة صالح وشعيب عليهم السلام في قوله تعالى : ( فأصبحوا في دارهم ( اي مساكنهم ، وجمعها في القصتين مع الصحية ، في سورة هود عليه السلام للإشارة إلى عظم الزلزلة والصحية في الموضعين ، وذلك لن الزلزلة إذا كانت في شيء واحد كانت أمكن ، فتكون في المقصود من النكال أعظم ، والصحية من شأنها الانتشار ، فظغذا عمت الأماكن المتنائية والديار المتباعدة فأهلكت اهلها ومزقت جماعتها وفرقت شملها ، كانت من القوة المفرطة والشدة البالغة بحيث تنزعج من تأمل وصفها النفوس وتجب له القلوب ، وحاصلة أنه حيث عبر بالرجفة وحد الدار إشارة إلى شدة العذاب بعظم الاضطراب ، وحيث عبربالرجفة وحد الدارإشارة إلىشدة العذاب بعظم الاضطراب ، وحيث عبر بالصيحة جمع إيماء إلى عموم الموت بشدة الصوت ، ولا مخالفة لأن عذابهم كان بكل منها ، ولعل إحداهما كانت سبباً للأخرى ، ولعل المراد بالرجفة اضطراب القلوب اضطراباً قطعياً ، أو أن الدار رجفت فرجفت القلوب وهواقرب ، وخصت الأعراف بما ذكر فيها ، لأن مقصودها إنذار المعرضين ، والرجفة أعظم قرعاً لعدم الإلف لها - والله اعلم ) جاثمين ) أي باركين على ركبهم لازمين اماكنهم لا حراك بأحد منهم ، ولم يبق منهم في تلك الساعة أحد إلا رجل واحد كان في الحرم ، فلما خرج منه اصابه ما أصاب قومه وهو أبو رغال ، ومسافة الحرم عن ارضيهم تزيد على مسيرة عشرة أيام ، ومن الآيات العظيمة أن ذلك الذي خلع قلوبهم وأزال ارواحهم لم يؤثر في صالح عليه السلام والمستضعفين معه شيئاً وذلك مثل الريح التي زلزلت الأحزاب ، وأنالتهم أشد العذاب ورمتهم بالحجارة والتراب حتى هزمتهم وما نال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واصحابه منها كبير أذى ، وكفها الله عن حذيفة ، وكذا البرد الذي كان ذلك زمانه لما ارسله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليتعرف له أخبارهم ولما أصابهم ذلك ، سبب لهم الهجرة عن ديارهم ديار السوء والغضب واللعنة فقال تعالى إعلاماً لنا بذلك : ( فتولى ) أي كلف نفسه الإعراض ) فتولى ) أي كلف نفسه الإعراض ) عنهم وقال ) أي لما أدركه من أحوال البشر من الرقة على فوات إيمانهم وهم اصله وعشيرته ) ياقوم ( أي(3/60)
صفحة رقم 61
الذين يعز عليّ ما يؤذيهم ) لقد ابلغكم ( ولعله وحد قوله : ( رسالة بي ( لكون آتيه واحدة ) ونصحت ( وقصر الفعل وعداه باللام فقال : ( لكم ( دلالة على أنه خاص بهم ، روي أنه خرج عنهم في مائة وعشرة من المسلمين وهويبكي ، وكان قومه ألفاً وخمسمائه دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ولما كان التقدير : ففعلت معكم ماهو مقتض لأن تحبوني لأجله ، عطف عليه قوله : ( ولكن ( لم تحبوني ، هكذا كان الصل ولكنه عبر بما يفهم أن هذا كان دأبهم وخلقاً لهم مع كل ناصح فقال : ( لا تحبون ) أي حاكياً لحالهم الماضية ) الناصحين ) أي كل من فعل فعلي من النصح التام
الأعراف : ( 80 - 85 ) ولوطا إذ قال. .. . .
) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( ( )
ولما أتم سبحانه ما وفى بمقصد هذه السورة في هذا السياق من قصتهم ، اتبعه من بعده ممن تعرفه العرب كما فعل فيما فقال : ( ولوطاًإذ قال ( ولما كانت رسالته مدن شتى ، وكأنهم كانوا قبائل شتى ، قيل : كانوا خمسة وهي الؤتفكات ، وقيل : كانوا أبعة آلاف بين الشام والمدينة الشريفة ، قال : ( لقومه ( وقد جوزوا ان يكون العامل فيه ) أرسلنا ( و ) اذكر ( ولا يلزم من تقدير ) أرسلنا ( ان يكون إرساله في وقت تفوهه لهم بهذا القول غير سابق عليه ، لأنه كما أن ذلك الزمن - المنطق على أول قوله وآخره - وقت له فكذلك اليوم - الذي وقع فيه القول - وقت له ، بل وذلك الشهر وتلك السنة وذلك القرن ، فإن من شأن العرب تسمية الأيام المشتركة في الفعل الواحد يوماً ، قالوا : يوم القادسية ، وهو أربعة ايام إن اعتبرنا مدة القتال فقط ، وعدة شهور إن اعتبرنا بالاجتماع له ، وكذا يوم صفين ، وقال تعالى في قصة بدر ) وإذ يعدكم الله إحدى الطافئين أنهاكم ( إلى ان قال : ( إذ تستغيثون ربكم ( إلى أن قال : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ( ) ) إذ يوحي إلى الملائكة ( ) [ الأنفال : 7 ] وكلها إبدال من قوله :(3/61)
صفحة رقم 62
) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفين ( ولا ريب في أن زمان الكل يكن متحداًإلا بتأويل جميع ألايام المتعلقة بالوقعة من سير وقتال وغير ذلك - والله اعلم ، وعبر في قصة نوح عليه السلام ب
77 ( ) أرسلنا نوحاً إلىقومه ( ) 7
[ الأعراف : 59 ] ثم نسق من بعده عليه فقيل :
77 ( ) وإلى مدين أخاهم هوداً ( ) 7
[ الأعراف : 65 ]
77 ( ) وإلى ثمود أخاهم صالحاً ( ) 7
[ الأعراف : 73 ]
77 ( ) وإلى مدين أخاهم شعيباً ( ) 7
[ الأعراف : 85 ] وعدل عن هذا السلوب في قصة لوط فلم يقل : وإلى أهل أدوماً أخاهم لوطاً ، أو إلى أهل سدوم لوطاً أو وأرسلنا لوطاً إلى قومه ونحو ذلك كما سيأتي في قصة موسىعليه السلام ، لأن من أعظم المقاصد بسياق هذه القصص تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، في مخالفة قومه له من العذاب ، وقصص من عدا قوم لوطفزائده عن ذلك بأمر فظيع عظيم الشناعة شديد العار والفحش فعدل عن ذلك النسق تنبيهاً عليه تهويلاً للامر وتبشيعاً له ، ليكون في التسلية أشد ، وفي استدعاء الحمد والشكر أتم ، وحينئذ يترجح أن يكون العامل ) اذكر ( لا ) أرسلنا ) أي وأذركر لوطاً وما حصل عليه من قومه زيادة على شركهم من رؤيته فيهم هذا الأمر الذي لم يبق للشناعة موضعاً ، فالقصة في الحقيقة تسلية وتذكير بنعمة معافاة العرب من مثل هذا الحال وإنذارلهم سوء المآل مع ما شاركت فيه اخواتها من الدلالة على سوء جبلة هواء جلبة هؤلاء القوم وشرارة جوهرهم المقتضى لتفردهم عن اهل الأرض بذلك الأمر الفاحش ، والدليل على انه اشنع الشنع بعد الشرك - مع ما جعل الله تعالى في كل طبع سليم من النفرة عنه - اختصاصه بمشاركته للشرك في أنه لم يحل في ملة من الملل في وقت من الوقات ولا مع وصف من الأوصاف ، وبقية المحرمات ليست كذلك ، فأما قتل النفوس فقد حل في القصاص والجهاد وغير ذلك ، والوطء في القبل لم يحرم إلا بقيد كونه بالباطل - وكذا غير ذلك ؛ قال أبو حيان : ولما الأصل فيه الحل ، وما حرم إلا بقيد كونه زنى ، ولولا الوصف الحل ، واكل المال الأصل فيه الحل ، وما حرم إلا بقيد الباطل - وكذا غير ذلك ؛ قال أبو حيان : ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه ، أتى معفاً - أي في قوله بعد إنكاره عليهم وتقريعه وتوبيخهلهم : ( أتأتون الفاحشة ( أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وإن كان بينكم وبينها مسافة بعيدة - أو تكون ( أل ) فيه للجنس على سبيل المبالغة ، كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام ، وذلك بخلاف الزنى فإنه قال فيه
77 ( ) ولا تقربوا الزنى انه كان فاحشة ( ) 7
[ الإسراء : 32 ] ولما كان غير مستبعد على صفاته وجوههم ووقاحتهم ان يقولون : لم تكون فعلتنا(3/62)
صفحة رقم 63
منكراً موبخاً عليها ؟ قال : ( ما سبقكم بها ( وأغرق في النفي بقوله : ( من أحد ( وعظم ذلك بتعميمه في قوله : ( من العالمين ( فقد اختراعهم شيئاً لا يكون مثل فحشه لتذكروا أسوا ذكر ، كما أن ذوي الهمم العوال والفضل والكمال يستنبطون من المحاسن والمنافع ما يبقى لهم ذكره وينفعهم أجره ، وفي ذلك اعظم إشارة إلى تقبيح البدع والتشنيع على فاعليها ، لأن العقول بمعرفة المحاسن ، ولما ابهم الفاحشة ليحصل التشوف إلى معرفتها ، عينها في استفهام آخر كالأول في إنكاره وتوبيخه ليكون أدل على تناهي الزجر عنها فقال : ( أئتكم لتأتون الرجال ) أي تغشونهم غشاء النساء ؛ ولما أبقى للتشوق مجالاً ، عين بقوله : ( شهوة ) أي مشتهين ، أو لأجل الشهوة ، لا حامل لكم على ذلك إلا الشهوة كالبهائم التي لا داعي لها من جهة العقل ، وصرح بقوله : ( من دون النساء ( فلما لم يدع لبساً ، وكان هذا ربما أوهم إقامة عذر لهم وجدان النساء أو عدم كفايتهم لهم ، أضرب عنه بقوله : ( بل أنتم قوم ( ولما كان المقصود هذه السورة الإنذار كان الأليق به افسراف الذي هو غاية الجهل المذكور في سورة النمل فقال ) مسرفون ) أي لم يحملكم على ذلك ضرورة لشهوة تدعونها ، بل اعتياد المجاوز للحدود ، ولم يسم قوم لوط في سورة من السور كما سميت عاد وثمود وغيرهم صوناً للكلام عن تسميتهم ، واما قوم نوح فإنما لم يسموا لعدم تفرق القبائل إذ ذاك ، فكانوا لذلك جميع أهل الأرض ولذا عمهم الغرق - الله اعلم ولما كان كانه قيل : هذا التقريع يوجب غاية الاستحياء ، بل إنه يذهب كل من سمعه منهم إلى كمان لا يعرف فيه ستراً لحاله ، فيما ليت شعري ما كان حالهم عنده فقيل : كان كانهم أجابوه بوقاحة عظيمه وفجور زائد على الحد ، فما كان جوابهم إلا أذى لوط عليه السلام وآله بما استحقوا منهم به الإنذار الذي هو مقصود السورة ، عطف عليه قوله : ( وما كان جواب قومه ) أي الذين هم أخل قوة شديدة وعزم عظيم وقدرة على القيام بما يحاولونه ) إلا أن قالوا ( ولما كان المقصود بيان أنهم اسرعوا إجابته بما ينكيه اضمر ما لا يشكل بالإضمار ، أو أنه لما كان السياق لبيان الخبيث بين أنه لا اخبيث من هؤلاء الذين بلغ من رذالتهم أنهم عدوا الطاهرين المتطهرين مما يصان اللسان عن ذكره فقال تعالى مشيراً ذلك في حكاية قولهم : ( أخرجوهم ( اي المحدث عنهم ، وهم لوط ومن انضم إليه ) من قريتكم ( والمراد ببيان الإسراع في هذا تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من رد قومه لكلامه لئلا(3/63)
صفحة رقم 64
يكون في صدره حرج من إنذارهم ، ثم عللوا إجراجهم بقولهم : ( إنهم أناس ) أي ضعفاء ) يتطرون ( وكأنهم قصدوا بالتفعيل نسبتهم إلى محبة هذا الفعل القبيح ، وأن تركهم له هم تصنع وجهة وإظهار له رياء بما اشار إليه إظهار تاء التفعيل ، وفيه مع ذلك حرف من السخرية ، وحصرجوابهم في هذا المعنى المؤدي بهذا اللفظ لا يتنافى آية العنكبوت القائلة
77 ( ) فما كان جواب قومه إلا قالواائتنا بعذاب الله ( ) 7
، لأن إطلاق الجواب على هذا يجوز ، والمهنى : فما كان قولهم في جوابه إلا إتيانهم بما لا يصلح جواباً ، وذلك مضمون هذا القول وغيره مما لا يتعلق بالجواب ، أو أن هذا الجواب لما كان - لما فيه من التكذيب والإيذان بالإصرار والإغلاظ لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مستلزماً للعذب ، كانوا كانهم نطقوابه فقالوا ) ائتنا بعذاب الله ( ، حعل نطقهم بالسبب نطقاً بالمسبب ، أنهم استعملوا لكل مقام مقالاً ، ويؤيده أن المعنى لما اتحد هنا وفي النمل حصر الجواب في هذا ، اي فما كان جوابهم لهذا القول إلا هذا ؛ ولمازادهم في العنكبوت في التقريع فقال :
77 ( ) ائتكم لتاتون الرجال وتقطعون السبيل وتاتون فيناديكم المنكر ( ) 7
[ العنكبوت : 29 ] أتوه بابلغ من هذا تكذيباً واستهزاء فقالوا ) ائتنا بعذاب الله ( الآية .
ولما تسبب عن عنادهم إهلاكهم وإنجاؤه ، وكان الإعلام بإنجائه - مع كونه يفهم إهلاكهم - أهم قال : ( فأنجيناه وأهله ) أي من اطاعه ) إلا امراته ( ولما كان كانه قيل : ما لها ؟ قال : ( كانت من الغابرين ) أي الباقين الذين لحقهم بالعذاب العبرة والتذكير إشارة إلى انها أصابها مثل عذاب الرجال سواء ، لم تنقص عنهم لأنها كانت كافرة مثلهم .
ولما افهم هذا إهلاكهم ، بينه دالاً على نوعه بقوله : ( وامطرنا ) أي حجارة الكبريت بعد أن قلعت مدائنهم ورفعت وقلبت حتى رجم بها مسافروهم وشذابهم لأنه عذاب الاستئصال عمن لا يعجزه شيء ؛ واوضحه بقصره الفعل وتعديته بحرف الاستعلاء فقال : ( عليهم ( واكد كونه من السماء لا من سطح أو جبل ونحوه بقوله : ( مطراً ( واشار إلى عظمة مزيلاً للبي أصلاً بما سبب عنه من قوله : ( فانظر كيف كان عاقبة ) أي آخر امر ) المجرين - ( واظهر موضع افضمار تعليقاً للحكم بوصف القطع لما حقه الوصل بوصل ما حقه القطع من فاحش المعصية دليلاً على أن الرجم جزاء من فعل هذا الفعل بشرطه ، لأن الحكم يدور مع العلة ، وسياتي في سورة هود عليه السلام سياق قصتهم من التوراة بعد ان مضى في البقرة عند
77 ( ) إذ قال له ربه أسلم ( ) 7(3/64)
صفحة رقم 65
[ البقرة : 131 ] اوائل امرهم ، وهذا كما سومت الحجارة لقريش - لما اجمعوا أن يرجعوا بعد توجههم عمن غزوة أحد من الطريق - ليفرغوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واصحابه على زعمهم ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة ، ولو رجعوا لكانوا كامس الذاهب ) ولكنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان رسول رحمة لم يقض الله برجوعهم فمضوا حتى اسلم بعد ذلك كثير منهم ، وكما أمطر الله الحجارة على أصحاب الفيل سنة مولده ( صلى الله عليه وسلم ) حماية لبلده ببركته .
ولما انقضت هذه القصة العجيبة في القصص ، أعاد النسق الول فقال ) وإلى مدين ) أي ارسلنا وهي بلد ، وقيل فبيلة من اولاد مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام ) أخاهم ) أي من النسب ، وبينه بقوله : ( شعيباً ( وهوموصوف بأنه خطيب الأنبياءعليهم السلام لحسن مراجعة قومه ؛ ثم استأنف قوله على ذلك النسق : ( قال ياقوم ( دالاً على النصيبحة والشفقة بالتذكير بالقرابة ، وبدأ بالصل المعتبر في جميع الشرائع المأثورة عن الأنبياء عليهم السلام فقال : ( اعبدوا الله ) أي الذي يستحق العبادة لذاته بما له من السماء الحسنى والصفات العلى ولما كان المراد إفراد بالعبادة لأنه لا يقبل الشرك لأنهغني ، علل ذلك بقوله : ( ما لكم ( وأغرق في النفي بقوله : ( قد جاءتكم ) أي على يدي صحة دعواه في نفسها وصدقة في دعوى الرسالة بقوله : ( قد جاءتكم ) أي على يدي ) بينه ( ولما كنا عالمين من قوله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضى الله عنهما ( من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ) أن هذه البينة معجزة ، مثلها كاف في صحة الدعوى ولم تدع ضرورة إلى ذكرها لنا ، لو تعن ؛ ثم زادهم ترغيباً بقوله : ( من ربكم ) أي الذي لم تروا إحساناً إلا منه ولما كان إتيانه بالبينات سبباً لوجوب امتثال أمره ، قال مسبباً عنه : ( فأوفوا الكيل ) أي و المكيال والوزن ) والميزان ) أي ابذلوا ما تعطون بهما وافياً فالآية من الاحتباك ، وكان المحكي عنه هنا من اوئل قوله لهم فترك التاكيد الرافع لمجاز المقاربة بذكر القسط ولما كان الأمر بالوفاء يتضمن النهي عن البخس ، صريح به على وجه يعم غيره(3/65)
صفحة رقم 66
فقال : ( ولا تبخسوا ) أي تنقضوا وتفسدوا كما أفسد البخسة ) الناس أشياءهم ) أي شيئاً من البخس في كيل ولا وزن زلا غيرهما ، والناس - قال القاموس - يكون من افنس ومن الجن جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه : أل ( وقال أبو عبد الله القزاز : الماس أصله عند البصريين أناس ، ثم أدخلوا اللف واللام على ذلك وحذفوا الهمزة وبقي الناس ، وكان أصله فعال من : أنست به ، فكانه قيل : أناس - يعني على القلب ، قال : لأنه يؤنس إليهم - انتهى .
إذا علم هذا علم أن نهيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن بخس الجمع الذين فيهم قوة المدافعة نهى عن بخس الواحد من باب الأخرى لأن الشرائع إنما جاءت بتقوية الضعيف على حقه .
ولما نهى عن الفساد بالبخس ، عم كل الفساد فقال : ( ولا تفسدوا ) أي توقعوا الفساد ) في الأرض ( بوضع شيء من حق الحق أو الخلق في غيره موضعه ؛ ولما نهاهم عن هذه الرذائل ، ذكر بنعمة الله تاكيداً للنهي بما في ذلك من التخويف وحثاًُ على التخلق بوصف السيد فقال : ( بعد إصلاحها ) أي إصلاح الله لها بنعمة الإيجاد الول بخلقها وخلق منافعها وما فيها على هذا النظام البديع المحكم ثم بنعمة الإبقاء الول بإنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الشرائع التي بها يحصل النفع وتتم النعمة بإصلاح أمر المعاش والمعاد بتعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله ، ويجمع ذلك كله التنزه عن الإساءة ولما تقدم إليهم بأمر والنهي ، أشار إلى عظمة ما تضمنه ذلك حثاً لهم على امتثاله فقال : ( ذلكم ) أي الأمر العظيم العالي الرتبه مما ذكر في هذه االقصة ) خير لكم ( ولما كان الكافر ناقص المدراك كامل المهالك ، أشارإلى ذلك بقوله : ( إن كنتم مؤمنين ) أي فلا تفسدوا أو فأنتم تعرفون صحة ما قلته ، وإذ عرفتم صحته عملتم به ، وإذا عملتم به أفلحتم كل الفلاح ، ويجوز - وهوأحسن - أن يكون التقدير : فهو خير لكم ، لأن المؤمن يثاب على فعله لبنائه له على أساس الإيمان ، والكافر أعماله فاسده فلا يكون فعله لهذه الأشياء خيراً له من جهة إسعادة في الآخرة لأنه لا ثواب له .
ولما تقدم إليهم بالأمر والنهي ، أشار إلى عظمة ما تضمنه ذلك حثا لهم على امتثاله فقال ) ذلكم ) أي الأمر العظيم العالي الرتبة مما ذكر في هذه القصة ) خير لكم ( ولما كان الكافر ناقص المدارك كام المهالك ، أشار إلى ذلك بقوله ) إن كنتم مؤمنين ) أي فلا تفسدوا أو فأنتم تعرفون صحة ما قلته ، وإذا عرفتم صحته عملتم به ، وإذا علمتم به أفلحتم كل الفلاح ، ويجز - وهو أحسن - أن يكون التقدير : فهو خير لكم / لأن المؤمن يثاب على فعله لبنائه له على أسا الإيمان ، والكافر أعماله فاسدة فلا يكون فعله لهذه الأشياء خيرا له من جهة إسعاده في الآخرة لأنه لا ثواب له .
الأعراف : ( 86 - 87 ) ولا تقعدوا بكل. .. . .
) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( ( )
ولما كان للتعميم بعد التخصيص والتفصيل بعد الإجمال من الموقع في النفوس(3/66)
صفحة رقم 67
ما لا يخفى ، وكان النهي عن الإفساد بالصد عن سبيل الله هو المقصود بالذات لأنه ينهي عن كل فساد ، خصه باذكر إشارة إلى أنه زبدة المراد بعد التعميم فقال : ( ولا تقعدوا ) أي لاتفعلوا فعل المترصد المقبل بكليته ) بكل صراط ) أي طريق من طرق الدنيا والدين من الحلال والحرام والوامر والنواهي والمحكم والمتشاد والأمثال ) توعدون ) أي تتهددون من يسلكه بكل شريوافقهم على ما تريدون .
ولما كان طريق الدين أهم ، خصة بالذكر فقال : ( وتصدون ) أي توقعون الصد على سبيل الاستمرار ) عن سبيل الله ) أي طريق من له الأمر كله ؛ ولما ذكر الصدود عنه ، ذكر المصدر فقال : ( من آمن به ( آي بالله فسلك سبيله التي لا اقوم منها ؛ ولما كانوا لا يقنعون بمطلق الصد بالتهديد ونخوه ، بل يبدون للمصدر شبهاً توهمه أنه على ضلال ، قال عاطفاً : ( وتبغونها عوجاً ) أي وتطلبون السبيل حال كونها ذات عوج ، أي تطلبون اع وجاجها بإلقاء الشبهات والشكوك كما تقول : أريد فلاناً ملكاً ، أي أريد ملكه ، وقد تقدم في آل عمران أن نصبه على الحال أرجح ، وان قال قوله صلى الله عليع وسلم في الصحيح ( ابغني أحجاراً أستنقض بها ) يرجح نصبه على المفعولية - والله اعلم .
ولما كانت أفعالهم نقص الناس إما في الأموال بالبخس وإما في الإيمان والنصرة بالصد ، ذكرهم أن الله تعالى فعل معهم ضذ ذلك من التكثير بعد القلة في سياق منذر باجتثاثهم عن وجه الرضى وخصهم فضلاً عن تقليلهم ونقصهم ، فقال عطفاً على قوله ) اعبدوا الله ( وما بعده من الأوامر والنواهي : ( واذكروا ) أي حين ) كنتم قليلاً ) أي في العدد والمدد ) فكثركم ) أي كثر عددكم واموالكم وكل شيءء ينسب إليكم ، فلا تقابلوا النعمة بضدها ، فإن ذكر النعمة مرغب في الشكر ولما رغبهم بالتذكير بالنعمة ، حذرهم بالتذكير بأإهل النقمة فقال : ( وانظروا كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) المفسدين ) أي في عموم الإهلاك بأنواع العذاب لتحذروا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم كما صرح به في سورة هود لكون الحال هناك مقتضياً للبسط كما سياتي إن شاء الله تعالى ولما حذرهم وخامه الفساد الذي نهاهم عنه ، وعلق انتهاءهم عنه بوصف الأيمان ، (3/67)
صفحة رقم 68
رجع إلى قسم ما شرط به الانتهاء عن الإفساد فقال : ( وإن كان طائفة منكم ( إي جماعة فيهم كثرة بحيث يتحلقون بمن يريدون ) آمنوا بالذي أرسلات به ( وبناه للمفعولإشارة إلى ان الفاعل معروف بما تقدم من السياق ، وأنه صار بحيث لا يتطرق إليه شك لما نصب من الدلالات ) وطائفة ) أي منكم ) لم يؤمنوا ) أي بالذي ارسلني به من أيدني بما عملتم من البينات ، وحذرهم سطوته بقوله : ( فاصبروا ( اي أيها الفريقان ) حتى يحكم الله ) أي الذي له جميع العظمة ) بيننا ) أي بين فريقنا بإعزاز المصلح وإهلاك المفسد كما أجرى بذلك عادته ) وهو ( اي الحال انه ) خير الحاكمين ( لأنه يفصل النزاع على أتم وجه وأحكمه .
الأعراف : ( 88 - 89 ) قال الملأ الذين. .. . .
) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( ( )
ولما انتهى كلامه عليه السلام على هذا الوجه البديع ، أخبر سبحانه بما افهم أن قومه لم يجدوا جواباً عنه اصلاً لأنهم انتقلوا إلى الدفاع بالفعل ، وهو أمارة الانقطاع ، فقال مستانفاً : ( قال الملأ ) أي الأشراف ) الذين استكبروا ( اي اوجدوا الكبرإيجاد من هو طالب له بغاية الرغبة ، وخصهم ليحصل تمام التسلية بقوله : ( من قومه لنخرجنك ( وبين غلظهم وحفاءهم بقولهم : ( ياشعيب ( من غير استعطاف ولا إجلال ) والذين آمنوا ( وبجوز أن يتعلق قوله : ( معك ( ب ( آمنوا ) مب ( نخرج ) ) من قريتنا ( اي من المكان الجامع لنا لمفارقتكم إيانا ) أو لتعودن ( اي إلا أن تعودوا ، أي ليكونن آخر المرين : إما الإخراج وإما العود ) في ملتنا ) أي بالسكوت عنا كما كنتم ، ولم يريدوا منه العود إلى الكفر لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان محفوظاً قبل النبوة كغخوانه من الأنبياء عليهم السلام ، بل كانوا يعدون سكوته عليه السلام - قبل إرساله إليهم من دعائهنم وسب آلهتهم وعيب دينهم - كوناً في ملتهم ، ومرادهم الآن رجوعه عليه السلام إلى تلك الحالة والقناعة ممن اتبعه بذلك ، فيكون مرادهم بالعود حقيقة في الجميع ولما كان من افخراج والرد مستعظماً ، أخبر تعالى انه انكره بقوله : ( قال اولو ) أي اتخرجوننا أو تعيدوننا لو كنا راضين للإخراج والعود ولو ) كنا كارهين ( ولما كان العرب ابعد الناس من مطلق الكذب واشدهم له تحامياً ومنه نفرة فكيف بالكذب على الأكابر فكيف به على المكلوك فيكف به على ملك الملوك علق الكذب(3/68)
صفحة رقم 69
على الله تعالى بالعود إلى ملتهم بقوله مستأنفاً افخبار لمن تشوف إلى علم ما كان منه بعد هذا الكلام اللين وتوقع غيره : ( قد افترينا ) أي تعمدنا الآن بما نقوله لكم ، أي من أن الله حرم الكفر والإقرار عليه ) على الله ) أي الذي له جميع العظمة ) كذباً ويجوز أن يكون تنويه للتعظيم ، ويجوز أن يكون للتحقير ، ولكل وجه يدعو إليه المقام لا يخفى ) إن عدنا ) أي ساعة من الدهر ) في ملتكم ) أي بسكوتنا أو بسكوتي وكفر من كان ممن تبعني كافراًُ ) بعد إذ نجانا الله ( اي الملك العلى خارقاً للعادة بما كنا جديرين بالانغماسفيه متابعة للآباء والأجداد والعشيرة بما له من القدرة والعظمة ) منها ( اي إن فعلنا ذلك فقد ارتكبنا أقبح القبائح على بصيرة منا بذلك ، فهوتعليق على محال عادة وهو من وادي قول الأشتر النخعي .
بقّيت وفري وانحرفت عن العلى ولقيت أضيافي بوجه عبوس إن لم أشنَّ على ابن هند غارة لم تخل يوماًمن نهاب نفوس
غير ان المعلق في البيت تقديري ، وفي الآية تحقيقي ، لأنهم أخبروهم أن الله تعالى نهى عن الكفر وامرهم بإنذار كل كافر ، فمتى تركوا ذلك لزمهم الكذب حتماً ) وما يكون لنا ) أي يصح وما يتفق ) أن نعود فيها ( اي ملكتم. ولما كان الله سبحانه ان يفعل ما يشاء لا واجب عليه ولا قبيح منه ، أشار إلى ذلك بقوله : ( إلا يشاء الله ( فذكر اسم الذات إشارة إلى أن له جميع الحمد لذاته ؛ ثم ذكر صفه الإحسان عياذاً من أن يراد بهم الهوان فقال : ( ربنا ) أي خرق العادة فله ذلك ، فهو من باب التذكر للمخاوف والإشراف على إمكان سوء العواقب للصدق في التضرع إلى الله تعالى والالتجاء إليه والاستعاذه من مكره ، ولذلك اتى باسم الجلالة الجامع لجميع معاني السماء الحسنى وصفة الربوبية الملتمس بذكرها فعل ما يفعل لمربي الشفيق ، فكأنه قال : إن عودنا في ملتكم غير ممكن عادة ، والمحال عادة لا يقدر عليه إلا بقدر من الله ، بل ولا توجه الهمم إليه ، والله تعالى أكرام من ان يعود فيما وهبة لنا من هذا الأمر الجليل ، وينزع عنا هذا اللباس الجميل ، وهو صريح في ان الكفر يكون بمشيئة الله ، بل ولا يكون إلا بمشيئة ، وقوله : ( وسع ربنا ) أي المحسن إلينا ) كل شيء علماً ( زيادة في حث أمته على الالتجاء والتبري من الحول والقوة ، أي لا علم لنا بخواتم العمال والعلم لله فهو التام العلم الكامل القدرة ، فهذه الجملة كالتعليل للتعليق بالمشيئة قطعاً - لما عساه أن يحدث من طمع المخاطبين في عودخم ، كانه قيل : وإنما علقنا العود بالمشيئة لنقص علومنا ، فربما كان في سعة علمه قسم ثالث ، وهو أن نكون في القرية على ديننا وتكونون أنتم أو لا ، أو توافقوننا على ما نحن عليه ، وهكذا(3/69)
صفحة رقم 70
ينبغي للمربوب ، ولا ينبغي الجزم بأمر يستقبل إلا الله ربنا لإحاطة علمه ، والآية تدل على انه كان في الأزل عالماً بكل شيء من الكليات والجزئيات لأن ( وسع ) ماض ، وقد تقدم في الأنعام أن قول الخليل عليه السلام وهذا وآية الكهف من مخبر واحد - والله أعلم ولما كان المراد من هذا ما ذكر ، كان مزعجاً للقلوب مقلقاً للنفوس مزعزعاً للخواطر مزلزلاً للأفكار بتامل هذه الخطار المشفية على غالية الخسار ، فكأن المؤمنين قالوا : ما العمل وأين المفر ؟ فقال : ( على الله ( اي الذي له الأمر كلهولا أمر لأحد معه ، وحده لا على غيره ) توكلنا ( اي فوضنا جميع امورنا إليه ، وهو أكرم من ان يختار لنا غير الأرشد وقد تبرأنا من حولنا وقوتنا واعتصمنا بحوله وقوته ، وجعلنا جميع امورنا كلها محمولة على قدرته كما يحمل الوكيل امر موكله عنه ويريحه من همه وقلقله منه .
ولما جرت العادة بان الموكل يخبر الوكيل بما يريد ليفعله ، أتبع ذلك الدعاء بالحكم بما يقضيه ظاهر الحال من نصر المحقّ وخذل امبطل فقال : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) افتح ) أي احكم ) بيننا ( ولما كان يريد استعطافهم لإسعادهم قال : ( وبين قومنا ( وفيه إشارة إلى ميله إلى الدعاء بهدايتهم ، وأدب بعدم التصريح بما لم يؤذن له فيه ) بالحق ) أي بالأمر الفيصل من معاملة كل من المحقّ والمبطل بما يستحقه شرعاً وعرفاً بحيث يكون الكل فريق باب يصل به إلى غاية أمره وهذا مقامم الإنصاف ، فقد علم من إشارة قوله العناية بقومه ، ومن عبارته الإنصاف من نفسه ، ولو أراد ترجيح نفسه ومتبعيه لدعا لهم أن يعاملوا بالفضل وأن يعامل ضدهم بالعدل ، وىلآية معلمه بأن له تعالى أن يفعل ما يريد من خذلان الظالم ونصر المظلوم وتعذيب العاصي وإثابة الطائع وعكس ذلك ،
77 ( ) لا يسئل عما يفغل ( ) 7
[ الأنبياء : 23 ] لأنه التام الملك العظيم المُلك الشامل القدرة الحكيم الخبير ، ويجوز أن يكون المراد : لا نعود إلى ما كنا عليه من السكوت عن دعائكم إلى الله ونهيكم عن أفعال الضلال لأنا أمرنا بإنذاركم إلا أن يشاء الله سكوتنا بأمر يحدثه إلينا في ذلك لمصلحة اقتضاها علمه وقصرت عنها علومنا ، فإذا أراد ذلك وأمرنا به فعلنا ، / فله الخلق والأمر ولما اشار لالدعاء لقومه ، أشار - بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر - إلى أن التقدير : فأنت خير الراحمين : ( وانت خير الفاتحين ) أي على من سدت عليه الأبواب ولم يجد مخلصاً(3/70)
صفحة رقم 71
الأعراف : ( 90 - 96 ) وقال الملأ الذين. .. . .
) وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرِّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ( )
ولما انقضى جواب الفصل المبني على إبطال الفضل وإظهار العدل ، ذكر سبحانه قولهم بعده عاطفاً له على ما مضى من قولهم أو قوله ، كان الأصل ان يقال : وقالوا ، ولكنه أظهر الوصف بالشرف إشارة إلى أنه الذي حملهم على نتيجة الاستكبار وهي الكفر ، ثم لم يرضوا به حتى أضافوا إليه تكفير غيرهم فقال : ( وقال الملأ ) أي الأكابر ) الذين ( يملؤون العيون مراى والقلوب مهابة ، فحلمهم التكبر على أنهم ) كفروا ( ولما كان من المستبعد ان يكون أقاربه يتنكبون عما أتاهم به من الخير لحسد أو اتهام أو غيرها ، فكان ربما ظن أن هؤلاء الذين يعاملونه بهذه الغلطة أجانب عنه ، قال : ( من قومه ( بياناً لأن الفضل بيد الله فقد يؤتيه البغيض البعيد ويمنعه البيب القريب ) ) إنك لا تهدي من احببت ( ) [ القصص : 56 ] ووطؤوا للقسم بقولهم : ( لئن اتبعتم ) أي أيها الأتباع ممن لم يؤمن بعد ) شعيباً ( أو تركتم ما أنتم عليه مما أوثه لكم آباؤكم ؛ واجاب القسم بما سد عن جواب الشرط بقوله : ( إنكم إذاً ) أي وقت اتباعه ) لخاسرون ) أي لأنكم استبدلتم بدين الآباء غيره وحرمتم فوائد البخس والتطفيف وقط السبل ولما كمل إثمهم بالضلال والإضلال ، استحقوا الألخذ فقال : ( فأخذتهم ) أي فتسبب عن أقوالهم هذه وأفعالهم أنه أخذتهم ) الرجفة ) أي الزلزلة العظيمة في القلوب أو الديار التي كانت سبباً للصيحة أو مسببة عنها ) فأصبحوا في دارهم ) أي مساكنهم ، وتقدم سر توحيدها ) جاثمين ) أي باركين على الركب أو لازمين أمكنتهم لا حراك بهم ، وهذا دون ما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزلت الملائكة بجنين ، فكان الكفار يسمعون غي أجوافهم مثل وقع الحصاة في الطست ، ودون ما كان يجد مخالفة من الرعب من مسيرة(3/71)
صفحة رقم 72
شهر من ورائه وشهر من أمامه ، ولكونه كان نبي الرحمة ما اقتضى ذلك الهلاك بل النجاة ولما أخبر سبحانه بهلاكهم وما سببه من أقوالهم وافعالهم ، وكان للتخليص من العظمة في القلوب بتصوير المخلص للاذهان ما لا يخفى ، لخص ذلك ذاكراً لأنه حل بهم بالخصوص - ما نسبةوا إلى المؤمنين من الخسارة فقال : ( الذين كذبوا شعيباً ) أي نسبوه إلى الكذب فيما قاله عنا وايدنا فيه بالبينات ) وكان ) أي هم المخصصون بالهلاك حتى كأنهم ) لم يغنوا ) أي ينزلوا ويقيموا ، وبطل مقامهم لاهين بالأفراح والغناء والاستغناء من المغاني وهي المنازل والاستغناء ) فيها ) أي الدار بسبب تكذيبهم ولما كان تكذيب الصادقين لا سيما الرسل في غاية الشناعة ، كرره إشارة إلى ذلك وإعلاماً بأنه سبب لهم أعظم من هلاك الشباح ضد ما سبب التصديق للمؤمنين فقال : ( الذين كذبوا شعيباً ) أي تكذيبه سبباً لهلاكهم ) كانوا ) أي بسبب التكذيب أيضاً ) هم ) أي خاصة ) الخاسرين ) أي خسروا أرواحهم كما خسروا أشباحهم فهم لما سوى ذلك أخسر ، وأما الذين اتبعوه فما نالهم شيء من الخسار ، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لآرائهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم .
ولما صارت تلك الدار محل الغضب ، سبب ذلك أن هاجر عنها كما كانت عادة من قبله من الأنبياء عليهم السلام ، فقال : ( فتولىعنهم ( بعد نزول العذاب وقبله عند رؤية مخايلةذاهباً إلى مكان غيره ، يعبد ربه فيه ) وقال ( متأسفاً على ما فاته من هدايتهم ) ياقوم ) أي يا عشيرتي وأقرب الناس إلّي ) لقد أبلغتكم ( ولعله جمع لأجل كثرة ما أتهاهم به من المعجزات فقال : ( رسالات ربي ) أي المحسن إلّي بإنجائي ومن تبعني من عذابكم لتوفيقه لنا إلى ما يرضيه ) ونصحت ) أي وأوقعت النصح ) لكم ) أي خاصة ولما كان هذا مفهماً لما طبع البشر من الأسف أهله وعشيرته ، سبب عنه منكراً على نفسه قوله : ( فكيف آسى ) أي أحزان حزناً شديداً ) على قوم كافرين ) أي عريقين في الكفر ، فعرف أنه أسف عليهم من أجل قربهم وفوات الإيمان لهم غير آسف عليهم من أجل كفرهم ، وتخصيص تكرير هذه القصص الخمس على هذا الترتيب في كثير من سور القرىن - دون قصة إبراهيم عليه السلاتم وهوأعظمهم - لانتظامهم في أنهم أقرت أعينهم بأن رأوا مصارع من خالفهم ، وأما إبراهيم عليه السلام فإنه وقع النص في قوله
77 ( ) إني ذاهب إلى ربي سيهدين ( ) 7
[ الصافات : 99 ] بأنه خرج من بين قومه قبل عذابهم ولم يسلك به سبيلهم في إقرار عينه بإهلاك من كذبه بحضرته ، وهو افضلهم لأن(3/72)
صفحة رقم 73
الكائن في قصته أعظم في الأفضلية ، وهو طبق ما اتفق لولده أفضل البشر نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وانظر إلى قوله تعالى
77 ( ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( ) 7
[ الأنفال : 33 ] تعرف ما في هذا المقام من الإكرام ، وأن الأمر كما قيل : لعين تجازي ألف عين وتكرم .
ولما قدم سبحانه إجمال الإنذار بما اشتركت فيه الأمم من الإهلاك بقوله تعالى :
77 ( ) وكم من قرية أهلكناها ( ) 7
[ الأعراف : 4 ] الآية ، ثم أتبعه - بعد تقديم ما يحتاج إليه على النظم الذي سبق التنبيه عليه - تفصيل ما انفردت به كل أمه من العذاب الحاث على سبيل الصواب ، أتبع ذلك إجمالاً آخر أبسط من الأول على نمط غريب دال على عادته المستمرة وسنته المستقرة في شرح حال هؤلاء الأمم الذين ذكرهم وغيرهم ، لئلا يظن أن غيرهم كان حاله غير حالهم ، فبين أن الكل على نهج واحد وأن السبب في استئصالهم واحد ، وهو التكذيب والاستكبار على الحق ، ليكون الإجمال كالضوابط والقواعد الكلية لتنطبق على الجزيئات .
وذلك الاستبصار بما يكون من نافع أو ضار وعدم الاغترار بأحوال المستدرجين الأشرار متكفل بالتسلية لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) والتأسية ، متقدم على قصة موسى وهارون عليهما السلام لطولها وتعجيلاً بما في ذلك من مصارع الإنذار بقوله تعالى : ( وما ) أي أرسلنا فلاناً فكان كذا وفلاناً فكان كذا ، وما ) أرسلنا ) أي بما لنا من العظمة ) في قرية ) أي من قرى أولئك وغيرهم ) من نبيِّ ) أي من الأنبياء الذين تقدموك ) ا ( إلا كان ما نخبر به من ترهيبهم من سطواتنا وهوأنا ) أخذنا ) أي بعظمتنا ) أهلها ) أي أخذ قهر وسطوة ، أي لأجل استكبارهم عن الحق ) بالبأساء ) أي قهر المساءة حال من يرجى تضرعه وتذلله وتخضعه لمن لا يكشف ذلك عنه غيره ولو كان التضرع في أدنى المراتب - على ما أشار إليه الإدغان ، لأن ذلك كاف في الإنقاذ من عذاب الإنذار الذي هذه سورته بخلاف ما مضى في الأنعام ولما لم يتضرعوا صادقين من قلوبهم معترفين بالحق لأهله كما يحق له ، استدراجهم بإدرار النعم ، فقال مشيراً إلى طول مدة الابتلاء واستبعادهم لكشف ذلك البلاء : ( ثم بدلنا ( ومظهر العظمة يؤيد الاحتمال الثاني ) مكان ) أي جعلنا بدل كثروا وكثرت نعمهم فلم يشكروا ) وقالوا ( مسندين الأمر إلى غير أهله ) قد مس آباءنا الضراء ) أي الشدة ) والسراء ) أي الرخاء والنعمة ، معتقدين أن هذه عادة الدهر لا فعل الفاعل المختار .
ولما لم يعتبروا ويعملوا أن ذلك ممن يحب أن لا يعدل عن بابه ولا يغفل عن(3/73)
صفحة رقم 74
جنانه ، وظنوا أن ذلك دأب الدهر وفعل الزمان ، واستمروا على فسادهم في حال الشدة والرخاء ، سبب عنه قوله : ( فأخذتهم ) أي بعظمتنا أشد الأخذ وأفضعه في الظاهر والباطن ) بغته ) أي فجأة حتى لا ينفعهم التوبة ، وأكد معنى البغت تحقيقاً لأمره بقوله : ( وهم لا يشعرون ( فحق من سمع هذا أن يبادر إلى الرجوع عن كل مخالفة فيها خوفاً من الأخذ بغته ، ولما بين تعالى ما كان قولهم مسبباً له من الأخذ بغته ، بين ما كان يكون ضد قولهم مسبباً له من البركات لو وقع بقوله : ( ولو أن أهل القرى ) أي هذه التي قصصنا آخبارها ) آمنوا ) أي بما أتاهم به رسلهم ) لفتحنا عليهم بركات ) أي خيرات ثابته لا يقدر أحد على إزالتها ) من السماء ) أي بالمطر الذي يكون كأفواه القرب وما شبهه ) والأرض ( بالنبت الغليظ وما قاربه ، وقراءة ابن عامر بالتشديد يدل على كثرة تلك البركات وأصل البركة الموظبة على الخير ولما كان الكلام بما أفهمته ) لو ( في قوة أنهم يؤمنوا عبر بقوله : ( ولكن كذبوا ) أي كان التكذيب ديدنهم وشأنهم ، فلذلك لم يصدقوا رسلنا في شيء ، ولما كان التكذيب موضع الجلافة والجمود الذي هو سبب لعدم النظر في الدليل ، ننن سبب عنه العذاب فقال : ( فأخذناهم ) أي بما لنا من العظمة ) بما ) أي بسبب ما ) كانوا يكسبون ( اي بجبلاتهم من الأعمال المناسبة لها .
الأعراف : ( 97 - 100 ) أفأمن أهل القرى. .. . .
) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( ( )
ولما كانوا قد ضلوا ضلالاً بعيداً في غلطهم في جعلهم السراء والضراء سبباً للامن من مكر الله ، قال منكراً عليهم أمنهم عاطفاً له على ) كذبوا ( لأنه سبب الغلط وهو سبب الأمن فقال : ( أفامن أهل القرى ) أي كذبوا ناسين أفعالنا المرهبة بالمضار والمرغبة بالمسارّفأمنوا ) أن ياتيهم بأسنا ) أي الناشىء عما لنا من العظمة التي لا واحداً يغمر الحواس ينساها إلا خاسر ) بياتاً ) أي ليلاً وهم قد أخذوا الراحة في بيوتهم ، ولما كان النوم سيئاً واحداً يغمر الحواس فيقضي الاستقرار ، عبر بالاسم الدالّ على الثبات فقال : ( وهونائمون ) أي على غاية الغفلة عنه .(3/74)
صفحة رقم 75
ولما كان ربما قال جاهل : لو جاءهم وهم إيقاظ لأمكن أن يدافعوا قال : ؛ ) أو أمن أهل القرى ) أي مجتمعين أو منفردين فأنه لا فرق عندنا في ذلك ) أن يأتيهم بأسنا ضحى ) أي وقت راحتهم واجتماع قواهم ونشاطهم ؛ ولما كانت اليقظة موجبة للحركة ، عبر بالمضارع في قوله : ( وهم ياعبون ) أي يتجدد لعبهم شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت ، وفيه تقريع لهم بنسبتهم إلى أنهم صبيان العقول ، لا التفات لهم إلى غير اللعب. ولما كان ضلالهم - الذي نسبوا في المر إلى أهله - اشنع ضلال لتضمنه التعطيل وما يجر إليه من الأباطيل ، كرر الإنكار عليهم على وجه اشد من الأول فقال مسبباً الأنكار عما أثبت هذا الكلام من العظمة التي لا يتمارى فيها ذو لب : ( أفأمنوا مكر الله ) أي فعله الذي يشبه المكر بأخذ الإنسان من حيث لا يشعر بالاستدراج بما يريد من النعم والنقم ؛ وسبب عن ذلك قوله : ( فلا يأمن مكر الله ) أي الذي لا أعظم منه فلا يرد له أمر ) إلا القوم الخاسرون ) أي الذين كانت قواهم سبباً لعراقتهم في الأفعال الضارة والخصال المهلكةولما بان بما مضى حال الكفار مجملاً ومفصلاً ، وكان المقصود من ذلك عبرة السامعين ، وكان أخذهم بالبأساء والضراء مع إبقاء مهجهم وحفظ أرواحهم وافهامهم بعد إهلاك من قبلهم في بعض ما لحقهم من ذلك وإيراثهم الأرض من بعدهم حالاً يكونون بها في حيز من يرجى منه الخوف المقتضى للتضرع والعلم قطعاً بان الفاعل لذلك هوالله ، وأنه لو شاء لأهلكهم بالذنوب أو غطى أفهامهم بحيث يصيرون كالبهائم لا يسمعون إلا دعاء ونداء ، ى فسماعهم حيث لا فهم كلا سماع ، فجعلوا ذلك سبباً للامن ؛ أنكر عليهم ذلك بقوله ) أفامن ( إلى آخره ؛ ثم أنكر عليهم عدم الاستبدال على القدرة فقال عاطفاً علىلأ ) أفامن ( : ( أولم يهد ) أي يبين أخذنا الأمم الما ضية بالبأساء والضراء ثم إهلاكهم إذا لميتعظوا ) للذين يرثون الأرض ( واظهر موضع الإضمار تعميياً وتعليقاً للحكم بالوصف وإشارة إلى بلادتهم لعدم البحث عن الأخبار ليعلموا منها ما يضر وما ينفع فلا يكونوا كالبهائم ، فإنهم لو تأملوا أحوالهم واحوال من ورثوا أرضهم وأحوال الأرض لكفاهم ذلك في الهداية إلى سواء السبيل ولما كان إراثهم غير مستغرق للزمان ، أتى بالجارّ فقال : ( من بعد أهلها ( ثم ذكر نفعول ) يهد بقوله ( بقوله : ( إن ) أي إنا ) لوشاء ) أي في أيّ وقت أردنا ) أصبناهم بذنوبهم ) أي إصابة نمحقهم بها كما فعلنا بمن ورثوا أرضهم ؛ ولما كان هذا تخويفاً للموجودين بعد المهلكين ، ومنهم قريش وسائر العرب الذين يخاطبون بهذا القرآن ، فكأن المخوف به لم يفع بعد ، عطف على أصبنا قوله : ( ونطبع على قلوبهم ) أي بإزالة(3/75)
صفحة رقم 76
عقولهم حتى يكونوا كالبهائم ، ولذلك سبب عنه قوله : ( فهم لا يسمعون ) أي سماع فهم ، وعبر عن الإصابة بالماضي إشارة إلى سرعة الإهلاك مع كونه شيئاً واحداً غير متجزئ ، وعن الطبع بالمضارع إيماء إلى التجدد بحيث لا يمر زمن إلا كانوا فيه في طبع جديد .
الأعراف : ( 101 - 103 ) تلك القرى نقص. .. . .
) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ( )
ولما انقضى ذلك على هذا الوجه العظم والنظم البلغ الأحكم ، وكانت هذه القرى بحيث تعرفها العرب ويرونها ، أشار إليهم حثّاً على الاعتبار بهم ، ولما كان أهلها جديرين بالبعد عنهم والهرب منهم ، عبر عنهم باداة البعد فقال : ( تلك القرى ) أي محالّ القبائل الخمس ، ويجوز ان يكون البعد لعظمة ما حصل لأهلها من العذاب ، ويؤيده قوله مبنياً لحالها : ( نقص عليك ( ولما كان العاقل من يكفيه أدنى شيء هوّل الأمر بأن أخبارها تفوت الحصر ، وأن ما قص منها يمفي المعتبر ، فقال : ( من أنبائها ) أي أخبارها العظيمة الهائلة المطابقة للواقع شيئاً بعد شيء كما يفعل من يتتبع الأثرب ، وأنث الضمير لأن لرؤية القرى أنفسها مدخلاً في معرفة اخبارها أهلها ولما كان المقام العجب من التكذيب بعد ذلك البيان ، كان ربما تخيل متخيل أنهم لم يؤتوا بالبيان الشافي ، فشهد الله تعالى للرسل عليهم السلام تصديقاً لمن قال مهم : ؛ قد جاءتكم بينة ، بقوله : ( ولقد ) أي والحال أنه قد ) جاءتهم ) أي اهل القرى لأنهم المقصودون بالذات ) رسلهم ) أي الذين ارسلنا إليهم ) بالبينات فما ) أي فلم يتسبب عن ذلك بسبب طبعنا على قلوبهم إلا أنهم ما ) كانوا ( موفقين ) بما ) أي بالذي ) كذبوا ) أي به ، وحذفها أدل على الزجر من مطلق التكذيب واوفق لمقصود السورة ولما كان تكذبيهم غير مستغرق للزمان الماضي ، أدخل الجارّ فقال : ( من قبل ) أي قبل مجيء الرسل إليهم أو بتكذيبهم الواقع منهمللرسل فيما أتوا به عن الله من قبل الأخذ بغته ، أو من قبل مجيء الرسل بالايات ، فإنهم أول ما جاؤوهم فاجؤوهم بالتكذيب ، فجوزوا على تكذيب الحق من غير نظر في دليل بالطبع على قلوبهم فاتوهم .(3/76)
صفحة رقم 77
بالمعجزات فاصبروا على ذلك التكذيب ووقفوا لذلك الطبع مع حظوظهم ، ومنعتهم شماختهم وشدة شكائمهم عن الإيمان لئلا يقال : إنهم خافوا أولا فيما وقع منهم من التكذيب فكانوا فيه على غير بصيرة ، أو إنهم خافوا ثانياً ما قرعتهم به الرسل من الوعيد ، فدخلوا جنباً فيما يعملون بطلانه ، فكان تزيين هذا لهم طبعاً على قلوبهم فكأنه قيل : إن هذا العجب هليقع في مثل ذلك أحد ؟ فقيل : نعم مثل ما طبعنا على قلوبهم ، فكانه قيل : إن هذا العجب هل يقع في مثل ذلك أحد ؟ فقيل : نعم مثل ما طبعنا على قلوبهم حتى صارت مع الفهم لا تنتفع ، ن فكأنها لا تفهم فكأنها لا تسمع ) كذلك يطبع الله ) أي الجامع لصفات الكبر ونعوت الجلال بما يجعل من الرين بما له من العظمة ) على قلوب الكافرين ) أي كل من يغطي ما أعطاه الله من نور العقل بما تدعوه إليه نفسه من الهوى عريقاً في الاتصاف بذلك فيترك آيات الله .
ولما كان نقض العهد أفظع سيء ولا سيما عند العرب ، قال عاطفاً على ( فما كانوا ) ) وما وجدنا ) أي في عالم الشهادة ) لأكثرهم ) أي الناس ، أكد الاستغراق فقال : ( من عهد ( طبق ما كان عندنا في عالم الغيب ، وهذا إما إشارة إلى الميثاق يوم ) ألست بربكم ( إن كان ذلك على حقيقة ، أو إلى ما يفعلون حال الشدائد من إلاعلاق عن المعاصي والمعاهدة على الشكر
77 ( ) لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ( ) 7
[ يونس : 22 ] ( أو إلى إقامة الحجج بإضافة العقول ونصب الدلة ، فصار بنصبها وإيضاحها للعقول كأنه أخذ العهد على من عقل أنه يبذل الجهد في التأمل ولا يتجاوز ما أبداه له صحيح النظر ) وإن ) أي وإنا ) وجدنا ) أي خارجين عن دائرة العهد مارقين مما أوقفهم عند الحد عرقين في ذلك طبق ما كنا نعلمه في عالم الغيب ، وما أبرزناه في عالم الشهادة إلا لنقيم عليهم به الحجة على ما يتعارفونه بينهم في مجاري عاداتهم ومدارك عقولهم ولما انقضى بيان هذا الإجمال الخالع لقلوب الرجال ، أتبعه الكشف عما كان بعد قصة شعيب عليه السلام من قصة صهره موسى عليه السلام مع فرعون وقومه ، وهي كالدليل على آيات الإجمال كما كانت القصص الماضية كالدليل على ما في اول السورة من الإجمال ، فإن قصة فرعون مشتملة على الأخذ بالبأساء والضراء ، ثم الإنعام بالرخاء والسراء ، ثم الأخذ بغته بسبب شدة الوقوف مع الضلال بعد الكشف الشافي والبيان لما على قلوبهم من الطبع وما قادت إليه الحظوظ من الفسق ، وكانه فصلها عن القصص الماضية تنويهاً بذكرها وتنبيهاً على عليّ قدرها ، لأن معجزات من كان قبله ، وجهل من عالجهم كان أعظم وأفحش من جهل تلك الأمم ، ولذلك عطفها بأداة البعد مع قرب زمنها من التي قبلها إشارة إلى بعد رتبتها بما فيها من(3/77)
صفحة رقم 78
العجائب وما اشتملت عليه من الرغائب والغرائب ، ولذلك مد لها الميدان واطلق في سياقها للجواد العنان فقال : ( ثم بعثنا ) أي على عظمتنا ) من بعدهم ) أي الرسل المذكورين والأمم المهلكين ) موسى بآيتنا ) أي التي يحق لها العظمة بإضافتها إلينا فثبت بها النبوة ) إلى ق فرعون ( هو علم جنس لملوك مصر ككسرى لملوك فارس وقيصر لملوك الروم ، وكان اسم فرعون عليه السلام قابوس ، وقيل : الوليد بن مصعب ابن الريان ) وملئه ) أي عظماء قومه ، وخصمهم لأنهم إذا أذعنوا أذعن من دونهم ، فكأنهم المقصودين والإرسال إليهم إرسال إلى الكل ولما سببت لهم الظلم الظلم قال : ( فظلموا ) أي وقعوا في مثل الظلام حتى وضعوا الشياء في غير مواضعها فوضعوا الإنكار موضع الإقرار ) بها ) أي بسبب رؤيتها خوفاً على رئاستهم ومملكتهم الفانية أن تخرج من أيديهم ؛ ولما كان ذلك من اعجب العجب ، وهو أن سبب العدل يكون سبب الظلم ، وكان هذا الظلم أعظم الفساد ، سبب عنه قوله معجباً : ( فا نظر ) أي بعين البصيرة ) كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) المفسدين ( فلخص في هذه الآية على وجازتها جميع قصتهم على طولها ، وقدم ذكر الآيات اهتماماًبها ولأنها الدليل على صحة دعوى البعث .
الأعراف : ( 104 - 109 ) وقال موسى يا. .. . .
) وَقَالَ مُوسَى يفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ( )
ولما كانن التقدير عطفاًعلى ) فظلوا بها : ( ووضعها موسى مواضعها ، عبر عنه بقوله : ( وقال موسى يافرعون ( خاطبه بما يعجبه امتثال لمر الله تعالى له أن يلين في خطابه ، وذلك لأن فرعون لقب مدح لمن ملك مصر .
ولما أتاهم عليه السلام وهم وفرعون بأمانته وصدقه وعظم مكانته ومكارم أخلاقه وشريف عنصره وعظيم مخبره ، وفرعون أعظمهم معرفة به لأنه ربي في حجره ، كان هذا حالاً مقتضياً لأن يلقي إليهم الكلام غير مؤكد لكن لما كان الإرسال من الله أمراً عظيماً جداً ، وكان المقصود به تخليه سبيل بني إسرائيل ، وكان فرعون ضنيناً بذلك ، أكده بعض التأكد فقال : ( إني رسول ( ثم بين مرسله بقوله : ( من رب العالمين ) أي المحسن إليهم أجمعين - وأنتم منهم - بإيجادهم وتربيتهم ، فهو تنبيه لمن سمعه على أن فرعون مربوب مقهور .(3/78)
صفحة رقم 79
ولما خلفه مما يدعيه من الربوبية دالاً على تسويته ببقية العالمين : نا طقهم وصامتهم ، وكان لذلك بعيداً من الإذعان لهذا الكلام ، أتبعه قوله على وجه التاكد مستانفاً بيان ما يلزم للرسول : ( حقيق ) أي بالغ في الحقية ، وهي الثبات الذي لا يمكن زواله ) على أن أقوله على الله ) أي له جميع الكمال ، ولا عظمة لسواه ولا جلال ) إلا الحق ) أي الثابت الذي لا تمكن المماراة فيه اصلاًلما يصدقه من المعجزات ، وحاصل العبارة ومآلها : حق على قولي الذي أطلقه لجميع الصفات ، وقراءة نافع بتشديد ياء الإضافة في ) على ( بمعنى هذا سواء ، لأن من حق عليه شيء حق على كلامه ولما كان الحال إذ ذاك يقتضي توقع إقامة موسى عليه السلام البينة على صحة رسالته كان كانه قيل : ما دليل صدقك ؟ فقال مفتتحاً بحرف التوقع والتحقيق : ( قد جئتكم ) أي كلكم ، لا أخص أحداً منكم ) ببينة ( دليلاً على رسالتي وقولي الحق ) من ربكم ) أي المحسن إليكم بكل نعمة ترونها لديكم من خلقكم وزرقكم وكف الأمم عن انتزاع هذا الملك منكم وإهلاككم ، وتلك البينة هي المعجزة ، فكرر البيان في هذا الكلام على أن فرعون ليس كما يدّعي لأنه مربوب ، لا فرق بينة وبين بقية العالمين في ذلك .
ولما كان من المعلوم أن مثله في تمام عقله وشرف خلائقه لا يدّعي في تلك المجامع إلا حقاً مع ما نبه عليه من البيان على تفرد الله بالإلهية كما تفرد بالإحسان ، كان كأنه أظهر البينة التي أقلها كفهم عن إهلاكهم .
فأتبع ذلك طلب النتيجة إعلاماً بغاية ما يريد منهم بقوله مسبباً عن مجرد هذا الإخبار الذي كان قد أوقع مضمونه : ( فأرسل ) أي يا فرعون ) معي بني إسرائيل ) أي فسبب إقامتي الدليل على صحة ما قلته أن أمُر بما جئت له - وهو إرسالهم معي - أمر من صار له سلطان بإقامة البينة لنذهب كلنا إلى بيت المقدس موطن آبائنا التي أقسم الله لهم أن يورثها أبناءهم ، وفي جعل ذلك نتيجة الإرسال إليهتنبيه على أن رسالته مقصورة على قومه ، فكانه قيل : فماذا قال فرعون في جواب هذا الأمر الواضح ؟ فقيل : ( قال ( معرضاً عنه معمياً له خوفاً من غائلته نعد من يعرف موسى عليه السلام حق المعرفة معبراً بإداة الشك إيقافاً لهم : ( إن كنت جئت بآية ) أي علامة على صحة رسالتك ) فأت بها ( فأوهك أنه لم يفهم إلا أن المراد أنه سيقيمها من غير أن يكون في كلامه السابق دلاله على صدقه ، وأكد الإبهام والشك بقوله : ( إن كنت ) أي جبلة وطبعاً ) من الصادقين ) أي في عداد أهل الصد ق العريقين فيه لتصح دعواك عندي وتثبيت .(3/79)
صفحة رقم 80
ولما ساق هذا الطلب مساقاً دالا~ً على أنه شاك في أمره ، أخبر تعالى أنه فاجأه بإظهار الآية دالاً على ذلك بالفاء المسببة المعقبة من غير مهلة فقال عن فعل موسى عليه السلام : ( فألقى عصاه ( وعن فعله هوسبحانه ) فإذا هي ) أي العصا ) ثعبان مبين ) أي ظاهر في كبره وسرعة حركته بحيث إنه لشدة ظهوره كانه ينادي الناس فيظهر لهم أمره ، وهو موضح لصدق من تسبب عن فعله في جميع مقالته ؛ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ثعباناً أشعر فاغراً فاه ، بين لحييه ثمانون ذراعاً ، ا وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فوثب من سريره هارباً وأحدث ، وحمل على الناس فانهزموا وصاحوا فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً ، قتل بعضهم بعضاً ، وصاح فرعون : يا موسى خذه وأنا أومن بك فأخذه فعاد عصاً ثم قال : هل معك آية أخرى ؟ قال : نعم ) ونزع يده ) أي أخرجها من جيبه بعد أن أراه إياها محترقه أدماً كما كانت وهو عنده ) فإذا هي بيضاء ( ونبه على ثبات بيضها وزيادة إعجابه بقوله : ( للناظرين ( قال أبو حيان : أي للنظارة ، وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض العجب لهم إلا إذا كان بياضها خارجاً عن العادة ، وقال ابن عباس : صارت نوراً ساطعاً يضيء ما بين السماء والأرض ، له لمعان مثل لمعان البرق فخروا على وجوههم ، وما أعجب أمر هذين الخارقين العظيمين : أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء ، والآخر في غير نفسه وهى العصا التي يمسكها بيده ، وجمع بذينك تبديل الذوات من الخشبية إلى الحيوانية ، وتبديل الأعراض من السمرة إلى البياض الساطع ، فكانا دالين على جواز المرين - انتهى .
ولما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان ، اقتضى الحال السؤال عما أبرزوه من المقال في جوابه فقال : ( قال الملأ ) أي الأكبار ) من قوم فرعون ( ما تلقفوه من فرعون واحداً بعدج واحد ، يلقيه أكبرهم إلى أصغرهم ) إن هذا لساحر ) أي فهذا الذي رايتموه أيها الناس من تخيله ما لا حقيقة له ، فلا تبادروا إلى متابعته ولما كان ذلك خارجاً عما ألفوه السحرة قالوا : ( عليم ) أي بما هم فيه ، بالغ في علمه إلى حد عظيم ، فذلك جاء ما ريتم منه فوق العادة ، فكأن فرعون قال ذلك أبتداء - كما في سورة الشورى - فتلقفوه منه وبادروا إلى قوله ، يقوله بعضكم لبعض إعلاماً بأنهم على غاية الطواعية له خوفاً على رئاستهم تحقيقاً لقوله ، تعالى
77 ( ) فاستخف قومه فاطاعوه ( ) 7
[ الزخرف : 54 ] واختير هنا إسناده إليهم ، لأن السياق للاستدلال على فسق الكثر ، وأما هناك فالسياق لأنه إن أراد سبحانه انزل آية خضعوا لها كما خضع فرعون عند رؤية ما رأى من موسى عليع السلام حتى رضي لنفسه بأن يخاطب عبيده -(3/80)
صفحة رقم 81
على ما يزعم - بما يقضي أن يكون لهم عليه أمر ، فلذا إسناد القول إليه أحسن ، لأن النصرة في مقارعة الرأس أظهر وخضوع عنقه أضخم واكبر .
الأعراف : ( 110 - 117 ) يريد أن يخرجكم. .. . .
) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( ( )
ولما خيلوهم حتى أوقفوهم عما فهموا عنهم من المبادرة إلى المتابعة بادعاء أنه ساحر ؛ نفروهم من ذلك وخوفوهم بأنه يريد أن يحكم فيهم قومه الذين كانوا عبيداً لهم ويزوحهم من ديارهم التي هي لأشباحهم لأرواحهم بقوله : ( يريد أن يخرجوكم ) أي أيها القبط ) من أرضكم ) أي هذه التي أثلها لكم آباؤكم وبها قوامكم ؛ ولما كان السياق لبيان فسقهم ، أسقط قولهم في الموضع الاخر ) بسحره ( إفهاماً لعجلتهم في إبرام الأمر في ضره إشارة إلى تغاليهم في الفسق بعلمهم أنه محق وليس بساحر ولما كان المقصود بهذا : فعلى أيّ شيء استقر رأيهم ؟ فقيل : على تاخير المر إلى حشر السحرة للمعارضة ، أخبر تعالى ، دلالة على أن أصل قول الملأ منه ، أنهم أقبلوا عليه مخاطبين له مفلتين من أبلغهم عنه تعظيماً له مسندين المر إليه بقوله : ( أرجه ) أي موسى عليه السلام ) وأخاه ) أي أخرهما تنفيساً لنا من هذا الخناق إلى وقت ما حتى ننظر في أمرهما ) وارسل في المدائن ) أي من ملك مصر ) حاشرين ( يحشرون لك السحرة ويجمعونهم من كل فج عميق ، والحشر : الجمع بكره ) يأتوك بكل ( ولما كانت دلالة السياق على رغب فرعون أقل مما في الشعراء لما اقتضاه الحال في كل منهما ، قرأ الجمهور : ( ساحر عليم ) أي بالغ العلم في السحر ، وفي قرلءة حمزه والكسائي ) سحار ( زيادة مبالغة أيضاً لما رأوا من قلق فرعون في الجملة ، وهذا يدل على أن(3/81)
صفحة رقم 82
السحرة كانوا في ذلك الزمان عندهم في غاية الكثرة ، ويدل على أن في طبع الناس المعارضة ، فمهما أمكنت بطلت دعوى النبوة ، وإذا تعذرت صحت الدعوى ولما كان التقدير ، فاخر أمرهما وارسل كما قالوا ، فجمعوا من وجدوه منهم ، عطف عليه قوله : ( وجاء السحرة فرعون ( ولما تشوف السامع إلى خبرهم ، قال مجيباً له استئنافاً : ( قالوا ) أي لفرعون حضروا بين يديه متوثقين لنفع أنفسهم مفهمين له أنهم غالبون ، لا مانع لهم من ذلك إلا عدم إنصافهم ، سائقين للكلام في قراءة الجماعة مساق الاستفهام أدباً معه في طلب الإكرام : ( أئن لنا لأجراً ( وأكدوا طلباً لإخراج الوعد على حال التكذيب ) إن كنا نحن ) أي خاصة ) الغالبين ( ومن أخبر أراد الاستفهام وهم نافع وابن كثير وحفص عن عاصم ) قال ) أي فرعون ) نعم ) أي لكم أجر مؤكد الخبر به ، وزاد بيان التاكيد بما زادهم به رغبة في قوله : ( وإنكم ) أي زيادة على ذلك ) لمن المقربين ) أي عندي في الحضرة .
ولما فرغوا من محاورته ، تشوف السامع إلى قولهم لموسى عليه السلام ، فاستأنف قوله جواباً : ( قالوا ( بادئين باسمه ) ياموسى ( مخبرين له أدباً معه كما هي عادة عقلاء الخصام قبل وقوع الخصام في سياق مفهم أن قصدهم الإلقاء أولاً ، وذلك قولهم : ( وإما أن نكون نحن ) أي خاصة ) الملقين ) أي لما معنا أولاً ولما فهم موسى عليه السلام مرادهم مما عبر هذا النظم عن حقيقة معناه من تاكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل ، وكان واثقاً من الله تعالى بما وعده به جارياً مع مراده ، لا فرق بين أن يتقدم أو يتاخر ؛ أجابهم إلى سؤالهم .
وهو أوقع في ازدراء شأنهم ، فاستانف سبحانه الخبر عنه بقوله : ( قال ألقوا ) أي أنتم أيها السحرة ما تريدون إلقاءه ، وهو أمر تعجيز ولما أذن لهم بادروا إلى ذلك كما أفهمه العطف بالفاء في قوله : ( فلما ألقوا ) أي ماأعدوه للسحر ) سحروا أعين الناس ) أي عن صحة إدراكها حتى خيلوا إليها ما لا على بعض ، وبعثوا جماعة ينادون : أيها الناس احذروا ) واسترهبوهم ) أي وأوجدوا رهبتهم إيجاد راغب فيها طالب لها غاية الطلب ولما قيل ذلك ، كان ربما ظن أنهم خافوا مما لا يخاف من مثله ، فقال تعالى مبيناً أنهم معذورن في خوفهم : ( وجاؤوا بسحر عظيم ( قال صاحب كتاب الزينة :(3/82)
صفحة رقم 83
والسحر على وجوه كثيرة ، منه الأخذ بالعين ، ومنه الأخذ بالعين ، ومنه ما يفرق به بين المرء وزوجه ، ومنه غير ذلك ، وأصله ماخوذ من التعليل بالباطل وقلب المر عن وجهه كما ذكرنا من لغة العرب .
ولما تناهى الأمر واشتد التشوق إلى ما صنغ موسى عليه السلام ، قال معلماً عنه عطفاً على ) وجاءو ( : ( واوحينا ) أي مظهرين لعظمتنا على رؤوس الأشهاد بما لا يقدر أحد أن يضاهيه ) إلى موسى أن ألق عصاك ) أي فالقاها ) فإذا هي ( من حين إلقائه لها ) تلقف ) أي تلتقم التقاماً حقيقياً شديداً سريعاً جداً بما دل عليه حذف التاء ، ودل على كثرة ما صنعوا بقوله : ( ما يأفكون ) أي يجدرون حين إلقائهم في نزويره وقلبه عن وجهه ، فابتلعت ما كان ملء الوادي من الصيّ والحبال ، ثم أخذها موسى عليه السلام فإذا هي كما كانت لم يزيد شيء من مقدارها على ما كانت عليه ، وفي هذا السياق المعلم بتثبت موسى السلام بعد عظيم ما رأى من سحرهم إلى الإيحاء إليه بيان لأدبه عليه السلام في ذلك المقام الضنك وسكونه تحت المقاربة مع مرسله سبحانه إلى بروز أوامره الشريفة .
الأعراف : ( 118 - 124 ) فوقع الحق وبطل. .. . .
) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( ( )
ولما علم ان ما صنعوه إنما هم خيال ، وما صنعه موسى عليه السلام أثبت من الجيال ، سبب معقباً قوله : ( فوقع الحق ) أي الذي لا شيء أثبت منه ، فالواقع يطابقه لأن باطن الأمر مطابق لما ظهر منه من ابتلاعها لأمتعتهم فلإخبار عنه صدق ، وفيه تنبيه على أن فعلهم إنما هو خيال بالنسبة إلى ظاهر الأمر ، وأما في الباطن والواقع فلا حقيقة له ، فالأخبار عن تحريك ما القوه كذب .
ولما أخبر عن ثبات الحق ، أتبعه زوال الباطل فقال : ( وبطل ( بحيث عدم أصلاً ورأساً ) ما كانوا يعملون ( فدل بكان والمضارع على أنهم - مع بطلان ما عملوا - نسوا عملهم بحيث إنه أسند عليهم باب العمل بعد أن كان لهم به ملكة كملكة ما هو كالجبلة - والله أعلم ؛ ثم سبب عن هذا قوله : ( فغلبوا هنالك ) أي عند هذا الأمر العظيم العالي الرتبه ) وانقلبوا ) أي جزاء على قلبهم لتلك الحقائق عن وجوهها حال كونهم ) صاغرين ) أي بعد أن كانوا - عند أنفسهم ومن يقول بقولهم وهوالأغلب -(3/83)
صفحة رقم 84
عالين ، ولا ذل ولا صغار اعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله على وجه لا يكون فيه حيلة ولما كان الأدب وذل النفس لا يأتي إلا بخير ، لأنه اللائق بالعبيد ، قاد كثيراً منهم إلى السعادة الأبدية ، فالذلك قال : ( وألقى السحرة ) أي ألقاهم ملقى الخوف من الله والشوق إلى الخضوع بين يديه والذل لديه حين عرفوا أن ما فعله موسى عليه السلام أمر سماوي ، صدق الله تعالى به موسى عليه السلام في انه رسوله ، ولم يتاخروا بعد ذلك أصلاً حتى كانهم خروا من غير اختيار ) ساجدين ( شكراً لله تعالى وانسلاخاً عن الكفر ودليلاً على أقصى غايات الخضوع ، فعل الله ذلك بهم حتى تبهر به فرعون وملأه وتحير عقولهم ولما كانوا بمعرض التشوق العظيم إلى معرفة قولهم بعد فعلهم ، أخبر عنذلك سبحانه بقوله : ( قالوا ) أي حال إلقائهم للسجود ) آمنّا ) أي كلنا ) برب العالمين ( أ ي الذي خلق فرعون ومن قبله وما يعيشون به ؛ خصوا من هداهم الله على أيديهم تصريحاً بالمراد وتشريفاً لهما فقالوا : ( رب موسى ( ثم أزالو الشبهة بحدذافيرها - لأن فرعون ربما ادعى بتربية موسى عليه السلام أنه المراد - بقولهم : ( وهارون ( وفي الآية دليل على أن ظهور الآية موجب للإيمان عند ظهرت له ، ولو أن الرسول غير مرسل إليه .
ولما صرحوا بالذي آمنوا به تصريحاً منع فرعون أن يدلس معه بما يخيل به على قومه ، شرع في تهديدهم على وجه يمكر فيه بقومه ويلبس عليهم إيقافاً لهم عن المبادرة إلى الإيمان - كما بادر السحرة - إلى وقت ما ، فاستانف الخبر عنه سبحانه بقوله مصرحاً باسمه غير مضمر له كما في في غير هذه السورة لأن مقصود السورة الإتذار ، وهو أحسن الناس بالمناداة عليه في ذلك المقام ، وقصته مسوفة لبيان فسق الأكثر ، وهو أفسق أهل ذلك العصر : ( قال فرعون ( منكراً عليهم موبخاً لهم بقوله : ( آمنتم ) أي صدقتم ) به ) أي موسى تصديقاً آمنه من روجوعكم عنه ، ومن أخبر أراد من دلائل صدق موسى عليه السلام واقتداء بالسحرة بقوله : ( قبل أن آذن لكم ( ليوقفهم من خطر المخالفة له بما رجاهم فيه من إذنه ، فلما ظن أنهم وقفوا خليهم بما يذهب عنهم ذلك الخاطر أصلاً ورأساً بقوله مؤكداً نفياً لما أرادوا وتنسية لخاطر الإيمان فقال : ( مكرتموه في المدينة ) أي على ميعاد بينكم وبين موسى ، وحيلة احتلموها قبل اجتماعكم ، وليس إيمانكم لأن صدقه(3/84)
صفحة رقم 85
ظهر لكم ؛ ثم علل بما يتعلق به فكرهم وتشوش قلوبهم فقال : ( لتخرجوا ) أي أنتم وموسى عليه السلام ) منها أهلها ( وتسكنوها أنتم وبنو إسرائيل ولما استتب له ما من دقيق المكر ، شرع في تهديدهم بما يمنع غيرهم وربما ردهم ، فقال عن ذلك : ( فسوف تعلمون ) أي بوعد لا خلف فيه ما أفعل بكم من عذاب لا يحتمل ، ثم فسر ما أجمل من هذا الوعيد بقوله : ( لأقطعن أيديكم ) أي اليمنى مثلاً ) وارجلكم ) أي اليسرى ، ولذلك فسره بقوله : ( من خلاف ) أي يخلاف الطرف - الذي تقطع منه اليد - الطرف الذي تقطع منه الرجل .
ولما كان مقصود هذه السورة الإنذار ، فذكر فيها ما وقع لموسى عليه السلام والسحرة على وجه يهول ذكر ما كان من أمر فرعون على وجه يقرب من ذلك ، فعبر بحرف التراخي لأن فيه - مع الإطناب الذييكون شاغلاً لأصحابه عما أدهشهم مما رأوه - تعظيماً لأمر الصلب .
فيكون أرهب للسحرة ولمن تزلزل بهم من قومه فقال : ( ثم لأصلبنكم ) أي أعلقنكم ممدوة أيديكم لتصيروا على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم ) أجمعين ) أي لا أترك منكم أحداً لأجعلكم نكالاً لغيركم
الأعراف : ( 125 - 128 ) قالوا إنا إلى. .. . .
) قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( ( )
ولما كان حالاً يشوق النفوس إلى جوابهم ، استأنفه بقوله : ( قالوا ) أي أجمعون ، لم يرتع منهم إنسان ولا تزلزل عما منحه الله به من رتبه الإيمان ) إنا إلى ربنا ) أي الذي ما زال يحسن إلينا بنعمة الظاهرة والباطنة حتى جعل آخر ذلك أعظم النعم ، لا إلى غيره ) منقلبون ) أي بالموت انقلاباً ثابتاً لا انفكاك لنا عنه إن صلبتنا أو تركتنا ، لا طمع لنا في البقاء في الدنيا ، فنحن لا نبالي - بعد علمنا بأنا على حالة السعداء بالموت على أيّ حالة كاتن ، أو المراد أنا ننقلب إذا قتلنا إلى من يحسن إلينا بما منه الانتقام منك ، ولذلك اتبعوه بقولهم : ( وما تنقم ) أي تنكر ) منا ) أي فعلك ذلك بنا وتعيب علينا ) إلا ان آمنا ) أي إلا ما هو أصل المفاخر كلها وهو الإيمان ) بآيات ربنا ) أي التي عظمت بكونها صادرة عنه ولم يزل محسناً إلينا فوجب علينا شكره ) لما ) أي حين(3/85)
صفحة رقم 86
) جاءتنا ( لم نتأخر عن معرفة الصدق المصدَّق ، وهذا يوجب الإكرام لا الانتقام ؛ ثم آذنوه بأنهم مقدمون على كل ما عساه أن يفعل به فقالوا : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا القادر على خلاصنا ) أفرغ ) أي صب غامراً ) علينا ) أي فيما تهددنا به هذا الذي قويته به ) وتوفنا ) أي اقبض أرواحنا وافية حال كوننا ) مسلمين ) أي عريقين في الانقياد بالظاهر والباطن بدلائل الحق ، والظاهر أن الله تعالى اجابهم فيما سألوه تلويحاً بذكر الرب فلم يقدره عليهم لقوله تعالى
77 ( ) أنتما ومن اتبعكما الغالبون ( ) 7
[ القصص : 35 ] ولم يات في خير يعتمد أنه قلتهم ، وسياتي في آخر الحديد ، عن تاريخ ابن عبد الحكم ما هو صريح في خلاصه ولما قنع في ذلك الوقت الذي بهرت قومه تلك المعجزة الظاهرة بالانفصال على هذا الوجه الذي لم يدع فيه حيلة إلا خيل بها ، وخلص موسى عليه السلام بقومه متمكناً منهم بعض المتكن ، وكان السياق لبيان أن أكثر الخلق فاسق ، أخبر تعالى بما قال قوم فرعون بعدما رأوا من المعجز القاهر دليلاً على ذلك فقال عاطفاً على ) وألقي السحرة ساجدين ( وما بعده ، أو على قول فرعون : ( وقال الملأ ) أي الأشراف ) من قوم فرعون ) أي ظالين أن فرعون متمكن مما يريد بموسى عليه السلام من الذى منكرين لما وصل إليه الحال من أمر موسى عليه السلام حين فعل ما فعل وآمن به السحرة ، وما عمل فرعون شيئاً ، لا قتله ولا حبسه ، لأنه كان لا يقدرعلى ذلك ولا يعترف به لقومه ) أتذر موسى وقومه ( ولما كان ما كان في أول مجلس من إيمان السحرة جديراً بأن يجر إليه أمثاله ، سموه فساداً وجعلوه مقصوداً لفرعون إحماء له واستغضاباً فقالوا : ( ليفسدوا ) أي يوقعوا الفساد وهو تغير الدين ) في الأرض ) أي التي هي الأرض كلها ، وهي أرضنا هذه أو الأرض كلها ، لكون مثل هذا الفعل جديراً برد أهل الأرض كلهم عن عقائدهم ) ويذرك وآلهتك ( قيل : كان أمر قومه أن يعبدوا الأصنام تقريباً إليه ، وقال الإمام .
الأقرب أنه كان دهرياً منكراً لوجود الصانع ، وكان يقول : مدبر هذا العالم للخلق السفلي هو الكواكب ، وأنه المخدوم في العالم للخلق أو لتلك الطائفة والمربي لهم ؛ ثم قال : وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال : إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها على ما هو دين عبده الكواكب انتهى .
ولذلك قال :
77 ( ) أنا ربكم الأعلى ( ) 7
[ النازعات : 24 ] - هكذا قيل ، وهوظاهر عبارة التوارة الآتية في آية القمل ، ولكن إرادته غير ملائمة لهذه المعادلة ، بل الظاهر أنه كان سمى أمراءة آلهة ، وسمى لكل أمير قوماً(3/86)
صفحة رقم 87
يتألهونه أي يطيعونه ، فإنه نقل عنهم انهم كانوا يسمون الحاكم بل والكبير إلهاً كما سيأتي عن عبارة التوارة ، فحيث وقعت الموازنة بين موسى عليه السلام وقومه وبين فرعون وقومه ، عبر بالآلهه تعظيما ً لجانبه بالإشارة إلى أنه إله أي حاكم معبوود ، ليس وراءه منتهى وملؤه كلهم آلهة أي حكام دونه ، وموسى عليه السلام ليس بإله ولافي قومه إله بل هم محكوم عليهم فهم ضعفاء فكيف يتركون وحيث نفي افلهية عن غيره فبالنظر إلى خطابه للملا
77 ( ) ما عملت لكم من إله غيري ( ) 7
[ القصص : 38 ] وحيث حشر الرعية ناداهم بقوله
77 ( ) أنا ربكم الأعلى ( ) 7
[ لنازعات : 24 ] وكأن ذلك كان يطلق على الحاكم مجازاً ، فجعلوه حقيقة وصاروا يفعلون ما يختص به الالهة من التحليل والتحريم كما قال تعالى
77 ( ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله ( ) 7
[ التوبة : 31 ] فكفروا بادعاء الربوبية بمعنى العبودية ، ونفي المعبود الحق بدليل آية ) ما عملت ( الحاصل أنهم عيروه بالرضى بان يكون رئيساً على القبط وموسى عليه السلام رئيساً على بني إسرائيل فيكونوا بهذه المتاركة أكفاء للقبط ولما أعجزه الله سبحانه أن يفعل أكثر مما كان يعمل قبل مجيء موسى عليهالسلام لما يراد به من الاستدراج إلى الهلاك ، أخبر عنه سبحانه بما يفهم ذلك فقال مستأنفاً : ( قال ) أي فرعون ) سنقتل ) أي تقتيلاً كثيراً ) أبناءهم ) أي كما كنا نفعل ) وإنا ونستحيي نساءهم ) أي الآن ) قاهرون ( ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظر لءلا تتوهم العامة أنه المولود الذي تحدث المنجون والنكهة بذهاب ملكهم على يده فيثبطهم ذلك عن الطاعة ، موهماً بهذا أن تركه لأذى موسى عليه السلام لعدم التفاهه ؟ إليه ، لايعجزه شيء عنه ، ولما كان هذا أمراً يزيد من قلق بني إسرائيل لما شموامن رائحة الفرج ، استأنف سبحانه الخبر عما ثبتهم به موسى عليه السلام قاائلاً : ( قال موسى لقومه ) أي بني إسرائيل الذين فيهم قوة وقيام فيما يريدون من المور لو اجتمعت قلوبهم ) استعينوا ) أي الصقوا طلب العون ) بالله ( الذي لا أعظم منه بما يرضيه من العبادة ) واصبرو ( ثم علل ذلك بانه فعال لما يريد ، ولا اعتراض عليه ولا مفر من حكمه فقال : ( إن الأرض ) أي كلها مصر وغيرها ) لله ) أي الذيلا أمر لأحد معه ، كرره تذكيراً بالعظمة وتصريحاً وتبركاً ؛ ثم استأنف قوله : ( يورثها من يشاءمن عباده ( ولما أخبر أن نسبة الكل إليه واحدة ، أخبر بما يرفع بعضهم على فقال : ( والعاقبة ) أي والحال أن آخر الأمر وإن حصل بلاء ) للمتقين ) أي الذين يقون(3/87)
صفحة رقم 88
أنفسهم سخط الله بعمل ما يرضيه فلا عبرة بما ترون في العاجل فإنه قد يكون استدراجاً
الأعراف : ( 129 - 132 ) قالوا أوذينا من. .. . .
) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( ( )
ولما تشوف السامع إلى ما كان من جوابهم ، أشار تعالى أن قلقهم كان وصل إلى حد لا صبر معه بقوله مستأنفاً : ( قالوت ( ولما كان الوجع هو الأذى ، لا كونه من معين ، بنوا للمفعول قولهم : ( اوذينا ) أي بالقتل والاستعباد .
ولما كان أذاهم غير مستغرق للزمان ، أثبتوا الجارّ فقالوا : ( من قبل أن تأتينا ) أي كما تعلم ) ومن بعد ما جئتنا ) أي فما الذي إفادنا مجيئك ) قال ( مسلياً لهم وداعياً ومرجياً بما رمز إليه من قبل ) عسى ربكم ( اي الذي احسن إلى آبائكم بما تعرفون وإليكم بإرسالي إليكم ) أن يهلك عدوكم ( فلا يهولنكم ما ترون ) وستخلفكم ) أي ويوجد خلافتكم لهم متمكنين ، لا يحكم عليكم غيركم ) في الأرض ) أي جنسها إن ) فينظر ) أي وأنتم خلفاء متمكنون ) كيف تعملون ) أي يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إيقاعكم للأعمال ، ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداتكم ولما رجاهم موسى عليه السلام بذلك ، أخبر سبحانه أنه فعل ما أخبرهم به ، فذكر مقدماته فقال : ( ولقد ) أي قال لهم ما قال والحال أنا وعزتنا قد ) أخذنا ) أي قهرنا ) آل فرعون ( ولينّا عريكتهم وسهلنا شكيمتكم ) بالسنين ) أي بالقحط والجوع ، فإن السنة يطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام ؛ ولما كانت السنة تطلق على نقص الحبوب ، صرح بالثمار فقال ، ) ونقص من الثمرات ) أي بالعاهات إن كان الماء كثيراً أو السنة للبادية والنقص للحاضرة ) لعلهم يذكرون ( اي ليكون حالهم حال من يرجو الشماخة التي هي مظنة الوقوف مع الخطوظ ويوجب للإنسان الرقة قيقول : هذا إنما حصل لي بسبب تكذيبي لهذا الرسول وعبادتي من لا يكشف السوء عن نفسه ولا غيره(3/88)
صفحة رقم 89
ولما لم يتذكروا ولا لانوا ، سبب عن أخذهم قوله معرفاًُ بغباوتهم معبراً في الخير بأداة التحقيق إشارة إلى أنه اغلب من الشر حثاً على الشكر : ( فإذا ) أي فما تسبب عن ذلك إلا أنهم كانوا إذا ) جاءتهم الحسنة ) أي الحالة الكاملة التي يحبونها من الخصب وغيره ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; ن وعرفها بعد تحقيقها إشارة إلى كمالها ) قالوا لنا هذه ) أي نحن حقيقيون بها ، ودل على أن الخير أكثر من غير بقوله بأداة الشك مع التنكير : ( وإن تصبهم سيئة ) أي حالة يكرهونها ولما كانت افصابة بالسيئات تخصهم ولا يلحق بني إسرائيل منها شيء ، فكان إظهارهم للتطير بهم ظاهراً في ردهم عليهم وتكذيبهم فيه ، أشار سبحانه بإدغام التاء إلى أنهم كانوا يدسونه إلى من يمكنهم اختداعه من الجهلة والأغبياء على وجه الحلية والخفاء ، بخلاف ما في يايس فقال : ( يطيروا ) أي يتشاءموا ) بموسى ومن معه ) أي بان يقولوا : ما حصل لنا هذا السوء إلا بشؤمهم ، وهوتفعل من الطير ، وهو تعتمد قصد الطير لأن يطير للتفاؤل به خير أو شر ، واصله أن العرب كانوا إذا مر الطائر من ميامنهم إلى جهة مياسرهم قالوا : بارح ، أي مشؤوم ، من البرح وهو الشدة ، فإذا طار منو جهة اليسار إاى جهة اليمين عدوه مباركاً ، قالوا ، منلي بالسانح بعد البارح ، أي بالمبارك بعد المشؤوم ، وعرف أن المراد هنا التشاؤم لاقترانه بالسيئة .
ولما كذبوا في الموضعين ، قال مستانفاً على وجه التأكيد : ( ألا إنما طائرهم ) أي قدرهم الذي سبق في الأزل من الخير والشر فلا يزداد ولا ينقص ) عند الله ) أي الملك الذي لا امر لغيره وقد قدر كل سيء ، فلا يقدر على المجيء به غيره أصلاً ) ولكن أكثرهم لا يعملون ) أي لا علم لهم أصلاً فهم لا يهتدون إلى ما ينفعهم ويظنون أن للعباد مدخلاً في ذلك تراهم يضيقون الأشياء إلى أسباب يتوهمونها ولما كان هذا الذي قالوه يدل سوء المزاج وجلافة الطباع بما لا يقبل العلاج ، أتبعه ما هو شر منه ، وهو أنهم جزموا بانه كلما أتاهم شيء في المستقبل قابلوه بالكفرفقال : ( وقالوا مهما ( هي مركبة من ( ما ) مرتين : الأولى الشرطية والثانية تأكيد .
قلبت ألف الأولى هاء استثقالاً ، قيل : مه هي الصوت الذي يكون للكف وما الشرطية ، أي كف عنك ما انت فيه .
ثم استأنفوا ( ما ) ) تأتنا به ) أي في أيّ وقت وعلى أيّ حالة كان ؛ ثم بينوا المأتي به بقولهم : ( من آية ( اي علامة على صدقك ، وهذا على زعمه ، ولذلك عللوه بقولهم : ( لتسحرنا ) أي لتخيل على عقولنا ) بها ( وتلفتنا عما نحن عليه إلى ما تريد فنحن نسميها آية ؛ ثم أجابوا الشرط بقولهم : ( فما نحن ) أي كلنا ) لك ) أي خاصة ) بمؤمنين ) أي من أن نكذبك .(3/89)
صفحة رقم 90
الأعراف : ( 133 - 137 ) فأرسلنا عليهم الطوفان. .. . .
) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ( ( )
زوا بهذه العظمية ، استحقوا النكال فسبب عن ذلك قوله : ( فأرسلنا عليهم ) أي عذاباًلهم - لما يفهمه حرف الاستعلاء ) الطوفان ) أي الرعد والبرق والنار مع المطر والبرد الكُبار الذي يقتل البقر فما دونها ، والظملة والريح الشديدة التي عمت أرضهم وطافت بها ؛ ولما كان ذلك ربما اخصبت به الأرض ، أخبر أنه أرسل ما يفسد ذلك فقال : ( والجراد ( ولما كان الجراد ربما طار وقد أبقى شيئاً ، أخبر بما يستمر لأزقاً في الأرض حتى لا يدع بها شيئاً فقال : ( والقمل ( قال في القاموس : القمل كالسكر : صغار الذر والبى الذي لا أجنحة له - وهوأصغر الجراد أو دواب صغار كالقردان يعني يعني القراد .
وقال البخاري في بني إسرائيل من صحيحه : القمل : الحمنان يشبه صغار الحلم .
ولما ربما كان عندهم شيء مخزوناً لم يصل إ " ليه ذلك ، أخبر بما يسقط نفسه في الأكل فيفسده أو ينقصه فقال : ( والضفادع ( فإنها عمت جميع أماكنهم ، وكانت تتساقط في أطعمتهم ، وربما وثبت إلى أفواهم حين يقتوحنها للأكل ولم تم ما يضر بالماكل ، اتبعه ما أفسد المشرب فقال : ( والدم ( فإن مياهم انقلبت كلها دماًمنتناً ، وعم الدم الشجروالحجارة وجميع الأرض في حق القبط ، وأما بنو إسرائيل فسالمون من جميع ذلك ولما ذكر تعالى هذه الآيات العظيمة ، نبه على عظمتها بذكر جالها فقال : ( آيات ) أي علامات على صدقة عظميات ) مفصلات ) أي يتبع بعضها بعضاًبعضاً ، وبين كل واحدة واختها حين يختبرون فيه مع أن مغايرة كل واحدة لأختها في غاية الظهور ، وكذا العلم بأنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره .(3/90)
صفحة رقم 91
ولما كانت حقيقة بان يتسبب عنها الإيمان عند سلامة القلب ، سبب عنها قوله : ( فاستكبروا ( مبيناً أن الذي منعهم من افيمان مرض القلب بالكبر والطغيان ) وكانوا قوماً مجرمين ) أي في جبلتهم قطع ما ينبغي وصله مع قوتهم على ما يحاولونه ولما كان هذا في الحقيقة نقصاً لما اخذه اللهعلى العبادة بعهد العقل ، أتبعه نقضاً حقيقاً ، فقال مبيناً لحالهم عند كل آية ، ولعله عبر بما يشملها ولم ينص على التكرار لأن ذلك كاف فيما ذكر من النقض والفسق : ( ولما وقع عليهم الرجز ( يعني العذاب المفصل الموجب للاضطراب ) قالوا ياموسى ادع لنا ربك ) أي المحسن إليك ، ولم بسمحوا كبراً وشماخة أن يعرفوا به ليقولوا : ربنا ) بما عهد عندك ) أي من النبوة التي منها هذا البر الذي تراه يصنعه بك ؛ ثم أكدوا العهد بقولهم استئنافاً أو تعليلاً : ( لئن كشفت عنا الرجز ) أي العذاب الذي اضربت قلوبنا وجميع أحولنا له ) لنؤمنن لك ) أي لنجعلنك آمناً من التكذيب بإيقاع التصديق ، ويكون ذلك خالصاً لأجلمكوخاصاً بك ) ولنرسلن معك ( اي في صحبتك ، لا نجس أحداً منكم عن الآخر ) بني إسرائيل ) أي كما سألت ؛ ودل على قرب الإجابة بالفاء في قوله : ( فلما كشفنا ) أي بعظمتنا ) عنهم الرجز ( كرره تصريحاً وتهويلاً ، ومددنا الكشف ) إلى أجل ) أي حد من الزمان ) هم بالغوه ) أي في علمنا ) إذا هم ) أي بضمائرهم التي تجري ظواهرهم على حسبها ) ينكثون ( ولما أخبر أنهم فاجؤوا النكث وكرروه ، سبب عنه قوله : ( فانتقمنا منهم ) أي انتقاماً ليس كذلك الذي كنا نؤذيهم به ، بل انتقام إهلاك عبرة لوصولهم بعد كشف جميع الشبه إلى مخص العناد ؛ ثم فسره بقوله : ( فانتقمنا منهم ) أي انتقما ليس كذلك الذي كنا نؤذيهم به ، بل انتقام إهلاك عبرة لوصولهم بعد كشف جميع الشبه إلى محض العناد ؛ ثم فسره بقوله : ( فاغرقناهم ( بما لنا من العظمة ) في اليم ) أي في البحر الذي يقصد لمنافعة ) بأنهم ) أي بسبب أنهم ) كذبوا بآيتنا ) أي على ما لها من العظمة بما عرف من صحة نسبتها إلينا ، ودل سبحانه على أنهم كذبوا بغير شبهة عرضت لهم بل عناداً بقوله : ( وكانوا ) أي جبلة وطبعاً ) عنها غافلين ) أي يكون حالهم بعدها كحالهم قبلها فكانها لم تاتهم أصلاً فاستحقوا الخذ لوقوع العلم بأن الآيات لا تفيدهم ولما أخبر عن إهلاكهم عطف عليه ما صنع ببني فقال : ( واورثنا ) أي بعد إهلاكهم بما لنا من العظمة ) القوم ( ولما اشار بهذه العبارة - التي معناها أنه كانت فيهم قوة وكثرة وشدة عزم على ما يحاولونه ويقومون به - إلى أنه هو الذي أذلهم لا فرعون أتبعه ما يدل عليه فقال : ( الذين كانوا يستضعفون ) أي يطلب ضعفهم ويوجد بالشوكة واجتماع الكلمة بحاكم قد تمكنت عظمة في القلوب التي الوهم غلب عليها ، (3/91)
صفحة رقم 92
وهم بنو إسرائيل ) مشارق الرض ) أي الكاملة لبركاتها ) وغاربها ) أي أرض الشام من الفرات إلى بحر سوف : الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله - كما كما مضى نقله في المائدة عن التوارة ، يعني حكمنا بإيراثهم ذلك وأنجزناه لأبناء الذين خرجوا من مصر بعد إهلاكهم في التيه ؛ ثم وصفها تغبطاً بها بقوله : ( التي باركنا فيها ) أي في أرضها بالمياه والأشجار والثمار والخصب ، وفي أرزاقها بالكثرة والطيب ، وفي رجالها بالعلم والنبوة وفي طباعهم بالاستقامة ، وفي عزائهم بالنجدة والشجاعة والمكارم ، وفي جميع أحوالهم بأنه لا يبغيهم ظالم إلا عوجل بالنقمة ) وتمت ) أي وجدت صحتها لوجود مضمونها في عالم الشهادة وظهوره من ستور الغيب ) كلمت ربك ) أي المحسن إليك بإنزال هذه الأنباء على هذه الوجوه المفيدة مع إعجازها لغاية العلم والحمكة ) الحسنى ( مستعلية ) على بني إسرائيل ) أي التي هي أحسن الكلام وهي وعده سبحانه لهم بالخلاص من العبودية وإيراثهم مساكن آباثهم مساكن آبائهم كما كانوا يسمعون من أسلافهم ، وإذا عليهم منعت أعداءهم من الوصول إليهم ) بما صبروا ) أي بسبب صبرهم على الاستعباد وذبح الأولاد وما حصل بعد ذلك من طويل الأنكاد ) ودمرنا ) أي أهلكنا إهلاكاً عظمياً جعل يدمره كالرماد ، لا خير فيه أصلاً ) ما كان يصنع ) أي صنعاً بغاية افقبال عليه حتى كانهم خلقوا لهم ) فرعون وقومه ) أي من الصنائع الهائلة المعجبة لكل من يراها أو يسمع بها مع أنهم قد مرنوا عليها فصارت أسهل شيء عندهم ) وما كانوا ) أي بما هو كالجبلة والطبع ) يعرشون ) أي من الجنان والقصور العالية الركان ، وكفى بهذه الآية حاثة على الصبر وضامنة على كل حائز للأجر بالتفريج عن المظلوم ونصره وإهلاك الظلوم وقهره شرح ما يحتاج إلى شرحه هنا من التوراة الموجودة الان بين أظهر اليهود ، قال مترجماً في الصحاح الثالث من السفر الثاني ما نصه : وقال الرب لموسى في مدين : انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً ، فانطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً ، فانطلق موسى بامرأته وبينه وحملهم على حماره واخذ بيده عصا الرب ، وقال الرب الموسى : انظر كل آية أجريتها على يدك فاصنعها أمام فرعون وانا اقسى قلبه فلا يرسل الشعب ترسل ابني فإني اقتل ابنك بكري ، فلما صار موسى في الطريق في المبيت لقيه ملاك الرب فاخذت صفورا حجراً من حجارة المروة فحشت غرلة ابنها واخذت برجليه - وفي نسخة السبعين : ووقعت عند رجليه - وقالت : إن اليوم عرس الدم - تعني الختان ، فقال الرب لهارون : اخرج فتلق اخاك في القفر ، فخرج فلقيه في جبل الله في حوريب فعانقه(3/92)
صفحة رقم 93
وقبله ، فاخبر موسى هارون بجميع قول الرب الذي أرسله فيه وما أمره من الآيات ، وانطلق موسى وهارون ، فجمع أشياخ بني إسرائيل ، فقص عليهم جميع ما قال الرب لموسى ، وحرج جرائح وآيات قدام الشعب - وفي نسخة السبعين : فجمعا مشايخ بني إسرائيل وتكلم هارون بجميع الكلام الذي كلم الله به موسى وعمل الآيات قدام الشعب - فآمن الشعب وسمعوا أن الرب قد ذكر بني إسرائيل وأبصر إلى خضوعهم ، جثاً الشعب وسجدوا للرب ، ومن بعد هذه الآيات والخطوب دخل موسى وهارون وقالا لفرعون : هكذا يقول الله رب إسرائيل : أرسل شعبي يحجون إلى القفر - وفي نسخة السبعين : ليعبدوني في البرية - عوض : يحجون إلى القفر ، فقال فرعون : ومن هو الرب حتى أطيعه ؟ لا أعرف الرب ولا أرسل بني إسرائيل ، وقالا له : الرب إله العبرانيين اعتلن لنا ، فننطلق مسيرة ثلاثة أيام القفر ونذبح الذبائح لله ربنا لكيلا ينزل بنا الحزن والوباء - وفي نسخة السبعين : لئلا يفجئنا موت أو قتل - قال فرعون : ما بالكما تبطلان الشعب من أعمالهم ؟ فأمر فرعون ولاة الشعب وكتبتهم وقال لهم : لا تعودوا أن تعطوا الشعب تبناً لضرب اللبن كما كنتم تعطونهم ، بل هم ينطلقون فيجمعون لأنفسهم التبن ، وخذهم بحساب اللبن على ما كنتم تاخذونهم به امس - ونسخة السبعين : في كل يوم لا تنقصونهم يوماً من عملهم لأنهم بطروا لذلك يصيحون فيقولون : ننطلق فنذبح للرب إلها - فليشد العمل على الرجال - ونسخة السبعين - فليتضاعف عمل هؤلاء القوم - حتى يهتموا به ولا يهتموا بكلام الباطل ، فخرج ولاة الشعب وكتبتهم يما قال فرعون ، فتقرق الشعب في جميع أرض مصر في جميع لالتبن ، وجعل ولاتهم يلحون عليهم ويقولون : ارفعوا إلينا العمل كما كنتم ترفعون من قبل حيث كنتم تعطون التبن ، فزادت كتبة بني إسرائيل وعوقبوا من الذين ولوهم عليهم وقالوا : لم لم ترفعوا إلينا حساب اللبن كما كنتم ترفعون ، فاتى كتبه بني إسرائيل فشكوا إلى فرعون وقالوا : ما بال عبيدك يصنع بهم هذا الصنيع ؟ : فقال فرعون : أنتم قوم بطرون ، تقولون : ننطلق لنذبح لربنا فسار - اي الكتبه - في بني إسرائيل وقالوا لهم : لا تنقصوا من لبنكم شيئاً ، بل ارفعوا ألينا كما كنتم ترفعون كل يوم فلقوا موسى وهارون وهما واقفان أمامهم - وفي نسخة السبعين : وهما يجيئان نحوهم إذخرجوا من بين يدي فرعون - فقالوا لهما : الله يحكم بيننا وبينكما لأنكما حرضتما علينا فرعون وعبيده حتى ضيق علينا بان يضع السلاح فينا فيلقينا ، فرجع موسى إلى الرب وقال : يارب لم أسات بشعبك وأضررت به ؟ لأني ساعة أن أتيت فرعون فذكرت اسمك أساءس بهذا الشعب وشق عليهم وانت تخلص شعبك ، فقال الرب لموسى : الآن ترى ما أصنع(3/93)
صفحة رقم 94
بفرعون لأنه سيرسلهم - وفي نسخة السبعين : وسوف ترى ما أصنع بفرعون وكيف يرسلهم بيد منيعة وبذراع عظيمة بخرجهم من ارض مصر أنا الرب الذي اعتلنت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وسميت بإله المواعيد ولم أعلمهم اسم الرب - وفي نسخة السبعين : واسمي الرب فلم اظهره لهم - واثبت عهدي أيضاً ووعدتهم أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي سكنوها ؛ وقد سمعت ضجيج بني إسرائيل من تعبد أهل مصر ، وانجيكم من اعمالهم واخلصكم بيد منيعة وذراع علية وباحكام عظيمة ، واختصكم لي شعباً واكون لكم إلها ، وتعرفون أني لأعطيهيا آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأجعلها لكم ميرثاً إلى الدهر ، أنا الرب فقال موسى لبنى إسرائيل هذه الأقاويل فلم يسمعوا من موسى وقال له : انطلق إلى فرعون ملك مصر وقل له فيرسل بني إسرائيل - من أرض مصر ، فقال موسى للرب : إن بني إسرائيل لا يسمعوني ولا يطيعوني وأنا أرتّ المنطق ثقيل اللسان فكيف يطيعني فرعون ويسمع مني فقال الرب لموسى : انظر ، إني قد جعلتك إلها لفرعون ، وهارون أخوك يكلم فرعون - ليرسل بني إسرائيل من ارضه وأنا اقسى قلب فرعون فأكثر آياتي وعجائبي بارض مصر ، فلا يطيعكما فرعون ولا يسمع منكما فامد يدي على مصر وأخرج جميع جنودي وشعبي بني إسرائيل من ارض مصر بالأحكام العظام ، فيعرف أهل مصر أني أنا الرب ، فصنع موسى وهارون كما امرهما الرب وانتهيا إلى أمره ، وكان قد أتى على موسى ثمانون سنة ، وكان ابن ثلاث وثمانين سنة إذ كلما فرعون ، فقال الرب لموسى وهارون ، إن قال لكما فرعون : أظهرا ظلألي آية وجريحة ، قل لهارون : خذ عصاك وألقها بين يدي فرعون فتكون تنيناً عظيماً ، فاتى موسى وهارون إلى فرعون فصنعنا كما أمرهما الرب ، فألقى عصاه - وفي نسخة السبعين : فألقى هارون عصاه - بين يدي فرعون وإمام أمرأئه - وفي نسخة السبعين : وعبيده - فصارت تنياً عظيماً ، فدعا فرعون بالحكماء والسحرة ، فصنع سحرة مصر أيضاَ بسحرهم كذلك ، فالقى كل امرئ منهم عصاه فصارت تنياً فصنع عصا هارون عصيهم ، فقساً قلب فرعون وابى أن يرسلهم كما قال الرب ، وقال الرب لموسى : إن قلب فرعون قد قسا وأبى أن يرسل الشعب ، انطلق إلى فرعون بالغداة ، هو ذا يخرج ليغتسل على شاطئ البحر ، وخذ العصا التي تحولت في يدك ثعباناً وقل : وإن(3/94)
صفحة رقم 95
الرب إله العبرانيين أرسلني إليك ، يقول لك : أرسل شعبي حتى يعبدني في البرية لنك حتى الآن لا تسمع ولا تطيع ، هكذا يقول الرب : بهذا تعلم أني أنا الرب ، هاانذا اضرب ماء النهر بعصاي فيصير دماً ، وتموت الحيتان التي في النهر وينتن - ونسخة السبعين : ولا يقدر أهل مصر أن يشربوا الماء من هذا النهر - وقال الرب لموسى : مر هارون أن يأخذ عصاه ، وارفع يدك على ماء المصريين على أنهارهم وعلى غدرانهم وعلى آجامعهم وعلى دواليب مياههم - وفي نسخة السبعين : وقال الرب لموسى : قل لهارون : خذ عصاك ومد يدك على ماء مصر وعلى ماء مصر وعلى أنهارها وىجامها ونقارها وعلى كل مائها المستنقع - فيتحول دماً ، فيصير الدم في جميع أهل مصر في الأرض والخسب والحجارة ، فصنع موسى وهارون كما أمرهما الرب ، فرفع هارون العصا التي في يده فضرب بها ماء النهر وفرعون وعبيده ينظرون ، فتحول ماء النهر فصار دماً ، وماتت الحيتان التي بالنهر ، ففسد ماء النهر وأتنن ، ولم يقدر أهل مصر على شرب الماء من الدم ، فانصرف فرعون فدخل منزله ولم يفكر في شيء من ذلك وتهاون به ، وكملت سبعة أيام من بعد ما ضرب الرب النهر ، وقال الرب لموسى : انطلق إلى فرعون وقل له : هكذا يقول الرب : أرسل شعبي حتى يعبدوني ، فإن أبيت أن ترسله فإني أضرب جميع حدودك بالضفادع فتدب الضفادع فتصعد فتدخل إلى بيتك وقيطونك وفي مبيتك وعلى مضجعك وأسرتك في بيوت عبيدك وشعبك ومخادعك وبيوت طعامك ، وتدب الضفادع عليك وعلى الأنهار وعلى الدواليب وعلى الآجام فأصعد الضفادع فغشيت ارض مصر ، فدعا فرعون موسى وهارون وقال لهما : صليا بين يدي الرب فتنصرف الضفادع عنك وبيتك - وفي نسخة السبعين بيوتك وعن عبيدك وعن شعبك ما خلا الضفادع التي في النهر - فخرج موسى ، فماتت الضفادع في الدور والبيوت والرياض فجمهوها أنابير أنابير فاصلّت الأرض وأجنت وفي نسخةالسبعين : فجمعوهاصيباً فانتنت الأض - فرأى فرعون الفرج والراحة وجفا قلبه فلم يطعمهما كالذي قال الرب ، فقال الرب(3/95)
صفحة رقم 96
لموسى : مر هارون فيرفع عصاه ليضرب ثرى الرض فيكون القمل في جميع أرض مصر ، ففعل ذلك فدب القمل في الناس والبهائم وصار جميع ترى الأرض قملاً في جميع أرض مصر ، فصنع مثل ذلك السحرة بسحرهم لفرعون : إن هذا افعل رب العالمين ، فسقاً قلب فرعون وهو ذا يخرج يغتسل - وفي نسخة السبعين : فإنه يخرج إلى الماء - فقل له : هكذا يقول الرب : أرسل شعبي فيعبدوني ، فإن أنت أبيت فهاأنذا مرسل - وفي نسخة السبعين : فإني مرسل - عليك وعلى شعبك وعلى أهل بيتك هوام وحشرة من كل جنس فتمتلىء - وفي نسخة : ذباب الكلب وانزل الهوام على بيت - وفي نسخة : بيوت : فرعون وعبيده وعلى جميع أرض مصر ، ففسدت الأرض فقال موسى : لا يحسن بنا أن نفعل ذلك لأنا إنما نذبح للرب إلهنا من نجاسة المصريين وبدعهم ، فإن نحن ذبحنا أمام آلهة المصريين رجمونا ، بل ننطلق مسيرة ثلاثة أيام في القفر فنذبح هنالك للرب إلهنا على ما يأمرنا ويقول لنا ، فقال فرعون : أنا أرسلكم فتذبحوا الذبائح للرب إلهكم في البرية ، ولكن لا تنطلقوا فتتوانوا ، بل صلوا عليّ أيضاً - وفي نسخة السبعين - ولكن لاتبعدوا وصلوا أيضاً إلى ربكم - فقال موسى لفرعون : هاأنذا أخرج من بين يديك فاصلي بين يدي فرعون أن يكذب في قوله ويأبى أن يرسل الشعب ليذبحوا الذبائح ، فخرج موسى من بين يدي فرعون وصلى بين يدي الرب ، فقبل الرب صلاة موسى وصرف الهوام فلم يوجد منها ولا واحد ، فقسا قلب فرعون وقل له : هكذا يقول الرب إله العبرانيين : أرسل شعبي حتى يعبدوني ، فإن أبيت أن ترسله - وفي نسخة السبعين : وتمسكت به ، فإن يد الرب تضرب ماشيتك التي في القفر من الخيول والحمير والبقر والغنم ، قيقع فيها الوباء العظيم الصعب الشديد ، ويميز الرببين دواب بني إسرائيل وبين بهائم أهل مصر ، فلا يموت من بهائم آل إسرائيل ولا واحد ، ووقت الرب وقتاً ليكمل فيه هذا القول على الأرض ، فأكمل الرب هذا المر من غد ذلك اليوم ، فماتت(3/96)
صفحة رقم 97
جميع بهائم المصريين ولم يمت من دواب بني إسرائيل ولا أحد ، وارسل فرعون فإذا أنه لم يمت من دواب بني إسرائيل ولا دابة ، فقسا قلب فرعون بعد هذا أيضاً فأبى ان يرسل الشعب ، فقال الرب لموسى وهارون : خذا في حقيبتكما من رماد الأتون فيذره موسى إزاء السماء نحو فرعون ، فيكون العجاج في ارض مصر ، فيضرب الناس والبهائم جميعاً قروح ناتنة رخوة في ارض مصركلها ، فأخذوا رماد الأخدود ووفقا بين يدي فرعون فذره موسى نحو السماء أمام فرعون فذره موسى نحو السماء أمام فرعون فلم يسمع لهما ولم يطعهما كالذي قال الرب لموسى ، فقال الرب لموسى : أدلج باكراً وقف بين يدي فرعون وقل له : هكذا يقول الرب إله العبرانيين : أرسل شعبي فيعبدوني وإلا فأنا مرسل في هذا الوقت ضربتي على قلبك وعلى عبيدك شعبك لتعلم أنه لا إله غيري على الأرض كلها ، وانت حتى الآن تمسك بالشعب وتابى أت ترسله ، وغداً في هذا الوقت أهبط البرد العظيم الشديد ما لم يكن - وفي نسخة السبعين : الذي لم يكن مثله - بمصر منذ اليوم الذي أسست فيه قواعدها إلى يوم الناس هذا ، والان أرسل فادخل جميع دوابك وكل مالك في الحقل لأن كل بهيمة أو إنسان يلقى في الحقل ولا يدخل البيت يهبط عليهم البرد فيموتون ، وكل من خاف كلمة الله من عبيد فرعون نقل عبيده وبهائمه إلى البيوت ، والذي لم يفكر في كلمة الله وتهاون بها دوابه وعبيده في الحقل ، وقال الرب لموسى : ارفع يدك إلى السماء يهبط البرد يهبط والنار تضطرم في البرد ، وكان شديداًعظيماً ، ولم يكن مثله في جميع أشجار الغياض ، فأما أرض جاسان التي كانت آل إسرائيل يسكنونها فلم يهبط عليها البرد ، فارسل فرعون فدعا موسى وهارون فقال لهما : قد خطئت في هذه المرة أيضاً ، والرب بار وانا وشعبي منافقون - وفي نسخة السبعين : إني قد أخطأت والرب بار وأنا وشعبي فجار - فصليا بين يدي الرب فإنه ذو(3/97)
صفحة رقم 98
إمهال وأناة فيصرف عنا الرجفة والرعد والبرد فارسلكم فلا تعودوا أن تتأخروا - وفي نسخة السبعين : وأنا أرسلكم ولا اعود أن أوخركم - فقال موسى لفرعون : إذا ما خرجت من القرية أبسط يدي للرب فيصرف عنكم صوت الرعد والرجفة ، ولا يعود البرد يهبط أيضاً لكي تعلم أن الأرض وما عليها الله .
وانا أعلم أنك وعبيدك إلى الآن لم ترهبوا الله ولم تخافوا عقابه ، وقد هلك الكتان والشعير - وفي نسخة السبعين : ؛ وضرب البرد الشعير والكتان - لأن الشعير كان قد بد أن يسبل ، والكتان قد بدأ أن يبرز ، فأما زرع الحنطة والكثيب فلم يهلك لأنه كان متأخراً ، فلما جاء موسى من القرية من بين يدي فرعون بسط - وفي نسخة السبعين : فاما زرع الحنطة والذرة فإنه لم يضرهما لأنهما كانا القسا ، وخرج موسى من عند فرعون خارج المدينة فبسط - يديه بين يدي الله نحو السماء فصرف عنهم الرعد والبرد ، وانقطع المطر عن الأرض ، فرأى فرعون أن القطر والبرد والرعد قد انقطع وسكن فعاد وخطأ وقسا قلب فرعون وعبيده - وفي نسخة السبعين : على ما تكلم به الرب على يد موسى - فقال الرب لموسى : انطلق إلى فرعون لأني أنا الذي أقسى قلبه وقلوب عبيده ، فأظهر هذه الآيات لتجر بينك وبني بنيك بما صنعت بأهل مصر من الآيات الكثيرة التي أظهرت ، فيعلموا أني أنا الرب ، فأتى موسى وهارون إلى فرعون وقالا له : ؛ هكذا يقول الرب إله العبرانيين : حتى متى تأبى ان تخافني وترهبني أرسل شعبي ليعبدوني ، فإن أبيت أن ترسل شعبي فهاأنذا محدر على جميع تخومك الجراد - وفي نسخة السبعين : فإني أجلب عليك غداً هذا الوقت جراداً عظيماً على جميع حدودك - فيغطي عين الأرض فلا يقدر إنسان على النظر إلى الأرض ، فمهما أبقى لكم البرد اكله ، ويأكل جميع الشجر التي تنبت لكم في الحقل ، ويمتلىء منه بيوتك وبيوت عبيدك وبيوت جميع المصريين مالم ير مثله آباؤك واجدادك من اليوم الذي أسست الأرض إلى يوم الناس هذا ، ورجعا من بين يدي فرعون فقالفرعون لعبيده : حتى متى يكون لنا هذه العثرة يرسل القوم فيعبدون - وفي نسخة السبعين : فقال عبيد فرعون لفرعون : حتى متى يكون لنا هذا البلاء أرسل القوم فيعبدون - الرب إلههم أما تعلم - وفي نسخة السبعين / : أو ما عملت - أن مصر قد خربت ، فردوا موسى وهارون إلى فرعون فقال لهم : انطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب إلهكم ، ولكم من منكم ينطلق ؟ فقال له موسى : إنا ننطلق بشباننا وشيوخنا وبنينا وبناتنا وبغنمنا وبقرنا ، لأته عيد لنا للرب ، فقال لهما : ليكن كما قلتما ، والله يصحبكما إذا ما ارسلتكم وحشمكم ، لعله أن يعرض لكم في الطريق آفة ، ولكن ليس هكذا ، انطلقوا الآن معاشر الرجال اعبدوا بين يدي(3/98)
صفحة رقم 99
الرب لأنكم إنما تطلبون بذلك الراحة ، فاخرجوهما من بين يدي فرعون ، فقال الرب لموسى : ارفع يدك على أرض مصر فيأتي الجراد فيصعد على ارض مصر فيأكل عشب الحقل وجميع ما نجا من البرد ، فرفع موسى عصاه على ارض مصر ، فأذهبَّ الرب على الأرض ريح السموم جميع ذلك اليوم - ونسخة السبعين : والرب جلب ريحاً قبلية على الأرض نهار ذلك اليوم - وتلك الليلة ، فلما كان بالغداة احتملت ريح السموم الجراد ، فصعد الجراد - وفي نسخة السبعين أخذت الريح القبلية الجراد وأصعدته - على جميع أرض مصر ، فسقط على جميع تخوم أرض المصريين ، وكان منبعاً عظيماً جداً ، ولم يكن مثل ذلك الجراد فيما خلا ولا يكون مثله فيما بعده ، فغطى جميع عين الرض فأظلمت الأرض ، وأكل جميع عشب الحقل وجميع الشجر التي نجت من لبرد ، ولم يبق في الشجر غصن ولا ورق ولا في الحقل عشب في جميع ارض مصر فاستعجل فرعون ودعا موسى وهارون وقال لهما : قد خطئت بين يدي الله إلهكما ، والآن اعفوا عن ذنبي وجهلي هذه المرة ، وصليا بين يدي الرب إلهكم فيصرف عني هذه الآفة والموت ، فخرج موسى من بين يدي فرعون وصلى بين يدي الرب ، فعاد الرب بريح السموم عاصفاً فاحتملت الجراد فقذفت به في بحر سوف - ونسخة السبعين : فغير الرب تلك الريح بريح من البحر شديدة فاخذت الجراد وألقته في البحر الأحمر - ولم يبق في جميع تخوم المصريين شيء من الجراد ، فقسى الرب قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل ، فقال الرب لموسى : ارفع يدك إلى السماء فليكن الدجى والحنادس على جميع أرض مصر فتذلهم الظلمة ، فرفع موسى يده إلى السماء فكانت الظلمة والدجى - وفي نسخة السبعين : فصارت ظلمة وزوبعة - على جميع أرض مصر ، ولم يرى المرء منهم صاحبه ثلاثة أيام ، فأما جميع بني إسرائيل فكان لهم الضياء والنور في مساكنهم ، فدعا فرعون موسى فقال له : انطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب إلهكم ، فأما بقربكم وغنمكم فدعوها هاهنا ، وأما حاشيتكم فانطلقوا بها معكم ، فقال موسى لفرعون : وأنت أيضاً تعطينا من الذبائح فنذبح لله ربنا ، وبهائمنا أيضاً تنطلق بها معنا ، ولا يبقى منها هاهنا ظلف على الأرض لأنا إنما نأخذ من مالنا لنذح بين يدي الرب إلهنا ، ولسنا نعلم بماذا نعبد الله إذا بلغنا هناك ، فقسى الرب قلب فرعون وأبى أن يرسلهم ، فقال فرعون لموسى : اخرج من بين يدي واحذر أن تتراءى لي بين يديّ تموت فيه ، قال له موسى : ما أحسن قولك لست بعائد أن أرى وجهك ، قال الرب لموسى : إني اعود أيضاً فانزل بفرعون والمصريبن ضربة واحدة ، وعند ذلك أرسلكم من هاهنا ، فإذا أرسلتكم فاخرجوا كلكم ، وأمر الشعب وقال لهم : ليستعر المرء(3/99)
صفحة رقم 100
منكم من صاحبه والمرأة من دجارتها حلي ذهب وفضة - وفي نسخة السبعين : آنية الفضة وآنية الذهب - والكسوة ، وجعل الرب للشعب في قلوب المصريين محبة ورحمة ، وموسى كانت له هيبة وكرامة عظيمة في جميع أض مصر - وفي السبعين : عند المصريين وعند فرعون وعند جميع عبيده - فقال موسى : هكذا يقول الرب : إني خارج نصف الليل فاجور في أرض مصر فأتوفى جميع أبكار مصر بكر فرعون الجالس على منبره إلى بكر الأمة التي في بيت الرجل ، وتموت جميع أبكار البهائم فتسمع الولولة العظيمة والصراخ والأنين الفظيع ما لم يسمع مثله أيضاً - وفي نسخة السبعين : ولا يعود أيضاً أن يكون مثلها - فاما آل إسرائيل فلا يصاب منهم ولا الناس ولا البهائم ولا الكلب بلسانه - وفي نسخة السبعين : ولا يعوي من جميع بني إسرائيل كلب بلسانه - ليعلموا أن الرب ميز بين المصريين وآلا إسرائيل ، فهبط جميع عبيدك هؤلاء فيسجدون لي ويقولون : اخرج أنت وجميع الشعب معك ، وعند ذلك أخرج ، فخرج موسى من بين يدي فرعون بغضب شديد ، فقال الرب لموسى : إن فرعون لا يطيعكما ، ذلك أني مكثر آياتي وعجائبي بأرض مصر ، وإن موسى وهارون جرحا هذه الجرائح واظهرا هذه الآيات كلها بين يدي فرعون ، فقسى الرب - لموسى وهارون بأرض مصر : هذا الشهر - أي نيسان - يكون لكم راس الشهور ، ويكون هذا أول شهور السنة ، قل لجميع جماعة بين إسرائيل في عشر من هذا الشهر فليأخذ الرجل منهم حملاً - وفي نسخة السبعين : خروفاً - لبيته وحملاً لآل أبيه ، وإن كان آل البيت قليلاً لا يحتاجون إلى حمل فليشرك هو وجارة القريب إلى بيته على عدة الناس ، وعدوا كل امرئ منهم على قدر أكله من الحمل ، حملاً بلا عيب فيه ذكراً بيناً ، يكون الحمل حويلاً من الخراف والجدي وتأخذونه ، ويكون محفوظاً لكم حتى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر ، ويذبحه كل جماعة من كنسة بني إسرائيل أصيلاً ، ويأخذون من دمه ويضعونه على القائمين والعتبة من البيت الذي تأكلون اللحم في هذه الليلة مشوباً بفطير ، ولا تأكلون منه نيئاً ولا مطبوخاً بالماء ، ولاتبقوا منه شيئاً لغد ، ولا تكسروا منه عظماً ، وما فضل منه إلى غد فأحرقوه بالنار ، وكلوه وأنتم قيام وقد شددتم أو ساطكم ونعالكم في أرجلكم وعصيكم في أيدكم وكلوه بعجله ، فإنه فصح للرب ، وأنا فإني أعبر في أرض مصر في هذه الليلة واضرب كل بكر بأرض مصر من الناس والبهائم ، وأعمل نقمة من جميع آلهة المصريين ، أنا الرب ويكون لكم هذا اليوم ذكراً وتعبدونه عيداً للرب لدهوركم إلى البد وتعبدونه(3/100)
صفحة رقم 101
سبعة أيام ، وتأكلون فطيراً وتعزلون الخمير من بيوتكم من أول يوم ، وكل من يأكل خميراً فإن تلك النفس تبيد من إسرائيل من اليوم الأول إلى اليوم السابع ، وكل عمل يعمل فلا تعملوه فيها ، واحفظوا هذه الوصية ، ففي هذا اليوم خرج عسكركم من مصر ، فاجعلوا هذا اليوم لدهوركم سنة ، فإذا بدأ اليوم الرابع عشر من الشهر الأول من العشيّ كلوا فطيراً إلى يوم إحدى وعشرين من الشهر إلى العشاء ، ولا يوجد خمير في بيوتكم سبعة أيام ، وكل من يأكل مخمراً فإن تلك النفس تبيد من جماعة بني إسرائيل من الملة والذمة ومن سكان الأرض ، ما كان خميراً فلا تأكلوه وكلوا فطيراً في جميع مساكنكم ، فدعا موسى جميع أشياخ بني إسرائيل وقال لهم : عجلوا فخذوا غنماًُ لقبائلكم واذبحوا الفصح وخذوا حزمة من ريحان الأدبان واغمسوها بدم الحمل ورشوا على معاقم أبوابكم ومعاضدها - وفي نسخة السبعين : على العتبة وكلا القائمين - من الدم الذي في الإناء ، ولا يخرج أحد منكم من باب بيته إلى غدوة - وفي نسخة السبعين : إلى الصباح - فتحفظون هذه السنة والوصية أنتم وبنوكم إلى الأبد ، وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الرب كما وعدكم فاحفظوا هذا العمل ، وإذا سأل بنوكم فقالوا لكم : ما هذا الفعل ؟ فقولوا لهم : هذه ذبيحة فصح الرب إذ أفصح على بيوت بني إسرائيل فصنعو ا كما أمر الله موسى وهارون ، وفي بيوت بني إسرائيل فلما كان عند نصف الليل قتل الرب أبكار أرض مصر - وفي نسخة السبعين : على كرسيه - وحتى بكر السبي المحبوس في السجن وجميع أبكار البهائم فوثب فرعون في تلك الليلة هو وجميع عبيده وكل أرض مصر لنه لم يوجد بيت لم يكن فيه ميت ، فدعا فرعون بوسى وهارون في تلك الليلة وقال لهما : انهضا فاخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل أيضاً وانطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب كقولكما ، وسوقوا غنمكم وبقركم أيضاً قلتما ، وانطلقوا وصلوا عليّ أيضاً وادعوا ير ، فألح المصريون على الشعب ليخروجهم عن الأرض مسرعين لأنهم قالوا : إنا جميعاً سنموت ، فحمل الشعب عجينهم قبل أن يختمر ، والبارد من فطيرهم مشدوداً في عمائمهم ملقى أعناقهم ، وصنع بنو إسرائيل كما أمرهم موسى ، واستعاروا من المصريين حلي ذهب وفضة وكسوة - وفي نسخة السبعين : آنية الفضة والذهب والكسوة - وجعل الرب للشعب في أعين المصريين محبة ورحمة فاعارهم ، فحروا المصريين ، وظعن بنو إسرائيل من رعمسيس - وعلى حاشية نسخة السبعين أنها عين شمس - يطلبون(3/101)
صفحة رقم 102
ساخوت ستمائة ألف رجل سوى الحشم والعيال ، وصعد معهم من الغرباء أيضاً من كل خلط ومن البقر والغنم والماشية كثيراً جداً ، فاختبروا العجين الذي أخرجوه معهم من مصر رغفاً - وفي نسخة السبعين : فرانيّ - فطيراً لم يختبزوه - وفي نسخة السبعين : لم يختمر - وذلك لأن المصريين أخرجهم فلم يقدروا أن يلبثوا ، ولم يتزودوا زاداً للطريق أيضاً ، وكان مسكن بني إسرائيل فيأرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة ، في هذا اليوم خرج جميع جنود الرب من أرض مصر - وفي نسخة السبعين : ليلاً - كان الرب وقت في سابق علمه حفظ تلك الليلة التي خرجوا فيها من مصر ، وكانت هذه الليلة محفوظة معروفة لدى الرب لهلاك أبكار مصر ولإخراج جميع بني إسرائيل ليكون ذكر ذلك في جميع أحقابهم وخلوفهم ، وقال الرب لموسى وهارون : هذه سنة الفصح ، لا يأكل منه غريب ، وكل عبد لرجل اشتراه إذا خنته عند ذلك فأطعمه الفصح ، والأجيروالساكن فلا يأكل منه ، في بيت واحد فليؤكل - وفي نسخة السبعين : وكل عبد لرجل اشتراه إذا خنته عند ذلك فأطعمه الفصح ، والأجير والساكن فلا يأكل منه ، في بيت واحد فليؤكل - وفي نسخة السبعين : وكل عبد لرجل اشتراه فليختتن ثم يأكل منه ، الملجىء والأخير لا يأكلان منه ، وليؤكل في بيت واحد - ولا تخرجوا من اللحم خارجاً من البيت شيئاً ولا تكسروا فيه عظماً ، وإذا سكن معكم غريب فختن كل ذكر في بيته عند ذلك فليقترب - وفي نسخة السبعين ، وليختن منهم كل ذكر ثم يدنون - من بعد ذلك إلى اكل الفصح ، وليكن عند ذلك بمنزلة اهل الأرض ، ولا يأكل منه أغرل ، ولتكن سنة واحدة لأهل الأرض والغرباء الذين يسكنون معكم ، وصنع جميع بني إسرائي كما أمر موسى وهارون ، وفي هذا اليوم اخرج الرب بني إسرائيل من أرض مصر وجميع جنودهم ، وقال الرب لموسى : طهر لي كل ذكر ذكر ويفتح كل رحم من بني إسرائيل من الناس والبهائم يكونون لي ، فقال موسى للشعب : اذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر من العبودية والرق ، لأن الرب أخرجكم من هاهنا بيد منيعة - إلى آخر ما مضى في سورة البقرة ؛ ثم ذكر في الخامس علة الفصح فقال : احفظوا شهر البهار فاعملوا فصحاً لله ربكم لأنه إنما أخرجكم من أرض مصر في شهر البهار ليلاً ، فاذبحوا فصحاً لله ربكم من البقر والغنم في الموضع الذي يختار الله ربكم ، فلأ تأكلوا فيه خميراً بل كلوا فطيراً سبعة أيام خبراً يدل على التواضع لأنه إنما خرجتم من ارض مصر بعجلة لتذكروا اليوم الذي أخرجتم فيه من مصر كل أيام حياتكم ، ولا يرى الخمير في حدودكم سبعة أيام ، ولا يحل لكم أن تأكلوا الفصح في قرية من القرى التى يعطيكم الله ربكم ، ولكن في الموضع الذي يختار الله ربكم أن يصير فيه اسمه ففيه اذبحوا الفصح ، ويذبح عند غروب الشمس في الوقت الذي خرجتم من أرض مصر ، ثم قال : وأحصوا سبعة سوابيع من بعد عيد الفصح ، ثم اعملوا عيد السووابيع وائتوا بخواص(3/102)
صفحة رقم 103
غلاتكم للرب ، كما بارك لكم الله ربكم في الموضع الذي يختار الرب أن تصيروا اسمه فيه واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر ، فاحفظوا هذه السنن كلها واعملوا بها ، واعملوا عيد المظال سبعة أيام إذا ما دخلتم بيادركم وخزنتم معاصركم ليبارك الله ربكم في جميع غلاتكم وفي كل عمل إيديكم ، وتكونوا فرحين ، ويروى ذكركم أما الله ربكم في الموضع الذي يختار ثلاث مرات في السنة : عيد الفطر وعيد السوابيع وعيد المظال - انتهى .
وفيه لا يجوز إطلاقه في شرعنا إضافة - الابن في قوله : ابني بكري ، وهو مؤوّل بأنه يكرمه إكرام الولد ، وإطلاق الإله على غير الله سبحانه مراد به الحاكم ، ولا يجوز هذا الإطلاق عندنا .
الأعراف : ( 138 - 141 ) وجاوزنا ببني إسرائيل. .. . .
) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ( ( )
ولما انقضى ما أراهم سبحانه من الأفعال الهائلة التي استخلصهم بها من ذلك الجبار ، شرع يذكر ما قابلوه به من الجهل به سبحانه وما قابلهم به من الحلم ، ثم ما أحل بهم بعد طول المهلة من ضرب الذلة والمسخ بصورة القردة ، فقال عاطفاً على قوله ( فاغرقناهم في اليم ) أو قوله ( ثم بعثنا من بعدهم موسى ) : ( وجوزنا ) أي قطنا بما لنا من العظمة - وساقه على طريق المفاعلة تعظيماً له ، روي أن جوازهم كان يوم عاشوراء ، وان موسى عليه السلام صامه شكراً لله تعالى على إنجائهم وإهلاك عدهم ) ببني إسرائيل ( بعد الآيات التي شاهدوها ) البحر ( وإنما جعلته معطوفاً على أول القصة لأن هذه القصص كلها بيان لأن في الناس السيىء الجوهر الذي لايغنيه الآيات كما مضى عند قوله : ( ) والبلد الطيب ( ) [ الأعراف : 58 ] وبيان قوله ) ) أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ( ) [ الأعراف : 94 ] إلى آخرها ، ويدل على ذلك - مع ما ابتدئت به القصص - ختمها بقوله ) ) ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآيتنا ( ) [ الأأعراف : 176 ] وقوله : ( ) ولقد ذرأنا لجهنم ( ) [ الأعراف : 179 ] وحسن موقعها بعد قوله : ( ) وتمت كلمت ربك الحسنى ( ) [ الأعراف : 137 ] لأنه لما قيل ) ) بما صبروا ( ( تشوفت النفس إلى فعلهم حال الرخاء هل شكروا ؟ فبين منهم كفروا تصديقاً لقوله ) ) وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( ) [ الأعراف : 102 ] وما شاكله ، وما أحسن تعقيب ذلك - بقوله : ( فأتوا ) أي مروا - بفاء(3/103)
صفحة رقم 104
التعقيب ) على قوم ) أي ذمي قوة ، قيل : كانوا من لخم ) يعكفون ) أي يدورون ويتحلقون ملازمين مواظبين ) على أصنام لهم ) أي لا قوةفيها ولا نفع ، فهم في عكفوهم عليها مثل في الغباوة ، وقيل : إنها كانت تماثيل بقر ، وكان ذلك اول أمر العجل ولما أخبر سبحانه يذلك ، علم السامع أنهم بين أمرين : إما شكر وإما كفر ، فتشوف إلى ما كان منهم ، فأجاب سبحانه من عظيمة وشكرهم لما أفاض عليهم من نعمته إلا ريثما أمنوا من عدوهم بمجاوزتهم البحر وإغراقهم فيه حتى طلبوا إلهاً غيره بقولهم : ( ياموسى ( سموه كما ترى باسمه جفاء وغلطة اعتماداً على ما عمهم من بره وحلمه غير متأدبين بما بهرهم من جلالة حظه من الله وقسمه ) اجعل لنا إلهاً ) أي شيئاً نراه ونطوف به تقيداً بالوهم ) كما لهم آلهة ( وهذا منهم قول من لا يعد الإله - الذي فعل معهم هذه الأفاعيل شئاً ، ولا يستحضره بوجه ولما كان هذا منهم عظيماً ، استأنف جواب من تشوف إلى قول موسى عليه السلام لهم ما هم بقوله : ( قال إنكم قوم ) أي ذوو قيام في شهوات النفوس ، وقال : ( تجلهون ( مضارعاً إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغزيرة ، لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل ، واعلم أنه لا تكرير في هذه القصص فإن كل سياق منها لأمر لم يسبق مثله فالمقصود من قصة موسى عليه السلام وفرعون - عليه اللعنة والملام - هذا الاستبدال الوجودي على قوله لآ ) وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) [ الأعراف : 102 ] ومن هنا تعلم أن سياق قصة بني إسرائيل بعد الخلاص من عدوهم لبيان إسراعهم في الكفر ونقصهم للعهود ، واستمر سبحانه في هذا الاستبدال إلى آخر السورة ، وامانسب
77 ( ) وإذأخذ ربك من بني آدم ( ) 7
[ الأعراف : 172 ] ىلآية ، لقوله
77 ( ) وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( ) 7
الأعراف : 102 ] وذكر في أول التي تليها تنازعم في الأنفال تحذيراً لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه ، هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسرائيل في البقرة فإنه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم ، لأن ذلك في سياق خطابة سبحانه لجميع الناس بقوله :
77 ( ) اعبدوا ربكم الذي خلقكم ( ) 7
[ البقرة : 21 ]
77 ( ) كيف تكفرون بالله لجميع أمواتاً فأحياكم ( ) 7
[ البقرة : 28 ] وما شاكله من الاستعطاب بتعداد النعم ودفع النقم - والله أعلم .
ولما استفيد من كلامه لهم غاية الإنكار عليهم ، علل هذا افنكار بقوله : ( إن هؤلاء ) أي القوم ) متبر ما هم فيه ) أي مكسر مفتت مهلك على وجه المبالغة ، وإذا(3/104)
صفحة رقم 105
فسد الظرف فسد المظروف ، وإليه الإشارة بجعل ( هؤلاء ) اسماً لإن ، وإيلائه خبر الجمله الواقعه خبراً مقدماً ماى مبتدئه .
ولما كان الشيء قد يهلك في الدنيا أو في الاخرة - وهوحق ، أعملهم بأن هذا الهلاك إنما هو الهلاك عند الله أعلم من كونه في الدنيا أو في الآخرة لبطلان ما هم فيه ، فقال معبراً بالاسمية إشارة إلى أنه الآن كذلك ، وإن رئي بخلافه : ( وباطل ) أي مضمحل زائل ) ما كانوا ) أي جبلة وطبعاً ) يعملون ) أي مواظبين عليه من الأصنام والعكوف وجميع أعمالهم لأجله ، لا وزن لشيء منها أصلاً ولا اعتبار ، و - فيه إشارة إلى أن العبادة لا تنبغي إلا للباقي الذي لا يجوز عليه التغير ، فإذا كان كذلك كان العمل له أيضاً ثابتاً باقياً لا يجوز عليه البطلان ، وفي تعقيبها لتدمير آل فرعون إشارة إلى موجب ذلك ، وأن كل من كان على مثل حالهم من عبادة غير الله كانت عاقبته الدمار ولما كان هذا استدلالاً على ان مثل هذه الأصنام التي مروا عليها لا تلح لأن تعبد ، كان ذلك غير كاف لهم لما - تقرر من جهلهلم ، فربما ظنوا أن غيرها مما سوى الله تجوز عبادته ، فكانه قيل : هذا لايكفي جواباً لمثل هؤلاء فهل قال لهم غير ذلك ؟ فقيل : نعم ) قال ( منكراً معجباً ) أغير الله ) أي الذي له جميع العظمة ، فهو المستحق للعبادة ) ابغيكم ) أي أطلب لكم ) إلهاً ( فأنكر أن يتأله غيره ، وحصر الأمر فيه ثم بينه بقوله : ( وهو ) أي والحال أنه هو وحده ) فضلكم دون غيركم ممن هو في زمانكم أو قبله ) على العالمين ) أي لو لم يكن لوجوب اختصاصهم له بالعبادة سبب سوى اختصاصه لهم بالفصيل على سائر عباده الذين بلغهم علمهم ممن هو أقوى منهم حالاً واكثر عدداً وأمولاً لكان كافياًُ ولما اثبت أن الإلهية لا تصلح لغيره ، وأن غيره لم يكن يقدر على تفضيلهم ، وكان المقام للعظمة ، وكان كأنه قيل إيذاناً بغلط أكبادهم وقله فطنتهم وسوء مقابلتهم للمنعم : اذكروا ذلك ، أي تفصيله لكم باصطفاء آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وما تقدم له عندهم وعند أولادهم من النعم لا سيما يوسف عليه السلام الذي حكمه في جميع الأرض التي استذلكم أهلها ؛ عطف عليه إشارة إليه قوله التفاتاً إلى مظهر العظمة تذكيراً بعظمة مدخوله : ( وإذا ) أي واذكروا إذ ) أنجيناكم ) أي على ما نحن عليه من العظمة التي أنتم لها عارفون ، ولها في - كل وقت في تلك ىلآيات مشاهدون ) من آل فرعون ( وما أفضنا عليكم بعد الإنجاء من النعم الجسام وأريناكم من ىلآيات العظام تعرفوا أنا فضلناكم على جميع الأنام ، ثم استأنف بيان ما أنجاهم منه بقوله : ( يسومونكم ) أي ينزلون بكم دائماً ) سوء العذاب ((3/105)
صفحة رقم 106
ولما كان السياق - كما مضى - لبيان إسراعهم في الكفر وشدة علوتهم في قوتهم وجلافتهم ، وكان مقصود السورة إنذار المعرضين وتحذيرهم من القوارع التي أحلها بالماضين ، بين سوء العذاب عادلاً في بيانه عن التذبيح - لأنه لا يكون عند الانذباح ، وهو في الأصل لمطلق الشق - إلى التعبير بالقتل لأنه أدل على الإماتة وأهز ، لأنه قد يكون على هيئة شديدة بشعة كالتقطيع والنخس والخبط وغير ذلك مع أنه لا بد فيه من تفويت ذلك فقال : ( يقتلون ) أي تقتيلاً كثيراً - ) أيناءكم ( ودل على حقيقة القتل بقوله : ( ويستحيون ( ولما كان المعنى انهم لا يعرضون للإناث صغاراً ولا كباراً ، وكان إنكار ما يكون إبقاء النساء بلا رجال لما يخشى من الضياع والعار ، وكان مظنة العار أكبر - عبر عنهن بقولة : ( نساءكم ( وتنبيهاً على أن قتل الأبناء إنما هو للخوف من صيرورتهم رجالاً لءلا يسلبهم واحد منهم أعلمهم به كهانهم ملكهم ؛ وأشار إلى شدة ذلك بقوله : ( من ربكم ) أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء ، فأنه أخفى عنهم الذي قصدوا القتل لأجله ، وأنقذكم به بعد أن رباه عند الذي هو مجتهد في ذبحه ) عظيم ( .
الأعراف : ( 142 - 144 ) وواعدنا موسى ثلاثين. .. . .
) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يمُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ ( ( )
ولما ذكرهم بنعمة إنحاء الأبدان ، أتبعها التذكير بأكبر منها إذ كانت لحفظ الأديان وصيانة جوهر الإيمان بما نصب لهم من الشرع الهادي في التوارة ، فقال معجباً من حالهم إذ كان في الإنعام عليهم بنصب الشرع الهادي لهم من الضلال واختصاصه نبيهم بمزيد القرب بالمناجاة ، وهم في اتخاذ إله سواه ، لا نفع فيه أصلاً ، ولا يرضى قلب أو عقل أن يعبده ، عاطفاً له على ما يبق تعجيبه به منهم في قوله : ( ) وجاوزنا ببني إسرائيل ( ) [ الأعراف : 138 ] ) ووعدنا ) أي على ما لنا من باهر العظمة ) موسى ثالثين ) أي مناجاة ثلاثين ) ليلة ) أي عقبها ) وأتممناها ) أي المواعدة ) بعشر ) أي ليال ، وذلك لأنه لما مضت ثلاثون ليلة ، وهو شهر ذي العقدة فيما قيل ، وكان موسى عليه السلام قد صامها(3/106)
صفحة رقم 107
ليلها ونهارها ، أدرك من فمه خلوفاً فاستاك ، فأعلمه الله أنه قد افسد ريح فمه ، وأمره بصيام عشرة أيام أخرى و - هي عشرة ذي الحجة ليرجع ماأزاله من ذلك ، وذلك لأن موسى عليه السلام كان وعد بني إسرائيل - وهو بمصر - أنه إذا أهلك الله عدوهم سأل موسى عليه السلام الكتاب ، فامره بصوم ثلاثين يوماً ثم أمره بالعشر .
ولما كان من الممكن أن يكون الثلاثون هي النهاية ، وتكون مفصلة إلى عشرين ثم عشر ، أزال هذا الاحتمال - بقوله : ( فتم ميقات ربه ) أي الذي قدره في الأزل لأن يناجيه بعده - بالفاء ) أربعين ( ولما كانت العشر غير صريحة في الليالي ، قال : ( ليلة ( فانتفى أن تكون ساعات مثلاً ، وعبر بالميقات لأنه ما قدر فيه عمل من الأعمال ، وأما الوقت فزمان الشيء سواء كان مقدراً أم لا ، وعبر بالرب إشارة إلى اللطف به والعطف عليه بالرحمة له ، والميقات هو الأربعون - قاله الفارسي في الحجة ، وقدر انتصاب أربعين ب ( معدوداً هذا العدد ) كما تقول : تم القوم عشرين ، أي معدودين هذا العدد وأجمل سبحانه الأربعين في البقرة لأن المراد بذلك السياق تذكيرهم بالنعم الجسام والمتّ إليهم بالإحسان والإكرام ، ليكون ذلك أدعى إلى رجوعهم إلى الإيمان وامكن في نزوعهم عن الكفران بدليل ما سبق قصتهم من قوله :
77 ( ) يأيها الناس اعبدوا ربكم ( ) 7
[ البقرة : 21 ]
77 ( ) كيف تكفرون بالله ( ) 7
[ البقرة : 28 ] وما اكتنفها أولاً وآخراً من قوله :
77 ( ) يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ( ) 7
[ البقرة : 40 ] الآيتين المبدوءبها والمختوم بها ، وفصل هنا الأربعين إلى ثلاثين وعشر ، لأن المراد بهذا السياق - كما تقدم - بيان كفرهم ومرودهم على خزيهم ومكرهم وأنه لم ينفعهم سؤال المعجزات ، ولا أغنى عنهم شيئاً تواتر النعم والآيات ، كما كان ذلك في قصص المم الخالية والقرون الماضية ممن ذكر في هذه الصورة استدلالاً - كما تقدم - على أن المفسد أكثر من المصلح - إلى غير ذلك مما أجمل في قوله تعالى :
77 ( ) وما أرسلنا في قرية من بني إلا أخذنا أهلها ( ) 7
[ الأعراف : 94 ] إلى آخرة ، وتسلية لهذا النبي الكريم وترهيباً لقومه لما وقع لهم من العقاب الأليم ، والفصل بين الساقين يدق إلا عن أولي البصائر - والله أعلم ، فيكون المراد بتفصيل الأربعين هنا بيان أن إبطاء موسى عليه السلام عما عملوه من المعياد إنما كان لعشرة أيام ، فارتكبوا فيها هذه الجريمة التي هي أعظم الجرائم ، وأشار تعالى إلى عظيم جرأتهم وعراقتهم في السفه بقوله عاطفاً على ) وعدنا ( ) وقال موسى ) أي لما واعدناه ) لأخيه ( ثم بينه تصريحاً باسمه فقال : ( هارون أخلفني ) أي كن خليفي فيهم تفعل ما كنت افعل ، وأكد الارتسام بما يجده له بقوله : ( في قومي ((3/107)
صفحة رقم 108
وأشار إلى حثه على الإجتهاد بقوله : ( وأصلح ) أي كن على ما أنت عليه من إيقاع الإصلاح ولما كان عالما ً بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) مبرأ من السوء غير أن عنده ليناً قال : ( ولا تتبع ) أي تكلف نفسك غير ما طبعت عليه بأن تتبع ) سبيل المفسدين ) أي استصلاحاً لهم وخوفاً من تنفيرهم ، فاختلفوا عن الطريق كما تفرس فيهم موسى عليه السلام ولم يذكروا عاقبة فلا هم خافوا بطش من بطش بمن كان يسومهم سوء العذاب ، ولا هم سمعوا لأخيه في الصلاح ، ولا هم انتظروا عشرة أيام ، فلا أخف منهم احلاماً ولا أشد على المعاصي إقداماً ولما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه ، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته فقال : ( ولما جاء موسى ليمقاتنا ) أي عند أول الوقت الذي قدرناه للمناخاة ؛ ولما كان مقام الجلال مهمولاً لا يستطاع وعي الكلام معه ، التفت إلى مقام الإكرام فقال : ( وكلمه ) أي من غير واسطه ) ربه ) أي المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان ، والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف ، ولا بعد في ذلك كما لا بعد رؤية ذاته سبحانه وهي ليست بجسم ولا عرض لا جوهر ، وليس كمثله شيء وعن ابن عباس رضي الله عنهما اأنه سبحانه كلمه في جميع الميقات وكتب له الألواح ، وقيل : إنما كلمه في أول الربيعين ، والأول أولى ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف ، وكانت الرؤية جائزة ، اشتاق إلى الرؤية شوقاً لو يتماللك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعمله أنها جائزة ) قال ( مسقطاً الأداة كعادة أهل القرب - ) رب أرني ) أي ذاتك الأقداس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكناً من النظر ، وهو معنى قول الحبر ابن عباس : اعطني وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأأمر - ) أنظر ) أي أصوب تحديق العين وأشار إلى عظمته سبحانه وعلة شأنه علو العظمة لا المسافة - بالتعدية بحرف النهاية بحرف النهايةة بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان - فقال : ( إليك ) أي فأراك ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا ) قال ( نافياً المقصود ، وهو الرؤية لا مقدمتها ، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين ) لن تراني ( ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لو يقل : لن أرى ، أو لن يراني أحد ؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعلقه بممكن فقال : ( ولكن انظر إلى الجبل ( إشارة جبل بعهده ، وهو أعظم جبل هناك ، وزاد في الإشارة إلى الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر(3/108)
صفحة رقم 109
ممكن فقال - : ( فإن استقر مكانه ) أي وجد قراره وجوداً تاماً ، واشار إلى بعد الرؤية أاايضاً وجلالة المطلوب منها بقوله : ( فسوف تراني ) أي بوعد لا خلف فيه ) فلما تجلى ربه ) أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته ، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال - : ( للجبل ) أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته ) جعله دكاً ) أي مدكوكاً ، والدك والدق أخوان ) وخر ) أي وقع ) موسى صعقاً ) أي مغشياً عليه مع صوت هائل ، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن ، ولكنك تعرفه بمثال أريكة وهوالجبل ، فإن الفاني - كما نقل عن الإمام مالم - لا ينبغي له أن يرى الباقي - ) فلما أفاق ) أي من غشيته ) قال سبحانك ) أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه ) تبت إليك ) أي من ذلك ) وانا أول المؤمنين ) أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات ، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب ، فقد ورد في نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) آيتان : إحدهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله ) وأنا أول المسلمين ) [ المائدة : 163 ] والثانية تومي إلى عدمها وهي ) آمن الرسول ) [ البقرة : 285 ] إلى قوله : ( كل آمن بالله ) [ البقرة : 285 ] - والله أعلم - ، وكل هذا تكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك ، وتنبيه لهم على ان الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الجسام لما يعلم سبحانه من انهم سيكررون عبادة الأصنام ، فاثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم تعريضاً بالعجل ، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى : ( ألم يروا انه لا يكلمهم ( الآية .
ولما منعه الرؤية بعد طلبه إياها ، وقابل ذلك بمحاسن الأفعال والأقوال ، تشوف السامع إلى ما قوبل به من الإكرام ، فاستأنف سبحانه الإخبار بما منحه به تسلية له عما منعه وأمراً بشكره بقوله : ( قال ياموسى ( مذكراً له نعمة في سياق دال على عظيم قدرها وإيجاب شكرها مسقطاً عنه مظهر العظمة تأنيساً له ورفقاً به - ) إني اصطفيتك ) أي اخترتك اختياراً بالغاً كما يختار ما يصفى من الشيء عن كل دنس ) على الناس ) أي الذين في زمانك ) رسالتي ) أي الآيات المستكثرة التي أظهرنها على يديك من اسفار التوارة وغيرها ) وبكلامي ) أي من غير واسطة وكانه أعاد حرف الجر للتنبيه على ذلك ، كما اصطفى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) على الناس عامة في كل زمان برسالته العامة وبكلامه المعجز ويتكلمه من غير واسطة في السماء التي قدست دائماً ونزهتت عن التدنيس بمعصية .(3/109)
صفحة رقم 110
ولما كان ذلك مقتضياً لغاية افقبال والنشاط ، سبب عنه قوله : ( فخذ ما آتيتك ( آي مخصصاً لك به ) وكن من الشاكرين ) أي العريقين في صفة الشكر المجبولين عليها .
الأعراف : ( 145 - 148 ) وكتبنا له في. .. . .
) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ( ( )
ولما انقضى ما أنسه سبحانه به لفت مفصلاً به لفت الكلام - في الإخبار لنا عن عظيم ما آتاه - لي مظهر العظمة ، فقال مفصلاً لتك الرسالة ومبيناًُ بعض ما كان من الكلام ) وكتبنا ) أي بعظمتنا ) له في الألواح ( عرفها لعظمتها تنبيهاً على أنها لجلالة ما اختصبت به كانها المختصبة بهذا الاسم ، وأعظم من هذا جعل قلب النبي الأمي لوحاً قابلاً لما يلقى إليه جامعاً لعلوم الولين والآآخرين ) من كل شيء ) أي يحتاجه بنو إسرائيل ، وذلك هو العشر الآيات التي نسبتها إلى التوارة نسبة الفاتحة إلى القران ، ففيها أصوال الدين وأصول الحكام والتذكير بالنعم والأمر بازهد والورع ولزوم محاسن الأعمال والبعد قعن مساويها ، ولذا قال مبدلاً : ( موعظة وتفصيلاً ) أي على وجازتها بما كانت سبباً ) لكل شيء ) أي لأنها - مع كونها أمهات وجوامع - مفصلة ترجع إليها بحور العلم وتنشق منها ينابيعها. ولما كان هذا هكذا تسبب عنه حتماً قوله تعالى التفافاً إلى خطاب موسى عليه السلام بخطاب التانيس إشارة إلى ان التزام التكاليف صعب : ( فخذها ) أي الألواح ) بقوة ) أي بجد وعزيمة في العلم والعمل ) وأمر قومك ) أي القوياء على محاواة ما يراد ) يأخذوا باحسنها ( كانه سبحانه اطلق لموسى عليه السلام الأخذ بكل ما فيها لما عنده من الملكة الحاجزة له عن شيء من المجاوزة ، ولذلك قالله ) بقوة ( وقيدهم بالأحسن ليكون الحسن جداً مانعاً لهم من الوصول إلى القبيح ، وذلك كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر ولما كان كأنه قيل : وهل يترك الأحسن أحد ؟ فقيل : نعم ، الفاسق يتركه ، بل(3/110)
صفحة رقم 111
ويتجاوز الحسن إلى القبيح ، بل وإلى أقبح القبيح ، ومن تركه اهلكته وإن جل آلهوعظمت جنوده وأمواله ، قال كالتعليل لذلك : ( سأوريكم دار الفاسقين ) أي الذين يخرجونعن أوامري إلى ما انهاهم عنه فانصركم عليهم وأمكنكم بفسقهم من رقابهم وأموالهم من الكنعانيين والحاثانيين وغيرهم من سكان الراضي المقدسه لتعلموا أن من أغصبني وترك أمري أمكنت منه ، وإنما ذكر الدار لئلا تغرهم منعتها إذا استقروا بها فيظنوا أن لا غالب لهم فيها بوعورة أرضها وشهوق جبالها وإحكام أسوارها ، وإذا تأملت ما سيأتي في شرح هذه الآيات من التوراة لاح لك هذا المعنى ، وكذا ما ذكر من التوراة عند قوله في المائدة
77 ( ) قل هو أنبئكم بشر من ذلكم مثوبة عند الله ( ) 7
[ المائدة : 60 ] وفي هذه الجملة المختصرة بشارة يإتمام الوعد بنصرتهم عليهم بطاعتهم ونذارة على تقدير معصيتهم ، فكأنه قيل : إن أخذوا بالأحسن أريتهم دار الفاسقين ، وأتممت عليهم النعمة ما دامو على الشكر ، وإن لم ياخذوا اهلكتهم كما أهلك الفاسقين من بين يديهم ، فحذرهم لئلا يفعلوا افعالهم إذا استقرت بهم الدار ، وزالت عنهم الكدار ، ويؤيد كون المراد القدس لا مصر وبعث موسى عليه السلام ، ولا ينفي ذلك تاحتمال مصر أيظاً - الله أعلم ولما انقضى ذلك ، كان كأنه قيل : وكيف يختار عاقل ذلك ؟ فكيف بمن رأى الآيات وشاهد المعجزات ؟ فقال : ( ساصرف عن آياتي ) أي المسموعة والمرئية على عظمتها بما أشارت إليه الإضافة بالصرف عن فهمها واتباعها والقدرة على الطعن فيها بما يؤثر في إبطالها ) الذين يتكبرون ) أي يطلبون الكبر بما ليس لهم ويعملون قواهم فيه ) في الأرض ) أي جنسها الذي امرت بالتواضع فيه ولما كان من رفعه الله بصفة فاضلة فوضع نفسه موضعها ولم يهنها نظراً لما أنعم الله به عليه ومنحه إياه ربما سمى ذلك كبراً ، وربما سمى طلبه لتلك الأخلاق التي توجب رفعته تكبراً ، وليس كذلك وإن وافقه في الصورة ، لمفارقتها له في المعنى فإنه صيانه النفس عن الذل ، وهو إنزال النفس دون منزلتها صنعة لا تواضعاً ، والكبر رد الحق واحتقار الناس ، ففي التقييد هنا إشارة خفية لإثبات العزة بالحق والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الصنعة وقوفاً على شرط العزم المنصوب على متن نار الكبر ؛ قال الإمام السهروردي : ولا يؤيد في ذلك ويثبت عليه غلاقدام العلماء الراسخين - قال تعالى احترازاً عنه ومدخلاً كل كبر خلا عن الحق الكامل : ( بغير الحق ) أي إنما يختار غير الأحسن من يختاره بقضائي الذي لا يرد وأمري العالي على(3/111)
صفحة رقم 112
أمر كل ذي جد فأزين لمن علمت خباثة عنصره ورداءة جوهره ما أريد حتى يرتكبوا كل قبيحة ويتركوا كل مليحة ، فينصرون عن الآيات ويعمون عن الدلالات الواضحات ولما أخبر بتكرهم في الحال ، عطف عليه فعلهم في المآل فقال : ( وإن يروا كل آية أي مرئية أو مسموعة ) لا يؤمنوا بها ) أي لتكبرهم عن الحق ) وإن يروا سبيل ) أي طريق ) الرشد ) أي الصلاح والصواب الذي هو أهل للسلوك ) لا يتخذوه سبيلاً ) أي فلا يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد ، بل إن سلكوه فعن غير قصد ) وإن يروا سبيل الغي ) أي الضلال ) يتخذوهة سبيلا ) أي بغاية الشهوة والتعمد والاعتمال لسلوكه .
ولما كان هذا محل عجب ، أجاب من يسأل عنه بقوله : ( ذلك ) أي الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن افيمان واتخاذ الرشاد ) كذبوا بآيتنا ) أي فلم يعتبروا عظمتها ) ولقاء الآخرة ) أي ولقائهم إياها أو لقائهم ما وعدوا به فيها ، اللازم من التكذيب بالآيات الحامل التصديق بها على معالي الخلاق ) حبطت ) أي فسدت فسقطت ) أعمالهم ( والاية من الاحتباك : إثبات الغفلة أولاً يدل على إرداتها ثانياً واللقاء ثانياً يدل على إرادته أولاً ولما كان كانه قيل : لم بطلت ؟ قيل : ( هل يجزون إلا ما ) أي جزاء ما ) كانوا يعملون أي بإبطال أعمالهم وإن عملوا كل حسن سوى الإيمان بسبب أنهم أبطلوا الآيات والآخرة بتكذيبهم بها ، أي عدوها باطلة ، والجزاء من جنس العمل ، والحاصل أنهم لما عموا عن الآيات لأنهم لم ينظروا فيها ولا انقادوا مع ما دلت عقولهم عليه من أمرها ، بل سدوا باب الفكر فيها ؛ زادهم الله عمى فختم على مداركهم ، فصارت لاينتفع بها فصاروا لا يعون ، وهذه الآيات أعظم زاجر عن التكبر ، فإنها بينت انه يوجب الكفر والإصرار عليه والوهن في جميع الأمور ، ولما كان ذلك كله مما يتعجب الموفق من إرتكابه ، أعقبه تعالى مبيناً ومصوراً ومحققاً لوقوعه ومقرراً قوله عطفاًُ على
77 ( ) فأتوا على قوم يعكفون ( ) 7
[ الأعراف : 138 ] مبيناً لإسراعهم في الكفر : ( واتخذ ) أي بغاية الرغبة ) قوم موسى ) أي باتخاذ السامري ورضاهم ، ولم يعتبروا شيئاً مما أتاهم به من تلك الآيات التي لم يررمثلها ) من بعده ) أي بعد إبطائه عنهم بالعشرة الأيام التي(3/112)
صفحة رقم 113
أتممنا بها الأربعين ) من حليهم ) أي التي كانت معهم من مالهم ومما استعاروه من القبط ) عجلاً ( ولما كان العجل اسماً لولد البقر ، بين أنه إنما يشبه صورته فقط ، فقال مبدلاً منه : ( جسداً ( ولما كان الإخبار جسد مفهماً لأنه خال مما يشبه الناشىء عن الروحم ، قال ) له خوار ) أي صوت كصوت البقر ، والمعنى أنه لا أضل ولا أعمى من قوم كان معهم حلي أخذوه ممن كانوا يستعبدونهم ويؤذونهم وهم مع ذلك أكفر الكفرة فكان جديراً بالبغض لكونه من آثار الظالمين الأعداء فاعتقدوا انه بالصوغ صار إلها ً وبالغوا في حبه والعبودية له وهو جسد يرونه ويلمسونه ، ونبيهم الذي هداهم الله به واصطفاه لكلامه يسأل رؤية الله فلا يصل إليها .
ولما لم يكن في الكلام نص باتخاذه إلهاً ، دل على ذلك بالإنكار عليهم في قوله : ( ألم يروا ) أي الذين اتخذوا إلهاً ) أنه لا يكلمهم ) أي كما كلم الله مسى عليه السلام ) ولا يهديهم سبيلا ( كما هداهم الله تعالى إلى سبيل النجاة ، منها سلوكهم في البحر الذي كان سبباً لإهلاك عدوهم كما كان سبباً لنجاتهم ؛ قال أبو حيان : سلب عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأن انتقاء التكلم يستلزم انتفاء العلم ، وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة ، وانتفاء هذين الوصفين يستلزم انتفاء باقي الأوصاف .
ولما كان هذا امراً عظيماً جداً مستعبد الوقوع ولا سيما من قوم نبيهم بينهم ولا سيما وقد أراهم من النعم والآيات ما ملات أنواره الآفاق ، كان جديراً بالتأكد فقال تعالى : ( اتخذوه ) أي بغاية الجد والنشاط والشهوة ) وكانوا ) أي جلبة وطبعاً مع ما أثبت لهم من النوار ) ظالمين ) أي حالهم حال من يمشي في الظلام ، أو أن المقصود أن الظلم وصف لهم لازم ، فلا بدع إذا فعلوا امثال ذلك .
الأعراف : ( 149 - 151 ) ولما سقط في. .. . .
) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( ( )
ولما كان هذا في سياق ) ذلك بأنهم كذبوا بآيتنا وكانوا عنها غافلين ( فأنتج أن من كذب على هذه الصفة اهلك ، فانتظر السامع الإخبار بتعجيل هلاكهم ، أخبر بأنه منعهم(3/113)
صفحة رقم 114
من ذلك وحرسهم المبادرة بالتوبة ، ولما اشتد من تشوف السامع إليه ، قدمه على سببه وهو رجوع موسى عليه السلام إليهم وإنكاره عليهم ، ولأن السياق في ذكر إسراعهم في وهو رجوع موسى عليه السلام إليهم وإنكاره عليهم ، ولأن السياق في ذكر إسراعهم في الفسق لم يذكر قبول توبتهم كما في البقرة ؛ ولما كان من المعلوم انهم تبين لهم عن قرب سوء موتكبهم لكون نبيهم فيهم ، عبر بما كان من أنهم تبين لهم عن قرب سوء مرتكبهم لكون نبيهم فيهم ، عبر بما أفهم أن التقدير : فسقط في إيدهم ، وعطف عليه قوله سائقاً مساق ما هو معروف : ( ولما سقط ) أي سقطت أسنانهم ) في أيديهم ( بعضها ندماً سقوطاً كأنه بغير اختيار لما غلب فيه من الوجد والأسف الذي أزال تأملهم ولذلك بناه للمفعول ) ورأوا أنهم قد ضلوا ) أي عن الطريق الواضح ) قالوا ( توبة ورجوعاً إلى الله كما قال أبوهم آدم عليه السلام ) لئن لم يرحمنا ربنا ) أي الذي لم يقط قط إحسانه عنا فكيف غضبه ويديم إحسانه ) ويغفر لنا ) أي يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل ) لنكونن من الخاسرين ) أي فينتقم من بذنوبنا .
ولما أخبر بالسبب في تأخير الانتقام عنهم مساواتهم لمن اوقعت بهم النقمة في موجب الانتقام ، أخبر سبحانه بحال موسى عليه السلام معهم عند رجوعه إليهم من الغضب لله والتكبيت لمن خالفه مع ما اشتمل عليه من الرحمة والتواضع فقال : ( ولما رجع موسى ) أي من المناجاة ) إلى قومه غضبان ( اي في حال رجوعه لما أخبره الله تعالى عنهم من عبادة العجل ) أسفاً ) أي شديد الغضب والحزن ) قال بئسما ) أي خلافة خلافتكم التي ) خلفتموني ) أي قمتم مقامي وفعلتم مقامي وفعلتم خلفي. ولما كان هذا ربما أوهم انهم فعلوه من روائه وهو حاضر في طرف العسكر ، قال : ؛ ) من بعدي ) أي حيث عبدتم غير الله أيها العبدة ، وحيث لم تكفوهم أيها الوحدون بعد ذهابي غلى الجبل للمواعدة الإلهية وبعد ما سمعتم مني من التوحيد لله تعالى وإفراده عن خلقه بالعبادة ونفي الشركاء عنه ، وقد ريتم حين كففتم وزجرتكم عن عبادة غير حين قلتم ) اجعل لنا إلهاًكما لهم آلهة ( ومن حق الخلفاء أن يسروا سيرة المستخلف ولا يخالفوه في شيء ولما كان قد أمرهم ان لا يحدثوا حدثاً حتى يعود إليهم ، أنكر عليهم عدم انتظاره فقال : ( اعجلتم ( قال الصغاني في المجمع : سبقتم ، وقال غيره : عجل عن الأمر - إذا تركه غير تام ، ويضمن معنى سبق ، فالمعنى : سابقين ) أمر ربكم ) أي ميعاد الذي ما الأيامبرجوعي إليكم إلى حده ، فنظننتم أني مت فغيرتم كما غيرت المم بعد موت أنبيائها ، قال الإمام أبو عبد القزاز أيضاً : عجلتم : سبقتم ، ومنه تقول : عجلت فلاناً سبقته ، وأسنده ابن التياني إلى الصمعي ) وألقى الألواح ) أي التي فيها التوراة(3/114)
صفحة رقم 115
غضباً لله لقومه ، ودل هذا على أن الغضب بلغ منه حداً لم يتمالك معه ، وذلك في الله تعالى ) واخذ برأس أخيه ) أي بشعره ) يجره إليه ) أي بناء على أنه قصر وإعلاماً لهم بأن الغضب من هذا الغضب من هذا الفعل قد بلغ منه مبلغاً يجل عن الوصف ، لأنه اجتثاث للدين من اصله ولما كان هارون عليه السلام غير مقصر في نهيهم ، أخذ في إعلام موسى عليه السلام بذلم مخصصاً الأم وإن كان شقيقه - تذكيراً له بالرحم الموجبه للعطف والرقة ولا سيما وهي مؤمنه وقد قاست فيه المخاوف ، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله : ( قال ابن أم ( وحذف أداة النداء وياء الإضافة لما يقتضيه الحال من الإيجاز ، وفتح الجمهور الميم تشبهاً له بخمسة عشر وعلى حذف الألف المبدلة من ياء لإضافة ، وكسر الميم ابن عامر وحمزه والكسائي وأبو بكر عن عاصم بتقدير حذف ياء افضافة تخفيفاً ) إن القوم ) أي عبدة العجل الذين يعرف قيامهم في الأمور التي يريدونها ) استضعفوني ) أي ضعيفاً وأوجدوا ضعفي بإرهابهم لي ) وكادوا يقتلونني ) أي قاربوا ذلك لإنكاري ما فعلوه فسقط عني الوجوب ولما تسبب عن ذلك إطلاقه ، خاف أن يمنعه الغضب من ثبات ذلك في ذهنه ةتقرره في قلبه فقال : ( فلا تشمت بي الأعداء ) أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك ؛ ولما استعطفه بالتذكير بالشماته التي هي شماتة به ايضاً ، أتبعه ضرراً يخصه فقال : ( ولا تجعلني ) أي بمؤاخذتكلي ) مع القوم الظالمين ) أي فنقطعن بعدّك لي معهم وجعلي في زمرتهم عمن أحبه من الصالحين ، وتصلنيبمن أبغضه من الفاسدين الذين فعلوا فعل من هو في الظلام ، فوضعوا العبادة في غير موضعها من غير شبهة ولا لبس أصلاً ولما تبين له ما هو اللائق بمنصب أخيه الشريف من انه لم يقصر في دعائم إلى الله ولا ونى في نهيهم عن الضلال ، ورأىأن ما ظهر من الغضب مرهب لقومه وازرع لهم عما ارتكبوا ، دعاء له ولنفسه مع الأعتراف بالعجز وأنه لا يسع أحداً إلا العفو ، وساق سبحانه ذلك مساق الجواب لسؤال بقوله : ( قال رب ) أي أيها المحسن إليَّ ) اغفر لي ) أي ما حملني عليه الغضب لك من إيقاعي باخي ) ولأخي ) أي في كونه لما يبلغ ما كنت أريده منه من جهادهم ولما دعا بمحو التقصير ، أتبعه الإكرام فقال : ( ولأخي ) أي في كونه لما يبلغ ما كنت أريده منه من جهادهم ولما بمحو التقصير ، أتبعه الإكرام فقال : ( وأدخلنا ) أي أنا واخي وكل من انتظم معنا ) في رحمتك ( لتكون غامرة لنا محيطة بنا ؛ ولما كان التقدير : فانت خير(3/115)
صفحة رقم 116
الغافرين ، عطف عليه ) وأنت أرحم الرحمين ) أي لأنك تنعم بما لا يحصره الجد ولا يحصيه العد من غير نفع يصل إليك ولا أذى يلحقك بفعل ذلك ولا تركه .
الأعراف : ( 152 - 154 ) إن الذين اتخذوا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ( ( )
ولما كان له ولأخيه وهما معصومان من الذنوب ، طوى ما يتعلق بالمغفرة وذكر متعلق الرحمة بخلاف ما ياتي في السؤال له وللسبعين من قومه فإنه عكس فيه ذلك ؛ ولما صحت براءة الخليغة ، وأشير إلى أنه مع ذلك فقير إلى المغفرة ، التفتت النفس إلى المفسدين إلى حال المفسدين فقال مخبراً عن ذلك : ( إن الذين اتخذوا العجل ) أي رغبوا رغبة تامه في أخذهم إلهاً مع المخالفة لما ركز في الفطرة الولى ودعاهم إليه الكليم عليه السلام ) سينالهم ) أي بوعد لا خلف فيه ) غضب ) أي عقوبة فيها طرد أو إبعاد ، ولعله ما أمروا به من قتل أنفسهم ، واشار إلى انه فيه رفق بهم وحسن تربية لتوبة من يبقى منهم بقوله : ( من ربهم ) أي الذي لا محسن إليهم غيره ، يلحقهم في الدنيا ويتبعهم في الاخرة ) وذلة في الحياة الدنيا ) أي جزاء لهم على افترائهم وكذلك من رضي فعلهم ولا سيما إن كان من أولادهم كقريظة والنضير واهل خيبر ) وكذلك ) أي ومثل جزائهم ) نجرى المفترين ) أي المعتدين للكذب ، وهذا نص في ان كل مفتر ذليل ، كما هو المشاهد - وإن أظهر الجراءة بعضهم ولما المصرين علىالمعصية ، عطف عليه التائبين ترغباً في مثل حالهم فقال : ( والذين عملوا السيئات ( عبربالعمل إشارة إلى بالعفو وإن أقدموا عليها على علم ، وجمع إعلاماً بأنه لا يتعاظمه ذنب وإن عظم وكثر وإن طال زمانه ، ولذلك عطف بأداة البعد فقال : ( ثم تابوا ( وحقق الأمر ونفي المجازبقوله : ( من بعدها ( ثم ذكر الأساس الذي لا يقبل عمل لم يبين عليه على وجه يفهم أنه لا فرق بين ان يكون في السيئات ردة أو لا فقال ) وآمنوا ( ثم أجاب المبتدا بقوله : ( إن ربك ) أي المحسن إليك بقبول توبة التائبين لما سيرك من ذلك لأنك بهم رؤوف رحيم ) من بعدها ) أي التوبة ) لغفور ) أي محاء لذنوب الئبين عيناً واثر وإن عظمت وكثرت ) رحيم ) أي فاعل بهم فعل الرحيم من البر والإكرام واللطف والإنعام ، وكأن المصرين هم الذين قتلوا لما أمرهم موسى عليه السلام بقتل أنفسهم ، فلما أهلك المصرّ وتاب الباقي ، (3/116)
صفحة رقم 117
وصحت براءة أخية وبقاؤه على رتبته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتهاد في امر الله ، زال موجب الغضب فأخبر سبحانه عما يعقبه فقال : ( ولما سكت ( اي كف ، شبه الغضب بمتكلم كان يحث موسى عليه السلام ويعزيه على ما يوجبه ويقتضيه ، فلما شفى غيظه سكن وقطع كلامه فخلفه ضده وهوالرضى ) عن موسى الغضب ( وهو غليان القلب بما يتاذى به النفس ) اخذ الألواح ) أي التي جاء بها من عند الله بعدما ألقاها ) وفي ) أي والحال أنه في ) نسختها ) أي الأمر المكتوب فيها ، فعلة بمعنى مفعولة ، وعن ابن عباس أنه لما ألقاها صام - مثل ما كان صام للمناجاة - أربعين يوماً أخرى ، فردت عليه في لوحين مكان ما تكسر .
) هدى ) أي شيء موضح للمقاصد ) ورحمة ) أي سبب للإكرام ) للذين هم لربهم ) أي لا لغيره ) يرهبون ) أي هم أهل لأن يخافون خوفاً عظيماً مقطعاً للقلوب موجباً للهرب ويستمرون على ذلك شرح ما في هذه الآيات مكن عند قوله ) سأوريكم دار الفاسقين ( من البدائع من التوراى - قال المترجم في السفر الخامس منها بعد أن بكتهم ببعض ما فعلوه مما أوجب لهم الغضب والعقوبة بالتيه وحثهم على لزوم أمر الله لينصرهم : واما الوصايا التي آمركم بها اليوم فاحفظوها واعلموا بها لتحيوا وتكثروا وترثوا الأرض التي اقسم الله لآبائكم فتذكروا كل الطريق الذي سيركم الله ربكم فيه ، ودبركم منذ أربعين سنة في البرية ليواضعكم ويجربكم وليعلم ما في قلوبكم هل تحفظون وصاياه أوم لا ، فواضعكم واجاعكم واطعمكم منّاً لم تعرفوا أنتم ولا آبائكم ليبين لكم انه ليس إنما يعيش الإنسان بالخبر فقط ، بل إنما يعيش بما يخرج من فم الله ، ولم تبل ثيابكم ولم تجف أقدامكم منذ الربعين سنة ، احفظوا وصايا الله ربكم وسيروا في طرقة واتقوه ، لأن الله ربكم هو الذي يدخلكم إلى الأرض المخصبة ، أرض كثيرة الأدوية والينابيع والعيون التي تجري في الصحارى والجبال ، أرض الحنطة والسعير ، فيها الكروم والتبن والرمان والزيتون والدهن والعسل ، أرض لايحتاجون فيها ولا تأكلون خبزكم بالفقر ، ولا يعوزكم فيها شيء ، أرض حجارتها حديدتستخرجون النحاس من جبالها ، فاحتفظوا ، لا تنسوا الله ربكم ، واحفظوا وصاياه وشرائعه التي آمركم بها اليوم ، لا تبطروا ، فإذا اكلتم وشبعتم وبنيتم بيوتاً وسكنتموها وكثرغنمكم وبقركم وكثرت أموالكم فتعظم قلوبكم وتنسوا الله ربكم الذين أخرجكم من أرض مصر وانقذكم من العبودية ودبركم في البرية المرهوبة العظيمة حيث الحيات الحردات والعقارب وفي مواضع العطش وحيث لم يكن لكم ماء أخرج لكم من ماء الظران ، واطعمكم منّا لم يعرفه آبائكم ليواضعكم ويجربكم ويحسن إليكم آخر ذلك ، وانظروا ، لا تقولوافي قلوبكم إنا إنما استفدنا هذه الأموال(3/117)
صفحة رقم 118
بقوتنا وعزة قوبنا ، ولكن اذكروا الله ربكم الذي قواكم أن تستفيدوا هذه الأموال ليثبت العهد الذي اقسم لآبائكم ، وإن أنتم نسيتم الله ربكم وتبعتم آلهة أخرى وعبدتموها وسجدتم لهااشهدت عليكم اليوم فاعلمتكم أنكم تهلكون هلاك سوء ، كما أهلكت الشعوب التي أباد الرب بين أيديكم كذلك تهلكون ، اسمعوا يا بني إسرائيل بل أنتم تجوزون اليوم نهر الأردن وتنطلقون لتمتلكوا الشعوب التي هي أقوى وأعظم منكم وتظفروا بالقرى الكبار المشيدة إلى السماء وبشعب كبير عظيم بني الجبابرة ، وقد علمتم وسمعتم أنه ما يقدرإنسان ان يقوم بين يدي الجبابرة ، وتعلمون يومكم هذا ان الله ربكم يجوز أمامكم وهونار محرقة ، وهو يهلكهم ويهزمهم أمامكم ، ولا تقولوا في قلوبكم انه إنما أدخلنا الرب ليرث هذه الأرض من اجل برنا ، لأنه إنما يهلك الرب هذه الشعوب من اجل خطاياهم ، وليثبت الأقوال التي وعد بها آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فاعلموا أنه ليس من اجل بركم يورثكم الله هذه الأرض المخصبة ، لأنكم صلاب الرقاب ، اذكروا ولا تنسوا أنكم أسخطتم الله ربكم في البرية منذ يوم خرجتم من ارض مصر حتى انتهيتم إلى هذه البلاد ، ولم تزالوا مسخطين لله ربكم ونحوريت أيضاً أغضبتم الرب ، وغضب الرب عليكم وأراد هلاككم حيث صعدت إلى الجبل وأخذت لوحي العهد الذي عاهدكم الرب ، ومكثت في الجبل اربعين يوماً بلياليها لم أذق خبزاً ولم أشرب ماء ، وأعطاني الرب لوحين من حجارة مكتوب عليهما بأصبع الله ، وكانت كل ىلآيات التي كلمكم الرب : قم فانزل من هاهنا سريعاً ، لأن شعبك الذي أخرجته من ارض مصر قد فسدوا ومالوا عن الطريق الذي امرتهم عاجلاً ، وعملوا لهم إلهاً مسبوكاً ، وقال لي الرب : رأيت هذا الشعب فإذا هو شعب قاسي القلب ، فدعني الآن حتى اهلكهم وأبيد أسماءهم من تحت السماء واصيرك مدبراً لشعب أعظم واعزة منهم ، وأقبلت فنزلت من الجبل والجبل يشستعل ناراًولوحا العهد بيدي ، ورأيت أنكم أذنبتم أمام الله ربكم سريعاً ، وعمدت إلى لوحي الحجارة فرميت بهما من يدي وكسرتهما قدامكم ، وصليت أمام الرب كما صليت أولاً أربعين يوماً بلياليها ، لم أذق طعاماً ولم أشرب شراباً من أجل جميع الخطايا التي ارتكيتم وما عملتم من الشر بين يدي الرب واغضبتموه : لأني فرقت وخفت غضب الله وزجره انه أراد إهلاككم ، واستجاب الله لي في ذلك الزمان ، أما عجل خطاياكم الذي عملتموه فاخذته واحرقته بالنار وسحقته وطحنته جداً حتى صار مثل التراب وطرحت ترابه في الوادي الذي ينزل في الجبل ، وبالحريق والبلايا وبقبور اصحاب الشهوة ، أغضبتم الرب ، وإذ ارسلكم ربكم من رقام الحي وقال لكم :(3/118)
صفحة رقم 119
اصعدوا ورثوا الأرض التي اعطيكم ، اجتنبتم قول الربوأغضبتموه ولم تؤمنوا به ولم تسمعوا قوله ، ولم تزالوا الله مسخطين منذ يوم عرفتكم ، وصليت أما الرب أربعين يوماً بلياليها ، لأنالرب أمر بهلاككم ، وقلت في صلاتي ، يارب لا تهلك شعبك ميراثك الذي خلصته بعظمتك وأخرجتهم من أرض مصربيد عزيزة ، ولكن اذكر عبيدك إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ولا تنظر إلى معصية هذا الشعب وإثمه وخطاياه ، لئلا يقول سكان تلك الأرض التي أخرجتهم منها : إن الرب لم يقو ان يدخلهم الأرض التي قال لهم ، وإنما أخرجهم من عندنا لبعضه لهم ليضلهم في البرية ، وهو شعبك وميراثك الذي اخرجتهم بقوتك العظيمة وذراعك العزيزة ، فقال لي الرب في ذلك الزمان أن أنقر لوحين من حجارة مثل اللوحين الأولين واصعد إلى الجبل إليّ واعمل تابوتاً من خشب الشمشاد - وفي نسخة : السنط - ونقرت اللوحين من الحجارة مثل اللوحين الأولين وصعدت إلى الجبل واللوحات في يدي ، وكتب على اللوحين الكتاب الأول ، وهي العشر الآيات التي كلمكم الرب بها من الجبل من الناريوم الجماعة ، ودفعها الرب إليّ فأقبلت نازلاً من الجبل ووضعت اللوحين في التابوت الذي عملت وتركتها فيه كما فيه أمر الرب ، وراتجل بنو إ سرائيل من ثروات بني يعقان وموسار ، وتوفي هارون هناك ، وصار أليعازر ابنه حبراً مكانه ، وارتحلوا من هناك إلى جدجد ، ومن جدجد إلى يطبت أرض مسايل الماء ، في ذلك الزمان إفرز الرب سبط لأوي ليحملوا تابوت عهد الرب ، وأن يقوموا أمام الرب ويخدموه وأن يبركوا باسم الرب إلى اليوم ، ولذلك ليس لبني لاوي حصة مع بني إسرائيل في ميراثهم ، لأن ميراثهم لله ربهم كما قال لهم ، وأنا قمت بين يدي الرب في الجبل مثل الأيام الأولى أربعين يوماً بلياليها ، واستجاب لي الرب في ذلك الزمان أيضاً ، ولم يخذلكم الله ربكم ولم يفسدكم ، وقال لي الرب في وسر امام الشعب ليخلوا ويرثوا الأرض التي أقسمت لآبائهم أن أعطيهم ، والآن يابني إسرائيل ما الذي يطلب الله ربكم منكم ما يطلب الآن إلا أن تتقوا الله ربكم من كل قلوبكم وتسيروا في طرقه وتحبوه ، وأن تعبدوا الله ربكم من كل قلوبكم وأنفسكم ، وأن تحفظوا وصايا الله ربكم التي آمركم بها اليوم ليحسن إليكم لأن السماء وسماء السماء هما لله ربكم والأرض وجميع ما فيهاغ ، وبآبائكم وحدهم سر الرب وأحبهم وانتحت نسلهم من بعدهم وفضلهم على جميع الشعوب كاليوم ، ااختتنوا غلفة قلوبكم ، ولا تقسوا رقابكم أيضاً ، لأن الله ربكم هو إله الآلهة ورب الأرباب ، إله عظيم جبار مرهوب لا يحابي ولا يرتشي ، ينصف للأيتام والأرامل ، ويحب الذي يقبل إليه برزقه طعاماً وكسوة ، فاحبوا الذين يقبلون إليه واذكروا أنكم كنتم سكاناً بأرض مصر ، فاتقوا الله(3/119)
صفحة رقم 120
ربكم واتبعوه واعبدوه وأقسموا باسمه ، لأنه إلهكم ومريحكم ، وهو الذي أكمل لديكم العجائب التي رأت اعينكم ، واعلموا أنه إنما أنزل آبائكم إلى مصر سبعين رجلاً ، ولآن فقد كثركم الله ربكم مثل نجوم السماء ، أحبوا الله ربكم واحفظوا سننه واحكامه كل الأيام ، واعلموا يومكم هذا أنه ليس لنبيكم الذين لم يعاينوا ولم يعملوا ما رب الرب وعظمته ويده المنيعة وذراعه العظيمة وآياته واعماله التي عمل بمصر وبفرعون ملك مصر وكل أرضه وما صنع بأجناد ملك مصر وما فعل بالخيل والمراكب وفرسانها الذين قلب عليهم ماء بحر سوف حيث خرجوا في طلبكم واهلكم الرب إلى اليوم وجميع ما صنع بكم في البرية حيث انتهيتم إلى هذه البلاد وما صنع بداثان وابيرم ابني اليب بن روبيل اللذين فتحت الأرض فاها وابتلعتها وبيتها ، وخيامهم وكل شيء هو لهم إذ كانوا قياماً على أرجلهم بين يدي جميع بني إسرائيل ، ولكن قد رات أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل ، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم - وستاتي تتمة إن شاء الله تعالى عند ) ) ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأصدق ( ) [ يونس : 93 ] ، وفيه من المتشضابهقوله : فم الله ، وإصبع الله ، والأول - لكونه لا يجوز إطلاقة في شرعنا - مؤوّل بالكلام ، والثاني بالقدرة .
الأعراف : ( 155 - 156 ) واختار موسى قومه. .. . .
) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ( ( )
ولما فرغ سبحانه من ذكر الوعد بالميقات المقصود به سعي الكليم عليه السلام فيما يهديهم إلى صراط الله ، وذكر سعيهم فيما اضلهم عن الطريق ياتخاذهم العجل وكان ختام ذلك ما بدا من موسى عليه السلام من الشقفة على أخيه ثم على الكافة بأخذ الألواح عند الفراغ مما يجب من الغضب لله ، رد الكلام على ذكر شيء فعله في الميقات مراد به عصمتُهم في صراط الله بنقلهم - بمشاركته في سماعهم لكلام الله - من علم اليقين إلى عين اليقين بل حق اليقين شفقة عليهم ورحمة لهم ، ليكون إخبارهمعما رأوا مؤيداً لما يخبر به ، فيكون ذلك سبباً لحفظهم من مثل ما وقعوا فيه من عبادة(3/120)