صفحة رقم 506
هم كالذي ) مر ( قال الحرالي : من المرور وهو جعل الشيء على مسلك إلى غيره مع التفات إليه في سبيله ) على قرية ( وهي التي خرج منها الألوف أو بيت المقدس ) وهي خاوية ) أي متهدمة ساقطة جدرانها ) على عروشها ) أي سقوفها ، أو خالية على بقاء سقوفها .
قال الحرالي : من الخوا وهو خلو الشيء عما شأنه أن يعينه حساً أو معنىً ، والعروش جمع عرش من نحو معنى العريش وهو ما أقيم من البناء علىحالة عجالة يدفع سورة الحر والبرد ولا يدفع جملتها كالكن المشيد ، فكان المشيد في الحقيقة عريشاً لوهاء الدنيا بجملتها في عين الاستبصار - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : ما الذي في حاله ذلك مما يعجب منه ؟ قيل : ( قال أنى يحيي هذه ) أي القرية ) الله ) أي الذي له الأمر كله ) بعد موتها ) أي بما صارت إليه من الخراب وذهاب الأهل فيعيدها إلى ما كانت عليه عامرة آهلة .
قال الحرالي : وفي لفظة ( أنى ) لشمول معناها لمعنى كيف وحيث ومتى استبعاده الإحياء في الكيف والمكان والزمان ، ومنشأ هذا الاستبعاد إنما يطوق النفس من طلبها لمعرفة تكييف ما لا يصل غليه علمها - انتهى .
ولما كان هذا المستبعد قاصراً عن رتبة الخليل عليه الصلاة والسلام في التهيؤ للطمأنينة بل كان إيقانه على الكيفية متوقفاً في الحكمة على تركه في عالم الغيب المدة التي ضربت لبقائه ميتاً ليكون ذلك كالتخمير في الطين لتتهيأ نفسه لعلم ذلك والإيقان به قال : فأماته ) أي فتسبب عن ذلك أن أماته ) الله ) أي الذي لا كفوء له فمهما أراد كان لإيقانه على علم ذلك عناية من الله به ) مائة ( ولما كان المراد أن مدة موته كانت طويلة ليكون قد بلي فيها فتكون إعادته أمكن في القدرة على ما تستبعده العرب وأن ذلك الزمان كان حسناً طيباً لقبوله الإحياء والعمارة عبر ع نه بما يدل على السعة فقال : ( عام ( حتى بلي حماره وحفظ طعامه وشرابه من التغير ليتحقق كمال القدرة بحفظ ما شأنه التغير وتغير ما شأنه البقاء وإعادة ما فني .
قال الحرالي : وخص المائة لكمالها في العد المثلث من الآحاد والعشرات وعشرها وتر الشفع لأن ما تم في الثالث كان ما زاد عليه تكراراً يجزئ عنه الثلاث ) ثم بعثه ( في بيانه إشعار بأن بدنه لم يتغير ولا فني فناء حماره حيث لم يكن ثم نشره والله سبحانه وتعالى أعلم كما قال
77 ( ) ثم إذا شاء أنشره ( ) 7
[ عبس : 22 ] - انتهى .
ولما أحاط العلم بأن هذا العمل لأجل إيقانه على القدرة تشوفت النفس إلى ما حصل له بعد البعث فأجيبت بقوله تنبيهاً له ولكل سامع على ما في قصته من الخوارق : ( قال ) أي له الله سبحانه وتعالى أو من شاء ممن خطابه ناشئ عنه ) كم لبثت ) أي في(1/506)
صفحة رقم 507
رقدتك هذه ) قال ( لنظره إلى سلامة طعامه وشرابه ) لبثت يوماً ( ثم تغير ظنه بحسب الشمس أو غيرها فقال : أو بعض يوم ( وكأنه استعجل بهذا الجواب - كما هي عادة الإنسان - قبل النظر إلى حماره ) قال ) أي الذي خاطبه مضرباً عن جوابه بياناً لأنه غلط ظاهر ) بل لبثت مائة عام ( معبراً عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة والامتداد والطول ودله على ذلك وعلى كمال القدرة بقوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك ) أي الذي كان معك لما رقدت وهو أسرع الأشياء فساداً تين وعصير ) لم يتسنه ( من السنة أي يتغير بمر السنين على طول مرورها وقوة تقلباتها وتأثيرها ، ومعنى القراءة بهاء السكت أن الخبر بذلك أمر جازم مقنع لا مرية فيه ولا تردد أصلاً ) وانظر إلى ( ) حمارك ( بالياً رميماً ، فجمع الله له سبحانه وتعالى بين آيتي الرطب في حفظه واليابس في نقضه .
ولما كان التقدير : فعلنا ذلك لنجعله آية لك على كمال القدرة أو لتعلم أنت قدرتنا ، عطف عليه قوله : ( ولنجعلك ) أي في مجموع خبرك ) آية للناس ) أي كافة فكان أمره إبقاء وتثبيتاً آية في موجود الدنيا على ما سيكون في أمر الآخرة قيام ساعة وبعثاً ونشوراً - قاله الحرالي .
ولما أمره بالنظر إلى ما جعله له آية على لبثه ذلك الزمن الطويل أمره بالنظر إلى ما جعله له آية على اقتداره على الإحياء كيف ما أراد فقال : ( وانظر إلى العظام ) أي من حمارك وهي جمع عظم وهو عماد البدن الذي عليه مقوم صورته ) كيف ننشزها ( قال الحرالي : بالراء من النشر وهو عود الفاني إلى صورته الأولى وبالضم جعل وتصيير إليه ، وبالزاي من النشز وهو إظهار الشيء وإعلاؤه ، من نشز الأرض وهو ما ارتفع منها وظهر - انتهى .
وضم بعضها إلى بعض على ما كانت عليه ينظم ذلك كله ) ثم نكسوها لحماً ( قال الحرالي : جعل حياته بعثاً وحياة حماره نشوراً وأراه النشر ، واللحم الذي لحم بين العظام حتى صارت صورة واحدة ليتبين أمر الساعة عياناً فيكون حجة على الكافر والمستبعد ) فلما تبين له ) أي هذا الأمر الخارق الباهر الدال على ما وصف سبحانه وتعالى به نفسه المقدسة في ىية الكرسي .
قال الحرالي : وفي صيغة تفعل إشعار بتردده في النظر بين الآيتين حتى استقر عنده أمر ما أعلم به واضمحل عنده ما قدره ) قال أعلم ( بصيغة الفعل بناء على نفسه وبصيغة الأمر إفادة لغيره ما علم لتدل القراءتان على أنه علم وعلم لأن العلم إنما يتم حين يصل إلى غير العالم فيجمع فضل العلم والتعليم - انتهى .
ويجوز أن يدل التعبير بالمضارع في أعلم على أنه لم يزل متصفاً بهذا العلم من غير نظر إلى حال ولا استقبال ويكون ذلك اعتذاراً عن تعبيره في التعجيب بما(1/507)
صفحة رقم 508
دل على الاستبعاد بأنه إنما قاله استبعاداً لتعليق القدرة بذلك لا للقدرة عليه ) أن الله ) أي لما أعلم من عظمته ) على كل شيء ) أي من هذا وغيره ) قدير ( قال الحرالي : في إشعاره إلزام البصائر شهود قدرة الله سبحانه وتعالى في تعينها في الأسباب الحكمية التي تتقيد بها الأبصار إلحاقاً لما دون آية الإحياء والإماتة بأمرها ليستوي في العلم أن محييك هو مصرفك ، فكما أن حياتك بقدرته فكذلك عملك بقدرته فلاءم تفصيل افراد القدرة لله بما تقدم من إبداء الحفظ بالله والعظمة لله ، فكأنها جوامع وتفاصيل كلها تقتضي إحاطة أمر الله سبحانه وتعالى بكلية ما أجمل وبدقائق تفاصيل ما فصل - انتهى .
وفي الآية بيان لوجه مغالطة الكافر لمن استخفه من قومه في المحاجة مع الخليل صلوات الله وسلامه عليه بأن الإحياء الذي يستحق به الملك الألوهية هو هذا الإحياء الحقيقي لا التخلية عمن استحق القتل .
ولما كان الإيمان بالبعث بل الإيقان من المقاصد العظمة في هذه السورة وانتهى إلى هذا السياق الذي هو لتثبيت دعائم القدرة على الإحياء مع تباين المناهج واختلاف الطرق فبين أولاً بالرد على الكافر ما يوجب الإيمان وبإشهاد المتعجب ما ختم الإيقان علا عن ذلك البيان في قصة الخيل صلوات الله وسلامه عليه إلى ما يثبت الطمأنينة ، وقد قرر سبحانه وتعالى أمر البعث في هذه السورة بعد ما أشارت إليه الفاتحة بيوم الدين أحسن تقرير ، فبث نجومه فيها خلال سماوات آياتها وفرق رسومه في أرجائها بين دلائلها وبيناتها فعل الحكيم الذي يلقي ما يريد بالتدريج غير عجل ولا مقصر ، فكرر سبحانه وتعالى ذكره بالآخرة تارة والإحياء أخرى تارة في الدنيا وتارة في الآخرة في مثل قوله
77 ( ) وبالآخرة هم يوقنون ( ) 7
[ البقرة : 4 ]
77 ( ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ( ) 7
[ البقرة : 28 ]
77 ( ) ثم بعثناكم من بعد موتكم ( ) 7
[ البقرة : 56 ]
77 ( ) كذلك يحيي الله الموتى ( ) 7
[ البقرة : 73 ]
77 ( ) فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ( ) 7
[ البقرة : 243 ] وما كان من أمثاله ونظائره وأشكاله في تلك الأساليب المرادة غالباً بالذات لغيره فاستأنست أنفس المنكرين له به ، فصار لها استعداد لسماع الاستدلال عليه حتى ساق لهم أمر خليله عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، فكان كأنه قيل : يا منكري البعث ومظهري العجب منه ومقلدي الآباء في أمره بالأخبار التي أكثرها كاذب اسمعوا قصة أبيكم إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) التي لقاكم بها الاستدلال على البعث وجمع المتفرق وإعادة ا لروح باخبار من لا يتهم بشهادة القرآن الذي أعجزكم عن الإتيان بمثل شيء منه فشهادته شهادة الله لتصيروا من ذلك على علم اليقين بل عين اليقين فقال تعالى : ( وإذ ( عطفاً على نحو اذكروا ما تلي عليكم من أمر البعث واذكروا قصة أبيكم إبراهيم فيما يدل عليه إذ .
وقال الحرالي : ولما(1/508)
صفحة رقم 509
كان أمر منزل القرآن إقامة الدين بمكتوبه وحدوده فأنهاه تعالى منتهى منه ثم نظم به ما نظم من علنه في آية الكرسي ورتب على ذلك دين الإسلام الذي هو إلقاء كغلقاء اليد عند الموت انتظم به أمر المعاد الذي لا مدخل للعباد في أمره فرتب سبحانه وتعالى ذكر المعاد في ثلاثة أحوال : حال الجاحد الذي انتهت غايته إلى بهت ، ثم حال المستبعد الذي انتهت غايته إلى علم وإيمان ، وأنهى الخطاب إلى حال المؤمن الذي انتهى حاله إلى يقين وطمأنينة ورؤية ملكوت في ملكوت الأرض - انتهى ، فقال سبحانه وتعالى : واذ ) قال إبراهيم ( ولقد استولى الترتيب والتعبير في هذه الآيات الثلاث على الأمد الأقصى من الحسن ، فإنها بدئت بمن أراد أن يخفي ما أوضحته البراهين من أمر الإله في الإحياء بأن ادعى لنفسه المشاركة بإحياء مجازي تلبيساً بلفظ غلى الدال على بعده ولعنه وطرده ، ثم بمن استبعد إحياء القرية فأراه الله سبحانه وتعالى كيفية الإحياء الحقيقي آية له وتتميماً للرد على ذلك مع الإقبال عليه بالمخاطبة ولذة الملاطفة ثم بمن سأل إكرام الله تعالى له بأن يريه كيف يحيي فيثبت ثم أثبتت ثم أكدت ، ومناسبة الثلاث بكونها في إحياء الأشباح بالأرواح لما قبلها وهو في إحياء الأرواح بأسرار الصلاح أجل مناسبة ، فالمراد التحذير عن حال الأول والندب إلى الارتقاء عن درجة الثاني إلى مقام الثالث الذي حقيقته الصدق في الإيمان لرجاء الحيازة مما أكرم به ، ولذلك عبر في قصته بقوله واذ ولم يسقها مساق التعطيب كالأول ) رب ) أي أيها المحسن إليّ ) أرني كيف تحيي الموتى ( قال الحرالي : طلب ما هو أهله بما قال تعالى
77 ( ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ( ) 7
[ الأنعام : 75 ] فمن ملكوت الأرض الإحياء ، فقرره سبحانه وتعالى على تحقيق ابتداء حاله من تقرر الإيمان فقال مستأنفاً : ( قال ( ولما كان التقدير : ألم تعلم أني قادر على الإحياء لأني قادر على كل شيء عطف عليه قوله : ( أو لم تؤمن ( فإن افيمان يجمع ذلك كله ) قال بلى ( فتحقق أن طلبه كيفية الإحياء ليس عن بقية تثبت في الإيمان ، فكان في إشعاره أن أكثر طالبي الكيف في الأمور إنما يطلبونه عن وهن في إيمانهم ، ومن طلب لتثبت الإيمان مع أن فيما دون الكيف من الآيات كفايته لم ينتفع بالآية في إيمانه ، لأن كفايتها فيما دونه ولم يعل لليقين لنقص إيمانه عن تمام حده ، فإذا تم الإيمان بحكم آياته التي في موجود حكمة الله في الدنيا بيناته ترتب عليه برؤية ملكوت شهود الدنيا رتبة اليقين ، كما وجد تجربته أهل الكشف من الصادقين في أمر الله حيث أورث لهم اليقين ، ومتى شاركهم في أمر من رؤية الكشف أو الكرامات ضعيف الإيمان طلب فيه تأويلاً ، وربما كان عليه فتنة تنقصه مما كان عنده من حظ من إيمانه حتى ربما داخله نفاق لا ينفك منه إلا أن يستنقذه الله ، فلذلك أبدى تعالى خطاب تقريره(1/509)
صفحة رقم 510
لخليله ( صلى الله عليه وسلم ) على تحقيق الإيمان ليصح الترقي منه إلى رتبة الإيقان ، وهو مثل نحو ما تقدم في مطلق قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ( ) 7
[ البقرة : 257 ] وذكر عن الخليل عليه الصلاة والسلام أنه نظر إلى بدن دابة توزعها دواب البحر ودواب البر وطير الهواء ، فتعجب منها وقال : يا رب قد علمت لتجمعنها فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك ، فإنما ينبني يقين العيان على تحقيق الإيمان ) ولكن ( أريد المعاينة ) ليطمئن ( من الطمأنينة وهي الهدو والسكون على سواء الخلقة واعتدال الخلق ) قلبي ( من فطر على نيل شيء جبل على السوق له ، فلما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام متهيئاً لقبول الطمأنينة قذف في قلبه طلبها ، فأجابه الله بما قد هيأه له ، فضرب سبحانه وتعالى له مثلاً أراه إياه ، جعله جري العيان جلي الإيقان ، وذلك أن الله تعالى سبحانه هو الأحد الذي لا يعد ولا يحد وكان من تنزل تجليه لعباده أنه الإله الواحد ، والواحد بريء من العد ، فكان أول ظهور الخلق هو أول ظهور العد ، فأول العد الاثنان
77 ( ) ومن كل شيء خلقنا زوجين ( ) 7
[ الذاريات : 49 ] فالاثنان عد هو خلق كل واحد منهما واحد ، فجعل تعالى اثنين كل واحد منهما اثنان لتكون الاثنينية فيه كلاًّ وجزءاً فيكون زوجاً من زوج ، فكان ذلك العد هو الأربع ، فجعله الله سبحانه وتعالى أصلاً لمخلوقاته فكانت جملتها وتره ، فجعل الأقوات من أربع
77 ( ) وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ( ) 7
[ فصلت : 10 ] وجعل الأركان التي خلق منها صور المخلوقات أربعاً ، وجعل الأقطار أربعاً ، وجعل الأعمار أربعاً ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( خير الرفقاء أربعة ، وخير البعوث أربعون ، وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ) والمربعات في أصول الخلق كثيرة تتبعها العلماء واطلع عليها الحكماء
77 ( ) هو الذي بعث في الأميين رسولاً ( ) 7
[ الجمعة : 2 ] ولما كان خلق آدم وسائر المخلوقات من مداد الأركان التي هي الماء والتراب والهواء والنار فأظهر منها الصور
77 ( ) وصوركم فأحسن(1/510)
صفحة رقم 511
صوركم ( ) 7
[ غافر : 64 ] ثم أظهر سبحانه وتعالى قهره بإماتته وإفناء صوره ، ( كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذَّنَبِ ، منه خلق وفيه يركب ) فكان بددها في أربعة أقطار شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، أرى خليله عليه الصلاة والسلام كيف يدعو خلقه من أقطار آفاقه الأربعة بعد بددها واختلاطها والتئام أجزائها على غير حدها ، يقال إن علياً رضي الله تعالى عنه ضرب بيده على قدح من فخار فقال : كم فيه من خد أسيل وعين كحيل )
77 ( ) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ( ) 7
[ ق : 4 ] فأرى تعالى خليله عليه الصلاة والسلام مثلاً من جملة ذلك ) قال فخذ ( بالفاء تحقيقاً لمقاله وتصديقاً فيما تحقق من إيمانه وإبداء لاستحقاقه اليقين والطمأنينة بتقرر إيمانه ) أربعة من الطير ( هو اسم جمع من معنى ما منه الطيران وهو الخفة من ثقل ما ليس من شأنه أن يعلو في الهواء ، جعل تعالى المثل من الطير لأن الأركان المجتمعة في الأبدان طوائر تطير إلى أوكارها ومراكزها التي حددها الله تعالى لها جعلاً فيها لا طبعاً واجباً منها ، فإن الله عزّ وجلّ هو الحكيم الذي جعل الحكمة ، فمن أشهده الحكمة وأشهده أنه جاعلها فهو حكيمها ، ومن أشهده الحكمة الدنياوية ولم يشهده أنه جاعلها فهو جاهلها ، فالحكمة شهود الحكمة مجعولة من الله كل ماهية ممهاة ، وكل معنوية ممعناة ، وكل حقيقة محققة ، فالطبع وما فيه جعل من الله ، من جهله ألحد ومن تحققه وحد .
كذلك المعقول وما فيه إقباس من الله وإراءة من أمر الله ، من تقيد به واعتقده لا ينفك نسبة الحد في الطبع واحتاج إلى ملجأ فتن التأويل في غيب الشرع ، وكل ما سوى الحق موضوع معطي حظاً وحداً ينال ما أعطى ويعجز عما فوقه ، للعقول حد تقف عنده لا تتعداه ، فلذلك جعلها تعالى طوائر يقهرها قفص الصورة وتمام التسوية ، ويظهر تماسكها نفخ الروح انتهى .
وقوله سبحانه وتعالى ، ) فصرهن ) أي اضممهن ) إليك ) أي لتعرف أشكالها فيكون ذلك أثبت في أمرها .
قال الحرالي : من الصور وهو استمالة القلوب بالإحسان حتى يشتد إلى المستميل صغوها وميلها ، وإشعاره ينبئ والله سبحانه وتعالى أعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رباهن وغذاهن حتى عرفنه ليكون ذلك مثلاً لما لله سبحانه وتعالى في خلقه من تربيتهم بخلقهم ورزقهم حتى عرفوه بما احتاجوا إليه ، فوجدوه معرفة عجز عنه لا معرفة نيل له ، فمتى دعاهم من أقطار الآفاق أجابوه إجابة هذه الطوائر لخليله بحظ(1/511)
صفحة رقم 512
يسير من تربيته لهن ، وإذا كانت هذه الأربع مجيبة للخليل عليه السلام بهذا الحظ اليسير من الصور والصغو فكيف تكون إجابة الجملة للجليل العزيز الحكيم قال تعالى : ( ثم اجعل ( عطفاً بكلمة المهلة تجاوزاً بعد تربيتهن عن ذبحهن ودرسهن وخلطهن حتى صرن لحمة واحدة لا يبين في جملتها شيء من الصور الذاهبة ، كما تصير المواليد تراباً عند موتها وتبددها صورة واحدة ترابية ليتطابق المثل والممثول مطابقة تامة إلى ما وراء ذلك من مجاوزة عبرة وروية ) على كل جبل ( من الجبال القريبة إليك ) منهن جزءاً ( والجزء بعض من كل يشابهه كالقطعة من الذهب ونحوه ، فجعل الجبال مثل الأقطار وهي لارتفاعها أمكن في الرؤية وأبعد من الاشتباه
77 ( ) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ( ) 7
[ يس : 53 ]
77 ( ) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ( ) 7
[ النازعات : 13 ] فما كان بالصيحة والزجرة من الممثول كان بالدعاء في المثل ، كما أن ما كان بالخلق والرزق في الممثول كان بالصور في المثل وجعله جزءاً حيث كان يشبه بعضه بعضاً ) ثم ادعهن يأتينك سعياً ( والسعي هو العدو والقصد المسرع يكون في الحس ، والمعنى في إتيان الطائر طائراً حظ من مُنَّته وفي إتيانه سعياً حظ من ذلته ، فلذلك جلبهن عليه سعياً بحال المتذلل الطالب للرزق والأمنة من اليد التي عهد منها الرزق والجنبة التي ألف منها الأمن فبدأ المثل مطابقاً للمثول وغايته مرأى عين ، فصار موقناً مطمئناً وليس ذلك بأعجب من مشي الأحجار تارة والأشجار كرة وأغصانها أخرى إلى خدمة ولده المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، ( وكذا إلحام يد معوذ بن عفراء بعد ما قطعت وجاء يحملها كما ذكر في السير في غزوة بدر ، فصارت مثل أختها ) في أشياء من أمثال ذلك ، على أنه قد كان له من إحياء الموتى ما أذكره في آل عمران ، وكان لآحاد أمته من ذلك ما ذكره البيهقي في الدلائل منه عدداً كثيراً ، وإنما لم يكثر ذلك على يده ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه مرسل إلى قوم لا يقرون بالبعث ، ومحط الإيمان التصديق بالغيب ، فلو كثر وقوع ذلك له ( صلى الله عليه وسلم ) لكشف الغطاء ، وإذا كشف الغطاء عوجل من تخلف عن الإيمان بالعذاب وهو نبي الرحمة ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فكان في قوم يؤمنون بالآخرة ففعله ذلك لإظهار المعجزة بنوع أعلى مما كانوا يصلون إليه بالطب ، على أنه لا فرق في إظهار الخارق بين واحد وأكثر - والله سبحانه وتعالى الموفق .(1/512)
صفحة رقم 513
ولما أراه سبحانه وتعالى ملكوت الأرض صارت تلك الرؤية علماً علىعزة الله من وراء الملكوت في محل الجبروت فقال : ( واعلم أن الله ) أي المحيط علماً وقدرة ) عزيز ( ولما كان للعزة صولة لا تقوى لها فطر المخترعين نزل تعالى الخطاب إلى محل حكمته فقال : ( حكيم ( فكان فيه إشعار بأنه سبحانه وتعالى جعل الأشياء بعضها من بعض كائنة وبعضها إلى بعض عامدة وبعضها من ذلك البعض معادة
77 ( ) منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ( ) 7
[ طه : 55 ] وهذه الحكمة التي أشار إليها اسمه الحكيم حكمة ملكوتية جامعة لوصلة ما بين حكمة الدنيا وحكمة الآخرة ، لأن الحكيم بالحقيقة ليس من علمه الله حكمة الدنيا وألبس عليه جعله لها بل ذلك جاهلها كما تقدم ، إنما الحكيم الذي أشهده الله حكمة الدنيا أرضاً وأفلاكاً ونجوماً وآفاقاً وموالد وتوالداً ، وأشهده أنه حكيمها ، ومزج له علم حكمة موجود الدنيا بعلم حكمة موجود الآخرة ، وأراه كيفية توالج الحكمتين بعضها في بعض ومآل بعضها إلى بعض حتى يشهد دوران الأشياء في حكمة أمر الآخرة التي هي غيب الدنيا إلى مشهود حكمة موجود الآخرة ، وأراه كيفية توالج الحكمتين بعضها في بعض ومآل بعضها إلى بعض حتى يشهد دوران الأشياء في حكمة أمر الآخرة التي هي غيب الدنيا إلى مشهود حكمة الدنيا ثم إلى مشهود حكمة الآخرة كذلك عوداً على بدء وبدءاً علىعود في ظهور غيب الإبداء إلى مشهوده وفي عود مشهوده إلى غيبه
77 ( ) قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ( ) 7
[ غافر : 11 ] كذلك إلى المعاد الأعظم الإنساني
77 ( ) يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ( ) 7
[ التغابن : 9 ] فهذا هو الحكيم المتوسط الحكمة ، ثم وراء ذلك أمر آخر من على أمر الله متعالي تجلياته بأسماء وأوصاف يتعالى ويتعاظم للمؤمنين ويتبارك ويستعلن للموقنين الموحدين ، فله سبحانه وتعالى العزّة في خلقه وأمره وله الحكمة في خلقه وأمره ومن ورائها كلمته التي لا ينفد تفصيل حكمها
77 ( ) قل لو كان البحر مداداً ( ) 7
[ الكهف : 109 ] وكلماته لا تحد ولا تعد
77 ( ) ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ( ) 7
[ لقمان : 27 ] ، فهو العزيز الحكيم العلي العظيم - انتهى .
وهو أعلى من الجوهر الثمين وقد لاح بهذا أن قصد الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين بل إلى حق اليقين ، وكأنه عد المرتبة الدنيا من الطمأنينة بالنسبة غلى العليا عدماً ، وقيل : بل كان قصده بالسؤال رؤية المحيي ولكنه طلبها تلويحاً فأجيب بالمنع منها بوصف العزة تلويحاً ، وموسى عليه الصلاة والسلام لما سأل تصريحاً أجيب تصريحاً ، وسؤال الخليل عليه الصلاة والسلام ليس على وجه الشك ، وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) يرشد إلى ذلك ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشك ، وإذا انتفى الشك(1/513)
صفحة رقم 514
عن الأحق انتفى الشك عن غيره من باب الأولى ، ولئن سلمنا فالمراد أنه فعل مثل ما يفعل الشاك إطلاقاً لاسم الملزوم على اللازم في الجملة ، وأما نفس الشك فقد نفاه القرآن عنه ( صلى الله عليه وسلم ) تصريحاً بقوله ( بلى ) وتلويحاً بكون هذه الآية عقب آية محاجته لذلك الذي بهت ، نقل أن الشيخ أحمد أخا حجة الإسلام الغزالي سئل أيما أعلى المقام الإبراهيمي في سؤال الطمأنينة أو المقام العلوي القائل : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ؟ فقال : الإبراهيمي لقوله تعالى ) ) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ( ) [ النمل : 14 ] .
البقرة : ( 261 - 268 ) مثل الذين ينفقون. .. . .
) مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ( )
ولما انقضى جواب السؤال عن الملك الذي لا تنفع عنده شفاعة بغير إذنه ولا خلة ولا غيرهما وما تبع ذلك إلى أن ختم بقصة الأطيار التي صغت إلى الخليل بالإنفاق عليها والإحسان إليها ثنى الكلام إلى الأمر بالنفقة قبل ذلك اليوم الذي لا تنفع فيه الوسائل إلا بالوجه الذي شرعه بعد قوله : ( ) من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه(1/514)
صفحة رقم 515
له ( ) 7
[ الحديد : 11 ] نظراً إلى أول السورة تذكيراً بوصف ا لمتقين حثاً عليه ، فضرب لذلك مثلاً صريحة لمضاعفتها فاندرج فيه مطلق الأمر بها اندراج المطلق في المقيد وتلويحه الذي هو من جملة المشار إليه بحكيم للاحياء ، فصرح بأن النفقة المأمور بها من ذخائر ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه إلا ما شرعه وهو من جليل العزة ، وساقه على وجه يتضمن إحياء الموات الذي هو أنسب الأشياء لما قبله من نشر الأموات ، فهو إيماء إلى الاستدلال على البعث بأمر محسوس ، وذلك من دقيق الحكمة ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : إن خليلي عليه الصلاة والسلام لما كان من الراسخين في رتبة الإيمان أهّلته لامتطاء درجة أعلى من درجة الإيقان بخرق العادة في رفع الأستار على يده عن إحياء الأطيار وأقمت نمطاً من ذلك لعامة الخلق مطوياً في إحياء النبات على وجه معتاد فمن اعتبر به أبصر ومن عمي عنه انعكس حاله وأدبر فقال سبحانه وتعالى : ( مثل ( فكان كأنه قيل :
77 ( ) من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ( ) 7
[ الحديد : 11 ]
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا أنفقوا ( ) 7
[ البقرة : 254 ] فإنه مثل ) الذين ينفقون ) أي يبذلون ) أموالهم ( بطيب نفس ) في سبيل الله ) أي الذي له الكمال كله كمثل زارع مثل ما ينفقون ) كمثل حبة ( مما زرعه .
قال الحرالي : من الحب وهو تمام النبات المنتهي إلى صلاحية كونه طعاماً للآدمي الذي هو أتم الخلق ، فالحب أكمل من الثمرة طعامية والثمرة إدامية ) أنبتت ) أي بما جعل الله سبحانه وتعالى لها من قوة الإنبات بطيب أرضها واعتدال ريها ) سبع سنابل ( بأن تشعب منها سبع شعب في كل شعبة سنبلة وهو من السنبل .
قال الحرالي : وهو مجتمع الحب في أكمامه ، كأنه آية استحقاق اجتماع أهل ذلك الرزق في تعاونهم في أمرهم ، وتعريف بأن الحب يجمعه لا بوحدته ) في كل سنبلة مائة حبة ( فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها .
قال الحرالي : فضرب المثل للإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام بالحرث الذي هو كيميا عباده يشهدون من تثميره حيث تصير الحبة اصلاً ويثمر الأصل سنابل ويكون في كل سنبلة أعداد من الحب ، فكان ما ذكر تعالى هو أول الإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام وما يقبله من التكثير ، فإن ما أنبت أكثر من سبع إذا قصد بالتكثير أنبأ عنه بالسبع ، لأن العرب تكثر به ما هو أقل منه أو أكثر ، فجعل أدنى النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف ، ثم فتح تعالى باب التضعيف إلى ما لا يصل إليه عد - انتهى .
فالآية من الاحتباك وتقديرها : مثل الذين ينفقون ونفقتهم كمثل حبة وزارعها ، فذكر المنفق أولاً دليل على حذف الزارع ثانياً ، وذكر الحبة ثانياً دليل على حذف النفقة أولاً .
ولما كان التقدير : فكما ضاعف سبحانه وتعالى للزارع حبته فهو يضاعف للمنفق(1/515)
صفحة رقم 516
نفقته ، عطف عليه قوله : ( والله يضاعف لمن يشاء ( بما له من السعة في القدرة وكل صفة حسنى ) والله ) أي بما له من الكمال في كل صفة ) واسع ( لا يحد في صفة من صفاته التي تنشأ عنها أفعاله ) عليم ( فهو يضاعف لأهل النفقة على قدر ما علمه من نياتهم ؛ ولما ختم أول آيات هذه الأمثال بهاتين الصفتين ختم آخرها بذلك إشارة إلى أن سعته قد أحاطت بجميع الكائنات فهو جدير بالإثابة في الدارين ، وأن علمه قد شمل كل معلوم فلا يخشى أن يترك عملاً .
ولما كان الإنسان قد يزرع ما يكون لغيره بين أن هذا لهم بشرط فقال : - وقال الحرالي : ولما كان للخلافة وخصوصاً بالإنفاق موقع من النفس بوجوه مما ينقص التضعيف أو يبطله كالذي يطرأ على الحرث الذي ضرب به المثل مما ينقص نباته أو يستأصله نبه تعالى على ما يبطل ؛ انتهى .
فقال سبحانه وتعالى : ( الذين ينفقون ( ورغبهم في إصلاحها ورهبهم من إفسادها بإضافتها إليهم فقال : ( أموالهم ( وحث على الإخلاص في قوله : ( في سبيل الله ) أي الذي له الأسماء الحسنى .
ولما كانت النفس مطبوعة على ذكر فضلها وكان من المستبعد جداً تركها له نبه عليه بأداة البعد إعلاماً بعظيم فضله فقال : ( ثم لا يتبعون ما أنفقوا ( بما يجاهدون به أنفسهم ) مناً ( قال الحرالي : وهو ذكره لمن أنفق عليه فيكون قطعاً لوصله بالإغضاء عنه لأن أصل معنى المنّ القطع ) ولا أذى ( وهو ذكره لغيره فيؤذيه بذلك لما يتعالى عليه بإنفاقه - انتهى .
وكذا أن يقول لمن شاركه في فعل خير : لو لم أحضر ما تم ، وتكرير ) لا ( تنبيه على أن انتفاء كل منهما شرط لحصول الأجر ) لهم ( ولم يقرنه بالفاء إعلاماً بأنه ابتداء عطاء من الله تفخيماً لمقداره وتعظيماً لشأنه حيث لم يجعله مسبباً عن إنفاقهم ) أجرهم ) أي الذي ذكره في التضعيف فأشعر ذلك أنه إن اقترن بما نهي عنه لم يكن لهم ، ثم زادهم رغبة بقوله : ( عند ربهم ) أي المحسن إليهم بتربيتهم القائم على ما يقبل من النفقات بالحفظ والتنمية حتى يصير في العظم إلى حد يفوت الوصف ) ولا خوف عليهم ( من هضيمة تلحقهم ) ولا هم يحزنون ( على فائت ، لأن ربهم سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً من الفضل اللائق بهم إلا أوصله إليهم .
ولما أفهم هذا وهي ما لا يقترن بالشرط من الإنفاق فتشوقت النفس إلى الوقوف على الحقيقة من أمره صرح به في قوله : ( قول معروف ( قال الحرالي : وهو ما لا يوجع قلب المتعرض بحسب حاله وحال القائل .
ولما كان السائل قد يلح ويغضب من الرد وإن كان بالمعروف من القول فيغضب المسؤول قال : ( ومغفرة ( للسائل إذا أغضب من رده ) خير من صدقة ( وهي الفعلة التي يبدو بها صدق الإيمان بالغيب من حيث إن(1/516)
صفحة رقم 517
الرزق غيب فالواثق منفق تصديقاً بالخلف إعلاماً بعظم فضله ) يتبعها أذى ( بمن أو غيره ، لأنه حينئذ يكون جامعاً بين نفع وضر وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر ) والله ) أي والحال أن الملك الذي لا أعظم منه ) غني ( فهو لا يقبل ما لم يأذن فيه .
ولما رهب المتصدق بصفة الغني رغبة في الحلم عمن أغضبه بكفران الإحسان أو الإساءة في القول عند الرد بالجميل فقال : ( حليم ) أي لا يعاجل من عصاه بل يرزقه وينصره وهو يعصيه ويكفره .
ولما شرط لقبولها شرطاً ووهّى ما عري منها عنه أتبعه التصريح بالنهي عن إهماله والنص على محقه لها وإبطاله وضرب لذلك مثلاً وضرب للمثل مثلاً مبالغة في الزجر عن ذلك فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بذلك صدقوا إقراركم بأن ) لا تبطلوا ( قال الحرالي : فبين أن ما اشترطه في الأجر المطلق مبطل للإنفاق - انتهى ) صدقاتكم بالمن والأذى ( فربما وازى عقابهما ثواب الصدقة أو زاد فكان كالإبطال لأوله إلى أن لا ثواب .
قال الحرالي : فألحق عمل الإخلاص بآفة ما تعقبه بما بني على أصل الرياء - انتهى .
فقال : ( كالذي ينفق ماله ( لغر الله ، إنما ينفقه ) رئاء الناس ) أي لقصد أ ن يروه .
قال الحرالي : هو الفعل المقصود به رؤية الخلق غفلة عن رؤية الحق وعماية عنه .
ولما شبه المانّ والمؤذي بالمرائي لأنه أسقط الناس وأدناهم همة وأسوؤهم نظراً وأعماهم قلباً فأولو الهمم العلية لا سيما العرب أشد شيء نفرة منه وأبعده عنه وكان لمن يرائي حالان ألحقه بأشدهما فقال : ( ولا يؤمن بالله ) أي الذي له صفة الكمال ) واليوم الآخر ( الذي يقع فيه الجزاء بعد نقد الأعمال جيدها من رديئها .
قال الحرالي : ولما ضرب مثلاً لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلاً لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال : ( فمثله ( في إنفاقه مقارناً لما يفسده ، ومثل نفقته ) كمثل صفوان ( وما زرع عليه ، وهو صيغة مبالغة من الصفا وهي الحجارة الملس الصلبة التي لا تقبل انصداعها بالنبات - انتهى .
) عليه تراب ( فاغتر به بعض الجهلة فزرع عليه .
ولما كانت إزالة التراب عما وقع عليه عقب وقوعه أجدر ما زالت بحذافيره ولا سيما إن كان حجراً أملس قال إبلاغاً في إبطال الرياء للعمل : ( فأصابه ) أي عقب كون التراب عليه من غر مهمة بخلاف ما يأتس من الربوة فإنها صفة لازمة فلو تعقبها المطر لدام بدوامها فأفسدها ) وابل ) أي مطر كثير فأزال التراب عنه ) فتركه صلداً ) أي صخراً لا يقبل النبات بوجه بل يخيب من يأمله كما يقال أصله الزند إذا لم يور ، فجعل قلب المؤذي المانّ بمنزلة الصفوان الذي أصابه وابل المطر ، فأذهب عائد نفقته كما أذهب بذر الحارث على الصفوان وابل المطر الذي شأنه أن يصلح البذر - قاله الحرالي وفيه(1/517)
صفحة رقم 518
تصرف .
ولما بان بهذا بطلان العمل في المثل والممثول ترجمة بقوله : ( لا يقدرون ) أي الممثل لهم والممثل بهم ) على شيء مما كسبوا ( فالآية من الاحتباك ولما كان الزارع على مثل هذا عجباً في الضلال والغباوة وكان التقدير : فإن الله لا يقبل عمل المؤذين كما لا يقبل عمل المرائين ، عطف عليه معلماً أنه يعمي البصراء عن أبين الأمور إذا أراد ومهما شاء فعل قوله : ( والله ( الذي له الحكمة كلها ) لا يهدي ) أي لوجه مصلحة .
ولما كان كل من المؤذي والمرائي قد غطى محاسن عمله بما جره من السوء قال : ( القوم الكافرين ( وفي ذكره ولهذه الجملة وحدها أشد ترهيب للمتصدق على هذا الوجه .
ولما فرغ من مثل العاري عن الشرط ضرب للمقترن بالشرط من الإنفاق مثلاً منبهاً فيه على أن غيره ليس مبتغى به وجه الله فقال : ( ومثل ( قال الحرالي : عطفاً على ) الذي ينفق ماله رئاء الناس ( ) ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ( عطف مقابلة وعلى
77 ( ) مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ( ) 7
[ البقرة : 261 ] عطف مناسبة - انتهى .
) الذين ينفقون أموالهم ) أي مثل نفقاتهم لغير علة دنياوية ولا شائبة نفسانية بل ) ابتغاء مرضات الله ) أي الذي له الجلال والإكرام فلذلك صلح كل الصلاح فعري عن المن والأذى وعيرهما من الشوائب الموجبة للخلل قال الحرالي : والمرضاة مفعلة لتكرر الرضى ودوامه - انتهى .
) وتثبيتاً من أنفسهم ( بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم والصفح والصبر على جميع مشاق التكاليف فإن من راض نفسه بحملها على بذل المال الذي هو شقيق الروح وذلت له خاضعة وقل طمعها في اتباعه لشهواتها فسهل عليه حملها على سائر العبادات ، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طمعاً في اتباع الشهوات ولزوم الدناءات ، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قولهم : لين من عطفه وحركك من نشاطه ) كمثل جنة ) أي بستان ومثل صاحبها .
قال الحرالي : ولما كان حرث الدنيا حباً وثمراً جعل نفقات الأخرى كذلك حباً وتمراً .
فمن أنفق في السبيل جعل مثله كالحب ، ومن أنفق ابتغاء لمرضاة الله جعل مثله كالجنة التي لها أصل ثابت تدور عليها الثمرات وهي ثابتة وتستغني من الماء بما لا يستغني به الحرث لأن الحرث مستجد ي كل وقت ، كما أن الجهاد واقع عند الحاجة إليه والمنفق ابتغاء مرضاة الله ينفق في كل وجه دائم الإنفاق ، فكان مثله مثل الجنة الدائمة ليتطابق المثلان بالممثولين ، فعمت هذه النفقة جهات الإنفاق كلها في جميع سبل الخير - انتهى .
) بربوة ) أي مكان عال ليس بجبل .
قال الحرالي : في إعلامه أن خير الجنات ما كان في الربوة لتنالها الشمس وتخترقها الرياح(1/518)
صفحة رقم 519
اللواقح ، فأما ما كان من الجنان في الوهاد تجاوزتها الرياح اللواقح من فوقها فضعفت حياتها ، لأن الرياح هي حياة النبات ( الريح من نفس الرحمن ) انتهى .
ثم وصفها بقوله : ( أصابها وابل ) أي مطر كثير ) فأتت أكلها ) أي أخرجته بإذن الله سبحانه وتعالى حتى صار في قوة المعطي ) ضعفين ) أي مثل ما كانت تخرجه لو أصابها دون الوابل - كذا قالوا : مثلين ، والظاهر أن المراد أربعة أمثاله ، لأن المراد بالضعف قدر الشيء ومثله معه فيكون الضعفان أربعة - والله سبحانه وتعالى أعلم ؛ والآية من الاحتباك ، ذكر المنفق أولاً دال على حذف صاحب الجنة ثانياً ، وذكر الجنة ثانياً دال على حذف النفقة أولاً .
ولما كان الوابل قد لا يوجد قال : ( فإن لم يصبها وابل فطل ( اي فيصيبها لعلوها طل ، وهو الندى الذي ينزل في الضباب .
وقال الحرالي : الطل سن من أسنان المطر خفي لا يدركه الحس حتى يجتمع ، فإن المطر ينزل خفياً عن الحس وهو الطل ، ثم يبدو بلطافة وهو الطش ، ثم يقوى وهو الرش ، ثم يتزايد ويتصل وهو الهطل ، ثم يكثر ويتقارب وهو الوابل ، ثم يعظم سكبه وهو الجود ؛ فله أسنان مما لا يناله الحس للطافته إلى ما لا يحمله الحس كثرة - انتهى .
والمعنى أن أهل هذا الصنف لا يتطرق غلى أعمالهم فساد ، غايتها أن يطرقها النقص باعتبار ضعف النيات ، ولذلك كان التقدير تسبيباً عن ذلك : فالله بما تستحقون على نياتكم عليم ، فعطف عليه قوله : ( والله ) أي المحيط علماً وقدرة ) بما تعملون ) أي بما ظهر منه ) بصير ( كما هو كذلك بما بطن ، فاجتهدوا في إحسان الظاهر والباطن .
وقدم مثل العاري عن الشرط عليه لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح .
ولما قدم سبحانه وتعالى أن المن مبطل للصدقة ومثله بالرياء وضرب لهما مثلاً ورغب في الخالص وختم ذلك بما يصلح للترهيب من المن والرياء رجع إليهما دلالة على الاهتمام بهما فضرب لهما مثلاً أوضح من السالف وأشد في التنفير عنهما والبعد منهما فقال - وقال الحرالي : ولما تراجع خبر الإنفاقين ومقابلهما تراجعت أمثالها فضرب لمن ينفق مقابلاً لمن يبتغي مرضاة الله تعالى مثلاً بالجنة المخلفة ، انتهى .
فقال - منكراً على من يبطل عمله كأهل مثل الصفوان بعد كشف الحال بضرب هذه الأمثال : ( أيود أحدكم ) أي يحب حباً شديداً ) أن تكون له جنة ) أي حديقة تستر داخلها وعين هنا ما أبهمه في المثل الأول فقال : ( من نخيل ( جمع نخلة وهي الشجرة القائمة على ساق الحية من أعلاها أشبه الشجر بالآدمي ، ثابت ورقها ، مغذ مؤدم ثمرها ، في كليتها نفعها حتى في خشبها طعام للآدمي بخلاف سائر الشجر ، مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله ) وأعناب ( جمع عنب وهو شجر متكرم لا يختص ذهابة بجهة العلو اختصاص(1/519)
صفحة رقم 520
النخلة بل يتفرع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة ، مثله مثل المؤمن المتقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة - قاله الحرالي .
ولما كانت الجنان لا تقوم وتدومها إلا بالماء قال : ( تجري من تحتها الأنهار ) أي لكرم أرضها .
وقال الحرالي : وفي إشعاره تكلف ذلك فيها بخلاف الأولى التي هي بعل فإن الجائحة في السقي أشد على المالك منها في البعل لقلة الكلفة في البعل ولشدة الكلف في السقي - انتهى .
ولما وصفها بكثرة الماء ذكر نتيجة ذلك فقال : ( له فيها من كل الثمرات ) أي مع النخل والعنب .
ولما ذكر كرمها ذكر شدة الحاجة إليها فقال : ( وأصابه ) أي والحال أنه أصابه ) الكبر ( فصار لا يقدر على اكتساب ) وله ذرية ضعفاء ( بالصغر كما ضعف هو بالكبر ) فأصابها ) أي الجنة مرة من المرات ) إعصار ) أي ريح شديدة جداً .
قال الحرالي : صيغة اشتداد بزيادة الهمزة والألف فيه من العصر وهو الشدة المخرجة لخبء الأشياء ، والإعصار ريح شديدة في غيم يكون فيها حدة من برد الزمهرير ، وهو أحد قسمي النار ، نظيره من السعير السموم .
وقال الأصفهاني : ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود ) فيه نار ، فاحترقت ( تلك الجنة وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال .
قال الحرالي : من الاحتراق وهو ذهاب روح الشيء وصورته ذهاباً وحياً بإصابة قاصف لطيف يشيع في كليته فيذهبه ويفنيه ؛ فجعل المثل الول في الحب أي الذي على الصفوان لآفة من تحته .
وجعل المثل في الجنة يجائحة من فوقه كأنهما جهتا طرو العلل والآفات من جهة أصل أو فرع - انتهى .
فحال من رأى في أعماله أو آذى في صدقة ماله في يوم القيامة وأهواله كحال هذا في نفسه وعياله عند خيبة آماله ، وروى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن عبيد بن عمير قال قال عمر رضي الله تعالى عنه لأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فيم ترون هذه الآية نزلت ) أيود أحدكم ( إلى أن قال : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : ضربت مثلاً لعمل ، قال عمر رضي الله تعالى عنه : أيّ عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل ، قال عمر رضي الله تعالى عنه : لرجل غني يعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ) .
ولما بين لهم هذا البيان الذي أبهت بلغاء الإنس والجان نبههم على تعظيمه لتبجيله(1/520)
صفحة رقم 521
وتكريمه بقوله مستأنفاً : ( كذلك ) أي مثل هذا البيان ) يبين الله ) أي الذي له الكمال كله ) لكم الآيات ) أي كلها ) لعلكم تتفكرون ) أي ليكون حالكم حال من يرجى أن يحمل نفسه على الفكر ، ومن يكون كذلك ينتفع بفكره .
وقال الحرالي : فتبنون الأمور على تثبيت ، لا خير في عبادة إلا بتفكر ، كما أن الباني لا بد أن يفكر في بنائه ، كما قال الحكيم : أول الفكرة آخر العمل وأول العمل آخر الفكرة ، كذلك من حق أعمال الدين أن لا تقع إلا بفكرة في إصلاح أوائلها السابقة وأواخرها اللاحقة ، فكانوا في ذلك صنفين بما يشعر به ) لعلكم ( مطابقين للمثل متفكر مضاعف حرثه وجنته وعامل بغير فكرة تستهويه أهواء نفسه فتلحقه الآفة في عمله في حرثه وجنته من سابقه أو لاحقه - انتهى .
ولما رغب في الفعل وتخليصه عن الشوائب أتبعه المال المنفق منه فأمر بطيبه فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ) أنفقوا ) أي تصديقاً لإيمانكم ) من طيبات ما كسبتم ( وإنما قدم الفعل لأنه ألصق بالإنسان وتطييبه أعم نفعاً ، ولما ذكر ما أباحه سبحانه وتعالى من أرباح التجارات ونحوها أتبعه ما أباحه من منافع النباتات ونحوها منبهاً بذلك على أن كل ما يتقلب العباد فيه من أنفسهم وغيرها نعمة منه أنشأها من الأرض التي أبدعها من العدم ترغيباً في الجود به وفي جعله خياراً حلالاً وترهيباً من الشح به وجعله ديناً أو حراماً فقال : ( ومما أخرجنا ) أي بعظمتنا ) لكم ( نعمة منا عليكم ) من الأرض ( قال الحرالي : قدم خطاب المكتسبين بأعمالهم كأنهم المهاجرون وعطف عليهم المنفقين من الحرث والزرع كأنهم الأنصار - انتهى .
ولما أمر بذلك أكد الأمر به بالنهي عن ضده فقال : ( ولا تيمموا ) أي لا تتكلفوا أن تقصدوا ) الخبيث منه ) أي خاصة ) تنفقون ( قال الحرالي : الخبيث صيغة مبالغة بزيادة الياء من الخبث وهو ما ينافر حس النفس : ظاهره وباطنه ، في مقابله ما يرتاح إليه من الطيب الذي ينبسط إليه ظاهراً وباطناً ، وقال : ففي إلاحته معنى حصر كأنهم لا ينفقون إلا منه ليتجاوز النهي من ينفق من طيبه وخبيثه على غير قصد اختصاص النفقة من الخبيث - انتهى .
ثم أوضح قباحة ذلك بقوله : ( ولستم بآخذيه ) أي إذا كان لكم على أحد حق فأعطاكموه ) إلا أن تغمضوا ) أي تسامحوا ) فيه ( بالحياء مع الكراهة .
قال الحرالي : من الإغماض وهو الإغضاء عن العيب فيما يستعمل ، أصله من الغمض وهي نومة تغشي الحس ثم تنقشع ، وقال : ولما كان الآخذ هو الله سبحانه وتعالى ختم بقوله : ( واعلموا ( انتهى .
وعبر بالاسم الأعظم فقال : ( أن الله ( المستكمل لجميع صفات الكمال من الجلال والجمال ) غني ( يفضل على من أسلف خيراً رغبة فيما عنده(1/521)
صفحة رقم 522
وليست به حاجة تدعوه إلى أخذ الرديء ولا رغبكم في أصل الإنفاق لحاجة منه إلى شيء مما عندكم وإنما ذلك لطف منه بكم ليجري عليه الثواب والعقاب ) حميد ( يجازي المحسن أفضل الجزاء على أنه لم يزل محموداً ولا يزال عذب أو اثاب .
قال الحرالي : وهي صيغة مبالغة بزيادة ياء من الحمد الذي هو سواء أمر الله الذي لا تفاوت فيه من جهة إبدائه وافق الأنفس أو خالفها .
ولما رغب سبحانه وتعالى في الإنفاق وختم آياته بما يقتضي الوعد من أصدق القائلين بالغنى والإثابة في الدارين أتبعه بما للعدو الكاذب من ضد ذلك فقال محذراً من البخل - في جواب من كأنه قال : هذا ما لا يشك فيه فما للنفوس لا توجد غالباً إلا شحيحة بالإنفاق - : ( الشيطان ) أي الذي اسمه أسوأ الأسماء ، فإنه يقتضي الهلاك والبعد ، وأحد الوصفين كاف في مجانبته فكيف إذا اجتمعا ) يعدكم الفقر ( المانع من الإنفاق .
قال الحرالي : الذي لخوفه تقاطع أهل الدنيا وتدابروا وحرصوا وادخروا .
وكل ذلك لا يزيل الفقر ، كل حريص فقير ولو ملك الدنيا ، وكل مقتنع غني ، ومن حق من كان عبداً لغني أن يتحقق أنه غني يغني سيده ، ففي خوف الفقر إباق العبد عن ربه ؛ والفقر فقد ما إليه الحاجة في وقت من قيام المرء في ظاهره وباطنه - انتهى .
) ويأمركم بالفحشاء ( المبطلة له من المن والأذى وغيرهما من مستلذات الأنفس وربما كان فيها إتلاف الأموال وإذهاب الأرواح .
وقال الحرالي : وكل ما اجتمعت عليه استقباحات العقل والشرع والطبع فهو فحشاء ، وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء ، لمناسبة ذكر الفقر ، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله انتهى وفيه تصرف .
ولما ذكر ما للعدو من الشر أتبعه سبحانه وتعالى بما له من الخير فقال مصرحاً بما تقدم التلويح به : ( والله ) أي الذي له الأسماء الحسنى و الصفات العلى الرحيم الودود ) يعدكم مغفرة منه ( لما وقع منكم من تقصير ، وفيه إشعار بأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره لما له من الإحاطة بصفات الكمال ولما جبل عليه الإنسان من النقص ) وفضلاً ( بالزيادة في الدارين ، وكل نعمة من فضل ؛ ثم أكد ذلك بقوله : ( والله ) أي المحيط بكل كمال ) واسع ( لتضمنه معنى حليم غني ، وأتبعه بقوله : ( عليم ( إشارة إلى أنه لا يضيع شيئاً وإن دق .
قال الحرالي : وفي إشعاره توهين لكيد الشيطان ووعد كريم للمفتون بخوف الفقر وعمل الفحشاء لما علمه من ضعف الأنفس وسرعة قبولها من الوسواس - انتهى .
فختم آخر آيات الأمثال بما ختم به أولها ترغيباً وترهيباً .(1/522)
صفحة رقم 523
البقرة : ( 269 - 274 ) يؤتي الحكمة من. .. . .
) يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ( )
ولما انقضى الكلام في الإنفاق والمال المنفق على هذا الأسلوب الحكيم تصريحاً وتلويحاً وختم ذلك بهاتين الصفتين وتضمن ذلك مع التصريح بأنه عليم أنه حكيم أتبع ذلك الوصف بأن من سعته وعلمه وحكمته أنه يهب من صفاته ما يشاء لمن يشاء بأن يؤتيه الحكمة فيوقفه على علم ما خفي من هذه الأمثال المتقنة والأقوال الحسنة تصريحاً وتلويحاً ويوفقه للعمل بذلك إنشاء وتصحيحاً فقال تعالى منبهاً على ترجيح العمل بأمر الرحمن وقبول وعده بأنه على مقتضى العقل والحكمة وأن أمر الشيطان ووعده على وفق الهوى والشهوة : - وقال الحرالي : ولما أبدى سبحانه وتعالى أمر الآخرة وأظهر ما فيها وبين أمر الدنيا من الترتيب والتسبيب ورجع بعضها على بعض عوداً على بدء أنبأ تعالى أن ذلك من حكمته وأنهى الحكمة لما فيها من استيفاء حكمة الدارين فليس الحكيم من علم أمر الدنيا بل من علم أمر ما بين الدنيا والآخرة فداوى أدواء الدنيا بدواء الآخرة وداوى النفس بدواء الدارين وضم جوامعها في تيسير الكلم كما ضمّها لمن اصطفاه ) ) ذلك مما أوحى إليك ربّك من الحكمة ( ) [ النحل : 39 ] فقال سبحانه وتعالى : ( يؤتي الحكمة ( انتهى .
وفي ترتيبها على واسع عليم بعد غني حميد بعد عزيز حكيم التحذير من التعريض لإنفاق ما يرده لعزته وغناه وسعته ويذم عليه لعلمه لرداءته أو فساد في نيته وإن خفي فإن ذلك خارج عن منهاج الحكمة منا ومقتضى الحكمة منه سبحانه وتعالى كما وقع لقابيل إذ قرب رديئاً كما هوم شهور في قصته ، ولعله لوح إليه بالتذكر في ختام هذه الآية ثم بقوله : ( وما للظالمين من أنصار ( فصار كأنه قال سبحانه وتعالى :(1/523)
صفحة رقم 524
واعلم أن الله عزيز حكيم يؤتي الحكمة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم ) من يشاء ( من عباده ، ثم مدح من حلاه بها فقال مشيراً ببناء الفعل للمفعول إلى أنها مقصودة في نفسها : ( ومن يؤت الحكمة ) أي التي هي صفة من صفاته ، وأشار بالتعريف إلى كمالها بحسب ما تحتمله قوى العبيد ، والحكمة قوة تجمع أمرين : العلم المطابق وفعل العدل وهو العمل على وفق العلم .
قال الأصبهاني : والقرآن مملوء من الآيات الدالة على أن كمال الإنسان ليس إلا هاتين القوتين ) فقد أوتي خيراً كثيراً ( قال الحرالي ما معناه : إنه نكرة لما في الحكمة من التسبب الذي فيه كلفة ولو يسرت فكان الخير الكثير المعرف في الكلمة لما فيها من اليسر والحياطة والإنالة الذي لا ينال منه منال بسبب وإنما هو فضله يؤتيه من يشاء فيصير سبحانه وتعالى سمعه وبصره - إلى آخره .
ولما كان التقدير : فإن ذلك الذي أوتي الحكمة يصير ذا لبّ فيتأهل لأن يتذكر بما يلقيه الله سبحانه وتعالى من كلمته ما بثّ في الأنفس والآفاق من حكمته وصل به قوله : ( وما يذكر ) أي بكلام الله سبحانه وتعالى حكمه ) إلا أولوا الألباب ) أي أصحاب العقول الصافية عن دواعي الهوى المنبعثة من التوهمات الحاصلة عن الوسوسة فهم يترقون بالتذكر بأنهم لا حول لهم عن المسببات إلى أسبابها إلى أن يصلوا إلى مسببها فيعرفوه حق معرفته .
وقال الحرالي : الذين لهم لب العقل الذي ينال لب الحس كأن الدنيا قشر تنال بظاهر العقل ، والآخرة لب تنال بلب العقل ظاهراً لظاهر وباطناً لباطن ، من تذكر ابتداء من الابتداءات السابقة ورد عليه فضل الله منه ، من رجع من حسه إلى نفسه تنشأت له أوصاف الفضائل النفسانية وترقى عما في محسوسه من المهاوي الشهوانية ، ومن تخلص من نفسه إلى روحه تحسس بالوصلة الرحمانية والمحبة الربانية ، كذلك من ترقى من روحه إلى أمره تحقق بالإحاطة الوحدانية ، ومن استبطن من أمره إلى سره اجتمع إلى الأولية الفردانية ؛ فهذا الترتيب من كمالات هذه الحكمة المؤتاة المنزلة بالوحي في هذا الكتاب الجامع لنبأ ما سبق وخبر ما لحق وباطن ما ظهر أنهى تعالى إلى ذكرها أعمال الخلق وخصوصاً في الجود بالموجود كما أنهى إقامة مبنى الدين بظهور وجوده ، فأنهى تنزيل أمره بظهور وجوده وأنهى استخلاف عباده بالانتهاء إلى مدد جوده ، فكان أعلى الحكمة الجود بالموجود فبذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - اتصل ذكر آية الحكمة بالإنفاق نظماً وبآية الكرسي مناظرة - انتهى .
ولما كان السياق سابقاً ولاحقاً للإنفاق علم أن التقدير : فما جمعتم من شيء فإن الله مطالبكم في وضعه وجمعه بوجه الحكمة ومحاسبكم على ذلك ، فعطف عليه حثّاً(1/524)
صفحة رقم 525
على الإسرار بالنفقة في الخير والوفاء بالنذر وتحذيراً من الإنفاق في المعصية ولو على أدق الوجوه بأنه يعلم ذلك كله ويجازي عليه قوله : ( وما أنفقتم من نفقة ) أي في وجه من الوجوه ، فدخل فيه جميع التوسعات المشروعات عند النكاح والختان والولادة واتخاذ المسكن وفي الدعوات للإخوان وغير ذلك .
ولما كان الإنسان كثيراً ما يخشى فوات أمر فينذر إن حصل بنفقة في وجه خير ونحو ذلك ولكن ربما ظن أن الترغيب في الإنفاق خاص بما ندب الله إليه ابتداء لا بما ألزمه الإنسان نفسه قال ) أو نذرتم من نذر ( وإدخال من لتأكيد الاستغراق .
قال الحرالي : والنذر إبرام العدة بخير يستقبل فعله أو يرتقب له ما يلتزم به وهو أدنى الإنفاق لا سيما إذا كان علىوجه الاشتراط ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنما يستخرج به من البخيل ) انتهى .
) فإن الله ( عظم الأمر بهذا الاسم الأعظم ) يعلمه ( ذكر الضمير لأنه مع وضوح عوده إلى المتقدم أشد تعظيماً للنذر لما قد يتوهم فيه من النقص عن مندوب الشرع فتحروا في طيب ذلك والوفاء به وجميع ما يدخل فيه من الأوامر والنواهي تحري من يطلب إرضاء ملك عظيم بما يهدي إليه ويعرضه عليه ، فما تصرفتم فيه بالحكمة من إنفاق أو غيره فالله سبحانه وتعالى يجازيكم عليه على حسب ما ذكر لكم من التضعيف ، ومن فعل منكم شيئاً منه على غير وجه الحكمة فهو ظالم واضع للشيء في غير موضعه فهو مردود عليه ومعاقب به وما له من ناصر ، هكذا كان الأصل ولكنه سبحانه وتعالى عم وعلق الحكم بالوصف فقال : ( وما للظالمين ) أي الواضعين للشيء في غير موضعه ) من أنصار ( قال الحرالي : ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر فيجد له نصيراً ولا يجد الظالم بوضع القهر موضع البر ناصراً ، وفيه اسغراق نفي بما تعرب عنه كلمة من - انتهى .(1/525)
صفحة رقم 526
ولما كان حال الإنفاق المحثوث عليه يختلف بالسر والجهر فكان مما يسأل عنه قال سبحانه وتعالى حاثاً على الصدقة في كلتا الحالتين مع ترجيح الإسرار لما فيه من البعد عن الرياء : ( إن تبدوا الصدقات ) أي المتطوع بها ، قال الحرالي : وهي من أدنى النفقة ولذلك لا تحل لمحمد ولا لآل محمد لأنها طهرة وغسول يعافها أهل الرتبة العلية والاصطفاء ، وقال : والهدية أجل حق المال لأنها لمن فوق رتبة المهدي والهبة لأنها للمثل ) فنعماً هي ( فجمع لها الأمداح المبهمة لأن نعم كلمة مبالغة تجمع المدح كله وما كلمة مبهمة تجمع الممدوح فتطابقتا في الإبهام ؛ وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح : إن نغم ، وبِئْس للمبالغة فالمراد بهما التناهي في المدح والذم ولاختصاصهما بهذا المعنى منعتا التصرف ، واقتصر بهما على المعنى لأن المدح والذم إنما يكونان متعلقين بما ثبت واستقر ، لا يمدح الإنسان بما لم يقع منه - انتهى .
) وإن تخفوها ( حتى لا يعلم بها إلا من فعلتموها له .
ولما كان المقصود بها سد الخلة قال : ( وتؤتوها الفقراء فهو ) أي فذلك الإخفاء والقصد للمحتاج ) خير لكم ( لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات ، وفي تعريفها وجمعها ما ربما أشعر بعموم الفرض والنفل لما في إظهار المال الخفي من التعرض للظلم والحسد وفي إفهام السياق أن الصدقة تجوز على الغني .
ولما كان التقدير : فإنا نرفع بها درجاتكم ، عطف عليه قوله : ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) أي التي بيننا وبينكم .
ولما كان التقدير : فلا تخافوا من إخفائها أن يضيع عليكم شيء منها فإن الله بكل ما فعلتموه منها عليم ، عطف عليه تعميماً وترغيباً وترهيباً : ( والله ) أي الذي له كل كمال ) بما تعملون ) أي من ذلك وغيره ) خبير ( فلم يدع حاجة أصلاً إلى الإعلان فعليكم بالإخفاء فإنه أقرب إلى صلاح الدين والدنيا فأخلصوا فيه وقروا عيناً بالجزاء عليه .
ولما حث سبحانه وتعالى على وجوه الخير ورغب في لزوم الهدى وكان أكثرهم معرضين ، لأن ما دعا إليه هادم لما جبلوا عليه من الحب لتوفير المال والحفيظة على النفس ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الأسف عليهم دائم القلق من أجلهم لعظيم رحمته لهم وشفقته عليهم ، فكان يجد من تقاعدهم عما يدعوهم إليه من هذه الحالة العلية التي هي حكمة الله التي رأسها الإيمان بالله واشتراء الآخرة بكلية الدنيا وجداً شديداً ، خفض سبحانه(1/526)
صفحة رقم 527
وتعالى عليه الأمر وخفف عليه الحال فقال : ( ليس عليك ) أي عندك ) هداهم ( حتى تكون قادراً عليه ، فما عليك إلا البلاغ ، وأما خلق الهداية لهم فليس عليك ولا تقدر عليه ) ولكن الله ( الذي لا كفوء له هو القادر على ذلك وحده فهو ) يهدي من يشاء ( فظهر من هذا أنه يتعين أن يكون عليك بمعنى عندك ومعك ونحو ذلك ، لأن لكن للاستدراك وهو أن يكون حكم ما بعدها مخالفاً لما قبلها وكلام أهل اللغة يساعد على ذلك ، قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي : في حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما : كنت أضحي بالجذع وعلينا ألف شاة ، معناه : وعندنا ألف شاة ، تقول العرب : علينا كذا وكذا ، أي مننا - فسره قاسم ؛ انتهى .
وهو يرجع إلى القدرة كما تقول : عليّ رضى فلان ، أي أنا مطيق لذلك قادر على حمله ، فالمعنى : لست تقدر على إيجاد الاهتداء فيهم أصلاً وإنما ذلك إلى الله سبحانه وتعالى فهو يهدي من يشاء فيفعل ما يقدره سبحانه له من وجوه الهدى من نفقة وغيرها .
قال الحرالي ما معناه : إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم من أول مراد بهذه الجملة لأنه سبحانه وتعالى جعل فيهم نصرة دينه .
ولما كان المقصود الأعظم في هذه الحكمة وهذا الهدى إنما هو الهدى للتوسل إلى الجواد بالجود بالنفس والمال النائل عموماً القريب والبعيد والمؤمن والكافر بمنزلة المطر الجود الذي يأخذ السهل والجبل حتى كان هذا الخطاب صارفاً لقوم تحرجوا من الصدقة على فقراء الكفار وصلة قراباتهم منهم فحملوا على عموم الإنفاق - انتهى .
فقال سبحانه وتعالى : ( وما تنفقوا من خير ) أي مال ومعروف على مؤمن أو كافر يحل فعل ذلك معه ولو قل ( لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ) ) فلأنفسكم ( كما قيل له ( صلى الله عليه وسلم ) عن شاة ذبحت : ذهبت أي بالهدية والصدقة إلا رقبتها فقال : بقيت إلا رقبتها فهو يفهم أنكم إن بخلتم أو مننتم فإنما تفعلون ذلك بأنفسكم .
ولما كان الكلام في النفقة مع المؤمنين المنفقين وفي سبيل الله وعبر عنها بالخير وكل ذلك إشارة إلى الإخلاص الحري بحال المؤمن فقال : ( وما ) أي والحال أنكم ما ) تنفقون إلا ابتغاء ) أي إرادة .
ولما كان تذكر الوجه لما له من الشرف أدعى إلى(1/527)
صفحة رقم 528
الاجتهاد في تشريف العمل بإحسانه وإخلاصه قال : ( وجه الله ) أي الملك الأعظم من سد خلة فقير أو صلة رحم مسلم أو كافر تجوز الصدقة علهي لا لأنفسكم ولا غيرها بل تخلصاً من إمساك المال بأداء الأمانة فيه إلى عباد الله لأنهم عباده ، هذا هو الذي يدعو إليه الإيمان فلا يظن لمؤمن أن يفعل غيره وذلك يقتضي البعد جداً عن الأذى والرياء وكل نقيصة والملابسة لكل ما يوجب القبول من الكمال الحسي والمعنوي .
ولما كان الإيقان بالوفا مرغباً في الإحسان ومبعداً من الإساءة والامتنان خوفاً من جزاء الملك الديان قال ) وما تنفقوا من خير ) أي على أي وجه كان وبأي وصف كان التصدق والمتصدق عليه ) يوف ) أي يبالغ في وفائه بالتضعيف واصلاً ) إليكم وأنتم لا تظلمون ) أي لا يقع عليكم ظلم في ترك شيء مما أنفقتموه ولا في نقص مما وعدتموه من التضعيف إن أحسنتم والمماثلة إن أسأتم .
ولما كان غالب هذه الأحكام التي ذكرت في الإنفاق من أجل المحاويج وكان ما مضى شاملاً للمؤمن وغيره بيّن أن محط القصد في الحثّ عليها المؤمن قال سبحانه وتعالى : ( للفقراء ) أي هذه الأحكام لهم ) الذين أحصروا ) أي منعوا عن التكسب ، وأشار بقوله : ( في سبيل الله ) أي الذي له الجلال والإكرام إلى أن المقعد لهم عن ذلك الاشتغال بإقامة الدين بالجهاد وغيره ) لا يستطيعون ضرباً في الأرض ( بالتجارة لأجل ذلك وأشار إلى شدة رضاهم عن الله سبحانه وتعالى بعدم شكايتهم فقال : ( يحسبهم الجاهل ) أي الذي ليس عنده فطنة الخلص ) أغنياء من ( أجل ) التعفف ( عن المسألة والتلويح بها قناعة بما أعطاهم الله سبحانه وتعالى مولاهم ورضي عنه وشرف نفس ، والتعفف تكلف العفة وهي كف ما ينبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه - قاله الحرالي .
ولما ذكر خفاءهم على الغبي ذكر جلاءهم عند المتوسم فقال : ( تعرفهم ) أي يا أبصر الموقنين وأفطنهم أنت ومن رسخت قدمه في متابعتك ) بسيماهم ( قال الحرالي : وهي صيغة مبالغة من السمة والوسم وهي العلامة الخفية التي تتراءى للمستبصر - انتهى .
وتلك العلامة والله سبحانه وتعالى أعلم هي السكينة والوقار وضعف الصوت ورثاثة الحال مع علو الهمة والبراءة من الشماخة والكبر والبطر والخيلاء ونحو ذلك ) لا يسئلون ( لطموح أبصار بصائرهم عن الخلق إلى الخالق ) الناس ( من ملك ولا غيره ) إلحافاً ( سؤال إلزام ، أخذاً من اللحاف الذي يتغطى به للزومه لما يغطيه ، ومنه(1/528)
صفحة رقم 529
لاحقه أي لازمه .
وقال الحرالي : هو لزوم ومداومة في الشيء من حروف الحلف الذي هو إنهاء الخبر إلى الغاية كذلك اللحف إنهاء السؤال إلى الغاية - انتهى .
وإنما يسألون إن سألوا على وجه العرض والتلويح الخفي ، كما كا ن أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يستقرئ غيره الآية ليضيفه وهو أعرف بها ممن يستقرئه فلا يفهم مراده إلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فالتعبير بالتعفف يفيد الاجتها في العفة والمبالغة فيها ، والتقيد بالإلحاف يدل على وقوع السؤال قليلاً جداً أو على وجه التلويح لا التصريح كما يؤيده ويؤكده المعرفة بالسيما .
ولما ذكر سبحانه وتعالى أخفى مواضع النفقة أشار إلى إخفائها لا سيما في ذلك الموضع فقال : ( وما تنفقوا من خير ) أي في أي وقت أنفقتموه ) فإن الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ) به عليم ( وإن اجتهدتم في إخفائه بإعطائه لمن لا يسأل بأن لا يعرف أو بغير ذلك ، وذكر العلم في موضع الجزاء أعظ مرغب وأخوف مرهب كما يتحقق ذلك بإمعان التأمل لذلك .
ولما حض على النفقة فأكثر وضرب فيها الأمثال وأطنب في المقال ولم يعين لها وقتاً كان كأن سائلاً قال : في أي وقت تفعل ؟ فبين في ىية جامعة لأصناف الأموال والأزمان والأحوال أنها حسنة في كل وقت وعلى كل حال فقال : ( الذين ينفقون أموالهم ) أي في الوجوه الصالحة التي تقدم التنبيه عليها وقدم من المتقابلين ما كان أقرب إلى الإخلاص اهتماماً به دلالة على فضله فقال : ( بالليل ( إن اقتضى ذلك الحال ) والنهار ( إن دعتهم إلى ذلك خطة رشد ) سراً وعلانية ( كذلك .
ولما كان الانتهاء عن المن والأذى في بعض الأحوال أشد ما يكون على النفس لما يرى من المنفق عليه من الغض ونحو ذلك فلا يكاد يسلم منه أحد .
ابتدأ الجزاء في آيته من غير ربط بالفاء إشارة إلى العفو عما يغلب النفس منه تنزيلاً له منزلة العدم ، وإيماء إلى تعظيمه بكونه ابتداء عطية من الملك ، ترغيباً في الكف عنه ، لأنه منظور إليه في الجملة ، وربط الجزاء في هذه إعلاماً بأنه مسبب عن هذه الأحوال ، لأن الأفعال أيسر من التروك فحصوله متوقف على حصولها ، حثاً على الإتيان بها كلها للسهولة في ذلك ، لأن من سمح بالإنفاق لله سبحانه وتعالى استوت عنده فيه الأوقات فقال : ( فلهم أجرهم ( وسببيته كونه علامة لحصول الأجر ، لا أنه سبب حقيقي ، إنما السبب الحقيقي رحمة الله بالتوفيق للعمل والاعتداد به ، وأعلم بأنه محفوظ مضاعف مربي لا يضيع أصلاً بقوله : ( عند ربهم ) أي فهو يربي نفقاتهم ويزكيها كما(1/529)
صفحة رقم 530
رباهم ، ثم ختم آي النفقات بما بدأها به من الأمن والسرور فقال : ( ولا خوف عليهم ( كما فرحوا بها عن غيرهم ) ولا هم يحزنون ( لأنه لا ثواب أعظم من ذلك ، إذ لا عيشة لحزين ولا خائف ؛ ولشدة مشاق الإنفاق على الأنفس لا سيما في أول الإسلام لما كانوا فيه خفية وجه إلا أظهرها وحذر منها وقررها - أشار إلى ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي فقال : فأفضلهم المنفق ليلاً سراً .
وأنزلهم المنفق نهاراً علانية ؛ فهم بذلك أربعة أصناف - انتهى .
البقرة : ( 275 - 276 ) الذين يأكلون الربا. .. . .
) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( ( )
ولما كان سبحانه وتعالى قد ذكر النفقة مما أفاض عليهم من الرزق من أول السورة إلى هنا في غير آية ، ورغب فيها بأنواع من الترغيب في فنون من الأساليب ، وكان الرزق يشمل الحلال والحرام ، وكان مما يسترزقون به قبل الإسلام الربا ، وهو أخذ مجاناً ، وهو في الصورة زيادة وفي الحقيقة نقص وعيب ، ضد ما تقدم الحث عليه من الإعطاء مجاناً ، وهو في الظاهر نقص وفي الباطن زيادة وخير ؛ نهاهم عن تعاطيه ونفرهم منه ، وبين لهم حكمه وأنه خبيث لا يصلح لأكل ولا صدقة ، وجعل ذلك في أسلوب الجواب لمن قال هل يكون النفقة المحبوبة المحثوث عليها من كل مال ؟ فأجاب بقوله : - وقال الحرالي : ولما كان حال المنفق لا سيما المبتغي وجه الله سبحانه وتعالى أفضل الأحوال ، وهو الحال الذي دعوا إليه ؛ نظم به أدنى الأحوال ، وهو الذي يتوسل به إلى الأموال بالربا ، فأفضل الناس المنفق ، وشر الناس المربي ؛ فنظم به خطاب الربا فقال : - ) الذين ( ولما كان من الصحابة من أكل الربا عبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا الجزاء يخص المصر فقال : ( يأكلون الربا وهو الزيادة من جنس المزيد عليه المحدود بوجه ما - انتهى .
فجرى على عادة هذا الذكر الحكيم في ذكر أحد الضدين بعد الآخر ، وعبر بالأكل عن التناول ، لأنه أكبر المقاصد وأضرها ويجري من الإنسان مجرى الدم كالشيطان ) لا يقومون ) أي عند البعث يظهر ثقله في بطونهم فيمنعهم النشاط ويكون ذلك سيماهم يعرفون به بين أهل الموقف هتكاً لهم وفضيحة .
وقال الحرالي : في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة ، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله ويكون(1/530)
صفحة رقم 531
بقاؤه في الدنيا بخرق لا بعقل ، يقبل في محل الإدبار ويدبر في محل الإقبال انتهى .
وهو مؤيد بالمشاهدة فإنا لم نر ولم نسمع قط بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة بل هم أدنى الناس وأدنسهم ) إلا كما يقوم ( المصروع ) الذي يتخبطه ) أي يتكلف خبطه ويكلفه إياه ويشق به عليه ) الشيطان ( ولما كان ذلك قد يظن أنه يخبط الفكر بالوسوسة مثلاً قال : ( من ) أي تخبطاً مبتدئاً من ) المس ) أي الجنون ، فأشار سبحانه وتعالى بذلك إلى المنع من أن تكون النفقة من حرام ولا سيما الربا ، وإلى أن الخبيث المنهي عن تيمم إنفاقه قسمان : حسي ومعنوي ، والنهي في المعنوي أشد .
وقال البيضاوي تبعاً للزمخشري : وهو أي التخبط والمس وارد على ما يزعمون أي العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله - انتهى .
وظاهره إنكار ذلك وليس بمنكر بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، قال المهدوي في تفسيره : وهذا دليل على من أنكر أن الصرع من جهة الجن وزعم أنه فعل الطبائع .
وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد : وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشياطين مما انعقد عليه إجماع الآراء ونطق به كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وحكي مشاهدة الجن عن كثير من العقلاء وأرباب المكاشفات من الأولياء ، فلا وجه لنفيها ؛ وقال : الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة ، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية ؛ ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الناس ولا يرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات - انتهى .
وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ( الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) وورد ( أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب ) ونحو ذلك ؛ وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل(1/531)
صفحة رقم 532
ذلك ، فأما مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس ، وربما كان يلقى في النار وهو لا يحترق ، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع ، فكثير جداً لا يحصى مشاهدوه - إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين ؛ وها أنا أذكر لك من أحاديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم من كتب الله القديمة ما فيه مقنع لمن تدبره - والله سبحانه وتعالى الموفق : روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند أغدائنا وعشائنا فيخبث علينا ، فمسح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صدره ودعا فثعّ ثعة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود ) فثعّ ثعة بمثلثة ومهملة أي قاء وللدارمي أيضاً وعبد بن حميد بسند صحيح حسن أيضاً عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : ( خرجت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر فركبنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلنا ، فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت : يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار ، فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال : ( اخسأ عدو الله أنا رسول الله ثلاثاً ثم دفعه إليها ( وأخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك في حرة واقم ، قال جابر : ( فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما فقالت : يا رسول الله اقبل مني هديتي ، فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد ذلك فقال : خذوا منها واحداً وردوا عليها الآخر ( وروى البغوي في شرح السنة عن يعلى بن مرة رضي الله تعالى عنه .
وفي الإنجيل من ذلك كثير جداً ، قال في إنجيل متى ولوقا ومُرقُس يزيد أحدهم على الآخر وقد جمعت بين ألفاظهم : وجاء يعني عيسى عليه الصلاة والسلام إلى عبر البحر إلى كورة الجرجسيين ، وقال في إنجيل لوقا : التي هي مقابل عبر الجليل ، فلما خرج من السفينة استقبله مجنون ، قال لوقا : من المدينة معه شياطين ، وقال متى مجنونان جائيان من المقابر رديئان جداً حتى أنه لم يقدر(1/532)
صفحة رقم 533
أحد أن يجتاز من تلك الطريق فصاحا قائلين : ما لنا ولك يا يسوع جئت لتعذبنا قبل الزمان ؛ قال لوقا : وكان يربط بالسلاسل والقيود ويحبس ، وكان يقطع الرباط ويقوده الشيطان إلى البراري ، فسأله يسوع : ما اسمك ؟ فقال : لاجاون ، لأنه دخل فيه شياطين كثيرة ؛ وقال مرقس : فقال له : اخرج أيها الروح النجس اخرج من الإنسان ، ثم قال له : ما اسمك ؟ فقال : لاجاون اسمي لأنا كثير ، وطلب إليه أن يرسلهم خارجاً من الكورة ؛ وكان هناك نحو الجبل قطيع خنازير كثيرة يرعى بعيداً منهم ، فطلب إليه الشياطين قائلين : إن كنت تخرجنا فأرسلنا إلى قطيع الخنازير فقال لهم : اذهبوا ، وقال مرقس : فأذن لهم يسوع ، فللوقت خرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير وقال : متى : فلما خرجوا ومضوا في الخنازير وإذا بقطيع خنازير قد وثب على جرف وتواقع في البحر ومات جميعه في المياه ، وأن الرعاة هربوا ومضوا إلى المدينة وأخبروهم بكل شيء وبالمجنونين ، فخرج كل من في المدينة للقاء يسوع ؛ قال مرقس : وأبصروا ذلك المجنون جالساً لابساً عفيفاً فخافوا ، فلما أبصروه - يعني عيسى عليه الصلاة والسلام - طلبوا إليه أن يتحول عن تخومهم ؛ قال لوقا : لأنهم خافوا عظيماً ، وقال مرقس : فلما صعد السفينة طلب إليه المجنون أن يكون معه فلم يدعه يسوع لكن قال له امض إلى بيتك وعرفهم صنع الرب بك ورحمته إياك ، فذهب وكرز في العشرة مدن ، وقال كل ما صنع به يسوع فتعجب جميعهم ؛ وفي إنجيل لوقا معناه ، وفي آخره : فذهب وكان ينادي في المدينة كلها بكل ما صنعه معه يسوع ؛ وفي إنجيل متى : فلما خرج يسوع من هناك قدموا إليه أخرس به شيطان ، فلما خرج الشيطان تكلم الأخرس ، فتعجب الجميع قائلين : لم يظهر قط هكذا في بني إسرائيل ، فقال الفريسيون : إنه باركون الشياطين يخرج الشياطين .
ثم قال : حينئذ أتى إليه بأعمى به شيطان أخرس ، فأبرأه حتى أن الأخرس تكلم وأبصر ، فبهت الجمع كلهم وقالوا : لعل هذا هو ابن داود ، فتسمع الفريسيون فقالوا : هذا لا يخرج الشياطين إلا بباعل زبول رئيس الشياطين .
وفيه بعد ذلك : فلما جاء إلى الجمع جاء إليه إنسان ساجداً له قائلاً : يا رب وفي إنجيل لوقا : يا معلم ارحم ابني ، فإنه يعذب في رؤوس الأهلة ، ومراراً كثيرة يريد أن ينطلق في النار ، ومراراً كثيرة في الماء ؛ وفي إنجيل مرقس : قد أتيتك يا بني وبه روح نجس وحيث ما أدركه صرعه وأزبده وضرر أسنانه فتركه يابساً ، وفي إنجيل لوقا : أضرع إليك أن تنظر إلى ابني ، لأنه وحيدي ، وروح يأخذه فيصرخ بغتة و يلبطه بجهل ، ويزيد عند انفصاله عنه ويرضضه ، وضرعت لتلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا ؛ وفي إنجيل متى : وقدمته إلى تلاميذك فلم(1/533)
صفحة رقم 534
يقدروا أن يبرئوه ، أجاب يسوع : أيها الجيل الأعوج الغير مؤمن إلى متى أكون معكم وحتى متى أحتملكم قدمه إلى هنا ؛ وفي إنجيل لوقا : وفيما هو جاء به طرحه الشيطان ولبطه ؛ وفي إنجيل مرقس : فلما رأته الروح النجسة من ساعته صرعته وسقط على الأرض مضطرباً مزبداً ؛ ثم قال لأبيه : من كم أصابه هذا ؟ فقال : منذ صباه ، ثم قال ما معناه : افعل معه ما استطعت وتحنن علينا ، فقال له يسوع : كل شيء مستطاع للمؤمن ، فصاح أبو الصبي وقال : أنا أومن فأعن ضعف إيماني ، فلما رأى يسوع تكاثر الجمع انتهر الروح النجس وقال : يا أيها الروح الأصم الغير ناطق أنا آمرك أن تخرج منه ولا تدخل فيه ، فصرخ ولبطه كثيراً وخرج منه وصار كالميت ، وقال كثير : إنه مات ، فأمسك يسوعبيده وأقامه فوقف ؛ وفي إنجيل متى : فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان وبرئ الفتى في تلك الساعة ، حينئذ أتى التلامذة إلى يسوع منفردين وقالوا له : لماذا لم نقدر نحن نخرجه ؟ فقال لهم يسوع : من أجل قلة إيمانكم ، الحق أقول لكم أن لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لقلتم لهذا الجبل : انتقل من هاهنا إلى هناك ، فينتقل ولا يعسر عليكم شيء ، وهذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة ؛ وقال مرقس : لا يستطاع أن يخرج بشيء إلا بصلاة وصوم ؛ وقال في إنجيل مرقس : إنه كان يعلم في كفرناحوم مدينة في الجليل ، قال : وكان في مطجمعهم رجل فيه روح شيطان نجس فصاح بصوت عظيم قائلاً : ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا قد عرفنا من أنت يا قدوس الله فنهره يسوع قائلاً : اسدد فاك واخرج منه فأقلقته الروح النجسة وصاح بصوت عظيم وخرج منه ؛ وفي إنجيل لوقا : فطرحه الشيطان في وسطهم وخرج منه ولم يؤلمه وخاف الجمع مخاطبين بعضهم بعضاً قائلين : ما هو هذا العلم الجديد الذي سلطانه يأمر الأرواح النجسة فتطيعه وخرج خبره في كل كورة الجليل ؛ وفيه : ثم قام من هناك وذهب إلى تخوم صور وصَيْدا ودخل إلى بيت فأراد أن لا يعلم أحد به ، فلم يقدر أن يختفي ، فلما سمعت امرأة كانت بابنة لها روح نجس جاءت إليه وسجدت قدام قدميه ، وكانت يونانية صورية ، وسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها ، فقال لها : دعي البنين حتى يشبعوا أولاً ، لا تحسبنّ أن يؤخذ خبز البنين يدفع للكلاب ، وأجابت بنعم يا رب والكلاب أيضاً تأخذ مما يسقط من المائدة من فتات الأطفال ، فقال لها من أجل هذه الكلمة : اذهبي قد خرج الشيطان من ابنتك ، فذهبت إلى بنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها ؛ وفي آخر إنجيل مرقس : إنه أخرج من مريم المجدلانية سبعة شياطين ؛ وفي إنجيل لوقا : وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة وقرية ويكرز ويكبر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة : مريم(1/534)
صفحة رقم 535
التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين ومرثا امراة خوزي خازن هين ودس وسوسنة وأخوات كثيرات ؛ وفي إنجيل لوقا : وفيما هو يعلم في أحد المجامع في السبت فإذا امرأة معها روح مزمن منذ ثمان عشرة سنة وكانت منحنية لا تقدر أن تستوي البتة ، فنظر إليها يسوع وقال : يا امرأة أنت محلولة من مرضك ووضع يده عليها ، فاستقامت للوقت ومجدت الله ، فأجاب رئيس الجماعة وهومغضب وقال للجميع : لكم ستة أيام ينبغي العمل فيها وفيها تأتون وتستشفعون إلا في السبت فقال : يا مراؤون واحد منكم يحل ثوره أو حماره من المدود في السبت ويذهب فيسقيه وهذه ابنة إبراهيم كان الشيطان قد ربطها منذ ثمان عشرة سنة أما كان يحل أن تطلق من هذا الرباط في يوم السبت ؟ فلما قال هذا الكلام أخزى كل من كان يقاومه .
وكل الشعب كانوا يفرحون بالأعمال الحسنة التي كانت منه - انتهى .
وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) كافياً لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان مع أن فيه دلائل رادة على النصارى في ادعائهم التثليث والاتحاد وأحسن ما ردّ على الإنسان من كلامه وبما يعتقده ، وسيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى في المائدة عند قوله سبحانه وتعالى : ( وما من إله إلا الله ( ما يلتفت إلى بعض هذا ويشرحه شرحاً جيداً نافعاً وكذا في جميع ما أنقله من الإنجيل كما ستراه إن شاء الله تعالى في مواضعه ، وكل ما فيه من متشابه لم تألفه مما يوهم اتحاداً أو تثليثاً فلا تزدد نفرتك منه وراجع ما سيقرر في آل عمران وغيرها يرجع معك إلى المحكم رجوعاً جلياً ، على أن أكثره إذا تؤملت أطرافه وجدته لا شبهة فيه أصلاً ، وإن لم تكن أهلاً للجري في مضمار ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه : كن ممن يعرف الرجال بالحق ولا تكن ممن يعرف الحق بالرجال ، فانظر كتاب الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى تجده أوّل كثيراً مما ذكرته بمثل تأويلي أو قريب منه ، ولم أر كتابه إلا بعد كتابتي لذلك - والله سبحانه وتعالى الموفق .
وفي الآية إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قضى بنزع نور العقل من المربي ودل على ذلك بقوله : ( ذلك ) أي الأمر البعيد من الصواب ) بأنهم ) أي المربون ) قالوا ( جدالاً لأهل الله ) إنما البيع ) أي الذي تحصرون الحل فيه يا أهل الإسلام ) مثل الربا ( في أن كلاًّ منهما معاوضة ، فنحن نتعاطى الربا كما تتعاطون أنتم البيع ، فما لكم تنكرونه علينا ؟ فَجعْلهُم الربا أصلاً انسلاخ مما أودعه الله في نور العقل وحكم الشرع وسلامة الطبع من الحكمة ؛ والبيع كما عرفه الفقهاء نقل ملك بثمن .
وقال الحرالي : هو رغبة(1/535)
صفحة رقم 536
المالك عما في يده إلى ما في يد غيره ، والشراء رغبة المستملك فيما في يد غيره بمعاوضة بما في يده مما رغب عنه ، فلذلك كل شار بائع ) وأحل ) أي والحال أنه أحل ) الله ( الذي له تمام العظمة المقتضية للعدل ) البيع ) أي لما فيه من عدل الانتفاع ، لأنه معاوضة على سبيل النصفة للتراضي من الجانبين ، لأن الغبن فيه غير محقق على واحد منهما ، لأن من اشترى ما يساوي درهماً بدرهمين يمكن أن يبيعه بعد ذلك لرواجه أو وجود راغب فيه لأمر دعاه إليه بثلاثة ) وحرم الربا ( لما فيه من اختصاص أحد المتعاملين بالضرر والغبن والآخر بالاستئثار على وجه التحقيق ، فإن من أخذ درهماً بدرهمين لا يرجى خير ما فاته من ذلك الوجه أصلاً ، وكذلك ربا المضاعفة وهو ما إذا طلب دينه فكان الغريم معسراً فألزمه بالدفع أو الزيادة في الدين فإنه ليس في مقابلة هذا الزائد شيء ينتفع به المدين .
قال الحرالي : فيقع الإيثار قهراً وذلك الجور الذي يقابله العدل الذي غايته الفضل ، فأجور الجور في الأموال الربا ، وأجور الجور في الربا الربا كالذي يقتل بقتيل قتيلين ، وكل من طفف في ميزان فتطفيفه ربا بوجه ما ؛ ولذلك تعددت أبواب الربا وتكثرت ؛ قال قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الربا بضع وسبعون باباً ، والشرك مثل ذلك وهذا رأسه ) وهو ما كانت تتعامل به أهل الجاهلية ، من قولهم : إما أن تربي وإما أن تقضي ، ثم لحق به سائر أبوابه ، فهو انتفاع للمربي وتضرر للذي يعطي الربا ، وهذا أشد الجور بين العبيد الذين حظهم التساوي في أمر بلغة الدنيا ؛ فكما أعلمهم سبحانه وتعالى أثر حكمة الخير في الإنفاق أعلمهم أثر حكمة الشر في الربا في دار الآخرة وفي غيب أمر الدنيا وكما أنه يعجل للمنفق خلفاً في الدنيا كذلك يعجل للمربي محقاً في الدنيا حسب ما صرح به الخطاب بعد هذا الإشعار - انتهى .
ومادة بيع بجميع تقاليبها التسعة يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة : بيع وعيب وعبي وبوع وبعو ووبع ووعب وعبو وعبا - تدور على الاتساع ، فالبيع يدور على التصرف التام بالقوة تارة وبالفعل أخرى ، والذي بالفعل يكون بالملك تارة وبغيره أخرى ، والذي بالملك يكون بالتحصيل تارة وبالإزالة أخرى ، ولا يخفى أن كل ذلك من الاتساع فمن الذي بالقوة : باعه من السلطان سعى به إليه ، وامرأة بائع إذا كانت نافقة لجمالها ، والبياعة السلعة ، والبيّع كسيد : المساوم ، وأبعته بمعنى عرضته للبيع ؛ ومن الذي بالفعل من غير ملك : باع على بيعه أي قام مقامه في المنزلة والرفعة وظفر به ، وكذا أبعت الرجل فرساً أي أعرته إياه ليغزو عليه ؛ ومن(1/536)
صفحة رقم 537
الذي بالملك إزالة : بعته وأبعته أي أزلت ملكي عنه بثمن ، واستباعه سأله أن يبيعه منه ، وانباع نفق ، وانباع لي في سلعته سامح في بيعها وامتد إلى الإجابة إليه ؛ ومن الذي بالملك تحصيلاً : باع الشيء بمعنى اشتراه .
قال الفارابي في ديوان الأدب : قال أبو ثروان : بع لي تمراً بدرهم - يريد اشتر ، وهذا الحرف من الأضداد ، وابتاعه : اشتراه .
والعيب بمعنى الوصمة توسع الكلام في العرض وسببه توسع الإنسان في قول أو فعل على غير منهاج العقل ، والعيبة وعاء من أدم يوضع فيه المتاع وهي أيضاً الصدر والقلب وموضع السر ، والعائب من اللبن الخادر أي الآخذ طعم حموضة إما من العيب وإما لأنه انتشر عن طعمه الأول ؛ والعباية ضرب من الأكسية لاتساعه عن الأزر ونحوها طولاً وعرضاً والرجل الجافي الثقيل تشبيهاً بها في الخشونة والثقالة ، وتعبئة الجيش تهيئته من موضعه كأن مراكزه عياب له وضعت كل فرقة منه في عيبتها ، وعيبك من الجزور نصيبك ، والتعابي أن يميل رجل مع قوم وآخر مع آخرين لأن ذلك اتساع بالفريقين وانتشار من الرجلين ؛ ومن المهموز العبء - بالكسر وهو الحمل الثقيل من أي شيء كان لأنه بقدر وسع الحامل أو فوق وسعه وهو أوسع مما ونه من الأحمال ، وهو أيضاً العدل لأنه يسع ما يوضع فيه والمثل ، ويفتح لأن الاثنين أوسع من الواحد ، والعبء بالفتح ضياء الشمس وهو واضح في السعة ، وعبأ المتاع والأمر كمنع هيأ كعبأه تعبئة لأنه أعطاه ما يسعه ووضعه في مواضع تسعه ، والطيب صنعه وخلطه فاتسع بالخلط وانتشرت رائحته بالصنعة ؛ والعباء كساء معروف وهو يسع ما يلف به كالعباية ، والأحمق الثقيل الوخم وتقدم تخريجه ويمكن جعله من العبء بمعنى الحمل وبمعنى الثقيل والمعبأة كمكنسة خرقة الحائض لأنها بقدر ما يسعه الفرج ، والمعبأ كمقعد المذهب لاتساعه للذاهب فيه ، وما أعبأ به ما أصنع ، وبفلان : ما أبالي أي ما أوسع الفكر فيه - انتهى المهموز ؛ والباع قدر مد اليدين والشرف والكرم ، والبوع أبعاد خطو الفرس في جريه ، وبسط اليد بالمال ، والمكان المنهضم أي المطمئن في لصب الجبل - واللصب بالكسر الشعب الصغير من الجبل أضيق من اللهب وأوسع من الشقب ، واللهب مهواة ما بين كل جبلين أو الصدع في الجبل أو الشعب الصغير ، والشعب بالعين الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض أو ما انفرج بين الجبلين ، والشقب بالقاف صدع يكون في لهوب الجبال ولصوب الأودية دون الكهف توكر فيه الطير - وباعة الدار ساحتها ، والبائع ولد الظبي إذا باع في مشيه ، وانباع العرق سال ، والحية بسطت نفسها بعد تحوّيها لتساور ؛ والوبّاعة الاست لاتساعها بخروج الخارج منها ، وكذبت وبّاعته أي حبق يعني ضرط ، والوباعة من الصبي ما يتحرك من يافوخه لامتداده إلى الحركة ، ووعبه كوعده(1/537)
صفحة رقم 538
أخذه أجمع ، كأوعبه واستوعبه ، وأوعب جمع ، والشيء في الشيء أدخله كله أي وسعه حتى دخل فيه ، والوعب من الطرق : الواسعة ، وبيت وعيب واسع ؛ والبعو الجناية والجرم لأن ذلك يوسع الكلام في العرض ، وهو أيضاً العارية ، وبعاه قمره وأصاب منه ، وبعاه بالعين أصابه بها كأنه وسع لعينه فيه حظاً .
ولما كان الوعظ كما قال الحرالي دعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها ويقبضها في مقابلة التذكير بما يرجيها ويبسطها ، وكان فيما أخبر به سبحانه وتعالى عن حال المربي أتم زاجر لأن أجلّ ما للإنسان بعد روحه عقله سبب عن ذلك قوله : ( فمن جاءه ( قال الحرالي : أطلق الكلمة من علامة التأنيث النازل الرتبة ترفيعاص لقدر هذه الموعظة الخفية المدرك العظيمة الموقع ) موعظة ( بناء مبالغة وإعلاء لما أشعرت المفعلة الزائدة الحروف على أصل لفظ الوعظ بما يشعر به الميم من التمام والهاء من الانتهاء ، فوضع الأحكام حكمة ، والإعلام بثمراتها في الآخرة موعظة تشوق النفس إلى رغبتها ورهبتها - انتهى .
ولما كان التخويف من المحسن أردع لأن النفس منه أقبل قال : ( من ربه ) أي المربي له المحسن إليه بكل ما هو فيه من الخير .
قال الحرالي : في إشعاره أن من أصل التربية الحمية من هذا الربا - انتهى .
) فانتهى ) أي عما كان سبباً للوعظ .
قال الحرالي : أتى بالفاء المعقبة فلم يجعل فيه فسحة ولا قراراً عليه لما فيه من خبل العقل الذي هو أصل مزية الإنسانية وإن لم يشعر به حكماء الدنيا ولا أطباؤها - انتهى .
ولما كان السياق بما أرشد إليه التعليل بقوله : ( ذلك بأنهم قالوا ( دالاً على أن الآية في الكفرة وأن المراد بالأكل الاستحلال أكد ذلك بقوله : ( فله ما سلف ) أي من قبيح ما ارتكبه بعد أن كان عليه ولا يتبعه شيء من جريرته لأن الإسلام يجب ما قبله وتوبة المؤمن لا تجب المظالم .
قال الحرالي : والسلف هو الأمر الماضي بكليته الباقي بخلفه ، وقال : في إعلامه إيذان بتحليل ما استقر في أيديهم من ربا الجاهلية ببركة توبتهم من استئناف العمل به في الإسلام لما كان الإسلام يجب ما قبله ، وفي طيّ إشعاره تعريض برده لمن يأخذ لنفسه بالأفضل ويقوي إشعاره قوله ) وأمره إلى الله ( انتهى ، أي فهو يعامله بما له من الجلال والإكرام بما يعلمه من نيته من خلوص وغيره .
ولما كان المربون بعد هذه الزواجر بعيدين من رحمة الله عبر عنهم سبحانه وتعالى بأداة البعد في قوله : ( ومن عاد ) أي إلى تحليل الربا بعد انتهائه عنه نكوباً عن حكمة ربه ) فأولئك ) أي البعداء من الله ) أصحاب النار ( ولما كانت نتيجة الصحبة الملازمة قال : ( هم فيها خالدون ( .(1/538)
صفحة رقم 539
ولما كان المرغب في الربا ما فيه من الربح الناجز المشاهد ، والمفتر عن الصدقة كونها نقصاً محققاً بالحس بيّن أن الربا وإن كان بصورة الزيادة فهو نقص وأن الصدقة وإن كانت بصورة النقص فهي زيادة لأن ذلك إنما هو بيده سبحانه وتعالى فما شاء محقه وإن كان كثيراً أو ما أراد نماه وإن كان يسيراً فقال كالتعليل للأمر بالصدقة والنهي عن الربا ولكون فاعله من أهل النار : ( يمحق الله ) أي بما له من الجلال والقدرة ) الربا ( بما يفتح له من أبواب المصارف .
قال الحرالي : والمحق الإذهاب بالكلية بقوة وسطوة ) ويربي الصدقات ) أي يزيد الصدقات بما يسد عنها مثل ذلك ويربح في تقلباتها ؛ ويجوز كونه استئنافاً وذلك أنه لما تقرر أن فاعليه من أصحاب النار ساقه مساق الجواب لمن كأنه قال : وإن تصدقوا من أموال الربا وأنفقوا في سبيل الخير إعلاماً بأن الربا مناف للخير فهو مما يكون هباء منثوراً .
ولما آذن جعلهم من أصحاب النار أن من لم ينته عن الربا أصلاً أو انتهى وعاد إلى فعله مرتبك في شرك الشرك قاطع نحوه عقبات : ثنتان منها في انتهاك حرمة الله : ستر آياته في عدم الانتهاء ، والاستهانة بها في العود إليه ، الثالثة انتهاك حرمة عباد الله فكان إثمه متكرراً مبالغاً فيه لا يقع إلا كذلك عبر سبحانه وتعالى بصيغة المبالغة في قوله عطفاً على ما تقديره تعليلاً لما قبله : فالمتصدق مؤمن كريم والمربي كفار أثيم : ( والله ( المتصف بجميع صفات الكمال ) لا يحب كل كفار ) أي في واجب الحق بجحد ما شرع من آياته وسترها والاستهانة بها ، أو كفار لنعمته سبحانه وتعالى بالاستطالة بما أعطاه على سلب ما أعطى عباده ) أثيم ( في واجب الخلق ، أي منهمك في تعاطي ما حرم من اختصاصاتهم بالربا وغيره ، فلذا لا يفعل معهم سبحانه وتعالى فعل المحب لا بالبركة في أموالهم ولا باليمن في أحوالهم ، وهذا النفي من عموم السلب ، وطريقه أنك تعتبر النفي أولاً ثم تنسبه إلى الكل ، فيكون المعنى : انتفى عن كل كفار أثيم حبه ، وكذا كل ما ورد عليك من أشباهه إن اعتبرت النسبة إلى الكل أولاً ثم نفيت فهو لسلب العموم ، وإن اعتبرت النفي أولاً ثم نسبته إلى الكل فلعموم السلب ، وكذلك جميع القيود ؛ فالكلام المشتمل على نفي وقيد قد يكون لنفي التقييد وقد يكون لتقييد النفي ، فمثل : ما ضربته تأديباً ، أي بل إهانة ، سلب للتعليل والعمل للفعل ، وما ضربته إكراماً له ، أي تركت ضربه للإكرام ، تعليل للسلب والعمل للنفي ، وما جاءني راكباً ، أي بل ماشياً ، نفي للكيفية ، وما حج مستطيعاً ، أي ترك الحج مع الاستطاعة ، تكييف للنفي ؛ وقد أشبع الشيخ سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى الكلام في ذلك في شرحه للمقاصد في بحث الرؤية عند استدلال المعتزلة بقوله تعالى :
77 ( ) لا تدركه الأبصار ( ) 7
[ الأنعام : 104 ] .(1/539)
صفحة رقم 540
البقرة : ( 277 - 282 ) إن الذين آمنوا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ( )
ولما بين تعالى ما سلبه عن الكافرين من محبته أتبعه ما أثبته ما أثبته للمؤمنين المصدقين من رحمة الملوح إليهم فيما قبل بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر كما تقدم آنفاً على وجه لم يخله من ذكر النفقة فقال تعالى مشيراً إلى قسيم ) ومن عاد ( ) إن الذين آمنوا ) أي صدقوا بجميع ما أتتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم عن الله سبحانه وتعالى ) وعملوا ( تصديقاً لإيمانهم ) الصالحات ( ائتماراً وانتهاء لا سيما ترك الربا .
ولما كانت الصلاة زبدة الدين فيما بين الحق والخلق خصها بالذكر فقال : ( وأقاموا الصلاة ( بجميع حدودها ) ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( ) [ العنكبوت : 45 ] .
ولما كان الإيثار أجل ما بين الحق والخلق وزبدته إخراج الواجب من المال عن طيب نفس قال : ( وآتوا الزكاة ( فضلاً عن أن يبخلوا فضلاً عن أن يربوا ودل على أن جزاءهم بحسب النيات لثباتهم في فتنة الردة بقوله : ( لهم أجرهم ( وأعلم بحفظه وتنميمته بقوله : ( عند ربهم ( وآذن بتمام الانتفاع بقوله : ( ولا خوف عليهم ((1/540)
صفحة رقم 541
أي من طارق يطرقهم بغير ما يلائمهم لأنهم في كنف العزيز العليم ) ولا هم يحزنون ( على شيء فاتهم فهم في غاية الرضى بما هم فيه ، ولعظيم الجدوى في ذلك كرره في هذه الآيات غير مرة ونوه به كرة في أثر كرة .
ولما كانت نتيجة الآية الماضية في الاعتماد على ما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر وعدم الحزن على ما فات من ربا وغيره والخوف من شيء آت من فقر أو غيره ترك كل شيء ينسب إلى الربا وكان بين أهل الإسلام وأهل الجاهلية وبين بعضهم و بعض معاملات في الجاهلية ربوية لم تتم بعد بين أمرها نفياً لما قد يتوهم من قوله سابقاً ) فله ما سلف ( من تحليل بقايا الربا وأن النهي خاص بما تجدد منه فقال مخاطباً لأقرب من ذكره ممن تلبس بالإيمان ولم يلتفت إلى غيرهم تشريفاً لهم : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالتصديق بألسنتهم .
ولما كان الربا قد يكون مؤجلاً فيكون صاحبه قد مضت عليه مدد وهو موطن نفسه على أخذه فيصير الكف عنه يعدل الموت عنده أبلغ سبحانه وتعالى في التشديد في هذه المواعظ فقال : ( اتقوا الله ) أي الذي له جميع العظمة تصديقا لإقراركم ) وذروا ) أي اتركوا أي ترك كان ) ما بقي من الربا ) أي الذي كنتم تتعاملون به فلا تستحلوه ولا تأكلوه .
ولما لوح في أول الآية إلى أن من أصر فهو غير صادق في دعوى الإيمان صرح بذلك في آخرها فقال : ( إن كنتم مؤمنين ) أي متصفين بما ذكرتموه بألسنتكم .
قال الحرالي : فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان وأكثر بلايا هذه الأمة حتى أصابها ما أصاب بني إسرائيل من البأس الشنيع والانتقام بالسنين إنما هو من عمل من عمل بالربا ، وهذه الآية أصل عظيم في أحكام الكفار إذا أسلموا فما مضى منها لم ينقص وما لم يمض لم يفعل - نبه عليه الأصبهاني .
ولما كان من حق من عاند السيد الأخذ سبب عن ذلك قوله : ( فإن لم تفعلوا ) أي ترك الربا .
قال الحرالي : في غشعاره أن طائقة منهم لا يذرونه بعد تحريمه بما أنهم ليسوا من الذين كانوا مؤمنين - انتهى .
) فأذنوا بحرب ) أي عظيمة .
قال الحرالي : والحرب مدافعة بشدة عن اتساع ، المدافع بما يطلب منه الخروج عنه فلا يسمح به ويدافع عنه بأشد مستطاع ؛ ثم عظم أمرها بإيراد الاسم الأعظم فقال : ( من الله ( العظيم الجليل ) ورسوله ( ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو أعظم الخلائق بتشريفه بالإضافة إليه .
وقال الحرالي : الذي هيأه للرحمة ، فكان نبي الرحمة محارباً له ، فانقطعت وصلته من الرحيم والشفيع - انتهى .
) وإن تبتم ) أي فعلتم بعد الإذن بالقتال أو قبله ما أمركم الله به من ترك ما بقي منه ) فلكم رؤوس أموالكم ) أي كما هو حال البيع .
ولما كان ذلك هو العدل لأنه الحق(1/541)
صفحة رقم 542
قال : ( لا تظلمون ) أي بأخذ شيء مما بقي من الربا ) ولا تظلمون ( بنقص من رأس المال أو دفع بمطال لأنه الحق .
ولما كان الناس منقسمين إلى موسر ومعسر أي غني وفقير كان كأنه قيل : هذا حكم الموسر ) وإن كان ) أي وجد من المدينين ) ذو عسرة ( لا يقدر على الأداء في هذا الوقت ) فنظرة ) أي فعليكم نظرة له .
قال الحرالي : وهو التأخير المرتقب نجازه ) إلى ميسرة ( إن لم ترضوا إلا بأخذ أموالكم ؛ وقرأ نافع وحمزة بضم السين ؛ قال الحرالي : إنباء عن استيلاء اليسر وهي أوسع النظرتين ، والباقون بالفتح إنباء عن توسطها ليكون اليسر في مرتبتين ، فمن انتظر إلى أوسع اليسرين كان أفضل توبة - انتهى .
) وأن تصدقوا ) أي وصدقتكم على المعسر بتركه له ، ذلكم ) خير ( في الدنيا بما يبارك الله سبحانه وتعالى ) لكم ( ويعوضكم وفي الآخرة بما يجزل لكم من الأجر .
ولما كان كل أحد يدعي العلم ويأنف أشد أنفة من النسبة إلى الجهل قال : ( إن كنتم تعلمون ) أي إن كنتم من ذوي العلم فأنتم تعرفون صحة ما دعوتكم إليه مما يقتضي الإدبار عنه أو الإقبال عليه ، فإذا تحققتم ذلك فامتثلوه فإنه يقبح على العلم بقبح الشيء الإصرار عليه وإلا فبينوا أنه ليس بخير وإلا فأنتم من أهل الاعوجاج بالجهل تقومون بالحرب والضرب والطعن كالسباع الضارية والذئاب العاوية .
وقال الحرالي : فأعلم سبحانه وتعالى أن من وضع كيانه للعلم فكان ممن يدوم علمه ؟ تنبه لأن خير الترك خير من خير الأخذ فأحسن بترك جميعه - انتهى .
وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ( لما أنزلت الآيات الأواخر - وفي رواية : من آخر سورة البقرة في الربا - قرأهن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية : على الناس في المسجد - ثم حرم التجارة في الخمر ) وله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ( آخر آية نزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آية الربا ) ولأبي عبيد عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين .
وله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : آخر آية نزلت من(1/542)
صفحة رقم 543
القرآن
77 ( ) واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ( ) 7
[ البقرة : 281 ] قال : زعموا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكث بعدها تسع ليال وبدئ به يوم السبت ومات يوم الاثنين - انتهى .
ولا مخالفة لأنها من آية الربا والدين .
وروى الحديث أبو عمرو الداني في كتاب ( البيان في عدد آي القرآن ) وقال فيه : ( قال الملك : اجعلها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة ) .
ولما كان من المعلوم أنه لا يدفعه حجة كان التقدير : فامتثلوا ما أمرتم به واجتنبوا ما نهيتم عنه ، فعطف عليه تخويفاً من يوم العرض عليه والمجازاة بين يديه فقال - وقال الحرالي : لما أنهي الخطاب بأمر الدين وعلنه وأمر الآخرة على وجوهها وإظهار حكمتها المرتبطة بأمر الدنيا وبين أمر الإنفاق والربا الذي هو غاية أمر الدين والدنيا في صلاحهما وأنهى ذلك إلى الموعظة بموعود جزائه في الدنيا والآخرة أجمل الموعظة بتقوى يوم الرجعة إلى إحاطة أمره ليقع الختم بأجمل موعظة وأشملها ليكون انتهاء الخطاب على ترهيب الأنفس لتجتمع عزائمها على ما هو ملاك أمرها من قبول صلاح دينها ودنياها ومعادها من خطاب الله سبحانه وتعالى لها فختم ذلك بكمال معناه بهذه الآية كما أنها هي الآية التي ختم بها التنزيل أنزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو في الشكاية وهي آخر آية أنزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مقابلة
77 ( ) اقرأ باسم ربك ( ) 7
[ العلق : 1 ] الذي هو أول منزل النبوة و
77 ( ) يا أيها المدثر ( ) 7
[ المدثر : 1 ] الذي هو أول منزل الرسالة فكان أول الأمر نذارة وآخره موعظة تبعث النفس على الخوف وتبعث القلب على الشوق من معنى ما انختم به أمر خطاب الله سبحانه وتعالى في آية
77 ( ) مالك يوم الدين ( ) 7
[ الفاتحة : 4 ] انتهى - فقال تعالى : ( واتقوا يوماً ) أي في غاية العظم ) ترجعون فيه ( حساً بذواتكم كما أنتم في الدنيا ومعنى بجميع أموركم رجوعاً ظاهراً لا يحجبه شيء من الأسباب ولا يحول دونه عارض ارتياب ) إلى الله ( الذي لا يحصر عظمته وصف ولا يحيط بها حد ، فيكون حالكم بعد النقلة من الدنيا كحالكم قبل البروز إليها من البطن لا تصرف لكم أصلاً ولا متصرف فيكم إلا الله ويكون حالكم في ذلك اليوم الإعسار ، لأنه لا يمكن أحد أن يكافئ ما لله سبحانه وتعالى عليه من نعمه ، فمن نوقش الحساب عذب ؛ فإن كنتم تحبون المجاوزة عنكم هنالك فتجاوزوا أنتم عن إخوانكم اليوم ، وتصدقوا ما دمتم(1/543)
صفحة رقم 544
قادرين على الصدقة ، واتقوا النار في ذلك اليوم ولو بشق تمرة ؛ وأشار سبحانه وتعالى إلى طول وقوفهم ذلك الموقف في مقام الهيبة وتمادي حبسهم في مشهد الجلال والعظمة بأداة التراخي في قوله ) ثم ( قال الحرالي وقيل : ( يا رسول الله أين يكون الناس
77 ( ) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ( ) 7
[ إبراهيم : 48 ] ؟ قال : في الظلمة دون الجسر ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : يقيمون في الظلمة ألف سنة .
وورد عن علي رضي الله تعالى عنه في تفصيل مواقف يوم الجزاء أن الخلق يوقفون على قبورهم ألف سنة ويساقون إلى المحشر ألف سنة ، ويوقفون في الظلمة ألف سنة ؛ ثم يكون انشقاق السماوات السبع وتبديل الأرض وما شاء الله سبحانه وتعالى من أمره انتظاراً لمجيئه ؛ ففي عبرة مقاله والله سبحانه وتعالى أعلم أن ذلك يكون ستة آلاف سنة وأنها كما بنيت في ستة أيام تهدم في ستة أيام
77 ( ) كما بدأنا أول خلق نعيده ( ) 7
[ الأنبياء : 104 ] ، فيكون ذلك تسعة أيام ؛ ويكون مجيئه في اليوم العاشر الذي هو يوم عاشوراء ذلك اليوم الذي تكرر مجيء أمره فيه في يوم الدنيا - ثم وصف ( صلى الله عليه وسلم ) المواقف إلى منتهاها - انتهى .
ولما كان إيقاف الإنسان على كل ما عمل من سر وعلن في غاية الكراهة إليه فضلاً عن جزائه على كل شيء منه لا بالنسبة إلى موقف معين بني للمفعول قوله : ( توفى ) أي تعطى على سبيل الوفاء ) كل نفس ما كسبت ( من خير وشر .
قال الحرالي : جاء بصيغة فعل المشعر بجري العمل على غير تكلف وتحمل ، ففي إشعاره أنها توفى ما كسبت من الخير وما كونت له من الشر وأن ما تكلفته من الشر وفي دخلتها كراهية ربما غفر لها حيث لم تكن توفى ما كسبت وما اكتسبت كما قال في الآية التي بعدها
77 ( ) لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ( ) 7
[ البقرة : 286 ] فكان مكتسبها عليها وربما غفر لها فإنها وفيت ما كسبته من الشر واشتمل عليه ظاهرها وباطنها حتى يسرت له - انتهى .
ولما كانت عادة الناس أنه إذا بقي شيء يسير وقع في محل المسامحة وكان اليسير يختلف باختلاف الأصل فالألف مثلاً يتسامح فيه بمائة مثلاً بيّن أن الأمر عنده على غير ذلك فقال : ( وهم لا يظلمون ( شيئاً يتسامح فيه بمائة مثلاً بيّن أن الأمر عنده على غير عباده قال الحرالي : وهذه الآية ختم للتنزيل وختم لتمام المعنى في هذه السورة التي هي سنام القرآن وفسطاطه وختم لكل موعظة وكل ختم ، فهو من خواص المحمدية الجامعة(1/544)
صفحة رقم 545
المفصلة من سورة الحمد المشيرة إلى تفاصيل عظيم أمر الله في حقه وفي خلقه وفيما بينه وبين خلقه - انتهى .
ولما نهى سبحانه وتعالى عن الربا وكان أحد مدايناتهم وكان غيره من الدين مأذوناً فيه وهو من أنواع الإنفاق مع دخوله في المطالبة برؤوس الأموال عقب ذلك بآية الدين .
وأيضاً فإنه سبحانه وتعالى لما ذكر في المال أمرين ينقصانه ظاهراً ويزكيانه باطناً : الصدقة وترك الربا ، وأذن في رؤوس الأموال وأمر بالإنظار في الإعسار وختم بالتهديد فكان ذلك ربما أطمع المدين في شيء من الدين ولو بدعوى الإعسار اقتضى حال الإنسان لما له من النقصان الإرشاد إلى حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والتنبيه على كيفية التوثق فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ( كالذي تقدمه ) إذا تداينتم ( من التداين تفاعل بين اثنين من الدين ، والدين في الأمر الظاهر معاملة على تأخير - قاله الحرالي .
أي أوقعتم بينكم ذلك .
والدين مال مرسل في الذمة سواء كان مؤجلاً أو لا ، وهو خلاف الحاضر والعين ، وقال : ( بدين ( مع دلالة الفعل عليه ليخرج بيع الدين بالدين ، لأنه مداينة بدينين .
قال الحرالي : فكان في إعلامه أي بالإتيان بصيغة إذا أنهم لا بد أن يتداينوا لأنها حين منتظر في أغلب معناها - انتهى .
وأرشد إلى ضبطه بالوقت إشارة إلى أنه يجوز كونه حالاً وإلى أن الأجل وهو الوقت المحدود وأصله التأخير إن كان مجهولاً كان باطلاً بقوله : ( إلى أجل مسمى ( قال الحرالي : من التسمية وهي إبداء الشيء باسمه للسمع في معنى المصور - وهو إبداء الشيء بصورته في العين .
ولما كان الله سبحانه وتعالى وهو العليم الخبير قد أجرى سنته في دينه بالكتابة فأمر ملائكته وهم الأمناء العدول بإثبات أعمال الخلق لحكم ومصالح لا تخفى وأنزل كتابه الشريف شهادة لهم وعليهم بما يوفونه في يوم الدين من ثواب وعقاب قطعاً لحججهم أمرهم أن يكون عملهم في الدين كما كان فعله في الدين فأرشدهم إلى إثبات ما يكون دينهم من المعاملات لئلا يجر ذلك إلى المخاصمات فقال سبحانه وتعالى أمراً للإرشاد لا للإيجاب ) فاكتبوه ( وفي ذكر الأجل إشارة إلى البعث الذي وقع الوعد بالوفاء فيه
77 ( ) أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون ( ) 7
[ المؤمنون : 115 ]
77 ( ) ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ( ) 7
[ الأنعام : 2 ] ولما أمر بالكتابة وكان المراد تحصيلها في الجملة لا من أحد بعينه لأن أغلب الناس لا يحسنها أتبعها الإرشاد إلى تخير الكاتب بقوله : ( وليكتب بينكم ) أي الدين المذكور ) كاتب ( وإن كان صبياً أو عبداً كتابة مصحوبة ) بالعدل ( استناناً به سبحانه وتعالى في ملائكته
77 ( ) وإن عليكم(1/545)
صفحة رقم 546
لحافظين كراماً كاتبين ( ) 7
[ الانفطار : 10 ]
77 ( ) بأيدي سفرة كرام بررة ( ) 7
[ عبس : 15 ] .
ولما أرشد إلى تخير الكاتب تقدم إليه بالنهي تقديماً لدرء المفاسد ثم الأمر فقال : ( ولا يأب كاتب أن يكتب ) أي ما ندب إليه من ذلك ) كما علمه الله ) أي لأجل الذي هو غني عنه وعن غيره من خلقه شكراً له على تلك النعمة وكتابة مثل الكتابة التي علمها الله سبحانه وتعالى لا ينقص عنها شيئاً ) فليكتب ( وفي ذلك تنبيه على ما في بذل الجهد في النصيحة من المشقة .
ولما كان ذلك وكان لا بد فيه من ممل بين من يصح إملاؤه للمكتوب فقال : ( وليملل ( من الإملال وهو إلقاء ما تشتمل عليه الضمائر على اللسان قولاً وعلى الكتاب رسماً - قاله الحرالي ) الذي عليه الحق ( ليشهد عليه المستملي ومن يحضره .
ولما كانت الأنفس مجبولة على محبة الاستئثار على الغير حذرها مما لا يحل من ذلك فقال : ( وليتق الله ( فعبر بالاسم الأعظم ليكون أزجر للمأمور ثم قال : ( ربه ( تذكيراً بأنه لإحسانه لا يأمر إلا بخير ، وترجية للعوض في ذلك إذا أدى فيه الأمانة في الكم والكيف من الأجل وغيره ؛ وأكد ذلك بقوله : ( ولا يبخس ( من البخس وهو أسوأ النقص الذي لا تسمح به الأنفس لبعده عن محل السماح إلى وقوعه في حد الضيم ) منه شيئاً ( ولما كان هذا المملي قد يكون لاغي العبارة وكان الإملاء لا يقدر عليه كل أحد قال سبحانه وتعالى : ( فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً ( فلا يعتبر إقراره لضعف رأيه ونظره ونقص حظه من حكمة الدنيا ) أو ضعيفاً ( عن الإملاء في ذلك الوقت لمرض أو غيره من صبا أو جنون أو هرم من الضعف وهو وهن القوى حساً أو معنى ) أو لا يستطيع أن يمل هو ( كعيّ أو حياء أو عجمة ونحوه ) فليملل وليه ( القائم لمصالحه من أب أو وصي أو حاكم أو ترجمان أو وكيل ) بالعدل ( فلا يحيف عليه ولا على ذي الحق .
قال الحرالي : فجعل لسان الولي لسان المولى عليه ، فكان فيه مثل لما نزل به الكتاب من إجراء كلام الله سبحانه وتعالى على ألسنة خلقه في نحو ما تقدم من قوله :
77 ( ) إياك نعبد وإياك نستعين ( ) 7
[ الفاتحة : 5 ] وما تفصل منها
77 ( ) الله ولي الذين آمنوا ( ) 7
[ البقرة : 257 ] أمل ما عليهم من الحقوق له فجعل كلاماً من كلامه يتلونه ، فكان الإملال منه لهم لتقاصرهم عن واجب حقه تقاصر السفيه ومن معه عن إملال وليه عنه لرشده وقوته وتمكن استطاعته - انتهى .(1/546)
صفحة رقم 547
ولما لم يكن بين الكتابة والشهادة ملازمة نص عليها وبين أهلها فقال : ( واستشهدوا ) أي اطلبوا الشهادة وأوجدوها مع الكتابة ودونها ) شهيدين ( قال الحرالي فجعل شهادة الدين باثنين كما جعل الشاهد في الدين اثنين : شاهد التفكر في الآيات المرئية وشاهد التدبر للآيات المسموعة ، وفي صيغة فعيل مبالغة في المعنى في تحقق الوصف بالاستبصار والخبرة - انتهى .
ولما بيّن عدد الشاهد بيّن نوعه فقال : ( من رجالكم ( وأعلم بالإضافة اشتراط كونه مسلماً وإطلاق هذا الذي ينصرف إلى الكامل مع ما يؤيده في الآية يفهم الحريّة كقوله ) ولا يأب الشهداء ( والإتيان بصيغة المبالغة في الشاهد وتقييده مع ذلك بالرضى وتعريف الشهداء ونحوه .
قال الحرالي : ولكثرة المداينة وعمومها وسع فيها الشهادة فقال : ( فإن لم يكونا ) أي الشاهدان ) رجلين ) أي على صفة الرجولية كلاهما ) فرجل وامرأتان ( وفي عموم معنى الكون إشعار بتطرق شهادة المرأتين مع إمكان طلب الرجل بوجه ما من حيث لم يكن ، فإن لم تجدوا ففيه تهدف للخلاف بوجه ما من حيث إن شمول الكتاب توسعة في العلم سواء كان على تساو أو على ترتب ؛ ولما كنّ ناقصات عقل ودين جعل ثنتان منهن مكان رجل - انتهى .
ولما بيّن العدد بيّن الوصف فقال : ( ممن ترضون ) أي في العدالة ) من الشهداء ( هذا في الديون ونحوها .
قال الحرالي : وفي مفهوم الشهادة استبصار نظر الشاهد لما في الشهود من إدراك معنى خفي في صورة ظاه ريهدي إليها النظر النافذ - انتهى .
ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال العدد من النساء علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن فقال : ( أن تضل إحداهما ) أي تغيب عنها الشهادة فتنساها أو شيئاً منها ) فتذكر إحداهما الأخرى ( فتهتدي إلى ما ضلت عنه بواسطة الذاكرة .
قال الحرالي : بما هي أعرف بمداخل الضلال عليها ، لأن المتقاربين أقرب في التعاون ، وفي قراءتي التخفيف والتثقيل إشعار بتصنيف النساء صنفين في رتبة هذه الشهادة من يلحقها الضلال عن بعض ما شهدت فيه حتى تذكر بالتخفيف ولا يتكرر عليها ذلك ومن شأنها أن يتكرر عليها ذلك ، وفي إبهامه بلفظ إحدى أي من غير اقتصار على الضمير الذي يعين ما يرجع إليه إشعار أن ذلك يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر فأذكرت كل واحدة منهما صاحبتها فلذلك يقوم بهما معاً شاهد واحد حافظ - انتهى .
وفي ذكر الإذكار منع من الشهادة بدون الذكر ، والآية من الاحتباك .
ولما أفهم ذلك الحث على الشهادة صرح به في قوله : ( ولا يأب الشهداء ) أي تحمل الشهادة وأدائها بعد التحمل ) إذا ما دعوا ( دعاء جازماً بما أفهمته زيادة ما .
ولما تمّ ذلك وكان صغير الحق وكبيره ربما تُركت تهاوناً بالصغير ومللاً(1/547)
صفحة رقم 548
للكبير حذر من ذلك ولم يجعله في صلب الأمر قبل الإشهاد بل أفرده بالذكر تعظيماً لشأنه فقال : ( ولا تسئموا ( من السآمة .
قال الحرالي : بناء مبالغة وهو أشد الملالة ) أن تكتبوه ) أي لا تفعلوا فعل السئيم فتتركوا كتابته ) صغيراً ( كان الدين ) أو كبيراً ( طالت الكتابة أو قصرت .
قال الحرالي : ولم يكن قليلاً أو كثيراً ، لأن الكثرة والقلة واقعة بالنسبة إلى الشيء المعدود في ذاته ، والصغير والكبير يقع بالنسبة إلى المداين ، فربما كان الكثير في العدد صغير القدر عند الرجل الجليل المقدار ، وربما كان القليل العدد كثيراً بالنسبة إلى الرجل المشاحح فيه ، فكان الصغر والكبر أشمل وأرجع إلى حال المداين الذي هو المخاطب بأن يكتب انتهى .
) إلى أجله ) أي الذي توافقتم وتواثقتم عليه .
ولما كان كأنه قيل : ما فائدة ذلك ؟ فقيل : ( ذلكم ( إشارة بأداة البعد وميم الجمع إلى عظم جدواه .
قال الحرالي : ولبيانه ووضوحه عندهم لم يكن إقبالاً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي يقبل عليه في الأمور الخفية - انتهى .
) أقسط ) أي أعدل فقد نقل عن ابن السيد أنه قال في كتابه الاقتضاب : إن قسط بمعنى جار وبمعنى عدل .
وقال الحرالي : ( أقسط ( من الإقساط وهو وضع القسط وهو حفظ الموازنة حتى لا تخرج إلى تطفيف .
ثم زاد تعظيمه بقوله : ( عند الله ) أي الذي هو محيط بصفات الكمال بالنسبة إلى كل صفة من صفاته ، لأنه يحمل على العدل بمنع المغالطة والتلون في شيء من أحوال ذلك الدين ) وأقوم للشهادة ) أي وأعدل في قيام الشهادة إذا طلب من الشاهد أن يقيمها بما هو مضبوط له وعليه ) وأدنى ) أي أقرب في ) ألا ترتابوا ) أي تشكوا في شيء من الأمر الذي وقع .
قال الحرالي : ففي إشعاره أنه ربما داخل الرجل والرجلين نحو ما داخل المرأتين فيكون الكتاب مقيماً لشهادتهما ، فنفى عن الرجال الريبة بالكتاب كما نفى عن النساء الضلال بالذكر - انتهى .
ولما كان الدين المؤجل أعم من أن يكون قرضاً أو تجارة ينمي بها المال المأمور بالإنفاق منه في وجوه الخير النافعة يوم الدين وكان قد أكد في أمر الكتابة تأكيداً ربما ظن معه الحث عليها ولو لم يكن أجل نبه على أن العلة فيها الأجل الذي هو مظنة النسيان المستولي على الإنسان بقوله : ( إلا أن تكون ) أي المداينة ) تجارة حاضرة ( هذا على قراءة عاصم ، وكان في قراءة غيره تامة ) تديرونها بينكم ) أي يداً بيد ، من الإدارة .
قال الحرالي : من أصل الدور وهو رجوع الشيء عوداً على بدئه ) فليس عليكم ( حينئذ ) جناح ) أي اعتراض في ) ألا تكتبوها ) أي لأنها مناجزة وهي عرض زائل لا يكاد يستقر في يد أحد لأن القصد به المتجر لا الاستيقاء فبعد ما يخشى من التجاحد .(1/548)
صفحة رقم 549
ولما كان البيع أعم من أن يقصد به المتجر أو غير ذلك من وجوه الانتفاع قال : ( وأشهدوا ( سواء كانت كتابة أو لا ) إذا تبايعتم ) أي على وجه المتجر عاجلاً أو آجلاً أو لا للمتجر ، لأن الإشهاد أبعد من الخلاف وأقرب إلى التصادق بما فيه من الإنصاف ، والأمر للإرشاد فلا يجب .
ولما ألزم في صدر الخطاب الكاتب أن يكتب والشهيد أن يجيب ولا يأبى وأكد ذلك بصيغة تشمل المستكتب والمستشهد فقال ناهياً : ( ولا يضار ( يصح أن يكون للفاعل والمفعول وهو صحيح المعنى على كل منهما ) كاتب ولا شهيد ) أي لا يحصل ضرر منهم ولا عليهم .
قال الحرالي : ففي إلاحته تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده ويعينه على الائتمار لأمر ربه بما يدفع عنه من ضرر عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه ، ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه - انتهى .
) وإن تفعلوا ) أي ما نهيتم عنه من الضرار وغيره ) فإنه فسوق ) أي خروج ) بكم ( عن الشرع الذي نهجه الله لكم .
قال الحرالي : وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة - انتهى .
وختم آيات هذه المعاملات بصفة العلم بعد الأمر بالتقوى في غاية المناسبة لما يفعله المتعاملون من الحيل التي يجتلب كل منهم بها الحظ لنفسه ، والترغيب في امتثال ما أمرهم به في هذه الجمل بأنه من علمه وتعليمه فقال تعالى - عاطفاً على ما تقدم من أمر ونهي ، أو على ما تقديره : فافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه - : ( واتقوا الله ) أي خافوا الذي له العظمة كلها فيما أمركم به ونهاكم من هذا وغيره .
ولما كان التقدير استئنافاً لبيان فخامة هذه التنبيهات يرشدكم الله إلى مثل هذه المراشد لإصلاح ذات بينكم ، عطف عليه قوله : ( ويعلمكم الله ) أي يدريكم الذي له الكمال كله بذلك على العلم .
وقال الحرالي : وفي قوله : ( يعلم ( بصيغة الدوام إيذان بما يستمر به التعليم من دون هذا المنال انتهى .
وأظهر الاسم الشريف هنا وفي الذي بعده تعظيماً للمقام وتعميماً للتعليم فقال : ( والله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) بكل شيء عليم ( وهذا الختم جامع لبشرى التعليم ونذارة التهديد .
البقرة : ( 283 - 286 ) وإن كنتم على. .. . .
) وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي(1/549)
صفحة رقم 550
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان التقدير : هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد ، عطف عليه قوله : ( وإن كنتم ( ولما كان الإنسان في السفر يكون مستجمع القوى كامل الآلات تام الأهبة عبر بأداةالاستعلاء فقال : ( على سفر ( يعوز مثله إحضار كاتب ) ولم تجدوا كاتباً فرهان ) أي فيغنيكم عن الكتب رهن يكون بدلاً عنه ، وقرئ : فرهان ، وكلاهما جمع رهن - بالفتح والإسكان ، وهو التوثقة بالشيء مما يعادله بوجه ما .
وأشار بأن بدليتها لا تفيد إلا بما وصفها من قوله : ( مقبوضة ) أي بيد رب الدين وثيقة لدينه .
ولما كان التقدير : هذا إن تخوفتم من المداين ، عطف عليه قوله : ( فإن أمن ( ولما كان الائتمان تارة يكون من الدائن وتارة يكون من الراهن قال : ( بعضكم بعضاً ) أي فلم تفعلوا شيئاً من ذلك ) فليؤد ) أي يعط ، من الأداء وهو الإتيان بالشيء لميقاته .
ولما كان المراد التذكير بالإحسان بالائتمان ليشكر ولم يتعلق غرض بكونه من محسن معين بني للمفعول قوله : ( الذي اؤتمن ( من الائتمان وهو طلب الأمانة وهو إيداع الشيء لحفيظته حتى يعاد إلى المؤتمن - قاله الحرالي : ( أمانته ( وهو الدين الذي ترك المؤتمن التوثق به من المدين إحساناً إليه وحسن ظن به ، وكذا إن كان الائتمان من جهة الراهن ) وليتق الله ( المستجمع لصفات العظمة ) ربه ) أي الذي رباه في نعمه وصانه من بأسه ونقمه وعطّف عليه قلب من أعطاه وائتمنه ليؤدي الحق على الصفة التي أخذه بها فلا يخن في شيء مما اؤتمن عليه .
ولما كانت الكتابة لأجل إقامة الشهادة وكانت الأنفس مجبولة على الشح مؤسسة على حب الاستئثار فيحصل بسبب ذلك مخاصمات ويشتد عنها المشاحنات وربما كان بعض المخاصمين ممن يخشى أمره ويرجى بره فيحمل ذلك الشهود على السكوت قال سبحانه وتعالى : ( ولا تكتموا الشهادة ) أي سواء كان صاحب الحق يعلمها أو لا .
ولما نهى أتبع النهي التهديد فقال : ( ولا تكتموا الشهادة ) أي سواء كان صاحب الحق يعلمها أو لا .
ولما نهى أتبع النهي التهديد فقال : ( ومن يكتمها فإنه آثم ( ولما كان محلها القلب الذي هو(1/550)
صفحة رقم 551
عمدة البدن قال : ( قلبه ( ومن أثم قلبه فسد ، ومن فسد قلبه فسد كله ، لأن القلب قوام البدن ، إذا فسد فسد سائر الجسد .
ولما كان التقدير : فإن الله سبحانه وتعالى عالم بأنه كتم وكان للشهداء جهات تنصرف بها الشهادة عن وجه الإقامة عطف عليه قوله - ليشمل التهديد تلك الأعمال بإحاطة العلم : ( والله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال .
ولما كان الإنسان هو المقصود الأعظم من سائر الأكوان فكانت أحواله مضبوطة بأنواع من الضبط كأن العلم البليغ مقصور عليه فلذلك قدم قوله : ( بما تعملون ) أي كله وإن دق سواء كان فعل القلب وحده أو لا ) عليم ( قال الحرالي : فأنهى أمر ما بين الحق والخلق ممثولاً وأمر ما بين الخلق والخلق مثلاً - انتهى .
ولما أخبر عن سعة علمه دل عليه بسعة ملكه المستلزم لسعة قدرته ليدل ذلك على جميع الكمال لأنه قد ثبت كما قال الأصبهاني إن الصفات التي هي كمالات حقيقة ليست إلا القدرة والعلم المحيط فقال واعداً للمطيع متوعداً للعاصي مصرحاً بأن أفعال العباد وغيرها مخلوق له : - وقال الحرالي : ولما كان أول السورة إظهار كتاب التقدير في الذكر الأول كان ختمها إبداء أثر ذلك الكتاب الأول في الأعمال والجزاء التي هي الغاية في ابتداء أمر التقدير فوقع الختم بأنه سلب الخلق ما في أيديهم مما أبدوه وما أخفوه من أهل السماوات و الأرض ؛ انتهى - فقال : ( لله ) أي الملك الأعظم .
ولما كانت ما ترد لمن يغفل وكان أغلب الموجودات والجمادات عبر بها فقال : ( ما في السماوات ) أي كله على علوها واتساعها من ملك وغيره ) وما في الأرض ( مما تنفقونه وغيره من عاقل وغيره ، يأمر فيهما ومنهما بما يشاء وينهى عما يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويضاعف لمن يشاء .
ولما كان التقدير : فهو يعلم جميع ما فيهما من كتمانكم وغيره ويتصرف فيه بما يريد ، عطف عليه محذراً من يكتم الشهادة أو يضمر سوءاً غيرها أو يظهره قوله تعالى : ( وإن تبدوا ) أي تظهروا ) ما في أنفسكم ( من شهادة أو غيرها ) أو تخفوه ( مما وطنتموه في النفس وعزمتم عليه وليس هو من الخواطر التي كرهتموها ولم تعزموا عليها .
قال الحرالي : من الإخفاء وهو تغييب الشيء وأن لا يجعل عليه علم يهتدي إليه من جهته ) يحاسبكم ( من المحاسبة مفاعلة من الحساب والحسب ، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه من الأعمال الظاهرة والباطنة يعني ليجازي بها ) به الله ) أي بذكره لكم وأنتم تعلمون ما له من صفات الكمال .
قال الحرالي : وفي ضمن هذا الخطاب لأولي الفهم إنباء بأن الله سبحانه وتعالى إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما(1/551)
صفحة رقم 552
يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل حيث لم يكن فيحاسبكم مثلاً فقد أعظم اللطف به ، لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حيث يكفر عنه بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب ، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من ذنوبه وفراغ من حسابه كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف فلا يتسخ ولا يدرن ولا يزال نظيفاً - انتهى وفيه تصرف .
ولما كان حقيقة المحاسبة ذكر الشيء والجزاء عليه وكان المراد بها هنا العرض وهو الذكر فقط بدلالة التضمن دل عليه بقوله مقدماً الترجئة معادلة لما أفهمه صدر الآية من التخويف : ( فيغفر لمن يشاء ) أي فلا يجازيه على ذلك كبيرة كان أو لا ) ويعذب من يشاء ( بتكفير أو جزاء .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بهذا أنه مطلق التصرف ختم الكلام دلالة على ذلك بقوله مصرحاً بما لزم تمام علمه من كمال قدرته : ( والله ) أي الذي لا أمر لأحد معه ) على كل شيء قدير ) أي ليس هو كملوك الدنيا يحال بينهم وبين بعض ما يريدون بالشفاعة وغيرها .
قال الحرالي : فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق - انتهى .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية خاصة بأمر الشهادة ، وقال الأكثرون : هي عامة كما فهمها الصحابة رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم في الوسوسة وحديث النفس المعزوم عليه وغيره ثم خففت بما بعدها ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : ( لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لله ما في السماوات ( الآية إلى ) قدير ( اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بركوا على الركب فقالوا : يا رسول الله كُلّفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أترون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم :
77 ( ) سمعنا وعصينا ( ) 7
[ البقرة : 93 ] ، قولوا : ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( قالوا : ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( .
فلما اقترأها القوم وذلت بها السنتهم أنزل الله في إثرها ) آمن الرسول بما أنزل إليه إلى ) المصير ( فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى وأنزل ) لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( إلى ) أو أخطأنا ( قال : نعم ( قال البغوي : وفي رواية عن ابن عباس رضي(1/552)
صفحة رقم 553
الله عنهما : قد فعلت ، واستمر إلى آخر السورة كلما قرؤوا جملة قال : نعم .
فقد تبين من هذا تناسب هذه الآيات ، وأما مناسبتها لأول السورة رداً للمقطع على المطلع فهو أنه لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لا ريب فيه على الوجه الذي تقدم ختمها بذلك بعد تفصيل الإنفاق الذي وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشد اتصال ، وجعل رأسهم الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام تعظيماً للمدح وترغيباً في ذلك الوصف فأخبر بغيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل وبقولهم الدال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع فقال استئنافاً لجواب من كأنه قال : ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها ؟ ) آمن الرسول ) أي بما ظهر له من المعجزة القائمة على أن الآتي إليه بهذا الوحي ملك من عند الله سبحانه وتعالى كما آمن الملك به بما ظهر له من المعجزة الدالة على أن الذي أتى به كلام الله أمره الله سبحانه وتعالى بإنزاله فعرفه إشارة إلى أنه أكل الرسل في هذا الوصف باعتبار إرساله إلى جميع الخلائق الذين هم لله سبحانه وتعالى ، وأنه الجامع لما تفرق فيهم من الكمال ، وأنه المخصوص بما لم يعطه أحد منهم من المزايا والأفضال ) بما أنزل إليه ) أي من أن الله سبحانه وتعالى يحاسب بما ذكر وغير ذلك مما أمر بتبليغه ومما اختص هو به ورغب في الإيمان بما آمن به بقوله : ( من ربه ) أي المحسن إليه بجليل التربية المزكي له بجميل التزكية فهو لا ينزل إليه إلا ما هو غاية في الخير ومنه ما حصل له في دنياه من المشقة .
قال الحرالي : فقبل الرسول هذا الحساب الأول العاجل الميسر ليستوفي أمره منه وحظه في دنياه ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) لما قالت له فاطمة رضي الله تعالى عنها عند موته : واكرباه : ( لا كرب على أبيك بعد اليوم ( وقال ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالى عنه ) ما أوذي أحد في الله ما أوذيت ( فنال حظه من حكمة ربه في دنياه حتى كان يوعك كما يوعك(1/553)
صفحة رقم 554
عشرة رجال ، وما شبع من خبز بر ثلاثاً تباعاً عاجلاً حتى لقي الله ؛ وكذلك المؤمن لا راحة له دون لقاء ربه ولا سجن عليه بعد خروجه من دنياه ، ) الحمى حظ كل مؤمن من النار ( انتهى .
ولما أخبر عن الرأس أخبر عمن يليه فقال : ( والمؤمنون ( معبراً بالوصف الدال على الرسوخ أي آمنوا بما ظهر لهم من المعجزة التي أثبتت أنه كلام الله سبحانه وتعالى بما دلت على أن الآتي به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما أجمل فصل فقال مبتدئاً : ( كل ) أي منهم .
قال الحرالي : فجمعهم في كلية كأن قلوبهم قلب واحد لم يختلفوا ، لأن القبول واحد والرد يقع مختلفاً - انتهى .
ثم أخبر عن ذلك المبتدأ بقوله : ( آمن بالله ) أي لما يستحقه من ذلك لذاته لما له من الإحاطة بالكمال ) وملائكته ( الذين منهم النازلون بالكتب ، لأن الإيمان بالمنزل يستلزم ذلك ) وكتبه ) أي كلها ) ورسله ( كلهم ، من البشر كانوا أو من الملائكة ، فإن فيما أنزل إليه ( صلى الله عليه وسلم ) الإخبار بذلك .
قال الحرالي : انقياداً لامتثال من البشر .
ولما كان في الناس من يؤمن ببعض الأنبياء ويكفر ببعض قال مؤكداً لما أفهمته صيغة الجمع المضاف من الاستغراق أي قالوا : ( لا نفرق ( كما فعل أهل الكتاب وعبر بما يشمل الاثنين فما فوقهما فقال : ( بين أحد ) أي واحد وغيره ) من رسله ) أي لا نجعل أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه في ذلك بل نؤمن بكل واحد منهم ، والذي دل على تقدير ( قالوا ) دون غيره أنه لما أكمل قولهم في القوة النظرية الكفيلة باعتقاد المبدأ أتبعه قولهم في القوة العملية الكائنة في الوسط عطفاً عليها : ( وقالوا سمعنا ) أي بآذان عقولنا كل ما يمكن أن يسمع عنك وعلمناه وأذعنا له ) وأطعنا ) أي لكل ما فيه من أمرك .
قال الحرالي : فشاركوا أهل الكتاب في طليعة الإباء وخالفوهم في معاجلة التوبة والإقرار بالسمع والطاعة فكان لهؤلاء ما للتائب وعلى أولئك ما على المصر - انتهى .(1/554)
صفحة رقم 555
ولما كان الإنسان محل الزلل والنقصان أشاروا إلى ذلك تواضعاً منهم كما هو الأولى بهم لمقام الألوهية فقالوا مع طاعتهم معترفين بالمعاد : ( غفرانك ) أي اغفر لنا أو نسألك غفرانك الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والشرف والجلال ما قصرنا فيه ولا تؤاخذنا به فإنك إن فعلت ذلك هلكنا ، والحاصل أنهم طلبوا أن يعاملهم بما هو أهله لا بما هم أهله فجرى بما جراهم عليه في قوله : ( فيغفر لمن يشاء ( .
قال الحرالي : فهذا القول من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كشف عيان ، ومن المؤمنين نشء إيمان ، ومن القائلين للسمع والطاعة قول إذعان ، فهو شامل للجميع كل على رتبته - انتهى .
وزادوا تملقاً بقولهم : ( ربنا ( ذاكرين وصف الإحسان في مقام طلب الغفران .
قال الحرالي : وهو خطاب قرب من حيث لم يظهر فيه أداة نداء ، ولم يجر الله سبحانه وتعالى على ألسنة المؤمنين في كتابه العزيز نداء بُعد قط ؛ والغفران فعلان صيغة مبالغة تعطي الملء ليكون غفراً للظاهر والباطن وهو مصدر محيط المعنى نازل منزلة الاستغفار الجامع لما أحاط به الظاهر والباطن مما أودعته الأنفس التي هي مظهر حكمة الله سبحانه وتعالى التي وقع فيها مجموع الغفران والعذاب ) فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ( ففي ضمنه بشرى بتعيين القائلين المذعنين ومن تبعهم بالقول لحال المغفرة ، لأن هذه الخواتيم مقبولة من العبد بمنزلة الفاتحة لاجتماعهما في كونهما من الكنز الذي تحت العرش ، وعلى ما ورد من قوله : ( حمدني عبدي - إلى أن قال : ولعبدي ما سأل ) وعلى ما ورد في دعاء هذا الختم في قوله : ( قد فعلت قد فعلت ) وبما ابتدأ تعالى به آية هذا الحساب وختمها به من سلب الأمر أولاً وسلب القدرة عما سواه آخراً ، وكان في الابتداء والختم إقامة عذر القائلين ، فوجب لهم تحقق الغفران كما كان لأبيهم آدم حيث تلقى الكلمات من ربه - انتهى .(1/555)
صفحة رقم 556
ولما كان التقدير بما أرشد إليه ) ربنا ( : فإنه منك مبدأنا ، عطف عليه قوله حثاً على الاجتهاد في كل ما أمر به ونهى عنه على وجه الإخلاص : ( وإليك ) أي لا إلى الكتاب هو الصراط المستقيم ذكر افتراق الأمم كما يشاء وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيراً من حالهم ونهياً عن مرتكبهم وحصل قبيل النزول بجملته وانحصار التاركين وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود وأعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال سبحانه وتعالى : ( آمن الرسول بما أنزل ( فأعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا : ( سمعنا وأطعنا ( لا كقول بني إسرائيل .
77 ( ) سمعنا وعصينا ( ) 7
[ البقرة : 93 ] وأنه أثابهم على إيمانهم رفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان فقال : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( ، فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال أخذاً وتركاً وبيان شرف من أخذ به وسوء حال من تنكب عنه .
وكان العباد لما علموا
77 ( ) اهدنا الصراط المستقيم ( ) 7
[ الفاتحة : 6 ] - إلى آخر السورة قيل لهم : عليكم بالكتاب - إجابة لسؤالهم ؛ ثم بين لهم حال من سلك ما طلبوا فكان قيل لهم : أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين بيّن شأنهم وأمرهم ، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين بين أمرهم وشأنهم ، والضالون هم النصارى الذين بيّن أمرهم وشأنهم ؛ فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا وأن ينسحب إيمانه على كل ذلك ، وأن يسلم الأمر لله الذي تطلب منه الهداية ، ويتضرع إليه بأن لا يؤاخذه بما يثمره الخطأ والنسيان ، وأن لا يحمله ما ليس في وسعه ، وأن يعفو عنه - إلى آخر السورة ؛ انتهى .
ولما مُنّوا بالإيمان في سؤال الغفران عللوا السؤال بقولهم : ( لا يكلف الله ) أي الملك الأعظم الرحيم الأكرم الذي له جميع صفات الكمال ) نفساً إلا وسعها ) أي ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه ، وذلك هو الممكن لذاته الذي يتعلق اختيار العبد بفعله ، ولم يخبر الله تعالى بأنه لا يقع لا المحال لذاته ولا الممكن لذاته سواء كان مما لا مدخل للإنسان في اختياره كالنوم أو كان له مدخل فيه وقد تعلق العلم الأزلي بعدم وقوعه وأخبر سبحانه وتعالى بعدم وقوعه معيناً لصاحبه ، فهذا لا يقع التكليف به ويجوز التكليف به ؛ وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عنه سبحانه وتعالى خوفاً من أن يكلفوا بما لله سبحانه وتعالى كما دلت عليه الآية وقول(1/556)
صفحة رقم 557
المؤمنين عند نزولها وجواب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهم أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس التي لا يقع العزم عليها لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه فهو من باب :
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم ومن صفات الحلم والرحمة والرأفة ما يرفه عنهم ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله سبحانه وتعالى جزاء لهم على قولهم ) سمعنا وأطعنا ( - الآية ، فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس الذي لا عزم فيه ؛ فانتفى ما شق عليهم من قوله ) وإن تبدوا ما في أنفسكم ( - الآية ، بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم
77 ( ) سمعنا وعصينا ( ) 7
[ البقرة : 93 ] من الآصار في الدنيا والآخرة ، فيكون حينئذ استئنافاً جواباً لمن كأنه قال : هل أجاب دعاءهم ؟ ويكون شرح قوله أول السورة :
77 ( ) أولئك على هدى من ربهم ( ) 7
[ البقرة : 5 ] ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستفتاح بقوله : ( لها ) أي خاصاً بها ) ما كسبت ( وذكر الفعل مجرداً في الخير إيماء إلى أنه يكفي في الاعتداد به مجرد وقوعه ولو مع الكسل بل ومجرد نيته .
قال الحرالي : وصيغة فعل مجردة تعرب عن أدنى الكسب فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة - انتهى .
) وعليها ) أي بخصوصها ) ما اكتسبت ( فشرط في الشر صيغة الافتعال الدالة على الاعتمال إشارة إلى أن من طبع النفس الميل إلى الهوى بكليتها وإلى أن الإثم لا يكتب إلاّ مع التصميم والعزم القوي الذي إن كان عنه عمل ظاهر كان بجد ونشاط ورغبة وانبساط ، فلذلك من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وربما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام .
ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه في دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً ولا بما قارفوه خطأ ولا حمل عليهم ثقلاً بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاً ولا حملهم فوق طاقتهم مع أن له جميع ذلك ، وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم ، ثم رحمهم بأن أحلهم محل القرب فجعلهم أهلاً للخلافة ؛ فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر ويظهر دينهم على كل دين ، إذ كان سبحانه وتعالى هو الداعي عنهم ، وليكون الدعاء كله محمولاً على الإصابة ومشمولاً بالإجابة فقال سبحانه وتعالى : ( ربنا لا تؤاخذنا ) أي لا تفعل معنا فعل من يناظر خصماً فهو يناقشه على كل صغير وكبير ) إن نسينا ) أي ففعلنا ما نهيتنا عنه ) أو أخطأنا ) أي فعلناه ذاكرين له لكنا لم نتعمد سوءاً .
قال(1/557)
صفحة رقم 558
الحرالي : والخطأ هو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو ودّ أن لا يخطئ ، وفي إجرائه من كلام الله سبحانه وتعالى على لسان عباده قبوله - انتهى .
وإعادة ربنا في صدر كل جملة من هذا الطراز كما تقدمت الإشارة إليه في التذكير بعظم المقام في حسن التربية ولطف الإحسان والرأفة .
ولما كان ذلك قد يكون فإن له أن يكلف بما يشاء مع تحميل ما تعظم مشقته من التكاليف فإنه لا يسأل عما يفعل قال : ( ربنا ولا تحمل علينا إصراً ) أي ثقلاً .
قال الحرالي : هو العهد الثقيل أي الذي في تحمله أشد المشقة - انتهى .
ثم عظم المنة بقوله : ( كما حملته على الذين من قبلنا ( إشارة إلى أنه كان حمل على من سبق من الأحكام ما يهدّ الأركان تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا ، وأصل الإصر العاطف ، أصره الشيء يأصره : عطفه ، ويلزمه الثقل لأن الغصن إذا ثقل مال وانعطف وهو المقصود هنا ؛ وتلك الآصار المشار إليها كثيرة جداً ، منها ما في السفر الثاني من التوراة في القربان أنه ينضح من دك الذبيحة على زوايا المذبح ، ثم قال : ومن تقرب بذبح ثور أو غيره في مكان غير باب قبة الزمان بيت الرب يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً لأنه سفك دماً ويهلك ذلك الرجل من شعبه ، ومن أكل دماً نزل به الغضب وهلك لأن أنفس البهائم هي الدم ، وإنما أمروا أن يقربوه على المذبح لغفران خطاياهم وتطهير أنفسهم لأنه إنما يغفر للنفس بالدم ، ومن قرب قرباناً أكل منه يوم ذبحه وثانيه ، وما بقي في الثالث احرق بالنار ، ومن أكل منه هلك من شعبه ؛ ومن ذلك في ذوي العاهات أن من برص من الآدميين يجلس وحده ولا يختلط مع الناس ويكون سكنه خارجاً من محلة بني إسرائيل - حتى ذكر البرص في الثياب والبيوت وغيرها ، فما برص من الجلود والثياب يقطع موضع البرص منه ، فإن ظهر فيه بعد القطع أحرق كله بالنار ، وإن ظهر في بيت برص يهدم وتجمع حجارته وخشبه وترابه خارجاً من القرية ويحرق بالنار ؛ وكذا مرض السلس فيه تشديدات كثيرة ، منها أن من جلس على ثوب عليه مسلوس يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل - ونحو هذا ؛ ثم قال : وكلم الرب موسى وقال له : هذه سنة الأبرص الذي يتطهر : يقدم إلى الكاهن ويخرجه خارجاً من العسكر وينظر الحبر إن كانت ضربة البرص قد برأت وتطهر منها يأمر الحبر فيقدم ، ويؤتى بعصفورين حيين زكيين ، وعود من خشب الأرز ، وعهنة حمراء - وعد أشياء أخرى ؛ وقرباناً على كيفية مخصوصة صعبة على عين ماء ، ويغسل ثيابه وبدنه ، ويحلق شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وكل شعر جسده ، وأنه يمكث خارجاً من بيته سبعة أيام ، وفي اليوم الثامن يأتي بقربان آخر فيقرب على كيفية مخصوصة ، وينضح الكاهن(1/558)
صفحة رقم 559
من دمه على ثياب وبدن هذا الذي تطهر من البرص ، وكذا من زيت قربانه ، ويصب بقيته على رأسه .
وكذا في مرض السلس إذا برأ المسلوس بمكث سبعة أيام ، ثم يتطهر ويغسل ثيابه ، ويقرب قرباناً في باب قبة الزمان .
وقال : وأي رجل أمذى أو خرج منه منيه يغسل جسده كله بالماء ، ويكون نجساً إلى الليل ؛ ومن دنا من الحائض يكون نجساً إلى الليل وأي ثوب أو فراش وقعت عليه جنابة يغسل بالماء ويكون نجساً إلى الليل وأي ثوب رقدت عليه وهي حائض كان نجساً ، ومن دنا من فراشها يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل ، وكذا المستحاضة .
وفيه أيضاً : وكلم الرب موسى وقال له : كلم بني إسرائيل وقل لهم : المرأة إذا حبلت وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام كما تكون في أيام حيضها ، وفي اليوم الثامن يختن الصبي ، وتكون نجسة وتجلس مكانها ثلاثة وثلاثين يوماً ، لا تدنو من شيء مقدس ، ولا تدخل بيت الله سبحانه وتعالى لأن الصلاة محرمة عليها حتى تتم أيام تطهيرها ؛ فإن ولدت جارية تكون مثل نجاستها في أيام حيضها أربعة عشر يوماً وتجلس مكانها على الدم الزكي ستة وستين يوماً ، فإذا كملت أيام تطهيرها ابناً ولدت أو بنتاً تجيء بحمل حول - فذكر قرباناً في قبة الزمان على يد الكاهن لتطهر مما كان يجري منها من الدم .
ومن الآصار ما في السفر الثاني أيضاً من أنهم إذا حصدوا أرضاً أو قطفوا كرماً حرم عليهم الاستقصاء وأمروا أن يتركوا للمساكين ، ثم قال : ولا تلتقطوا ما ينتثر من زيتونكم بل دعوه للمساكين والذين يقبلون إليّ لأني أنا الله ربكم ، ثم قال : فإذا دخلتم الأرض وغرستم فيها كل شجر يثمر ثماراً تؤكل فدعوها ثلاث سنين ولا تأكلوا من ثمارها ، فإذا كان في السنة الرابعة صيروا جميع ثمار شجركم حرمة للرب ومجداً لإكرامه ، وفي السنة الخامسة كلوا ثمارها فإنها تنمو وتزداد لكم غلاتها ، أنا الله ربكم وقال في أواخر السفر الخامس وهو آخر أسفارها : لا تحيفوا على المسكين واليتيم والساكن بينكم في القضاء ، ولا تأخذوا ثوب الأرملة رهناً ، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر وأنقذكم الرب من هناك ، لذلك آمركم وأقول لكم إنه واجب عليكم أن تفعلوا مثل هذا الفعل ، وإذا حصدتم حقل أرضكم ونسيتم حزمة لا ترجعوا في طلب أخذها بل تكون للساكن ولليتيم والأرملة ، ليبارك الله ربكم في جميع أعمال أيديكم ؛ وإذا نثرتم زيتونكم فلا تطلبوا ما نسيتم في حقلكم بل يكون لليتيم والساكن والأرملة ؛ واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر ، لذلك آمركم أن تفعلوا هذا الفعل - وأما ما على النصارى من ذلك فسيأتي كثير منه إن شاء الله تعالى في المائدة عند قوله تعالى
77 ( ) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ( ) 7
[ المائدة : 47 ] .(1/559)
صفحة رقم 560
ولما دعوا بما تضمن الإيمان بما نزل إليهم مما حمل من كان قبلهم من الثقل اتبعوه ما يدل على اعتقادهم أن ذلك عدل منه في القضاء ، وأنه له أن يفعل فوق ذلك فيكلف بما ليس في الوسع ، لأنه المالك التام المِلك والمَلِك المنفرد بالمُلك ، وسألوا التخفيف برفع ذلك فقالوا : ( ربنا ولا ( وعبر بالتفعيل لما فيه مبا يفهم من العلاج من مناسبة التكليف بما لا يطاق فقال : ( تحملنا ما لا طاقة ) أي قدرة ) لنا به ( .
ولما كان الإنسان قد يتعمد الذنب لشهوة تدعوه إليه وغرض يحمله عليه أتبعوا ذلك دعاء عاماً فقالوا : ( واعف عنا ) أي ارفع عنا عقاب الذنوب كلها ) واغفر لنا ) أي ولا تذكرها لنا أصلاً ، فالأول العفو عن عقاب الجسم ، والثاني العفو عن عذاب الروح .
وقال الحرالي : ولما كان قد يلحق من يعفى عنه ويغفر له قصور في الرتبة عن منال الحظ من الرحمة ألحق تعالى المعفو عنه المغفور له بالمرحوم ابتداء بقوله : ( وارحمنا ) أي حتى يستوي المذنب التائب والذي لم يذنب قط في منال الرحمة .
ولما ضاعف لهم تعالى عفوه ومغفرته ورحمته أنهاهم بذلك إلى محل الخلافة العاصمة
77 ( ) لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم ( ) 7
[ هود : 43 ] فلما صاروا خلفاء تحقق منهم الجهاد لأعداء الله والقيام بأمر الله ومنابذة من تولى غير الله ، فتحقق أنه لا بد أن يشاققهم أعداء وينابذوهم ، فعلمهم الذي رحمهم سبحانه إسناد أمرهم بالولاية إليه قائلاً عنهم : ( أنت مولانا ( والمولى هو الولي اللازم الولاية القائم بها الدائم عليها لمن تولاه بإسناد أمره إليه فيما ليس هو بمستطيع لها - انتهى بالمعنى .
وكان حقيقته الفاعل لثمرة الولاية وهي القرب والإقبال ، وذلك أنهم لما سألوا العفو عن عذاب الجسم والروح سألوا ثوابهما ، فثواب الجسم الجنة وثواب الروح لذة الشهود وذلك ثمرة الولاية وهي الإقبال على الولي بالكلية ، ثم جعل ختام توجه المؤمنين إلى ربهم الدعاء بثمرة الولاية فقال : ( فانصرنا ( باللسان والسنان ، وأشار إلى قوة المخالفين حثاً على تصحيح الالتجاء والصدق في الرغبة بقوله : ( على القوم ( وأشار إلى أن الأدلة عليه سبحانه في غاية الظهور لكل عاقل بقوله : ( الكافرين ) أي الساترين للأدلة الدالة لهم على ربهم المذكورين أول السورة ، فتضمن ذلك وجوب قتالهم وأنهم أعدى الأعداء ، وأن قوله تعالى
77 ( ) لا إكراه في الدّين ( ) 7
[ البقرة : 256 ] ليس ناهياً عن ذلك وإنما هو إشارة إلى أن الدّين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب ، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دله عليه عقله ، ومن أبى أدخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام .
ولما كان الختم بذلك مشيراً إلى أنه تعالى لما ضاعف لهم عفوه عن الذنب فلا يعاقب عليه(1/560)
صفحة رقم 561
ومغفرته له بحيث يجعله كأن لم يكن فلا يذكره أصلاً ولا يعاقب عليه ورحمته في إيصال المذنب المعفو عنه المغفور له إلى المنازل العالية أنهاهم إلى رتبة الخلافة في القيام بأمره والجهاد لأعدائه وإن جل أمرهم وأعنى حصرهم كان مبنهاً على أن بداية هذه الصورة هداية وخاتمتها خلافة ، فاستوفت تبين أمر النبوة إلى حد ظهور الخلافة فكانت سناماً للقرآن ، وكان جماع ما في القرآن منضماً إلى معانيها إما لما صرحت به أو لما ألاحته وأفهمه إفصاح من إفصاحها كما تنضم هي مع سائر القرآن إلى سورة الفاتحة فتكون أماً للجميع - أفاد ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي .
وقد بان بذكر المنزل والإيمان به والنصرة على الكفار بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق منه رد مقطعها على مطلعها وآخرها على أولها ، ومن الجوامع العظيمة في أمرها وشمول معناها المبين لعلو قدرها ما قال الحرالي إنه لما كان منزل هذا القرآن المختص بخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين منزلاً حروفاً محيطة المعاني مخاطباً بها النبي والأئمة وتفصيل آيات مخاطباً به عامة الأمة انتظمت هذه السورة صنفي الخطابين فافتتحت بالم حروفاً منبئة عن إحاطة بما تضمنته معانيها من إحاطة القائم من معنى الألف وإحاطة المقام من معنى الميم وإحاطة الوصلة من معنى اللام ؛ ولما كانت الإحاطة في ثلاث رتب إحاطة إلهية قيومية وإحاطة كتابية وإحاطة تفصيلية كانت الإحاطة الخاصة بهذه الأحرف التي افتتحت بها هذه السورة إحاطة كتابية متوسطة ، فوقع الافتتاح فيما وقع عليه أمر القرآن في تلاوته في الأرض بالرتبة المتوسطة من حيث هي أقرب للطرفين وأيسر للاطلاع على الأعلى والقيام بالأدنى ، فكان ما كان في القرآن من
77 ( ) الم تلك آيات الكتاب الحكيم ( ) 7
[ لقمان : 26 ] ونحوه تفصيل إحاطة من إحاطة الكتاب التي أنزلت فيها سورة البقرة ، فكانت مشتملة على إحاطات الكتب الأربعة : كتاب التقدير الذي كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلائق بما شاء الله من أمد و عدد ، ورد ( أن الله كتب الكتاب وقضى القضية وعرشه على الماء ) ، و ( أن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير(1/561)
صفحة رقم 562
الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف عام ) وأنه قدر الأرزاق قبل أن يخلق الصور بألفي عام - وكثير من ذلك مما ورد في الخبار ؛ وفي مقابلة هذا الكتاب السابق بالتقدير الكتاب اللاحق بالجزاء الذي كتبه الله سبحانه وتعالى ويكتبه أثر تمام الإبداء باستبقاء الأعمال البادية على أيدي الخلق الذين ينالهم النعيم والجحيم والأمن والروع والكشف والحجاب ؛ وهذا الكتاب الآخر مطابق للكيان الأول ، ويبين بتطرقهما كتاب الأحكام المتضمن لأمر الدين والدعوة الذي وقعت فيه الهداية والفتنة ، ثم كتاب الأعمال الذي كتبه الله سبحانه وتعالى في ذوات المكلفين من أفعالهم وأحوال أنفسهم وما كتب في قلوبهم من إيمان أو طبع علهيا أو ختم عليها بفجور أو طغيان ؛ فتطابقت الأوائل والأواخر واختلف كتاب الأحكام وكتاب الأعمال بما أبداه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب من معنى الهدى والفتنة والإقدام والإحجام ، فتضمنت سورة البقرة إحاطات جميع هذه الكتب واستوفت كتاب الأقدار مبا في صدرها من تبيين أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين ، وكتاب الأفعال كما ذكر سبحانه وتعالى أمر الختم على الكافرين والمرض في قلوب المنافقين ، وما يفصل في جميع السورة من أحكام الدين وما يذكر معها مما يناسبها من الجزاء من ابتداء الإيمان إلى غاية الإيقان الذي انتهى إليه معنى السورة فيما بين الحق والخلق من أمر الدين ، وفيما بين الخلق والخلق من المعاملات والمقاومات ، وفميا بين المرء ونفسه من الأيمان والعهود ، إلى حد ختمها بما يكون من الحق للخلق في استخلاف الخلفاء الذين ختم بذكرهم هذه السورة الذين قالوا : ( غفرانك ربنا ( إلى انتهائها ؛ ولما كان مقصود هذه السورة الإحاطة الكتابية كان ذلك إفصاحها ومعظم آياتها وكانت الإحاطة الإلهية القيومية إلاحتها ونور آياتها ، فكان ذلك في آية الكرسي تصريحاً وفي سائر آيها الإحة بحسب قرب الإحاطة الكتابية من الإحاطة الإلهية ، وفي بدء سابق أو ختم لاحق أو حكمة جامعة ، فلذلك انتظم بالسورة التي ذكرت فيه البقرة السورة التي يذكر فيها آل عمران ، لما نزل في سورة آل عمران من الإحاطة الإلهية حتى كان في مفتتحها اسم الله الأعظم ، فكان ما في البقرة إفصاحاً في سورة آل عمران إلاحة ، وكان ما في البقرة إلاحة في سورة آل عمران إفصاحاً ، إلا ما اطلع في كل واحدة منهما من تصريح الأخرى ؛ فلذلك هما سورتان مرتبطتان وغيايتان(1/562)
صفحة رقم 563
وغمامتان تظلان صاحبهما يوم القيامة ، وبما هما من الذكر الأول وبينهما من ظاهر التفاوت ما بين الإحاطة الكتابية وبين الإحاطة الإلهية فلذلك كانت سورة البقرة سناماً له والسنام أعلى ما في الحيوان المنكب وأجمله جملة وهو البعير ، وكانت سورة آل عمران تاج القرآن والتاج هو أعلى ما في المخلوقات من الخلق القائم المستخلف في الأرض ظاهره وفي جميع المكون إحاطته ؛ فوقع انتظام هاتين السورتين على نحو من انتظام الآي يتصل الإفصاح في الآية بإلاحة سابقتها كما تقدم التنبيه عليه في مواضع - انتهى .
وسر ترتيب سورة السنام على هذا النظام أنه ملا افتتحها سبحانه وتعالى بتصنيف الناس الذين هم للدين كالقوائم الحاملة لذي السنام فاستوى وقام ابتداء المقصود بذكر أقرب السنام إلى أفهام أهل القيام فقال مخاطباً لجميع الأصناف التي قدمها
77 ( ) يا أيها الناس اعبدوا ربكم ( ) 7
[ البقرة : 21 ] واستمر إلى أن بان الأمر غاية البيان فأخذ يذكر مننه سبحانه على الناس المأمورين بالعبادة بما أنعم عليهم من خلق جميع ما في الوجود لهم بما أكرم به أباهم آدم عليه الصلاة والسلام ، ثم خص العرب ومن تبعهم ببيان المنة عليهم في مجادلة بني إسرائيل وتبكيتهم ، وهو سبحانه وتعالى يؤكد كل قليل أمر الربوبية والتوحيد بالعبادة من غير ذكر شيء من الأحكام إلا ما انسلخ منه بنو إسرائيل بتركه لا على أنه مقصود بالذات ، فلما تزكوا فترقوا فتأهلوا لأنواع المعارف قال معلياً لهم من مصاعد الربوبية إلى معارج الإلهية
77 ( ) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ( ) 7
[ البقرة : 163 ] فلما تسنموا هذا الشرف لقنهم العبادات المزكية ونقاهم أرواحها المصفية فذكر أمهات الأعمال أصولاً وفروعاً الدعائم الخمس والحظيرة وما تبع ذلك من الحدود في المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك من المصالح فتهيؤوا بها وأنها المواردات الغر من ذي الجلال فقال مرقياً لهم إلى غيب حضرته الشماء ذاكراً مسمى جميع الأسماء
77 ( ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ) 7
[ البقرة : 255 ] ولما كان الواصل إلى أعلى مقام الحرية لا بد عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمال اللائقة بهم ، فحث على أشياء أكثرها من وادي الإحسان الذي هو مقام أولي العرفان ، فذكر مثل النفقة التي هي أحد مباني السورة عقب ما ذكر مقام الطمأنينة إيذاناً بأن ذلك شأن المطمئن ، ورغب فيها إشارة إلى أنه لا مطمع في الوصول إلا بالانسلاخ من الدنيا كلها ، وأكثر من الحث على طيب المطعم الذي لا بقاء بحال من الأحوال بدونه ، ونهى عن الربا أشد نهي إشارة إلى التقنع بأقل الكفاف ونهياً عن مطلق الزيادة للخواص وعن كل حرام للعوام ، وأرشد إلى آداب(1/563)
صفحة رقم 564
الدين الموجب للثقة بما عند الله المقتضي بصدق التوكل المثمر للعون من الله سبحانه وتعالى والإرشاد إلى ذلك ، توفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو متلبس به ؛ وبنى سبحانه وتعالى كل ثلث من هذا الأثلاث على مقدمة في تثبيت أمره وتوجه بخاتمة في التحذير من التهاون به ، وزاد الثالث لكونه الختام وبه بركة التمام أن أكد عليهم بعد خاتمته في الإيمان بجميع ما في السورة ، وختم بالإشارة إلى أن عمدة ذلك الجهاد الذي لذوي الغي والعناد ، والاعتماد فيه على مالك الملك وملك العباد ، وذلك هو طريق أهل الرشاد ، والهداية والسداد والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب .
.. . الجزء الثاني من نظم الدرر
بداية الجزء الثاني(1/564)
صفحة رقم 3
سورة آل عمران
آل عمران : ( 1 - 5 ) الم
) الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ ( ( )
) بسم الله ( الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال ) الرحمن ( الذي وسعت رحمته إيجاد كل مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة ) الرحيم ( الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه ) الم ( المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى ، والإخبار بأن رئاسة الدنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن ما أعد للمتقين من الجنة والرضوان هو الذي ينبغي الأقبال عليه والمسارعة اليه وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة هذا ما كان ظهر لي أولاً ، وأحسن منه أن نخص القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها فإن الأمرين الآخرين يرجعان إليه ، وذلك لأن الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة ، فالقيام يكون على كل نفس ، والاستقامه العدل كما قال : ( ) قائماً بالقسط ( ) [ آل عمران : 18 ] أي بعقاب العاصي وثواب الطائع بما يقتضي للموقف ترك العصيان ولزوم الطاعة ؛ وهذا الوجه أوفق الترتيب ، لأن الفاتحة لما كانت جامعة للدين إجمالاً جاء به التفصيل محاذياً لذلك ، فابتدىء بسورة الكتاب المحيط بأمْر الدين ، ثم بسورة التوحيد الذي هو سر حرف الحمد وأول حروف الفاتحة ، لأن التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلا عليه ، ولما صح الطريق وثبت الأساس جاءت التي بعدها داعية إلىالاجتماع على ذلك ؛ وأيضاً فلما ثبت بالبقرة أمر(2/3)
صفحة رقم 4
الكتاب في أنه هدى وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) يأيها الناس اعبدوا ربكم ( ) 7
[ البقرة : 21 ] فأثبت الوحدانيه له بأبطال إلهيه غيره بإثبات أن عيسى عليه السلام الذي كان يحيي الموتى عبده فغيره بطريق الأولى ، فلما ثبت أن الكل عبيده دعت سورة النساء إلى إقبالهم أليه واجتماعهم عليه ؛ ومما يدل على أن القصد بها هو التوحيد تسميتها بآل عمران ، فإن لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من لإخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه ، فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة ، كما أن التوحيد خاصته المعقولة ، والتوحيد موجب لزهرة المتحلي به فلذلك سميت الزهراء .
القصد الأول التوحيد
ومناسبه هذا الأول بالإبتدائيه لآخر ما قبلها أنه لما كان آخر البقرة في لاحقيقة آية الكرسي وما بعدها إنما هو بيان ، لأنها أوضحت أمر الدين بحيث لم يبقى وراءها مرمى لمتنعت ، أو تعجب من حال من جادل في الإلهية أو استبعد شيئاً من القدرة ولم ينظر فيما تضمنته هذه الآية من الأدله مع وضوحه ، أو إشارة إلى الاستدلال على البعث بأمر السنابل في قالب الإرشاد إلى ما ينفع في اليوم الذي نفى فيه نفع البيع والخلة والشفاعة من النفقات ، وبيان بعض ما يتعلق بذلك ، وتقرير أمر ملكه لما منه الإنفاق من السماوات و الأرض ، والإخبار بإيمان الرسول وأتباعه بذلك ، وبأنهم لا يفرقون بين أحد من الرسل المشار اليهم في السورة ، وبقصدهم في التضرع برفع الأثقال التي كانت على من قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم ، وبالنصرة على عامة الكافرين ؛ لما كان ذلك على هذا الوجه ناسب هذا الاختتام غايه المناسبة ابتداء هذه السورة بالذي وقع الإيمان به سبحانه وتعالى ووجهت الرغبات آخر تلك اليه ؛ وأحسن منه أنه لما نزل إلينا كتابه فجمع مقاصده في الفاتحه على وجه أرشد فيه إلى سؤال الهدية ثم شرع في تفصيل ما جمعه في الفاتحة ، فأرشد في أول البقرة إلى أن الهديه في هذا الكتاب ، وبيّن ذلك بحقيه المعنى والنظم كما تقدم إلى أن ختم البقرة بالإخبار عن خلص عباده بالإيمان بالمنزل بالسمع والطاعة ، وأفهم ذلك مع التوجه بالدعاء إلى المنزل له أن له سبحانه وتعالى كل شيء وبيده النصر ، علم أنه واحدلا شريك له حي لا يموت قيوم لا يغفل وأن ما أنزل هو الحق ، فصرح أول هذه بما أفهمه آخر تلك ، كما يصرح بالنتيجة بعد المقدمات المنتجة لها فقال : ( الله ) أي الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه لأن له الإحاطة بجميع أوصاف الكمال والنزاهة الكاملة من كل شائبة نقص .(2/4)
صفحة رقم 5
وقال الحرالي مشيراً إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقراراً لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السوري في مقرر هذا الكتاب : هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره ؛ فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله سبحانه وتعالى فيما يرجع إليه ، وفيما يرجع إلى عبده ، وفيما بينه وبين عبده ، فكانت أم القرآن وأم الكتاب ؛ جعل مثنى تفصيل ما يرجع منها إلى الكتاب المنبأ عن موقعه في الفاتحة مضمناً سورة البقرة إلى ما أعلن به ، لألأنور آية الكرسي فيها ، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع إلى خاص علن الله سبحانه وتعالى في الفاتحة ، فكان منزلة سورة آل عمران منزله تاج الراكب وكان منزله سورة البقرة منزلة سنام المطية ؛ قال ( ص ) : ( لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة ، لكل شيء تاج وتاج القرآن سورة آل عمران ( وإنما بدىء هذا الترتيب لسورة الكتاب لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله ، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة آل عمران ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظاً وبتلقيه على اللقن منزل الكتاب بما ابداه علنه في هذه السورة ؛ وبذلك يتضح أن إحاطة ) الم ( المنزلة في أول سورة البقرة إحاطة كتابية بما هو قيامه وتمامه ، ووصلة ما بين قيامه وتمامه ، وأن إحاطة ) الم ( المنزلة في أو هذه السورة إحاطة إلهية حيايية قومية ممل بين غيبة عظمة اسمه ) الله ( إلى تمام قيومته البادية في تبارك ما أنبأ عنه اسمه ) الحي القيوم ( وما أوصله لطفه من مضمون توحيده المنبىء عنه كلمه الإخلاص في قوله : ( لا إله الا هو ( فلذلك كان هذا المجموع في منزله قرآناً حرفياً وقرآناً كلمياً اسمياً وقرآناً كلامياً تفصيليا مما هو اسمه الأعظم كما تقدم من قوله : ( اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين :
77 ( ) وإلهكم أله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( ) 7
[ البقرة : 163 ] ، ) الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( وكما وقعت الإحة في سورة البقرة لما وقع بها الإفصاح في سورة آل عمران كذلك وقع في آل عمران من نحو ما وقع تفصيبه في سورة البقرة ليصير منزلاً واحداً بما أفصح مضمون كل سورة بالإحة الأخرى ، فلذلك هما غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة كما تقدم لا تفترقان ، فأعظم ) الم ( هو مضمون ) الم ( الذي(2/5)
صفحة رقم 6
افتتحت به هذه السورة ويليه في الرتبة ما افتتحت به سورة البقرة ، ويليه في الرتبة ما افتتحت به سور الآيات نحو قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) الم تلك آيات الكتاب الحكيم ( ) 7
[ لقمان : 2 ] فللكتاب الحكيم إحاطة قواماً وتماماً ووصلة ، ولمطلق الكتاب إحاطة كذلك ، وإحاطه الإحاطات وأعظم العظمة إحاطة افتتاح هذه السورة ؛ وكذلك أيضاً اللواميم محيطة بإحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف اللواميم ، وإحاطة الحواميم من دون إحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف الطواسيم على ما يتضح تراتبه وعلمه لمن آتاه الله فهماً بمنزله قرآن الحروف المخصوص بإنزاله هذه الأمة دون سائر الأمم ، الذي هو من العلم الأزلي العلوي ؛ ثم قال : ولما كانت أعظم الإحاطات إحاطة عظمة اسمه ( الله ) الذي هو مسمى التسعة والتسعين أسماء التي أولها ) إله ( كان ما أفهمه أول الفهم هنا اسم ألف بناء في معنى إحاطات الحروف على نحو إحاطة اسمه ( الله ) في الأسماء ، فكانت هذه الألف مسمى كل ألف كما كان اسمه ) الله ( سبحانه وتعالى مسمى كل اسم سواه حتى أنه مسمى سائر الأسماء الأعجمية التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى في جميع الألسن كلها مع أسماء العربية أسماء لمسمى هو هذا الاسم العظيم الذي هو ) الله ( الأحد الذي لم يتطرق اليه شرك ، كما تطرق إلى أسمائه من اسمه ) إله ( إلى غايه اسمه ( الصبور ) وكما كان إحاطة هذا الألف أعظم إحاطة حرفية وسائر الألفات أسماء لعظيم إحاطتة ؛ وكذلك هذه الميم أعظم إحاطة ميم تفصلت فيه وكانت له أسماء بمنزلة ما هي سائر الألفات أسماء لمسمى هذا الألف كذلك سائر الميمات اسم لمسمى هذا الميم ، كما أن اسمه ) الحي القيوم ( أعظم تمام كل عظيم من أسماء عظمته ؛ وكذلك هذه اللام بمنزلة ألفه وميمه ، وهي لام الإلهية الذي أسراره لطيف التنزل إلى تمام ميم قيوميته ؛ فمن لم ينته إلى فهم معاني الحروف في هذه الفاتحة نزل له الخطاب إلى ما هو إفصاح إحاطتها في الكلم والكلام المنتظم في قوله : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ، فهو قرآن حرفي يفصله قرآن كلمي يفصله قرآن كلامي انتهى .
فقوله : ( الله ) أي الذي آمن به الرسول وأتباعه بما له من الإحاطة بصفات الكمال ) لا إله إلا هو ) أي متوحد لا كفوء له فقد فاز قصدكم إليه بالرغبة وتعويلكم عليه في المسألة .
قال الحرالي : فما أعلن به هذا الاسم العظيم أي الله في هذه الفاتحة هو ما استعلن به في قوله تعالى :
77 ( ) قل هو الله أحد ( ) 7
[ الإخلاص : 1 ] ، ولما كان إحاطة العظمة أمراً خاصاً لأن العظمة إزاء الله الذي لا يطلع عليه إلا صاحب سر كان البادي لمن دون أهل الفهم من رتبة أهل العلم اسمه ( الله الصمد ) الذي يعنى اليه بالحاجات والرغبات المختص بالفوقية والعلو الذي يقال للمؤمن(2/6)
صفحة رقم 7
عنه : أين الله ؟ فيقول : في السماء ، إلى حد أن يقول : فوق العرش ، فذلك الصمد الذي أنبأ عنه اسمه ) إله ( الذي أنزل فيه إلزام الإخلاص والتوحيد منذ عبدت في الأرض الأصنام ، فلذلك نضم توحيد اسمه الإله بأحدية مسمى هو من اسمه العظيم ( الله ) ، ورجع عليه باسم المضمر الذي هو في جبلات الأنفس وغرائز القلوب الذي تجده غيباً في بواطنها فتقول فيه : هو ، فكان هذا الخطاب مبدوءاً بالاسم العظيم المظهر منتهياً إلى الاسم المضمر ، كما كان خطاب
77 ( ) قل هو الله أحد ( ) 7
[ الإخلاص : 1 ] مبدوؤاً بالاسم المضمر منتهياً إلى الاسم العظيم المظهر ، وكذلك أيضاً اسم الله الأعظم في سورة
77 ( ) قل هو الله أحد ( ) 7
[ الإخلاص : 1 ] كما هو في هذه الفاتحة .
ولما كان لبادي الخلق افتقار إلى قوام لا يثبت طرفة عين دون قوامه كان القوام البادي آيته هي الحياة فما حيي ثبت وما مات فني وهلك ؛ انتهى ولما كان المتفرد بالملك من أهل الدنيا يموت قال : ( الحي ) أي الحياة الحقيقية التي لا موت معها .
ولما كان الحي قد يحتاج في التدبير إلى وزير لعجزه عن الكفاية بنفسه في جميع الأعمال قال : ( القيوم ( إعلاماً بأن به قيام كل شيء وهو قلئم على كل شيء .
قال الحرالي : فكما أن الحياة بنفخة من روح أمره فكل متماسك على صورته حي بقيوميته انتهى .
وفي وصفه بذلك إعلام بأنه قادر على نصر جنده وإعزاز دينه وعون وليه ، وحث على مراقبته بجهاد أعدائه ودوام الخضوع لديه والضراعة اليه .
ولما كان من معنى القيوم أنه المدبر للمصالح اتصل به الأعلام بتنزيل ما يتضمن ذلك ، وهو الكتاب المذكور في قوله :
77 ( ) بما أنزل أليه من ربه ( ) 7
[ البقرة : 285 ] والكتب المذكورة في أول البقرة في قوله :
77 ( ) بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ( ) 7
[ البقرة : 4 ] وفي آخرها بقوله
77 ( ) وكتبه ورسله ( ) 7
[ لبقرة : 285 ] التي من جملتها التوراة والإنجيل اللذان فيهما الآصار المرفوعة عنا ، ثم شرح بعده أمر التصوير في الأحشاء ، وذلك لأن المصالح قسمان : روحانية وجسمانية ، وأشرف المصالح الروحانية العلم الذي هو الروح كالروح للبدن فإنها تصير به مرآة مجلوة ينجلي فيها صور الحقائق ، وأشرف المصالح الجسمانية تعديل المزاج وتسوية البنية في أحسن هيئة ، وقدم الروحانية المتكفل بها الكتاب لأنها أشرف .
ولما كانت مادة ( كتب ) دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي معناه التفريق لتشمل هذه الجملة على وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال : وقال الحرالي : ولما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول السورة إحاطة الإلهية جاء هذا الخطاب رداً عليه ، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الأحاطة الكتابية بالتنزيل الذي هو تدرج من رتبة إلى رتبة دونها ؛ انتهى فقال : ( نزّل ) أي شيئاً فشيئاً(2/7)
صفحة رقم 8
في هذا العصر ) عليك ) أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر ، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحى إليه وأنه يقدر على الإيتان بمثل الوحي ) الكتاب ) أي القرآن الجامع للهدى بحسب الوقائع ، لم يغفل عن واحد منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة ، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن .
قال الحرالي : وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجالمع الأول الذي لا ينزل إلا على الخاتم الآخر المعقب لما أقام به حكمته من أن صور الأواخر مقامة بحقائق الأوائل ، فأول الأنوار الذي هو نور محمد هو قثم خاتم الصور التي هي صورة محمد انتهى .
تنزيلاً ملتيسا ) بالحق ) أي الأمر الثابت ، فهو ثابت في نفسه ، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك .
قال الحرالي : وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب كذلك هو الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه ، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع ووضع انتهى .
حال كونه ) مصدقاً ( ولما كان العامل مرفوعاً لأنه أمر فاعل قواه في اللام فقال : ( لما بين يديه ) أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية .
قال الحرالي : لما كان هذا الكتاب أولاً وجامعاً ومحيطاً كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى .
ولما كان النزاع وفد ونجران في الإله أو النبي أو فيها كان هذا الكلام كفيلاً على وجازتة بالرد عليهم في ذلك ببيان الحق في الإله بالقيومية ، وفي المعنى بالكتاب المعجز ، ولما كانوا مقرين بالكتب القديمة أشار إلى ليس لهم إنكار هذا الكتاب وهو أعلى منها في كل أمر أوجب أوجب تصديقها وإلى أن من أنكره بعد ذلك كان من الأمر الظاهر أنه معاند لا شك في عناده فقال : ( وأنزل التوراة ( وهو ( فاعلة ) لو صرفت من الورى وهو قدح النار من الزند ، استثقل اجتماع الواوين فقلب أولهما تاء كما في اتحاد و اتّلاج واتّزار واتّزان ونحوه قال الحرالي : فهي توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من كفر دعي إليها من الفراعنة ، فكان فيها هدى ونور ) والإنجيل ( من النجل ، وضع على زيادة ( إفعيل ) لمزيد معنى ما وضعت له هذة الصيغة ، وزيادتاها مبالغه في المعنى ، وأصل النجل استخراج خلاصه الشيء ، ومنه يقال للولد : نجل أبيه .
كان الإنجيل استخلص خلاصه نور التوراة فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة ، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة يوم الأخرى فهو جامع إحاطة الظواهر ، وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة والإنجيل كتاب إحاطة لأمر البواطن يحيط بالأمور النفسانية التي بها يقع لمحموجود الآخرة مع(2/8)
صفحة رقم 9
الإعراض عن إصلاح الدنيا بل مع هدمها ، فكان الإنجيل مقيماً لأمر الآخرة هادماً لأمر الدنيا مع حصوله أدنى بلغة ، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا مع تحصيل الفوز في الآخرة ، فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهروالباطن ، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر ، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن ، كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أولهذه السورة من أسمائه العظيمة مع لحظ التوحيد ليعتبر الكتاب والسورة بما نبه بتنزيله من اسمه الله وسائر أسمائه على وجوه إحاطتها انتهى وفيه تصرف ؛ فأحاط هذا الكتاب إحاطة ظاهرة بأمري الظاهر والباطن بما أذن منه تصديقه للكتابين ، وخصهما سبحانه وتعالى بالتنويه بذكرهما إعلاماً بعلي قدرهما .
ولما لم يكن إنزالهما مستغرقاً للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معرياً من التقيد بمن نزلا عليه لسهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن ) من قبل ) أي من قبل هذا الوقت إنزالاً انقضى أمره ومضى زمانه حال كون الكل ) هدى ) أي بياناً ، ولذا عم فقال : ( للناس ( وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب ، فلذا خص المتقين ؛ والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل : كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية ، لأنه متفرد بالحياة ، لأنه متفرد بالقيومية ؛ وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته .
ولما كانت مادة ( فرق ) للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز ، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالاً تنبيهاً على علو رتبته عنهما بمقدار علو رتبه المتقين الذين هو هدى لهم ، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى : ( وأنزل الفرقان ) أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفه السادة المرجوع إليهم عند الملمات ، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل ، وسترى هذا المعنى إن شاء الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا ؛ فعل ذبك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة ، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة .
قال الحرالي : فكان الفرقان جامعاً لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعاً يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب
77 ( ) أن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ( ) 7
[ الانفال : 29 ] فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع ، فصار التنزيل في ثلاث رتب : رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع ، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع(2/9)
صفحة رقم 10
بين الظاهر والباطن ، ثم منزل التوراة والإنجيل المختفي فيه موضع ظاهر التوراة بباطن الإنجيل انتهى .
ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت ، وأن الخلق أخذ في النقصان ، وهذا العالم أشرف على الزوال ، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بنى إسرائيل ، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقاً ، وكان مبعوثاً مع نفس الساعة ، وكان نزوله هو آخر الزمان علماً على الساعة ، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه ، وأن يكون ولا شيء معه كما كان ، وأن الحين الذي يتمخص فيه تفرد الواحد قد حان ، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن ؛ ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاه والسلام مخلوقاً من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء ، وهوغالب على كل ما جاوره ، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم ، فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل ، فلمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلاً على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه ، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق .
وقال ابن الزبير ما حاصله : إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات : إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها ، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضاً إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم ، فإن هذا الكتاب جاء مصدقاً لما نزل نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه ، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين ، ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة ، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة ، وأنزل بعدها الإنجيل ، وأن كل ذلك هدى لمن وفق ، إعلاماً منه سبحانه وتعالى لأمه محمد أن من تقدمهم قد بين لهم
77 ( ) وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ) 7
[ الإسراء : 15 ] ؛ والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ( ) 7
[ آل عمران 59 ] انتهى .(2/10)
صفحة رقم 11
ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور ، فاتصل بذلك بقوله : ( إن الذين كفروا ) أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها ، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه ) بآيت الله ( المستجمع لصفات الكمال إقبالاً منهم على ما ليس له أصلاً صفة كمال ، وهذا الكفر كما قال الحرالي دون الكفر بأسماء الله الذي هو دون الكفر بالله ، قال : فكما بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى .
) لهم عذاب شديد ( كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة ، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق العذاب .
قال الحرالي : ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر ، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف انتهى .
والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال : ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة ؟ أو يقال : إنه لما قال :
77 ( ) وأنزل الفرقان ( ) 7
[ آل عمران : 4 ] أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال : وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى ولما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين ، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة ، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى ، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد اليه حق ، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب .
ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبساً ولا شبهة أنتج ذلك قطعاً أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون ، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال : ( إن الذين ( مؤكداً مظهراً لما كان من حقه الإضمار ، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات ؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به وعبر به فقال : عاطفاًعلى ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه : فالله سبحانه وتعالى عالم بما له من القيومية بجميع أحوالهم : ( والله ) أي الملك العظيم مع كونه رقيباً ) عزيز ( لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ) ذو انتقام ) أي تسلط وبطش شديد بسطوة .
قال الحرالي : فأظهر وصف العزة موصولاً بما أدام من انتقامه بما يعرب عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام ، فكأن في إشعاره دواماً لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر ، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة اليومية في طرفي النقمة والرحمة ، فتقابل هذان(2/11)
صفحة رقم 12
الخطابان إفصاحاً وإفهاماً من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحاً فافهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة ، فإنه كما أنزل الكتب هدى أنزل متشابهها فتنة ، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان ، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى .
وما أحسن إطلاق العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم ، وفي الآخرة تصديقاً لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم ، وتهديداً لمن تُرك كثير من هذه السورة بسببهم وهم وفد نصارى نجران .
يجادلون النبي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فتارة يقولون : هو الله ، وتارة يقولون : هو ابن الله ، وتارة يقولون ، هو ثالث ثلاثة ، وكان بعضهم عالماً بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن أحمد الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه : فلم لا تتبعه وأنتتعلم أن عيسى أمر باتباعه ؟ فقال له : لو اتبهناه لسلبنا ملك الروم جميع ما ترى من النعمة ، وكان ملوك الروم قد أحبوهم لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية وغيرها ، واستمر سبحانه وتعالى يؤكد استجابته لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في النحو قوله :
77 ( ) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ( ) 7
[ آل عمران : 10 ]
77 ( ) قل للذين كفروا ستغلبون ( ) 7
[ آل عمران : 12 ] إلى أن ختم السورة بشرط الاستجابة فقال :
77 ( ) اصبروا وصابروا ( ) 7
[ آل عمران : 200 ] ، ثم قال توضيحاً لما قدم في آية الكرسي من إثبات العلم ، واستدلالاً على وصفه سبحانه وتعالى بالقيومية التي فارق بها كل من يدعي فيه الإلهية مشيراً بذلك إلى الرد على من جادل في عيسى عليه الصلاة والسلام فأطراه أنه إله ، وموضحاً لأن كتبه هدى وأنه عالم بالمطيع والعاصي بما تقدم أنه أرشد العطف في ) والله العزيز ( لى تقديره ، ومعللاً لوصفه بالعزة والقدرة لما يأتي في سورة طه من أن تمام العلم يستلزم شمول القدرة : ( إن الله ( بما له من صفات الكمال التي منها القيومية ) لا يخفي عليه شيء ( وإن دق ، ولما كان تقريب المعلومات بالمحسوسات أقيد في التعليم والبعد عن الخفاء قال وإن كان علمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بشيء : ( في الأرض ولا في السماء ) أي ولا هم يقدرون على أن يدعوا في عيسى عليه الصلاة والسلام مثل هذا العلم ، بل في إنجيلهم الذي بين أظهرهم الآن في حدود السبعين والثمانمائة التصريح بأنه يخفي عليه بعض الأمور ، قال في ترجمة إنجيل مقس في قصة التي كانت بها نزف الدم : إنها أتت من ورائه فأمسكت ثوبه فبرأت فعلم القوة التي خرجت منه ، فالتفت إلى الجمع وقال : من مس ثوبي ؟ فقال له تلاميذه : ما ندري ، الجمع يزحمك ، ويقول : من اقترب ؟ فجاءت وقالت له الحق ، فقال : يا ابنه إيمانك خلصك ؛ وهو في إنجيل لوقا(2/12)
صفحة رقم 13
بمعناه ولفظه : فجاءت من ورائه وأمسكت طرف ثوبه ، فوقف جري دمها الذي كان يسيل منها ، فقال يسوع من لمسني ؟ فأنكر جميعهم ، فقال بطرس والذي معه : يا معلم الخير الجميع يزحمك ويضيق عليك ويقول : من الذي لمسني من قرب مني ؟ قد علمت أن قوة خرجت مني إلى آخره .
وقال ابن زبير : ثم أشار قوله تعالى : ( إن الله لا يخفي عليه شيء ( إلى ما تقدم أي في البقرة من تفصيل أخبارهم .
فكان الكلام في قوة أن لو قيل : أيخفي عليه مرتكبات العباد وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره انتهى .
آل عمران : ( 6 - 7 ) هو الذي يصوركم. .. . .
) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ( ( )
ولما قرر سبحانه وتعالى شمول علمه أتبعه دليله من تمام قدرته فقال : وقال الحرالي : ولما كان كل تفصيل يتقدمه بالرتبة مجمل جامع ، وكانت تراجم السورة موضع الإجمال ليكون تفصيلها موضع التفاصيل ، وكان من المذكور في سورة الكتاب ما وقع من اللبس كذلك كان في هذه السورة التي ترجمها جوامع إلهية ما وقع من اللبس في أمر الإلهية في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فكان في هذه الآيه الجامعة توطئة لبيان الأمر في شأنه عليه لسلام من حيث إنه مما صور في الرحم وحملته الأنثى ووضعته ، وأن جميع ما حوته السماء والأرض لا ينبغي أن يقع فيه لبس في أمر الإلهية ؛ انتهى فقال مبيناً أمر قدرته بما لا يقدر عليه عيسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره : ( هو ) أي وحده ) الذي ( وقرعهم بصرف القول من الغيبه إلى الخطاب ليعظم تنبههم على ما هم فيه من قهر المصور لهم على ما أوجدهم عليه مما يشتهونه ولا يفقهونه فقال : ( يصوركم ) أي أن كنتم نطفاً من التصوير وهو إقامه الصورة .
وهي تمام البادي التي يقع عليها حس الناظر لظهورها ، فصورة كل شيء تمام بدوه قال الحرالي : ( في الأرحام ) أي التي لا اطلاع لكم عليها بوجه ، ولما كان التصوير في نفسه أمراً معجباً وشيناً للعقل إذا تأمله وإن كان قد هان لكثرة الإلف باهراً فكيف بأحواله المتباينه وأشكاله المتخالفة المتباينة أشار إلى التعجب من أمره وجليل سره بآله الاستفهام وإن قالوا : إنها في هذا الوطن شرط ، فقال : ( كيف ) أي كما ) يشاء ) أي على أي حالة أراد ، سواء عنده كونكم من نطفتي ذكر وأنثى أو نطفة أنثى وحدها دليلاً على كمال العلم والقيومية ، وإيماء إلى أن من صور في الأرحام كغيره من العبيد لا يكون إلا عبداً ، (2/13)
صفحة رقم 14
إذ الإله متعال عن ذلك لما فيه من أنواع الاحتياج والنقص .
وقال الحرالي : فكان في إلاحة هذه الآية توزيع أمر الإظهار على ثلاثة وجوه تناظر وجوه التقدير الثلاثة التي في فاتة سورة البقرة ، فينتج هدى وإضلالاً وإلباساً أكمل الله به وحيه ، كما أقام بتقدير الإيمان والكفر والنفاقخلقه فطابق الأمر الخلق فأقام الله سبحانه وتعالى بذلك قائم خلقه وأمره ، فكان في انتظام هذه الإفهامات أن بادي الأحوال الظاهرة عند انتهاء الخلق إنما ظهرت لأنها مودعة في أصل التصوير فصورة نورانية يهتدي بها وصورة ظلمانية يكفر لأجلها ، وصورة ملتبسة عيشة علمية يفتتن ويقع الإلباس والالتباس من جهتها ، مما لا يفي ببيانها إلا الفرقان المنزل على هذه الأمه ، ولا تتم إحاطة جميعها إلا في القرآن المخصوصة به أئمة هذه الأمه انتهى .
فقد علم أن التصوير في الرحم أدق شيء علماً وقدرة ، فعلم فاعله بغيره والقدرة عليه من باب الأولى فثبت أنه لا كفؤ له ؛ فلذلك وصل به كلمه الإخلاص وقال الحرالي : ولما تضمنت إلاحة هذه الآية ما تضمنته من الإلباس والتفكير أظهر سبحانه وتعالى كلمه الإخلاص ليظهر نورها أرجاس تلك الإلباسات وتلك التكفيرات فقال : ( لا إله إلا هو ( إيذاناً بما هي له الإلباس والتكفير من وقوع الإشراك بالإلهية والكفر فيها والتلبس والإلتباس في أمرها ؛ فكان في طي هذا التهليل بشرى بنصرة أهل الفرقان وأهل القرآن على أهل الالتباس والكفران وخصوصاً على أهل الإنجيل الذين ذكرت كتبهم صريحاً في هذا التنزيل بل يؤيد إلاحته في التهليل إظهار الختم في هذه الآية بصفتي العزة المقتضية للانتقام من أهل عداوته والحكمته المقتضية لإكرام أهل ولايته ؛ انتهى فقال : ( العزيز ) أي الغالب غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة ولا انفلات ، ولا معجز له في إنفاذ شيء من أحكامه ) الحكيم ) أي الحاكم بالحكمة ، فالحكم المنع عما يترامى إليه المحكوم عليه وحمله على ما يمتنع منه من جميع أنواع الصبر ظاهراً بالسياسة العالية نظراً له ، والحكمة العلم بالامر الذي لأجله وجب الحكم منقوام أمر العاجله وحسن العقبى في الآجلة ؛ ففي ظاهر ذلك الجهد ، وفي باطنه الرفق ، وفي عاجله الكره ، وفي آجله الرضى والروح ؛ ولايتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم ، فبذلك يكون تنزيل أمر العزة على وزن الحكمة قاله الحرالي بالمعنى .
ولما ختم سبحانه وتعالى بوصف العزة الدالة على الغلبة الدالة على كمال القدرة والحكمة المقتضى لوضع كل شيء في أحسن محاله وأكملها المستلزم لكمال العلم ، تقديراً لما مر من التصوير وغيره ، وكان هذا الكتاب أكمل مسموعات العباد لنزوله على وجه هو أعلى الوجوه ، ونظمه على أسلوب أعجز الفصحاء وأبكم البلغاء إلى غير ذلك(2/14)
صفحة رقم 15
من الأمور الباهرة والأسرار الظاهرة ، وعلى عبد هو أكمل الخلق ؛ أعقب الوصفين بقوله بياناً لتمام علمه وشمول قدرته : ( هو ) أي وحده ) الذي ( ولما فصل أمر المنزل إلى المحكم والتشابه نظر اليه جملة كما اقتضاه التعبير بالكتاب فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال : ( أنزل عليك ) أي خاصة ) الكتاب ) أي القرآن ، وقصر الخطاب على النبي لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره .
قال الحرالي : ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله سبحانه وتعالى مناظرة بسورة البقرة فيما أنزلت من إظهار كتاب الله سبحانه وتعالى كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة ، فلما كانت سورة البقرة منزل كتاب هو الوحي انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر ، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن وكافر ومردد بينهما هو المنافق فتنزلت سورة كتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي ؛ ولما بين أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين ، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على الإحكام ومنه ما أنزله على الاشتباه ؛ وفي إفهامه ما أنزله على الافتنان والإضلال بمنزله ختم الكفار ؛ انتهى فقال : ( منه آيات محكمات ) أي لا خفاء بها .
قال الحرالي : وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر كما يبرم الحبل الذي يتخيذ حكمة أي زماماً يزم به الشيء الذي يخاف خروجه على الانضباط ، كأن الآيه المحكمة تحكم النفس عن جولانها وتمنعها من جماحها وتضبطها إلى محال مصالحها ، ثم قال : فهي آي التعبد من الخلق للخلق اللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة ، فهن لذلك أم انتهى .
ولما كان الإحكام في غاية البيان فكان في تكامله ورد بعض معانيه إلى بعض كالشيء الواحد ، وكان رد المتشابه إليه في غايه السهولة لمن رسخ إيمانه وصح قصده واتسع علمه ليصير الكل شيئاً واحداً أخبر عن الجمع بالمفرد فقال : ( هن أم الكتاب ( والأم الأمر الجامع الذي يؤم أي يقصد ، وقال الحرالي : هي الأصل المقتبس منه الشيء في الروحانيات والنابت منه أوفيه في الجسمانيات ) وأخر ) أي منه ) متشبهات ( قال الحرالي : والتشابه تراد التشبه في ظاهر أمرين لشبه كل واحد منهما بالآخر بحيث يخفي خصوص كل واحد منهما ؛ ثم قال : وهن الآي التي أخبر الحق سبحانه وتعالى فيهن عن نفسه وتنزيلات تجلياته ووجوه إعانته لخلقه وتوفيقه وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادئ ما أجراه عليهم ، فهن لذلك متشبهات من حيث إن نبأ الحق عن نفسه لا تناله(2/15)
صفحة رقم 16
عقول الخلق ، ولا تدركه أبصارهم ، وتعرف لهم فيما تعرف بمثل أنفسهم ، فكأن المحكم للعمل والمتشابه لظهور العجز ، فكان لذلك حرف المحكم أثبت الحروف عملاً ، وحرف المتشابه أثبت الحروف إيماناً ، واجتمعت على إقامته الكتب الثلاث ، واختلفت في الأربع اختلافاً كثيراً فاختلف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها ، واتفق على محكمها ومتشابهها انتهى .
فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهه مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر ، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره كذلك يقول الأقوال المتشابهه ، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده ، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا فيه في نفس الامر ، لأن سبب الاختلاف والجهل أو العجز ، وهو سبحانه وتعالى متعال جده ومنزه قدره عن شيء من ذلك ، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به ، ولا يزالون يستنصرون منه سبكانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم ، وهذا على وجه يشير إلى الذي تاه فيه النصارى ، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج ، واللج الذي أغرق جماعاتهم ، وهو المتشابه الذي منه أنهم زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول له القائل : يا رب افعل لي كذا ويسجد له ، فيقره على ذلك ويجيب سؤاله ، فدل ذلك على أنه إله ، ومنه إطلاقه على الله سبحانه وتعالى أباً وعلى نفسه أنه ابنه ، فابتغوا الفتنه فيه واعتقدوا الأبوة والنبوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه ، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل :
77 ( ) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( ) 7
[ فصلت : 42 ] ، وهو
77 ( ) إني عبد الله آتني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً ( ) 7
[ مريم : 30 ، 31 ]
77 ( ) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ( ) 7
[ المائدة : 117 ]
77 ( ) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( ) 7
[ مريم : 51 ] ، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ولله الحمد منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من المحكم ما يكفي في رد المتشابه إليه ، ففي إنجيل لوقا أن جبريل عليه الصلاة والسلام ملاك الرب لما تبدى لمريم مبشراً بالمسيح عليه الصلاة والسلام وخافت منه قال لها : لا تخافي يا مريم ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى ، وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً يدعى يسوع ، يكون عظيماً ، وابن العذراء يدعى ؛ ويعطيه الرب كرسي داود أبيه ؛ وفي إنجيله أيضاً وإنجيل متى أن عيسى عليه(2/16)
صفحة رقم 17
الصلاة والسلام قال وقد أمره إبليس أن يجرب قدره عند الله بأن يطرح نفسه من شاهق : مكتوب : لا تجرب الرب إلهك ، وقال وقد أمره أن يسجد له : مكتوب : للرب إلهك اسجد ، وإياه وحده اعبد ، وصرح أن الله سبحانه وتعالى واحد في غير موضع ؛ وفي إنجيل لوقا أنه دفع إلى المسيح سفر أشيعا النبي فلما فتحه وجد الموضع الذي فيه مكتوب : روح الرب عليّ ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأبشر بالسنة المقبولة للرب ، والأيام التي أعطانا إلهنا ، ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم ؛ وفيه وفي غيره من أناجيلهم : من قبل هذا فقد قبلني ، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني ، ومن سمع منكم فقد ممع مني ، ومن جحدكم فقد جحدني ، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني ومن أنكرني قدام الناس أنكرته قدام الناس ، أنكرته قدام ملائكة الله ، وفي إنجيل يوحنا أنه قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام : الذي أرسله الله إنما ينطق بكلام الله لأنه ليس بالكيس ، أعطاه الله الروح ، وقال : قد سأله تلاميذه أن بأكل فقال لهم : طعامي أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله ؛ وفيه في موضع آخر : الحق الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي وآمن بمن أرسلني وجبت له الحياة المؤبده ، لست أقدر أعمل شيئاً من ذات نفسي ، وإنما أحكم بما أسمع ، وديني عدل لأني لست أطلب مسرتي بل مسرة من أرسلني ؛ وفي إنجيل مرقس أنه قال لناس : تعلمتم وصايا الناس وتركتم وصايا الله ، وزجر بعض من اتبعه فقال : اذهب يا شيطان فإنك لم تفكر في ذات الله ، وتفكر في ذات الناس ؛ فقد جعل الله إلهه وربه ومعبوده ، واعترف له بالوحدانيه وجعل ذاته مبايناً لذات الناس الذي هو منهم ؛ وفي جميع أناجيلهم نحو هذا ، وأنه كان يصوم ويصلي لله ويأمر تلاميذه بذلك ، ففي إنجيل لوقا أنهم قالوا له : يا رب علمنا نصلي كما علم يوحنا تلاميذه ، فقال لهم : إذا صليتم فقولوا : أبانا الذي في السموات يتقدس اسمك كفافنا أعطنا في كل يوم ، واغفر لنا خطايانا لأنانغفر لما لنا عليه ، ولا تدخلنا في التجارب ، لكن نجنا من الشرير ؛ ولما دخل الهيكل بدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه ، فقال لهم : مكتوب أن بيتي هو بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مفازة اللصوص فعلم من هذا كله أن إطلاق اسم الرب عليه لأن الله سبحانه وتعالى أذن له أن يفعل بعض أفعاله التي ليست في قدرة البشر ، والرب يطلق على السيد أيضاً ، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام :
77 ( ) اذكرني عند ربك ( ) 7
[ يوسف : 42 ] .
ثم وجدت في أوائل إنجيل يوحنا أن الرب تأويله العلم ، ولو ردوا أيضاً الأب والابن إلى هذا المحكم وأمثاله وهي كثيرة في جميع أناجيلهم لعلموا بلا شبهة أن معناه أن الله سبحانه وتعالى يفعل معه ما يفعل الوالد مع ولده من الترية والحياطة والنصرة والتعظيم والإجلال ، كما لزمهم حتماً أن يأولوا قوله(2/17)
صفحة رقم 18
فيما قدمته : أبانا الذي في السماوات ، وقوله في إنجيل متى لتلاميذه : هكذا فليضىء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات ، وقال : وأحسنوا إلى من أبغضكم ، وصلوا على من يطردكم ويخزيكم لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ، لأنه المشرق شمسه على الأخبار والأشرار ، والممطر على الصديقين والظالمين ، انظروا لا تصنعوا أمراً حكم قدام الناس لكي يروكم ، فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات ، وإذا صنعت رحمة فلا تضرب قدامك بالبوق ، ولا تصنع كما يصنع المراؤون في المجامع وفي الأسواق لكي يمجدوا من الناس ، الحق أقول لكم لقد أخذوا أجرهم ؛ وأنت إذا صنعت رحمة لا تعلم شمالك ما صنعته يمينك ، لتكون صدقة في خفية ، وأبوك الذي يرى الخفية يعطيك على نية ؛ وقل في الفصل العاشر منه : وصل لأبيك سراً ، وأبوك يرى السر فيعطيك علانية .
وهكذا في جميع آيات الأحكام من الإنجيل كرر لهم هذه اللفظة تكريراً كثيراً ، فكما تأول لها النصارى بأن المراد منها تعظيمهم له أشد من تعظيمهم لآبائهم ليعتني بهم أكثر من اعتناء الوالد بالولد فكذلك يأولون ما في إنجيل لوقا وغيره أن عيسى وإخواته أتوا اليه فلم يقدروا لكثره الجمع على الوصول إليه فقالوا له أملك وإخواتك خارجاً يريدون أن ينظروا إليك ، فأجاب : أمي وأخواتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها ؛ فكذلك يلزمهم تأويلها في حق عيسى عليه الصلاة والسلام لذلك ليرد المتشابه إلى المحكم .
وإن لم يأولوا ذلك في حق أنفسهم وحملوه على الظاهر كما هو ظاهر قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ( ) 7
[ المائدة : 18 ] كانوا مكابرين في المحسوس بلا شبهة ، فإن كل أحد منهم مساو لجميع الناس وللبهائم في أن له أبوين ، وكانت دعواهم هذة ساقطة لا يردها عليهم إلا من تبرع بإلزامهم بمحسوس آخر هم به يعترفون ، وقد أقام هو نفسه عليه الصلاة والسلام أدلة على صرفها عن ظاهرها ، منها غير ما تقدم أنه كثيراً ما كان يخبر عن نفسه فيقول : ابن الإنسان يفعل كذا ، ابن البشر قال كذا يعني نفسه الكريمة ، فحيث نسب نفسه فيقول لإلى البشر كان مريداً للحقيقة ، لأنه اين امرأة منهم ، وهو مثلهم في الجسد ، والمعاني حيث نسبها إلى الله سبحانه وتعالى كان على المجاز كما تقدم .
وأما السجود فقد ورد في التوراة كثيراً لأحاد الناس من غير نكير ، فكأنه كان جائزاً في شرائعهم فعله لغير الله سبحانه وتعالى على وجه التعظيم والله سبحانه وتعالى أعلم ، وأما نحن فلا يجوز فعله لغير الله ، ولا يجوز في شريعتنا أصلاً إطلاق الأب ولا الابن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، وكذا كل لفظ وأهم نقصاً سواء صح أن ذلك كان جائزاً في شرعهم أم لا ، وإذا راجعت تفسير(2/18)
صفحة رقم 19
البيضاوي لقوله سبحانه وتعالى في البقرة
77 ( ) إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ( ) 7
[ البقرة : 117 ] زادك بصيرة فيما هنا ؛ والحاصل أنهم لم يصرفوا ذلك في حق عيسى عليه الصلاة والسلام عن ظاهره وحقيقته وتحكموا بأن المراد منه المجاز وهو هنا إطلاق اسم الملزوم على اللازم ، وكذا غيره من متشابه الإنجيل ، كما فعلنا نحن بمعونة الله سبحانه وتعالى في وصف الله سبحانه وتعالى بالرضى والغضب والرحمة والضحك وغير ذلك مما يستلزم حمله على الظاهر وصفات المحدثين ، وكذا ذكر اليد والكف والعين ونحو ذلك فحملنا ذلك كله على أن المراد منه لوازمه وغاياته مما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع تنزيهنا له سبحانه وتعالى عن كل نقص وإثباتنا له كل كمال ، فإن الله سبحانه وتعالى عزه وجده وجل قدره ومجده أنزل حرف المتشابه ابتلاء لعباده لتبين الثابت من الطائش والموقن من الشاك .
قال الحرالي في كتابه عروة المفتاح : وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق بمعتبر ما خلقهم عليه ليفتوا عنه وليفهموا خطابه ، وليتضح لهم نزول رتبهم عن علو ما تعرف به لهم ، وليختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة يعني الأمر و النهي والحلال والحرام ، وحبسهم بالخامس وتوقفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة ، واتصافهم بالخامس ليتم لهم العبادة بالوجهين من العمل والوقوف والإدراك والعجز
77 ( ) فارجع البصر هل ترى من فطور ( ) 7
[ الملك : 3 ] علماً وحساً
77 ( ) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ( ) 7
[ الملك : 4 ] عجزاً ، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية والآتية وغائب الحاضرة ليسلموا له اختيار فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه ، كما أسلموا له في الصغر اضطراراً ، فرزقهم حظاً من علم خلقه ، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه سبحانه وتعالى عن نفسه وما بين خلقه وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل حرم اليقين بعلي الأمر والتحقيق في علم الخلق ، وأوخذ بما أضاع من محكم ذلك المتشابه حين اشتغل لما يعنيه من حال نفسه بما لا يعنيه من أمر ربه ، فكان كالمتشاغل بالنظر في ذي الملك ، وتنظره يرمي نفسه عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده وتذلله لحرمته ؛ وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين : مبهمة ومفصلة ، أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله سبحانه وتعالى من غير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال ، وليتدرب المخاطب بتوقفه على المبهم على توقفه عن مفصله ومبهمه ، وهو جامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسع والعشرين من سوره وبه افتتح الترتيب في القرآن ، ليتلقى بادي الخلق أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى(2/19)
صفحة رقم 20
بعلمه بفتح من لدنه ، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب لمن علمه الله سبحانه وتعالى كهنه من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه ، وذلك قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه ( ) 7
[ البقرة : 1 ، 2 ] لمن علمه الله إياه
77 ( ) هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ( ) 7
[ البقرة : 2 ، 3 ] وقوفاً عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه ، حتى تلحقه العنايه من ربه فعلمه ما لم يكن في علمه ؛ وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزيلات أمره ، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته وتصيير حكمته وباطن ملكوته وعزيز جبروته وأحوال أيامه ؛ وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله :
77 ( ) ثم استوى إلى السماء ( ) 7
[ البقرة : 29 ] إلى قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) فأينما تولوا فثم وجه الله ( ) 7
[ لبقرة : 115 ] إلى سائر ما أخبر عنه من عظم شأنه في جملة آيات متعددات لقوله سبحانه وتعالى
77 ( ) إلا لنعلم من يتبع الرسول ( ) 7
[ البقرة : 143 ] ،
77 ( ) فإني قريب ( ) 7
[ البقرة : 186 ]
77 ( ) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة ( ) 7
[ البقرة : 210 ] ،
77 ( ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ) 7
[ البقرة : 255 ]
77 ( ) فأذنوا بحرب من الله ورسوله ( ) 7
[ البقرة : 279 ] ،
77 ( ) هو الذي يصوركم في الأرحام ( ) 7
[ آل عمران : 6 ] ،
77 ( ) ويحذركم الله نفسه ( ) 7
[ آل عمران : 128 ] ،
77 ( ) ولله ملك السماوات والأرض ( ) 7
[ آل عمران : 189 ] ،
77 ( ) والله على كل شيء قدير ( ) 7
[ البقرة : 284 ] ،
77 ( ) وكان الله سميعاً بصيراً ( ) 7
[ النساء : 85 ] ،
77 ( ) بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ( ) 7
[ المائده : 64 ] ،
77 ( ) وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ( ) 7
[ الأنعام : 3 ] ،
77 ( ) خلق السماوات والأرض ( ) 7
[ الأعراف : 54 ] ،
77 ( ) ثم استوى على العرش ( ) 7
[ الأعراف : 54 ] ،
77 ( ) ولتصنع على عيني ( ) 7
[ طه : 39 ] ،
77 ( ) قل من بيده ملكوت كل شيء ( ) 7
[ المؤمنين : 88 ] ،
77 ( ) فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن موسى إني أنا الله ( ) 7
[ القصص : 30 ] ،
77 ( ) كل شيء هالك إلا وجهه ( ) 7
[ القصص : 88 ] ،
77 ( ) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ( ) 7
[ الأحزاب : 43 ] ،
77 ( ) إن الله وملائكته يصلون علىالنبي ( ) 7
[ الأحزاب : 56 ] ،
77 ( ) ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ( ) 7
[ الأعراف : 12 ] ،
77 ( ) وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ( ) 7
[ الزخرف : 84 ] ،
77 ( ) وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ( ) 7
[ الجاثيه : 13 ] ،
77 ( ) وله الكبرياء في السماوات والأرض ( ) 7
[ الجاثيه : 37 ] ،
77 ( ) كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ( ) 7
[ الرحمن : 26 ، 27 ] ،
77 ( ) هو الأول والآخر والظاهر والباطن ( ) 7
[ الحديد : 3 ] ،
77 ( ) وهو معكم أين ما كنتم ( ) 7
[ الحديد : 4 ] ،
77 ( ) وما يكون من نجوى ثلاثه إلا رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ( ) 7
[ المجادلة : 7 ] ، (2/20)
صفحة رقم 21
77 ( ) فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ( ) 7
[ الحشر : 2 ] ،
77 ( ) تبارك الذي بيده الملك ( ) 7
[ الملك : 1 ] ،
77 ( ) تعرج الملائكة والروح اليه ( ) 7
[ المعارج : 4 ] ،
77 ( ) وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( ) 7
[ القيامة : 22 ، 23 ] ،
77 ( ) وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ( ) 7
[ الإنسان : 30 ] ،
77 ( ) وجاء ربك والملك صفاً صفاً ( ) 7
[ الفجر : 22 ] إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزيلات أمره وتسوية خلقه وما أخبرعنه حبيبه من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والإشفاق وسائر الأحوال المشار اليها في حرف المحكم من نحو حديث النزول والقدمين والصورة والضحك والكف والأنامل ، وحديث عناية لزوم التقرب بالنوافل وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين ، واعتنى بجمعهما الحافظ المتقن أبو الحسن الدارقطني رحمه الله تعالى ، ودوَّن بعض المتكلمين جملة منها لقصد التأويل ، وشدد النكير في ذلك أئمة المحدثين ، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ورحمة أنه قال : آيات الصفات وأحاديث الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الله سبحانه وتعالى ، تأويلها تلاوتها ، ولذلك أئمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين والذي اجتمعت عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك عن الله ومن رسوله ومن الأئمة إنما هو لمقصد الإفهام ، لا لمقصد الإعلام ، فلذلك لم يستشكل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شيئاً قط ، بل كلما كان وارده عليهم أكثر كانوا به أفرح ، وللخطاب به أفهم ، حتى قال بعضهم لما ذكر النبي : ( إن الله تعالى يضحك من عبده : لا نعدم الخير من رب يضحك ( وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان : إما متوقف عنه في حد الإيمان ، قانع بما أفاد من الإفهام ، وإما مفتوح عليه بما هو في صفاء الإيقان ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق وفي أنفسهم تعليماً ، وتعرف للخاصة منهم بالأوصاف العليا والأسماء الحسنى مما يمكنهم اعتباره تعجيزاً ، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك فعرفوا أن لا معرفة لهم ، وذلك هو حد العرفان وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن ، وتحققوا أن
77 ( ) ليس كمثله شيء ( ) 7
[ الشورى : 11 ] و
77 ( ) لم يكن له كفواً أحد ( ) 7
[ الإخلاص : 4 ] فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان ، والله يحب المحسنين .
ثم قال فيما به تحصل قراءة هذا(2/21)
صفحة رقم 22
الحرف : اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تماماً لأن حرف المحكم حال يتحقق للعبد .
ولما كان حرف المتشابه إخباراً عن نفسه سمحانه وتعالى بما يتعرف به لخلقه من أسماء وأوصاف كانت قراءته بتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق ولا ما تناله عقولهم ، وإن أجرى على تلك الاسماء والأوصاف على الخلق فيوجه ، لا يلحق أسماء الحق ولا أوصافه منها تشبيه في وهم ولا تمثيل في عقل
77 ( ) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( ) 7
[ الشورى : 11 ] ،
77 ( ) ولم يكن له كفواً ( ) 7
[ الإخلاص : 4 ] ، فلاذي يصح به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق وتوقف عن تأويلها إجلالاً وإعظاماً معلوماتُهم ، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها ، وأما من جهة حال النفس والاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها والبراءة من الاتصاف بها لأن ما صلح للسيد حرم على العبد لتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى ، ولا يتسمى بالغنى فيقدح في هداه ، فيهلك باسمه ودعواه ، ولتحقق ذلهم من تسميته تعالى بالعزة وعجزهم عن تسميته بالقدرة ، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان والغضب والرضى والوعد والوعيد والترغيب والترهيب إلى سائر ما تسمى به في جميع تصرفاته مما ذكر في المتشابه من الآي ، وأشير اليه من الأحاديث ، وما عليه اشتملت ( واردات الأخبار ) في جميع الصحف والكتب ، ومرائي الصالحين ومواقف المحدثين ومواجد المروّعين ؛ وأما من جهة العمل فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقاً لما في مضمون قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) ولم يكن له كفواً أحد ( ) 7
[ الإخلاص : 4 ] لأن مقتضاها الرد على المشبه من هذه الأمة ، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى ما ذكر من لفظ اللسان ، فقراءئة كالمتوطئة لتخليص العبادة بالقلب في قراءة مفرد حرف الأمثال ؛ والله العلي الكبير انتهى .
وقد تقدم حرف الأمثال عند قوله تعالى
77 ( ) مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ( ) 7
[ البقرة : 7 ] وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي اعوجاج عدلوا به عن الحق .
وقال الحرالي : هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه ، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء وفي " شعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيء الأحوال فب الأنفس وزلل الأفعال في(2/22)
صفحة رقم 23
الأعمال ، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف : ( فيتبعون ( في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه من تكلف المتابعه بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمه هذا الخطاب ، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعاً سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة ) ما تشابه منه ( فأبهمه إبهاماً يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالتعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادئ الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة ، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه ، ففقائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له ، ففائدة إنزاله عملاً في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفاً عنه ليقع الابتلاء بالوجهين : عملاً بالمحكم ووقوفاً عن المتشابه ، قال عليه الصلاة والسلام : ( لا تتفكروا في الله ) وقال علي رضي الله عنه : من تفكر في ذات الله تزندق ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه ، كما ذكر عن مالك رحمه الله تعالى في قوله : الكيف المجهول والسؤال عنه بدعة ، فالخوض في المتشابه بدعة ، والوقوف عنه سنة ؛ وأفهم عنه الإمام أحمد يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلها تلاوتها ، هذا هو حد الإيمان وموقفه ، وإليه أذعن الراسخون في العلم ، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم ، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبينخلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم ، لأن المحكم واضح وجداني ، متفقه عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب ، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس ، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف(2/23)
صفحة رقم 24
بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات ، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم ، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه ، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعنايه منه ، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية التي فيها مواقف العلماء ؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين : لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله ، فيرفع عنه عجز الوقفه عن المتشابه ، وينقذه من حجاب النورانية ، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله ، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم ، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد ، فهو إما عجو إيماني من حيث الفطر الخلقي ، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى .
ولما ذكر سبحانه وتعالى اتباعهم له ذكر علته فقال : ( ابتغاء الفتنة ) أي تمييل الناس عن عقائدهم بالشكوك ) وابتغاء تأويله ) أي ترجيعه إلى ما يشتهونه وتدعوا إليه نفوسهم المائلة وأهويتهم الباطلة بادعاء أنه مآله .
قال الحرالي : والابتغاء افتعال : تكلف البغي ، وهو شدة الطلب ، وجعله تعالى ابتغاءين لاختلاف وجهيه ، فجعل الأول فتنة لتعلقه بالغير وجعل الثاني تأويلاً أي طلباً للمآل عنده ، لاقتصاره على نفسه ، فكان أهون الزيغين انتهى .
ولما بين زيغهم بين أن نسبة خوضهم فيما لا يمكنهم علمه فقال : ( وما ) أي والحال أنه ما ) يعلم ( في الحال وعلى القطع ) تأويله ( قال الحرالي : هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده ) إلا الله ) أي المحيط قدرة وعلماً ، قال : ولكل باد من الخلق مآل كما أن الآخرة مآل الدنيا
77 ( ) يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ( ) 7
[ الأعراف : 53 ] لذلك كل يوم من أيام الآخرة مآل للذي قبله ، فيوم الخلود مآل يوم الجزاء ، ومآل الأبد مآل يوم الخلود ؛ وأبد الأبد مآل الأبد ، وكذلك كل الخلق له مآل يوم الجزاء ، فأمر الله مآل خلقه وكذلك الأمر ، كل تنزيل أعلى منه مآل التنزيل الأدنى إلى كمال الأمر ، وكل أمر الله مآل من أسمائه وتجلياته ، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى ، قال عيه الصلاة والسلام : ( فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها الحديث إلى قوله : أنت ربنا ( فكان تجليه الأظهر لهم مآل(2/24)
صفحة رقم 25
تجليه الأخفى عنهم ؛ فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر وعلى تجل إبلاغاً إلى ما وراءه فكان تأويله ، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى .
ولما ذكر الزائغين ذكر الثابتين فقال : ( والراسخون في العلم ( قال الحرالي : وهم المتحققون في إعلام العلم من حيث إن الرسوخ النزول بالثقل في الشيء الرخو ليس الظهورعلى الشيء ، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان ، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان ، لكنهم راسخون في العلم لم يظهروا بصفاء الإيقان على نور العلم ، فثبتهم الله سبحانه وتعالى عند حد التوقف فكانوا دائمين على الإيمان بقوله : ( يقولون آمنا به ( بصيغة الدوام انتهى أي حالهم في رسوخهم .
ولما كان هذا قسيماً لقوله : ( وأما الذين في قلوبهم زيغ ( كان ذلك واضحاً في كونه ابتداء وأن الوقوف على ما قبله ، ولما كان هذا الضمير محتملاً للمحكم فقط قال : ( كل ) أي من المحكم والمتشتبه .
قال الحرالي : وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل النحاة ذكرها في وجوه التعريف إلا من ألاح معناها منهم فلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك ؛ وهو من أكمل وجوه التعريف ، لأن حقيقة التعريف التعين بعيان أو عقل ، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه ، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم مرجعاً واحداً ، آمنوا بمحمل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه ، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع ، فما رجع إليه الإيمان في قلوبهم : آمنا به ، هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب قبل تفصيله انتهى .
) من عند ربنا ) أي المحسن إلينا بكل اعتبار ، ولعله عبر بعند وهي بالأمر الظاهر بخلاف لدن إشارة إلى ظهور ذلك عند التأمل ، وعبروه عن الاشتباه .
ولما كان مع كل مشتبه أمر إذا دقق النظر فيه رجع إلى مثال حاضر للعقل إما محسوس وإما في حد ظهور المحسوس قال معمماً لمدح المتأملين على دقة الأمر وشدة عموضه بإدغام تاء التفعل مشيراً إلى أنهم تأهلوا بالرسوخ إلى الارتقاء هن رتبته ، ملوحاً إلى أنه لا فهم لغيرهم عاطفاً على ما تقديره : فذكرهم الله من معاني المتشابه ببركه إيمانهم وتسليمهم بما نصبه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يمكن أن يكون إرادة منه سبحانه وتعالى وإن لم يكن على القطع بأنه إرادة : ( وما يذكر ) أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في وعقله من أمثال ذلك ) إلا أولوا الألباب ((2/25)
صفحة رقم 26
قال الحرالي : الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره ، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة ، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان ، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان ، ومتأول يركن إلى لبس بدعة ، وفاتن يتبع هوى ؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى .
آل عمران : ( 8 - 12 ) ربنا لا تزغ. .. . .
) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( ( )
ولما علم بذلك أن الراسخين أيقنوا أنه من عند الله المستلزم لأنه لاعوج فيه أخبر أنهم أقبلوا على التضرع إليه في أن يثبتهم بعد هدايته ثم أن يرحمهم ببيان ما أشكل عليهم بقوله حاكياً عنهم وهو في الحقيقة تلقين منه لهم لطفاً بهم مقدماً ما ينبغي تقديمه من السؤال في تطهير القلب عما لا ينبغي على طلب تنويره بما ينبغي لأن إزالة المانع قبل إيجاد المقتضى عين الحكمة : ( ربنا ) أي المحسن إلينا ) لا تزغ قلوبنا ) أي عن الحق .
ولما كان صلاح القلب صلاح الجملة وفساده فسادها وكان ثبات الإنسان على سنن الاستقامة من غير عوج أصلاً مما لم يجربه سبحانه وتعالى عادته لغير المعصومين قال نازعاً الجار مسنداً الفعل غلى ضمير الجملة : ( بعد إذ هديتنا ( إليه .
وقال الحرالي : ففي إلاحة معناه أن هذا الابتهال واقع من أولي الألباب ليترقوا من محلهم من التذكر إلى ما هو أعلى وأبطن انتهى .
فلذلك قالوا : ( وهب لنا من لدنك ) أي أمرك الخاص بحضرتك القدسية ، الباطن عن غير خواصك ) رحمة ) أي فضلاً ومنحة منك ابتداء من غير سبب منا ، ونكرها تعظيماً بأن أيسر شيء منها يكفي الموهوب .
ولما لم يكن لغيره شيء أصلاً فكان كل عطاء كم فضله قالوا وقال الحرالي : ولما كان الأمر اللداني ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم وإقامة حكمتهم ، وإنما هو موهبة من الله سبحانه وتعالى بحسب العناية ختم بقوله : ( إنك أنت الوهاب ( وهي صيغة مبالغة من الوهب والهبة ، وهي العطية سماحاً من غير قصد من الموهوب انتهى .
ولما كان من المعلوم من أول ما فرغ السمع من الكتاب في الفاتحة وأول البقرة(2/26)
صفحة رقم 27
وأثنائها أن للناس يوماً يدانون فيه وصلوا بقولهم السابق قوله : ( ربنا إنك جامع ( قال الحرالي : من الجمع ، وهو ضك ما شأنه الافتراق والتنافر لطفاًأو قهراً انتهى .
) الناس ) أي كلهم ) ليوم ) أي يدانون فيه ) لا ريب فيه ( ثم عللوا نفي الريب بقولهم عادلين عن الخطاب آتين بالاسم الأعظم لأن المقام للجلال : ( إن الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) لا يخلف ( ولما كان نفي الخلف في زمن الوعد ومكانه أبلغ من نفي خلافه نفسه عبر بالمفعال فقال : ( الميعاد ( وقال الحرالي : هو مفعال من الوعد ، وصيغ لمعنى تكرره ودوامه ، والوعد العهد في الخير أ انتهى .
وكل ذلك تنبيهاً على أنه يجب التثبت في فهم الكتاب والإحجام عن مشكله خوفاً من الفضيحة يوم الجمع يوم يساقون إليه ويقفون بين يديه ، فكأنه تعالى يقول للنصارى : هب أنه أشكل عليكم بعض أفعالي وأقوالي في الإنجيل فهلا فعلتم فعل الراسخين فنزهتموني عما لا يليق بجلالي من التناقض وغيره ، ووكلتم أمر ذلك إليّ ، وعولتم في فتح مغلقه عليّ خوفاً من يوم الدين ؟ قال ابن الزبير : ثم لما بلغ الكلام إلى هنا أي إلى آيه التصوير كان كأنه قد قيل : فكيف طرأ عليهم ما طرأ مع وجود الكتب ؟ أخبر تعالى بشأن الكتاب وأنه محكم ومتشابه ، وكذا عيره من الكتب والله سبحانه وتعالى أعلم ، فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم ، وحال أهل الزيغ اتباع المتشابه والتعلق به ، وهذا بيان لقوله :
77 ( ) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ( ) 7
[ البقرة : 26 ] وكل هذا بيان لكون الكتاب العزيز أعظم فرقان وأوضح بيان إذ قد أوضح أحوال المختلفين ومن أين أتى عليهم مع وجود الكتب ، وفي أثناء ذلك تنبيه العباد على عجزهم وعدم استبدادهم لئلا يغتر الغافل فيقول مع هذا البيان ووضوح الأمر : لا طريق إلى تنكب الصراط ، فنبهوا حين علموا الدعاء من قوله :
77 ( ) وإياك نستعين ( ) 7
[ الفاتحة : 4 ] ثم كرر تنبيههم لشدة الحاجة ليذكر هذا أبداً ، ففيه معظم البيلن ، ومن اعتقادا الاستبداد ينشأ الشرك الأكبر إذ اعتقاد الاستبداد بالأفعال إخراج لنصف الموجودات عن يد بارئها
77 ( ) والله خلقكم وما تعلمون ( ) 7
[ الصافات : 96 ] فمن التنبيه
77 ( ) إن الذين كفروا ( ) 7
[ البقرة : 6 ] ومنه :
77 ( ) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ( ) 7
[ البقرة : 26 ] ومنه
77 ( ) آمن الرسول ( ) 7
[ البقرة : 285 ] إلى خاتمتها ، هذا من جلي التنبيه ومحكمه ، ومما يرجع إليه ويجوز معناه بعد اعتباره :
77 ( ) وإلهكم إله واحد ( ) 7
[ البقرة : 163 ] وقوله :
77 ( ) الله لا إله إلا هوالحي القيوم ( ) 7
[ البقرة : 255 ] ، فمن رأى الفعل أو بعضه لغيره تعالى حقيقة فقد قال بإلهية غيره ، ثم حذروا أشد التحذير لما بين لهم فقال تعالى :
77 ( ) إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ( ) 7
[ آل عمران : 4 ] ثم ارتبطت الآيات إلى آخرها - انتهى(2/27)
صفحة رقم 28
ولما تحقق أن يوم الجمع كائن لا محالة تحقق أن من نتائجه تحقيقاُ لعزته سبحانه وتعالى وانتقامه من الكفرة قوله تعالى : ( إن الذين كفروا ) أي الذين يظنون لسترهم ما دلت عليه مرأى عقولهم أنهم يمتنعون من أمرالله لأنهم يفعلون في عصيانه وعداوة أوليائه فعل من يريد المغالبه ) لن تغني عنهم أموالهم ) أي وإن كثرت ، وقدمها لأن بها قوام ما بعدها وتمام لذاته ، وأكد بإعادة النافي ليفيد النفي عن كل حالة وعن المجموع فيكون أصرح في المرام ) ولا أولادهم ( وإن جلت وعظمت ) من الله ) أي الملك الأعظم ) شيئاً ) أي من إغناء مبتدئاً من جهة الله ، وإذا كانت تلك الجهة عارية عما يغني كان كل ما يأتيهم من قبله سبحانه وتعالى من بأس واقعاً بهم لا مانع له ، فمهما أراد بهم كان من خذلان في الدنيا وبعث بعد الموت وحشر بعد البعث وعذاب في الآخرة ، فأولئك المعرضون منه لكل بلاء ) وأولئك هم وقود النار ( وفي ذلك أعظم تنبيه على أن الزائغين الذين خالفوا الراسخين فوقفت بهم نعمه المقتضيه لتصديقه عن تصديقه ليست مغنية عنهم تلك النعم شيئاً ، وأنهم مغلوبون لا محالة في الدنيا ومحشورون في الآخرة إلى جهنم .
ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد كان الأليق بخطابها أن يكون الدعاء فيه إلى الزهد أتم من الدعاء في غيرها ، والإشارة فيه إلى ذلك من الإشارة في غيره ، فكانت هذه الآية قاطعة للقلوب النيرة بما أشارت إليه من فتنة الأموال والأولاد الموجبة للهلاك .
قال الحرالي : ولما كان من مضمون ترجمة سورة البقرة إطلاع النبي على سر التقدير الذي صرف عن الجواب فيه وإظهار سره موسى كليم الله وعيسى كلمة الله عليهما الصلاة والسلام كان مما أظهره الله سبحانه وتعالى لعامة أمة محمد إعلاء لها على كل أمة ، واختصاصاً لها بما علا اختصاص نبيها حتى قال قائلهم : أخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني لقوم لم يظهروا على سر القدر ، وقال : والذي يحلف به عبد الله بن عمر : لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر ، فأفهم الله سبحانه وتعالى علماء هذه الأمة أن أعمالها لا تقبل إلا على معرفة سر التقدير لتكون قلوبها بريئة من أعمال ظواهرها ، كما قيل في أثارة من العلم : من لم يختم عمله بالعلم لم يعمل ، ومن لم يختم علمه بالجهل لم يعلم فختم العامل عمله بالعلم أن يعلم أنه لا عمل له ، وأن المجرى على يديه أمر مقدر قدره الله سبحانه وتعالى عليه وأقامه فيه لما خلقه له من حكمته من وصفه من خير أو شر ومن تمام كلمته في رحمته أو عقوبته ليظهر بذلك حكمة الحكيم ، ولا حجة للعبد على ربه ولا حجة للصنعة على صانعها ولله سبحانه وتعالى الحجة البالغة ؛ وكذلك العالم متى لم ينطو سره على أنه لا يعلم(2/28)
صفحة رقم 29
وإنما العلم عند الله سبحانه وتعالى لم يثبت له علم ، فذلك ختم العمل بالعمل وختم العلم بالجهل ، فكما أطلعه سبحانه وتعالى في فاتحة سورة البقرة على سر تقديره في خلقه أظهرهفي فاتحة سورة آل عمران على علن قيوميته الذي هو شاهده في وحي ربه ، كما هو بصير بسر القدر في تفرق أفعال خلقه ، فكان منزل سورة البقرة قوام التنزيل للكتاب الجامع الأول ، والتنزيل قوام إنزال الكتب ، وإنزال الكتاب الجامع لتفسير الكتب قوام تفصيل الآيات المحكمات والمتشابهات ، والإحكام والتشابه إقامة الهدى والفتنة ، والهدى والفتنة إقامة متصرف الحواس الظاهرة والباطنة ، والأحوال وما دونها من الأفعال على وجه جمع يكون قواماً لما تفصل من مجمله وتكثر من وحدته وتفرق من اجتماعه ، ولعلو مضمون هذه السورة لم يقع فيها توجه الخطاب بها لصنف الناس ، واختص خطابها بالذين آمنوا في علو من معاني الإيمان لما ذكر من شرف سن الإيمان على سن الناس في تنامي أسنان القلوب ، وكان خطاب سورة البقرة بمقتضى رتبة العقل الذي به يقع أول الإصغاء والاستماع ، كما ظهر في آيات الاعتبار فيها في قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله : لقوم يعقلون ( ) 7
[ البقرة : 164 ] فكان خطاب سورة آل عمران إقبالاً على أولي الألباب الذين لهم لب العقل ، بما ظهر في أولها وخاتمتها في قوله :
77 ( ) وما يذكر إلا أولوا الألباب ( ) 7
[ آل عمران : 7 ] وفي خاتمتها في آيات اعتبارها في قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( ) 7
[ آل عمران : 190 ] فبالعقل يقع الاعتبار لمنزل الكتاب وباللب يكون التذكر ، إيلاء إلى الذي نزل الكتاب ، وبالجملة فمثاني هذه السورة من تفاصيل آياتها وجمل جوامعها مما هو أعلق بطيب الإيمان واعتبار اللب ، كما أن منزل سورة البقرة أعلق بما هو من أمر الأعمال وإقامة معالم الإسلام بما ظهر في هذه السورة من علن أمر الله ، وبما افتتحت به من اسم الأعظم الذي جميع الأسماء أسماء له لإحاطته واختصاصها بوجه ما ، فكان فيها علن التوحيد وكماله وقوام تنزيل الأمر وتطورالخلق في جميع متنزلها ومثانيها ، وظهر فيها تفصيل وجوه الحكم العلية التي تضمن جملة ذكرها الآية الجامعة في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) يؤتي الحكمة من يشاء ( ) 7
[ البقرة : 269 ] فكان من جملة بناء الحكمة ما هو السبب في ظهور الكفر من الذين كفروا بما غلب عليهم من الفتنة بأموالهم وأولادهم حتى ألهتهم عن ذكر الله ، فانتهوا فيه إلى حد الكفر الذي نبه عليه : ( الذين آمنوا ( في قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ( ) 7
[ المنافقون : 9 ] انتهى .(2/29)
صفحة رقم 30
ولما كان السبب المقتضى لاستمرارالكفر من النصارى المجادلين في أمرعيسى عليه الصلاة والسلام الخوف ممن فوقهم من ملوك النصرانية نبههم سبحانه وتعالى على أول قصة أسلافهم من بني إسرائيل ، وما كانوا فيه من الذل مع آل فرعون ، وما كان فيه فرعون من العظمة التي تُقسر بها ملوك زمانهم ، ثم لما أراد الله سبحانه وتعالى قهر أسلافهم له لم تضرهم ذلتهم ولا قلتهم ، ولا نفعته عزته ولا كثرة آله ، فلذلك صرح بهم سبحانه وتعالى وطوى ذكر من قبلهم فقال : ( كدأب ) أي لم يغن عنهم ذلك شيئاً مثل عادة ) آل فرعون ) أي الذين اشتهرلديكم استكبارهموعظمتهم وفخارهم ، قال الحرالي : الدأب العادة الدائمة التي تتأبد بالتزامها ، وآل الرجل من إذ أحصر تراءى فيهم فكأنه لم يغب ؛ وفرعون اسم ملك مصر في الكفر ، ومصر أرض جامعة كليتها وجملة ، إقليمها نازل منزلة الأرض كلها ، فلها إحاطة بوجه ما ، فلذلك أعظم شأنها في القرآن وشأن العالي فيها من الفراعنة ، وكان الرسول المبعوث إليه أول المؤمنين بما وراء أول الخلق من طليعة ظهور الحق لسماع كلامه بلا واسطة ملك ، فكان أول من طوى في رتبة بنوتة رتبة البنوة ذات الواسطة ، فلذلك بدىء به في هذا الخطاب لعلو رتبة بنوته بما هو كليم الله ومصطفاه على الناس ، ولحق به من تقدمهم بما وقعت في بنوته من واسطة زوج أو ملك ، وخص آله لأنه هو كان عارفاً بأمر الله سبحانه وتعالى فكان جاحداً لا مكذباً انتهى .
: ( والذين ( ولما كان المكذبون إنما هم بعض المتقدمين أدخل الجار فقال : : ( من قبلهم ( وقد نقلت إليكم أخبارهم وقوتهم واستظهارهم فكأنه قيل : ماذا كانت عادتهم ؟ فقيل : ( كذبوا ( ولما كان التكذيب موجباً للعقوبة كان مظهر العظمة به أليق ، فصرف القول إليه فقال : ( بآيتنا ( السورية والصورية مع ما لها من العظمة بما لها من إضافتها إلينا ) فأخذهم ( ولما أفحشوا في التكذيب عدل إلى أعظم من مظهر العظمة تهويلاً لأخذهم فقال : ( الله ( فاظهر الاسم الشريف تنبيهاً على باهر العظمة : ( بذنوبهم ) أي من التكذيب وغيره .
قال الحرالي : فيه إشعار بأن صريح المؤاخذة مناط بالذنوب ، وأن المؤاخذة الدنيوية لا تصل إلى حد الانتقام على التكذيب ، فكان ما ظهر من أمر الدنيا يقع عقاباً على ما ظهر من الأعمال ، وما بطن من أمر الآخرة يستوفي العقاب على ما أصرت عليه الضمائر من التكذيب ، ولذلك يكون عقاب الدنيا طهرة للمؤمن لصفاء باطنه من التكذيب ، ويكون واقع يوم الدنيا كفاف ما جرى على ظاهره من المخالفة فكأن الذنب من المؤمن يقع في دنياه خاصة ، والذنب من الكافر يقع في دنياه وأخراه من استغراقه لظاهره وباطنه ، وأظهر الاسم الشريف ولم يضمر للتنبيه على زيادة العظمه في عذابهم لمزيد اجترائهم فقال : ( والله ) أي الحال أن الملك الذي لا كفوء له في جبروته ولا شيء من نعوته ) شديد العقاب ( لا يعجزه شيء .(2/30)
صفحة رقم 31
ولما تم ذلك على هذه الوجوه الظاهره التي أوجبت اليقين لكل منصف بأنهم مغلوبون وصل بها أمره وهو الحبيب العزيز بأن يصرح لهم بمضمون ذلك فقال : ( قل للذين كفروا ) أي من أهل زمانك جرياً على منهاج أولئك الذين أخذناهم ) ستغلبون ( كما غلبوا وإن كنتم ملأ الأرض لأنكم إنما تغالبون خالقكم وهو الغالب لكل شيء : ( وليُغلَبنّ مُغالبُ الغَلاّب ) واللام على قراءة الجمهور بالخطاب معدية ، وعلى قراءة الغيب معللة ، أي قل لأجلهم ، أو هي بمعنى عن ، أي قل عنهم ، وقد أفهم الإخبار بمجرد الغلبة دون ذكر العذاب كما كان يذكرفي تهديد من قبلهم أن أخذهم بيد المغالبة والمدافعة والنصرة تشريفاً لنبيهم لأنه عرض عليه عذابهم فأبى إلا المدافعة على سنة المصابرة ، فكان أول ذلك غلبته على مكة المشرفة ، وكان فتحها فتحاً لجميع الأرض لأنها أم القرى نبه على ذلك الحرالي .
) وتحشرون ) أي تجمعون بعد موتكم أحياء كما كنتم قبل الموت ) إلى جهنم ( قال الحرالي : وهي من الجهامة ، وهي كراهه المنظر انتهى ؛ فتكون مهادكم ، لا مهاد لكم غيرها ) وبئس ) أي الحال أنها بئس ) المهاد ( .
آل عمران : ( 13 - 15 ) قد كان لكم. .. . .
) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( ( )
ولما كان الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم من العرب بمعرض أن يقولوا حين قيل لهم ذلك : كيف نغلب وما هم فينا إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ؟ قيل لهم : إن كانت قصة آل فرعون لم تنفعكم لجهل أو طول عهد فإنه ) قد كان لكم آية ) أي عظيمة بدلالة تذكير كان ) في فئتين ( تثنية فئة للطائفة التي يفيء إليها أي يرجع من يستعظم شيئاً ، استناداً إليها حماية بها لقوتها ومنعتها ) التقتا ) أي في بدر ) فئة ) أي منهما مؤمنة ، لما يرشد إليه قوله : ( تقابل في سبيل الله ) أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا ، ومن كان كذلك لم يكن قطعاً إلا مؤمناً ) وأخرى ) أي منهما ) كافرة ) أي تقاتل في سبيل الشيطان ، فالآية كما ترى منوادي الاحتباك ، وهو أن يؤتى بكلامين(2/31)
صفحة رقم 32
يحذف من كل منهما شيء إيجازاً ، يدل ما ذكر من كل على ما حذف من الآخر ، وبعبارة أخرى : هو أن يحذف من كل جملة شيء إيجازاً ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه .
ولما نبه سبحانه وتعالى على الاعتبار بذكر الآية نبه على موضعها بقوله : ( يرونهم ( وضمن يرى البصيرية القاصرة على مفعول واحد فعل الظن ، وانتزع منه حالاً ودل عليها بنصب مفعول ثان فصار التقدير : ظانيهم ) مثليهم ( فعلى قراءة نافع بالتاء الفوقانية يكون المعنى : ترون أيها المخاطبون الكفار المقاتلين للمؤمنين ، وعلى قراءة غيره بالغيب المعنى ، يرى المسلمون الكفار مثلي المسلمين ) رأي العين ) أي بالحزر والتخمين ، لا بحقيقة العدد ، هذا أقل ما يجوزونه فيهم ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ومع ذلك فجزاهم الله على مصادمتهم ونصرهم عليهم ، أو يرى الكفار المسلمين مثلي الكفار مع كونهم على الثلث من عدتهم ، كما هو المشهور في الآثار تأييداً من الله سبحانه وتعالى لأوليائه ليرعب الأعداء فينهزموا ، أو يرى الكفار المسلمين ضعفي عدد المسلمين قال الحرالي : لتقع الإراءة على صدقهم في موجود الإسلام الظاهر والإيمان الباطن ، فكان كل واحد منهم بما هو مسلم ذاتاً ، وبما هو مؤمن ذاتاً ، فالمؤمن المسلم ضعفان أبداً
77 ( ) فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ( ) 7
[ الأنفال : 66 ] وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له فكان ذات عين ، لا ذات قلب له ، فكان المؤمن ضعفه ، فوقعت الإراء للفئة المؤمنة على ما هي عليه شهادة من الله سبحانه وتعالى بثبات إسلامهم وإيمانهم ، وكان ذلك أدنى الإراءة لمزيد موجود الفئة المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل الزيادة الصحيحة ، وأما بالحقيقة فإن التام الدين بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين إنما هو بالحقيقة عشر تام نظير موجود الوجود الكامل ، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين
77 ( ) إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ( ) 7
[ الأنفال : 65 ] انتهى .
وهذا التقليل والتكثير واقع بحسب أول القتال وآخره ، وقبل اللقاء وبعده ، لما أراد الله سبحانه وتعالى من الحكم كما في آية الأنفال ، والمعنى : إنا فاعلون بكم أيها الكفارعلى أيديهم ما فعلناه بأولئك ، وقد كانوا قائلين أعظم من مقالاتكم ، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً ، ولا شدة شكيمتهم ونخوتهم فإن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين لطيبهم
77 ( ) قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ( ) 7
[ المائدة : 100 ] .
ولما كان التقدير : فنصر الله سبحانه وتعالى الفئة القليلة ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي الذي له الأمر كله ) يؤيد ( والأيد تضعيف القوة الباطنة ) بنصره ( قال(2/32)
صفحة رقم 33
الحرالي : والنصر لا يكون إلا لمحق ، وإنما يكون لغير المحق الظفر والانتقام انتهى .
) من يشاء ) أي فلا عجب فيه في التحقق ، فلذلك اتصل به قوله : ( إن في ذلك ) أي الأمر الباهر ، وفي أداة البعد كما قال الحرالي إشارة بعد إلى محل علو الآية ) لعبرة ( قال : هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى ، ومن علم أدنى إلى علم أعلى ، ففي لفظها بشرى بما ينالون من ورائها مما هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من بدر ثلاثمائة ثلاثة عشر ، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ ونظر جامع بين البداية والخاتمة
77 ( ) كما بدأنا أول خلق نعيده ( ) 7
[ الأعراف : 104 ] - انتهى .
) لأولي الأبصار ) أي يصيرون بها من حال إلى أشرف منها في قدرة الله وعظمته وفعله بالاختيار .
قال الحرالي : أول موقع العين على الصورة نظر ، ومعرفة خبرتها الحسية بصر ، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية ، فالبصر متوسط بين النظر والرؤية كما قال سبحانه وتعالى :
77 ( ) وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( ) 7
[ الأعراف : 198 ] فالعبرة هي المرتبة الأولى لأولي الأبصار الذين يبصرون الأواخر بالأوائل ، فأعظم غلبة بطشه في الابتداء غلبة بدر ، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب وراءها ، التي تكون بالشام في آخر الزمان - انتهى .
ولما علم بهذا أن الذي وقف بهم عن الإيمان من الأموال والأولاد وسائر المتاع إنما هو شهوات وعرض زائل ، لا يؤثره على اتباع ما شرعه الملك إلا من انسلخ من صفات البشر إلى طور البهائم التي لا تعرف إلا الشهوات ، وختمت بذكر آية الفئتين كان كأنه قيل : الآية العلامة ، ومن شأنها الظهور ، فما حجبها عنهم ؟ فقيل : تزيين الشهوات لمن دنت همته .
وقال الحرالي : لما أظهر سبحانه وتعالى في هذه السورة ما أظهره بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول ، وإنزال الكتب الثلاثة : إنزال التوراة بما أنشاء عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا ، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها ، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة ، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا ، ومن مجبول على ما هو من نحو ذلك في مر الآخرةن ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله ، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه ، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف ورهبة في موجود الدنيا ، وكان كتاب الإنجيل كتاب دعوة إلى مكلوت الآخرة ، وكانا متقابلين ، بينهما ملابسة ، لم يفصل أمرهما فرقان واضح ، فكثر فيهما الاشتباه ، فأنزل الله تعالى الفرقان لرفع لبس ما فيهما فأبان فيه المحكم والمتشابه(2/33)
صفحة رقم 34
من منزل الوحي ، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضاً فرقان الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة ووام التبس على أهل الدنيا من أمر الخلق بلوائح آيات الحق عليهم ، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه ، ومحكم الخلق من متشابهه وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا ، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة ، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بنى عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعداً ووعيداً ، لتكون هذه الآية تطئة لتحقيق صرف النهي عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها ، فأنبأ تعلاى أن متاع الدنيا أمر مزين ، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفة فقال : ( زين للناس ( فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو ، وفي إناطة التزيين بالناس دون الذين آمنوا ومن فوقهم إيضاح لنزول سنهم في أسنان القولب وأهم ملوك الدنيا وأتباعهم ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين هم أهل الدنياد ) حب الشهوات ( جمع شهوة ، وهي نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه - انتهى .
وفي هذا الكلام إعلام بأن الذي وقع لعيه التزين الحب ، لا الشيء المحبوب ، فصار اللازم لأهل الدنيا إنما هو محبة الأمر الكلي من هذه المسميات وربما إذا تشخص في الجزئيات لم تكن تلك الجزئيات محبوبة لهم ، وفيه تحريك لهمم أهل الفرقان إلى العلو عن رتبة الناس الذين أكثرهم لا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون ، ثم بين ذلك بما هو محط القصد كله ، وآخر العمل من حيث إن الأعلق بالنفس حب أنثاها التي هي منها
77 ( ) خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ( ) 7
[ النساء : 1 ] فقال : ( من النساء ) أي المبتدئة منهن ، وأتبعه ما هو منه أيضاً وهو بينه وبين الأنثى فقال : ( والبنين ( قال الحرالي : وأخفى فتنة النساء بالرجال ستراً لهن ، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم حيث قال :
77 ( ) وعصى آدم ربه ( ) 7
[ طه : 121 ] فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم ، والله سبحانه وتعالى حي كريم - انتهى .
ثم أتبع ذلك ما يكمل به أمره فقال : ( والقناطير ( قال الحرالي : جمع قنطار ، يقال : هو مائة رطل ويقال : إن الرطل اثنتا عشرة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً ، والدرهم خمسون حبة وخمساً من حب الشعير ، وأحقه أن يكون من شعير المدينة ) المقطنرة ) أي المضاعفة مرات - انتهى .
ثم بينها بقوله : ( من الذهب والفضة ( ثم أتبعها الزينة الظاهرة التي هي أكبر الأسباب في تحصيل الأموال فقال : ( والخيل ( قال الحرالي : اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذا الاختيال لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه الذي منه سمي واحدة فرساً ) المسومة ) أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي تشتهر بها جودتها ، من السومة - بضم السين ، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها ، وأصل السوم(2/34)
صفحة رقم 35
بالفتح الإرسال للرعي مكتفي في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها منالخاص والعام ، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها ) والأنعام ( وهي جمع نعم ، وهي الماشية فيها إبل ، والإبل واحدها ، فإذا خلت مناه الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم - انتهى .
وقال في القاموس : النعم - وقد تسكن عينه - الإبل والشياء جمع أنعام ، وجمع جمعه أناعيم .
وقال القزاز في جامعه : النعم اسم يلزم الإبل خاصة ، وربما دخل في النعم سائر المال ، وجمع النعم أنعام ، وقد ذكر بعض اللغويين أن النعم في الإبل خاصة ، فإذا قلت : الأنعام - دخل فيها البقر والغنم ، قال : وإن أفردت الإبل والغنم لم يقل فيها نعم ولا أنعام .
وقال قوم : النعم والأنعم بمعنى ، وقال في المجمل : والأنعام البهائم ، وقال الفارابي في ديوان الأدب : والنعم واحد الأنعام ، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل .
ولما ذكر هذه الأعيان التي زين حبها في نفسها أتبعها ما يطلب لأجل تحصيلها أو تنيتها وتكثيرها فقال : ( والحرث ( .
ولما فصلها وختمها بما هو مثل الدنيا في البداية والنهاية والإعادة أجمل الخبر عن ثمرتها وبيان حقيقتها فقال : ( ذلك ) أي ما ذكر من الشهوات المفسر بهذه الأعيان تأكيداً لتخسيسه البعيد من إخلاد ذوي الهمم إليه ليقطعهم عن الدار الباقية .
وقال الحرالي : الإشارة إلى بعده عن حد التقريب إلى حضرة الجنة انتهى .
) متاع الحياة الدنيا ) أي التي هي مع دناءتها إلى فناء .
قال الحرالي : جعل سبحانه وتعالى ما أحاط به حس النظر العاجل من موجود العادل أدنى ، فافهم أن ما أنبأ به على سبل السمع أعلى ، فجعل تعالى من أمر اشتباه كتاب الكون المرئي به وذكر المشهود أن عجل محسوس العين وحمل على تركه وقبض اليد بالورع والقلب بالحب عنه ، وأخر مشهود مسموع الأذن من الآخرة وأنبأ بالصدق عنه ونبه بالآيات عليه ليؤثر المؤمن مسمعه على منظره ، كما آثر الناس منظرهم على مسمعهم ، حرض لسان الشرع على ترك الدنيا والرغبة في الأخرى ، فأبت الأنفس وقبلت قلوب وهيم لسان الشعر في زينة الدنيا فقبلته الأنفس ولم تسلم القلوب منه إلا بالعصمة ، فلسان الحق يصرف إلى حق الآخرة ولسان الخلق يصرفه إلى زينة الدنيا ، فأنبا سبحانه وتعالى أن ما في الدنيا متاع ، والمتاع ما ليس له بقاء ، وهو يف نفسه خسيس خساسة الجيفة انتهى .
ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى حالاً من فاعل معنى الإشارة لقال : ( والله ( الذي بيده كل شيء ، ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره : وهو سوء المبدأ في هذا الذهاب إلى غاية الحياة ، والله ) عنده حسن المآب ( قال الحرالي : مفعل من الأوب وهو الرجوع إلى ما منه كان الذهاب انتهى .(2/35)
صفحة رقم 36
فأرشد هذا الخطاب اللطيف كل من ينصح نفسه إلى منافرة هذا العرض الخسيس بأنه إن حصل له يعرض عنه بأن يكون في يده ، لا في قلبه فلا يفرح به بحيث يشغله عن الخير ، بل يجعل عوناً على الطاعة وأنه منع منه لا يتأسف عليه لتحقق زواله ولرجاء الأول إلى ا عند خالقه الذي ترك ذلك لأجله .
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوجب الإعراض عن هذا العرض فكان السامع جديراً بأن يقول فعلاً أقبل ؟ أمر سبحانه وتعالى أقرب الخلق إليه وأعزهم لديه بجوابه لتكون البشارة داعية إلى حبه فقال : ( قل ) أي لمن فيه قابلية الإقبال إلينا ، ولما أجرى سبحانه وتعالى هذه البشارة على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) لتقوم الحجة على العباد بحاله كما تقوم بمقاله من حيث إنه لا يدعو إلى شيء إلا كان أول فاعل له ، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له ، لإيثاره الغائب المسموع من بناء الآخرة على العاجل المشهود من أثر الدنيا كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر رضي الله عنه حين أشفق عليه من تأثير رمال السرير في جنبه فذكر ما فيه فارس والروم من النعيم : ( أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ ) شوق إليها بالاستفهام في قوله : ( أؤنبئكم بخير من ذلكم ) أي الذي ذكر من الشهوات ، وعظمه بأداة البعد وميم الجمع لعظمته عندهم والزيادة في التعظيم ما يرشد إليه ، ثم استأنف بيان هذا الخير بقوله : ( للذين اتقوا ) أي اتصفوا بالتقوى فكان مما أثمر لهم اتصافهم بها أن أعرضوا عن هذه الشهوات من حيث إنها شهوات وجعلوها عبادات واقية لهم من عذاب ربهم ، فتلذذوا بالنساء لا لمجرد الشهوة بل لغض البصر من الجانبين واتبغاء ما كتب لهم من الولد إنفاذاً لمراد ربهم من تكثير خلائفهم في الأرض للإصلاح ، ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) ونحو ذلكن وفرحوا بالبنين لا لمجرد المكاثرة بل لتعليمهم العلم وحملهم(2/36)
صفحة رقم 37
على الذكر والجهاد والشكر وأنواع السعي في رضى السيد ، وحازوا النقدين لا للكنز ، بل للإنفاق في سبيل الخيرات ، وربطوا للجهاد ، لا للفخر والرئاسة على العباد بل لقمع أولياء الشيطان ورفع أولياء الرحمن المسلتزم لظهور الإيمان ، كما بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متشابه اقتنائها فقال : ( وهي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر ) ثم عظم سبحانه وتعالى ما لهم بقوله مرغباً بلفت القول إلى وصف الإحسان إليهم بلباس التقوى الموجب لإيثارهم الآخرة على الدنيا ، وقوله : ( جنّات ( مرفوع بالابتداء ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف إذا كان وللذين ، متعلقاً بخير ، ثم وصفها بقوله : ( تجري من تحتها الأنهار ) أي أن ماؤها غير مجلوب ، بل كل مكان مها متهيىء لأن ينبع منه ماء يجري لتثبت بهجتها وتدوم زهرتها ونضرتها ، ثم أشار بقوله : ( خالدين فيها ( إلى أنها هي المشتملة على جميع الإحسان المغنية عن الحرث والأنعام ، وأن ذلك على وجه لا انقطاع له .
قال الحرالي : ولعله إنما خص من بين ما تقدم من الشهوات ذكر النسوان في قوله : ( وأزواج ( لأنها أعظم المشتهيات ، ولا يكمل التلذذ بها إلا بحصول جميع ما يتوقف ذلك عليه ، فصار ذكرهن على سبيل الامتنان من القادر كناية عن جميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين .
ولما كانت التقوى حاملة على تطهير الأنفس من أوضار الأدناس من الأوصاف السيئة وكان الوصف بالمفرد أدل على أنهن في أصل الطهارة كأنهن نفس واحدة قال عادلاً عما هو الأولى من الوصف بالجمع لجمع من يعقل : ( مطهرة ( لأنهن مقتبسات من أنفسهم
77 ( ) خلق لكم من أنفسكم أزواجاً ( ) 7
[ الروم : 31 ] .
ولما ذكر حظ البدن قرر لذة هذا النعيم بما للروح ، وزاده من الأضعاف المضاعفة(2/37)
صفحة رقم 38
ما لا حد بقوله : ( ورضوان ( قال الحرالي : بكسر الراء وضمها ، اسم مبالغة في معنى الرضى ، وهو على عبرة امتلاء بما تعرب عنه الألف والنون وتشعر ضمة رائه بظاهر إشباعه ، وكسرتها بباطن إحاطته - انتهى .
ولما جرى وعد الجنات على اسم الربوبية الناظر إلى الإحسان بالتربية فخم أمر هذا الجزاء وأعلاه على ذلك بنوطه بالاسم الأعظم فقال : ( من الله ) أي المحيط بصفات الكمال .
ولما كان شاملاً لجميعهم وكان ربما ظن أنهم فيه مساوون أشار إلى التفاوت بقوله مظهراً في موضع الإضمار إشارة إلى الإطلاق عن التقييد بحيثية ما : ( والله ) أي الذي له الحكمة البالغة ) بصير بالعباد ) أي بنياتهم ومقادير ما يستحقونه بها على حسب إخلاصها ، وبغير ذلك من أعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم .
آل عمران : ( 16 - 19 ) الذين يقولون ربنا. .. . .
) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ( )
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنه بصير بمن يستحق ما أعد من الفوز أتبعه ما استحقوا ذلك به من الأوصاف تفضلاً منه عليهم بها وبإيجاب ذلك على نفسه حثاً لهم على التخلق بتلك الأوصفاف فقال : - وقال الحرالي : لما وصف تعالى قلوبهم بالتقوى وبرهم من الاستغناء بشيء من دونه وصف أدبهم في المقال فقال ؛ انتهى - ) الذين يقولون ربنا ) أي يا من ربانا بإحسانه وعاد علينا بفضله ، وأسقط أداة النداء إشعاراً بما لهم من القرب لأنهم في حضرة المراقبة ؛ ولما كانت أحوالهم في تقصيرها عن أن يقدر الله حق قدره كأنها أحوال من لم يؤمن اقتضى بالمقام التأكيد فقالوا : ( إننا ( فأثبتوا النون إبلاغاً فيه ) آمنا ) أي بما دعوتنا إليه ، وأظهروا هذا المعنى بقولهم : ( فاغفر لنا ذنوبنا ) أي فإننا عاجزون عن دفعها ورفع الهمم عن مواقعتها وإن احتهدنا لما جبلنا عليه من الضعف والنقص ، تنبيهاً منه تعالىعلى أن مثل ذلك لا يقدح في التقوى إذا هدم بالتوبة لأنه ما أصر من استغفر ، والتوبة تجب ما قبلها .
قال الحرالي : وبين المغفرة على مجرد الإيمان إشارة إلى أنه لا تغيرها الأفعال ، من ترتب إيمانه على تقوى غفرت ذنوبه ، فكانت مغفرة الذنوب لأهل هذا الأدب في مقابلة الذين آخذهم الله بذنوبهم من الذين(2/38)
صفحة رقم 39
كذبوا ، ففي شمول ذكر الذنوب في الصنفين بإجراء قدر الذنوب على الجميع ، فما كان منها مع التكذيب أخذ به ، وما كان منها مع التقوى والإيمان غفر له - انتهى .
ولما رتب سبحانه وتعالى الغفران على التقوى ابتداء رتب عليها الوقاية انتهاء فقال : ( وقنا عذاب النار ) أي الذي استحققناه بسوء أعمالنا .
قال الحرالي : ولما وصف تقوى قلوبهم باطناً وأدب مقالهم ظاهراً وصف لهم أحوال أنفسهم ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه فقال : ( الصابرين ( فوصفهم بالصبر إشعاراً بما ينالهم من سجن الدنيا وشدائدها ، والصبر أمدح أوصفاف النفس ، به تنجس عن هواها وعما زين من الشهوات المذكورة بما تحقق من الإيمان بالغيب الموجب لترك الدنيا للآخرة فصبروا عن الشهوات ؛ أما النساء فبالاقتصار على ما ملكوه وأما البنون فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) - يعني فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ( لسقط أقدمه بين يدي أحب إليَّ من فارس أخلفه خلفي ) وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها أصناماً يضر موجودها ، وبالحري أن ينال منها السلامة بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها إل أن يكون كفارة كسبها وجمعها ، فكان الصبر عنها أهون من التخلص منها ؛ وأما الخيل فلما يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها إلى احتمال الضيم والسكون بحب الذل ، يقال : إنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة ؛ وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف ، لأن كل مستزيد تمولاً من الدنيا زائداً على كفاف منه من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال فهو محجر على من سواه من عباد الله ذلك الفضل الذي هم أحق به منه ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد ) الحديث
77 ( ) وإن شيء إلا عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم ( ) 7
[ الحجر : 21 ] ؛ وأما الحرث فبالاقتصار منه على قدر(2/39)
صفحة رقم 40
الكفاية لما يكون راتباً للإلزام ومرصداً للنوائب ومخرجاً للبذر ، فإن أعطاه الله فضلاً أخرجه بوجه من وجوه الإخراج ولو بالبيع ، ولا يمسكه متمولاً لقلبه إلى غيره من الأعيان فيكون محتكراً ، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ( من احتكر أربعين يوماً فقد برىء من الله وبرىء الله منه ) .
فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف التي هي حظ من خلاق له في الآخرة ، ولذلك يحق أن تكون هذه الكلمات معربة بالنصب مدحاً ، لأن الصفات المتبعة للمدح حليتها النصب في لسان العرب ، وإنما يتبع في الإعراب ما كان لرفع لبس أو تخصيص - انتهى .
ولما كان سن التقوى فوق سن الإيمان عطف أمداحهم كلها بالواو إيذاناً بكمالهم في كل وصف منها وتمكنهم فيءه بخلاف ما في آية براءة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال : ( الصادقين ( قال الحرالي : في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف لأن العرب تعطفها إذا كملت وتتبع بعضها بعضاً إذا تركبت والتأمت ، يعني مثل : الرمان حلو حامض - إذا كان غير صادق الحلاوة ولا الحموضة ، ففي العطف إشعار بكمال صبرهم عن العاجلة على ما عيه حكم النظم ، في الآية السابقة ، ومن شأن الصابر عن الدنيا الصدق ، لأن أكثر المداهنة والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب إلى كسب الدنيا ، فإذا رغب عنها لم يحمله على ما عينه حكم النظم ، في الآية السابقة ، ومن شأن الصابر عن الدنيا مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه وعرفان قلبه - انتهى ) والقانتين ) أي المخليصين لله في جميع أمورهم الدئمين عليه .
ولما ذكر سبحانه وتعالى العمل الحامل عليه خوف الحق ورجاؤه أتبعه ما الحامل عليه ذلك مع الشفقة على الخلق ، لأن من أكرم المنتمي إليك فقد بالغ في إكرامك فقال : ( المنفقين ) أي ما رزقهم الله سبحانه وتعالى في كل ما يرضيه ، فإنه لا قوام لشيء من الطاعات إلا بالنفقة .
قال الحرالي : فيه إشعار بأن من صبر نوّل ، ومن صدق أعلى ، ومن قنت جل وعظم قدره ، فنوله الله ما يكون له منفقاً ، والمنفق أعلى حالاً من(2/40)
صفحة رقم 41
المزكي ، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضاً ، والمنفق يجود بما في يده فضلاً - انتهى .
ولما ذكر هذه الأعمال الزاكية الجامعة العالية أتبعها الإشارة إلى أن الاعتراف بالعجز عن الوفاء بالواجب هو العمدة في الخلاص : ( والمستغفرين ) أي من نقائصحهم مع هذه الأفعال والأحوال التي هي نهاية ما يصل إليه الخلق من الكمال ) بالأسحار ( التي هي أشق الأوقات استيقاظاً عليهم ، وأحبها راحة لديهم ، وأولاها بصفات القلوب ، وأقربها إلى الإجابة المعبر عنها في الأحاديث بالنزول ما يأتي بيانه في آية التهجد في سورة الإسراء .
قال الحرالي : وهو جمع سحر ، وأصل معناه التعلل عن الشيء بما يقاربه ويدانيه ويكون منه بوجه ما ، فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر ، ومنه السحور ، تعلل عن العداء ؛ ثم قال : وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال سبحانه وتعالى :
77 ( ) كانوا قليلاً من الّيل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون ( ) 7
[ الذاريات : 17 ، 18 ] فهم يستغفرون من حسناتهم كما يستغفر أهل السيئات من سيئاتهم تبرؤاً من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال التئاماً بصدق قولهم في الابتداء : ( ربنا إننا آمنا ( وكمال الإيمان بالقدر خيره وشره ، فباجتماع هذه الأوصاف السبعة من التقوى والإيمان والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار كانت الآخرة خيراً لهم من الدنيا وما فيها ، وقد بان بهذا محكم آيات الخلق من متشابهها بعد الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها ، فبتم بذلك منزل الفرقان في آيات الوحي المسموع والكون المشهود - انتهى .
ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس ، فأشار بالصبر إلى الإيمان ، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه ، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة ، وبالإنفاق إل الحج الذي أعظم مقوماته المال ، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر ؛ وسر ترتبيها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان ، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان ، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة المال مجرداً ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما ، شعارها تعرية الظاهر ، ثم أتبعه عبادة بدنية خفية ، عمادها تعرية الباطن ، فختم بمثل ما بدأ به ، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى .
ولما أخبر سبحانه وتعال بوحدانيته في أول السورة واستدل عليها وأخبر عما أعد(2/41)
صفحة رقم 42
للكافرين واستدل عليه بما دل على الوحدانية وختم بالإخبار بما أعد للمتقين مما جر إلى ذكره تعالى بما يقتضي الوحدانية أيضاً من الأوصاف المبنية على الإيمان أنتج ذلك ثوبتها ثبوتاً لا مرية فيه ، فكرر تعالى هذه النتيجة على وجه أضخم من الماضي كما اقتضته الأدلة فقال - وقال الحرالي : لما أنهى تعالى الفرقان نهايته ببيان المحكمين والمتشابهين في الوحي والكون انتظمت هذه الشهادة التي هي أعظم شهادة في كتاب الله بآية القيومية التي هي أعظم آية الوجود لينتظم آية الشهود بآية الوجود ، انتهى .
فقال سبحانه وتعالى : ( شهد الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ) أنه ( قال الحرالي : فأعاد بالإضمار ليكون الشاهد والمشهود له ) لا إله هو ( فأعاد بالهوية لمعنى الوحدانية في الشهادة ولم يقل : إلا الله ، لما يشعر به تكرار الاسم في محل الإضمار من التنزل العلي - انتهى .
والمعنى أنه سبحانه وتعالى فعل فعل الشاهد في إخباره عما يعلم حقيقته بلفظ الشهادة جرياً على عادة الكبراء إذا رأوا تقاعس أتباعهم عما يأمرون به من المهمات في تعاغطيهم له بأنفسهم تنبيهاً على أن الخطب قد فدح والأمر قد تفاقم ، فيتساقط حينئذ إليه الأتباع ولو أن فيه الهلاك تساقط الذباب في أحلى الشراب ، وإلى ذلك ينظر قول وفد ثقيف : ما لمحمد يأمرنا بأن نشهد له بالرسالة ولا يشهد هو لنفسه فكان ( صلى الله عليه وسلم ) بعد لا يخطب خطبة إلا شهد لنفسه الشريفة ( صلى الله عليه وسلم ) الشهادة لله فيها بالرسالة ، فكأنه قيل : إن ربكم الذي أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة قد نصب لكم الأدلة بخلق ما خلق على تفرده بحيث انتفى كل ريب فكان ذلك أعظم شهادة منه سبحانه لنفسه ، وإليه أومأ من قال :
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ثم شهد بذلك لنفسه بكلامه جمعاً بين آيتي السمع والبصر فلم يبق لكم عذراً .
قال الحرالي : وهذه الشهادة التي هي من الله لله هي الشهادة التي إليها قصد القاصدون وسلك السالكون وإليه انتهت الإشارة ، وعندها وقفت العبارة ، وهي أنهى المقامات وأعظم الشهادات ، فمن شهد بها فقد شهد شهادة ليس وراءها مرمى ، ومن شهد بما دونها كانت شهادته مشهوداً عليها لا شهادة ، يؤثر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يزل يوم الجمعة وهو قائم بعرفة منذ كان وقت العصر إلى أن غربت الشمس في حجته التي كمل بها الدين وتمت بها النعمة يقول هذه الآية لا يزيد عليها ، فأي عبد شهد لله بهذه الشهادة التي هي شهادة الله لله سبحانه وتعالى بالوحدانية فقد كملت شهادته ، وأتم الله سبحانه وتعالى النعمة عليه ، وهي سر كل شهادة من دونها ، وهي آية علن التوحيد الذي هو منتهى(2/42)
صفحة رقم 43
المقامات وغاية الدرجات في الوصول إلى محل الشهود الذي منه النفوذ إلى الموجودين بمقتضى الأعظمية التي في الآية الفاتحة - انتهى .
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه المقدسة أخبر عمن يعتد به من خلقه فقال مقدماً لأن المقام للعلم لمن هم أعلم به سبحانه وتعالى ممن أطلعهم من الملك والملكوت على ما لم يطلع عليه الإنسان ولا شاغل لهم من شهوة ولا حظ ولا فتور : ( والملائكة ) أي العبادة المقربون المصفون من أدناس البشر ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
ولما خص أهل السماوات عم فقال : ( وأولوا العلم ( وهم الذين عرفوه بالأدلة القاطعة ففعلوا ما فعل العظيم من الشهادات لكيون ذلك ادعى لغيرهم إليه وأحث عليه ، ولما كانت الشهادة قد تكون على غير وجه العدل نفى ذلك بقوله : ( قائماً ( وأفرد ليفهم أنه حال كل من المذكورين لا المجموع بقيد الجمع ، ويجوز - وهو الأقرب - أن يكون حالاً من الاسم الشريف إشارة إلى أنه ما وحد الله سبحانه وتعالى حق توحيده غيره ، لأنه لا يحيط به أحد علماً .
وقال الحرالي : أفرد القيام فاندرج من ذكر من الملائكة وأولي العلم في هذا القيام إفهاماً ، كما اندرجوا في الشهادة إفصاحاً ، فكان في إشعاره أن الملائكة وأولي العلم لا يقاد منهم فيما يجريه الله سبحانه وتعالى على أيديهم ، لأن أمرهم قائم باقسط من الله ، يذكر أن عظيم عاد لما كشف له عن الملائكة في قوم النقمة قال لهود عليه الصلاة والسلام : يا هود ما هذا الذي أراهم في السحاب كأنهم البخاتي ؟ فقال : ملائكة ربي ، فقال له : أرأيت إن آمنت بالهك أيقيدني منهم بمن قتلوا من قومي ؟ قال : ويحك وهل رأيت ملكاً يقيد من جنده - انتهى .
) بالقسط ) أي العدل السواء الذي لا حيف فيه أصلاً بوجه من الوجوه ، وقد ثبت بهذه الشهادة على هذا الوجه أن التوحيد في نفس الأمر على ما وقعت به الشهادة ، ويجوز أن يراد مع ذلك أن قيامه بالعدل فعله في خلقه فإنه عدل وإن كان من بعضهم إلى بعض ظلماً ، فإنه تصرف منه سبحانه في ملكه الذي لا شائبة لأحد فيه ، فهو إذا نسب إليه كان عدلاً ، لأنه فعله بالحكمة ، وإذا نسب إلى الظالم كان ظلماً ، لأنه فعله لحظكه لا للحكمة فلذلك قال على طريق الاستنتاج والتعليل للقيام بالقسط والتلقين للعباد لأن يقولوها بعد ثبوتها بما تقدم وأن يكرروها دائماً أبداً : ( لا إله إلا هو ( وقال الحرالي : كرر هذا التهليل لأنه في مرتبة القسط الفعلي ، لأن التهليل الأول في مرتبة الشهادة العلمية فاستوفى التهليلان جميع البادي علماً وفعلاً - انتهى .
وأتبعه سبحانه وتعالى بقوله : ( العزيز الحكيم ( دليلاَ على قسطه ، لأنه لا يصح أبداً لذي العزة(2/43)
صفحة رقم 44
الكاملة والحكمة الشاملة أني تصرف بجور ، وعلى وحدانيته ، لأنه لا يصح التفرد بدون الوصفين وليسا على الإطلاق لأحد غيره أصلاً ، ولما كانت الآيات كلها في الإيقاع بالكافرين قدم الوصف الملائم لذلكز قال الحرالي : وقسط الله هو إخفاء عدله في دار لادنيا من حيث إنه خفض ورفع ، يعادل خفضه رفعه ورفعه خفضه ، فيؤول إلى عدل ، ويراه بذلك في حال تفاوته كل ذي لب بما أنه عزيز يظهر عزته فيما يرفع ، حكيم يخفي معنى حكمه فيما يخفض ، فكل ما هو باد من الخلق جود فهو من الله سبحانه وتعالى قسط ، طيته عدل ، سره سواء ، فيظهر عزته فيما حكم انتقاماً وحكمته في الموازنة بين الأعمال والجزاء عدلاً - انتهى .
ولما كان ذلك علم أنه يجب أن تخضع له الرقاب ويخلص له التوحيد جميع الألباب وذلك هو الإسلام فقال معللاً للشهادة منهم بالعدل - وقراءة الكسائي بالفتحد أظهر في التعليل : ( إن الدين ( واصله الجزاء ، أطلق هنا على الشريعة لأنها مسببة ) عند الله ) أي الملك الذي له الأمر كله ) الإسلام ( فاللام للعهد في هذه الشهادة فإنها أس لكل طاعة ، فلأجل أن الدين عنده هذا شهدوا له هذه الشهادة المقتضية لنهاية الإذعان ولما كان ذلك مصرحاً بأنه لا دين عنده غيره كان كأن قائلاً قال : فكان يجب أن يعلم بذلك الأنيباء الماضون والأمم السالفون ليلزموه ويلزموه أتباعهم فقيل : قد فعل ذلك ، فقيل : فما لهم يلزموه ؟ فقيل : قد لزموه مدة مديدة ) وما ( ويجوز وهو أحسن أن يكون التقدير : بين الله سبحانه وتعالى بشهادته ما يرضيه بآياته المرئية ثم أوضحة غاية الإيضاح بآياته المسموعة بكتبه وما ) اختلف الذين أوتوا الكتاب ( هذا الاختلاف الذي ترونه ) إلا من بعد ما جاءهم العلم ( بذلك كله ، وما كان اختلافهم لجهلهم بذلك بل ) بغياً ( واقعاً ) بينهم ( لا بينهم وبين غيرهم ، بل من بعضهم على بعض للحسد والتنافس في الدنيا لشبه أبدوها ودعاو ادعوها ، طال بينهم فيها النزاع وعظم الدفاع ، والله سبحانه وتعال عالم يكشفها ، قادر على صرفها .
قال الحرالي : والبغي السعي بالقول والفعل في إزالة نعم أنعم الله تعالى بها على خلق بما اشتملت عليه ضمائر الباغي من الحسد له - انتهى .
ولما كان التقدير : فمن استمر على الإيمان فإن الله عظيم الثواب ، عطف عليه قوله : ( ومن يكفر ) أي يستمر على كفره ولم يقل حلماً منه : ومن كفر ) بآيات الله ) أي المرئيات والمسموعات الدالة على إحاطته بالكمال وقوفاً مع تلك الشبه وعمى عن الدليل فالله مهلكه عاجلاً ) فإن الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا كفوء له ) سريع ( قال الحرالي : من السرعة وهي وحاء النجاز فيما شأنه الإبطاء - انتهى .(2/44)
صفحة رقم 45
ويحتمل أن يكون كنى بالسرعة عن القرب فالمعنى : قريب ) الحساب ) أي عن قريب يجازيهم على كفرهم في هذه الحياة الدنيا بأيدي بعضهم وبأيدي المؤمنين ، ثم ينقلون إلى حسابه سبحانه وتعالى في الدار الآخرة المقتضي لعذاب الكفرة ، ويحتمل أن تكون السرعة على بابها ، ولامراد أنه لا يتهيأ في حسابه ما يتهيأ في حساب غيره من المغالطة المقتضية للنجاة أو المطاولة في مدة الحساب المقتضية لتأخر الجزاء في مدة المرواغة والله تعالى .
ومن الكفر بالآيات الكفر بعيسى عليه الصلاة والسلام حين انتحلوا فيه الإلهية .
قال الحرالي : كان آية من الله سبحانه وتعالى للهداية ، فوقع عندهم بحال من كفروا به ، فكان سبب كفرهم ما كان مستحقاً أن يكون سبب هداية المهتدي ، وكان ذلك فيه لمحل اشتباهه لأنه اشتبه عليهم خلقه بما ظهر على يديه من آيات الله سبحانه وتعالى ، وفي التعريض به إلاحة لما يقع له لهذه الأمة في نحوه ممن هو مقام الهداية فوقع في طائفة موقع آية كفروا بها ، كما قال عليه الصلاة والسلام في علي رضي الله تعالى عنه ( مثلك يا على كمثل عيسى ابن مريم أبغضه يهود فبهتوا أمه وأحبه النصارى فأنزلوه بالمحل الذي ليس به ) كذلك تفرقت فرق في علي رضي الله تعالى عنه من بين خارجيهم ورافضيهم انتهى .
آل عمران : ( 20 - 26 ) فإن حاجوك فقل. .. . .
) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ(2/45)
صفحة رقم 46
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) 73
( ) 71
ولما تم ذلك كان كأنه قيل : قد جئناك بالأمر الواضح الذي لا يشكون فيه ) فإن حاجّوك ( بعده في شيء مما تضمنه وهدى إليه ودل صريحاً أو تلويحاً عليه فاعلم أن جدالهم عن عناد مع العلم بحقيقة الحال ) فقل ) أي فأعرض عنهم إلى أن آمرك بالقتال ، لأن من الواجبات - كما تقرر في آداب البحث - الإعراض عمن كابر في المحسوس ، وقل أنت عملاً بالآية السالفة : ( أسلمت وجهي ) أي أخلصت قصدي وتوجهي ، وانقدت غاية الانقياد ) لله ( الملك الأعظم الذي له الأمر كله ، فلا كفوء له .
قال الحرالي : ولما أدرح تعالى شهادة الملائكة وأولي العلم في شهادته لقن نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدرج من ابتعه في إسلامه وجهه لله ليكون إسلامهم بإسلام نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) لا بإسلام أنفسهم ، لتلحق التابعة من الأمة بالأئمة ، وذلك حال الفرقة الناجية مؤثرة الفرق الاثنين والسبعين التي قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وما أنا عليه ) فيما أوتي من اليقين ( وأصحابي ) فيما أوتوه من الانقياد وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر ، كما كانوا يقولون عند كل ناشئة علم أو أمر : الله ورسوله أعلم ، فمن دخل برأيه في أمر نقص حظه من الاتباع بحسب استبداده - انتهى .
فقال تعالى عاطفاً على الضمير المرفوع المتصل لأجل الفعل : ( ومن ) أي وأسلم من ) اتبعن ( وجوههم له سبحانه وتعالى .
ولما كان المكمل لنفسه يجب عليه السعي في إكمال غيره أعلمه بذلك في قوله : ( وقل ( تهديداً وتعجيزاً وتبكيتاً وتقريعاً ) للذين أوتوا الكتاب ) أي عامة من هؤلاء النصارى الذين يجادلونك ومن اليهود أيضاً ) والأمّيّن ( الذين لا كتاب لهم ، مشيراً بالاستفهام إلى عنادهم منكراً عليهم موبخاً لهم : ( ءأسلمتم فإن أسلموا ( عند ذلك ) فقد(2/46)
صفحة رقم 47
اهتدوا ( فنفعوا أنفسهم في الدنيا والآخرة ، وفي صيغة ( افتعلوا ) ما يليح إلى أن الأنفس مائلة إلى الضلال زائغة عن طريق الكمال ) وإن تولوا ) أي عن الإسلام فهم معاندون فلا يهمنك أمرهم ) فإنما عليك البلاغ ) أي وعليهم وبال توليهم ، وفي بنية التفعل ما يومىء إلى أن طرق الهدى بعد البيان آخذ محاسنها بمجامع القلوب ، وأن الصادف عنها بعد ذلك قاهر لظاهر عقله وقويم فطرته الأولى برجاسة نفسه واعوجاج طبعه .
ولما كان التقدير : فالله يوفق لقبول البلاغ عنك من علم فيه الخير ، وينكب عنه من علم فيه الشر ، عطف عليه قوله : ( والله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) بصير بالعباد ) أي فهو يوفق من خلقه للخير منهم ويخذل غيره .
لا يقدر على فعل ذلك غيره ، ولا يقدر أحد غيره أني فعل غير ذلك .
ولما أشرك اليهود في هذا الخطاب وأفهم شرط التولي بأداة الشك وقوعه ، فتشوفت النفس إلى معرفة جزائهم أشار إليه واصفاً لهم ببعض ما اشتد فحشه من أفعالهم فقال : - وقال الحرالي : ولما كانت هذه السورة منزلة لتبيين ما اشتبه على أهل الإنجيل جرى ذكر أهل التوراة فيها مجملاً بجوامع من ذكرهم ، لأن تفاصيل أمرهم قد استقرأته سورة البقرة ، فكان أمر أهل التوراة في سورة البقرة بياناً وأهل الإنجيل إجمالاً ، وكان أمر أهل الإنجيل في سورة آل عمران بياناً وذكر أهل التوراة إجمالاً ، لما كان لبس أهل التوراة في الكتاب فوقع تفصيل ذكرهم في سورة
77 ( ) الم ذلك الكتاب ( ) 7
[ البقرة : 1 ، 2 ] ، ولما كان اشتباه أمر أهل الإنجيل في شأن الإلهية كان بيان ما تشابه عليهم في سورة
77 ( ) الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ) 7
[ آل عمران : 1 ، 2 ] فجاء هذا الذكر لأهل التوراة معادلة بينهم وبين أهل الإنجيل بما كفروا بالآيات من المعنى الذي اشتركوا يه في أمر الإلهية في عزير واختصوا بقتل الأنبياء وقتل أهل الخير الآمرين بالقسط ؛ انتهى .
فقال تعالى : ( إن الذين يكفرون ( وهم الذين خذلهم الله ) بآيات الله ( في إبراز الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم كفرهم بكونه مما أضيف إليه سبحانه وتعالى .
قال الحرالي : وفي ذكره بصيغة لادوام ما يقع منهم من الكفر بآيات لاله في ختم اليوم المحمدي مع الدجال فإنهم أتباعه ) ويقتلون النبيين ( في إشعاره ما تمادوا عليه من البغي على الأنيباء حتى كان لهم مدخل في شهادة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي رزقه الله فيما كان يدعو به حيث كان يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللهم ارزقني شهادة في يسر منك وعافية ) ولما كان قتلهم إياهم بدون شبهة أصلاً بل لمحض والكفر والعناد ، لأن الأنبياء(2/47)
صفحة رقم 48
مبرؤون من أن يكون لأحد قبهلم حق دنيوي أو أخروي قال : ( بغير حق ) أي لا صغير ولا كبير فلي نفس الأمر ولا في اعتقادهم ، فهو مما في البقرة على عادة أفعال الحكماء في الابتداء بالأخف فالأخف .
ولما خص ذكر أكمل الخلق عبر بما يعم أتباعهم فقال معيداً للفعل زيادة في لومهم وتقريعهم : ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ) أي العدل ، ولما كان ذلك شاملاً لمن لا قدرة لهم على قتله من الملائكة قال : ( من الناس ) أي كلهم ، سواء كانوا أنبياء أو لا ، ويجوز أن يكون المراد بهذا القيد زيادة توبيخهم بأنهم يقتلون جنسهم الذي من حقهم أن يألفوه ويسعوا في بقائه ، وهذا تحقيق لأن قتلهم لمجرد العدوان قال الحرالي : فيه إعلام بتمادي تسلطهم على أهل الخير من الملوك والرؤساء ، فكان في طيه إلاحة لما استعملوا فيه من علم التطبب ومخالطتهم رؤساء الناس بالطب الذي توسل كثير منهم إلى قتلهم به عمداً وخطأ ، ليجري ذلك على أيديهم خفية في هذه الأمة نظير ما جرى على أيدي أسلافهم في قتل الأنبياء جهرة - انتهى .
ويجوز أن يكون الخبر عنهم محذوفاً والتقدير : أنهم مطبوع على قلوبهم ، أو : لا يؤمنون ، أو : لا يزالون يجادلونك وينازعونك ويبغون لك الغوائل ) فبشرهم بعذاب أليم ) أي اجعل إخبارهم بأنه لهم موضع البشارة ، فهو من وادي : تحيتهم ببينهم ضرب وجيع .
ولما كان الحال ربما اقتضى أن يقال من بعض أهل الضلال : إن لهؤلاء أعمالاً حساناً واجتهادات في الطاعة عظيمة ، بيّن تعالى أن تلك الأفعال مجرد صور لا معاني لها لتضييع القواعد ، كما أنهم هم أيضاً ذوات بغير قلوب ، لتقع المناسبة بين الأعمال ولاعاملين فقال : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) الذين حبطت ) أي فسدت فسقطت ، وأشار بتأنيث الفعل إلى ضعفها من أصلها ) أعمالهم ) أي كلها الدنياوية والدينية ، وأنبأ تعالى بقوله : ( في الدنيا ( كما قال الحرالي - أنهم يتعقبون أعمال خيرهم ببغير يمحوها فلا يطمعون بجزائها في عاجل ولا آجل ، وبذلك تمادي عليهم الذل وقل منهم المهتدي - انتهى ) والآخرة ( فلا يقيم لهم الله في يوم الدين وزناً ، وأسقط ذكر الحياة إشارة إلى أنه لا يحاة لهم في واحدة من الدارين .
ولما كان التقدير : فلا ينتصرون بأنفسهم أصلاً ، فإنهم لا يدبرون تدبيراً إلا كان فيه تدميرهم ، عطف عليه قوله : ( وما لهم من ناصرين ( قال الحرالي : فيه إعلام بوقوع الغلبة عليهم غلبة لا نصرة لهم فيها في يوم النصر الموعود في سورة الروم التي هي تفصيل من معنى هذه السورة في قوله تعالى :
77 ( ) ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء ( ) 7
[ الروم : 4 ، 5 ] فهم غير داخلين فيمن ينصر بما قد ورد أنهم ( يقتلون(2/48)
صفحة رقم 49
في آخر الزمان حتى يقول الحجر : يا مسلم خلفي يهودي فاقتله ، حتى لا يبقى منهم إلا من يستره شجر الفرقد ) كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنه من شجرهم ) وفي إفهامه أن طائفة من أهل الإنجيل يقومون بحقه ، فيكونون ممن تشملهم نصرة الله سبحانه وتعالى مع المسلمين ، فتنتسق الملة واحدة مما يقع من الاجتماع حين تضع الحرب أوزارها - انتهى .
ولما كان من المعلوم أن ثبات الأعمال وزكاءها إنما هو باتباع أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر الذين ورثوا العلم عنه دل على ما أخبر به من الحبوط وعدم النصر بما يشاهد من أحوالهم في منابذة الدين فقال : ( الم تر ( وكان الموضع لأن يقال : إليهم ، ولكنه قال : ( إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ( ليدل على أن ضلالهم على علم ، وأن الذي أوتوه منه قراءتهم له بألسنتهم وادعاء الإيمان به .
وقال الحرالي : كتابهم الخاص بهم نصيب من الكتاب الجامع ، وما أخذوا من كتابهم نصيب من اختصاصه ، فإنهم لو استوفوا حظهم منه لما عدلوا في الحكم عنه ولرضوا به ، وكان في هذا التعجيب أن يكون غيرهم يرضى بحكم كتابهم ثم لا يرضون هم به - انتهى .
) يدعون إلى كتاب الله ( أظهر الاسم الشريف ولم يقل : إلى كتابهم ، احترازاً عما غيروا وبدلوا ولأنهم إنما دعوا إلى كتاب الله الذي أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام ، لا إلى ما عساه أن يكون بأيديهم مما غيروا - نبه عليه الحرالي : وفيه أيضاً إشارة إلى عظيم اجترائهم بتوليهم عمن له الإحاطة الكاملة ) ليحكم بينهم ( قال الحرالي : في إشعاره أن طائفة منهم على حق منه ، أي وهم المذعنون لذلك الحكم الذي دعي إليه - انتهى .
ولما كان اتباعه واجباً واضحاً نفعه لمن جرد نفسه عن الهوى عبر عن مخالفته بأداة البعد فقال : ( ثم ( وقال الحرالي : في إمهاله ما يدل على تلددهم وتبلدهم في ذلك بما يوقعه الله من المقت والتحير على من دعي إلى حق فأباه ، وفي صيغة يتفعل في قوله : ( يتولى ( ما يناسب معنى ذلك في تكلف التولي على انجذاب من بواطنهم لما عرفوه وكتموه ، وصرح قوله : ( فريق منهم ( بما أفهمه ما تقدم من قوله : ( ليحكم بينهم ( فأفهم أن طائفة منهم ثابتون قائلون لحكم كتاب الله تعالى ، وأنبا قوله المشير إلى(2/49)
صفحة رقم 50
كثرة أفراد هذا الفريق ) وهم معرضون ( بما سلبوه من ذلك التردد والتكلف ، فصار وصفاً لهم بعد أن كان تعملاً ، ما أنكر منكر حقاً وهو يعلمه إلا سلبه الله تعالى علمه حتى يصير إنكاره له بصورة وبوصف من لم يكن قط علمه - انتهى .
وفي هذا تحذير لهذه الأمة من الوقوع في مثل ذلك ولو بأن يدعى أحدهم من حسن إلى أحسن منه - نبه عليه الحرالي وقال : إذ ليس المقصود حكاية ما مضى فقط ولا ما هو كائن فحسب ، بل خطاب القرآن قائم دائم ماض كلية خطابه في غابر اليوم المحمدي مع من يناسب أحوال من تقدم منهم ، وفي حق المرء مع نفسه في أوقات مختلفة - انتهى .
ثم علل اجتراءهم على الله تعالى فقال : ( ذلك ) أي الإعراض البعيد عن أفعال أهل الكرم المبعد من الله ) بانهم قالوا ( كذباً على الله - كما تقدم بيانه في سورة البقرة ) لن تمسنا النار إلا أياماً ( ولما كان المقام هنا لتناهي اجترائهم على العظائم لاستهانتهم بالعذاب لاستقصارهم لمدته والتصريح بقتل الآمرين بالقسط عامة وبحبوط الأعمال ، وكان جمع القلة قد يستعار للكثرة أكدت إرادتهم حقيقة القلة بجمع آخر للقلة ، فقيل على ما هو الأولى من وصف جمع القلة لما لا يعقل بجمع جبراً له : ( معدودات ( وتطاول الزمان وهم على هذا الباطل حتى آنسوا به واطمأنوا إليه لأنه ما كذب أحد بحق إلا عوقب بتصديقه بباطل ، وما ترك قوم سنة إلا أحيوا بدعة ، على أن كذبهم أيضاً جرهم إلى الاستهانة بعذاب الله الذي لا يستهان بشيء منه ولو قل .
ولما نسبوا ذلك إلى الكتاب فجعلوه ديناً قال : ( وغرَّهم ( قال الحرالي : من الغرور وهو إخفاء الخدعة في صورة النصيحة - انتهى ) في دينهم ما كانوا ) أي بما هيؤوا له وجبلوا عليه ) يفترون ) أي يتعمدون كذبة ، قال الحرالي : فتقابل التعجبيبات في ردهم حق الله سبحانه وتعالى وسكونهم إلى باطلهم - انتهى .
ولما تسبب عن اجترائهم بالكذب على الله أن يسأل عن حالهم معه قال صارفاً القولإلى مظهر العظمة المقتضي للمجازاة والمناقشة : ( فكيف ) أي يكون حالهم ) إذا جمعناهم ) أي وقد رفعنا حجاب العظمة وشهرنا سيف العزة والسطوة .
ولما كان المقصود بالجمع الجزاء قال : ( ليوم ( ووصفُه بقوله : ( لا ريب فيه ( مشعر - كما قال الحرالي - بأنهم ليسوا على طمأنينة في باطلهم بمنزلة الذي لم يكن له أصل كتاب ، فهم في ريبهم يترددون إلى أن يأتي ذلك اليوم. ولما كان الجزاء أمرا متحققا لا بد منه أشار إليه بصيغة الماضي في قوله ك ) ووفيت ( والبناء للمفعول للإفهام بسهولة ذلك عليه وإن كان يفوت الحصر ، وتأنيث الفعل للإشارة إلى دناءة النفوس وضعفها ، وقوله ) كل نفس ( قال الحرالي : الفصل(2/50)
صفحة رقم 51
الموقع للجزاء مخصوص بوجود النفس التي دأبها أن تنفس فتريد وتختار وتحب وتكره ، فهي التي توفي ، فمن سلب الاختيار والإرادة والكراهة بتحقق الإسلام الذي تقدم ارتفع عنه التوفية ، إذ لا وجود نفس له بما أسلم وجهه لله ، فلذلك اختص وعيد القرآن كله بالنفس في نفاستها بإرادتها وما تنشأ لها عليه من أحوالها وأفعالها ودعواها في ملكها ومُلكها ، فمتى نفست فتملكت ملكاً أو أو تشرفت مُلكاً خرجت عن إسلامها حتى ينالها سلب القهر منه وإلزام الذل عنه ، وبلمح من هذا المعنى اتصلت الآية التي بعدها بختم هذه الآية وناظرت رأس آية ذكر الإسلام ، فإنما هو مسلم لله وذو نفس متملك على الله حتى يسلبه الله في العقبى أو يذله في الدنيا ، فشمل هذا الوفاء لكل نفس أهل الكتاب وغيرهم ، وعم الوفاء لكل من يعممه الجمع ، كذلك خطاب القرآن يبدأ بخصوص فيختم بعموم ، ويبدأ بعموم فيثنيه تفصيل - انتهى .
ولما كان هذا الجزاء شاملاً للخير والشر قال : ( ما ) أي جزاء ما ) كسبت ( فأتى به مخففاً ليشمل المباشرة بكسب أو اكتساب ، وأنث الفعل مع جواز التذكير مراعاة للفظ كل إشارة إلى الإحاطة بالأفعال ولو كانت في غاية الحقارة ، وراعى معنى ( كل ) للوفاء بالمعنى مع موافقة الفواصل ) وهم لا يظلمون ) أي لا يقع عليهم ظلم بزيادة ولا نقص ، ولا يتقعونه .
ولما أخبر تعالى أن الكفار سيغلبون وأنه ليس لهم من ناصرين كان حالهم مقتضياً لأن يقولوا : كيف ونحن أكثر من الحصى وأشد شكائم من ليوث الشرى ، فيكف نغلب ؟ أم كيف لا ينصر بعضنا بعضاً وفينا الملوك والأمراء والأكابر والرؤساء ومناوونا القليل الضعفاء ، أهل الأرض الغبراء ، وأولو البأساء والضراء ، فقال تعالى لينتبه الراقدون من فرش الغفلان لامتقلبون في للوات البلادات من تلهيهم بما رأوا وسمعوا من نزع الملك من أقوى الناس وإعطائه لأضعفهم فيعلموا أن الذي من شأنه أن يفعل ذلك مع بعض أعدائه ددير بأن يفعل أضعافه لأوليائه : ( قل اللهم ( قال الحرالي : ولما كان هذا الأمر نبوة ثم خلافة ثم ملكاً فانتظم بما تقدم من أول السورة أمر النبوة في التنزيل والإنزال ، وأمر الخلافة في ذكر الراسخين في العلم الذين يقولون :
77 ( ) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ( ) 7
[ آل عمران : 8 ] ، وكانت من هجيري أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، يقنت بها في وتر صلاة النهار في آخر ركعة م المغرب - انتظم برؤوس تلك المعاني ذكر الملك الذي آتى الله هذه الأمة ، وخص به من لاق به الملك ، كما خص بالخلافة من صلحت له الخلافة ، كما تعين للنبوة الخاتمة من لا يحملها سواه - انتهى ؛ فقال : ( قل ) أي يا(2/51)
صفحة رقم 52
محمد أو يا من آمن بنا مخاطباً لإلهك مسمعاً لهم ومعرضاً عنهم ومنبهاً لهم من سكرات غفلاتهم في إقبالهم على ملوك لا شيء في أيديهم ، وإعراضهم عن هذا الملك الأعظم الذي بيده كل شيء .
قال الحرالي : لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل القائل لما كانت المجاورة معه ، لأن منزل القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله سبحانه وتعالى إليهم مواجة حتى ينتهي إلى الإعراض عند إباء من يأبى منهم ، وما كان لإصلاح ما بين الأمة ونيها يجرى الله الخطاب فيه على لسانه من حيث توجههم بالمجاورة إليه ، فإذا قالوا قولاً يقصدونه به قال الله عز وجل : قل لهم ، ولكون القرآن متلواً ثبتت فيه كلمة قل - انتهى .
) اللهم مالك الملك ) أي لا يملك شيئاً منه غيرك .
قال الحرالي : فأقنعه ( صلى الله عليه وسلم ) ملك ربه ، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله ، فلذلك لم يكن ( صلى الله عليه وسلم ) يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه ، لأنه كان نبياً عبداً ، لا نبياً ملكاً ، فأسلم الملك لله ، كذلك خلفاؤه اسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش ، ولانوا في الحق ، وحملوا جفاء الغريب ، واتبعوا اثره في العبودية ، فأسلموا الملك لله سبحانه وتعالى ، ولم ينازعوه شيئاًد منه ، حمل عمر رضي الله عنه قربة على ظهره في زمن خلافته حتى سكبها في دار امرآة من الأنصار في أقصى المدينة ، فلما جاء الله بزمن الملك واستوفيت أيام الخلافة عقب وفاء زمان النبوة أظهر الله سبحانه وتعالى الملك في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكما خصص بالنبوة والإمامة بيت محمد وآل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وخصص بالخلافة فقراء المهاجرين خصص بالملك الطلقاء الذين كانوا اعتقاء الله ورسوله ، لينال كل من رحمة الله وفضله ، التي ولى جميعها نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) كلَّ طائفة على قدر قربهم منه ، حتى اختص بالتقدم قريشاً ما كانت ، ثم العرب ، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع ، دجل ، كل ذلك مخول لمن يخوله بحسب لاقرب والبعد منه ) تؤتي الملك من تشاء ( في الإيتاء إشعار بأنه تنويل من الله من غيره قوة وغلبة ، ولا مطاولة فيه ، وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله ، وأخص الناس بالبعد منه العرب ، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع ، وينتهي منه ما بقي إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم وصنوف أهل الأقطار حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جيمع أهل الأرض ، فيعيده إلى إمام العرب الخاتم للهداية من ذريته ختمه ( صلى الله عليه وسلم ) للنبوة من ذرية آدمخ ، ويؤتيهم من المكنة ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو شاء أحدهم أن(2/52)
صفحة رقم 53
يسير من المشرق إلى المغرب في خطوة لفعل ) ومع ذلك فليسوا من الدنيا وليست الدنيا منهم ، فيؤتيهم الله ملكاً من ملكه - ظاهر هداية من هداه ، شأفة عن سره الذي يستعلن به في خاتمة يوم الدنيا ليتصل بظهوره ملك يوم الدين ، والملك التلبس بشرف الدنيا والاستئثار بخيرها ؛ قال أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما في وصيته : إذا جنيت فلتهجر يدلك فاك حتى يشبع من جنيت له ، فإن نازعتك نفسك في مشاركتهم فشاركهم غير مستأثر عليهم ، وإياك والذخيرة فإن الذخيرة تهلك دين الإمام وتسفك دمه ، فالملك التباس بشرف الدنيا واستئثار بخيرها واتخاذ ذخيرة منها .
لما أرادوا أن يغيروا عل عمر رضي الله تعالى عنه عند إقباله على بيت المقدس نبذ زيهم وقال : إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نلتمس العزة بغيره .
فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها قل ذلك الحظ أو جل ، وهو به نم أتباع ملوك الدنيا ، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها واتخذ الذخيرة منها ، كل ينال من الملك ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويجحب من ذلك حتى ينتهي إلى حشرة مع الصنف الذي يميل إليه ، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين ولاخلفاء ، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين ؛ جلس عمر رضي الله تعالى عنه يوماً وسلمان وكعب وجماعة رضي الله تعالى عنهم فقال : أخبروني أخليفة أنا أم ملك ؟ فقال له سلمان رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين إن جبيت درهماً من هذا المال فوضعته في غيره حقه فأنت ملك ، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة ، فقال كعب : رحم الله تعالى ما ظننت أن أحداً يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري ، فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة وتشيع في سبيلها ، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة شرفها ومالها ملك وتحيز لتباعه - انتهى .
وفي تقديم الإيتاء عل النزع إشارة إلى أن الداعي ينبغي أن يبدأ بالترغيب ) وتنزع ( قال الحرالي : من النزع ، وهو الأخذ بشدة وبطش - انتهى .
) الملك ممن تشآء ( وفيه إشارة إلى إن الدعاء باللين إن لم يجدٍ ثني بالترهيب ، وعلى هذا المنوال أبرز قوله : ( وتعز من تشآء ) أي إعزازه ) وتذل من تشآء ) أي إذلاله ، وهو كما قال : ( إن رحمتي سبقت غضبي ) قال الحرالي : وفي كلمة النزع بما ينبىء عنه من البطش والقوة ما يناسب(2/53)
صفحة رقم 54
معنى الإيتاء ، فهو إيتاء للعرب ونزع من العجم ، كما ورد أن كسرى رأى في منامه أنه يقال له : سلم ما بيدك لصاحب الهراوة ، فنزع مُلكَ المولك من الأكاسرة والقياصرة وخوّله قريشاً ومن قام بأمرها وانتحل الملك باسمها من صنوف الأمم غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالاً ، إلى ما يتم به الأمر في الختم ، والعز - والله سبحانه وتعالى أعلم - عزة الله سبحانه وتعالى :
77 ( ) ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ( ) 7
[ المنافقون : 8 ] ليكون في الخطاب إنباء بشرى لهم أنه أتاهم من العز بالدين ما هو خير من الشرف بملك الدنيا
77 ( ) من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً ( ) 7
[ فاطر : 10 ] فالملوك ، غن تشرفوا بملك الدنيا فليس لهم من عزة الدين شيء ، أعزهم الله سبحانه وتعالى بالدين ، تخدمهم الأحرار وتتوطد لهم الأمصار ، لا يجدون وحشة ، ولا يحصرون في محل ، ولا تشقط لهم حرمة حيث ما حلوا وحيث ما كانوان استتروا أو اشتهروا ، والمتلبسونبالملك لا يخدمهم إلا من استرقوه قهراً ، يملكون تصنع الخلق ولا يملكون محاب قلوبهم ، محصورون في أقطار ممالكهم ، لا يخرجون عنها ولا ينتقلون منها حتى يمنعهم من كمال الدين ، فلا ينصرفون في الأرض ولا يضربون فيها ، حتى يمتنع ملوك من الحج مخافة نيل الذل في يغر موطن الملك ، والله عز وجل يقول : ( إن عبداً أصححت له جسمه ، وأوسعت عليه في رزقه ، يقيم خمسة أعوام لا يفد على المحروم ) فالملوك مملوكون بما ملكوا ، وأعزاء الله ممكنون فيما إليه وجهوا ، لا يصدهم عن تكملة أمر الدين وإصلاح أمر الآخرة صادّ ، ولا يردهم عنه راد لخروجهم من سجن الملك إلى سعة العز بعزة الله سبحان وتعالى ، فقارض الله أهل بيت نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ورضي عنهم ، ولم يرضه للملك بعز الإمامة ورفعة الولاية والاستيلاء على محاب القلوب فاسترعاهم الله قلوب العالمين بما استرعى الملوك بعض حواس المستخدمين والمستتبعين ، والذل مقابل ذلك العزة ، فإذا كان ذلك العز عزاً دينياً ربانياً عوضاً عن سلب الملك كان هذا الذل - والله تعالى أعلم -(2/54)
صفحة رقم 55
ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم ، فاستعملتهم في شواتها وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أغراضهم في أهوائهم ، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم ، وينالهم من ذل تضييع الدين ، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين - انتهى .
ولعل نصارى نجران أشد قصداً بهذا الخطاب ، فإنهم خافوا أن ينزع منه ملوك الروم ما خولوهم فيه من الدنيا إن أخبروا بما يعلمون من أمر هذا النبي الأمي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما تقرر أنه مالك لما تقدم أنتج أن له التصرف المطلق فعبر عنه بقوله : ( بيدك ) أي وحدك ) الخير ( ولم يذكر الشر تعليماً لعباده الأدب في خطابه ، وترغيباً لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه ، لان العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال ، وتنبيهاً على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاؤه بالبال ، مع أن الاقتصار على لاخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر ، لأنهما ضدان ، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر ، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر ، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر ، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر - والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما أفهم أن الشر بيده كما أعلم أن الخير بيده وخاص به قرر ذلك على وجه أعم بقوله معللاً : ( إنك على كل شيء قدير (
آل عمران : ( 27 - 32 ) تولج الليل في. .. . .
) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( ( )
فلما ثبتت خصوصيته سبحانه وتعالى بصفة القدرة على الوجه الأعم ذكر بعض ما تحت ذلك مما لم يدخل شيء منه تحت قدرة غيره فقال : - وقال الحرالي : ولما كانت هذه الآية متضمنة تقلبتات نفسانية في العالم القائم الآدمي اتصل بها ذكر تقلبات في العالم الدائر ليؤخذ لكل منها اعتبار من الآخر .
ولما ظهر في هذه الآية افتراق النزع والإيتاء والإعزاز والإذلال أبدى في الآية التالية توالج بعهضا في بعض ليؤذن بولوج العز(2/55)
صفحة رقم 56
في الذل والذل في العز ، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء ، وتوالج المفترقات المتقابلات بعضها في بعض ، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام ولاتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره ، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال ، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز ، فلما صرح بالإحكام ببيان الطرفين في الكائن لاقائم الآدمي ، وضمن الخطاب اشتباهه في ذكر العز والذل صرح به في آية الكون الدائر ، فذكر آية الآفاق وهو الليل والنهار بما يعاين فيها من التوالج حيث ظهر ذلك فهيا وخفي في توالج أحوال الكائن القائم ، لأن الإحكام والاشتباه متراد بين الآيتين : آية الكائن القائم الآدمي وآية الكون الدائر العرشي ، فما وقع اشتباهه في أحدهما ظهر إحكامه في الآخر فقال سبحانه وتعالى : ( تولج ( من الولوج ، وهو الدخول في الشيء الساتر لجملة الاخل ) الَّيل في النهار ( فيه تفصيل من مضاء قدرته ، فهو سبحانه وتعالى يجعل كل واحد من المتقابلين بطانة للآخر والجاً فيه على وجه لا يصل إليه منال العقول لما في المعقول من افتراق المتقابلات ، فكان في القدرة إيلاج المتقابلات بعضها في بعض وإيداع بعضها في بعض على وجه لا يتكيف بمعقول ولا ينال بفكر - انتهى .
) وتولج النهار في الَّيل ) أي تدخل كلاً منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر .
قال الحرالي : ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين ، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة ، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت ؛ انتهى .
فقال سبحانه وتعالى : ( وتخرج الحي ) أي من النبات والحيوان ) من الميت ( منهما ) وتخرج الميت ( منهما ) من الحي ( منهما كذلك .
قال الحرالي : فهذه سنة الله وتعالى وحكمته في الكائن القائم وفي الكون الدائر ، فأما في الكون الدائر فبإخراج حي الشجر والنجم من موات البذر والعجم ، وبظهوره في العيان كان أحكم فبي لابيان مما يقع في الكائن القائم ، كذلك الكائن القائم يخرج الحي المؤمن الموقن من الميت الكافر الجاهل
77 ( ) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ( ) 7
[ التوبة : 14 ] ويخرج الكافر الآبي من المؤمن الراحم
77 ( ) يا نوح إنه ليس من أهلك ( ) 7
[ هود : 46 ] أظهر سبحانه وتعالى بذلك وجوه الإحكام والاشتباه في آيتي خلقه ليكون ذلك آية على ما في أمره ، وليشف ذلك عما يظهر من أمر علمه وقدرته على من شاء من عباده كما أظهر في ملائكته وأنيبائه ، وكما خصص بما شاء من إظهار عظيم أمره في المثلين الأعظمين : مثل آدم(2/56)
صفحة رقم 57
وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، فأنزلت هذه السورة لبيان الأمر فيما اشتبه على من التبس عليه أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فهو تعالى أظهر من موات الإنسانية ما شاء من الإحياء بإذنه ، وأظهر في آدم عليه الصلاة والسلام ما شاء من قدرته كما أظهر في الخلق ما شاء من ملكه ، فملك من شاء ونزع الملك ممن شاء ، وأعز من شاء وأذل من شاء ، وأظهر بالنهار ما شاء وطمس بالليل ما شاء ، وأولج المتقابلين بعضهما في بعض وأخرج المتباطنين بعضهما من بعض - انتهى .
ولما بدأ الآية سبحانه وتعالى مما يقتضي الترغيب بما هو محط أحوال الأنفس من الملك وأنواع الخير ختمها بمثل ذلك مما لا يقوم الملك ولا يطيب العيش إلا به فقال : ( وترزق من تشاء ( قوياً كان أو ضعيفاً ) بغير حساب ) أي تعطيه عطاء واسعاً جداً متصلاً من غير تضييق ولا عسر ، كما فعل بأول هذه الأمة على ما كانوا فيه من القلة والضعف حيث أباد بهم الأكاسرة والقياصرة وآتاهم كنوزهم وأخدمهم أبناءهم وأحلهم ديارهم .
وقال الحرالي : ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا الإحكام والاشتباه في أمر العلية من الخلق وفيه من الإحكام والاشتباه نحو ما في الإيتاء والنزع ولما فيه من الوزن والإيتاء بقدر ختم بأعزيه وهو الإرزاق الذي لا يقع على وزن ولا يكون بحساب ، وفيه إشعار بالإرزاق الختمي الذي يكون في آخر اليوم المحمدي للذين يؤتيهم الله سبحانه وتعالى ما شاء من ملكه وعزه وسعة رزقه بغير حساب ، فكما ختم الملك لبني إسرائيل بملك سليمان عليه الصلاة والسلام في قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ( ) 7
[ ص : 39 ] كذلك يختم لهذه الأمة بأن يرزقهم بغير حساب حين تلقي الأرض بركاتها وتتطهر من فتنتها ، فتقع المكنة في ختم اليوم المحمدي بالهداية والهدنة كما انقضت لبني إسرائيل بالملك والقوة - انتهى .
ولما بان بهذه الآية أن لا شيء في يد غيره ، واقتضى ذلك قصر الهمم عليه ، وكان نصارى نجران إنما داموا على موالاة ملوك الروم لمحض الدنيا مع العلم يبطلان ما هم عليه حذر المؤمنين من مداناة مثل ذلك مع كونهم مؤمنين كما وقع لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه مما قص في سورة الممتحنة إشارة إلى أنه لا تجتمع موالاة المؤمنين وموالاة الكافرين في قلب إلا أوشكت إحداهما أن تغلب على الأخرى فتنزعها ، فقال تعالى منبهاً على ذلك كله سائقاً مساق النتيجة لما قبله - وقال الحرالي : ولما كان مضمون هاتين الآيتين بشرى لخصوص هذه الأمة وعمومها بالعز والملك(2/57)
صفحة رقم 58
وختم الرزق الذي لا حساب فيه كان من الحق أن تظهر على المبشرين عزة البشرى فلا يتولوا غيره ، ولما قبض ما بأيدي الخلق إليه في إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال ، وأظهر إحاطة قدرته على كل شيء وإقامة امتحانه بام أولج وأخرج ، وأنبأ عن إطلاق حد العد عن أرزاقه فسد على النفس الأبواب التي منه تتوهم الحاجة إلى الخلق ؛ نهي المؤمنين الذين كانت لهم عادة بمباطنة بعض كفرة أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ومن شمله وصف الكفر أن يجروا على عادتهم في موالاتهم ومصافاتهم والحديث معهم ، لأن المؤمنين يفاوضونهم بصفاء ، والكافرون يتسمعون ويأخذون منهم بدغل ونفاق عليهم كما قال تعالى
77 ( ) هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ( ) 7
[ آل عمران : 119 ] فنهاهم الله سبحانه وتعالى عما غاب عنهم خبرته وطيبته فقال تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون ( على أن ولاية أوليائه من ولايته ، وأن المنهي عنه إنما هو الولاية التي قد توهن الركون إلى المؤمنين لأن في ذلك - كما قال الحرالي - تبعيد القريب وتقريب البعيد ، والبمؤمن أولى بالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) فأقواهم له ركن ، وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي ، فإذا والاه قوى به مما يباطنه ويصافيه ، وإذا اتخذ الكافر ولياً من دون مؤمنه القوي ربما تداعى ضعفه في إيمانهم إلى ما ينازعه فيه من ملابسة أحوال الكافرين ، كما أنهم لما أصاخوا إليهم إصاخة أوقعوا بينهم سباب الجاهلية كما في قوله تعالى
77 ( ) يايها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ( ) 7
[ آل عمران : 100 ] وكما قال سبحانه وتعالى :
77 ( ) يأيها الذين آمنوا إن تطعيوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ( ) 7
[ آل عمران : 149 ] ، ولم يمنع سبحانه وتعالى من صلة أرحام من لهم من الكافرين ، ولا من خلطتهم في أمر الدنيا فيما يجري مجرى المعاملة من البيع والشرى والأخذ والعطاء وغير ذلك ليوالوا في الدين أهل الدين ، ولا يضرهم أن يباروا من لم يحاربهم من الكافرين - انتهى .
ولما كان التقدير : فمن تولاهم وكل إليهم وكان في عدادهم ، لأنه ليس من الراسخين في صفة الإيمان عطف عليه ترهيباً لمن قد تتقاصر همته فيرضى بمنزلة ما دون(2/58)
صفحة رقم 59
الرسوخ قوله : ( ومن يفعل ذلك ) أي هذا الأمر البعيد من أفعال ذوي الهمم الذي يكون به في عداد الأعداء بعد هذا البيان ومع رفع هذا الحجاب الذي كان مسدولاً على أكثر الخلق ) فليس من الله ) أي الذي بيده كل شيء فلا كفوء له ) في شيء ( قال الحرالي : ففي إفهامه أن من تمسك بولاية المؤمنين فهو من الله في شيء بما هو متمسك بعنان من هو له وسيلة إلى الله سبحانه وتعالى من الذين إذا رؤوا ذكر الله - انتهى .
ولما كان من الناس القوي والضعيف والشديد واللين نظر إلى أهل الضعف سبحانه وتعالى فوسع لهم بقوله : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) أي إلا أن تخافوا منهم أمراً خطراً مجزوماً به ، لا كما خافه نصارى نجران وتوهمه حاطب ، فحينئذ يباح إظهار الموالاة وإن كانت درجة من تصلب في مكاشرتهم وتعزز لمكابرتهم ومكاثرتهم ، وإن قطع أعظم فإياكم أن تركنوا إليهم فإن الله سبحانه وتعالى يحذركم إقبالكم على عدوه ، فإن ذلك موجب لإعراضه عنكم ) ويحذركم الله ) أي الملك الأعظم ) نفسه ( فإنه عالم بما تفعلونه .
وهو الحكم في الدنيا كما ترون من إذلاله العزيز وإعزازه الذليل ، وهذا المحذر منه وهو نفسه سبحانه وتعالى - كما قال الحرالي - مجموع أسماء تعاليه المقابلة بأسماء أوصافهم التي مجموعها أنفسهم .
وموجود النفس ما تنفس ، وإن كانت أنفس الخلق تنفس على ما دونها إلى حد مستطاعها ، فكان ما حذره الله من نفسه أولى وأحق بالنفاسة في تعالي أوصافه وأسمائه أن تنفس على من يغنيه فلا يستغني ، ويكفيه فلا يكتفي ويريه مصارف سد خلاته وحاجاته فلا ينصرف إليها ولا يتوجه نحوها ، فهو سبحانه وتعالى يعذب من تعرف له بنفسه فلم يعرفه أشد من عذاب من يتعرف له بآياته فلا يعتبر بها ، بما أن كل ما أبداه من نفسه بلا واسطة فهو أعظم مما أبداه بالواسطة من نعيم وعذاب ، فلا أعظم من نعيم من تعرف له بنفسه فرعفه ، ولا أشد من عذاب من تعرف له بنفسه فأنكره - انتهى .
ولما كانت مصائب الدنيا قد تستهان قال سبحانه وتعالى عاطفاً على نحو ما تقديره : فمن الله المبدأ : - وقال الحرالي : ولما كان الزائل أبداً مؤذناً بترك الاعتماد عليه أقام تعالى على المتمسك بما دونه حجة بزواله ، فلا يستطيع الثبات عليه عند ما تناله الإزالة والإذهاب ، ويصير الأمر كله لله ، فأعلم أن المصير المطلق إلى الله سبحانه وتعالى ، فنم تعرف إليه فعرفه نال أعظم النعيم ، ومن تعرف إليه فأنكره نال أشد الجحيم - انتهى ؛ فقال - : ( وإلى الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) المصير ) أي وإن طال إملاؤه لمن أغرض عنه فيوشك أن ينتقم منه .
ولما كانت الموالاة بالباطن المنهي عنها مطلقاً ودائماً قد تفعل ويدعى نفيها(2/59)
صفحة رقم 60
لخفائها أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بتحذيرهم من موالاة أعدائه على وجه النفاق أو غيره فقال : - وقال الحرالي : ولما كان حقيقة ما نهى عنه في الولاية والتقاه أمراً باطناً يترتب عليه فعل ظاهر فوقع التحذير فيه على الفعل كرر فيه التحذير على ما وراء الفعل مما في الصدور ونبه فيه على منال العلم خفية ، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات ، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم خفية ، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات ، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم كما تثنى الأمران في الظاهر والباطن ، وكان في إجراء هذا الخطاب على لسان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حجة عليهم بما أنه بشر مثلهم يلزمهم الاقتداء به فيما لم يبادروا إلى أخذه من الله في خطابه الذي عرض به نحوهم ؛ انتهى .
فقال تعالى - : ( قل إن تخفوا ) أي يا أيها المؤمنون ) ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ( ي المحيط قدرة وعلماً ، ثم قال عاطفاً على جملة الشرط التي هي مقول القول إرادة التعميم : ( ويعلم ما ) أي جميع ما ) في السموات ( ولما كان الإنسان مطبوعاً على ظن أنه إذا أخفي شيئاً في نفسه لا يعلمه غيره أكد بإعادة الموصول فقال : ( وما ) أي وجميع ما ) في الأرض ( ظاهراً كان أو باطناً .
ولما كان ذو العلم لا يكمل إلا بالقدرة ، وكان يلزم من تمام العلم شمول القدرة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى برهانه في سورة طه - كان التقدير : فالله بكل شيء عليم ، فعطف عليه قوله : ( والله ) أي بما له من صفات الكمال ) على كل شيء قدير ( ومن نمط ذلك قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( ) 7
[ آل عمران : 5 ] مع ذكر التوصير كيف يشاء والختم بوصفي العزة والحكمة ، وقد دل سبحانه وتعالى بالتفرد بصفتي العلم والقدرة على التفرد بالألوهية .
ولما تم الوصف بالعلم والقدرة بعد التحذير من سطواته ذكر يوم المصير المحذر منه ، لامحصى فيه كل كبير وصغير ، المعامل فيه كل عامل بما يليق به ، الذي يتم فيه انكشاف الأوصاف لكل ذكي وغبي فقال تعالى : ( يوم ( وهو معمول لعامل من معنى ( يحذر ) ) تجد كل نفس ( والذي يرشد إلى تعيين تقدير هذا العامل - إذا جعل العامل مقدراً - قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) ويحذركم الله نفسه ( ) 7
[ آل عمران : 28 ] سابقاً لها ولاحقاً ، ويجوز أن يكون بدلاً من يوم في قوله
77 ( ) ليوم لا ريب فيه ( ) 7
[ آل عمران : 9 ] وتكون فتحته للبناء لإضافته إلى الجملة - والله سبحانه وتعالى أعلم ، والمراد بالنفس - والله سبحانه وتعالى أعلم - المكلفة ) ما عملت من خير محضراً ) أي لا نقص فيه ولا زيادة ، بأمر القاهر القادر على كل شيء ) وما عملت من سوء ( حاضراً ملازماً ، فما عملت من خير تود أنها لا تفارقه ولا ينقص منه شيء وما عملت من سوء ) تود ) أي تحب حباً(2/60)
صفحة رقم 61
شديداً ) ولو أن بينها وبينه ) أي ذلك العمل السوء ) أمداً ) أي زماناً .
قال الحرالي : وأصله مقدار ما يستوفي جهد الفرس من الجري ، فهو مقدار ما يستوفي ظهور ما في التقدير إلى وفاء كيانه ) بعيداً ( من البعد ، وهو منقطع الوصلة في حس أو معنى - انتهى .
فالآية من الاحتباك : ذكر إحضار الخير دلالة على حضور السوء ، وود بعد السوء دلالة على ود لزوم الخير .
ولما ذكر هول ذلك اليوم كان كأنه قال : فاتقوه فإن الله يحذركموه ) ويحذركم الله ) أي الذي له العظمة التي لا يحاط بها ) نفسه ( فالله سبحانه وتعالى منتقم ممن تعدى طوره ونسي أنه عبد ، قال الحرالي : أن تكون لكم أنفس فتجد ما عملت ، ويلزمها وطأة هذه المؤاخذة ، بل الذي ينبغي أن يبرىء العبد من نفسه تبرئبته من أن يكون له إرادة ، وأن يلاحظ علم الله وقدرته في كلية ظاهره وباطنه وظاهر الكون وباطنه - انتهى .
ولما كان تكرير التحذير قد ينفر بين أن تحذيره للاستعطاف ، فإنه بنصب الأدلة وبعث الدعاة والترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية المسبب عنه سعادة الدارين ، فهو من رأفته بالمحذرين فقال بانياً على ما تقديره : ويعدكم الله سبحانه وتعالى فضله ويبشركم به لرافته بكم : ( والله ) أي والحال أن الذي له وحده الجلال والإكرام ) رؤوف بالعباد ( قال الحرالي : فكان هذا التحذير الخاتم ابتدائياً ، والتحذير السابق انتهائياً ، فكان هذا رأفة سابقة ، وكان الأول الذي ترتب على الفعل تحذيراً لاحقاً متقصلاً بالمصير إلى الله ، وهذا الخاتم مبتدأً بالرأفة من الله .
والرأفة - يقول أهل المعاني - هي أرق الرحمة ، والذي يفصح عن المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أنها عطف العاطف على من يدجد عنده منه وصلة ، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم ، فنم تحقق أن الأمر لله سبحانه وتعالى وجد رلفقه وفضله ورحمته عليه لما برىء من دعوى شيء من نسبة الخير إلى نسفه ، فأحبه لذلك ، قيل لأعرابي : إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله ؟ فقال : أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه فلذلك إذا تحقق العبد ذلك من ربه أحبه بما وحّده وبما وجده في العاجلة فحماه أن يجد عمل نفسه في الآجلة - انتهى .
وقد علم أن الآية من الاحتباك : التحذير أولاً دال على الوعد بالخير ثانياً ، والرأفة ثانياً دالة على الانتقام أولاً - والله سبحانه وتعالى الموفق .
ولما فطمهم سبحانه وتعالى عن موالاة الكفار ظاهراً وباطناً بما اقتضى القصر على موالاة أهل الله لنفيه من تولي الكفر عن أن يكون في شيء من الله ، وكان الإنسان ربما وإلى الكافر وهو يدعي محبة الله سبحانه وتعالى ، وختم برأفته سبحانه و تعالى بعباده ، وكانت الرأفة قد تكون عن المحبة الموجبة للقرب ، فكان الإخبار بهما ربما دعا إلى(2/61)
صفحة رقم 62
الاتكال ، ووقع لأجله الاشتباه في الحزبين ، جعل لذلك سبحانه وتعالى علامه فقال : - وقال الحرالي : لما كان أعظم ما يترامى إليه مقامات السالكين إلى الله سبحانه وتعالى القاصدين إليه من مبدإ حال الذكر الذي هو منتهى المقامات العشر المترتبة في قوله سبحانه وتعالى ) إن المسلمين ( محبة الله سبحانه وتعالى بما أن المحبة وصلة خفية يعرف الحاس بها كنهها ، أقام سبحانه وتعالى الحجة على المترامين لدعوى القرب من الله والادعاء في أصل ما يصل إليه القول من محبته بما أنبأنهم أن من انتهى إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى فليتبع هذا النبي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى فمن اتبعه أحبه الله ، فقامت بذلك الحجة على كل قاصد وسالك ومتقرب ، فإن نهاية الخلق أن يحبوا الله ، وعناية الحق أن يحب العبد ، فرد سبحانه وتعالى جميع من أحاط به الاصطفاء والاجتباء والاختصاص ، ووجههم إلى وجهة الاتباع لحبيبه الذي أحبه ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أن موسى بين أظهركم ما وسعه إلا اتباعي ) وإذا كان ذلك في موسى عليه الصلاة والسلام كان في المنتحلين لملته ألزم بما هم متبعون لمتبعه عندهم ، وأصل ذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان في في الأبد وجب أن يكون النهاية في المعاد ، فألزم الله سبحانه وتعالى على الخليقة ممن أحب الله سبحانه وتعالى أن يتبعوه ، وأجرى ذلك على لسان إشعاراً بما في الخير والوصول إلى الله سبحانه وتعالى من حيث إنه نبي البشرى ، وليكون ذلك أكظم لمن أبى اتباعه - انتهى ، فقال سبحانه وتعالى - : ( قل إن كنتم تحبون الله ) أي المحيط بصفات الكمال مخلصين في حبه لاعتقاد أنه على غاية الكمال ، فإن الكمال محبوب لذاته ) فاتبعوني ( قال الحرالي : قد فسر ( صلى الله عليه وسلم ) ظاهر اتباعه فقال ( في البر ) وأصل حقيقة الإيمان بالله والإيثار لعباده ، والتقوى وهي ملاك الأمر واصل الخير ، وهي إطراح استغناء العبد بشيء من شأنه ، لا من مٍلك ولا من مُلك ولا من فعل ولا من وصف ولا من ذات حتى يكون عنده كما هو عند ربه في أزله قبل أن يكون موجوداً لنفسه ليكون أمره كله بربه في وجوده كما كان أمره بربه قبل وجوده لنفسه ، وقد فسر حق التقاة التي هي غاية التقوى بأن يكون العبد يشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، ويطيع فلا يعصى - انتهى(2/62)
صفحة رقم 63
قال الإمام : المحبة توجب اإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض عن غيره - انتهى .
فمن ادعى محبته وخالف سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو كذاب ، وكتاب الله سبحانه وتعالى يكذبه ) يحببكم الله ) أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى حباً ظهرت أماراته بما أعلم به الفك ، فإن الأمر المنجي غاية النجاة إنما هو محبة الله سبحانه وتعالة للعبد ، لا محبة العبد لله ، فإنه ربما كانت له حالة يظن بها أنه يحب الله والواقع أنه ليس كما ظن لكونه يعمل بما يسخطه سبحانه وتعالى ، والأمارة الصحيحة لذلك رد الأمر كله إلى الله ، وحينئذ يفعل الله مع العبد فعل المحب من حسن الثناء والإإكرام بالثواب .
قال الحرالي : فإن من رد الأمانة إلى الله سبحانه وتعالى أحبه الله فكان سمعه وبصره ويده ورجله ، وإذا أحب الله عبداً أراحه وأنقذه من مناله في أن يكون هو يحب الله ، فمن أحب الله وله ، ومن أحبه الله سكن ي ابتداء عنايته وثبته الله سبحانه وتعالى - انتهى .
فقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن الدلالة الناشئة عن الرافة من الإكرام بالنعم من الهداية بالبيان والإبلاغ في الإحسان عامة للمحبوب وغيره ، وأن الدليل على المحبة الإلهية هو الاتباع الداعي ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة ) ( ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما افترضته عليهم ، ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) .
ولما كان الدين شديداً لن يشاده أحد إلا غلبه ، لما عليه العبد من العجز والمعبود من عظيم الأمر أتبع ذلك الإعلام بأنه مع إيصال الثواب يرفع العقاب فقال - وقال الحرالي : ولما كان من آية حب الله له ( صلى الله عليه وسلم ) ما أنزله عليه من قوله :
77 ( ) إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( ) 7
[ الفتح : 2 ، 1 ] أجرى لمن أحبه الله(2/63)
صفحة رقم 64
باتباعه حظ منه في قوله - : ( ويغفر لكم ذنوبكم ) أي مطلقاً ، وذنب كل عبد بحسبه ، لأن أصل معنى الذنب أدنى مقام العبد ، فكل ذي مقام أعلاه حسنته وأدناه ذنبه ، ولذلك في كل مقام توبة ، حتى تقع التوبة من التوبة فيكمل الوجود والشهود .
ولما كان هذا الأمر من أخص ما يقع ، وكان مما دونه مقامات خواص الخلق فيما بين إسلامهم إلى محبتهم لله سبحانه وتعالى ختم تعالى بما يفهم أحوال ما يرجع إلى من دون هذا الكمال فقال : ( والله ) أي الذي له الكمال كله ) غفور رحيم ) أي لمن لم ينته لرتبة حب الله له بما يقع في أثناء أحواله من موجب المغفرة واستدعاء الرحمة حيث لم يصل إلى المحبة ، فمرحوم بعد مغفرة وهو القاصد ، ومغفور بعد محبة وهو الواصل - انتهى .
ولما كان الاتباع قد يكون عن غلبة لا عن طاعة بين أنه لا ينفع إلا مع الإذعان فقال - أو يقال : لما كان ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الرأفة بالعبادة وكان يعلم أن آحاد الأمة لا يقدرون على كمال اتباعه لما له مع العصمة من الطبع على خصال الكمال كان كأنه قال له سبحانه وتعالى : فإن لم يقدروا على كمال اتباعي ؟ فقال : ( قل ( وقال الحرالي : ولما ذكر تعالى ما تقدم من التحذيرين ، في رتبتين أولاهما في الذكر بحاتين من موجب التحذيرين ، فكان الاتباع موجب النجاة من التحذر الثاني الباطن الذي مبدؤه الرأفة ، وكان الطاعة موجب النجاة من التحذير الأول السابق ، فمن أطاع الله روسوله فيما نهى عنه من اتخاذ ولاية الكافرين من دون ولاية المؤمنين سلم من التحذيرالظاهر ، ومن اتبع الرسول فأحبه الله سلم من التحذير الباطن ، فختم الخطاب بما به بدأ ، أو لما كانت رتبة الاتباع عليا وليتها رتبة الأئتمار ، فهو إما متبع على حب وإما مؤتمر على طاعة ، فمن لم يكن من أهل الاتباع فليكن من أهل الطاعة ، فكأن الخطاب يفهم :
77 ( ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ( ) 7
[ آل عمران : 31 ] ، فإن لم تستطيعوا أن تتبعوني فأطيعوني ، انتهى فقال سبحانه وتعالى : ( قل أطيعوا الله ) أي لما له من صفات الكمال .
ولما قدم أن رضاه في اتباعه ( صلى الله عليه وسلم ) فدل على أن الطاعتين واحدة قال موحداً للعامل : ( والرسول ) أي الكامل في الرسلية لما له به سبحانه وتعالى من مزايا الاتصال ، وهو وإن كان اسماً كلياً لكنه كان حين إنزال هذا الخطاب مختصاً بأكمل الخلق محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المرسل إلى الخلق كافة على أن طاعته طاعة لجميع الرسل الذين بينوا للناس أمره ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم أجمعين وسلم .
قال الحرالي : فكان إشارة ذلك إلى ما نهوا عنه من التولي إلى ما ينتظم في معنى ذلك ، وفيه إشعار بأن الأمر يكون فيه محوطاً بالرحمة من حيث ذكر الرسول فيه بما هو رحمة للعالمين ) فإن تولوا ) أي عن طاعة خطاب الله والرسول(2/64)
صفحة رقم 65
المحفوف باللطف من الله سبحانه وتعالة والرحمة من رسول الله - انتهى .
و ) تولوا ( يحتمل المضارع والمضي ، فكان الأصل في الكلام : ( فإن الله ( الذي له الغنى المطلق لا يحبكم ، أو : لا يحبهم ، ولكنه أظهر الوصف المعلم بأن التولي كفر فقال : ( لا يحب الكافرين ( قال الحرالي : أفرد لله لما كان وعيداً ، إبقاء لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في حيز الرحمة .
ولما نفي عمن تولى أن يحبه كان في إشعارة أن هذا الكفر عموم كفر يداخل رتباً من الإيمان من حيث نفي عنه الحب فنفي منه ما يناله العفو أو المغفرة والرحمة ونحو ذلك بحسب رتب تناقص الكفر ، لأنه كفر دون كفر ، ومن فيه كفر فهو غير مستوفي اتباع الرسول بما أنه الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وإنما يحب الله من اتبع رسوله ، فعاد الختم في الخطاب إلى إشعار م معنى أوله وفي إلاحته أن حب الله للعبد بحسب توحيده ، فكلما كان أكمل توحيداً كان أحب ، وما سقط عن رتبة أدنى التوحيد الذي هو محل الأمر بطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) كان كفراً بحسب ما يغطى على تلك الرتبة من التوحيد ، لأن هذه السورة سورة إلهية إيمانية حبية توحيدية ، فخطابها مخصوص بما يجري في حكم ذلك من الإيمان والكفر والمحكم والمتشابه وكشف غطاء الأعين ورفع حجب القلوب - انتهى .
وقد وضح أن الآية من الاحتباك - فأصل نظمها : فإن تولوا فإن الله لا يحبهم لكفرانهم ، وإن أقبلوا فإن الله يحبهم لإيمانهم ، فإن الله لا يحب الكافرين والله يحب المؤمنين - إثبات التولية في الأول يدل على حذف الإقبال من الثاني ، إثبات الكراهة في الثاني يدل على حذف مثلها في الأول .
ولما كان الأصفياء أخص من مطلق الأحباب بين بعض الأصفياء وما أكرمهم به تصديقاً لقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الشريف ( فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجلهالتي يمشي بها ) تنبيهاَ لوفد نصارى نجران وغيرهم على أنه مثل ما اصطفى لنفسه ديناً اصطفى للتخلق به ناساً يحبونه ويطيعونه ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه ، وليسوا من صفات الكافرين في شيء فقال - أو يقال : إنه سبحانه وتعهالى لما شبه أفعاله في التشابه وغيره بأقواله وعرف أن الطريق القوم رد المشتابه منها إلى الواضح المحكم والالتجاء في كشف المشكل إليه(2/65)
صفحة رقم 66
مع الإعتقاد الجازم المستقيم ، وبين أن الموقف عن هذا الطريق الأقوم الوقوف مع العرض الدنيوي مع الرئاسة وغيرها وألف الدين مع التعلل فيه بالتمني الفارغ ، وأنهى ذلك وتوابعه إلى أن ختم بتهديد من تولى عن الحق أخذ في تصوير تصويره في الأرحام كيف شاء بما شوهد من ذلك ولم يشك فيه من أحوال أناس هم من خلص عباده المقبلين على ما يرضيه فقال : أو يقال ولعله أحسن : ولما أخبر سبحانه وتعالى أن أهل الكتاب ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم فكفروا بذلك ، وألحق به ما تبعه إلى أن ختم بالأمر باتباع الرسول وبأنه لا يحب الكافرين بالتولي عن رسله اشتد تشوف النفس إلى معرفة الرسل الآتين بالعلم الذين توجب مخالفتهم الكفر فبينهم بقوله : وقال الحرالي : لما كان منزل هذه السورة لإظهار المحكم والمتشابه في الخلق والأمر قدم سبحانه وتعالى بين يدي إبانة متشابه خلق عيسى عليه الصلاة والسلام وجه الاصطفاء المتقدم للآدمية ومن منها من الذرية لتظهر معادلة خلق عيسى عليه الصلاة والسلام آخراً لمتقدم خلق آدم عليه الصلاة والسلام أولاً ، حتى يكونا مثلين محيطين بطرفي الكون في علو ورحه ودنو أديم تربته وأنه سبحانه وتعالى نزل الروح إلى الخلق الآدمي كما قال ) ) ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ) [ الأنعام : 9 ] وظهر أثر ذلك اللبس بما وقع لأهل الزيغ في عيسى كما أنه رقى الخلق الطيني رتبة رتبة إلى كمال التسوية إلى أن نفخ فيه من روحه ، فكان ترقي الآدمي إلى النفخة لتنزل الروح إلى الطينة الإنسانية التي تم بها وجود عيسى عليه الصلاة والسلام كما كمل وجود آدم عليه الصلاة والسلام بالنفخة .
آل عمران : ( 33 - 38 ) إن الله اصطفى. .. . .
) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنًّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ ( ( )
ولما كان أصل الإبداء نوراً علياً نزله الحق سبحانه وتعالى في رتب التطوير والتصيير والجعل إلى أن بدأ عالماً دنياوياً محتوياً على الأركان الأربعة والمواليد الثلاثة ، (2/66)
صفحة رقم 67
وخفيت نورانيته في موجود صفي الله سبحانه وتعالى من وجود كلية ذلك هذا الخلق الآدمي فكان صفي الله ، فأنبأ الخطاب عن تصييره إلى الصفاء بالافتعال ؛ انتهى - فقال سبحانه وتعالى : ( إن الله ) أي بجلال وعظمته وكماله في إحاطته وقدرته ) اصطفى ) أي للعلم والرسالة عنه سبحانه وتعالى إلى خلقه والخلافة له في ملكه ) آدم ( أباكم الأول الذي لا تشكون في أنه خلقه من تراب ، وهو تنبيه لمن غلط في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على أن أعظم ما اسغربوا من عيسى كونه من غير ذكر ، وآدم أغرب حالاً منه بأنه ليس من ذكر ولا أنثى ولا من جنس الأحياء - كما سيأتي ذلك صريحاً بعد هذا التلويح لذي الفهم الصحيح .
قال الحرالي : فاصفطاه من كلية مخلوقه الذي أبداه ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً ، وأجرى اسمه من أظهر ظاهره الأرضي وأدنى أدناه ، فسماه آدم من أديم الأرض ، على صيغة أفعل ، التي هي نهاية كمال الآدمية والأديمية .
فكان ما أظهر تعالى في اصطفاه آدم ما ذكر جوامعه علي رضي الله عنه في قوله : لما خلق الله سبحانه وتعالى أبان فضله للملائكة وأراهم ما اختصه به من سابق العلم من حيث علمه عند استنبائه إياه أسماء الأشياء فجعل الله سبحانه وتعالى آدم محراباً وكعبة وباباً وقبلة ، أسجد له الأبرار والروحانيين الأنوار ، ثم نبه آدم على مستودعه وكشف له خطر ما ائتمنه عليه بعد أن سماه عند الملائكة إماماً ، فكان تنبيهه على خطر أمانته ثمرة اصطفائه - انتهى ) ونوحاً ( أباكم الثاني الذي أخرجه من بين أبوين شابين على عادتكم المستمرة فيكم .
وقال الحرالي : أنبأ تعالى أنه عطف لنوح عليه الصلاة والسلام اصطفاه على اصطفاء آدم ترقياً إلى كمال الوجود الآدمي وتعالياً إلى الوجود الروحي العيسوي ، فاصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام بما جعله أول رسول بتوحيده من حيث دحض الشرك وأقام كلمة الإيمان بقول ( لا إله إلا الله ) ، لما تقدم بين آدم ونوح من عبادة الأصنام والأوثان ، فكان هذا الاصطفاء اصطفاء باطناً لذلك الاصطفاء الظاهر فتأكد الاصطفاء وجرى من أهلكته طامة الطوفان مع نوح عليه الصلاة والسلام من الذر الآدمي مجرى تخليص الصفاوات من خثارتها ، وكما صفي آدم من الكون كله صفي نوحاً عليه السلام وولده الناجين معه من مطرح الخلق الآدمي الكافرين الذين لا يلدون إلا فاجراً كفاراً ، فلم يكن فيهم ولا في مستودع ذراريهم صفاوة تصلح لمزية الإخلاص الذي اختص بصفوته نوح عليه الصلاة والسلام
77 ( ) وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ( ) 7
[ الأحزاب : 7 ] فكان ميثاق نوح عليه السلام ما قام به من كلمة التوحيد ورفض الأصنام والطاغوت التي اتخذها الظلمانيون من ذر آدم ، فتصفى بكلمة التوحيد النوارانيون منه ، فكان نوح عليه الصلاة والسلام ومن نجا معه صفوة زمانه ، كما كان آدم صفوة حينه - انتهى .(2/67)
صفحة رقم 68
ولما كان أكثر الأنبياء من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام زاد في تعظيمه بقوله : ( وآل إبراهيم ) أي الذين أود فيهم الخوارق ولا سيما في إخراج الولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لمثلهما ، وفي ذلك إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مثلهم لأنه أحدهم ، وكذا قوله : ( وآل عمران ( في قوله : ( على العالمين ( إشارة إلى أنه كسائر أقاربه منهم ، وأفصح بذلك إفصاحاً جلياً في قوله : ( ذرية بعضها من بعض ) أي فهم كلهم من بني آدم ، لا مزية لبعضهم على بعض في ذلك ، لا مزية في شيء من ذلك ، وأنتم لا تشكون فيه من شيء من الخصائص مما دون أمد عيسى عليه الصلاة والسلام ، فما لكم لما خص سبحانه وتعالى آل عمران من بين العالمين بخرق العادة فيهم بإخراج ولد من أنثى فقط من غير ذكر لم تردوا ما لم تعرفوا منه إلى ما تعرفون من الخوارق حتى انجلى لكم واتضح لديكم ؟ بل أشكل لعيكم وقامت فيهكم قيامتكم بما يفضي إلى الشك في قدرة الإله الذي لا تشكون أن من شك في تمام قدرته كفر .
وقال الحرالي : فإثبات هذه الجملة بتشابه وتماثل تتعالى عن نحوه الإلهية ، فأبان هذا الخطاب في عيسى عليه الصلاة والسلام اصطفاء من جملة هذا الاصطفاء ، فكما لم يقع فيمن سواه لبس من أمر ألإلهية فكذلك ينبغي أن لايقع فيه هو أيضاً لبس لما يتلقن بيان الإحكام والتشابه من الذي أنزل الكتاب محكماً ومتشابهاً وأظهر الخلق بادياً وملتبساً الصلاة والسلام الذي نزلت هذه الآيات كلها في المجادلة ف يأمره والإخبار عن حمله وولادته وغير ذلك من صفاته التي يتنزه الإله عنها ، وكراماته التي لا تكون إلا للقرب ، فأخبر أولاً عن حال أمه وأمها وأختها وما اتفق لهن من الخوارق التي تمسك بوقوع مثلها من عيسى عليه السلام من كفر برفعه فوق طوره ، ثم شرع في قص أمره حتى لم يدع فيه لبساً بوجه .
وقال الحرالي : في التعبير عن اصطفاء إبراهيم ومن بعده عليهم الصلاة والسلام في إشعار الخطاب اختصاص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بما هو أخص من هذا الاصطفاء من حيث انتظم في سلكه آله لاختصاصه هو بالخلة التي لم يشركه فيها أهل هذا الاصطفاء ، فاختص نمط هذا الاصطفاء بآله ، وهم - والله سبحانه وتعالى أعلم - إسماعيل عليه السلام اختص بالوصلةبين إبراهيم الخليل ومحمد الحبيب صلوات الله وسلامه عليهم ، فكان مترقى ما هو لهم من وراء هذا الاصطفاء ، ولأن إنزال هذا الخطاب لخلق عيسى عليه الصلاة والسلام ، وهو من ولد داود عليه الصلاة والسلام فيما(2/68)
صفحة رقم 69
يذكر ، وداود من سبط لاوي بن إسرائيل عليهم الصلاة والسلام فيما ينسب ، فلذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - جرى هذا الاصطفاء على آله ، فظهر من مزية هذا الاصطفاء لآله ما كان من اصطفاء موسى عليه السلام بالتكليم وإنزال الكتاب السابق
77 ( ) يا موسى إني اصطفيتك على الناس ( ) 7
[ الأعراف : 144 ] فكان هذا الاصطفاء استخلاص صفاوة من صفاوة نوح عليه الصلاة والسلام المستخلصين من صفاوة آدم عليه الصلاة والسلام ، وآل عمران - والله سبحانه وتعالى أعلم - مريم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليقع الاصطفاء في نمط يتصل من آدم إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام ليحوزوا طرفي الكون روحاً وسلالة ، والعالمون علم الله الذي له الملك ، فكما أن الملك لا بد له من علم يعلم به بدوه وظهوره جعل الله ما أبداه من خلقه علماً على ظهور ملكه بين يدي ظهور خلقه في غاية يوم الدين عاماً ، وفي يوم الدنيا لمن شاء من أهل اليقين والعيان خاصاً ، وأعلى معناه بما ظهر في لفظه من الألف الزائدة على لفظ العلم ، فاصطفى سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام على الموجودين في وقته ، وكذلك نوحاُ وآل إبراهيم وآل عمران كلاًّ على عالم زمانه ، ومن بعد في غيب لم تبد صورته في العالم العياني الذرء الذي هو مخصوص بالخلق ليظهر انتظام عيسى عليه الصلاة والسلام في سلك الجميع ذرءاًَ ، وأنه لا يكون مع الذرء لبس الإلهية ، لأن الله سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، فكان نصب لفظ الذرية تكييفاً لهذا الاصطفاء المستخلص على وجه الذر ، وهو الذي يسميه النحاة حالاً - انتهى .
ولما ذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الذين اصطفاهم ، وكان مدار أمر الاصطفاء على العلم ، ومدار ما يقال لهم وفيهم مما يكون كفراً أو إيماناً على السمع ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله عاطفاً على ما تقديره : فالله سبحانه وتعالى يفعل بإحاطته ما يريد : ( والله ) أي المحيط قدرة وعلماً ) سميع عليم ( إشارة إلى أنه اصطفاهم على تمام العلم بهم ترغيباً في أحوالهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم .
ولما كان جل المقصود هنا بيان الكرامات في آل عمران لا سيما في الولادة ، وكان آدم الممثل به عليه الصلاة والسلام قد تقدم بيان أمره في سورة البقرة سورة الكتاب المثمر للعلم ، وكذا بيان كثير مما اصطفى به إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام إذ كان معظم القصد بالكلام لذريته ، وكان معظم المقصود من ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كونه في عمود النسب ، وليس في أمر ولادته ما هو خارج عن العادة قال طاوياً لمن قبل : ( إذ ) أي اذكر جواباً لمن يجادلك في أمرهم ويسألك عن حالهم حين ) قالت امرأة عمران ( وهي حامل .(2/69)
صفحة رقم 70
وقال الحرالي : لما اكن من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى عليه الصلاة والسلام اختص التفصيل بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام دون سائر من ذكر معه ، وكان في هذه المناظرة بين الصورتين حظ من التكافؤ من حيث ذكر أمر خلق آدم عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة ، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة وهي هذه السورة ، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء ، فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى عليه الصلاة والسلام من قول أم مريم امرأة عمران حين أجرى على لسانها وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذراً ، ففصل ما به ختم من اصفطاء آل عمران ، ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران ليلتئم التفصيل بجملته السابقة ) رب إني نذرت لك ما في بطني ( وكان نذر الولد شائعاً في بني إسرائيل إلا أنه كان عندهم معهوداً في الذكور لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به ، فأكمل الله سبحانه وتعالى مريم لما كمل له الرجال - كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع ) فذكر مريم بنت عمران عليهما السلام ، فكان من كمالها خروج والدتها عنها ، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق ، فكان الولد أباه فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه ، ولذلك - والله سبحانه وتعالى أعلم - أري إبراهيم عليه الصلاة والسلاح ذبح ولده عند تمييزه ، وخرجت امرأة عمران عن حملها وهو في بطنها حين ما هو أعلق بها - انتهى .
ونذرته لله تعالى حال كونه ) محرراً ) أي لا اعتراض ولا حكم لأحد من الخلق عليه ، قال الحرالي : والتحرير طلب الحرية ، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه ، وفي الإتيان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية لتسلم ولايته لله تعالى - انتهى .
) فتقبل مني ( ولما كان حسن إجابة المهتوف به الملتجأ إليه على حسب إحاطة سمعه وعلمه عللت سؤالها في التقبل بأن قصرت السمع والعلم عليه سبحانه فقالت : ( إنك أنت ) أي وحدك ) السميع العليم ( فقالت كما قال سلفها إبراهيم وإسماعيل عليهام الصلاة والسلام
77 ( ) ربنا تقبل منا ( ) 7
[ البقرة : 127 ] ، أي فلا يسمع أحد قولي مثل سمعك ، ولا يعلم أحد نيتي مثل علمك ولا أنا ، فإن كان فيهما شيء لا يصلح فتجاوز عنه .(2/70)
صفحة رقم 71
ولما أخبر بما اقتضى مضى عزمها قبل الوضع أخبر بتحقيقه بعده فقال : ( فلما وضعتها قالت ) أي تحسراً ذاكرة وصف الإحسان استمطاراً للامتنان ) رب إني وضعتها ( قال الحرالي : من الوضع وهو إلقاء الشيء المستثقل ) أنثى ( هي أدنى زوجي الحيوان المتناكح - انتهى .
ولما كان الإخبار عادة إنما هو لمن لا يعلم الخبر بينت أن أمر الله سبحانه وتعالى ليس كذلك ، لأن المقصود بإخباره ليس مضمون الخبر وإنام هو شيء من لوازمه وهنا التحسر فقالت : ( والله ) أي الذي له صفات الكمال .
ولما كان المراد التعجيب من هذه المولودة بأنها من خوارق العادات عبرت عنها بما فقالت : ( أعلم بما وضعت ( وعبرت بالاسم الأعظم موضع ضمير الخطاب إشارة إلى السؤال في أن يهبها من كماله ويرزقها من هيبته وجلاله ، وفي قراءة إسكان التاء الذي هو إخبار من الله سبحانه وتعالى عنها - كما قال الحرالي - إلاحة معنى أن مريم عليها الصلاة والسلام وإن كان ظاهرها الأنوثة ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها بالرجال في الكمال ، حتى كانت ممن كانت ممن كمل من النساء لما لا يصل إليه كثير من رجال عالمها ، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكراً وحقيقته أنثى .
ولما كان مقصودها مع إمضاء نذرها بعد تحقق كوناه أنثى التحسر على ما فاتها من الأجر في خدمة البيت المقدس بما يقابل فضل قوة الذكر على الأنثى وصلاحيته للخدمة في كل أ ؛ واله قالت : ( وليس الذكر ) أي الذي هو معتاد للنذر وكنت أحب أن تهبه لي لأفوز بمثل أجره في هذا الفرض في قوته وسلامته من العوارض المانعة من المكث في المسجد ومخالطة القومة ) كالأنثى ( التي وضعتها ، وهي داخلة في عموم النذر بحكم الإطلاق في الضعف وعارض الحيض ونحوه فلا ينقص يا رب أجري بسبب ذلك ، ولو قالت : وليست الأنثى كالذكر ، لفهم أن مرادها أن نذرها لم يشملها فلا حق للمسجد فيها من جهة الخدمة .
قال الحرالي : وفي إشعار هذا القول تفصل مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافاً لنذرها ، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت ، فجعلها الله سبحانه وتعالى لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها ، فكانت مريم عليها السلام أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها - انتهى .
ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه وتعالى كالحالية التي قبله إذا أسكنت التاء ، ولاتقدير : قالت كذا والحال أن الله أعلم منها بما وضعت ، والحال أيضاً أنه ليس الذكر الذي أرادته بحكم معتاد النذر كالأنثى التي وهبت لها فدخلت فيه بحكم إطلاقه ، بل هي أعلى ، لأن غاية ما تعرفه من المنذورين أن يكون كأنبيائهم المقررين(2/71)
صفحة رقم 72
لحكم التوراة ، وهذه الأنثى مع ما لها من العلو في نفسها ستكون سبباً في السؤال في نبي هو أعظم أنبيائهم ، وتلد صاحب شريعة مستقلة ، ثم يكون مقرراً لأعظم الشرائع .
ولما تم ما قالته عند الوضع أو قاله الله في تلك الحالة أتم سبحانه وتعالى الخبر عن بقية كلامها وأنها عدلت عن مظهر الجلالة إلى الخطاب على طريق أهل الحضرة ، وأكدت إعلاماً بشدة رغبتها في مضمون كلامها فقال حاكيا : ( وإني سميتها مريم ( ومعنى هذا الاسم بلسانهم : العابدة .
قال الحرالي : فيه إشعار بأن من جاء بشيء أو قربه فحقه أن يجعل له اسماً ، ورد أن السقط إذا لم يسم يطالب من حقه أن يسميه فيقول : يا رب أضاعوني ، فكان من تمام أن وضعتها أن تسميها ، فيكون إبداؤها لها وضع عين وإظهار اسم ، لما في وجود الاسم من كمال الوجود في السمع كما هو في العين ، ليقع التقرب والنذر بما هو كامل الوجود عيناً واسماً .
ولما كانت محررة لله سبحانه وتعالى كان حقاً أن يجري الله سبحانه وتعالى إعاذتها قولاً كما هو جاعلها معاذة كوناً من حيث هي له ، وما كان في حمى الملك لا يتطرق إليه طريدة فقالت : ( وإني أعيذها بك ( وفي قوله : ( وذريتها ( إشعار بما أوتيته من علم بأنها ذات ذرية ، فكأنها نطقت عن غيب من أمر الله سبحانه وتعالى مما لا يعلمه إلا الله ، فهو معلمه لمن شاء .
ولما كان من في حصن الملك وحرزه بجواره بعيداً ممن أحرقه بنار البعد وأهانه بالرجم حققت الإعاذة بقولها : ( من الشيطان الرجيم ( وفي هذا التخليص لمريم عليها السلام بالإعاذة ولذريتها حظ من التخليص المحمدي لما شق صدره ونبذ حظ الشيطان منه وغسل قلبه بالماء والثلج في البداية الكونية ، وبماء زمزم في البداية النبوية .
عند الانتهاء الكوني ، فلذلك كان لمريم ولذريتها بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) اتصال واصل ؛ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، من أجل أنه ليس بيني وبينه نبي ، وبما هو حكم أمامه في خاتمة يومه وقائم من قومه دينه ) ولما أخبر بدعائها أخبر بإجابتها فيه فقال : ( فتقبلها ( فجاء بصيغة التفعل مطابقة لقولها ) فتقبل ( ، ففيه إشعار بتدريج وتطور وتكثر ، كأنه يشعر بأنها مزيد لها في كل طور(2/72)
صفحة رقم 73
تتطور إليه ، من حيث لم يكن فاقبل مني فلم تكن إجابته ) فقبلها ( ، فيكون إعطاء واحداً منقطعاً عن التواصل والتتابع ، فلا تزال بركة تحريرها متجدداً لها في نفسها وعائداً بركته على أمها حتى تترقى لى العلو المحمدي فيتكون في أزواجه ومن يتصل به - انتهى .
وجاء بالوصف المشعر بالإحسان مضافاً إليها إبلاغاً في المعنى فقال : ( ربها ( قال الحرالي : وظهر سر الإجابة في قوله سبحانه وتعالى : ( بقبول حسن ( حيث لم يكن ( يتقبل ) - جرياً على الأول .
ولما أنبأ القبول عن معنى ما أوليته باطناً أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهراً في جسمانيتها ، وفي ذكر الفعل من ( أفعل ) في قوله : ( وأنبتها ( والاسم من ( فعل ) في قوله : ( نباتاً حسناً ( إعلام بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون وكمالها فيذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين ، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر ، فأعرب عن إنباتها ونباتها معنى حسناً - انتهى .
فوقع لجواب لأنها عناية من الله سبحانه وتعالى بها على ما وقع سؤالها فيه ، فلقد ضل وافترى من قذفها وبهتها ، وكفر وغلا من ادعى في ولدها من الإطراء ما ادعى .
وقال الحرالي : وقد أنبأ سبحانه وتعالى في هذه السورة الخاصة بقصة مريم عليها الصلاة والسلام من تقبلها وإنباتها وحسن سيرتها بما نفي اللبس في أمرها وأمر ولدها ، لأن المخصوص بمنزل هذه السورة ما هو في بيان رفع اللبس الذي ضل به النصارى ، فيذكر في كل سورة ما هو الأليق والأولى بمخصوص منزلها ، فلذلك ينقص الخطاب في القصة الواحدة في سورة ما يستوفيه في سورة أخرى لاختلاف مخصوص منزلها ، كذلك الحال في القصص المتكررة في القرآن من قص الأنبياء وما ذكر فيه لمقصد الترغيب والتثبيت والتحذير وغير ذلك من وجوه التنبيه - انتهى ، وفيه تصرف .
ولما كان الصغير لا بد له فيما جرت به العادة من كبير يتولى أمره قال : ( وكفلها ( قال الحرالي : من الكفل وهو حياطة الشيء من جميع جهاته حتى يصير عليه كالفلك الدائر ) زكريا ( وفي قراءة التشديد إنباء بأن الله سبحانه وتعالى هو في الحقيقة كفيلها بما هو تقبلها ، وفي استخلاص لزكريا من حيث جعله يد وكالة له فيها - انتهى .
ولما كان من شأن الكفيل القيام بما يعجز عنه المكفول بين سبحانه وتعالى أن تلك الكفالة إنما كانت جرياً على العوائد وأنه تبين أن تقبل الله لها أغناها عن سواه فقال في جواب من لعله يقول : ما فعل في كفالتها ؟ : ( كلما ) أي كان كلما ) دخل عليها زكريا المحراب ) أي موضع العبادة .
وقال الحرالي : هو صدر لابيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة وجهد حرب ) وجد عندها رزقاً ( وذلك كما وجد(2/73)
صفحة رقم 74
عند خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه قطف العنب - كما سيأتي في آخر المائدة ، ومثل لك كثير في ههذ الأمة ، وفي هذه العبارة أي من أولها إلاحة لمعنى حسن كفالته وأنه كان يتفقدها عند تقدير حاجتها إلى الطعام بما تفيده كلمة ) كلما ( من التكرار ، فيجد الكفيل الحق قد عاجلها برزق من غيب بما هو سبحانه وتعالى المتولي لإنباتها ليكون نباتها من غيب رزقه فتصلح لنفخ روحه ومستودع كلمته ، ولا يلحقها بعد الإعاذة ما فيه مس من الشيطان الرجيم الذي أعاذها الله سبحانه وتعالى منه بكثرة الاختلاط في موجودات الأرزاق ، فكان من حفظها أن تولى الله سبحانه وتعالى أرزاقها من غيب إلا ما يطيبه من باد ، وليكون حسن نباتها من أحسن رزق الله سبحانه وتعالى كما يقال : من غذي بطعام قوم غذي بقلوبهم ومن غذي بقلوبهم آل إلى منقلبهم ، وكانت هي مثل ما كفلها كافلها ظاهراً كفلته باطناً حين أبدى الله سبحانه وتعالى له من أمره ما لم يكن قبل بداً له ، فكان لمريم عليها الصلاة والسلام توطئة في رزقها لما يكون كماله في حملها فيكون رزقها بالكلمة ابتداء ليكون حملها بالكلمة ، فعند ذلك طلب زكريا عليه السلام نحو ما عاين لها من أن يرزقه الولد في غير إبّانه كما رزق مريم الرزق في غير أوانه ، وفي تعيين محلها بالمحراب ما يليح معنى ما ذكر من رجوليتها باطناً من حيث إن محل النساء أن يتأخرن فأبدى الله سبحانه وتعالى في محلها ذكر المحراب إشارة بكمالها ، والمحراب صدر البيت المتخذ للعبادة ، ويف لزومها لمحرابها في وقت تناول الرزق إعلام بأن الحبيس والمعتكف بيته محرابه ومحرابه بيته ، بخلاف من له متسع في الأرض ومحل من غير بيت الله ، إنما المساجد بيوت أهل الله المنقطعين إليه ، فهو محلهم في صلاتهم ومحلهم في تناول أرزاقهم ، ففيه إشعار بحضورها ، وحضور أهل العكوف حضور سواء في صلاتهم وطعامهم ، ولذلك أنمى حال العبد عند ربه بما هو عليه في حال تناوله طعامه وشرابه ، فأهل الله سبواء محياهم ومماتهم وأكلهم وصلاتهم ، من غفل عند طعامه قلبه لم يستطع أن يحضر في صلاته قلبه ، ومن حضر عند طعامه قلبه لم يغب في صلاته قلبه ، وفي ذكر الرزق شائعاً إشعار بأنها أنواع من أرزاق من حيث إنه لو اختص يخص به ما هو أخص من هذا الاسم - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : فام كان يقول لاه إذا رأى ذلك ؟ قيل : كان كلما وجد ذلك ، أو : لما تكرر وجدانه لذلك ) قال يا مريم أنّى ) أي من أين ) لك هذا ( قال الحرالي : كلمة أنى تشعر باستغرابه وجود ذلك الرزق من وجوه مختلفة : من جهة الزمان أنه ليس زمانه ، ومن جهة المكان أنه ليس مكانه ، ومن جهة الكيف ووصوله إليها أنه ليس حاله ، وفي ذكر الضمير في قوله : ( قالت هو من عند اله ( إيذان بنظرها إلى مجموع حقيقة(2/74)
صفحة رقم 75
ذلك الرزق لا إلى أعيانه ، فهو إنباء عن رؤية قلب ، لا عن نظر عين لأن هو كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صورة مما اتحد مضمره ، ولما لم يكن من معهود ما أظهرته حكمته سبحانه مما يجريه على معالجات أيدي الخلق قالت ) من عند الله ( ذي الجلال والإكرام ، لأن ما خرج من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده ، وما كان مستغرباً فيما هو من عنده فهو من لدنه ، فهي ثلاث رتب : رتبة لدنية ، ورتبة عندية ، ورتبة حكمية عادية ؛ فكان هذا وسط الثلاث - كما قال تعالى :
77 ( ) آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنه علماً ( ) 7
[ الكهف : 65 ] حيث كان مستغرباً عند أهل الخصوص كما قال :
77 ( ) أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً ( ) 7
[ الكهف : 71 ] والإمر العجب ، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية جرى النبأ عنه مضافاً إلى الاسم العظيم الذي هو مسمى الأسماء كلها من حيث لم يكن ) من عند ربي ( لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها أو ما كان من نحوها كما قال
77 ( ) هذا من فضل ربي ( ) 7
[ النمل : 40 ] لما كان من عادته المكنة على الملوك ، وكان ممكناً فيما أحاط به موجود الأركان الأربعة - انتهى .
ولما أخبرت بخرقه سبحانه وتعالى لها العادة عللت ذلك بقولها مؤكدة تنبيهاً على أن ذلك ليس في قدرة ملوك الدنيا : ( إن الله ) أي الذي له الإحاطة الكلية. قال الحرالي : في تجديد الاسم العظيم في النبأ إشعار باتساع النبأ وإيذان وإلاحة بأن ذلك يكون لك ولمن شاء الله كما هو لي بما شاء الله ، من حيث لم يكن أنه فيكون مليحاً لاختصاص ما بها ، ويؤيده عموم قولها : ( يرزق من يشاء ( وقولها : ( بغير حساب ( يشعر بأنه عطاء متصل ، فلا يتحدد ولا يتعدد ، فهو رزق لا متعقب لعيه ، لأن كل محسوب في الإبداء محاسب عليه في الإعادة ، فكان في الرزق بغير حساب من علاج الحكمة بشرى برفع الحساب عنهم في المعاد وكفالة بالشكرة عنه ، لأن أعظم الشكر لرزق الله سبحانه وتعالى معرفة العبد بأنه من الله تعالى ، إنما يشكر رزق الله من أخذه من الله سبحانه وتعالى - انتهى .
ولما كان كأنه قيل : فما قال زكريا حينئذ ؟ قيل : ( هنالك ) أي في ذلك الوقت وذلك المكان العظيمي المقدار ) دعا زكريا ربه ( تذكراً لام عودهم الله سبحانه وتعالى به من الإكرام ، فظهرت عليه كرامات هذه الكفالة ، قال الحرالي : لما أشهده الله سبحانه وتعالى أنه يخرق عادئته لمن شاء بكلمته في حق كفيلته في الظاهر ، الكافلة له في هذا المعنى ، دعا ربه الذي عوده بالإحسان أن يرزقه ولداً في غير إبانه كما رزق مريم رزقاً في غير زمانه فوجب دعاؤه - انتهى .
) قال رب ) أي الذي عودني بإحسانه ) هب لي من(2/75)
صفحة رقم 76
لدنك ( قال الحرالي : طلب عليه من باطن الأمر كما قال سبحانه وتعالى : ( ) وعلمناه من لدنا علماً ( ) [ الكهف : 65 ] ، وكما قال فيه ) ) وحناناً من لدنا ( ) [ مريم : 13 ] ، لأن كل ما كان من لدن فهو أبطن من عند ) ذرية ( فيه إشعار بكثرة ونسل باق ، فأجيب بولد فرد لما كان زمان انتهاء في ظهور كلمة الروح وبأنه لا ينسل فكان يحيي حصوراً لغلبة الروحانية على إنسانيته - انتهى .
) طيبة ) أي مطيعة لك لأن ذلك طلبة أهل الخصوص ، ثم علل إدلاله على المقام الأعظم بالسؤال بقوله : ( إنك سميع الدعاء ) أي مريده ومجيبه لأن من شأن من يسمع - ولم يمنع - أن يجب إذا كان قادراً كاملاً ، وقد ثبتت القدرة بالربوبية الكاملة التي لا تحصل إلا من الحي القيوم ، بخلاف الأصنام ونحوها مما عبد فإنها لا تسمع ، ولو سمعت لم تقدر على الإجابة إلى ما تسأل فيه لأنها مربوبة .
قال الحرالي : أعلم الداعي بما لله سبحانه وتعالى من الإجاة ، والقرب ( وسيلة في قبول ) دعائه - انتهى .
آل عمران : ( 39 - 43 ) فنادته الملائكة وهو. .. . .
) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ يمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( ( )
ولما كان الله سبحانه وتعالى عند ظن عبده به سمع دعاءه كما قال ) فنادته ) أي فتسبب عن دعائه وحسن رجائه أن نادته ) الملائكة ( يعني هذا النوع ، لا كلهم بل ناداه البعض ، وكان متهيئاً بما آتاه الله سبحانه وتعالى من المفضل لمناداة الكل ، كما هو شأن أهل الكمال من الرسل ) وهو قائم يصلي في المحراب ( وهو موضع محاربة العابد للشيطان ، وهو أشرف الأماكن لذلك .
قال الحرالي : فيه إشعار بسرعة إجابته ولزومه معتكفه وقنوته في قيامه وأن الغالب على صلاته القيام لأن الصلاة قيام ، وسجود يقابله ، وركوع متوسط ، فذكرت صلاته بالقيام إشعاراً بأن حكم القيام غالب عليها - انتهى .
ثم استأنف في قراءة حمزة وابن عامر بالكسر لجواب من كأنه قال : بأي شيء نادته الملائكة ؟ قوله : ( أن الله يبشرك ( قال الحرالي : فذكر الاسم الأعظم المحيط معناه بجميع معاني الأسماء ، ولم يقل إن ربك لما كان أمر إجابته من وراء الحكمة العادية ؛ وفي قوله : ( بيحيى ( مسمى بصيغة الدوام - مع أنه كما قيل : قتل - إشعار بوفاء حقيقة(2/76)
صفحة رقم 77
الروحانية الحياتية فيه دائماً ، لا يطرقه طارق موت الظاهر حيث قتل شهيداً - انتهى .
) مصدقاً بكلمة ) أي نبي خلق بالكلمة لا بالمعالجة العادية ، يرسله الله سبحانه وتعالى إلى عباده فيكذبه أكثرهم ويصدقه هو ، وإطلاق الكلمة عليه من إطلاق السبب على المسبب قال الحرالي : فكان عيسى عليه الصلاة والسلام كلمة الله سبحانه وتعالى ، ويحيى مصدقه بما هو منه كمال كلمته حتى أنهما في سماء واحدة ، ففي قوله : ( من الله ( إشعار بإحاطته في ذات الكلمة - انتهى ) وسيداً وحصوراً ) أي فلا يتزين بزينة لأنه بالغ الحبس لنفسه والتضييق لعيها في المنع من النكاح .
قال في القاموس : والحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك ، أو الممنوع منهن ، أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن ، والمجبوب - والهَيوب المحجم عن الشيء .
وقال الحرالي : وهو من الحصر وهو المنع عما شأن الشيء أن يكون مستعملاً فيه - انتهى ) ونبياً ( ولما كان النبي لا يكون إلا صالحاً لم يعطف بل قال : ( من الصالحين ( إعلاماً بمزية رتبة الصلاح واحتراز من المتنبيين ، فكأنه قيل : فما قال حين أجابه ربه سبحانه وتعالى ؟ فقيل : ( قال ( يستثبت بذلك ما يزيده طمأنينة ويقيناً وسكينة ) رب ) أي أيها المحسن إلي .
ولما كان مطلوبه ولداً يقوم مقامه فيما هو فيه نم النبوة التي لا يطيقها إلا الذكور الأقويا الكلمة ، وكانت العادة قاضية بأن ولد الشيخ يكون ضعيفاً لا سيما إن كان حرثه مع الطعن في السن في أصله غير قابل للزرع أحب أن يصرح له بمطلوبه فقال : ( أنّى ) أي كيف ومن أين ) يكون لي ( وعبر بما تدور مادته على الغلبة والقوة زيادة في الكشف فقال : ( غلام ( وفي تعبيره به في سياق الحصور دليل على أنه في غاية ما يكون من صحة الجسم وقوته اللازم من شدة الداعية إلى النكاح ، وهو مع ذلك يمنع نفسه منه منعاً زائداً على الحد ، لما عنده من غلبة لاشهود اللازم منه الإقبال على العبادة بكليته والإعراض عن كل ما يشغل عنها جملة لا سيما النكاح ، بحيث يظن أنه لا إرب له فيه ، وهذا الموافق للتعبير الأول للحصور في القاموس ، وهو الذي ينبغي ألا يعرج على غيره لأنه بناء مبالغة من متعد ، ولأنه أمدح له ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومهما دار الشيء على صفة الكمال في الأنبياء عليهم السلام وجب أن لا يعدل عنه ، وما ورد - كا يأتي إن شاء الله تعالى في سورة مريم عليها السلام - أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ذكره مثل هذه القذاة ) فقد ضعفوه ، وعلى تقدير صحته فيكون ذلك إخباراً عن أنه لما أعرض عنه رأساً ضعف ما معه(2/77)
صفحة رقم 78
لذلك ، فهو إخبار عن آخر أمره الذي أدت إليه عزيمته ، والآية مشيرة إلى ما اقتضته خلقته وغريزته وإن كان الجمع لكمال الوجود الإنساني بالنكاح أكمل كما وقع لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ويقع لعيسى عليه السلام بعد نزوله ) وقد ) أي والحال أنه قد ) بلغني الكبر ( إلى حد لا يولد فيه عادة ) وامرأتى عاقر ( قال الحرالي : من العقر وهو البلوغ إلى حد انقطاع النسل هرماً - انتهى ؛ كذا قال ، وآية سورة مريم تدل على أن المعنى أنها لم تزل عقيماً ، وعليه يدل كلام أهل اللغة ، قال في القاموس في الراء : العقرة وتضم : العقم ، وقد عُقرت كعُنى فهي عاقر ، ورجل عاقر وعقير : لا يولد له ولد ، والعُقَرة كهمزة : خرزة تحملها المرأة لئلا تلد ، وقال في الملم : العقم بالضم : هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد ، عقمت كفرح ونصر وكرم وعُنى ، ورحم عقيم وامرأة عقيم ورجل عقيم : لا يولد له ، وقال الإمامان أبو عبد الله القزاز في ديوانه وعبد الحق في واعيه : والعقر بضم العين وسكون القاف مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر ، يقال : الإمام أبو غالب ( ابن التياني ) في كتابه الموعب صاحب [ تلقيح ] العين : العقر مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر ، لكن خلقة ، ثم قال وتعقرت : إذا ولدت ثم أمسكت - والله الموفق .
ثم وصل به قوله : ( قال كذلك ) أي مثل هذا الفعل الجليل البعيد الرتبة .
ولما كان استنباؤه عن القوة والكمال لا عن الخلق عبر سبحانه في تعليل ذلك بالفعل بخلاف ما يأتي في قصة مريم عليها السلام فقال : ( الله يفعل ما يشاء ( لأنه المحيط بكل شيء قدرة وعلماً فكأنه قيل : قد قرت عينه فا قال ؟ قيل ) قال ( إرادة تعجيل البشرى وتحقيق السراء : ( رب اجعل لي آية ) أي علامة أعلم بها ذلك ) قال آيتك ألا تكلم الناس ) أي لا تقدر على أن تكلمهم بكلام دنيوي ) ثلاثة أيام ( ولما كان الكلام يطلق على الفعل مجازاً استثنى منه قوله : ( إلا رمزاً ( لتخلص هذه المدة للذكر شكراً على النعمة فاحمد ربك على ذلك .
قال الحرالي : والرمز تلطف في الإفهام بإشارة تحرك طرف كاليد واللحظ والشفتين ونحوها ، والغمز أشد منه باليد ونحوها - انتهى .
فعدم الكلام مع صحة آلته دليل إيجاد المتكلم مع ضعف آلته إلى حد لا يتكون عنها عادة ، ولما كان الأتم في القدرة أن يحبس عن كلام دون آخر قال :(2/78)
صفحة رقم 79
) واذكر ربك ) أي بالحمد وهو أن تثبت له الإحلاطة بكل كمال ) كثيراًً ( في الأيام التي منعت فيها من كلام الناس خصوصاً ، وفي سائر أوقاتك عموماً ) وسبح ) أي أوقع التسبيح لمطلق الخيليل ربك بأن تنفي عنه كل نقص ) بالعشي ( وقال الحرالي : من العشو وأصل معناه : إيقاد نار على علم لمقصد هدى أو قرى ومأوى على حال وهن ، فسمي به عشي النهار لأنه وقت فعل ذلك ، ويتأكد معناه في العشاء ، ومنه سمي الطعام : العشاء ) والإبكار ( وأصله المبادرة لأول الشيء ، ومنه التبكير وهو السرعة ، والباكورة وهو أول ما يبدو من الثمر ، فالإبكار اقتطاف زهرة النهار وهو أوله - انتهى .
ولما فرغ مما للكافل بعد ما نوه بأمر المكفولة بياناً لاستجابة الدعاء من أمها لها أعاد الإشارة بذكرها والإعلام بعلي قدرها فقال عاطفاً على ما تقديره : هذا ما للكافل فاذكره لهم فإنهم لا يشكون معه في نبوتك : ( و ( اذكر ) إذ قالت الملائكة ( وعبر بالجمع والمراد جبريل وحده عليه الصلاة والسلام كما في سورة مريم عليها السلام لتهيئها لخطاب كل منهم كما مضى ) يا مريم إن الله ) أي الذي له الأمر كله ) اصفطاك ) أي اختارك في نفسك ، لا بالنظر إلى شيء آخر عما يشين بعض من هو ي نفسه خيار ) وطهرك ) أي عن كل دنس ) واصطفاك ) أي اصطفاء خاصاً ) على نساء العالمين ( الاصطفاء الأول العبراني إلى اصطفاء على عربي حتى أنكحت من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) النبي العربي ؛ قال ( صلى الله عليه وسلم ) لخديجة رضي الله عنها : ( أما شعرت أن الله سبحانه وتعالى زوجني معك مريم بنت عمران ) - انتهى .
ولما أخبرها سبحانه وتعالى بما اختصها به أمرها بالشكر فقال : ( يا مريم اقنتي ) أي أخلصي أفعالك للعبادة ) لربك ( الذي عودك الإحسان بأن رباك هذه التربية .
ولما قدم الإخلاص الذي هو روح العبادة أتبعه أشرفها فقال : ( واسجدي ( فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد .
قال الحرالي : وكان من اختصاص هذا الاصطفاء العلي - أي الثاني - ما اختصها من الخطاب بالركوع الذي لحقت به بهذه الأمة الراكعة التي أطلعها الله سبحانه وتعالى من سر عظمته التي هي إزاره على ما لم يطلع عليه أحداً ممن سواها في قوله : ( واركعي مع الراكعين ( كما قال لبني إسرائيل عند الأمر بالملة المحمدية
77 ( ) واركعوا مع الراكعين ( ) 7
[ البقرة : 43 ] - إلى ما يقع من كمال ما بشرت به حيث يكلم الناس كهلاً في خاتمة اليوم المحمدي ، ويكمل له الوجود الإنساني حيث(2/79)
صفحة رقم 80
يتزوج ويولد له - كما ذكر ، ولك كله فيما يشعر به ميم التمام في ابتداء الاسم وانتهائه ، وفيما بين لاتمامين من كريم التربية لها ما يشعر به الراء من تولي الحق لها في تربيتها ورزقها ، وما تشعر به الياء من كمالها الذي اختصت على عالمها - انتهى .
والمراد باتباع قصتها لما مضى التنبيه على انخراطها في سلك ما مضى من أمر آدم ويحيى إفصاحاً ، وإبراهيم في ابنية إلاحة في خرق العادة فيهم ، وأن تخصيصها بالإنكار أو التعجب والتنازع مع الإقرار بأمرهم ليس من أفعال العقلاء ؛ والظاهر أن المراد بالسجود في هذا المقام ظاهره وبالركوع الصلاة نفسها ، فكأنه قيل : واسجدي مصلية ولتكن صلاتك مع المصلين أي في جماعة ، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال ، ولم يقل : مع الراكعات ، لأن الاقتداء بالرجال أفضل وأشرف وأكمل ، وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فهيا الركوع في صلاة إبراهيم عليه السلام ولا من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أتباعهم إلا في موضع واحد لا يحسن جعله فيه على ظاهره ، ورأيته ذكر الصلاة فهيا على ثلاثة أنحاء : الأول إطلاق لفظها من غير بيان كيفية ، والثاني إطلاق لفظ السجود مجرداً ، والثالث إطلاقه مقروناً بركوع أو جثو أو خرور على الوجه ونحو ذلك ؛ ففي السفر الأول منها في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ماتت زوجته سارة رضي الله تعالى وسأل بني حاث أهل تلك الأرض أن يعطوه مكاناً يدفنها فيه فأجابوه : فقام إبراهيم فسجد لشعب الأرض بني حاث وكلمهم ؛ وفيه في قصة ربانية قال : وسجد على الأرض وقال : يا رب - فذكر دعاء ثم قال : وصلى إبراهيم بين يدي الرب ؛ وفيه في قصة عبد لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى بلاد حران يخطب لإسحاق عليه السلام امرأة فظفر بقصده : فجثا الرجل - أي عبد إبراهيم - على الأرض فسجد للرب وقال : تبارك الله رب سيدي إبراهيم ؛ وفيه لما أجابه أهل المرأة : فلما سمع غلام إبراهيم كلامهم سجد على الأرض قدام المرأة ، فسجدوا - أي لعيصوا ، ودنت لنا وولدها فسجدوا ؛ فلما كان أخيراً دنت راحيل ويوسف فسجدوا ؛ وفيه في قصة يوسف عليه السلام : ودنا إخوته فخروا له سجداً وقالوا ل : ها نحن لك عبيد ؛ وفي السفر الثاني عند قدوم موسى عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل وإخباره لهم بإرسال الله سبحانه وتعالى له وإظهاره لهم الآيات : فآمن الشعب وسمعوا في خروجهم من مصر : فركع الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى ؛ وفيه : فاستعجل موسى فخر على وجهه على الأرض ساجداً ؛ وفيه في تلقي موسى عليه السلام لخنته(2/80)
صفحة رقم 81
شعيب عليهما السلام إذ جاءه يهنئه بما أنعم الله عليه بعد غرق فرعون : فخرج موسى يتلقى خنته وسجد له وقبله وسأل كل منهما عن سلامة صاحبه ؛ وفيه : وقال الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام عند ما بشره بقتل الكنعانيين وغيرهم من سكان بلاد والقدس : لا تسجدوا لآلهتهم ولا تعبدوها ولا تفعلوا كأفعالهم - بل كبهم كباً على وجوههم وكسر أصنامهم - واعبدوا الرب إلهكم ، وفي أوائل السفر الثالث في ذكر ظهور مجد الرب لهم في قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها على حياة موسى عليه الصلاة والسلام : وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله سبحانه وتعالى وخر الشعب كله على وجهه ، وفي الرابع عندما هم بنو إسرائيل بالرجوع إلى مصر تضجراً من حالهم : فخر موسى وهارون عليهما السلام على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها ؛ وفيه : وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما : تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها ، فخرا ساجدين على وجوههما ؛ وفيه عندما تذمروا عليه من أجل العطش : فجاء موسى وهارون من عند الجماعة إلى باب قبة الزمان فخرا على وجوههما فظهر لهما مجد الرب - فذكر قصة ضرب الحجر بالعصا وانفجار الماء ؛ وفيه في قصة بلعام بن باعور حين رأى ملكاً في طريقه فجثا على وجهه ساجداً .
وأما إطلاق لفظ الصلاة فقال في آخر لاسفر الثاني : وكان إذا خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى قبة الزمان كان جميع الشعب يقفون ويستعد كل امرىء منهم على باب خيمته ، وينظرون إلى موسى عليه الصلاة والسلام من خلفه حتى يدخل إلى القبة ، وإذا دخل موسى القبة كان ينزل عمود السحاب فيقف على باب القبة ، ويكلم موسى وكان جميع الشعب ينظرون إلى عمود السحاب واقفاً على باب القبة وكان يقف جميع الشعب ويصلي كل امرىء منهم على باب خيمته ؛ وفيه : وعمل سطلاً من نحاس فنصبه عند منظر النسوة اللاتي يأتين فيصلين على باب قبة الأمد .
وكل ما فيها من ذكر الصلاة فهكذا يطلق لفظه غير مقرون بما يرشد إلى كيفية ، فلا فائدة في سرده ؛ وهذا القبة أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه الصلاة والسلام باتخاذها مظهر المجد وأن يجعلها كهيئة الغمام الذي ظهر له مجده تعالى فيه في جبل طور سيناء ، وهي من غرائب الدهر في الارتفاع والسعة والهيئة ، ففيها من الخشب والبيوت والتوابيت والأعمدة والجواهر وصفائح الذهب والفضة والنحاس والسرداقات والستور من الحرير والأرجوان والكتاب والأطناب وغير ذلك مما يكل عنه الوصف ، وكله بنص نم الله سبحانه وتعالى على الطول والعرض والوزن والمحل بحيث إنه كان فيها من صفائح الذهب ومساميره ونحوها تسعة وعشرون قنطاراً وأربعمائة وثلاثون مثقالاً(2/81)
صفحة رقم 82
بمثقال القدس ، ومن الفضة مائة قنطار وألف وسبعمائة وسبعون مثقالاً ، ومن النحاس سبعون قنطاراً وألفان وأربعمائة مثقال ؛ وكانت هذه القبة تنصب في مكان من الأرض وينزل بنو لاوي سبط موسى عليه الصلاة والسلام وهارون حولها يخدمونها بين يدي هارون عليه الصلاة والسلام وبنيه ، ومن دنا منها من غيرهم احترق ، وينزل أسباط بني إسرائيل حولي بني لاوي ، لكل سيط منزلة لا يتعداها من شرقها وغربها وجنوبها وشمالها ، كل ذلك بأم رمن الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام ؛ وكان السحاب يغشاها بالنهار ، وكان النار تضيء عليها بالليل وتزهر ، فما دام السحاب مجللاً لها فهم مقيمون ، فإذا ارتفع عنها كان إذناً في سفرهم .
فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود ، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك حينئذٍ يسمى صلاة ، وإلاّ كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم ، وذلك موافق للغة ، قال في القاموس : سجد : خضع ؛ والخضوع التطأمن ، وأما المكان الذي فيه ذكر الركوع فالظاهر أن معناه : فصلى الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى ، لأن الركوع في اللغة يطلق على معان مناه الصلاة ، يقال : ركع - أي صلى ، وركع - إذا انحنى كبواً ، والراكع من يكبو على وجهه ، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره ، لأنه لا يمكن في حال السجود ، وإن ارتكب فيه تأيول لم يكن بأولى مما ذكرته في الركوع - والله سبحانه وتعالى أعلم ، واحتججت باللغة لأن مترجم النسخة التي وقعت لي في عداد البلغاء ، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها ، على أني سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه ليس فيها ركوع ، ثم رأيت البغوي صرح في تفسير قوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) واركعوا مع الراكعين ( ) 7
[ البقرة : 43 ] بأن صلاتهم لا ركوع فيها ، وكذا بان عطية وغيرهما ولما كان المقصود من ذكر هذه الآيات بيان الخوارق التي كانت لآل عمران من زكريا ويحيى وعيسى وأمه عليهم الصلاة والسلام للمجادلة بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وبيان أن ما أشكل عليهم من أمره ليس خارجاً عن إشكال الخوارق في آله ، وكان الرد على كل طائفة بما تعتقد أولى وجب ذك رذلك من الأناجيل الأربعة الموجودة الآن بين أظهر النصارى : ذكر قصة يحيى عليه الصلاة والسلام في حمله فجعلتها شيئاً واحداً على وجه ألم بعضه بأول أمر المسيح عليه الصلاة والسلام ، قال مترجمها في أول إنجيل لوقا : كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن ، أي حبر إمام ، اسمه زكريا من خدمة آل أبيا ، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات ، وكانا كلاهما(2/82)
صفحة رقم 83
تقيين قدام الله سائرين ي جميع وصاياه وحقوق الرب بغير عيب ، ولم يكن لهما ولد لأن اليصابات كانت عاقراً ، وكانا كلاهما قد طعنا في أيامهما ، فبينما هو يكهن في أيام ترتيب خدمته أما الله كعادة الكهنوت إذ بلغته نوبة وضع البخور فجاء ليبخر ، فدخل إلأى هيكل الله وجميع الشعب يصلون خارجاً في وقت البخور ، فتراءى له ملاك الرب قائماً عن يمين مذبح البخور ، فلام رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف فقال له الملاك : لا تخف يا زكريا قد مسعت طلبتك ، وأمرأتك اليصابات تلد ابناً ، ويدعي اسمه يوحنا ، ويكون لك فرح وتهلل ، وكثير يفرحون بمولده ، يوكون عظيماً قدام الرب ، لا يشرب خمراً ولا سكراً ، ويمتلىء من روح القدس وهو في بطن أمه ، ويعيد كثيراً من بني إسرائيل إلى إلههم ، وهو يتقدم أمامه بالروح وبقوة الياء ، ويقبل بقلوب الآباء على الأبناء والعصاة إلى علم الأبرار ، ويُعد للرب شعباً مستقيماً ، فقال زكريا للملاك : كيف أعلم هذا وأنا شيخ وامرأتي قد طعنت في أيامها ؟ فأجاب الملاك وقال : أنا جبريل الواقف قدام الله ، أرسلت أكلمك بهذا وأبشرك ، ومن الآن تكون صامتاً ، لا تستطيع أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون هذا .
وكان الشعب منتظرين زكريا متعجبين من إبطائه في الهيكل ، فلما خرج لم يقدر يكلمهم ، فعلموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل ، فكان يشير إليهم ، وأقام صامتاً ، فلما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته ، ومن بعد تلك الأيام حملت الياصابات امرأته ، وكتمت حملها خمسة أشهر قائلة : هذا ما صنع بي الرب في الأيام التي نظر إليّ فياه لينزع عني العار بين الناس ، ولما كانت في الشهر السادس أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الملاك من عند الله سبحانه وتعالى إلى مدينة في الجليل تسمى ناصرة إلى عذراء خطيبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود ، واسم العذراء مريم ، فلما دخل إليها الملاك قال لها : افرحي يا ممتلئة نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء ، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت قائلة ما هذا السلام ؟ فقال لها الملاك : لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً ، ويدعى اسمه يسوع ، هذا يكون عظيماً ، وابن العذراء يدعى ، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلأى الأبد ، وللا يكون لملكه انقضاء ، فقالت مريم للملاك : كيف يكون هذا ولا أعرف رجلاً ؟ فأجاب الملاك وقال لها : روح القدس يحل عليك وقوة العلي تقبلك ، فإنه ليس عند الله سبحانه وتعالى أمر عسير ، فقالت مريم : هانذا عبدة الرب فيكون فيّ كقولك ، وانصرف عنها الملاك ، فقامت مريم في تلك الأيام ومضت مسرعة إلى عين كرم إلى مدينة يهودا ، ودخلت إلى بيت زكريا فسلمت على اليصابات ، فلما سمعت(2/83)
صفحة رقم 84
اليصابات صوت سلام مريم تحرك الطفل في بطنها ، فامتلأت اليصابات من روح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت : مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك من أين لي هذا أن يأتي أمر ربي إليّ ، منذ وقع صوت سلامك في أذني تحرك الطفل بتهليل في بطني ، فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من الرب فقالت مريم : تعظم نفسي بالرب ويتهلل روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع عبدته ، وقدوس اسمه ، ورحمته لخائفيه ، صنع القوة بذراعه وفرق المستكبرين بفكر قلوبهم ، أنزل القادرين عن الكراسي ورفع المتواضعين ، أشبع الجياع من الخيرات ، فأقامت مريم عليها السلام عندها نحواً من ثلاثة أشهر وعادت إلى بيتها .
ولما تم زمان اليصابات لتلد ولدت ابناً ، فسمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد أعظم رحمته معها ، ففرحوا لها ، فلما كانت في اليوم الثامن جاؤوا ليختنوا الصبي ودعوه باسم أبيه زكريا فأجاب أمه قائلة : لا ولكن ادعوه يوحنا ، فقالوا لها : ليس أحد في جنسك يدعى بهذا الاسم ، فأشاروا إلى أبيه : ما تريد أن تسميه ؟ فاستدعى لوحاً وكتب قائلاً : يوحنا ، فتعجب جميعهم ، وانفتح فوه قائلاً من ساعته ولسانه ، وتكلم وبارك ، ووقع خوف عظيم على جميع جيرانهم ، وتُحدث بهذا الكلام في جميع تخوم يهودا ، وفكر جميع السامعين في قلوبهم قائلين : ماذا ترى يكون من هذا الصبي ويد الرب كانت معه ، فامتلأ زكريا أبوه من روح القدس وبدأ قائلاً : تبارك الرب إله إسرائيل الذي اطلع وصنع نجاة لشعبه وأقام لنا قرن خلاص من بيت داود فتاه كالذي تكلم على أفواه أنبيائه القديسين من الأبد ، خلاص من أعدائنا ومن يدي كل مبغضاً ، صنع رحمة مع آبائنا ، وذكر عهدة القديس : القسم الذي عهد به لإبراهيم أبينا ليعطينا الخلاص بلا خوف من يدي أعدائنا لنخدمه بالبر والعدل قدامه في كل أيام حياتنا ، وأنت ايها الصبي نبي العلاء تدعى ، واتنطلق قدام وجه الرب لتصلح طريقة ليعطي علم الخلاص لشعبه لمغفرة الخطايا بتحنن ورحمة ، إلهنا الذي افتقدنا شرق من العلو ليضيء للجالس في الظلمة وظلال الموت لتستقيم سبل أرجلنا للسلامة .
فأما الصبي فكان يشب ويتقوى بالروح وأقام في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل ، وفي سنة خمس عشرة من ولاية طيباريوس قيصر وفيلاطوس النبطي على اليهودية وهيرودس رئيس الجليل ، وفيلوس أخوه على ربع الصورية وكورة أبطر حيون وأوساسوس رئيس على ربع الإيليا ، وحنان وقيافا رؤساء الكهنة ، حلت كلمة الله سبحانه وتعالى على يوحنا بن زكريا في البرية فجاء إلى كل البلاد المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا - كا هو مكتوب فس سفر كلام أشعيا النبي - قائلاً : صورت صارخ في(2/84)
صفحة رقم 85
البرية : أعدوا طريق الرب فاصنعوا سبله مستقيمة ، جميع اأودية تمتلىء وجميع الجبال والآكام تتضع ، ويصير الوعر سهلاً والخشنة إلى طريق سهلة ، ويعاين كل ذي جسد خلاص الله سبحانه وتعالى ؛ وفي إنجيل متّى : وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا ويقول : توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات - هذا هو الذي في أشعيا النبي : إذ يقول صوت صارخ ، وقال مرقس : مكتوب في أشعيا النبي : هوذا أنا مرسل ملاكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك ، ثم استغنى صوت صارخ في البرية : أعدوا طريق الرب وسهلوا سبله ، وكان لباس يوحنا وبر الإبل ، ومنطقته جلداً على حقويه ، وكان طعامه الجراد وعسل البر ، حينئذٍ خرجوا إليه من يروشليم ، وكل اليهودية وجميع كور الأردن ، وكان يعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم ؛ وفي مرقس : كان يوحنا يعمد في القفر ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; وكان يخرج إليه جميع كور يهودا وكل يروشليم فيعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم فقال للجمع الذين يأتون غليه ويعتمدون منه : يا ثمرة الأفاعي وفي متى : فلما رأى كثيراً من الفريسيين والزنادقة يأتون إلى معموديته قال لهم : يا أولاد الأفاعي - ثم اتفق هو ولوقا - من دلكم على الهرب من الغضب الآتي ؟ اعملوا الآن ثماراً تليق بالتوبة ولا تقولوا في نفوسكم : إن أبانا إبراهيم ، أقول لكم : إن الله سبحانه وتعالى قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم ها هوذا الفأس موضوع على أصول الشجر ، وكل شجرة لا تثمر ثمرة طيبة تقطع وتلقى في النار ، فسأله الجموع ، ماذا نصنع ؟ أجاب وقال لهم : من له ثوبان فليعط من ليس له ، ومن له طعام فليصنع مثل ذلك ، فأتى العشارون ليعتمدوا منه فقالوا : ماذا نصنع يا معلم ؟ فقال لهم : لا تفعلوا أكثر مما أمرتم به ، وسأله أيضاً الجند قائلين : ماذان نصنع نحن أيضاً ؟ فقال لهم : لا عيبوا أحداً ولا تظلموا أحداً ، واكتفوا بأرزاقكم .
وإن جميع الشعب فكروا في قلوبهم وظنوا أن يوحنا المسيح ، أجابهم يوحنا أجمعين وقال لهم : أما أنا فأعمدكم بالماء للتوبة ، وسيأتي الذي هو أقوى من الذي لا أستحق أن أحل سيور حذائه ؛ وقال متى : لا أستحق أن أحمل حذاءه ؛ وقال مرقس : وكان يبشر قائلاً : الذي يأتي بعدي أوقى مني ، لست أهلاً - أعني لحل سيور حذائه ، أنا أعمدكم بالماء وهو يعمدكم بروح القدس والنار ، الذي بيده المرفش ، ينقي به الذرة ، ويجمع القمح إلى أهرائه ، يوحرق التبن بناء لا تطفأ ، ولا يخبز الشعب ، ويبشرهم بأشياء كثيرة ؛ وفي إنجيل يوحنا : كان إنسان أرسل من الله ، اسمه يوحنا ، جاء للشهادة للنور الذي هو نور الحق الذي يضيء لكل إنسان ، الآتي إلى العالم ، إلى خاصته ، جاء وخاصته لم تقبله ، فأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً ، والكلمة صارت جسداً ، وحل(2/85)
صفحة رقم 86
فينا ، ورأينا مجده مجداً مثل الوحيد الممتلىء نعمة ، وحقاً يوحنا شهد من أجله وصرخ وقال : هذا الذي قلت إنه يأتي بعدي كان قبلي ، لأنه أقدم مني ، ومن امتلائه نحن بأجمعنا أخذنا نعمة من أجل الناموس بموسى أعطى ، والنعمة والحق أوحيا بيسوع المسيح الذي لم يره أحد قط ، الابن الوحيد .
هذه شهادة يوحنا إذا أرسل إليه اليهود من يروشليم كهنة ولاويين - أي ناساً من أولاد لاوي - ليسألوه : من أنت ، فاعترف وأقر أني لست المسيح ، فسألوه : فمن الياء ؟ فقال : لست أنا النبي ، قال : كلا فقالوا له : فمن أنت لنرد الجواب إلى الذين أرسلونا ، ماذا تقول عن نفسك ؟ قال : أنا لاصوت الصارخ في البرية : سهلوا طريق الرب - كما قال أشعيا النبي .
فأما أولئك الذين أرسلوا فكانوا من الفريسيين فقالوا : ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا ألياء ولا النبي ؟ أجابهم يوحنا : أنا أعمدكم بالماء ، وفي وسطكم قائم ذاك الذي ليستم تعرفونه ، الذي يأتي بعدي وهو أقوى مني ، وهو قبلى كان ، ذاك الذي لست مستحقاً أن أحل سيور حذائه .
هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد .
قال لوقا : فأما هيرودس رئيس الربع فكان يوحنا يبكته من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلفوس ولأجل الشر الذي كان هيرودس يفعله ، وزاد على ذلك أنه طرح يوحنا في السجن ؛ وقال مرقس وقد ذكر آيات أظهرها المسيح : وسمع هيرودس الملك وقال : إن يوحنا المعمدان قام من الأموات ، ومن أجل تلك القوات يعمل ، وقال آخرون : إنه ألياء ، وآخرون : إنه نبي كواحد من الأنيباء ، فلما سمع هيرودس قال : أنا قطعت راس يوحنا ؛ وفي متى : وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه : هذا هو يوحنا المعمدان ، وهو قام من الأموات ، من أجل هذه القوات يعمل ، وكان هيرودس قد أمسك يوحنا وشده وجعله في السجن ، وقال مرقس : وحبسه من أجل هيروديا امرأة فيلفوس ، لأنه كان قد تزوجاه وقال له يوحنا : ما يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك ، وكانت هيروديا حنقة عليه تريد قتله ، ولم تقتله لأن هيرودس كان يخاف من يوحنا ، لأ ، ه يعلم أنه رجل صديق قديس ويحفظه ويسمع منه كثيراً بشهوة ، وكان في يوم من الزمان وافى هيرودس مولود ، فصنع وليمة لعظمائه ورؤسائه ومقدمي الجليل ، ودخلت ابنة هيروديا فرقصت ، فوافق ذلك هيرودس وجلساءه ، فقال الملك للصبية : سلي ما أردت فأعطيك وحلف لها أني أعطيك ما سألت ولو كان نصف ملكي ، فخرجت وقال لأمها : أي شيء أسأله ؟ فقالت : رأس يوحنا المعمدان ، فرجعت للوقت بسرعة إلى الملك وسألت يوحنا على طبق ، فحزن الملك ، ومن أجل اليمين ولامنكبين لم ير منعها ، فأنفذ سيافاً من ساعته وأمر أن يؤتى برأسه في طبق ، (2/86)
صفحة رقم 87
فمضى وقطع رأسه في الحبس وجاء به في طبق وأعطاه للصبية ، فأخذته الصبية ودفعته لأمها ؛ وسمع تلاميذه فجاؤوا ورفعوا جثته وجعلوها في قبر ؛ قال متى : وجاء تلاميذه إلى البرية مفرداً ، فسمع الجمع فتبعوه ماشين من المدن ، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ اعلاءهم ومرضاهم انتهى .
آل عمران : ( 44 - 50 ) ذلك من أنباء. .. . .
) ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( ( )
ولما أتى نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الأخبار الغريبة المحررة العجيبة التي لا يعرفها على وجهها إلا الحذاق من علماء بني إسرائيل كان من حق سامعها أن يتنبه من غفلته ويستيقظ من رقدته ، لأنها منبهة بنفسها للمنصف الفطن على أن الآتي بها - والسامع خبير بانه لم يخالط عالماً قط - صادقاً لا مرية في صدقه في كل ما يدعيه عن الله سبحانه وتعالى ، وكان من حق من يتنبه أن يبادر لى الإذعان فيصرح بالإيمان ، فلام لم يفعلوا التفت إلى تنبيه الغبي وتبكيت العتي فقال : ( ذلك ) أي الخطاب العلي المقام الصادق المرام البديع النظام ) من أنباء الغيب نوحيه ) أي نجدد إيجاءه في أمثاله ) ما كنت ( ولما كان هذا مع يجوز أن تكون الجملة حالاً تقديرها : ( و ( الحال أنك ) ما كنت ( ولما كان هذا مع كونه من أبطن السر هو من أخفى العلم عبر فيه بلدي لما هو في أعلى رتب الغرابة كما تقدم في قوله : ( هو من عند الله ( وكررها زيادة في تعظيمه وتنبيهاً على أنه مما يستغرب(2/87)
صفحة رقم 88
جداً حتى عند أهل الاصطفاء فقال : ( لديهم ( قال الحرالي : لدى هي عند حاضرة لرفعة ذلك الشيء الذي ينبأ به عنه - انتهى .
) إذ يلقون ( لأجل القرعة - ) أقلامهم ( قال الحرالي : جمع قلم ، وهو مظهر الآثار المنبئة عما وراءها من الاعتبار - انتهى ) أيهم ) أي يستهمون أيهم ) يكفل مريم ) أي يحضنها ويربيها تنافساً في أمرها لما شرفها الله تعالى به ) وما كنت لديهم إذ ) أي حين ) يختصمون ) أي في ذلك حتى نقصّ مثل هذه الأخبار على هذا الوجه السديد - يعني أنه لا وجه لك إلى علم ذلك حتى نقصّ مثل معهم إذ ذاك ، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب ، أو بوحي منا ؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت ، لشهرتك بالنشأة أمياً مباعداً للعلم والعلماء حتى ما يتفاخر به قومك من السجع ومعاناة الصوغ لفنون الكلام على الوجوه الفائقة ، فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا ، وجعل هذا التنبيه في نحو وسط هذا القصص ليكون السامع على ذكر مما مضى ويلقي السمع وهو شهيد لما بقي ، وجعله بعد الافتتاح بقصة مريم عليها السلام تنبيهاً على عظم شأنها وأنها المقصودة بالذات للرد على وفد نصارى نجران ، وكأنه أتبع التنبيه ما كان في أول القصة من اقتراعهم بالأقلام واختصامهم في كفالتها لخفائه إلى على خواص أهل الكتاب ، هذا مع ما في مناسبة الأقلام للبشارة بمن يعلمه الكتاب ، واستمر في إكمال المقال على ذلك الأسلوب الحكيم حتى تمت الحجة واستقامت المحجة فقال تعالى مبدلاً من إذ الأولى إيذاناً بأن ما بيناه اعتراض لما نبه عليه من شريف الأغراض : ( إذ قالت الملائكة يا مريم ( ولما كانت هذه السوةر سورة التوحيد المقتضي للتفرد بالعظمة عبر ما صدرت به من اسم الذات الجامع لجميع الصفات فقال : ( إن الله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ، فلا راد لأمره ) يبشرك ( وكرر هذا الاسم الشريف في هذا المقام زيادة في إيضاح هذا المرام بخلاف ما يأتي في سورة مريم عليها السلام ، وقوله : ( بكلمة ) أي مبتدئة ) منه ( من غير واسطة أب هو من تسمية المسبب باسم السبب ، والتعبير بها أوفق لمقصود السورة وأنفى لما يدعيه المجادلون في أمره ، ثم بين أنه ليس المراد بالكلمة حقيقتها ، بل ما يكون عنها ويكون فعالاًَ بها فقال مذكراً للضمير : ( اسمه ) أي الذي يتميز به عمن سواه مجموع ثلاثة أشياء : ( المسيح ( أصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم : من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والمزايا الفاضلة مباركاً ، فدل سبحانه وتعالى على أن عيسى عليه الصلاة والسلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يُمسَح ؛ وأما وصف الدجال بذلك فإما أن يكون لما كان هلاكه على يد عيسى عليه الصلاة واسلام وصف بوصفه - من باب التسمية(2/88)
صفحة رقم 89
بالضد ، وإما أن يكون إشارة إلى أنه ملازم للنجاسة فهو بحيث لا ينفك - ولو مسح - عن الاحتياج إلى التطهير بالمسح من الدهن الذي يمسح به المذنبون ومن كان به برص ونحوه فيبرأ - والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما وصفه بهذا الوصف الشريف ذكر اسمه فقال ) عيسى ( وبين أنه يكون منها وحدها من غير ذكر بقوله موضع ابنك : ( ابن مريم ( وذلك أنفى لما ضل به من ضل في مره ، وأوضح في تقرير مقصود السورة وفي تفخيم هذا الذكر بجعله نفس الكلمة وبإبهامه أولاً ثم تفسيره ، وقوله : ( اسمه ( تعظيم لقدره وبيان لفضله على يحيى عليهما السلام حيث لم يجعل له في البشارة به مثل هذا الذكر ، ثم أتم لها البشارة بأوصاف جعلها أحوالاً دالة على أنه يظهر اتصافه بها حال الولادة تحقيقاً لظهور أثر الكلمة عليه فقال : ( وجيهاً ( قال الحرالي : صيغة مبالغة مما منه الوجاهة ، وأصل معناه الوجه وهو الملاحظ المحترم بعلو ظاهر فيه - انتهى ) في الدنيا ( ولما كان ذلك قد لا يلازم الوجاهة بعد الموت قال : ( والآخرة ( ولما كانت الوجاهة ثمَّ مختلفة ذكر أعلاها عاطفاً بالواو إشارة إلى تمكنه في الصفات فقال : ( ومن المقربين ( ي عند الله .
ولما كان ذلك قد لا يقتضي خرق العادات قال : ( ويكلم الناس ) أي من كلمه من جميع هذا النوع ، بأي لسان كان كلمه ، حال كونه ) في المهد ( قال الحرالي : هو موطن الهدوء والسكون للمتحسس اللطيف الذي يكون بذلك السكون والهدو قوامه - انتهى .
وبشرها بطول حياتها بقوله : ( وكهلاً ) أي بعد نزوله من السماء في خاتمة اليوم المحمدي ، ويكون كلامه في الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت .
قال الحرالي : والكهولة سن من أسنان أرابيع الإنسان ، وتحقيق حده أنه الربع الثالث الموتر لشفع متقدم سنيه من الصبا والشباب فهو يخر عمره ، يكون فيمن عمره ألف شهر - بضع وثمانون سنة - من حد نيف وأربعين إلى بضع وستين ، إذا قسم الأرباع لكل ربع إجدى وعشرون سنة صباً ، وإحدى وعشرون شباباً ، وإحدى وعشرون كهولة ، وإحدى وعشرون شيوخة ، فذلك بضع وثمانون سنة - انتهى .
وهذا تحقيق ما اختلف من كلام أهل اللغة ، وقريب منه قول الإمام أبي منصور عبد الملك بن أحمد الثعالبي في الباب الرابع عشر من كتابه فقه اللغة : ثم ما ادم بين الثلاثين والأربعين فهو شاب ، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين ؛ ويقال : شاب الرجل ، ثم شمط ، ثم شاخ ، ثم كبر -(2/89)
صفحة رقم 90
انتهى .
والكهل - قال أهل اللغة - مأخوذ من : اكتهل النبات - إذا تم طوله قبل أن يهيج ، وكلام الفقهاء لا يخالفه ، فإن مبناه العرف ، فالنص على كهولته إشارة لأمه بأنه ممنوع من أعدائه إذا قصدوه ، وتنبيه على أن دعواهم لصلبه كاذبة .
ولما كانت رتبة الصلاح في غاية العظمة قال مشيراً إلى علو مقدارها : ( ومن الصالحين ( ومعلماً بأناه محيطة بأمره ، شاملة لآخر عمره ، كما كانت مقارنة لأوله ، وكأنها لما سمعت ذلك امتلأت تعجباً فاستخفها ذلك إلى الاستعجال بالسؤال قبل إكمال المقال بأن ) قالت رب ( أيها المحسن إلى ) أنّى ) أي من أين وكيف ) يكون لي ( ولما كان استبعادها لملطق الحبل ، لا بقيد كونه ذكراً كما في قصة زكريا عليه السلام قالت ) ولداً ( وقالت : ( ولم يمسسني بشر ( لفهمها ذلك من نسبته إليها فقط .
قال الحرالي : والبشر هو اسم المشهود من الآدمي في جملته بمنزلة الوجه في أعلى قامته ، من معنى البشرة ، وهو ظاهر لاجلد انتهى ( ولعل هذا الكلام خطر لها ولم تلفظ به فعلم الملك عليه لاسلام أنه شغل فكرها فأجابها عنه لتفريغ الفهم بأن ) قال كذلك ) أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن العالم الرتبة يكون ما بشرتك به ) ولما كان استبعادها لمطلق التكوين من غير سبب أصلاً عبر في تعليل ذلك بالخلق فقال : ( الله ) أي الملك الأعظم الذي لا اعتراض عليه ) يخلق ) أي يقدر ويصنع ويخترع ) ما يشاء ( فعبر بالخلق إشارة إلى أن العجب فيه لا في مطلق الفعل كما في يحيى عليه السلام من حعل الشيخ كالشاب ، ثم علل ذلك لبما بين سهولته فقال : ( اذا قضى أمراً ) أي جل أو قل ) فإنما يقول له كن فيكون ( بياناً للكلمة ، فلما أجابها عما شغل قلبها من العجب فتفرغ الفهم أخذ في إكمال المقال بقوله عطفاً علي ) ويكلم الناس ( بالياء كما قبله في قراءة نافع وعاصم ، وبالنون في قراءة الباقين نظراً إلى العظمة إظهاراً لعظمة العلم : ( ويعلمه ( أو يكون الكتاب فيشمل ذلك معرفة الكتاب وحفظه وفهمه وغير ذلك من امره ) والحكمة ) أي العلوم الإلهية لتفيده تهذيب الأخلاق فيفيض عليه قول الحق وفعله على أحكم الوجوه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء مما يبرمه .
ولما وصفه بالعلوم النظرية والعملية فصار متأهلاً لأسرار الكتب الإلهية قال : ( والتوراة ) أي التي تعرفيها ) والإنجيل ( بإنزاله عليه تالياً لهما ، وتأخيره في الذكر الشرط فيقتضي اتصاف كل مقضي بهذه الأوصاف كلها .
ولما ذكر الكتاب المنزل عليه حسن ذكر الرسالة فقال بعد ما أفاد عظمتها بجعله ما(2/90)
صفحة رقم 91
مضى مقدمات لها : ( ورسولاً ( عطفاً على ( تالياً ) المقدر ، أو ينصب بتقدير : يجعله ) إلى بني إسراءيل ) أي بالإنجيل .
ولما كان ذكر الرسالة موجباً لتوقع الآية دلالة على صحتها ، وكان من شأن الرسول مخاطبة المرسل إليهم وإقباله بجميع رسالته عليهم اتبعه ببيان الرسالة مقروناً بحرف التوقع فقال : ( أني ) أي ذاكراً أني ) قد جئتكم بآية من ربكم ) أي الذي طال إحسانه إليكم ، ثم أبدل من ( آية ) ) إني أخلق لكم ) أي لأجل تربيتكم بصنائع الله ) من الطين ( قال الحرالي : هو متخمر الماء والتراب حيث يصير متهيئاً لقبول وقع الصورة فيه ) كهيئة ( وهي كيفية وضع أعضاء الصورة بعضها من بعض التي يدركها ظاهر الحسن - انتهى وهي الصورة المتهيئة لما يراد منها ) الطير ( ثم ذكر احتياجه في إحيائه إلى معالجة بقوله معقباً للتصوير : ( فأنفخ ( قال الحرالي : من النفخ ، وهو إرسال الهواء من منبعثه بقوة انتهى .
) فيه ) أي في ذلك الذي هو مثل الهيئة ) فيكون طيراً ) أي طائراً بالفعل - كما في قراءة نافع ، وذكر المعالجة لئلا يتوهم أنه خالق حقيقة ، ثم أكد ذلك إزالة لجميع الشبه بقوله : ( بإذن الله ) أي بتمكين الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال ، له روح كامل لحمله في الهواء تذكيراً بخلق آدم عليه السلام من تراب ، وإشارة إلى أن هذا أعجب من خلق آدمي من أنثى فقط فلا تهلكوا في ذلك .
ولما ذكر ما يشبه أمر آدم عليه السلام أتبعه علاج أجساد أولاده بما ردها إلى معتادها بما يعجز أهل زمانه ، وكان الغلب عليهم الطب وبدأ بأجزائها فقال : ( وأبرىء ( قال الحرالي : من الإبراء وهو تمام التخلص من الداء ، والداء ما يوهن القوى ويغير الأفعال العامة للطبع والاختيار - انتهى .
) الأكمه والأبرص ( بإيجاد ما فقد نمهاما من الروح المعنوي ؛ والكمه - قال الحرايل - ذهاب البصر في اصل معناه : تلمع الشيء بلمع خلاف ما هو عليه ، ومنه براص الأرض - ليقع لا نبت فيها ، ومنه البريص في معنى البصيص ، فما تلمع من الجلد على غير حاله فهو لذلك برص وقال الحرالي : البرص عبارة عن سور مزاج يحصل بسببه تكرج ، أي فساد بلغم يضعف القوة المغيرة عن إحالته إلى لون الجسد - انتهى .
ولما فرغ من رد الأرواح إلى جزاء الجسم أتبعه رد الروح الكامل في جميعه المحقق لأمر البَعث المصور له بإخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة في بعض الآدميين فقال : ( وأحي الموتى ( ي برد أرواحهم إلى أشباحهم ، بعضهم بالفعل وبعضهم بالقوة ، لأن الذي أقدرني على البعض قادر على ذلك في الكل ، وقد أعطاني(2/91)
صفحة رقم 92
قوة ذلك ، وهذاكما نقل القضاعي أن الحسن قال : ( أتى رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر أنه طرح بنيّة له في وادي كذا ، فمضى معه إلى الوادي وناداها باسمها : يا فلانة أجيبي بإذن الله سبحانه وتعالى فخرجت وهي تقول : لبيك وسعديك فقال لها : إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أردك إليهما ، فقالت : لا حاجة لي بهما ، وجدت الله خيراً لي منهما ) وقد تقدم في البقرة عند
77 ( ) أرني كيف تحيي الموتى ( ) 7
[ البقرة : 260 ] ما ينفع هنا ، وقصة قتادة ابن دعامة في رده ( صلى الله عليه وسلم ) عينه بعد أن أصابها سهم فسالت على خده ، فصارت أحسن من أختها شهيرة ، وقصة أويس القرني رحمه الله تعالى في إبراه الله سبحانه وتعالى له من البرص ببرّه لأمه كذلك .
ولما كان ذلك من أمر الإحياء الذي هو من خواص الإلهية وأبطن آيات الملكوتيه ربما أورث لبساً في أمر الإله تبرأ منه ورده إلى من هو له ، مزيلاً للبس وموضحاً للأمر وتمكينه ، ثم أتبعه ما هو من جنسه في الإخراج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فقال : ( وأنبئكم ) أي من الأخبار الجليلة من عالم الغيب ) بما تأكلون ) أي مما لم أشاهده ، بل تقطعون بأني كنت غائباً عنه ) وما تدخرون ( ولما كان مسكن الإنسان أعز البيوت عنده وأخفى لما يريد أن يخفيه قال : ( في بيوتكم ( قال الحرالي : من الادخار : افتعال من الدخرة ، قلب حرفاه الدال لتوسط الدال بين تطرفهما في متقابلي حالهما ؛ والدخرة ما اعتنى بالتمسك به عدة لما شأنه أن يحتاج إليه فيه ، فما كان لصلاح خاصة الماسك فهو اجخار ، وما كانت لتكسب فيما يكون من القوام فهو احتكار - انتهى .
ولما ذك رهذه الخوارق نبه على أمرها بقوله : ( إن في ذلك ) أي الأمر العظيم(2/92)
صفحة رقم 93
) لآية لكم ) أي أيها المشاهدون على أني عبد الله ومصطفاه ، فلا تهلكوا في تكويني من أنثى فقط فتطروني ، فإني لم أعمل شيئاً منها إلا ناسباً له إلى الله سبحانه وتعالى وصانعاً فيه ما يؤذن بالحاجة المنافية للإلهية ولو بالدعاء ، وأفرد كاف الخطاب أولاً لكون ما عده ظاهراً لكل أحد على انفراده أنه آية لجميع المرسل إليهم ، وكذا جمع ثانياً قطعاً لتعنت من قد يقول : إنها لا تدل إلا باجتماع أ ، ظار جميعهم - لو جمع الأول ، وإنها ليست آية لكلهم بل لواحد منهم - لو وحد في الثاني ، ولما كانت الآيات لا تنفع مع المعاندات قال : ( إن كنتم مؤمنين ) أي مذعنين بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يريد ، وأهلاً لتصديق ما ينبغي التصديق به .
زلما كان ترجمة ) إني قد جئتكم ( آتياً إليكم بآية كذا ، مصدقاً بها لما أتيت به ، عطف على الحال المقدر منه تأكيداً لأنه عبد الله قوله : ( ومصدقاً لما بين يدي ) أي كان قبل إتياني إليكم ) من التوراة ) أي المنزلة على أخي موسى عليه الصلاة والسلام ، لأن القبلية تقتضي العدم الذي هو صف المخلوق ؛ أو يعطف على ) بآية ( إذا جعلنا الباء للحال ، لا للتعدية ، أي وجئتكم مصحونباً بآية ومصدقاً .
ولما ذكر التوراة أتبعها ما يدل على أنه ليس كمن بينه وبين موسى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في إقرارها كلها على ما هي عليه وتحديد أمرها على ما كان زمن موسى عليه الصلاة والسلامن بل هو مع تصديقها ينسخ بعضها فقال : ( ولأحل ) أي صدقتها لأحثكم على العمل بها ولأحل ) لكم بعض الذي حرم عليكم ) أي فيها تخفيفاً عليكم ) وجئتكم ( آية ليس مكرراً لتأكيد : ( أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين ( على ما توهم ، بل المعنى - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أتاهم بهذه الخوارف التي من جملتها إحياء الموتى ، وكان من المقرر عندهم - كما ورد في الأحاديث الصحيحة - التحذير من الدحال ، وكان من المعلوم من حاله أنه يأتي بخوارق ، منها إحياء ميت ويدعى الإلهية ، كان من الجائز أن يكون ذلك سبباً لشبهة تعرض لبعض الناس ، فختم هذا الدليل على رسالته بما هو البرهان الأعظم على عبوديته ، وذلك مطابقته لما دعا إليه الأنياء والمرسلون كلهم من إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى فقال : وجئتكم ) بآية ) أي عظيمة خارقة للعادة ) من ( عند ) ربكم ) أي المحسن إليكم بعد التفرد بخلقكم ، وهي أجل الأمارات وأدلها على صدقي في رسالتي ، هو عدم تهمتي بوقوع شبهة في عبوديتي .
ولما تقرر بذكر الآية مرة بعد مرة مع ما أفادته من تأسيس التفصيل لأنواع الآيات تأكيد رسالته تلطيفاً لطباعهم الكثيفة ، فينقطع منها كانت ألفته في الأزمان المتطاولة من(2/93)
صفحة رقم 94
العوائد الباطلة سبب عن ذلك ما يصرح بعبوديته أيضاً فقال مبادراً للإشارة إلى أن الأدب مع المحسن آكد والخوف منه أحق وأوجب لئلا يقطع إحسانه ويبدل امتنانه ) فاتقوا الله ) أي الذي له الأمر كله ) وأطيعون ) أي في قبولها فإن التقوى مستلزمة لطاعة الرسول .
آل عمران : ( 51 - 58 ) إن الله ربي. .. . .
) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( ( )
ولما كان كأنه قيل : ما تلك الآية التي سميتها ( آية ) بعد ما ئجت به من الأشياء الباهرة قال : ( إن الله ( الجامع لصفات الكمال ) ربي وربكم ) أي خالقنا ومربينا ، أنا وأنتم في ذلك شرع واحد ، وقراءة من فتح ) إن ( أظهر في المراد ) فاعبدوه هذا ) أي الذي دعوتكم إليه ) صراط مستقيم ( أنا وأنتم فيه سواء ، لا أدعوكم إلى شيء إلا كنت أول فاعل له ، ولا أدعي أني إله ولا أدعو إل عبادة غير الله تعالى كما يدعي الدجال ويغره من الكذبة الذين تظهر الخوارق على أيديهم امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده فيجعلونها سبباً للعلو في الأرض والترفع على النسا ، وجاء بالتحذير منهم وتزييف أحوالهم الأنبياء ، وإلى هذا يرشد قول عيسى عليه السلام فيما سيأتي عن إنجيل يوحنا أن من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه ، فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم ؛ وإلى مثل ذلك أرشدت التوراة فإنه جعل العلامة على صدق الصادق وكذب الكاذب الدعوة ، فمن كانت دعوته إلى الله سبحانه وتعالى وجب تصديقه ، من كذبه هلك ، ومن دعا إلى غيره وجب تكذيبه ، ومن صدقه هلك ؛ قال في السفر الخامس منها : وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ، ولا يوجد فيكم من يقبر ابنه أو ابنته في النار نذراً للأصنام ، ولا من يطلب تعليم العرافين ، ولا من يأخذ بالعين ، ولا يوجد فيكم من يتطير طيرة ، ولا ساحر ، ولا من يرقى رقية ، ولا من ينطلق إلى العرافين والقافة فيطلب إليهم ويسألهم(2/94)
صفحة رقم 95
عن الموتى ، لأن كل من يعمل هذه الأعمال هو نجس بين يدي الله ربكم ، ومن أجل هذه النجاسة يهلك الله هذه الشعوب من بين أيديكم ؛ ولكن كونوا متواضعين مخبتين أما الله ربكم ، لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين ، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم ، بل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي كما أطعتم الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم : لا نسمع صوت الله ربنا ولا نعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت ، فقال الرب : ما أحسن ما تكلموا سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك وأدري قولي فيه ويقول لهم ما آمره به ، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكم باسمي أنا أنتقم منه ، فأما النبي الذي يتكلم ويتجرأ باسمي ويقول ما لم آمره أن يقوله ويتكلم بأسماء الآلهة الأخرى ليقتل ذلك النبي ، وإن قلتم في قلوبكم : كيف لنا أن نعرلف القول الذي لم يقله الرب ، إذا تكلم ذلك النبي باسم الرب فلم يكمل قوله : ولم يتم فلذلك القول لم يقله الرب ولكن تكلم ذلك النبي جراءة وصفاقة وجه ، فلا تخافوه ولا تفزعوا منه ؛ وقال قبل ذلك بقليل : وإذا أهلك الله الشعوب التي تنطلقون إليها وأبادهم م نبين أيديكم وورثتموهم وسكنتم أرضهم ، احفظوا ، لا تتبعوا آلهتهم من بعد ما يلهكهم الله من بين أيديكم ، ولا تسألوا عن آلهتهم ولا تقولوا : كيف كانت هذه الشعوب تعبد آلهتها حتى نفعل نحن مثل فعلها ؟ ولا تفعلوا مثل فعالها أمام الله ربكم ، لأنهم عملوا بكل ما أبغض الله وأحقروا بنيهم وبناتهم لآلهتهم ، ولكن القول الذي آمركم به إياه احفظوا وبه اعملوا لا تزيدوا ولا تنقصوا منه شيئاً فإن قام بينكم نبي أو من يفسر أحلاماً وعمل آية أو عجيبة ويقول : اقبلوا بنا نعبد الآلهة الأخرى التي لا تعرفونها ونتبعها - لا يقبل قول ذلك النبي وصاحب الأحلام ، لأنه إنما يريد ، أن يجربكم ليعلم هل تحبون الله ربكم ، احفظوا وصاياه واتقوا واسمعوا قوله وابعدوه والحقوا به ، فأما ذلك النبي وذلك الذي تحلّم الأحلام فليقتل ، لأنه نطق بإثم أمام الله ربكم الذي أمركم الله ربكم أن تسيروا فيه ، واستأصلوا الشر من بينكم ، وإن شوقك أخوك ابن أمط وأبيك أو ابنتك أو حليلتك أو صديقك ويقول لك : هلم بنا نبتع الآلهة الأخرى التي لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آهلة الشعوب التي حولكم - القريبة منكم والبعيدة - ومن أقطار الأرض إلى أقصاها - لا تقبل قوله ولا تطعه ولا تشفق عليه ولا ترحمه ولا تلتمّ عليه ولا تتعطف عليه ، ولكن اقتله قتلاً ، وابدأ به أنت قتلاً ، ثم يبدأ به جميع الشعوب ، وارجموه بالحجارة وليمت ، لأنه أراد أن يضلك عن عبادة الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر وخلصك من العيودية ، ويسمع بذلك جميع بني إسرائيل ، ويفزعون فلا يعودوا أن(2/95)
صفحة رقم 96
يعملوا مثل هذا العمل السوء بينكم ، وإذا سمعتم أن في قرية من القرى التي أعطاكم الله قوماً قد ارتكبوا خطيئة وأضلوا أهل قريتهم وقالوا لهم ننطلق فنعبد آلهة أخرى لم تعرفوها ، ابحثوا نعماً وسلوا حسناً ، إن كان القول الذي بلغكم يقيناً وفعلت هذه النجاسة في تلك القرية اقتلوا أهل تلك القرية بالسيف ، واقتلوا كل من فيها من النساء والصبيان والبهائم بالسيف ، واجمعوا جميع نهبها خارج القرية وأحرقوا القرية بالنار وأحرقوا كل نهبها أما الله ربكم ، وتصير القرية تلاً خراباً إلى الأبد ولا تبنى أيضاً ، ولا يلصق بأيديكم من خرابها شيء ليصرف الرب غضبه عنكم وعيطف عليكمن ويفيض رحمته عليكم ويجيبكم ويرحمكم ويكثركم كما قال لآبائكم ؛ هذا إن أنتم سمعتم قول الله ربكم ، وحفظتم وصاياه التي أمرتكم بها اليوم ، وعملتم الحسنات أمام الله ربكم ، فإذا فعلتم هذا صرتم لله ربكم ، لا تأثموا ولا تصيروا شبه الوحش ولا تخدشوا وجوهكم وبين أعينكم على الميت ، لأنكم شعب طاهر لله ربكم ، وإياكم اختار الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً أفضل من جميع شعوب الأمم - انتهى .
فقد تبين من هذا كله أن عيسى عليه الصلاة والسلام مصدق للتوراة في الدعاء إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وأن الآية الكبرى على صدق النبي الحق اختصاصه الله تعالى بالدعوة وتسويته بين نفسه وجميع من يدعوه في الإقبال عليه والتعبد له والتخشع لديه ، وأن الآية عل كذب الكاذب دعاؤه إلى غير الله ؛ وفي ذلك وأمثاله مما سيأتي عن الإنجيل في سورة النساء تحذير من الدجال وأمثاله ، فثبت أنالمراد بالآية في هذه الآية ما قدمته من الإخبار بأن الله سبحانه وتعالى رب الكل والأمر بعبادته ، وهذا كما يأتي من أمر الله سبحانه وتعالى لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى :
77 ( ) قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ( ) 7
[ آل عمران : 64 ] إلى قوله :
77 ( ) ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ( ) 7
[ آل عمران : 64 ] ولما ختم سبحانه وتعالى هذه البشارة بالآية القاطعة القويمة الجامعة ، وكان قوله : في أول السورة ) يصوركم في الأرحام كيف يشاء ( وقوله هنا ) يخلق ما يشاء ( مغنياً عن ذكر حملها ، طواه وأرشد السياق حتماً إلى أن التقدير : فصدق الله فيما قال لها ، فحملت به من غير ذكر فولدته - على ما قال سبحانه وتعالى - وجيهاً وكلم الناس في المهد وبعده ، وعلمه الكتاب والحكمة وأرسله إلى بني إسرائيل ، فأتم لهم الدلائل ونفى الشبه على ما أمره به الذي أرسله سبحانه وتعالى وعلموا أنه ناسخ لا مقرر ، فتابعه قوم وخالفه آخرون فغطوا جميع الآيات وأعرضوا عن الهدى والبينات ، ونصبوا له الأشراك والحبائل وبغوه الدواهي والغوائل ، فضلوا على علم وظهر منهم الكفر البين واعوجوا عن الصراط المستقيم عطف عليه قوله مسلياً لهذا النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فلما أحس ( قال(2/96)
صفحة رقم 97
الحرالي : من الإحساس وهو منال الأمر بادراً إلى العم والشعور الوجداني - انتهى ) عيسى منهم الكفر ) أي علمه علم من شاهد الشيء بالحس ورأى مكرهم على ذلك يتزايد وعنادهم يتكاثر بعد أن علم كفرهم علماً لا مرية فيه ، فاستغاث بالأنصار وعلم أن منجنون الحرب قد دار ، فعزم على إلحاقهم دار البوار ) قال من أنصاري ( ولما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره عبر عن ذلك بصلة دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة فقال : ( إلى ) أي سائرين أو واصلين معي بنصرهم إلى ) الله ) أي الملك الأعظم ) قال الحواريون ( قال الحرالي : جمع حواري وهو المستخلص نفسه في نصرة من تحق نصرته با كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص لا كدر فيه ولا شوب - انتهى .
وهو مصروف لأن ياءه عارضة ) نحن أنصار الله ) أي الذي أرسلك وأقدرك على ما تأتي به من الآيات ، فهو المحيط بكل شيء عزة وعلماً ، ثم صححوا النصرة وحققوا بأن عللوا بقولهم : ( آمنا بالله ) أي على ما له من صفات الكمال ، ثم أكدوا ذلك بقولهم خاطبين لعيسى عليه الصلاة والسلام رسولهم أكمل الخق إذ ذاك : ( واشهد بأنا مسلمون ) أي منقادون لجميع ما تأمرنا به كما هو حق من آمن لتكون شهادتك علينا أجدر لثباتنا ولتشهد لنا بها يوم القيامة .
ثم لما خاطبوا الرسول أدباً ترقوا إلى المرسل في خطابهم إعظاماً للأمر وزيادة في التأكيد فقالوا مسقطين لأداة النداء استحضاراً لعظمته بالقرب لمزيد القدرة وترجي منزلة أهل الحب : ( ربنا آمنا بما أنزلت ) أي على ألسنة رسلك كلهم ) واتبعنا الرسول ( الآتي ) مع الشاهدين ) أي الذي قدمت أنهم شهدوا لك بالوحدانية مع الملائكة ، ولعله عقب ذلك بقوله : ( ومكروا ( المعطوف على قوله : ( قال من أنصاري إلى الله ( بالإضمار الصالح لشمول كل من تقدم له ذكر إشارة إلى أن التمالؤ عليه يصح أن ينسب إلى المجموع من حيث هو مجموع ، أما مكر اليهود فمشهور ، وأما الحواريون الاثنا عشر فنقض أحدهم وهو الذي تولى كبر الأمر وجر اليهود إليه ودلهم عليه - كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة النساء ، وترتيب المكر على الشرط يفهم أنهم لما علموا إحساسه بفكرهم خافوا غائلته فأعملوا الحيلة في قتله .
والمكر - قال الحرالي - إعمال الخديعة والاحتيال في هدم بناء ظاهر كالدنيا ، والكيد أعمال الخدعة والاحتيال في هدم بناء باطن كالتدين والتخلق وغير ذلك ، فكان المكر خديعة حس والكيد خديعة معنى - انتهى .
ثم إن مكرهم تلاشى واضمحل بقوله : ( ومكر الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً .(2/97)
صفحة رقم 98
ولما كان المقام لزيادة العظمة أظهر ولم يضمر لئلا يفهم الإضمار خصوصاً من جهة ما فقال : ( والله ) أي والحال أنه الذي له هذا الاسم الشريف فلم يشاركه فيه أحد وذلك عند مجيء الدجال بجيش اليهود فيكون أنصاره الذين سألهم ربه هذه الأمة تشريفاً لهم ، ثم ين ما فعله بهم من القضاء الذي هو على صورة المكر في كونه أذى يخفى على المقصود به بأنه رفعه إليه وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه وإنما صلبوه أحدهم ، ويقال : إنه الذي دلهم ، وأما هو عليه الصلاة والسلام فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضرب عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذى طلبوا به العز إلى آخر الدهر فكان تدميرهم في تدبيرهم ، وذلك أخفى الكيد فقال تعالى مخبراً عن ذلك على وجه مبشر له بأنه عاصمه من أن يقتلوه ومميته حتف أنفه : ( إذ ) أي مكر حين ) قال الله ) أي ما له من التفرد بصفات الكمال ) ياعيسى إني متوفيك ( وعبر عن ذلك بطريق الكناية الإيمائية فإن عصمته من قتل الكفار ملزومة للموت حتف الأنف ، وأما قول الزمخشري : أي مستوفى أجلك ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم - ليكون كناية تلويحية عن العصمة من القتل لأنها ملزومة لتأخيره إلى الأجل المكتوب والتأخير ملزوم للموت حتف الأنف - فلا ينبغي الاغترار به لأنه مبني على مذهب الاعتزال من أن القاتل قطع أجل المقتول المكتوب ، وكأن القاضي البيضاوي لم يتفطن له فترجم هذه العبارة بما يؤديها ؛ ويجوز أن يكون معنى متوفيك : آخذك إليّ من غير أن يصلوا منك إلى محجم دم ولا ما فوقه من عضو ولا نفس فلا تخش مكرهم .
قال في القاموس : أوفى فلاناً حقه : أعطاه وافياً ، كوفّاهد ووافاه فاستوفاه وتوفاه .
ثم زاد سبحانه وتعالى في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال : ( ورافعك ( وزاد إعظام ذلك بقوله : ( إليّ ومطهرك من الذين كفروا ( ولما كان لذوي الهمم العوال ، أشد التفات إلى ما يكون عليه خلائفهم بعدهم من الأحوال ، بشره سبحانه وتعالى في ذلك بما يسره فقال : ( وجاعل الذين اتبعوك ) أي ولو بالاسم ) فوق الذين كفروا ) أي ستروا ما يعرفون من نبوتك بما رأوا من الآيات التي أتيت بها مطابقة لما عندهم من البشائر بك ) إلى يوم القيامة ( وكذا كان ، لم يزل من اتسم بالنصرانية حقاً أو باطلاً فوق اليهود ، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد .(2/98)
صفحة رقم 99
ولما كان البعث عاماً دل عليه بالالتفات إلى الخطاب فقال تكميلاً لما بشر به من النصرة : ( ثم إليّ مرجعكم ) أي المؤمن والكافر في الآخرة ) فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ( ثم فصل له الحكم فقال مرهباً لمخالفيه مرغباً لموافقيه ، وقدم المخالفين لأن السياق لبيان إذلالهم : ( فإما الذين كفروا ) أي من الطائفتين ) فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا ( بالذل والهوان والقتل والأسر ) والآخرة ( بالخزي الدائم ) وأما الذين آمنوا وعموا الصالحات ( لأن هذه ترجمة الذين اتبعوه حق الاتباع .
ولما كان تمام الاعتناء بالأولياء متضمناً لغاية القهر للأعداء أبدى في مظهر العظمة قوله تعظيماً لهم وتحقيراً لأعدائهم : ( فيوفيهم أجورهم ) أي نحبهم من غير أ ، نبخسهم ) والله ( الذي له الكمال كله ) لا يحب الظالمين ( من كانوا ، أي لا يفعل معهم فعل المحب ، فهو يحبط أعمالهم لبنائها على غير أساس الإيمان ، فالآية من الاحتباك ، ونظمها على الأصل : فنوفيهم لأنا نحبهم والله يحب المؤمنين ، والذين ظلموا نحبط أعمالهم لأنا لا نحبهم والله لا يحب الظالمين ؛ فتوفية الأجر أولاً ينفيها ثانياً ، وإثبات الكراهة ثانياً يثبت ضدها أولاً ، وحقيقة الحال أنه أثبت للمؤمنين لازم المحبة المراد منها في حق الله سبحانه وتعالى لأنه أسّر ، ولازم المراد من عدمها في الظالمين لأنه أنكأ .
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام من ابتداء تكوينه إلى انتهاء رفعه وما كان بعده من أمر أتباعه مشيراً بذلك إلى ما فيه من بدائع الحكم وخزائن العلوم واللطائف المتنزلة على مقادير الهمم على أتقن وجه وأحكمه وأتمه وأخلصه وأسلمه ، وختمه بالتفنير من الظلم ، وكان الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وكان هذا القرآن العظيم قد حاز من حسن الترتيب ورصانة لانظم بوضع كل شيء منه لفظاً ومعنى في محله الأليق به المحل الأعلى ، لا سيما هذه الآيات التي أتت بالتفصيل من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فلم تدع فيه شكاً ولا أبقت شبهة ولا لبساً ، أبتع ما تقدم من تفصيل الآيات البينات قوله منبهاً على عظمة هذه الآيات الشاهدات الآتي بها ( صلى الله عليه وسلم ) بأوضح الصدق بإعجازها في نظمها وفي العلم بمضامينها من غير معلم من البشر كما تقدم نحو ذلك في
77 ( ) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ( ) 7
) هود : 49 ] ) ذلك ) أي النبأ العظيم والأمر الجسيم الذي لم تكن تعلم شيئاً منه ولا علمه من شبان قومك ) نتلوه ) أي نتابع قصة بما لنا من العظمة ) عليك ( وأنت أعظم الخلق(2/99)
صفحة رقم 100
حال كونه ) من الآيات ) أي التي لا إشكال فيها ، ويجوز أن يكون خبر اسم الإشارة ، ) والذكر الحكيم ( إشارة إلى ذلك لأن الحكمة وضع الشيء في أعدل مواضعه وأتقنها ، وأشار بأداة البعد تنبيهاً على علو منزلته ورفيع قدره .
آل عمران : ( 59 - 63 ) إن مثل عيسى. .. . .
) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( ( )
ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال : ( إن مثل عيسى ) أي في كونه من أنثى فقط ) من عند الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في إخراجه من غير سبب حكمي عادي ) كمثل آدم ( في أن كلاًّ منهما أبدع من غير أب ، بل أمر آدم أعجب فإنه أوجده من غير أب ولا أم ، ولذلك فسر مثله بأنه ) خلقه ) أي قدره وصوره جسداً من غير جنس البشر ، بل ) من تراب ( فعلمنا أن تفسير مثل عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم فقط بغير أب ، فمثل عيسى أقل غرابة من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث نهم لم يعهدوا مثله ، فلذلك كان مثل آدم مثلاً له موضحاً لأنه مع كونه أغرب اشهر ( وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمأ وغيره كما في غير هذا الموطن ، لأن التراب أغلب أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب ، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو أكثف الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير أعجب ) ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل عيسى كل ولد نشاهده تولده من أنثى ، ومثل آدم كل حيوان نشاهده تولد من تراب ، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق عيسى عليه الصلاة والسلام الطير من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد من تراب في أن كلاًّ منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى ، وإلا لكان كل جماع موجباً للولد وكل تراب موجباً لتولد الحيوان منه ، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه ولد علمنا أن الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته ، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى ، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق به عادة الجماع فيجعله موجباً للحبل(2/100)
صفحة رقم 101
وبين أن يريد كونه من أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن من التوليد بين الذكر والأنثى ، كما أنا لما علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعاً أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر ، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريباً : إن الله قادر على أن يقيم من الحجار أولاداً لإبراهيم ، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب وسبب ، بل كلها في قدرته سواء ، وإلى ذلك أشار قوله : ( ثم قال له كن ) أي بشراً كاملاً روحاً وجسداً ، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في ) فيكون ( دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهب أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها إشارة إلى أنه كان مع الأمر من غير تخلف وتنبيهاً على أن هذا هو الشأن دائماً ، يتجدد مع كل مراد ، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلاً - كما تقدم التصريح به في آية
77 ( ) إذا قضى أمراً ( ) 7
[ البقرة : 117 ] وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين يجادل عن معتقدهم وفد نجران ، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس ، وكان العدل أن يقاس في خرقه للعادة بأبي أنه الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة ، لا بخالقه ومكونه تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
قال الحرالي : جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه السلالة الطينية ، وغايته النفخة الأمرية ، وكان عيسى عليه الصلاة ولاسلام مثلا مبدؤه الروحية والكلمة ، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية ، حتى قال ( صلى الله عليه وسلم ) : إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من بني أسد ويولد له غلام لتكمل به الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلاً واحداً أعلى جامعاً
77 ( ) وله المثل الأعلى في السموات والأرض ( ) 7
[ الروم : 27 ] - انتهى .
ولما ابتدأ القصة بالحق في قوله : ( نزل عليك الكتاب بالحق ( ختمها بذلك على وجه آكد وأضخم فقال : ( الحق ) أي الكامل في الثبات كائن ) من ربك ) أي المحسن إليك بأنه لا يدع لخصم عليك مقالاً ، ولما تسبب عما مضى نقلاً وعقلاً الإعتقاد الحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام قال : ( فلا تكن من الممترين ( مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه لا يشك فيه بعد هذا إلا من أمعن الفكر في شبه يثيرها وأوهام يزاولها ويستزيرها ، وما أحسن ما في سفر الأنبياء الإسرائليين الذي هو بأيدي الطائفتين اليهود ثم النصارة ، يتناقلونه معتقدين ما يه ، وأوضحه في خلاف معتقدهم في عيسى عليه الصلاة والسلام وموافقة معتقدنا فيه ، لكنهم لا يتدبرون ، وذلك أنه قال في نبوة أشعيا عليه السلام : اسمع مني يا يعقوب عبدي وأنت يا إسرائيل الذي انتخبته أنا الذي(2/101)
صفحة رقم 102
خلقتك في الرحم وأعنتك ، ثم قال : هكذا يقول : يقول الرب : أنا الذي جبلتك في الرحم وخلصتك وأعنتك ، أنا الذي خلقت الكل ، وأنا الذي مددت السماء وحدي ، وأنا الذي ثبتّ الأرض ، أنا الذي أبطل آيات العرافين ، وأصير كل تعريفهم جهلاً ، وأرد الحكماء إلى خلفهم ، وأعرف أعمالهم للناس ، وأثبت كلمة عبيدي ، وأتمم قول رسلي ؛ ثم قال : أنا الرب الذي خلقت هذه الأشياء ، الويل للذي يخاصم خالقه ولا يعلم أنه من خزف الطين لعل الطين يقول للفاخوري : لماذا تصنعني ؟ أو لعله يقول له : لست أنا من صنعتك ، الويل للذي يقول لأبيه : لماذا ولدتني ؟ أو لأمه : لماذا حبلت بي ؟ هكذا يقول الرب قدوس إسرائيل ومخلصه : أنا الذي خلقت السماء ومددتها بيدي وجميع أجنادها ، وجعلت فيها الكواكب البهية .
ذكر ما يحتاج إليه المفسرون - ويثمر إن شاء الله سبحانه وتعالى زيادة الإيقان لكل مسلم - من قصة عيسى عليه السلام في ولادته وما يتعلق بهذه السورة من مبدإ أمره ومنتهاه وبعض ما ظهر على يديه من الآيات ولسانه من الحكم المشيرة إلى أنه عبد الله ورسوله وغير ذلك من الأناجيل الأربعة التي في أيدي النصارى اليوم ، وقد أدخلت كلام بعضهم في بعض وجمعت ما تفرق من المعاني في سياقاتهم بحيث صار الكل حديثاً واحداً : قال متى - ومعظم السياق له - : كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، ثم قال : لكل الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً ، ومن داود إلى زربابل أربعة عشر جيلاً ، ومن زربابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً ؛ لما خطبت مريم أمه ليوسف قبل أن يفترقا وجدت حبلاً من روح القدس ، وكان يوسف خطيبها صديقاً ولم يرد أن ينشرها ، وهم بتخليتها سراً ، وفيما هو مفكر في هذا إذا ظهر له ملاك الرب في الحلم قائلاً : يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم خطيبتك ، فإن الذي تلده هو من روح القدس ، وستلد ابناً ويدعى اسمه يسوع ، وهو يخلص شعبه من خطاياهم ، هذا كله كان لكي يتم ما قيل من قبل الرب على لسان النبي القابل : ها هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً ، ويدعى اسمه ( عمانويل ) الذي تفسيره : الله معنا ، فقام يوسف من النوم وصنع كما أمره ملاك الرب وأخذ مريم خطيبته ولم يعرفها حتى ولدت ابناه البكر ، ودعي اسمه يسوع .
وفي إنجيل لوقا : ولما كان في تلك الأيام - أي أيام ولادة يحيى بن زكريا عليهم السلام - خرج أمر من أوغوسطوس قيصر بأن يكتب جميع المسكونة هذه الكتبة الأولى في ولاية فرسوس على الشام ، فمضى جميعهم ليكتتب كل واحد منهم في مدينته ، (2/102)
صفحة رقم 103
فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم ، لأنه كان من بيت داود وقبيلته ليكتتب مع مريم خطيبته وهي حبلى ، فبينما هما هناك إذ تمت أيام ولادتها لتلد ، فولدت ابنها البكر ولفته وتركته في مزود لأنه لم يكن لهما موضع حيث نزلا ، وكان في تلك الكورة رعاة يسهرون لحراسة الليل نوباً على مراعيهم ، وإذا ملاك الرب قد وقف بهم ومجد الرب أشرق عليهم ، فخافوا خوفاً عظيماً ، قال لهم الملاك : لا تخافوا الآن ، هو ذا أبشركم بفرح عظيم يكون لكم ولجميع الشعوب ، لأنه ولد لكم اليوم مخلص ، الذي هو المسيح في مدينة داود ، وهذه علامة لكم أنكم تجدون طفلاً ملفوفاً موضوعاً في مزود ، وللوقت بغتة تراءى مع الملاك جنود كثيرة سماويون ، يسبحون الله وتعالى ويقولون : المجد لله في العلى ، وعلى الأرض السلام ، وفي الناس المسرة ؛ فلما صعد الملائكة إلى السماء قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض : امضوا بنا إلى بيت لحم لننظر الكلام الذي أعلمنا به الرب ، فجاؤوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل موضوعاً في مزود ؛ فلما رأوه علموا أن الكلام الذي قيل لهم عن لاصبي حق ، وكل من سمع تعجب مما تكلم به الرعاة ، وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كله وتقيه ، ورجع الرعاة يمجدون الله سبحانه وتعالى ويسبحون على كل ما سمعوا وعاينوا كما قيل لهم .
ولما تمت ثمانية أيام أتوا به ليختن ودعوا اسمه يسوع كالذي دعاه الملاك قبل أن تحبل به في البطن ، فلما كملت أيام تطهيرها - على ما في ناموس موسى - صعدوا به إلى يروشليم ليقيموه للرب ، كما هو مكتوب في ناموس ا يدعى قدوس الرب ، ويقرب عنه - كما هو مكتوب في ناموس الرب - زوج يمام أو فرخا حمام ؛ وكان إنسان بايروشليم اسمه شمعون ، وكان رجلاً باراً تقياً ، يرجو عز بني إسرائل ، وروح القدس كان عليه ، وكان يوحى إليه من روح القدس أنه لا يموت حتى يعاين المسيح الرب ، فأقبل بالروح إلى الهيكل عندما جاؤوا بالطفل يسوع ليصفى عنه كما يجب في الناموس ، فحمله على ذراعه وبارك الرب قائلاً : الآن يا سيد أطلق عبدك بسلام لكلامك ، لأن عيني أبصرتك خلاصك الذي أعددت قدام جميع الشعوب ، نور استعلن للأمم ومجد لشعبك إسرائيل ، وكان يوسف وأمه يتعجبان مما يقال عنه ، وباركهما شمعون وقال لمريم أمه : هوذا هذا موضوع لسقوط كثير وقيام كثير من بني إسرائيل .
وكانت حنة النبية ابنة فانوئل من سبط أشير قد طعنت في أيامها وأقامت مع زوجها سبعة وستين بعد بكوريتها ، وترملت أربعة وثمانين عاماً غير مفارقة للهيكل عائدة للصّوم ، وللطلبة ليلاً ونهاراً ، وفي تلك الساعة جاءت قدامه معترفة لله وكانت تتكلم من(2/103)
صفحة رقم 104
أجله عند كل أ ؛ د ، تترجى خلاص يروشليم ، فلما أكملوا كل شيء على ما في ناموس الرب رجعول إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة ، فأما الصبي فكان ينشأ ويتقوى بالروح ويمتلىء بالحكمة ، ونعمة الله كانت عليه ، وأبواه يمضيان إلى يروشليم في كل سنة في عيد الفصح .
وقال متى : فلما ولد يسوع في بيت لحم يهودا في أيام هيرودس الملك إذا مجوس وافوا من المشرق إلى يروشليم قائلين : أين هوالمولود ملك اليهود لأنا رأينا نجمة في المشرق ، ووافينا لنسجد له ، فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجمع يروشليم وجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب واتسخبرهم : أين يولد المسيح ؟ فقالوا له : في بيت لجحم أرض يهودا - كما هو مكتوب في النبي : وأنت يا بيت لحم أرض يهودا لست بصغيرة في ملوك يهود ، يخرد منك مقدم ، الذي يرعى شعب بني إسرائيل .
حينئذ دعا هيرودس والروم المجوس سراً ، وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم قائلاً : امضوا فابحثوا عن الصبي باجتهاد ، فإذا وجدتموه فأخبروني لآتي أنا وأسجد له ، فلما سمعوا من الملك ذهبوا ، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يقدمهم حتى جاء ووقف حيث كان الصبي ، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً ، وأتوا إلى البيت فرأوا الصبي ، مع مريم أمه ، فخروا له سجداً وفتحوا أوعيتهم وقدموا له قرابين ذهباً ولُباناً ومُرّاً ، وأنحى إليهم في الحلم أن لا يرجعوا لى هيردوس ، بل يذهبوا في طريق أخرى إلى كورتهم ، فلام ذهبوا وإذ ملاك الرب تراءى ليوسف في الحلم قائلاً : قم ، خذ الصبي وأمه واهرب ليهلكه ، فقام وأخذ الصبي أمه ليلاً ، ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس ، لكي يتم ما قيل من قبل الرب بالنبي القابل من مصر : دعوت ابني ؛ حينئذ لما رأى هيرودس سخرية المجوس به غضب جداً وأرسل ، فقتل كل صبيان بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون ، كنحو الزمان الذي تحقق عنده من المجوس ، حينئذ تم ما قيل من أرميا النبي حيث يقول : صوت سمع في الزأمة ، بكاء ونوح وعويل كثير ، وراحيلف تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى لفقدهم ؛ فلما مات هيرودس ظهر ملاك الرب ليوسف في الحلم بصمر قائلاً : قم ، خذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل ؛ فما سمع أن أورشلاوش قد ملك على اليهودية عوض هيرودس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك ، فأخبر في الحلم وذهب إلى حور ناحية الجليل ، فأتى وسكن في مدينة تدعى ناصرة لكي يتم ما قيل في الأنبياء : إنه يدعى ناصيريا وفي إنجيل لوقا : فلما تمت له اثنتا عشرة سنة مضوا إلى يروشليم إلى العبد(2/104)
صفحة رقم 105
كالعادة ، فلما كملت الأيام ليعودوا تخلف عنهام يسوع في يروشليم ولم تعلم أمه ويوسف ، لأنهما كانا يظنان أنه مع السائرين في الطريق ، فلما ساروا نحو يوم طلباه عند أقربائهما ومعارفهما فلم يجداه ، فرجعا إلى يروشليم يطلبانه ، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً بين العلماء يسمع منهم ويسألهم ، وكان كل من يسمعه مبهوتين من علمه وإجابته لهم ، فلما أبصراه بهتا ، فقالت له أمه : يا بني ما هذا الذي صنعت بنا ؟ إن أباك وأنا كنا نطلبك باجتهاد معذبين ، فقال لهما : لم تطلباني ؟ أما تعلمان أنه ينبغي أن أكون في الذي لأبى ؟ فأما هما فلم يفهما الكلام ونزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان يطيعهما ، فأما يسوعفكان ينشأ في قامته وفي الحكمة والنعمة عند الله والناس .
قال متى : وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا - إلى آخر ما تقدم آنفاً من بشارة يحيى عليه الصلاة والسلام به ، ثم قال : حينئذ أتى يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد من يوحنا ، فامتنع يوحنا منه وقال : أنا المحتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي ، فأجاب يسوع : دع الآن ، هكذا يجب لنا أن نكمل كل البر ، حينئذ تركه فاعتمد يسوع ، وللوقت صعد من الماء فانفتحت له السماوات ، ورأى روح الله نازلاً كمثل حمامة جائياً إليه .
وقال مرمس : وكان تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واصطنع في نهر الأردن من يوحنا ، فساعة صعد من الماء رأى السماوات قد انشقت ، وروح القدس كالحمامة نزلت عليه ، وللوقت أخرجه الروح إلى البرية ، وأقام بها أربعين يوماً وأربعين ليلة ، وهو مع الوحوش ، والملائكة تخدمه .
وقال متى : وصام أربعين يوماً وأربعين ليلة .
وقال لوقا : وكان لما اعتمد جميع الشعب واعتمد يسوع فبينما هو يصلي انفتحت السماء ونزل عليه روح القدس شبه جسد حمامة ، وكان قد صار ليسوع ثلاثون سنة وكان يُظنّ أنه ابن يوسف وأن يسوع امتلأ من روح القدس ورجع من الأردن ، فانطلق به الروح أربعين يوماً ، لم يأكل شيئاً في تلك الأيام ؛ ثم قال : ورجع يسوع إلى الجليل بقوة الروح وخرج خبره في كل الكورة ، وكان يعلم في مجامعهم ويمجده كل أحد ، وجاء إلى الناصرة حيث كان تربى ودخل كعادته إلى مجمعهم يوم السبت ، وقام الرب عليّ ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأشفي منكسري القلوب وأبشر المأسورين بالتخلية والعميان بالنظر ، وأرسل المربوطين بالتخلية ، وأبشر بالسنة المقبولة للرب والأيم التي أعطانا إلهنا ؛ ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس ، وكل من كان في الجمع كانت عيونهم محدقة إليه ، فبدأ يقول لهم : اليوم كمل هذا المكتوب بأسماعكم ؛ وفي إنجيل يوحنا : إن يسوع قال : إن كنت أنا أشهد لنفسي فليست شهادتي(2/105)
صفحة رقم 106
حقاً ، ولكن الذي يشهد لي بها حق ، أنتم أرسلتم إليّ يوحنا فشهد لي بالحق ، وأما أنا فلست أطلب شهادة من إنسان ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم ، وأنا على أعظم من شهادة يوحنا لأن الأعمال الت يأعملها تشهد من أجلي أن الرب أرسلني ، والذي أرسلني قد شهد لي ولم تسمعوا قط صوته ولا عرفتموه ولا رأيتموه ، وكلمته لا تثبت فيكم لأنكم لستم تؤمنون بالذي أرسل ، فتشوا الكتب التي تظنون أن تكون لكم بها حياة الأبد فهي تشهد من أجلي ، لست آخذ المجد من الناس أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني ، وإن أتاكم آخر باسم نفسه قبلتموه ، كيف تقدرون أن تؤمنوا وإنما تقبلون المجد بعضكم ، من بعض ولا تظنون أن المجد من الله تعالى الواحد ، لا تظنوا أني أشكوكم ، إن لكم من يشكوكم : موسى الذي عليه تتوكلون ، فلو كنتم آمنتم بموسى آمنتم بي ، لأن ذلك كتب من أجلي ، وإن كنتم لا تؤمنون بكتب ذلك فيكف تؤمنون بكلامي - انتهى ما وقع الاختيار أخيراً على غثباته هنا ، وفيه من الألفاظ المنكرة في شرعنا إطلاق الأب والابن ، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك .
ولما أتاهم سبحانه وتعالى من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام بالفصل في البيان الذي ليس بعده إلا العناد ، فبين أولاً ما تفضل فيه عيسى عليه الصلاة والسلام من أطوار الخلق الموجبة للحاجة المنافية للإلهية ، ثم فضح بتمثيله بآدم عليه الصلاة والسلام شبهتَهم ، ألزمهم عل تقديره بالفيصل الأعظم للمعاند الموجب للعذاب المستأصل أهل الفساد فقال سبحانه وتعالى : ( فمن ) أي فتسبب عما آتيناك به من الحق في أمره أنا نقول لك : من ) حآجك فيه ) أي خاصمك بإيراد حجة ، أي كلام يجعله في عداد ما يقصد .
ولما كان الملوم إنما هو من بلغته هذه الآيات وعرف معناها دون من حاج في الزمان الذي هو بعد نزولها دون اطلاعه عليها قال : ( من ) أي متبدئاً المجاجة من ، ويجوز أن يكون الإتيان بمن لئلا يفهم أن المباهلة تختص بمن استغرق زمان البعد وبالمجادلة ) بعدما جآءك من العلم ) أي الذي أنزلنان إليك وقصصناه عليك في أمره ) فقل تعالوا ) أي اقبلوا أيها المجادلون إلى أمرنعرف فيه علو المحق وسفول المطبل ) ندع أبنآءنا وأبناءكم ) أي الذي هم أعز ما عند الإنسان لكونهم بعضه ) ونساءنا ونساءكم ) أي اللاتي هن أولى ما يدافع عنه أولو الهمم العوالي ) وأنفسنا وأنفسكم ( فقدم ما يدافع عنه ذوو الأحساب ويفدونه بنفوسهم ، وقدم منه الأعز الألصق بالأكياد وختم بالمدافع ، وهذا الترتيب على سبيل الترقي إذا اعتبرت أنه قدم الفرع ثم الأصل وبدأ بالأدنى وختم بالأعلى ، وفائدة الجمع الإشارة إلى القطع بالوثوق بالكون على الحق .
ثم ذكر ما له هذا الجمع مشيراً بحرف التراخي إلى خطر الأمر وأنه مما ينبغي(2/106)
صفحة رقم 107
الاهتمام به والتروي له وإمعان النظر فيه لوخامة العاقبة وسوء المنقلب للكاذب فقال : ( ثم نبتهل ) أي نتضرع - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما نقله الإمام أبو حيان في نهره .
وقال الحرالي : الابتهال طلب البهل ، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود - انتهى .
) فنجعل لعنت الله ) أي الملك الذي له العظمة كلها فهو يجبر ولا يجار عليه ، أي إبعاد وطرده ) على الكاذبين ( وقال ابن الزبير بعد ما تقدم من كلامه : ثم لما أتبعت قصة آدم عليه الصلاة والسلام - يعني في البقرة - بذكر بني إسرائيل لوقوفهم من تلك القصص على ما لم تكن العرب تعرفه ، وأنذروا وحذروا ؛ أتبعت قصة عيسى عليه الصلاة والسلام - يعني هنا - بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة - انتهى .
ولما كان العلم الأزلي حاصلاً بأن المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام يكفون عن المباهلة بعد المجادلة خوفاً من الاستئصال في العاجلة مع الخزي الدائم في الآجلة ، وكان كفهم عن ذلك موجباً للقطع بإبطالهم في دعواهم لكل من يشاهدهم أو يتصل به خبرهم ، حسن كل الحسن تعقيب ذلك بقوله : - تنبيهاً على ما فيه من العظمة - ) إن هذا ) أي الذي تقدم ذكره من أمر عيسى عليه السلام وغيره ) لهو ) أي خاصة دون غيره مما يضاده ) القصص الحق ( والقصص - كما قال الحرالي - تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء على ترتيبها ، في معنى قص الأثر ، وهو اتباعه حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - انتهى .
ولما بدأ سبحانه وتعالى القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلاً على ذلك بأنه الحي القيوم صريحاً ختمها بمثل ذلك إشارة وتلويحاً فقال - عاطفاً على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) عبد الله ورسوله معمماً للحكم معرقاً بزيادة الجار في النفي : ( وما من إله ) أي معبود بحق ، لأن له صفات الكمال ، فهو بحيث يضر وينفع ) إلا الله ) أي المحيط بصفات الكمال ، لأنه الحي القيوم - كما مضى التصريح به ، فاندرج في ذلك عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره ، وقد علم من هذا السياق أنهم لما علموا تفرده تركوا المباهلة رهبة منه سبحانه وتعالى علماً منهم بأنهم له عاصون ولحقّه مضيعون وأن ما يدعون إلاهيته لا شيء في يده م الدفع عنهم ولا من النفع لهم ، فلا برهان أقطع من هذا .(2/107)
صفحة رقم 108
ولما كان في نفي العزة والحكمة عن غيره تعالى نوع خفاء أتى بالوصفين على طريق الحصر فقال - عاطفاً على ما قدّرته مام أرشد السياق إلى أنه علة ما قبله من نفي : ( وإن الله ) أي الملك الأعظم ) لهو ) أي وحده ) العزيز الحكيم ( وهذا بخلاف الحياة والقيومية فإنه لم يؤت بهما على طريق الحصر لظهورهما ، وقد علم بلا شبهة بما علم من أنه لا عزيز ولا حكيم إلا هو أنه لا إله إلا هو .
ولما ثبت ذلك كله سبب عنه تهديدهم على الإعراض بقوله - منبهاً بالتعبير بأداة الشك على أنه لا يعرض عن هذا المحل البين إلا من كان عالماً بأن مبطل ، ومثل ذلك لا يظن بذي عقل ولا مروة ، فمن حق ذكره أن يكون من قبيل فرض المحالات : ( فإن تولوا ) أي عن إجابتك إلى ما تدعوا إليه ) فإن الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) عليهم ( بهم ، هكذا كان الأصل ، فعدل عنه لتعليق الحكم بالوصف تنفيراً من مثل حالهم فقال : ( بالمفسدين ) أي فهو يحكم فيهم بعلمه فينتقم منهم فسادهم بعزته انتقاماً يتقنه بحكمته فينقلبون منه بصفقة خاسر ولا يجدون من ناصر .
آل عمران : ( 64 - 78 ) قل يا أهل. .. . .
) قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى(2/108)
صفحة رقم 109
بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) 73
( ) 71
ولما نكصوا عن المباهلة بعد أن أورد عليهم أنواع الحجج فانقطعوا ، فلم تبق لهم شبهة وقبلوا الصغار والجزية ، فعلم انحلالهم عما كانوا فيه من المحاجة ولم يبق إلا إظهار النتيجة ، اقتضى ذلك عظم تشوفه ( صلى الله عليه وسلم ) إليها بعظم حصرصه ( صلى الله عليه وسلم ) على هداية الخلق ، فأمره بأن يذكرها مكرراً إرشادهم بطريق أخف مما مضى بأن يؤنسهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساة ، فيدعو دعاء يشمل المحاجين من النصارة وغيرهم ممن له كتاب من اليهود وغيرهم إلى الكلمة التي قامت البارهين على حقيتها ونهضت الدلائل على صدقها ، دعاء لا أعدل منه ، على وجه يتضمن نفي ما قد يتخيل من إرادة التفضل عليهم والاختصاص بأمر دونهم ، وذلك أنه بدأ بمباشرة ما دعاهم إليه ورضى لهم ما رضي لنفسه وما اجتمعت عليه الكتب واتفقت عليه الرسل فقال سبحانه وتعالى : ( قل ( ولما كان قد انتقل من طلب الإفحام خاطبهم تلطفاً بهم بما يحبون فقال : ( ياأهل الكتاب ( إشارة إلى ما عندهم في ذلك من العلم ) تعالوا ) أي ارفعوا أنفسكم من حضيض الشرك الأصغر والأكبر الذي أنتم به ) إلى كلمة ( ثم وصفها بقوله : ( سواء ) أي ذات عدل لا شطط فيه بوجه ) بيننا وبينكم ( ثم فسرها بقوله : ( ألا نعبد إلا الله ) أي لأنه الحائز لصفات الكمال ، وأكد ذلك بقوله : ( ولا نشرك به شيئاً ) أي لا نعتقد له شريكاً وإن لم نعبده .
ولما كان التوجه إلى غير الله خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى عبر بصيغة الافتعال فقال : ( ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً ) أي كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين يحلون ويحرمون .
ولما كان الرب قد يطلق على الملعم والمربي بنوع تربية نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد ، والأجتراء على ما يختص به الله سبحانه وتعالى فقال : ( من دون الله ( الذي اختص بالكمال .
ولما زاحت الشكوك وانتفت العلل أمر بمصارحتهم بالخلاف في سياق ظاهره المتاركة وباطنه الإنذار الشديد المعاركة فقال - مسبباً عن ذلك مشيراً بالتتعبير بأداة الشك إلى أن الإعراض عن هذا العدل لا يكاد يكون : ( فإن تولوا ) أي عن الإسلام له في التوحيد ) فقولوا ( أنتم تبعاَ لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال :
77 ( ) أسلمت(2/109)
صفحة رقم 110
لرب العالمين ( ) 7
[ البقرة : 131 ] وامتثالاً لوصيته إذ قال :
77 ( ) ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( ) 7
[ البقرة : 132 ] ) اشهدوا بأنا ) أي نحن ) مسلمون ) أي متصفون بالإسلام منقادون لأمره ، فيوشك أن يأمرنا نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقتالكم لنصرته عليكم جرياً على عادة الرسل ، فنجيبه بما أجاب به الحواريون المشهدون بأنهم مسلمون ، ثم نبارزكم متوجهين إليه معتمدين عليه ، وأنتم تعرفون أيامه الماضية ووقائعه السالفة .
ولما علم أهل الكتاب ما جبل عليه العرب من محبة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن محداً ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بدينة كما تقدم في قوله سبحانه وتعال
77 ( ) بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ( ) 7
[ البقرة : 135 ] اجتمع ملأ من قرابتهم بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وضلل كل منهم الآخر وادعى كل منهم قصداً لاجتذاب المسلمين إلى ضلالهم بكيدهم ومحالهم اتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان على دينهم ، ولم يكن لذلك ذكر في كتابهم ، مع أن لاعقل يرده بأدنى التفات ، لأن دين كل منهم إنما قرر بكتابهم ، وكتابهم إنما نزل على نبيهم ، ونبيهم إنما كان بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدهور متطاولة ، واليهود ينسبون إلى يهوذا بن يعقوب عليه السلام ، لأخذه البكورية عن أخيه بنيامين لأمر مذكور في كتابهم ، والنصارة ينسبون إلى الناصرة مخرج عيسى عليه الصلاة والسلام في جبل الجليل ، ولا يعقل أن يكون المتقدم على دين ما حدث إلا بعده وعلى نسبة متأخرة عنه ، وكان دينه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما هو الإسلام ، وهو الحنيفة السمحة فقال سبحانه وتعالى مبكتاً لهم : ( ياأهل الكتاب ( كالمعلل لتبكيتهم ، لأن الزلة من العلام أشنع ) لم تحآجون في إبراهيم ( فيدعيه كل من فريقكم ) و ( الحال أنه ) ما أنزلت التوراة والإنجيل ( المقرر كل منهما لأصل دين متجدد منكم ) إلا ( ولما كان إنزال كتاب كل منهم غير مستغرق للزمان الآتي بعده أدخل الجار فقال : ( من بعده ( وأعظم ما يتمسك به كل فرقة منهما السبت والأحد ، ولم يكن ما يدعونه فيمهما في شريعة إبراهيم عليه السلام ، لاي قدرون على إنكار ذلك ، ولا يأتيى مثل ذلك في دعوى أنه مسلم لأن الإسلام الذي هو الإذعان للدليل معنى قديم موجود من حين خلق الله العقل ، والدليل أنه لا يقدر أحد أن يدعي أنه ما حدث إلا بعد إبراهيم عليه السلام كما قيل في الدينين المذكورين .
ولما كان الدليل العقلي واضحاً في ذلك ختم الآية بقوله منكراً عليهم ) أفلا تعقلون ) أي هب أنكم لبستم وادعيتم أن ذلك في كتابكم زوراً وبهتاناً ، وظننتم أن ذلك يخفى على من لا إلمام له بكتابكم ، فكيف غفلتم عن البرهان العقلي ثم استأنف(2/110)
صفحة رقم 111
تبكيتاً آخر فقال منبهاً لهم مكرراً النبيه إشارة إلى طول رقادهم أو شدة عنادهم : ( هاأنتم هؤلاء ) أي الأشخاص الحمقى ، ثم بين ذلك بقوله : ( حاججتم ) أي قصدتم مغالبة من يقصد الرد عليكم ) فيما لكم به علم ) أي نوع من العلم من أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لذكر كل منهما في كتابكم وإن كان جدالكم فيهما على خلاف ما تعلمون من أ ؛ والهما عناداً أو طغياناً ) فلم تحاجون ) أي تغالبون بما تزعمون أنه حجة ، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة فضلاً عن أن يكون حجة ) فيما ليس لكم به علم ( اصلاً ، لكونه لا ذكر له في كتابكم بما حاججتم فيه مع مخالفته لصريح العقل ) والله ) أي المحيط بكل شيء ) يعلم ) أي وأنتم تعلمون أن مجادلتكم في الحقيقة إنما هي مع الله سبحانه وتعالى ، وتعلمون أن علمه محيط بجميع ما جادلتم فيه ) وأنتم ) أي وتعلمون أنكم أنتم ) لا تعلمون ) أي ليس لكم علم أصلاً إلا ما علمكم الله سبحانه وتعالى ، هذا على تقدير كون ( ها ) في ( ها أنتم ) للتنبيه ، ونقل شيخنا ابن الجزري في كتابه ( النشر في القراءات العشر ) عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي الحسن الأخفش أنها بدل من همزة ، وروي عن أبي حمدون عن اليزيدي أن أبا عمرو قال : وإنما هي ) أأنتم ( ممدودة ، فجعلوا الهمزة هاء ، والعرب تفعل هذا ، فعلى هذا التقيدر يكون استفهاماً معناه التعجيب منهم والتوبيخ لهم .
ولما وبخهم على ذلك من جهلهم نفيى سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما ادعاه عليه كل منهم طبق ما برهنت عليه الآية الأولى ، ونفى عنه كل شرك أيضاً ، وأثبت أنه كان مائلاً عن كل باطل منقاداً مع الدليل إلى كل حق بقوله سبحانه وتعالى : ( ما كان إبراهيم يهودياً ) أي كما ادعى اليهود ) ولا نصرانياً ( كما ادعى النصارى - لما تقدم من الدليل ) ولكن كان حنيفاً مسلماً ( وقد بين معنى الحنيف عند قوله تعالى :
77 ( ) قل بل ملة إبراهيم حنيفاً ( ) 7
[ البقرة : 135 ] بما يصدق على المسلم ، وقال الإمام العارف ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في السؤال في القبر : واليهودي أصله من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام التوراة ، والنصراني من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام الإنجيل ، ثم صار اليهودي من كفر بما أنزل بعد موسى عليه الصلاة والسلام ، والنصراني من كفر بما أنزل بعد عيسى عليه الصلاة والسلام ، والحنيف المائل عن كل دين باطل ، والمسلم المطيع لأوامر الله سبحانه وتعالى في أي كتاب أنزلت مع أي رسول أوردت ، وإن شيئت قلت : هو المنقاد لله سبحانه وتعالى وحده بقلبه ولسانه وجميع جوارحه المخلص عمله لله عزّ وجلّ ، قال(2/111)
صفحة رقم 112
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لمن قال له : قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ( قل : آمنت بالله ثم استقم ) انتهى .
ثم خص بالنفي من عرفوا بالشرك مع الصلاح لكل من داخله شرك من غيرهم كمن أشرك بعزيز والمسيح عليهما الصلاة والسلام فقال : ( وما كان من المشركين ( وفي ذكر وصفي الإسلام والحنف تعريض لهم بأنهم في غاية العناد والجلافة واليبس في التمسك بالمألوفات وترك ما أتاهم من واضح الأدلة وقاطع الحجج البينات .
ولما نفي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) كل زيغ بعد أن نفي عنه أن يكون على ملة هو متقدم عن حدوثها شرع في بيان ما يتم به نتيجة ما مضى ببيان من هو أقرب إليه ممن جاء بعده ، فقرر أن الأولى به إنما هو من اتبعه في أصل الدين ، وهو التوحيد والتنزيه الذي لم يختلف فيه نبيان أصلاً ، وفي الانقياد للدليل وترك المألوف من غير تلعثم حتى صاروا أحقاء بالإسلام الذي هو وصفه بقوله سبحانه وتعالى مؤكداً رداً عليهم وتكذيباً لمحاجتهم : ( إن أولى الناس ) أي أقربهم وأحقهم ) بإبراهيم للذين اتبعوه ) أي في دينه من أمته وغيرهم ، لا الذين ادعوا أنه تابع لهم ، ثم صرح بهذه الأمة فقال : ( وهذا النبي ) أي هو أولى الناس به ) والذين آمنوا ( ي من أمته وغيرهم وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان ) والله ) أي بما له من صفات الكمال - وليهم ، هذا الأصل ، ولكنه قال : ( ولي المؤمنين ( ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة ، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيباً لمن لم يبلغه في بلوغه .
ولما كان قصد بعضهم بدعواه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام على دينه إنما هو إضلال أهل الإسلام عقب ذلك بالإعراب من مرادهم بقوله تعالى - جواباً لمن كأنه قال : فما كان مراد أهل الكتابين بدعواهم فيه مع علمهم أن ذلك مخالف لصريح العقل ؟ ) وردت طآئفة ) أي من شأنها أن تطوف حولكم طواف التابع المحب مكراً وخداعاً ) من أهل الكتاب ( حسداً لكم ) لو يضلونكم ( بالرجوع إلى دينهم الذي يلعمون أنه قد نسخ ) وما ) أي والحال أنهم ما ) يضلون ( بذلك التمني أو الإضلال لو وقع ) إلا أنفسهم ( لأن كلاًّ من تمنيهم وإضلالهم ضلال لهم مع أنهم لا يقدرون أن يضلوا من هداه الله ، فمن تابعهم على ضلالهم فإنما أضله الله ) وما يشعرون ) أي وليس يتجدد لهم في(2/112)
صفحة رقم 113
وقت من الأوقات نوع شعور ، فكيدهم لا يتعداهم فقد جمعوا بين الضلال والجهل ، إما حقيقة لبغضهم وإما لأنهم لما عملوا بغير ما يعلمون عد علمهم جهلاً وعدوا هم بهائم ، فكانت هذه الجملة على غاية التناسب ، لأن أهم شيء في حق من رمى بباطل - إنما غلبة الرامي ليتعاظم بأنه شأنه - بيان إبطاله في دعواه ، ثم تبكيته المتضمن لبراءة المقذوف ، ثم التصريح براءته ، ثم بيان من هو أولى بالكون من حربه ، ثم بيان المراد من تلك الدعوى الكاذبة ليحذر غائلتها السامع .
ولما ختم الكلام فيهم بنفي شعورهم بين تعالى في معرض التبكيت أن نفيهم عنه إنما هو لأنهم معاندون ، لا يعلمون بعلمهم ، بل يعملون بخلافه ، فقال مستأنفاً بما يدل على غاية التبكيت المؤذنة بشديد الغضب : ( ياآهل الكتاب ) أي الذين يدعون أنهم أهل العلم ) لم تكفرون ) أي كفراً تجددونه في كل وقت ) بآيات الله ) أي تسترون ما عندكم من العلم بسبب الآيات التي أنزلت عليكم من الملك المحيط بكل شيء عظمة وعزاً وعلماً ) وأنتم تشهدون ) أي تلعمون علماً هو عندكم في غاية الانكشاف أنها آياته ؛ ثم أتبع ذلك استنئافاً آخر مثل ذلك إلا أن الأول قاصر على ضلالهم وهذا متعد إلى إضلالهم فقال : ( ياآهل الكتاب لم تلبسون الحق ) أي الذي لا مرية فيه ) بالباطل ) أي بأن تؤولوه بغير تأويله ، أو تحملوه على غير محله ) وتكتمون الحق ) أي الذي لا يقبل تأويلاً ، وهو ما تعلمون من البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتوابعها ) وأنتم ) أي والحال أنكم ) تعلمون ) أي من ذوي العلم ، فأنتم تعرفون ذلك قطعاً وأن عذاب الضال المضل عظيم جداً .
ولما ذكر لبسهم دل عليه بقوله عطفاً على ) وت طائفة ( مبيناً لنوع إضلال آخر : ( وقالت طائفة من أهل الكتاب ) أي من يهود المدينة ) آمنوا ) أي اظهروا الإيمان ) بالذي أنزل على الذين آمنوا ( متابعة لهم ) وجه ) أي أول ) النهار ( سمي وجهاً لأنه النصف ، لأن مرادهم التلبيس بظاهر لا باطن له ، ولفظ لا حقيقة له ، في جزء يسير جداً ) واكفروا آخره ) أي ليظنوا أنه لا غرض لكم إلا الحق ، وأنه ما ردكم عن دينهم بعد ابتاعكم له إلا ظهور بطلانه ) لعلهم يرجعون ) أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه ن دينه ) ولا تؤمنوا ) أي توقعوا التصديق الحقيقي ) إلا لمن تبع دينكم ( فصوبوا طريقته وصدقوا دينه وعقيدته .
ولما كان هذا عين الضلال أمره سبحانه وتعالى أن يعجب من حالهم منبهاً على ضلالهم بقوله معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب : ( قل إن الهدى هدى الله ) أي المختص(2/113)
صفحة رقم 114
بالعظمة وجميع صفات الكمال ، أي لا تقدرون على إضلال أحد منا عنه ، ولا نقدر على إرشاد أحد منكم إليه إلا بإذنه ، ثم وصل به تقريعهم فقال : ( أن ( بإثبات همزة الإنكار في قراءة ابن كثير ، وتقديرها في قراءة غيره ، أي أفعلتم الإيمان على الصورة المذكورة خشية أن ) يؤتى أحد ) أي من طوائف الناس ) مثل ما أوتيتم ) أي من العلم والهدى الذي كنتم عليه أول الأمر ) أو ( كراهة أن ) بحاجوكم ) أي يحاجكم أولئك الذين أوتوا مثل ما أوتيتم ) عند ربكم ( الذي طال إحسانه إليكم بالشهادة عليكم أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحوكم .
ولما كانت هذه الآية شبيهة بآية البقرة
77 ( ) ما يود الذين كفروا من أهل اكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ( ) 7
[ البقرة : 105 ] في الحسد على ما أوتي غيرهم من الدين الحق وكالشارحة لها ببيان ما يلبيسونه لقصد الإضلال ختمت بما ختمت به تلك ، لكن لما قصد بها الرد عليهم في كلا هذين الأمرين اللذين دبروا هذا المكر لأجلهما زيدت ما له مدخل في ذلك فقال تعالى مجيباً لمن تشوف إلى تعليم ما لعله يكف من مكرهم ويؤمن من شرهم معرضاً عنهم بالخطاب بعد الإقبال عليهم به إيذاناً بشديد الغضب : ( قل إن الفضل ( في التشريف بإنزال الآيات وغيرها ) بيد الله ( المختص بأنه لا كفوء له ، فله الأمر كله ولا أمر لأحد معه ، وأتبعه نتيجة فقال : ( يؤتيه من يشاء ( فله مع كمال القدرة كمال الاجتباء ، ثم قال مرغباً مرهباً وراداً عليهم في الأمر الثاني : ( والله ( الذي له من العظمة وسائر صفات الكمال ما لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأوهام ) واسع عليم ) أي يوسع على من علم فيه خيراً ، ويهلك من علم أنه لا يصلح لخير ، ويعلم دقيق أمركم وجليله ، فلا يحتاج سبحانه وتعالى إلى تنبيه أحد بمجاجتكم عليه عنده .
ولما كان هذا من الوضوح بحيث لا يحااج إلى تأكيد انتقل عنه إلى تأكيد الرد عليهم في الأمر الأول بثمرة هذه الجملة ونتيجتها من أنه فاعل بالاختيار تام الاقتدار فقال : ( يختص برحمته من يشاء ( ثم أكد تعظيم ما لديه دفعاً لتوهم من يظن أن اختصاص البعض لضيق الرحمة عن العموم فقال : ( والله ( الذي كل شيء دونه فلا ينقص ما عنده ) ذو الفضل العظيم ( وكرر الاسم الأعظم هنا تعظيماً لما ذكر من النعم مشيراً بذلك كله إلى التمكن من الإعطاء باختباره وغزارة فضله وإلى القدرة على الإنجاء من حبائل المكر بسعة علمه .
فلما تقرر أن الأمر كله له ذكر دليل ذلك فيهم بأنه فضل فريقاً منهم فأعلاه ، ورذل فريقاً منهم فأرداه ، فلم يردهم الكتاب - وهم يتلونه - إلى الصواب ، فقال عاطفاً على ما(2/114)
صفحة رقم 115
مضى من مخازيهم مقرراً لكتمانهم للحق مع علمهم بأنه الحق بأنه الخيانة ديدنهم في الأعيان الدنيوية والمعاني الدينية مبنياً على أنهم وإن شاركوا الناس في انقسامهم إلى أمين وخائن فهم يفارقونهم من حيث ان خائنهم يتدين يخيانته ويسندها - مروقاً من ربقة الحياء - إلى الله ، مادحاً للأمين منهم : ( ومن أهل الكتاب ) أي الموصوفين ) من إن تأمنه بقنطار ) أي من الذهب المذكور في الفريق الآتي ) يؤده إليك ( غير خائن فيه ، فلا تسوقوا الكل مساقاً واحداً في الخيانة ) ومنهم من إن تأمنه بدينار ) أي واحد ) لا يؤده إليك ( في زمن من الأزمان دناءة وخيانة ) إلا ما ) أي وقت ما ) دمت عليه قائماً ( تطالبه به غالباً لهن بما دلت عليه أداة الاستعلاء ، ثم استأنف علة الخيانة بقوله : ( ذلك ) أي الأمر البعيد من الكمال ) بأنهم قالوا ( كذباً على شرعهم ) ليس علينا في الأميين ( يعني من ليس له كتاب فليس على دينهم ) سبيل ( ولما كان الكذب من عظم القباة بمكان يظن بسببه أنه لا يجترىء عليه ذو عقل بكذبهم في هذا الأمر بخصوصه بقوله : ( بلى ) أي عليكم في خيانتهم لتحرير العذر عليكم مطلقاً ، أي سبيل - كما هو في التوراة وقد مضى نقله في البقرة في آية
77 ( ) إن الذين آمنوا والذين هادوا ( ) 7
[ البقرة : 62 ] وآية
77 ( ) وقولوا للناس حسناً ( ) 7
[ البقرة : 83 ] .
ولما مضى تقسيمهم إلى أمين وخائن استأنف بشارة الأول ونذارة الثاني على وجه عام لهم ولغيرهم لتحريم الخيانة في كل شرع في حق كل أحد منهما ، إن الله يبغض الخائن فقال : ( من أوفى بعهده ( في الدين والدنيا ) واتقى ) أي كائناً من كان ) فإن الله ( ذا الجلال والإكرام يحبه ، هكذا الأصل ، لكنه أظهر الوصف لتعليق الحكم به وإشعاراً بأنه العلة الحامخلة له على الأمانة فقال : ( يحب المتقين ( ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة رواغة عند مضائق الأمانة ، وكانت الخيانة تجر إلى الكذب بسط في الإنذار فقال : ( إن الذين يشترون ) أي يلجون في أن يأخذوا على وجه العوض ) بعهد الله ) أي الذي عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول الذي عاهدهم على الإيمان به وذكر صفته للناس ، وهو سبحانه أعلى وأعز من كل شيء فهو(2/115)
صفحة رقم 116
محيط بكل شيء قدرة وعلماً ) وأيمانهم ) أي التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل بما دل عليه العقل ) ثمناً قليلاً ( في الدنيا ) أولئك ) أي البعيدو الرتبة في الدناءة ) لا خلاق ) أي نصيب ) لهم في الآخرة ) أي لبيعهم له بنصيب الدنيا ) ولا يكلمهم الله ) أي الملك الأعظم استهانة بهم وغضباً عليهم بما انتهكوا من حرمته .
ولما زادت هذه عن آية البقرة العهد والحلف ، وكان من عادة الحالف والمعاهد النظر إلى من فعل ذلك لأجله زاد قوله : ( ولا ينظر إليهم ) أي بل يعدهم أحقر شيء بما أعرضوا عنه ، ولما كان لكثرة الجمع مدخل عظيم في مشقة الخزي قال : ( يوم القيامة ( الذي من افتضح في جمعه لم يفز ) ولا يزكيهم ( لأنهم لم يزكوا اسمه ) ولهم ) أي مع ذلك ) عذاب أليم ( يعرفون به ما جهلوا من عظمته .
ولما نسبهم إلى الكذب عموماً نبه على نوع خاص منه هو أكذب الكذب فقال : ( وإن منهم لفريقاً ) أي جبلوا على الفرق ، فهم لا يزالون يسعون في التفريق ) يلون ) أي يفتلون ويحرفون ) ألسنتهم بالكتاب ( بأن ينقلوا اللسان لتغيير لاحرف من مخرج إلى آخر - مثلاً بأن يقولوا في
77 ( ) اعبدوا الله ( ) 7
[ المائدة : 72 وغيرها ] اللات ، وفي
77 ( ) لا تقتلوا النفس إلا بالحق ( ) 7
[ الأنعام : 151 ] بالحد ، وفي ( من زنى فارجموه ) فارحموه بالمهملة ، أو فحمموه ، أو اجلدوه - ونحو هذا .
ولما كان كلام الله سبحانه وتعالى لما له من الحلاوة والجلالة لا يلبس بغيره إلا على ضعيف العقل ناقص الفطرة عبر بالحسبان تنفيراً عن السماعة منهم وتنبيهاً على بعد ما يسمعه الإنسان من غيره فقال : ( لتحسبوه ) أي الذي لوى به اللسان فحرف ) من الكتاب ) أي المنزل من عند الله ، ولما علم بهذه أنه ليس منه نبه على أنه في غاية البعد عنه فقال : ( ما هو من الكتاب ( أعاده ظاهراً تصريحاً بالتعميم .
ولما كان إيهامهم هذا من الجرأة بمكان أعلم سبحانه وتعالى أنهم تجاوزوا إلى ما هو أعظم منه فصرحوا بما أوهموه فقال : ( ويقولون ) أي مجددين التصريح بالكذب في كل وقت بأن يقولوا ) وهو من عند الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ، ثم صرح بكذبهم بقوله - مبعداً لما لووا به ألسنتهم عن أن يكون فيه ثبوت حق مظهراً في موضع الإضمار لأن الاسم الذي لم يشارك فيه أحد بوجه أنص على المراد وأنفى لكل احتمال : ( وما هو ) أي الذي لووا به ألسنتهم حتى أحالوه عن حقيقته ) من عند الله ) أي الذي له الإحاطة العامة ، فما لم يكن من عنده فلا حق فيه بوجه من الوجوه ، لا بكونه من الكتاب ولا من غيره .
ولما بين بهذا كذبهم على الله سبحانه وتعالى تصريحاً بعد أن قدم في الآية الأولى بيانه بما يظن تلويحاً أخبر بأن ذلك عادة لهم ، لا يقفون منه عند عد ، ولا ينحصرون فيه(2/116)
صفحة رقم 117
بحد ، فقال : ( ويقولون على الله ) أي الحائز لجميع العظمة جرأة منهم ) الكذب ) أي العام كما قالوا عليه هذا الكذب الخاص ، ولما كان الكذب قد يطلق لعى ما لم يتعمد ، بل وقع خطأ احترز عنه بقوله : ( وهم يعلمون ) أي أنه كذب ، لا يشكون فيه .
آل عمران : ( 79 - 91 ) ما كان لبشر. .. . .
) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ( ( )
ولما فرغ من بيان ما أراد من كتمانهم للحق مع الإشارة إلى بعض توابعه إلى أن ختم بأنهم لا يتحاشون من الكذب على الله المقتضي للكذب على الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم ، لأنهم لا علم لهم بقول الله سبحانه وتعالى إلا بواسطة الأنبياء عليهم السلام ، ومهما كان القول كذباً على الله سبحانه وتعالى اقتضى أن يكون تعبداً للمنسوب إليه من دون الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي شرعه ، وذلك موجب لأن يدعي أن النبي دعا إليه عبادته من دون الله سبحانه وتعالى ، وذلك بعد أن اوضح سبحانه وتعالى من(2/117)
صفحة رقم 118
صفات عيسى عليه الصلاة والسلام المقتضية لنفي الإلهية عنه ما لا يخفى على ذي لب شرع يبين أنهم كاذبون فيما يدعونه في عيسى عليه الصلاة والسلام ، فنفي أن يكون قال لهم ذلك أو شيئاً منه على وجه شامل له ولكل من اتصف بصفته وبسياق هو بمجرده كاف في إبطال قولهم فقال : ( ما كان ) أي صح ولا تصور بوجه من الوجوه ) لبشر ) أي من البشر كائناً من كان من عيسى وعزير عليهما الصلاة والسلام وغيرهما ) أن يؤتيه الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) الكتاب والحكم ) أي الحكمة المهيئة للحكم ، وهي العلم المؤيد بالعمل والعمل المتقن بالعلم ، لأن أصلها الإحكام ، وهو وضع الشيء في محله بحيث يمتنع فساده ) والنبوة ( وهي الخبر من الله سبحانه وتعالى المقتضي لأتم الرفعة ، يفعل الله به ذلك الأمر الجليل وينصبه للدعاء إلى اختصاصه الله بالعبادة وترك الأنداد ) ثم ( يكذب على الله سبحانه وتعالى بأن ) يقول للناس كونوا عباداً لي ( ولما كان ذلك قد يكون تجوزاً عن قبول قوله والمبادرة لامتثال أمره عن الله سبحانه وتعالى احتراز عنه بقوله : ( من دون الله ) أي المختص بجميع صفات الكمال إذ لا يشك عاقل أن من أوتي نبوة وحكمة - وهو بشر - في غاية البعد عن ادعاء مثل ذلك ، لأن كل صفة من صفاته - لا سيما تغير بشرته الدالة على انفعالاته - مستقلة بالإبعاد عن هذه الدعوى ، فلم يبق لهم مستند ، لا من جهة عقل ولا من طريق نقل ، فصار قول مثل ذلك منافياً للحكمة التي هو متلبس بها ، فصح قطعاً انتقاؤه عنه .
ولما ذكر ما لا يكون له أتبعه ما له فقال : ( ولكن ) أي يقول ) كونوا ربانيين ) أي تابعين طريق الرب منسوبين إليه بكمال العلم المزين بالعمل ، والألف والنون زيدتا للإيذان بمبالغتهم في المتابعة ورسوخهم في العلم اللدني ، فإن الرباني هو الشديد التمسك بدين الله سبحانه وتعالى وطاعته ، قال محمد بن الحنفية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنها لما مات : مات رباني هذه الأمة : ( بما كنتم تعلمون الكتاب ) أي بسبب كونكم عالمين به معلمين له ) وبما كنتم تدرسون ( فإن فائدة الدرس العلم ، وفائدة العلم العمل ، ومنه الحث على الخير والمراقبة للخالق .
ولما نفي أن يكون الحكيم من البشر داعياً إلى نفسه وأثبت أنه يكون ولا بد داعياً إلى الله سبحانه وتعالى لتظهر حكمته أثبت أن ذلك لا بد وأن يكون على وجه الإخلاص ، لأن بعض الشياطين يحكم مكره بإبعاد التهمة عن نفسه بالدعاء إلى إلى غيره على وجه الشرك لا سيما إن كان ذلك الغير ربانياً كعيسى عليه الصلاة والسلام فقال : ( ولا يأمركم ) أي ذلك البشر ) أن تتخذوا ( أتى بصيغة الافتعال إيذاناً بأن الفطر مجبولة على التوجه لله سبحانه وتعالى من غير كلفة ) الملائكة والنبيين ( فضلاً عن غيرهم ) أرباباً ((2/118)
صفحة رقم 119
أي مع الله سبحانه وتعالى من دونه ، ثم بين أن كل عبادة كان فيها أدنى شائبة فهي باطلة بقوله على طريق الإنكار تبرئة لعبادة الخلص من مثل ذلك : ( أيأمركم بالكفر ( إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غني ، لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه ) بعد إذ أنتم مسلمون ) أي منقادون لأحكامه ، أو متهيئون للتوحيد على عليّ الفطرة الأولى .
ولما بين سبحانه وتعالى فيما مضى أن التولي عن الرسل كفر ، وذكر كثيراً من الرسل فخص في ذكرهم وعمم ، ذكر قانوناً كلياً لمعرفة الرسول عنه سبحانه وتعالى والتمييز بينه وبين الكاذب فقال عاطفاً على ) إذ أنتم مسلمون ( ) وإذ أخذ الله ) أي الذي له الكمال كله ) ميثاق النبيين ) أي كافة ، والمعنى : ما كان له أن يقول ذلك بعد الإنعام عليكم بالإسلام والإنعام عليه بأخذ الميثاق على الناس - الأنبياء وغيرهم - بأن يؤمنوا به إذا اتهم ، فيكون بذلك الفعل مكفراً لغيره وكافراً بنعمة ربه ، وهذا معنى قوله : ( لما ) أي فقال لهم الله : لما ) آتيتكم ( وقراءة نافع : آتيناكم ، أوفق لسياق الجلالة - قاله الجعبري ) من كتاب وحكمة ) أي أمرتكم بها بشرع من الشرائع ، فأمرتم بذلك من أرسلتم إليه ) ثم جآءكم رسول ) أي من عندي ، ثم وصفه بما يعلم أنه من عنده فقال : ( مصدق لما معكم ) أي من ذلك الكتاب والحكمة ) لتؤمنن به ) أي أنتم وأممكم ) ولتنصرنه ) أي على من يخالفه ، فكأنه قيل : إن هذا الميثاق عظيم ، فقيل : إنّ ، زاد في تأكيده اهتماماً به فقال : ( قال ءأقررتم ) أي يا معشر النبيين ) وأخذتم على ذلكم ) أي العهد المعظم بالإشارة بأداة البعد وميم الجمع ) إصري ) أي عهدي ، سمي بذلك لما فيه من الثقل ، فإنه يشد في نفسه بالتوثيق والتوثق ، ويشتد بعد كونه على النفوس لما لها من النزوع إلى الإطلاق عن عهد التقيد بنوع من القيود ، فكأنه قيل : ما قالوا ؟ فقيل : ( قالوا أقررنا ) أي بذلك ، فقيل : ما قال ؟ فقيل ) قال فاشهدوا ) أي يا أنبياء بعضكم على بعض ، أو يا ملائكة عليهم ) وأنا معكم من الشاهدين فمن ) أي فتسبب عنه أنه من ) تولى ) أي منكم أو من أممكم الذي بلغهم ذلك عن نصرة نبي موصوف بما ذكر .
ولما كان المستحق بغاية الذم إنما هو من اتصل توليه بالموت لم يقرن الظرف بجار فقال : ( من بعد ) أي الميثاق البعيد الرتبة بما فيه من الوثاقة ) فأولئك ) أي البعداء من خصال الخير ) هم الفاسقون ) أي المختصون بالخروج العظيم عن دائرة الحق .
ولما كان المدرك لكل نبي إنما هم أمة النبي الذي قبله ، وكانوا يكذبونه ويخالفونه قال - خاتماً لهذه القصص بعد الشهادة بنفسه المقدسة بما بدأها به في قوله ) شهد الله ( الآية إلى ) إن الدين عند الله الإسلام ( على وجه الإنكار والتهديد عاطفاً على ما دل عليه السياق - : ( أفغير ) أي أتولوا ففسقوا ، فتسبب عن ذلك أنهم غير دين الله ، وأورد بأن(2/119)
صفحة رقم 120
تقديم ( غير ) يفهم أن الإنكار منحط على طلبهم اختصاصاً لغير دين الله ، وليس ذلك هو المراد كما لا يخفى ، وأجيب بأن تقديمه الاهتمام بشأنه في الإنكار ، والاختصاص متأخر مراعاته عن نكبة غيره - كما تقرر في محله ) دين الله ( الذي اختص بصفات الكمال ) يبغون ) أي يطلبون بفسقهم ، أو أتوليتم - على قراءة الخطاب ) وله ) أي والحال أنه له حاصة ) أسلم ) أي خضع بالانقياد لأحكامة والجري تحت مراده وقضائه ، لا يقدرون على مغالبة قدره بوجه ) من في السموات والأرض ( وهم من لهم قوة الدفاع بالبدن والعقل فكيف بغيرهم ) طوعاً ( بالإيمان أو بما وافق أغراضهم ) وكرهاً ( بالتسليم لقهره في إسلام أحدهم وإن كثرت أعوانه وعز سلطانه إلى أكره ما يكره وهو صاغرا داخر ، لا يستطيع أمراً ولا يجد نصراً ) وإليه يرجعون ( بالحشر ، لا تعالجون مقراً ولا تلقون ملجأ ولا مفراً ، فإذا كانوا كذلك لا يقدرون على التفصي من قبضته بنوع قوة ولا حيلة في سكون ولا حركة فكيف يخالفون ما أتاهم من أمره على ألسنة رسله وقد ثبت أنهم رسله بما أتى به كل منهم من المعجزة ومن المعلوم أن المعاند للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) معاند للمرسل .
ولما تم تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الدعاء إلى شيء غير الله ، ثم هدد من تولى ، فكان السامع جديراً بأن يقول : أنا مقبل غير متول فما اقول وما أفعل ؟ قال مخاطباً لرأس السامعين ليكون أجدر لامتثالهم : ( قل ) أي قبل كل شيء ، أي ملفتاً لمن نفعه هذا التذكير والتهديد فأقبل ) آمنا ( أنا ومن أطاعني من أمتي - مبكتاً لأهل الكتاب بما تركوه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده من خلص أبنائه ، وأبوه وجادلوا فيه عدواناً وادعوه ؛ ثم فصل المأمور بالإيمان به فقال : ( بالله ( الذي لا كفوء له .
ولما كان الإنزال على الشيء مقصوداً به ذلك الشيء بالقصد الأول كان الأنسب أن يقال : ( وما أنزل علينا ( فيكون ذلك له حقيقة ولأتباعه مجازاً ، وكانت هذه السورة بذلك أحق لأنها سورة التوحيد ) وما أنزل على إبراهيم ) أي أبينا ) وإسماعيل وإسحاق ) أي ابنيه ) ويعقوب ( ابن إسحاق ) والأسباط ) أي أولاد يعقوب .
ولما كان ما ناله صاحبا شريعة بني إسرائيل من الكتابين المنزلين عليهما والمعجزا الممنوحين بها أعظم مما كان لمن قبلهما غير السياق إلى قوله : ( وما أوتي موسى ( من أولاد الأسباط من التوراة والشريعة ) وعيسى ( من ذرية داود من الإنجيل والسريعة الناسخة لشريعة موسى عليهما الصلاة والسلام .
ولما كان النظر هنا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر لكونها سورة التوحيد الذي هو أخلق به(2/120)
صفحة رقم 121
وأغرق فيه ناسب الإإعراء عن التأكيد بما في البقرة ، ونظر إلى الكل لمحاً واحداً فقال : ( والنبيون ) أي كافة من الوحي والمعجزات ليكون الإيمان بالمنزل مذكوراً مرتين لشرفه ) من ربهم ) أي المحسن إليهم خاصة وإلى العباد عامة بإرسالهم إليهم ؛ ثم استأنف تفسير هذا الإيمان بقوله : ( لا نفرق بين أحد منهم ( تنبيهاً على الموضع الذي كفر به اليهود والنصارى ) ونحن له ) أي لله وما أنزل من عنده ) مسلمون ) أي منقادون على طريق الإخلاص والرضى .
ولما أمر سبحانه وتعالى بإظهار الإيمان بهذا القول ، وكان ذلك هو الإذعان الذي هو الإسلام قال - محذراً من الردة عنه عاطفاً على ) آمنا ( ومظهراً لما من حقه الإضمار لولا إرادة التنبيه على ذلك مشيراً بصيغة الافتعال إلى مخالفة الفطرة الأولى - : ( ومن يبتغ ) أي يتطلب ) غير ( دين ) الإسلام ( الذي هو ما ذكر من الانقياد لله سبحانه وتعالى المشتمل على الشرائع المعروفة التي أساها الإيمان بعد التلبس به حقيقة بإظهار اتباع الرسل أو مجازاً بالكون على الفطرة الأولى بما أشعر به الابتغاء - كما تقدم ، وكرر الإسلام في هذا السياق كثيراً لكونه في حيز الميثاق المأخوذ بمتابعة الرسول المصدق حثاً على تمام الانقياد له ) ديناً ( وأتى بالفاء الرابطة إعلاماً بأن ما بعدها مسبب عما قبلها ومربوط به فقال : ( فلن يقبل منه ) أي في الدنيا ، وأشعر ترتيب هذا على السبب بأنه يرجى زوال السبب لأنه مما عرض للعبد كما جرى في الردة في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه ، فإنه رجع إلى الإسلام أكثر المرتدين وحسن إسلامهم ، وقوله : ( وهو في الآخرة من الخاسرين ( معناه : ولا يقبل منهم في الآخرة ، مع زيادة التصريح بالخسارة - وهي حرمان الثواب - المنافية لمقاصدهم ، والقصد الأعظم بهذا أهل التكاب مع العموم لغيرهم لإقرارهم بهذا النبي الكريم وتوقعهم له ، عالمين قطعاً بصدقه لما في كتبهم من البشارة به .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بخسارة من ارتد عن الإسلام شرع يستدل على استحقاقه لذلك بقوله : ( كيف يهدي الله ( مع ما له من كمال العظمة ) قوماً ) أي يخلق الهداية في قلوب ناس بهم قوة المحاولة لما يريدونه ) كفروا ( ي أوقعوا الكفر بالله ربهم وبما ذكر مما أتت به رسله إعراضاَ عنه وعنهم ، ولما كان المقصود بكمال الذم من استمر كفره إلى الموت قال من غير جار : ( بعد إيمانهم ( بذلك كله ) وشهدوا ) أي وبعد أن شهدوا ) أن الرسول حق ( بما عنهم من العلم به ) وجاءهم البينات ) أي القاطعة بأن حق وأنه رسول الله قطعاً ، لا شيء أقوى من بيانه ولا أشد من ظهوره بما أشعر به إسقاط تاء التأنيث من جاء .(2/121)
صفحة رقم 122
ولما كان الحائد عن الدليل بعد البيان لا يرجى في الغالب عوده كان الاستبعاد بكيف موضحاً لأن التقدير لأجل التصريح بالمراد : أولئك لا يهديهم الله لظلمهم بوضعهم ثمرة الجهل بنقض عهد الله سبحانه وتعالى المؤكد بواسطة رسله موضع ثمرة العلم ، فعطف على هذا المقدر المعلوم تقديره قوله : ( والله ) أي الذي له الكمال كله ) لا يهدي القوم الظالمين ) أي الغريقين في الظلم لكونه جبلهم على ذلك ، تحذيراً من مطلق الظلم ، ولما علمت بشاعة خيانتهم تشوف السامع إلى معرفة جزائهم فقال : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) جزاؤهم أن عليهم لعنة الله ) أي الملك الأعظم ، وهي غضبه وطرده ) والملائكة والناس أجمعين ( حتى أنهم هم ليلعنون أنفسهم ، فإن الكافر يطبع على قلبه فيظن أنه على هدى ويصير يلعن الكافر ظاناً أنه ليس بكافر ، وهذا اللعن واقع عليهم حال تلبسهم بالفعل لوضعهم الشيء في غير محله ، فصار كل من له علم يبعدهم لسوء صنيعهم لتبديلهم الحسن بالسيء ، حذراً من فعل مثل ذلك معه ) خالدين فيها ) أي اللعنة دائماً .
ولما كان المقيم في الشدة قد تنقص شدته على طول نفي ذلك بقوله : ( لا يخفف عنهم العذاب ( مفيداً ان عليهم مع مطلق الشدة بالطرد شدائد أخرى بالعقوبة .
ولما كان المعذب على شيء ربما استمهل وقتاً ما ليرجع عن ذلك الشيء أو ليعتذر نفى ذلك بقوله : ( ولا هم ينظرون ( ي يؤخرون للعلم بحالهم باطناً وظاهراً حالاً ومآلاً ، ولإقامة الحجة عليهم من جميع الوجوه ، لم يترك شيء نمها لأن المقيم لها منزه عن العجز والنسيان .
ولما انخلعت القلوب بهذه الكروب نفّس عنها سبحانه وتعالى مشيراً إلى أن فيهم - وإن استبعد رجوعهم - موضعاً للرجاء بقوله : ( إلا الذين تابوا ) أي رجعوا إلى ربهم متذكرين لإحسانه ، ولما كان التائب لم يستغرق زمان ما بعد الإيمان بالكفر ، وكانت التوبة مقبولة ولو قل زمنها أثبت الجار فقال : ( من بعد ذلك ( الارتدار حيث تقبل التوبة ) وأصلحوا ) أي بالاستمرار على ما تقضيه من الثمرات الحسنة ) فإن الله ) أي الذي له الجلال والإكرام يغفر ذنوبهم لأن الله ) غفور ( يمحو الزلات ) رحيم ( بإعطاء المثوبات ، هذه صفة لهم ولكل من تاب من ذنبه .
ولما رغب في التوبة رهب من التواني عنها فقال : ( إن الذين كفروا ) أي بالله وأوامره ، وأسقط الجار لما مضى من قوله ) من بعد إيمانهم ( بذلك .
ولما كان الكفر لفظاعته وقبحه وشناعته جديراً بالنفرة عنه والبعد منه نبه سبحانه وتعالى على ذلك باستبعاد إيقاعه ، فكيف بالتمادي عليه فكيف بالازدياد منه وعبر عن ذلك بأداة التراخي(2/122)
صفحة رقم 123
فقال : ( ثم ازدادوا كفراً ) أي بأن تمادوا على ذلك ولم يبادروا بالتوبة ) لن تقبل توبتهم ) أي إن تابوا ، لأن الله سبحانه وتعالى يطبع على قلوبهم فلا يتوبون توبة نصوحاً يدومون عليها ويصلحون ما فسد ، أو لن توجد منهم توبة حتى يترتب عليها القبول لانهم زادوا عن أهل القسم الأول بالتمادي ، ولم يأت بالفاء الدالة على أنه مسبب عما قبله إعلاماً بأن ذلك إنما هو لأنهم مطبوع على قلوبهم ، مهيؤون للكفر من أصل الجبلة ، فلا يتبوبون أبداً توبة صيحة ، فالعلة الحقيقية الطبع لا الذنب ، وهذا شامل لمن تاب عن شيء وقع منه كأبي عزة الجمحي ، ولمن لم يتب كحيي بن أخطب
77 ( ) ولو أسمعهم لتولوا ( ) 7
[ الأنفال : 23 ] لوقوعهم في أبعد شعابة وأضيق نقابه ، فأنى لهم بالرجوع منه والتقصي عنه ولما أثبت لهم الخصوصية بذلك لائناً لهم فيه إلى حد أيس معه من رجعوعهم تشوف السامع إلى حالهم في الاخرة فقال مبيناً لهم أن السبب في عدم قبول توبتهم تفويت محلها بتماديهم على الكفر : ( إن الذين كفروا ) أي هذا الكفر أو غيره ، ويجوز أن يكون المراد أنهم ثلاثة أقسام : التائبون توبة صحيحة وهم الذين أصلحوا ، والتائبون توبة فاسدة ، والواصلون كفرهم بالموت من غير توبة ، ولذا قال : ( وماتوا وهم كفار ( ولما كان الموت كذلك سبباً للخلود في النار لأن السياق للكفر والموت عليه ، صرح بنفي قبول الفداء كائناً من كان ، وربطه بالفاء فقال : ( فلن يقبل ( ي بسبب شناعة فعلهم الذي هو الاجتراء على الكفر ثم الموت عليه ) من أحدهم ) أي كائناً من كان ) ملء الأرض ذهباً ) أي من الذهبن لا يتجدد له قبول ذلك لو بذله هبة أوهيدية أو غير ذلك ) ولو افتدى به ( لو في مثل هذا السياق تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعطوا السائل ولو جاء على فرس ) فكونه جاء على فرس يؤذن بغناه ، فلا(2/123)
صفحة رقم 124
يناسب أن يعطى قنص عليه ؛ وأما هنا فلما كان قبول الفدية واجباً عند أهل الكتاب - كما مر في قوله سبحانه وتعالى ) ) وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ( ) [ البقرة : 85 ] كان بحيث ربما ظن أن بذله - على طريق الافتداء يخالف بذله على غير ذلك الوجه حتى يجب قبوله ، فنص عليه ؛ وأيضاً فحالة الافتداء حالة لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه ، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدى - قاله أبو حيان .
فالمعنى : لا يقبل من أحدهم ما يملأ الأرض من الذهب على حال من الأحوال ولو على حال الافتداء ، والمراد بالمثال المبالغة في الكثرة ، أي لا يقبل منه شيء ؛ وإنما اقتصر على ملء الأرض لأنه أكثر ما يدخل تحت أوهام الناس ويجري ي محاوراتهم - والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما تشوف السامع إلى معرفة ما يحل بهم أجيب بقوله : ( أولئك ) أي البعداء من الرحمة ) لهم عذاب أليم ( ولعظمته أغرق في النفي بعده بزيادة الجار فقال : ( وما لهم من ناصرين ) أي ينصرونهم بوجه من لوجوه ، فانتفى عنهم كل وجه من وجوه الاستنقاذ .
آل عمران : ( 92 - 103 ) لن تنالوا البر. .. . .
) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ(2/124)
صفحة رقم 125
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) 73
( ) 71
ولما كان آخر هذه القصص في الحقيقة إبطال كل ما خالف الإسلام الذي هو معنى
77 ( ) إن الدين ند الله الإسلام ( ) 7
[ آل عمران : 19 ] - وما بعد ذلك إنما جرّه - ختم الآية بدعوى أن المخالفين من الخاسري ، وختم ذلك بأن من مات على الكفر لا يقبل إنفاقه للإنقاذ مما يلحقه من الشدائد ، لا بدفع لقاهر ولا بتقويلة لناصر ، فتشوفت النفس إلى الوقت الذي يفيد فيه الإنفاق وأي وجوهه أنفع ، فأرشد إلى ذلك وإلى أن الأحب منه أجدر بالقبول ، رجوعاً إلى ما قرره سبحانه وتعالى قبل آية الشهادة بالوحدانية من صفة عباده المنفقين والمستغفرين بالأسحار على وجه أبلغ بقوله : ( لن تنالوا البر ( وهو كمال الخير ) حتى تنفقوا ) أي في وجوه الخير ) مما تحبون ) أي من كل ما تقتضون ، كما ترك إسرائيل عليه الصلاة والسلام أحب الطعام إليه لله سبحانه وتعالى .
ولما كان التقدير : فإن أنفقتم منه علمه الله سبحانه وتعالى فأنالكم به البر ، وإن تيممتم الخبيث الذي تكرهونه فأنفقتموه لم تبروا ، وكان كل من المحبة والكراهة أمراً خفياً ، قال سبحانه وتعالى مرغماً مرهباً : ( وما تنفقوا من شيء ) أي من المحبوب وغيره ) فإن الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة .
وقدم الجار اهتماماً به إظهاراً لأنه يعلمه من جميع وجوهه ما تقول لمن سالك - هل تعلم كذا : لا أعلم إلا هو ، فقال : ( به عليم ( فهذا كما ترى احتباك .
ولما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الإخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى : ( كل الطعام ) أي من الشحوم مطلقاً وغيرها ) كان حلاًّ لبني إسرائيل ( تبرراً وتطوعاً ) على نفسه ( وخصه بالذكر استجلاباً لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم .
ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا : إنما حرم ذلك اتباعاً لحكم التوراة قال : ( من قبل ( وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان ، لا مستغرقاً له .
وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال : ( أن تنزل التوراة ( وكان قد ترك لحوم الإبل(2/125)
صفحة رقم 126
وألبانها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثاراً لعباده - كما تقدم ذلك في البقرة عند
77 ( ) فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ( ) 7
[ البقرة : 89 ] ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة ، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم ، فكانوا يقولون : لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا ، فأمر بجوابهم بأن قال : ( قل ) أي لليهود ) فأتوا بالتوارة فاتلوها ) أي لتدل لكم ) إن كنتم صادقين ( فيما ادعيتموه ، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا ) فمن ) أي فتسبب عن ذلك أنه من ) افترى ) أي تعمد ) على الله ) أي الملك الأعظم ) الكذب ) أي في أمر المطاعم أو غيرها .
ولما كان المراد النهي عن أيقاع الكذب في أي زمن كان ، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال : ( من بعد ذلك ) أي البيان العظيم الظاهر جداً ) فأولئك ) أي الأباعد الأباغض ) هم ( خاصة لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية ) الظالمون ) أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام ، فهو لا يضع شيئاً في موضعه ، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة .
ولما اضتح كذبهم وافتضح تدليسهم - لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس ، لا شك فيه ولا لبس ، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب - أمر سبحانه وتعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( قل ) أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم ) صدق الله ) أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر ، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم ، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام ، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة ، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن اإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك ، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به ، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن .
ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه ، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه ، لا فيما افتروه هم من الكذب ، فقال سبحانه وتعالى : ( فاتبعوا ملة إبراهيم ( وهي الإسلام أي الانقياد للدليل ، وهو معنى قوله : ( حنيفاً ) أي تابعاً للحجة إذا تحررت ، غير متقيد بمألوف .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) مفطوراً .(2/126)
صفحة رقم 127
على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال : ( وما كان من المشركين ) أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى .
ولما ألزمهم سبحانه وتعالى بالدليل الذي دل على النسخ أنهم على غير ملة إبراهيم عليه الصاة ولاسلام ، وأوجب عليهم اتباعها بعد بيان أنها هي ما عليه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه ، أخبر عن البيت الذي يخول إليه التوجه في الصلاة ، فعابوه على أهل الإسلام أنه أعظم شعائر إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كفروا بتركها ، ولذلك أبلغ في تأكيده فقال سبحانه وتعالى : ( إن أول بيت ) أي من البيوت الجامعة للعبادة ) وضع للناس ) أي على العموم متعبداً واجباً عليهم قصده وحجه بما أمرهم به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ، واستقباله في الصلاة بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك ، ولعل بناء وضع ، للمفعول إشارة إلى أن وضعه كان قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ) للذي ببكة ) أي البلدة التي تدق أعناق الجبابرة ، ويزدحم الناس فيها إزدحاماً لا يكون في غيرها مثله ولا قريب منه ، فلا بد أن يدق هذا النبي الذي أظهرته منها الأعناق من ذلك ختم في الدارين غاية الخيبة ودام ذلكم وصغاركم ؛ حال كونه ) مباركاً ) أي عظيم الثبات كثير الخيرات في الدين والدنيا ) وهدى للعالمين ) أي من بني إسرائيل ومن قبلهم ومن بعدهم ، فعاب عليهم سبحانه وتعالى في هذه الآية فعلهم من النسخ ما أنكروه على مولاهم .
وذلك نسخهم لما شرعه من حجة من عند أنفسهم تحريفاً منهم نمثالاً لما قدم من الإخبار به عن كذبهم ، وهذا أمر شهير يسجل عليهم بالمخالفة ويثبت للمؤمنين المؤالفة ، فغن حج البيت الحرام وتعظيمه من أعظم ما شرعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام - كما هو مبين في السير وغيرها وهم عالمون بذلك ، وقد حجه أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم - كما روي من غير طريق عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أن في بعض الطرق أنه كان مع موسى عليه الصلاة في حجة إليه سبعون ألفاً من بني إسرائيل ، ومن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم ، ومن الأمر الواضح أنهم قد تركوا(2/127)
صفحة رقم 128
هذه الشريعة العظيمة أصلاً ورأساً ، فكيف يصح لهم دعوى أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع انسلاخهم من معظم شرائعه ثم فسر الهدى بقوله : ( فيه آيات بينات ( وقول : ( مقام إبراهيم ) أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف - أعربه أبو حيان بدلاً أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر ) إن ( في قوله : ( للذي ببكة ( فكأنه قيل : إن أول بيت وضع للناس لمقام إبراهيم ، وأعربه غيره بدل بعض من قوله ) آيات ( وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم ، وحفظه إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً ، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام .
ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى : ( ومن دخله ) أي فضلاً عن أهله ) كان آمناً ) أي عريقاً في الأمن ، أو أمنوه بأمان الله ، وتحويل العبارة عن ( وأمن داخله ) لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن ، وفيه بشارة بدخول الجنة .
ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم ، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى : ( ةلله ) أي الملك الذي له الأمر كله ) على الناس ) أي عامة ، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في
77 ( ) استطعما أهلها ( ) 7
[ الكهف : 77 ] في الكهف ، وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم ) حج البيت ) أي زيارته زيارة عظيمة ، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره ، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة ، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم ، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج ، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس ، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة : ( من استطاع ) أي منهم ) إليه سبيلاً ( فمن حجه كان مؤمناً .
ولما كان من الواضح أن التقدير : ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب ، وبالمروق من الدين إن جحد ، عطف عليه قوله : ( ومن كفر ) أي بالنعمة أو بالدين ) فإن الله ( اي الملك الأعلى ) غني ( ولما كان غناه مطلقاً دل(2/128)
صفحة رقم 129
عليه بقوله موضع عنه : ( عن العالمين ) أي طائعهم وعاصيهم ، صامتهم وناطقهم ، رطبهم ويابسهم ، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دنيه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم ، فثبتت بذلك براءةته منهم ، والآية من الاحتعباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه ، وإثبات ) ومن كفر ( ثانياً يدل على إيمانه من حجه .
ولما أتم سبحانه وعز شأنه البراهين وأحكم الدلائل عقلاً وسمعاً ، ولم يبق لمتعنت شبهة ، ولم يبادروا الإذعان ، بل زادوا في الطغيان ، وكادوا أن يوقعوا الضراب والطعان بين أهل الإيمان ، أعرض سبحانه وتعالى عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب ورابع الانتقام فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لرسوله الذي يكون قتلهم على يده : ( قل ( وأثبت أداة دالة على بعدهم عن الحضرة القدسية فقالك ) ايا أهل الكتاب ) أي من الفريقين ) لم تكفرون ) أي توقعون الكفر ) بآيات الله ) أي وهي - لكونه الحائز بجميع الكمال - البينات نقلاً وعقلاً الدالة على أنكم على الباطل لما وضح من أنكم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
ولما كان كفرهم ظاهراً ذكر شهادته تعالى فقال مهدداً ) والله ) أي والحال أن الله الذي هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً فلا إله غيره وقد أشركتم به ) شهيد على ( كل ) ما تعملون ) أي لكونه يعلم سبحانه السر وأخفى وإن حرفتم وأسررتم .
ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال : ( قل يا آهل الكتاب ) أي المدعين للعلم واتباع الوحي ، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التطلف في صرفهم عن ضلالهم ) لم تصدون ) أي بعد كفركم ) عن سبيل الله ) أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمل ، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقدمه اهتماماً به .
ثم ذكر المفعول فقال : ( من أمن ( حال كونكم ) تبغونها ) أي السبيل ) عوجاً ) أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله ، ولم يفعل سبحانه وتعالى إذ أعرض عنهم في هذه الآية ما فعل من قبل إذ أقبل عليهم بلذيذ خطابه تعالى جده وتعاظم مجده إذ قال :
77 ( ) يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ( ) 7
[ آل عمران : 65 ]
77 ( ) ياأهل الكتاب لم تكفرون ( ) 7
[ آل عمران : 70 ] والآية التي بعدها بغير واسطة .
وقال أبو البقاء في إعرابه : إن تبغون يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من الضمير في تصدون أو من السبيل ، لأن فيها ضميرين راجعين إليها ، فلذلك يصح أن يجعل حالاً من كل واحد منهما ، وعوجاً حال - انتهى .
وقال صاحب القاموس في(2/129)
صفحة رقم 130
بنات الواو : بغا الشيء بغواً : نظر إليه كيف هو ، وقال في بنات الياء : بغيته أبغيه : طلبته ، فالظاهر أن جعل عوجاً حالاً - كما قال أبو البقاء - اصوب من جعله مفعولاً - كما قال في الكشاف .
ويكون تبغون إما يائياً فيكون معناه : تريدونها معوجة أو ذات عوج ، فإن طلب بمعنى : أراد ؛ وإما أن يكون واوياً بمعنى : ترونها ذات عوج ، أي تجعلونها في نظركم يعني : تتكلفون وصفها بالعوج مع علمكم باستقامتها ، لكن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الصحيح ( ابغني أحجاراً أستنفض بهن ) يؤيد قول صاحب الكشاف .
ولما ذكر صدهم وإرادتهم العود الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً : ( وأنتم شهداء ) أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به لانقيادهم للأدلة .
ولما كان الشهيد قد يغفل ، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم ، هددهم بإحاطة علمه فقال : ( وما الله ) أي الذي تقدم أنه شهيدعليكم وله صفات الكمال كلها ) بغافل ) أي أصلاً ) عما تعملون ( ولما تم إيذانه بالسخط على أعدائه وأبلغ في إنذارهم عظيم انتقامه إن داموا على إضلالهم ، أقبل بالبشر على أحبائه ، مواجهاً لهم بلذيذ خطابه وصفي غنائه ، محذراً لهم الاغتراب بالمضلين ، ومنبهاً ومرشداً ومذكرلاً ودالاً على ما ختم به ما قبلها من إحاطة علمه بدقيق مكر اليهود ، فقال سبحانه وتعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي بنبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن تطيعوا فريقاً ( أتى بهذا اللفظ لما كان المحذر منه الافتراق والمقاطعة الذي يأتي عيب أهل الكتاب به ) من الذين أوتوا الكتاب ) أي القاطعين بين الأحباب مثل شأس بن قيس الذي مكر بكم إلى أن أوقع الحرب بينكم ، فلولا النبي الذي رحمكم به ربكم لعدتم إلى شر ما كنتم فيه ) بعد إيمانكم كافرين ) أي غريقين في صفة الكفر ، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها .
ولما حذرهم منهم عظم عليهم طاعتهم باإنكار والتعجيب من ذلك مع ما هم عليه بعد اتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من الأحوال الشريفة فقال - عاطفاً على ما تقديره : فكيف تطيعونهم وأنتم تعلمون عداوتهم : ( وكيف تكفرون ) أي يقع منكم ذلك في وقت من الأوقات على حال من الأحوال ) وأنتم تتلى ) أي تواصل بالقراءة ) عليكم آيات الله ) أي علامات الملك الأعظم البينات ) وفيكم رسوله ( الهادي من الضلالة المنفذ من الجهالة ، فتكونون قد جمعتم إلى موافقة العدو مخالفة الولي وأنتم بعينه وفيكم أمينه بكل شيء علماً وقدرةً في جميع أحواله كائناً من كان .
ولما كان من قصر نفسه على من(2/130)
صفحة رقم 131
له الكمال كله متوقعاً للفلاح عبر بأداة التوقع مقرونة بفاء السبب فقال : ( فقد هدى ( وعبر بالمجهول على طريقة كلام القادرين ) إلى صراط مستقيم ( ولما انقضى هذا التحذير من أهل الكتاب والتعجيب والترغيب ، أمر بما يثمر ذلك من رضاه فقال : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك بألسنتهم ) اتقوا الله ) أي صدقوا دعواكم بتقوى ذي الجلال والإكرام ) جق تقاته ( فأديموا الانقياد له بدوام مراقبته ولا تقطعوا أمراً دونه ) ولا تموتن ( على حالة من الحالات ) إلا وأنتم مسلمون ) أي منقادون أتم الانقياد ، ونقل عن العارف أبي الحسن الشاذلي أن هذه الآية في اصل الدين وهو التوحيد ، وقوله سبحانه وتعالى :
77 ( ) فاتقوا الله ما استطعتم ( ) 7
[ التغابن : 16 ] في فروعه .
ولما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً ، دلهم - بعد أن أوقفتهم التقوى - على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال : ( واعتصموا ) أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم ) بحبل الله ) أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها ، وأصل الحبل السبب الذي يوصف به إلى البغية والحاجة ، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف ، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح مثال دقته ، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله .
ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله : ( جميعاً ( لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها ، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره ، ولا تغفلو عنه فيختل النظام ، وتتعبوا على الدوام ، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل ، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى ، ثم أكد ذلك بقوله : ( ولا تفرقوا ( ثم ذكرهم نعمة الاجتماع ، لأن ذلك باعث على شكرها ، وهو باعث على إدامة الاعتصام ولاتقوى ، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال : ( واذكروا نعمة الله ( الذي له الكمال كله ) عليكم ( يا من اعتصم بعصام الدين ) إذا كنتم أعداء ( متنافرين أشد تنافر ) فألف بين قلوبكم ( بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم ) فأصبحتم بنعمته إخواناً ( قد نزع ما في قلوبكم من الإحن ، وأزال تلك الفتن والمحن .
ولما ذكر النعمة التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي(2/131)
صفحة رقم 132
عصمت من الهلاك الأبدي فقال : ( وكنتم على شفا ) أي حرف وطرف ) حفرة من النار ( بما كنتم فيه من الجاهلية ) فأنقذكم منها ( ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله - جواباً لمن يقول : لله در هذا البيان ما أغربه من بيان - ) كذلك ) أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال ) يبين الله ( المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته ) لكم آيته ( وعظم الأمر بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه .
ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله : ( لعلكم تهتدون ) أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته ، هذا الترجي حالكم فيما بينكم ، وأما هو سبحانه وتالى فقد أحاط علمه بالسعيد ولاشقي ، ثم الأمر إليه ، فمن شاء هداه ، ومن أراد أراده .
آل عمران : ( 104 - 112 ) ولتكن منكم أمة. .. . .
) وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( ( )
ولما عاب سبحانه وتعهالى الكفار بالضلال ثم بالإضلال أمر المؤمنين بالهدى في أنفسهم ، وأتبعه الأمر بهداية الغير بالاجتماع ، وكان الأمر بالاجتماع المؤكد بالنهي عن التفرق ربما أفهم الوجوب لتفرد الجميع في كل جزئية من جزئيات العبادة في كل وقت على سبيل الاجتماع مع الإعراض عن كل عائق عن ذلك سواء كان وسيلة أو لا بالنسبة إلى كل فرد فرد _ أتبعه بقوله - منبهاً على الرضى بإيقاع ذلك في الجملة سواء كان بالبعض أو الكل كما هو شأن فروض الكفايات - : ( ولتكن منك أمة ) أي جماعة تصلح لأن يقصدها غيرها ، ويكون بعضها قاصداً بعضاً ، حتى تكون أشد شيء ائتلافاً واجتماعاً(2/132)
صفحة رقم 133
في كل وقت من الأوقات على البدل ) يدعون ( مجددين لذلك في كل وقت ) إلى الخير ) أي بالجهاد والتعليم والوعظ والتذكير .
ولما عم كل خير خص ليكون المخصوص مأموراً به مرتين دلالة على جبليل أمره وعليّ قدره فقال : ( ويأمرون بالمعروف ) أي من الدين ) وينهون عن المنكر ( فيه بحيث لا يخلو وقت من لالأوقات عن قوم قائمين بذلك ، وهو تنبيه لهم على أن يلازموا ما فعله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حين استفزهم الشيطان بمكر شاس بن قيس في التذكير بالأحقاد والأضغان والأنكاد ، وإعلام بأن الذكرى تنفع المؤمنين .
ولما كان هذا السياق مفهماً لأن التقدير : فإنهم ينالون بذلك خيراً كثيراً ، ولهم نعيم مقيم ؛ عطف عليه مرغباً : ( وأولئك ) أي العالون الرتبة العظيمو النفع ) هم المفلحون ( حق الإفلاح ، فبين سبحانه وتعالى أن الاجتماع المأمور به إنما هو بالقلوب الجاعلة لهم كالجسد الواحد ، ولا يضر فيه صرف بعض الأوقات إلى المعاش وتنعيم البدن ببعض المباحات ، وإن كان الأكمل صرف الكل بالنية إلى العبادة .
ولما أمر بذلك أكده بالنهي عما يضاده معرضاً بمن نزلت هذه الآيات فيهم من أهل الكتاب مبكتاً لهم بضلالهم واختلافهم في دينهم على أنبيائهم فقال : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا ( بما ابتدعوه في اصول دينهم وبما ارتكبوه من المعاصي ، فقادهم ذلك ولا بد إلى التخاذل والتواكل والمداهنة التي قصدوا بها المسالمة فجرتهم إلى المصارمة .
ولما كان التفرق ربما كان بالأبدان فقط مع الاتفاق في الآراء بيَّن أن الأمر ليس كذلك فقال : ( واختلفوا ( بما أثمر لهم الحقد الحامل على الاتصاف بحالة من يظن أنهم جميع وقلوبهم شتى .
ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فيه : ( من ) أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من ) بعدما جاءهم ( وعظمه بإعرائه عن التأنيث ) البينات ) أي بما يجمعهم ويعليهم ويرفعهم ويوجب اتفاقهم وينفعهم ، فأرداهم ذلك الافتراق وأهلكهم .
ولما كان التقدير : فأولئك قد تعجلوا لاهلاك في الدنيا فهم الخائبون ، عطف عليه قوله : ( وأولئك ) أي البعداء البغضاء ) لهم عذاب عظيم ) أي في الدار الآخرة بعد عذاب الدنيا باختلافهم منابذين لما من شأنه الجمع ، والآية من الاحتباك : إثبات ( المفلحون ) أولاً يدل على ( الخاسرون ) ثانياً ، والعذاب العظيم ثانياً يدل على النعيم المقيم أولاً .(2/133)
صفحة رقم 134
ولما قدم ما لأهل الكتاب المقدمين على الكفر على علم يوم القيامة في قوله
77 ( ) إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ( ) 7
[ آل عمران : 77 ] وختم تلك الآية بأنهم لهم عذاب أليم واستمر حتى ختم هذه الآية بأنه مع ذلك عظيم ؛ بين ذلك اليوم بقوله - بادئاً بما هو أنكى لهم من تنعيم أضدادهم - : ( يوم تبيض وجوه ) أي بما لها من المآثر الحسنة ) وتسود وجوه ( بما عليها من الجرائر السيئة ) فأما الذين اسودت وجوههم ( بدأ بهم لأن النشر المشوش أفصح ، ولأن المقام للترهيب وزيادة النكاية لأهله ، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً : ( أكفرتم ( يا سود الوجوه وعبيد الشهوات ) بعد إيمانكم ( بما جبلتم عليه من الفطر السليمة ومكنتم به من العقول المستقيمة من النظر في الدلائل ، ثم بما أخذ عليكم أنبياؤكم من العهود ) فذوقوا العذاب ) أي الأليم العظيم ) بما كنتم تكفرون ( وأنتم تعلمون ، فإنكم في لعنة الله ماكثون ) وأما الذين ابيضت وجوهم ( إشراقاً وبهاء لأنهم آمنوا فأمنوا من العذاب ) ففي رحمة الله ) أي ثمرة فعل ذي الجلال والإكرام الذي هو فعل الراحم .
لا في غير رحمته .
ثم أجاب عن سؤال من كأنه قال : هل تزول عنهم كما هو حال النعم في الدنيا ؟ بقوله - على وجه يفهم لزومها لهم في الدنيا والآخرة - : ( هم ) أي خاصة ) فيها خالدون ( فلذا كانوا يؤمنون ، فالآية من الاحتباك : إثبات الكفر أولاً دل على إرادة الإيمان ثانياً ، وإثبات لارحمة ثانياً دل على حذف اللعنة أولاً .
ولما حازت هذه الآية من التهذيب وإحكام الترتيب وحسن السياق قصب السباق أشار إليها مع قربها بأداة البعد وأضافها إلى أعظم أسمائه فقال : ( اتلك آيات الله ) أي هذه دلائل الملك الأعظم العالية الرتب البعيدة المتناول ، ثم استأنف الخبر عنها في مظهر العظمة قائلاً : ( نتلوها ) أي نلازم قصها ، وزاد في تعظيمها بعد المبتدأ بالمنتهي فقال : ( عليك ( ثم أكد ذلك بقوله : ( بالحق ) أي ثابتة المعاني راسخة المقاصد صادقة الأقوال في كل مما أخبرت به من فوزكم وهلاكهم من غير أن نظلم أحداً منهم ) وما الله ) أي الحائز لجميع الكمال ) يريد ظلماً ( قلَّ أو جلَّ ) للعالمين ) أي ما ظلمهم ولا يريد ظلم أحد منهم ، لأنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن ذلك ، لا يتصور منه وهو غني عنه ، لأن له كل شيء .
ولما كان أمرهم بالإقبال عليه ونهيهم عن الإعراض عنه ربما أوقع في وهم أنه غير قادر على ضبطهم أو محتاج إلى ربطهم أزال ذلك دالاً على أنه غني عن الظلم بقوله : ( ولله ( الملك الأعلى ) ما ) أي كل شيء ) في السموات و ( كل ) ما ي الأرض ( من جوهر وعرض مٍلكاً ومُلكاً .
ولما كان المقصود سعة الملك لم يضمر لئلا يظن تخصيص الثاني بما في حيز الأول فقال : ( وإلى الله ( الذي لا أمر لأحد معه(2/134)
صفحة رقم 135
) ترجع الأمور ) أي كلها ، التي فيهما والتي في غيرهما ، فلا داعي له إلى الظلم ، لأنه غني عن كل شيء وقادر على كل شيء .
ولما كان من رجوع الأمور إليه هدايته من يشاء وإضلاله من يشاء قال - مادحاً لهذه الأمة ليمنعوا في رضاه حمداً وشكراً ومؤيساً لأهل الكتاب عن إضلالهم ليزدادوا حيرة وسكراً : ( كنتم خير أمة ) أي وجدتم على هذا الوصف الثابت لكم جبلة وطبعاً .
ثم وصف الأمة بما يدل على عموم الرسالة وأنهم سيقهرون أهل الكتاب فقال : ( أخرجت للناس ( ثم بين وجه الخيرية بما لم يصحل مجموعة لغيرهم على ما هم عليه من المكنة بقوله : ( تأمرون ) أي على سبيل التجدد والاستمرار ) بالمعروف ) أي كل ما عرفه الشرع وأجازه ) وتنهون عن المنكر ( وهو ما خالف ذلك ، ولو وصل الأمر إلى القتال ، مبشراً لهم بأنه قضى في ألأزل أنهم يمتثلون ما أمرهم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ( إراحة لهم من كلفة النظر في أنهم هل يمتثلون فيفلحوا ، وإزاحة لحملهم أعباء الخطر بكونهم يعانون عليه ليفوزوا ويربحوا ، فصارت فائدة الأمر كثيرة الثواب بقصد امتثال الواجب ، وللترمذي وقال : حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه يقول في هذه الآية : ( أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله سبحانه وتعالى ) وللبخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : ( أنتم خير الناس للناس ، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام ) ولما أخبر عنهم بهذا الوصف الشريف في نفسه أتبعه منا زاده شرفاً ، وهو أنهم فعلوه في حال إيمانهم فهو معتبر به لوجود شرطه الذي هو أساس كل خير فقال ) وتؤمنون ) أي تفعلون ذلك والحال أنكم تؤمنون ) بالله ( ي الملك الأعلى الذي تاهت الأفكار في معرفة كنه ذاته ، وراتدت نوافذ أبصار البصائر خاسئة عن حصر صفاته ، أي تصدقون أنبياءه ورسله بسببه في كل ما أخبروا به قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً ، وتفعلون جميع أوامره وتنهون عن جميع مناهيه ؛ وهذا يفهم أن من لم يؤمن كإيمانهم(2/135)
صفحة رقم 136
فليس من هذه الأمة أصلاً ، لأن الكون المذكور لا يحصل إلا بجميع ما ذكر ، وكرر الاسم الأعظم زيادة في تعظيمهم ، وقد صدق الله ومن أصدق من الله حديثاً قاال الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري في خطبة كتاب الاستيعاب : روى ابن القاسم عن مالك أنه سمعه يقول : لما دخل أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال : ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على لاخشب بأشد اجتهاداً من هؤلاء - انتهى .
ولما كان من المعلوم أن التقدير : وذلك خير لكم ، عطف عليه قوله : ( ولو آمن أهل الكتاب ) أي أوقعوا الإيمان كا آمنتم بجميع الرسل وجميع ما أنزل عليهم في كتابهم وغيره ، ولم يفرقوا بين شيء من ذلك ) لكان ) أي الإيمان ) خيراً لهم ( إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العرض القليل الفاني والرئاسة التافهة ، وتركهم الغنى الدائم والعز الباهر الثابت .
ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفاً : ( منهم المؤمنون ) أي الثابتون في الإيمان ، ولكنهم قليل ) وأكثرهم الفاسقون ) أي الخارجون من رتبة الأوامر والنواهي خروجاً يضمحل معه خروج غيرهم .
ولما كانت مخالفة اكثر قاصمة خفف عن أوليائه بقوله : ( لن يضروكم ( ولما كان الضر - كما تقدم عن الحرالي - إيلام الجسم وما يتبعه من الحواس ، والأذى إيلام النفس وما يتبعها من الأحةوال ، أطلق الضر هنا على جزء معناه وهو مطلق الإيلام ، ثم استثنى منه فقال : ( إلا أذى ( ي بأسلنتهم ، وعبر بذلك لتصويره مفهومي الأذى والضر ليستحضر في الذهن ، فيكون الاستثناء أدل على نفي وصولهم إلى المواجهة ) وإن يقاتلوكم ) أي يوماً من الأيام ) يولوكم ( صرح بضمير المخاطبين نصاً في المطلوب ) الأدبار ) أي انهزاماً ذلاً وجبناً .
ولما كان المولي قد تعود له كرة بعد فرة قال - عادلاً عن حكم الجزاء لئلا يفهم التقييد بالشرط مشيراً بحرف التراخي إلى عظيم رتبة خذلانهم - : ( ثم لا ينصرون ) أي لا يكون لهم ناصر نم غيرهم أبداً وإن طال المدى ، فلا تهتموا بهم ولا بأحد يمالئهم من المنافقين ، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك .(2/136)
صفحة رقم 137
ولما أخبر عنهم سبحانه وتعالى بهذا الذل أتبعه الإخبار بأنه في كل زمان وكل مكان معاملة منه لهم بضد ما أرادوا ، فعوضهم عن الحرص على الرئاسة إلزامهم الذلة ، وعن افإخلاد إلى المال إسكانهم المسكنة ، وأخبر أن ذلك لهم طوق الحمامة غير مزائلهم إلى آخر الدهر باقٍ في أعقابهم فبأفعالهم هذه التي لم ينابذهم فيها الأعقاب فقال سبحانه وتعالى مستأنفاً : ( ضربت عليهم الذلة ( وهي الانقياد كرهاً ، وأحاطت بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه ) أين ما ثقفوا ) أي وجدهم من هو حاذق خفيف فطن في كل مكان وعلى كل حال ) إلا ( حال كونهم معتصمين ) بحبل ) أي عهد وثيق مسبب للأمان ، وهو عهد الجزية وما شاكله ) من الله ) أي الحائز لجميع العظمة ) وحبل من الناس ) أي قاطبة : الذي آمنوا وغيرهم ، موافقٍ لذلك الحبل الذي من الله سبحانه وتعالى .
ولما كان الذل ربما كان مع الرضى ولو من وجه قال : ( وبآءه ) أي رجعوا عما كانوا فيه من الحال الصالح ) بغضب من الله ( الملك الأعظم ، ملازم لهم ، ولما كان الوصفان قد يصحبهما اليساء قال : ( وضربت ) أي مع ذلك ) عليهم ) أي كما يضرب البيت ) المسكنة ) أي الفقر ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل ، فكأنه قيل : لم استحقوا ذلك ؟ فقيل : ( ذلك ) أي الإلزام لهم بما ذكر ) بأنهم ) أي أسلافهم الذي رضوا هم فعلهم ) كانوا يكفرون ) أي يجددون الكفر مع الاستمرار ) بآيات الله ( اي الملك الأعظم الذي له الكمال كله ، وذلك أعظم الكفر لمشاهدتهم لها مع اشتمالها من العظم على ما يليق بالاسم الأعظم ) ويقتلون الأنبياء ) أي الآتين من عند الله سبحانه وتعالى حقاً على كثرتهم بما دل عليه جمع التكسير ، فهو أبلغ مما في أولها الأبلغ مما في البقرة ليكون ذمهم على سبيل الترقي كما هي قاعدة لاحكمة .
ولما كانوا معصومين ديناً ودنيا قال : ( بغير حق ) أي يبيح قتلهم ؛ ثم علل إقدامهم على هذا الكفر بقوله : ( ذلك ) أي الكفر والقتل العظيمان ) بما عصوا وكانوا ) أي جبلة وطبعاً ) يعتدون ) أي يجدودن تكليق أنفسهم الاعتداء ، فإن الإقدام على المعاصي والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر ، فقال الأصفهاني : قال أرباب المعاملات : من ابتلى بترك الآداب وقع في ترك السنن ، ومن ابتلى بترك السنن وقع في ترك الفرائض ، ومن ابتلى بترك الفرائض وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلى بذلك وقع في الكفر ، والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا ، وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم الآين ، قال في السفر الثاني : وقال الله سبحانه وتعالى جميع هذه الآيات كلها : أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر(2/137)
صفحة رقم 138
من العبودية والرق ، لا تكون لك آلهة أخرى ، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مام في السماء فوق وفي الأرض من تحت ، ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ، لأني أنا الرب إلهك إله غيور ، أجازي الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف ، وأثبت النعمة إلى ألف حقب أحبائي وحافظي وصاياي .
آل عمران : ( 113 - 117 ) ليسوا سواء من. .. . .
) لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ( )
ولما كان السياق ربما أفهم أنهم كلهم كذلك قال مستأنفاً نافياً لذلك : ( ليسوا سواء ) أي في هذه الأفعال ، يثني سبحانه وتعالى على ما أقبل على الحق منهم وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعدياً ولا قريباً .
ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم : ( من أهل الكتاب ( فأظهر لئلا يتوهم عود الضمير على خصوص من حكم بتكفيرهم ) أمة ) أي جماعة يحق لها أن تؤم ) قائمة ) أي مستقيمة على ما أتاها به نبيهاً في الثبات على ما شرعه ، متهيئة بالقيام للانتقام عنه عند مجيء الناسخ الذي بشر به ووصفه. غير زائغة بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه .
ثم ذكر الحامل على الاستقامة فقال : ( يتلون ) أي يتعابعون مستمرين ) آيات الله ) أي علامات ذي الجلال والإكرام المنزلة الباهرة التي لا لبس فيها ) آناء الليل ) أي علامات ذي الجلال والإكرام المنزلة الباهرة التي لا ثم ذكر ما أثمر لهم التهجد فقال : ( يؤمنون ( وكرر الاسم الأعظم إشارة إلى استحضارهم لعظمته فقال : ( بالله ) أي الذي له من الجلال وتناهي الكمال ما حير العقول .
وأتبعه اليوم الذي تظهر فيه عظمته كلها ، لأنه الحامل على كل خير فقال : ( واليوم الآخر ) أي إيماناً يعرف أنه حق بتصديقهم له بالعمل الصالح بما يرد عليهم من المعارف التي ما لها من نفاد ، فيتجدد تهجدهم فتثبت استقامتهم .
ولما وصفهم بالاستقامة في أنفسهم في أنفسهم وصفهم بأنهم يقوّمون غيره فقال ) ويأمرون بالمعروف ) أي مجددين ذلك مستمرين عليه ) وينهون عن المنكر ( لذلك ، ولما ذكر فعلهم للخير ذكر نشاطهم في جميع أنواعه فقال : ( ويسارعون في الخيرات ( ولما كان التقدير : فأولئك من المستقيمين ، عطف عليه : ( وأولئك ) أي العالو الرتبة(2/138)
صفحة رقم 139
) من الصالحين ( إشارة إلى أن من لم يستقم لم يصلح لشيء ، وأرشد السياق إلى أن التقدير : وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات .
ولما كان التقدير : فما فعلوا من خير فهو بعين الله سبحانه وتعالى ، يشكره لهم ، عطف عليه قوله : ( وما تفعلوا ) أي أنتم ) من خير ( من إنفاق أو غيره ) فلن تكفروه ( بل هو مشكور لكم بسبب فعلكم ، وبني للمجهول تأدباً معه سبحانه وتعالى ، وليكون على طريق المتكبرين .
وعطف على ما تقديره : فإن الله عليم بكل ما يفعله الفاعلون ، قوله : ( والله ) أي المحيط بكل شيء ) عليم بالمقتين ( من الفاعلين الذين كانت التقوى حاملة لهم على كل خير ، فهو يثيبهم أعظم الثواب ، ويغيرهم فهو يعاقبهم بما يريد من العقاب ، هذا على قراءة الخطاب ، وأما على قراءة الغيبة فأمرها واضح في نظمها بما قلته .
ولما رغبتهم في الإنفاق بما يشمل كل خير وأخبرهم بأنه عالم بدقة وجله ، وأخير أن ذلك كان دأب إسرائيل عليه الصلاة والسلام على وجه أنتج أن بنيه كاذون في ادعائهم أنهم على ملة جدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم حذر منهم وختم ما ختمه بالمتقين بالترغيب في الخير بما اندرج فيه الإنفاق الذي قدم أول السورة أنه من صفة والنزول عن حال الموسرين من الكفار المفاخرين بالإكثار المعيرين بالإقلال من المال والولد وقوفاً مع الحال الدنيوي ، وكان قد أخبر أنه لا يقبل من أحد منهم في الآخرة ملء الأرض ذهباً ، أعقب هذا بمثل ذلك على وجه أعم فقال - واصفاً أضداد من تقدم ، نافياً ما يعتقدون من أن أعمالهم الصورية تنفعهم - : ( إن الذين كفروا ) أي بالله بالميل عن المنهج القويم وإن ادعوا الإيمان به نفاقاً أو غيره ) لن تغني عنهم أموالهم ) أي وإن كثرت ) ولا أولادهم ( وإن عظمت ) من الله ) أي الملك الذي لا كفوء له ) شيئاً ) أي من الإغناء تأكيداً لما قرر من عدم نصرة أهل الكتاب الذين حملهم على إيثار الكفر على الإيمان استجلاب الأموال والرئاسة على الأتباع على وجه يعم جميع الكفار - كما قال في أول السورة - سواءً .
ولما كان التقدير : فأولئك هم الخاسرون ، عطف عليه قوله : ( وأولئك أصحاب النار ) أي هم مختصون بها ، ثم استأنف ما يفيد ملازمتها فقال : ( هم فيها خالدون ( ولما كان ربما قيل : فما حال ما يبدلونه في المكارم ويواسون به في المغارم ؟ ضرب(2/139)
صفحة رقم 140
لذلك مثلاً جعله هباء منثوراً ، ضائعاً وإن كثر بوراً ، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً ، بقوله سبحانه وتعالى جواباً لهذا السؤال : ( مثل ما ينفقون ) أي من المال ، وحقر قصدهم بتحقير محطه فقال : ( في هذه الحياة الدنيا ) أي على وجه القربة أو غيرها ، لكونهم ضيعوا الوجه الذي به يقبل ، وهو الإخلاص .
ومثل إنفاقهم له ومثل حرث أصيب بالريح ) كمثل ريح فيها صر ) أي برد شديد ) أصابت حرث قوم ( موصوفين بأنهم ) ظلموا أنفسهم ) أي بالبناء على غير أساس الإيمان ) فأهلكته ( فمثل ما ينفقون في كونه لم ينفعهم في الدنيا بإنتاج ما أرادوا في الدنيا وضرهم في الدارين ، أما في الدنيا فبضياعه في غير شيء ، وأما في الآخرة فبالمعاقبة عليه لتضييع أساسه وقصدهم الفاسد به ، مثل الزرع الموصوف فإنه لم ينفع أهله الموصوفين ، بل ضرهم في الدنيا بضياعه ، وفي الآخرة بما قصدوا به من المقصود الفاسد ، ومثل إنفاقهم له في كونه ضرهم ولم ينفعهم مثل الريح في كونها ضرت الزرع ولم تنفعه ، فلما كانت الريح الموصوفة أمراً مشاهداً جلياً جعلت في إهلاكها مثلاً لضياع أنفاقهم الذي هو أمر معنوي خفي ، ولما كان الزرع المحترق أمراً محسوساً جعل فيما حصل له بعد التعب من العطب مثالاً لأمر معقول ، وهو أموالهم في كون إنفاقهم إياها لم يثمر لهم شيئاً غير الخسارة والتعب ، فالمثلان ضياع الرزع والإنفاق ، وضياع الزرع أظهر فهو مثل لضياع الإنفاق لأنه أخفى ، وقد بان أن الآية من الاحتباك : حذف أولاً مثل الإنفاق لدلالة الريح عليه ، وثانياً الحرث لدلالة ما ينفق عليه .
ولما كان سبحانه وتعالى موصوفاً بأنه الحكم العدل القائم بالقسط وأنه لا ينسى خيراً فعل قال دفعاً لتوهم أن ذلك بخس : ( وما ظلمهم ) أي الممثل بهم والممثل لهم ) الله ( الملك الأعظم الغنيّ الغِِنى المطلق لأنه المالك المطلق ، وقد كفروا ، أما الممثل لهم فبكونهم أنفقوا على غير الوجه الذي شرعه ، وأما الممثل بهم فبكونهم لم يحرسوا زرعهم بالطاعات ، وفي الآية دليل على أن أهل الطاعات تحرس ضوائعهم من الآفات وتخرق فيها العادات ، ثم قال : ( ولكن ( لوما كان الممثل لأجلهم الذين كفروا أعم من أن يموتوا عليه أو يسملوا لم يعبر في الظلم بما تقتضيه الجبلة من فعل الكون وقال : الأساس بكفرهم ، وأن ظلمهم مقصور على أنفسهم ، لا يتعداها إلى غيرها وإن أظهر لإنفاقهم نكاية في عدوهم ، فإن العاقبة لما كانت للمؤمنين كانت نكايتهم كالعدم ، بل هي زيادة في وبالهم ، فهي من ظلمهم لأنفسهم .(2/140)
صفحة رقم 141
آل عمران : ( 118 - 119 ) يا أيها الذين. .. . .
) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ( )
ولما كان الجمال بالمال لا سيما مع الإنفاق من أعظم المرغبات في الموالاة ، وكانت هذه الآية قد صيرت جميلة قبيحاً وبَذوله شحيحاً ؛ قال سبحانه وتعالى - مكرراً التنبيه على مكر ذوي الأموال والجمال الذين يريدون إيقاع الفتنة بينهم من اليهود والمنافقين ليضمحل أمرهم وتزول شوكتهم : ( يا أيها الذين آمنوا ) أي إيماناً صحيحاً مصدقاً ادعاؤه بالعمل الصالح الذي من أعظمه الحب في الله والبغض في الله ) لا تتخذوا بطانة ) أي من تباطنونهم بأسراركم وتختصونهم بالمودة والصفاء ومبادلة المال والوفاء ) من دونكم ) أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ، وعبر ذلك إعلاماً بأنهم يهضمون أنفسهم وينزلونها عن علّي درجتها بموادتهم .
ثم وصفهم تعليلاً للنهي بقوله : ( لا يألونكم خبالاً ) أي يقصون بكم من جهة الفساد ، ثم بين ذلك بقوله على سبيل التعليل أيضاً : ( ودّوا ما عنتم ) أي تمنوا مشقتكم .
ولما كان هذا قد يخفى بيَّنه بقوله معللاً : ( قد بدت البغضاء من أفواههم ) أي هي بينة في حد ذاتها مع اجتهادهم في إخفائها ، لأن الإنسان إذا امتلأ من شيء غلبه بفيضه ، ولكنكم لحسن ظنكم وصفاء نياتكم لا تتأملونها فتأملوا .
ثم أخبر عن علمه سبحانه قطعاً ولعم الفطن من عباده بالقياس ظناً بقوله : ( وما تخفي صدورهم أكبر ( مما ظهر على سبيل الغلبة .
ثم استأنف على طريق الإلهاب والتهييج قوله : ( قد بيَّنا ) أي بما لنا من العظمة ) لكم ) أي بهذه الجمل ) الآيات ) أي الدالات على سعادة الدارين ومعرفة الشقي والسعيد والمخالف والمؤالف .
وزادهم إلهاباً بقوله : ( إن كنتم ) أي جبلة وطبعاً ) تعقلون ( ثم استانف الإخبار عن ملخص حالهم معهم فقال منبهاً أو مبدلاً الهاء من همزة الإنكار : ( هأنتم ألواء ) أي المؤمنون المسلمون المستسلمون ) تحبونهم ) أي لاغتراركم بإقرارهم بالإيمان لصفاء بواطنكم ) ولا ) أي والحال أنهم لا ) يحبونكم ( لمخالفتهم لكم في الدين ، فإنهم كاذبون في إقرارهم بالإيمان ) وتؤمنون ) أي أنتم ) بالكتاب كله ) أي ويكفرون هم به كله ، إما بالقصد الأول وإما بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض ) وإذا لقوكم قالوا ) أي لكم ) آمنا ( لتغتروا بهم ) وإذا خلوا ) أي منكم ، وصوّر شدة حنقهم بقوله : ( عضّوا عليكم ( لما يرون من ائتلافكم وحسن(2/141)
صفحة رقم 142
أحوالكم ) الأنامل من الغيظ ) أي المفرط منكم ، ومن جعل الهاء في ) هأنتم ( بدلاً عن همزة الاستفهام فالمراد عنهد : أأنتم يا هؤلاء القرباء مني تحبونهم والحال أنهم على ما هم عليه من منابذتكم وأنتم على ما أنتم عليه من الفطنة بصفاء الأفكار وعليّ الآراء بقبولكم الحق كله ، لأن المؤمن كيس فطن ؛ فهو استفهام - وإن كان من وادي التوبيخ - المراد به التنبيه والتهييج المنقل من سافل الدركات إلى عالي الدرجات - والله الموفق .
ولما كانوا كأنهم قالوا : فما نفعل ؟ قال مخاطباً للرأس المسموع الأمر المجاب الدعاء : ( قل ) أي لهم ) موتوا بغيظكم ) أي ازدراء بهم ودعاء عليهم بدوام الغيظ من القهر وزيادته حتى يميتهم .
ولما كانوا يحلفون على نفي هذا ليرضوهم قال تعالى مؤكداً لما أخبر به لئلا يظن أنه أريد به غير الحقيقة : ( إن الله ) أي الجامع لصفات الكامل ) عليم بذات الصدور ) أي فلا تظنوا أنه أراد بعض ما يتجوز بالغيظ عنه .
آل عمران : ( 120 - 122 ) إن تمسسكم حسنة. .. . .
) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ( )
ولما كان ما أخبرت به هذه الجمل من بغضهم وشدة عداوتهم محتاجاً ليصل إلى المشاهدة إلى بيان دل عليه بقوله : ( إن تمسسكم ) أي مجرد مس ) حسنة تسؤهم ( ولما كان هذا دليلاً شهودياً ولكنه ليس صريحاً أتبعه الصريح بقوله : ( وإن تصبكم ) أي بقوة مرها وشدة وقعها وضرها ) سيئة يفرحوا بها ( ولما كان هذا أمراً مبكتاً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر مشروطاً بشرط التقوى والصبر فقال : ( وإن تصبروا وتتقوا ) أي تكونوا من أهل الصبر والتقوى ) لا يضركم كيدهم شيئاً ( ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ) أي ذال الجلال والإكرام ) بما يعملون محيط ) أي فهو يعد لكل كيد ما يبطله ، والمعنى على قراءة الخطاب : بعملكم كله ، فمن صبر واتقى ظفرته ، ومن عمل على غير ذلك انتقمت منه .
ولما كان ما تضمنته هذه الآية من الإخبار ومن الوعد ومن الوعيد منطوقاً ومفهوماً محتاجاً إلى الاجتلاء في صور الجزئيات ذكرهم سبحانه وتعالى بالوقائع التي شوهدت فيها أحوالهم من النصر عند العمل بمنطوق الوعد من الصبر والتقوى وعدمه عند العمل بالمفهوم ، وشوهدت فيها أحوال عدوهم من المساءة عند السرور والسرور عد المساءة ، وذلك غني عن دليل لكونه من المشاهدات ، مشيراً إلى ذلك بواو العطف على غير(2/142)
صفحة رقم 143
مذكوراً ، مخاطباً لأعظم عباده فطنه وأقربهم إليه رتبة ، تهييجاً لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل من غير أدنى وقوف مع المألوف فقال تعالى : ( وإذ ) أي اذكر ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين صبرتم واتقيتم فنصرتم ، وحين ساءهم نصركم في كل ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة ، ثم في بدر ، ثم في غزوة بني قينقاع ونحو ذلك ، واذكر إذ لم يصبر أصحابك فأصيبوا ، وإذ سرتهم مصيبتكم في وقعة أحد إذ ) غدوت ) أي يا خاتم الأنبياء وأكرم المرسلين ) من أهلك ) أي بالمدينة الشريفة صبيحة يوم الجمعة إلى أصحابك في مسجدك لتستشيرهم في أمر المشركين .
وقد نزلوا بأحد في أواخر يوم الأربعاء ، أو في يوم الخميس لقتالكم .
وبنى من ) غدوت ( حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبت شروع في مسببه فقال : ( تبوىء ) أي تنزل ) المؤمنين ( بالثبات في مركزه ، وأوعز إليه في أن لا يفعل شيئاً إلا بأمره لا سيما الرماة ، ثم ذكر علة ذلك فقال : ( للقتال ( ولما كان التقدير : وتتقدم إليهم بأبلغ مقال في تشديد الأقوال والأفعال ، اشار تعالى إلى أنه وقع في غضون ذلك منه ومنهم كلام كثير خفي وجلي بقوله : ( والله ) أي والحال أن الملك الأعظم الذي أنتم في طاعته ) سميع ) أي لأقوالكم ) عليم ) أي بنياتكم في ذلك وغيره فاحذروه ، ولعله خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بلذيذ الخطاب في التذكير تحريضاً لهم مع ما تقدمت الإشارة إليه على المراقبة تعريضاً لهم بأنهم خفوا مع الذين ذكرهم أمر بعاث حتى تواثبوا حين تغاضبوا إلى السلاح - كما ذكر في سبب نزول قوله تعالى :
77 ( ) ياآيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ( ) 7
[ آل عمران : 100 ] ، فوقفوا عن نافذ الفهم وصافي الفكر خفة إلى ما أراد بهم عدوهم فاقتضى هذا التحذير كله ، ويؤيد ذلك إقباله في الخطاب عليهم عند نسبة الفشل إليها - كما يأتي قريباً ، ولعله إنما خص هذه الغزوة بالذكر دون ما ذكرت أن واو عطفها دلت عليه مما أيديوا فيه بالنصر لأن الشماتة بالمصيبة أدل على البغضاء والعداوة من الحزن بما يسر ، ودل ذكرها على المحذوف لأن المدعي فيما قبلها شيئان : المساءة بالحسنة ، والفرح والمسرة بالمصيبة ، فإذا برهن المتكلم على الثاني عليم ولا بد أنه حذف برهان الأول ، وأنه إنما حذفه - وهو حكيم - لنكتة ، وهي هنا عدم الاحتياج إلى ذكره لوضوحه بدلالة السياق مع واو العطف عليه ، وما تقدم من كونه غير صريح الدلالة في أمر البغض على أنه تعالى قد ذكر بدراً - كما ترى - بعد محكمة ستذكر ، وأطلق سبحانه وتعالى - كما عن الطبري وغيره - التبوء على ابتداء القتال بالاستشارة فإن الكفار لما نزلوا يوم الأربعاء ثاني عشر(2/143)
صفحة رقم 144
شوال سنة ثلاث من الهجرة في سفح أحد مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينتظر فيهم ما يأتيه من الوحي بقية يوم الأربعاء ويوم الخميس وليلة الجمعة وباتت وجوه الأنصار في المسجد بباب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحرسونه ( صلى الله عليه وسلم ) وحرست المدينة الشريفة ، ثم دعا الناس صبيحة يوم الجمعة فاستشارهم في أمرهم وأخبرهم برؤياه تلك الليلة : البقر المذبوحة ، والثلم في سيفه ، وإدخال يده في الدرع الحصينة ، وكان رأيه مع رأي كثير من الصحابة المكث في المدينة ، فإن قاتلوهم فيها قاتلهم الرجال مواجهة والنساء والصبيان من فوق الأسطحة ، وكان عبد الله بن أبيّ المنافق على هذا الرأي ، فلم يزل ناس ممن أكرمهم الله بالشهادة - منهم أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه - يلحون عليه ( صلى الله عليه وسلم ) في الخروج إليهم حتى أجاب فدخل بيته ولبس لأمته بعد أن صلى الجمعة فندموا على استكراههم له ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يأتيه الوحي ، فلما خرج إليهم أخبروه وسألوه في الإقامة إن شاء فقال :
77 ( ) ما كان ينبغي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ( ) 7
وفي رواية ( حتى يلاقي ) فأتى الشيخين - وهما أطمان - فعرض بهما عسكره ففرغ مع غياب الشمس ، ورآه المشركون حين نزل بهما ، واستعمل تلك الليلة على حرسه محمد ابن مسلمة ، واستعمل المشركون على حرسهم عكرمة بن أبي جهل ، ثم أدلج من سحر ليلة السبت ، وندب الأدلاء ليسيروا أمامه ، وحانت صلاة الصبح في الشوط وهم بحيث يرون المشركين ، فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذن وأقام ، وصلى بأصحابه ( صلى الله عليه وسلم ) الصبح صفوفاً ، فانخزل عبد الله بن أبيّ بثلث العسكر فرجع وقال : أطاع الولدان ، ومن لا رأي له وعصاني ، وما ندري علام نقتل أنفسنا وتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ابن عبد الله - أحد بني سلمنة وأحد من استشهد في ذلك اليوم وكلمه الله قبلاً - يناشدهم الله في الرجوع ، فلم يرجعوا فقال : أبعدكم الله سيغني الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عنكم ، ورجع فوافق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصف أصحابه ، وكادت طائفتان من الباقين - وهما بنو سلمة عشيرة عبد الله بن عمرو وبنو حارثة - أن تفشلا لرجوع المنافقين ، ثم ثبتهم الله تعالى ؛ ونزل ( صلى الله عليه وسلم ) الشعب من أحد ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وعبأ أصحابه وقال : ( لا يقاتلن أحد حتى نأمره ) وعين طائفة من الرماة وأنزلهم بعينين - جبيل هناك من ورائهم - وأوعز إليهم في أن لا يتغيروا منه حتى يأمرهم إن كانت له أو عليه ، حتى قال لهم : ( إن رأيتمونا تخطفنا(2/144)
صفحة رقم 145
الطير فلا تعينونا ، وإن رأيتمونا هزمناهم فلا تشركونا في الغنيمة ، وانضحوا الخيل عنا إذا أتت من ورائنا ) وبرز صاحب لواء المشركين وطلب المبارزة ، فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله المسلم فحمله آخر وبرر فقتل ، وفعلوا ذلك واحداً بعد واحد حتى تموا عشرة كلهم يقتل ، فلما انكسرت قلوب المشركين بتوالي القتل في أصحاب اللواء أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه فشدوا فهزموا المشركين وخلوا عسكرهم ونساءهم ، وكان الخيل كلما أتت من وراء المسلمين نضحهم الرماة ثغرهم ، فنهاهم أميرهم وحذرهم مخالفة أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يطعه منهم إلا نحو العشرة ، فأتى أصحاب الخيل فقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة رضي الله عنهم من ورائهم وهم ينتهبون ، فأسرعوا فيهم القتل ونادى إبليس : إن محمداً قد قتل ، فانهزم الصحابة رضوان الله عليهم ، ولم يثبت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم إلا قليل ما بين العشرة إلى الثلاثين - على اختلاف الأقوال ، فاستمر يحاول بهم العدو ، والله تعالى يحفظه ويدافع عنه حتى دنت الشمس للمغرب ، وصرف الله العدو ، فدفن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الشهداء وصف أصحابه رضي الله عنهم فأثنى على الله عز وجل ثناء عظيماً ، ذكر فيه فضله سبحانه وعدله ، وأن الملك ملكه يتصرف فيه كيف يشاء ، ورجع إلى المدينة الشيرفة وقد أصبته الجراحة في مواضع من وجهه بنفس هو وأبي وأمي ووجهي وعيني .
ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق - كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة - من الأدلة على أن المنافقين فضلاً عن المصارحين بالمصارمة متصفون بما أخبر الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء مع أنه كان سبباً فيء هم الطائفتين من الأنصار بالفشل كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد في غاية المناسبة ، ولذلك افتتحها سبحانه وتعالى بقوله - مبدلاً من ) إذ غدوت ( دليلاً على ما قبله من أن بطانة لاسوء لا تألوهم خبالاً وغير ذلك - : ( إذا همت طائفتان ( وكانا جناحي العسكر ) منكم ) أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس ) أن تفشلا ) أي تكسلاً وتراخياً وتضعفاً وتجبناً لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فترجعا ، كما رجع(2/145)
صفحة رقم 146
المنافقون ) والله ) أي والحال أن ذا الجلال والإكرام ) وليهما ( وناصرهما لأنهما مؤمنتان فلا يتأتى وقوع الفشل وتحققه منهما لذلك ، فليتوكلا عليه وحده لإيمانهما ، أو يكون التقدير : فالعجب منهما كيف تعمتدان على غير سبحانه وتعالى لتضعفا بخذلانه ) و ( الحال أنه ) على الله ) أي الذي له الكمال كله وحده ) فليتوكل المؤمنون ) أي الذين صار الإيمان صفة لهم ثابتة ، أجمعون لينصرهم ، لا على كثرة عدد ولا قوة جلد ، والأحسن تنزيل الآية على الاحتباك ويكون أصل نظمها : والله وليهما لتوكلهما وإيمانهما فلم يمكن الفشل منهما ، وفتولوا الله وتوكلوا عليه ليصونكم من الوهن ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون كلهم ليفعل بهم ذلك ، فالأمر بالتوكل ثانياً دال على وجوده أولاً ، وإثبات الولاية أولاً دال على الأمر بها ثانياً ، وفي البخاري في التفسير عن جابر رضي الله عنه قال : فينا نزلت ) إذ همت طائفتين منكم أن تفشلا ( قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل : ( والله وليهما (
آل عمران : ( 123 - 127 ) ولقد نصركم الله. .. . .
) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ( ( )
ولما كان ظاهر الحال فيما أصاب الكفار من المسلمين في هذه الغزوة ربما كان سبباً في شك من لم يحقق بواطن الأمور ولا له أهلية النفوذ في الدقائق من عجائب المقدور في قوله تعالى : ( ) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ( ) [ آل عمران : 10 ] ) ) قل للذين كفروا ستغلبون ( ) [ آل عمران : 12 ] ذكرهم الله تعالى نصره لهم في غزوة بدر ، وهم في القلة دون ما هم الآن بكثير ، مشيراً لهم إلى ما أثمره توكلهم من النصر ، وحالهم إذ ذاك حال الآيس منه ، ولذلك كانوا في غاية الكراهة للّقاء بخلاف ما كانوا عليه في هذه الكرة ، حثاً على ملازمة التوكل ، منبهاً على أنه لا يزال يريهم مثل ذلك النصر ويذيق الكفار أضعاف ذلك الهوان حتى يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر دينه الإسلام على الدين كله فقال - عاطفاً على ما تقديره : فمن توكل عليه نصره وكفاه وإن كان قليلاًن فلقد نصركم الله أول النهار في هذه الغزوة حيث صبرتم واتقيتم بطاعتكم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في ملازمة التعب والإقبال على الحرب وغير ذلك بما أمركم به ( صلى الله عليه وسلم ) ولم تضركم قلتكم ولا ضعفكم بمن رجع عنكم شيئاً - : ( ولقد نصركم(2/146)
صفحة رقم 147
الله ( بما له من صفات الجلال والجمال ) ببدر ( المشار إليها أول السورة بقوله تعالى :
77 ( ) قد كان لكم آية في فئتين التقتا ( ) 7
[ آل عمران : 13 ] لما صبرتم واتقيتم .
ولما كانوا في عدد يسير أشار إليه بجمع القلة فقال : ( وأنتم أذلة ) أي فاذكروا ذلك واجعلوه نصب أعينكم لينفعكم ، وكان الإتيان بأمر بدر بعد آية الفشل المختتمة بالحث على التوكل في الغاية من حسن النظن ، وهو دليل أيضاً على منطوق قوله تعالى :
77 ( ) وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ( ) 7
[ آل عمران : 120 ] كما كان أمر أحد دليلاً على منطوقها ومفهومها معاً : دل على منطوقها بنصرهم أول النهار عند صبرهم ، وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم عند فشلهم آخره - والله الموفق ؛ على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة أحد من السير واكتب الأخبار علمت أن الظفر فيها ما كان إلا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما سيأتي الخبر به في قوله تعالى : ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) [ آل عمران : 52 ] ، فإن الصحابة رضي الله عنهم هزموهم - كما مضى - في أول النهار حتى لم يبق في عسكرهم أح ، ولا بقي عند نسائهم حامٍ ، فلما خالف الرماة أمره ( صلى الله عليه وسلم ) وأقبلوا على الغنيمة أراد الله تأديبهم وتعريفهم أن نصرته لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) غير محتاجة في الحقيقة إليهم حين انهزموا حتى لم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم غير نفر يسر ما يبلغون الخمسين ، والكفار ثلاثة آلاف وخيلهم مائتان ، فاستمر عليه الصلاة والسلام في نحورهم يحاولهم ويصاولهم ، يرامونه مرة ويطاعنون أخرى ، ويجتمعون عليه كرة ويفترقون عنه أخرى ، والله تعالى يمنعه منهم بأيده ويحفظه بقوته حتى تدلت الشمس للغروب ، وقتل بيده ( صلى الله عليه وسلم ) أُبي بن خلف مبارزة ، تصديقاً لما كان أوعده به قبل الهجرة ، وخالطوه غير مرة ولم يمكنهم الله منه ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه ، ثم ردهم خائبين بعد أن تراجع إليه من أصحابه في أثناء النهار ، ولم يرجع ( صلى الله عليه وسلم ) من أحد إلا بعد انصرافهم ودفن من اشتشهد من أصحابه ، وأما هم فاستمروا راجعين ولم يلووا على أحد ممن قتل منهم ، وهم اثنان وعشرون رجلاً من سرواتهم وحمال راياتهم ، وقال الجلال الخجندي في كتابه فردوس المجاهدين : إنه صح النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما نصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في موطن من المواطن نصرته في يوم أحد - انتهى .
كفى على ذلك دليلاً ما نقل موسى بن عقبة - وسيرته أصح السير في غزوة الفتح - عن قائد الجيش بأحد أبي سفيان بن حرب أنه قال عندما عرض عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإسلام : يا محمد قد استنصرت(2/147)
صفحة رقم 148
إلهي واستنثرت إلهك ، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي ، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً لقد ظهرت عليك ، وإنما كانت الهزيمة وقتل من قتل لحكم ومصالح لا تخفى على من له رسوخ في الشريعة وثبات قدم في السنن ، ويمكن أن تكون هذه القصة مندرجة في حكم النهي في القصة التي قبلها عن طاعة فريق من أهل الكتاب عطفاً على قوله تعالى : ( نعمة ( في قوله :
77 ( ) واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ( ) 7
[ آل عمران : 103 ] لتشابه القصتين في الإصغاء إلى الكفار قولاً أو فعلاً ، المتقضي لهدم الدين من أصله ، لأن همّ الطائفتين بالفشل إنما كان من أجل رجوع عبد الله بن أبي المنافق حليف أهل الكتاب ومواليهم ومصادقهم ومصافيهم ، ويؤيد ذلك نهيه تعالى في أثناء هذه عن مثل ذلك بقوله تعالى :
77 ( ) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ( ) 7
[ آل عمران : 149 ] ، ويكون إسناد الفعل في ) غدوت ( ، وأمثاله إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، والمراد الإسناد إلى الجمع ، لأنه الرئيس فخطابه خطابهم ، ولشرف هذا الفعل ، فكان الأليق إفراده به ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما الفشل ونحوه فأسند إليهم وقصر - كما هو الواقع - عليهم .
ولما امتن الله سبحانه عليهم بالنصرة في تلك الكرة سبب عن ذلك أمرهم بالتقوى إشارة إلى أنها السبب لدوام النعمة فقال : ( فاتقوا الله ) أي في جمع أوامره ونواهيه بأن التقوى التنزه عن المعاصي ، والشكر فعل ينبىء عن تعظيم المنعم ، وشكر الله صرف إلى : اشكروا لعلكم تشكرون ، ولا يتحرر الجواب إلا بعد معرفة حقيقة التقوى لغة ؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي : الواقية ما وقالك الر ، وكل شيء وقيت به شيئاً فهو وقاء له ووقاية ، وقوله سبحانه وتعالى : ( لعلكم تتقون ( قال ابن عرفة - أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم به وقاية بينكم وبين النار - انتهى .
فاتضح أن حقيقة ) واتقوا ( : اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية ، وأن سبب اتخاذ الوقاية الخوف من ضاره فالظاهر - واله أعلم - أن اتقوا بمعنى : خافوا - مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم المسبب على السبب ، فالمعنى : خافوا الله لتكونوا على رجاء من أن يحملكم خوفه على طاعته على سبيل التجديد والاستمرار ، ولئن سلمنا أن التقوى من الشكر فالمعنى : اشكروا هذا الشكر الخاص ليحملكم على جميع الشكر ، وغايته أنه نبه على أن هذا الفرد من الشكر(2/148)
صفحة رقم 149
هو أصل الباب الذي يثمر باقيه ، وهوالمراد بقول ابن هشام في السيرة : إن المعنى : فاتقوني ، فإنه شكر نعمتي ، ويجوز أن يكون : لعلكم تزدادون نعماً فتشكرون عليها - إقامة للمسبب مقام السبب - والله أعلم .
ولما اشتملت هذه القصة على المصيبة التي سيقص الله كثيراً منها ، وهي مستوفاة في السير كان أنسب من قصها وبيان ما اتفق لها - لوعظ من يأتي - البداءةُ بتذكير من باشرها بما وعدهم الله به على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وقوع القتال من النصر المشروط بالصبر والتقوى تنبيهاً لهم على أن الخلل من جهتهم أتى ، ثم وعظمهم بالنهي عما منعهم النصر ، والأمر بما يحصله لهم كما سيحثهم على ذلك بما يقص عليهم من نبأ من قاتل مع الأنبياء قبلهم بأنهم لما أصابهم القتل لم يهنوا وعلموا أن الخلل من أنفسهم ، فبادروا إلى إصلاحه بأفعال المتقين من الصبر والتضرع وافقرار بالذنب ، فقال - مبدلاً من ) إذ غدوت ( عوداً على بدء تعظيماً للأمر حثاً على النظر في موارده ومصادره والتدبر لأوائله وأواخره - : ( إذ تقول للمؤمنين ) أي الذين شاورتهم في أمر أحد - وفي غمارهم المنافقون - لما زلزلوا برجوع أكثر المنافقين به ، حتى كاد بعض الثابتين أن يرجع ضعفاً وجبناً ، مع ما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخبرهم به من تلك الرؤيا التي أولها بذبح يكون في أصحابه ، ليكون إقدامهم على بصيرة ، أو يصدهم ذلك عن الخروج إلى العدو كما كان ميل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أكثر أصحابه وإعلامهم إلى المكث في المدينة قال منكراً آتياً بأداة التأكيد للنفي : ( ألن يكفيكم ) أي أيها المؤمنون ) أن يمدكم ( إمداداً خفياً - بما أشار إليه الإدغام ) ربكم ) أي المتولي لتربيتكم ونصر دينكم ) بثلاثة آلاف ( ثم عظم أمرهم بقوله : ( من الملائكة ( ثم زاد في إعظامهم بأنهم من السماء بقوله : ( منزلين ( ثم تولى سبحانه وتعالى هو الجواب عنهم تحقيقاً للكفاية فقال : ( بلى ) أي يكفيكم ذلك ، ثم استأنف قوله : ( إن تصبروا وتتقوا ) أي توقعوا الصبر والتقوى لله ربكم ، فتفعلوا ما يرضيه وتنتهوا عما يسخطه ) ويأتوكم ) أي الكفار ) من فورهم ) أي وقتهم ، استعير للسرعة التي لا تردد فيها ، من : فارت القدر - إذا غلت ) هذا ) أي وقتهم ، استعير ) يمددكم ) أي إمداداً جلياً - بما أشار إليه إشارة لفظية : الفك ، وإشارة معنوية : التسويم ) ربكم ) أي المحسن إليكم بأكثر من ذلك ) بخمسة آلاف من الملائكة ( ثم بين أنهم من أعيان الملائكة بقوله : ( مسومين ) أي معلمين بما يعرف به مقامهم في الحرب ، والظاهر من التغعبير بالتسويم إفهام القتال ، ومن الاقتصار على الإنزال عدمه ، ويكون فائدة نزولهم البركة بهم وإرهاب الكفار بمن يرونه منهم .
قال البغوي : قال ابن عباس ومجاهد : لم يقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون ، إنما يكونون عدداً ومدداً .(2/149)
صفحة رقم 150
ولما كان التقدير : وليس الإمداد بهم موجود للنصر ، وكان قد قدم في أول السورة قوله :
77 ( ) والله يؤيد بنصره من يشاء ( ) 7
[ آل عمران : 13 ] قال هنا قاصراً للأمر عليه : ( وما جعله الله ) أي الإمداد المذكور وذكره لكم على ما له من الإحاطة بصفات الكمال التي لا يحتاج مراقبها إلى شيء أصلاً ) إلا بشرى ( وما كانت الهزيمة عليهم في هذه اكرة ، وكان المقتول منهم أكثر قال : ( لكم ( لئلا يتوهم أن ذلك بشرى لضدهم ، ولمثل هذا قدم القلوب فقال : ( ولتطمئن ( وعلم أن التقدير - لتكون الآية من الاحتباك : لتستبشر نفوسكم به وطمأنينة لكم لتطمئن ) قلوبكم به ) أي الإمداد ، فحكم هنا بأنه بشرى مقيداً بلكم ، فكانت العناية بضمير أشد حتى كأنه قيل : إلا وبشرى لكم وطمأنينتكم ، فوجب تأخير ضميره عنهم ، والمعنى أنهم كانوا أولاً خائفين ، فلما وردت البشرى اطمأنوا بها رجاء أن يفعل بهم مثل ما فعل في بدر ، فلما اطمأنوا بها وقع النصر كما وقع به الوعد ثم لما اطمأنت قلوبهم إلى شيء ألزّ قوتها لأنه قد سبق لها نصر وسرور بضرب وطعن في بدر وغيرها فلمحت نحو شيء من ذلك ؛ حصلت الهزيمة ليصيروا إلى حق اليقين بأنه لا حول لهم ولا قوة ، ولذلك قال تعالى : ( وما النصر ) أي في ذلك غيره ) إلا من عند الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ، لا بمدد ولا غيره فلا تجدوا في أنفسكم من رجوع من رجع ولا تأخر من تأخر ولا هزيمة من انهزم .
ولما قدم أمر بدر هنا وأول السورة ، وتحقق بذلك ما له من العزة والحكمة قال : ( العزيز ( الذي لا يغالب ، فلا يحتاج إلى قتال أحد ولا يحتاج في نصره - إن قاتل - إلى نصركم قبل هذه الغزوة وفي أول النهار فيها ، ليس لكم ولا لغيركم ناصر غيره ، فمتى التفت أحد إلى سواه وكله إليه فخذل ، فاذروه لتطيعوه طاعة أولي الإحسان في كل أوان ، وهذا بخلاف ما في قصة بدر في الأنفال وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بها من المقال مما اقتضاه هناك الحال ، والحكيم رأس آية بإجماع أهل العلم - كما في الأنفال ، طائفة من كرامهم ، يهنون بهم ) من الذين كفروا ) أي ويهزم الباقين ) أو يكبتهم ) أي يكسرهم ويردهم بغيظهم مع الهزي أذلاء ، وأصل الكبت صرع الشيء على وجهه ) فينقلبوا ) أي كلهم مهزومين ) خائبين ( وذلك في كلتا الحالتين بقوتكم عليهم بالمد وضعهم عنكم به ، ويجوز تعليق ) ليقطع ( بفعل التوكل ، أي فليتوكلوا عليه ليفعل بأعدائهم ما يشاءه من نصرهم عليهم ، فيقبل بهم إلى الإسلام رغبة أو رهبة ، أو يميتهم(2/150)
صفحة رقم 151
على كفرهم فيديم عذابهم مع عافيتهم منهم ؛ ورأيت في سير الإمام محمد بن عمر الواقدي ما يدل على تعليقه بجعل من قوله : ( وما جعله الله إلا بشرى ( أو بقوله : ( ولتطمئن ( وهو حسن أيضاً .
آل عمران : ( 128 - 130 ) ليس لك من. .. . .
) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ( )
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) حريصاً على طلب الإالة عليهم ليمثل بهم كما مثلوا بعمه حمزة وعدة من أصحابه رضي الله عنهم قال تعالى : ( ليس لك من الأمر ) أي فيهم ولا غيرهم ) شيء ( موسطاً له بين المتعاطفات ، يعني من الإدالة عليهم بقتل أو هزيمة تدرك بهما ما تريد ، بل الأمر له كله ، إن أراد فعل بهم ما تريد ، وإن أراد منعك منه بالتوبة عليهم أو إماتتهم على الكفر حتق الأنف فيتولى هو عذابهم ، وذلك معنى قوله : ( أو يتوب عليهم ) أي كلهم بما يكشف عن قلوبهم من حجاب الغفلة فيرجعوا عما هم عليه من الظلم ) أو يعذبهم ( كلهم بأيديكم بأن تستأصلوهم فلا يفلت منهم أحد ، أو يعذبهم النصر عليكم وغيره مما هو لهم في صورة النعم الموجب لزيادة عقابهم .
ثم علل الأقسام الأربعة بقوله : ( فإنهم ظالمون ( وفي لامغازي من صحيح البخاري معلقاً عن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعن سالم بن عبد الله قال : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت ) ليس لك من الأمر شيء ( - إلى قوله : ( ظالمون ( ) ورواه موصولاً في المغازي والتفسير والاعتصام عن سالم عن أبيه بغير هذا اللفظ ، وفيه ( اللهم العن فلاناً وفلاناً ) ولما كان التقدير : بل الأمر له سبحانه وحده عطف عليه قوله - مبنياً لقدرته على ما قدم من فعله بهم على وجه أعم - : ( والله ) أي الملك الأعظم وحده ) ما في السموات ) أي كلها على عظمها من عاقل وغيره ، وعبر ب ( ما ) لأن غير العاقل أكثر وهي به أجدر ) وما في الأرض ( كذلك مِلكاً ومُلكاً فهو يفعل في مِلكه ومُلكه ما يشاء ، وفي التعبير ب ( ما ) أيضاً إشارة إلى أن الكفرة الذين السياق لهم في عداد ما لا يعقل .(2/151)
صفحة رقم 152
ولما كانت الأقسام كلها راجعة إلى قسمين : عافية وعذاب ، قال - مترجماً لذلك مقرراً لقوله :
77 ( ) ليس لك من الأمر شيء ( ) 7
[ آل عمران : 128 ] : ( يغفر لمن يشاء ) أي منهم ومن غيرهم فيعطيه ما يشاء من خيري النيا والآخرة ويغنيه عن الربا وغيره ) ويعذب من يشاء ( بالمنع عما يريد من خيري الدارين ، لا اعتراض عليه ، فلو عذب الطائع ونعّم العاصي لحسن منه ذلك ، ولا يقبح منه شيء ، ولا اعتراض بوجه عليه ، هذا مدلول الآية وهو لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل .
ولما كان ( صلى الله عليه وسلم ) لشدة غيظه عليهم في الله جديراً بالانتقام منهم بدعاء أو غيره أشار له سبحانه إلى العفو للحث على التخلق بأخلاق الله الذي سبقت رحمته غضبه بقوله : ( والله ) أي المختص بالجلال والإكرام ) غفور رحيم ) أي محاء للذنوب عيناً وأثراً ، مكرم بعد ذلك بأنواع الإكرام ، فانطبق ذلك على إيضاح
77 ( ) ليس لك ( ) 7
[ آل عمران : 128 ] وإفهامه الموجب لاعتقاد أن يكون له سبحانه وتعالى الأمر وحده .
ولما أنزل عليه ذلك وما في آخر النحل مما للصابرين والعافين حرم المثلة واشتد نهيه ( صلى الله عليه وسلم ) عنها ، فكان لا يخطب خطبة إلا منع منها .
ولما كان الختم بهاتين الصفتين ربما أطمع في انتهاك الحرمات لاتباع الشهوات فكان مبعداً لمتعاطيه من الرحمة مدنياً من النقمة ، وكان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر الذي أمرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحفظه بسبب إقبالهم قبل إتمام هزيمة العدو على الغنائم للزيادة في الأعراض الدنيوية التي هي معنى الربا في اللغة إذ هو مطلق الزيادة أقبل تعالى عليهم بقوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي اقروا بافيمان ، صدقوا إيمانكم بأن ) لا تأكلوا الربا ) أي المقبح فيما تقدم أمره غاية التقبيح ، وهو كما ترى إقبال متلطف منادٍ لهم باسم الإيمان الناظر إلى الإنفاق المعرض عن التحصيل
77 ( ) ومما رزقناهم ينفقون ( ) 7
[ البقرة : 3 ] ؛
77 ( ) والمنفقين والستغفرين بالأسحار ( ) 7
[ آل عمران : 17 ] ؛
77 ( ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( ) 7
[ آل عمران : 92 ] ناهٍ عن الالتفات إلى الدنيا بالإقبال على غنيمة أو غيرها بطريق افشارة بدلالة التضمن ، إذ المطلق جزء المقيد ، ففي هذه العبارة التي صريحها ناهٍ عن الإقبال على الدنيا إقبالاً يوجب الإعراض عن الآخرة باستباحة أكل الربا المتقدم في البقرة من النهي عنه من المبالغة ما يردع من له أدنى تقوى ، ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان
77 ( ) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ( ) 7
[ البقرة : 278 ] ،
77 ( ) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ( ) 7
[ البقرة : 86 ] ولما كان في تركه الإثخان في العدو بعد زوال المانع منه بالهزيمة مع أن فيه من(2/152)
صفحة رقم 153
حلاوة الظفر ما يجل عن الوصف لأجل الغنيمة التي هي لمن غلب ، وليس في المبادرة إلى حوزها كبير فائدة ، دلالة على تناهي الحب للتكاثر ، ناسب المقام ربا التضعيف فقال : - أو يقال : لما كان سبب الهزيمة طلبهم الزيادة بالغنيمة ، وكان حب الزيادة حلالاً قد يجر إلى حبها حراماً ، فيجر إلى الربا المضاعف ، لأن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه قال - : ( أضعافاً مضاعفة ) أي لا تتهيؤوا لذلك بإقبالكم علىمطلق الزيادة ، فإن المطلوب منكم بذل المال فضلاً عن الإعراض عنه فضلاً عن الإقبال عليه ، فالحاصل أنه دلت على الربا بمطابقتها ، وعلى مطلق الزيادة بتضمنها ، وهي من وادي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ) وختام الآية بقوله : ( واتقوا الله ) أي الملك الأعظم ) لعلكم تفلحون ( مشير إلى ذلك ، أي واجعلوا بينكم وبين مخالفة نهيه عن الربا وقاية بالإعراض عن مطلق محبة الدنيا والإقبال عليها ، لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطالب ، فمن له ملك الوجود وملكه فإنه دير بأن يعطيكم من ملكه إن اتقيتم ، ويمنعكم إن تساهلتم ، فهو نهي عن الربا بصريح لاعبارة ، وتحذير من أن يعودوا إلى ما صدر منهم من الإقبال على الغنائم قبل انفصال الحرب فعلاً وقوة بطريق الإشارة ، وهي من أدلة إمامنا اشلافعي على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، والذي دلنا على إرادة المعنى التضمني المجازي نظمها ، والناظن حكيم في سلك هذه القصة ووضعها في هذا الموضع ، فلا يقدح في ذلك أنه قد كان ي هذه القصة أمر يصلح أن يكون سبباً لنزول هذه الآية ووضعها عنا ، لأن ذلك غير لازم ولا مطرد ، فقد كان حلفه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يمثل بسبعين منهم كما مثلوا بعمه حمزة رضي الله عنه سبباً لنزول آخر سورة النحل
77 ( ) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ( ) 7
[ النحل : 126 ] إلى آخرها ، ولم تضوع هنا ، والأمر الصالح لأن يكون سبباً لها ما روى أبو داود فس يننه بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أن عمروا بن أقيش رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية ، فكره(2/153)
صفحة رقم 154
أن يسلم حتى يأخذه ، فجاء يوم أحد فقا : أي بنو عمي ؟ قالوا : بأحد ، قال : أين فلان ؟ قالوا : بأحد ، قال : فأين فلان ؟ قالوا : بأحد ؛ فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم ، فلما رآه المسلمون قالوا : إليك عنا يا عمرو قال : إني قد آمنت ، فقاتل حتى جرح ، فحمل إلى أهله جريحاً ، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال لأخته : سليه : حمية لقومك أو غضباً لهم ، أم لهم ، أم غضباً لله عز وجل ؟ فقال : بل غضباً لله عز وجل ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فمات فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة ، والقصة في جزء عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي - بالمهملة ثم التحتانية ثم المعجمة - تخريج أبي القاسم عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي ، والجزء السابع عشر من المجالسة للدينوري من طريق حماد بن سلمة شيخ أبي داود ، ولفظ العيشي : إن عمرو بن وقش - وقال الدينوري : أقيش - كان له ربا في الجاهلية ، وكان يمنعه ذلك الربا من الإسلام حتى يأخذه ثم يسلم ، فجاء ذات يوم ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - زاد الدينوري : وأصحابه بأحد فقال : أين سعد ابن معاذ ؟ وقال العيشي : فقال لقومه : أي سعد بن معاذ ؟ قالوا : هو بأحد ، قال الدينوري : فقال : أين بنو أخيه ؟ قالوا : بأحد ، فسأل عن قومه ، فقالوا : بأحد ، فأخذ سيفه ورمحه ولبس لأمته ، ثم أتى أحداً ؛ وقال الدينوري : ثم ذهب إلى أحد ، فلما رآه السملمون قالوا : إليك عنا يا عمرو قال : إني قد آمنت فقاتل فحمل إلى أهله جريحاً ، فدخل عليه سعد بن معاذ فقال - يعني لامرأته - : سليه وقال العيشي : فقا لأخته : ناديه ، فقولي ؛ وقال الدينوري : فقالت : أجئت غضباً لله رسوله أم حمية وغضباً لقومك ؟ فنادته ، فقال : جئت غضباً لله ورسوله فمات فدخل الجنة ولم يصل لله قط ؛ وقال الدينوري : قال أبو هريرة : ودخل الجنة ، وما صلى لله صلاة .
ورواها ابن إسحاق والواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنه كان يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِّ قط ؛ وقال الواقدي : أخبروني برجل يدخل الجنة لم يسجد لله قط ، فيسكت النسا ، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه : هو أخو بني عبد الأشهل ؛ وقال ابن إسحاق : فإذا لم يعرفه الناس سألوا : من هو ؟ فيقول : أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش رضي الله تعالى عنه ؛ زاد ابن إحساق : قال الحصين - يعني شيخه : فقلت لمحمود بن لبيد : كيف كان شأن الأصيرم ؟ قال : كان يأبي الإسلام على قومه ، فلما كان يوم خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم ، ثم أخذ سيف فغدا(2/154)
صفحة رقم 155
حتى دخل في عرض الناس ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به ، فقالوا : والله إن هذا للأصيرم ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر بذا الحديث فسألوه ما جاء به ، فقالوا : ما جاء بك يا عمور ؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ، ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني .
ثم لم يلبث أن مات في أيديهم ، فذكروه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إنه لمن أهل الجنة ) والمعنى على هذا : يا أيها الذين يريدون الإيمان لا تفعلوا مثل فعل الأصيرم في تأخير إيمانه لأجل الربا ، بل سابقوا الموت لئلا يأتيكم بغتة فتهلكوا ، أو يا أيها الذين أخبروا عن أنفسهم بافيمان ورسوخ الإذعان في أنفسهم والإيقان بمر الزمان افعلوا مثل فعله ساعة أسلم في صدق الإيمان وإسلام نفسه إلى ربه بركوب الأهوال في غمرات القتال من غير خوف ولا توقف ولا التفات إلى أمر دنيوي وإن عظم ؛ فقد بان أنه نبه بالإشارة إلى قصة بدر ثم بهذه الآية على أن من أعرض عن الدنيا حصلت له بعز وإن كان قليلاً ، ومن أقبل عليها فاتته بذلك وإن كان كثيراً جليلاً ، لأن مَن له ملك السماوات والأرض يفعل ما يشاء ، ولا تفيد الآية إباحة مطلق الفضل في الربا ما لم ينته إلى الأضعاف المضاعفة ، لأن إفهامها لذلك معارض لمنطوق آيات البقرة الناهية عن مطلق الربا ، والمفهوم لا يعمل به إذا عارض منطوق نص آخر ، وهذا من مزيد الاعتناء بشأن الربا إذ حرم كل نوع منه في آية تخصه ، فحرم ربا الفضل في آيات البقرة ، ويلزم من ترحيمه تحريم ربا الأضعاف ، ثم نص عليه في هذه الآية ، فصار محرمأً مرتين : مفهوماً ومنطوقاً ، مع ما أفاد ذكره من النكت التي تقدم التنبيه عليها .
آل عمران : ( 131 - 137 ) واتقوا النار التي. .. . .
) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( } )(2/155)
صفحة رقم 156
ولما كان الفائز بالمطالب قد لا يوقي المعاطب قال تعالى : ( واتقوا النار ) أي إن لم تكونوا ممن يتقيه سبحانه لذاته ) التي أعدت ) أي هيئت ) للكافرين ) أي بالله باستحلال الربا وغيره بالذات ، وللكافرين بالنعمة عصياناً بالعرض .
ولما كان الفائز السالم قد لا يكون مقرباً قال اتباعاً للوعيد بالوعد : ( وأطيعوا الله ( ذا الجلال والإكرام ) والرسول ) أي الكامل في الرسلية كمالاً ليس لأحد مثله ، أي في امتثال الأوامر واجتناب النواهي بالإخلاص ) لعلكم ترحمون ) أي لتكونوا على رجاء وطمع في أن يفعل بكم فعل المرحومب التقريب والمحبة وإنجاز كل ما وعد على الطاعة من نصره وغيره .
ولما نهىعما منع النصر بالنهي عن الربا ، المراد بالنهي عنه الصرف عن مطلق الإقبال على الدنيا ، المشار إلى ذمها في قوله تعالى :
77 ( ) زين للناس حب لاشهوات من النساء والبنين ( ) 7
[ آل عمران : 14 ] ، وأمر بما تضمن الفوز والنجاة والقر ، وكان ذلك قد يكون مع التواني أمر بالمسارعةف يه توصلاً إلى ما أعد للذين اتقوا الموعودين بالنصر المشروط بتقواهم وصبرهم في قوله :
77 ( ) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ( ) 7
[ آل عمران : 125 ] ،
77 ( ) وإن تصبرو وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ( ) 7
[ آل عمران : 120 ] الموصوفين بما تقدم في قوله تعالى في المقصد الثالث من دعئام هذه السورة
77 ( ) قل أأنبئكم بخير من ذلك للذين اتقوا ( ) 7
[ آل عمران : 15 ] ، على وجه أبلغ من ذلك بالمسارعة إلى ما يوجب المغفرة من الرب اللطيف بعباده ، وإلى ما يبيح الجنة أعدت للمتقين الذين تقدمت الإشارة إليهم في قوله تعالى :
77 ( ) واتقوا الله لعلكم تفحلون ( ) 7
[ آل عمران : 130 ] الذين يتخلون عن الأموال وجميع مصانع الدنيا فلا تمتد أعينهم إلى الازدياد من شيء منها ويتحلون بالزهد فيها والإنفاق لها في سبيل الله في مرضاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الجهاد وغيره في السراء والضراء ، لا بالإقبال على الدنيا من غنيمة أو غيرها إقبالاً يخلّ ببعض الأوامر ، وبالصبر بكظم الغيظ عمن أصيب منهم بقتل أو جراحة ، والعوف عمن يحسن العفو عنه في التمثيل بالقتل في أحد أو غير ذلك إرشاداً إلى أن لا يكون جهادهم إلا غضباً لله تعالى ، لا مدخل فيه لحظ من حظوظ النفس أصلاً ، وبالصبر أيضاً على حمل النفس على الإحسان إلى من أساء بذلك أو غيره كما فعل ( صلى الله عليه وسلم ) في فتح مكة بعد أن كان حلف ليمثلن بسبعين منهم مكان تمثيلهم بسيد الشهداء أسد الله واسد رسوله عمه حمزة ابن ساقي الحجيج عبد المطلب ، فإنه وقف ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك اليوم(2/156)
صفحة رقم 157
الذي كان أعظم أيام الدنيا الذي أثبت فيه نور الإسلام عل مشرق الأرض ومغربها ، فهزم ظلام الكفر وضرب أوتاده في كل قطر على درج الكعبة وهم في قبضته فقال : ( ما تظنون إني فاعل بكم يا معشر قريش ؟ قالوا : خيراً أخ وبان أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ) ، وبالاستغفار عنعمل الفاحشة من خذلان المؤمنين أو أكل الربا أو التولي عن قتال الأعداء ، وعن ظلم النف سمن محبة الدنيا الموجب للإقبال على الغنائم التي كانت سبب الانهزام أو يغر ذلك مام أراد الله تعالى فقال تعالى : ( وسارعوا ) أي بأن تفعلوا في الطاعات فعل من يسابق خصماً ) إلى مغفرة من ربكم ) أي المحسن إليكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعمل ما يوجبها من التوبة والإخلاص وكل ما يزيل العقاب ) وجنة ) أي عظيمة جداً بعمل كل ما يحصل الثواب ، ثم بين عظمها بقوله : ( عرضها السموات والأرض ) أي كعرضهما ، فكيف بطولها ، ويحتمل أن يكون كطولهما ، فهي أبلغ من آية الحديد - كما يأتي لما يأتي ، وعلى قراءة ) سارعوا ( بحذف الواو يكون التقدير : سارعوا بفعل ما تقدم ، فهو في معناه ، لا مغائر له .
ولما وصف الجنة بين أهلها بقوله : ( أعدت ) أي الآن وفرغ منها ) للمتقين ( وهم الذين صارت التقوى شعارهم ، فاستقاموا واستمروا على الاستقامة ، ثم وصف المتقين بما تضمن تفصيل الطاعة المأمور بها قبل إجمالاً ن على وجه معرف بأسباب النصر إلى آخر ما قص من خبر الأنبياء الماضين ومن معهم من المؤمنين بادئاً ما هو أشق الأشياء ولا سيما في ذلك الزمان من التبر ومن المال الذي هو عديل الروح فقال : ( الذين ينفقون ) أي مما آتاهم الله ، وهو تعريض بمن أقبل على الغنيمة ) في السراء والضراء ) أي في مرضاة الله في حال الشدة والرخاء. ولما ذكر أشق ما يترك ويبذل أتبعه أشق ما يحبس فقال : ( والكاظمين ) أي الحابسين ) الغيظ ( عن أن ينفذوه بعد أن امتلؤوا منه .
ولما كان الكاظم غيظه عن أن يتجاوز في العقوبة قد لا يعفو حثه على العفو بقوله : ( والعافين ( وعمم في الحكم بقوله : ( عن الناس ) أي ظلمهم لهم ولو كانوا قد قتلوا منهم أو جرحوهم .
ولما كان التقدير : فإن الله يحبهم لإحسانهم عطف عليه تنويهاً بدرجة الإحسان قوله : ( والله ) أي الذي له صفات الكمال ) يحب المحسنين ) أي يكرمهم بأنواع الإكرام على سبيل التجديد والاستمرار .(2/157)
صفحة رقم 158
ولما أخبر أنها للمحسنين إلى الغير ومن قاربهم أخبر أناه لمن دونهم في الرتبة من التائبين المحسنين إلى أنفسهم استجلاباً لمن رجع عن أحد من المنافقين ولغيرهم من العاصين فقال : ( والذين إذا فعلوا ) أي باشروا عن علم أوجهل فعله ) فاحشة ) أي من السيئات الكبار ) أو ظلموا أنفسهم ) أي بأي نوع كان من الذنوب ، لتصير الفاحشة موعوداً بغفرانها بالخصوص وبالعموم ) ذكروا الله ) أي بما له من كمال العظمة فاستحيوه وخافوه ) فاستغفروا ( الله ، أي فطلبوا المغفرة بالتوبة بشرطها ) لذنوبهم ) أي فإنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب .
ولما كان هذا مفهماً لأنه تعالى يغفر كل ذنب أتبعه تحقيق ذلك ونفي القدرة عليه عن غيره ، لأن المخلوق لا يمضى غفرانه لذنب إلا إذا كان مما شرع الله غفرانه ، فكان لا غافر في الحقيقة إلا الله قال مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين : ( ومن يغفر الذنوب ) أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازى عليها ) إلا الله ) أي الملك الأعلى .
ولما كان سبحانه وتعالى قد تفضل برفع القلم عن الغافل قال : ( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) أي إنهم على ذنب .
ولما أتم وصف السابقين وهم المتقون واللحقين وهم التائبون قال - معلماً بجزائهم الذين سارعوا إليه من المغفرة والجنة مشيراً إليهم بأداة البعد تعظيماً لشأنهم على وجه معلم بأن أحدأً لا يقدر الله حق قدره - : ( أولئك ) أي العالو الرتبة ) جزآؤهم مغفرة ) أي لتقصيرهم أو لهفواتهم أو لذنوبهم ، وعظمها بقوله : ( ن ربهم ) أي المسحن غليهم بكل إحسان ، وأتبع ذلك للإكرام فقال : ( وجنات ( أيّ جنات ، ثم بين عظمها بقوله : ( تجري من تحتها الأنهار ( حال كونكم ) خالدين فيها ( هي أجرهم على عملهم ) ونعم أجر العالمين ( هي ، هذا على تقدير أن تكون الإشارة لجميع الموصوفين ، وإن كانت للمستغفرين خاصة فالأمر واضح في نزول رتبتهم عمن قبلهم .
ولما فرغ من بيان الزلل الذي وقع لهم به الخلل ، والترهيب مما يوقع فيه ، والترغيب فيما ينجى منه في تلك الأساليب التي هي أحلى من رائق الزلال ولذيذ الوصال بعد طول المطال أخذ يشجعهم على الجهاد لذوي الفساد ، فبدأ بالسبب الأقوى ، وهو الأمر بمشاهدة مصارع من مضى من المكذبين برؤية ديارهم وتتبع آثارهم مع أنهم كانوا أشد خلقاً وأقوى همماً وأكثر عدداً وأحكم عدداً ، فقال تعالى معللاً لأمر بالمسارعة إلى المغفرة : ( قد خلت ( ولما كان العلم بالقريب في الزمان والمكان أتم ، وكان الذين وقعت فيهم السنن جميع أهل الأرض ، ولا في جميع الزمان ، أثبت الجار فقال : ( من قبلكم ( اي فلا تظنوا بما أملى لهم بهذه الإدالة أن نعمته انقطعت عنهم(2/158)
صفحة رقم 159
) سنن ) أي وقائع سنها لاله في القرون الماضية والأمم الخالية في المؤمنين والمكذبين ، وأحوال وطرائق كانت للفريقي ، فتأسوا بالمؤمنين وتقوعوا لأعدائكم مثل ما للمكذبين ، فانظروا وأنعموا التأمل في أحوال الفريقين وإن لم يحصل ذلك إلا بالسير في الكد والتعب الشديد ) فسيروا في الأرض ) أي للاتعاظ بأحوال تلك الأمم برؤية آثارهم لتضموا الخير إلى الخير ، وتعتبروا من العين بالثر ، وتقرنوا بين النقل والنظر ، ولما كان الرجوع عن الهفوة واجباً على الفور عقب بالفاء قوله : ( فانظروا ) أي نظر اعتبار ، ونبه على عظمة المنظور فيه بأنه أهل لأن يستفهم عنه لأنه خرج عن العوائد فتعاظم إشكاله فقال : ( كيف كان عاقبة ) أي آخر أمر ) المكذبين ( ولما تكلفت هذه الجمل بالهداية إلى سعادة الدارين نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله على طريق الاستفتاح : ( هذا بيان ) أي يفيد إزالة الشبه ) للناس ) أي المصدقين .
والمكذبين ) وهدى ) أي إرشاد بالفعل ) وموعظة ) أي ترقيق ) للمتقين (
آل عمران : ( 138 - 143 ) هذا بيان للناس. .. . .
) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ( ( )
ولما أمرهم بالمسارعة وأتبعها علتها ونتيجتها نهاهم عما يعوق عناه من قبل الوهن الذي عرض لهم عند رؤيتهم الموت فقال - ويجوز أن يعطف على ما تقديره : فتبينوا واهتدوا واتعظوا إن كنتم متقين ، وانظروا أخذنا لمن كان قبلكم من أهل الباطل وإن كان لهم دول وصولات ومكر وحيل 0 : ( ولا تهنوا ) أي في جهاد أعدائكم الذين هم أعداء الله ، فالله معكم عليهم ، وإن ظهروا يوم أحد نوع ظهور فسترون إلى من يؤول الأمر ) ولا تحزنوا ) أي على ما أصابكم منهم ولا على غيره مما عساه ينوبكم ) و ( الحال أنكم ) أنتم الأعلون ) أي في الدارين ) إن كنتم مؤمنين ) أي إن كان الإيمان - وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله - لكم صفة راسخة ، فإنهم لا يهنون ؛ لأنكم بين إحدى الحسنيين - كما لم يهن من سيقص عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنيباء قبلكم لعلوكم عدوكم ، أما في الدنيا فلأن دينكم حق ودينهم باطل ، ومولاكم العزلز الحكيم الذي قد وعدكم الحق الملكَ الكبير لمن قتل ، والنصر والتوزر لمن بقي ، وهو حي قيوم ، ولا(2/159)
صفحة رقم 160
يخفى عليه شيء من أحوالكم ، فهو ناصركم وخاذلكم ، وأما في الآخرة فلأنكم يف مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وهم في النار عند ملائكة العذاب الغلاظ الشداد أبداً .
ولما نهاهم عما تقدم وبشرهم سلاهم وبصرهم بقوله : ( إن يمسسكم قرح ) أي مصيبة بإدالتهم عليكم اليوم ) فقد مس القوم ) أي الذين لهم من قوة المحاولة ما قد علمتم ، أي في يوم أحد نفسه وفي يوم بدر ) قرح مثله ) أي في مطلق كونه قرحاً وإن كان أقل من قرحكم في يوم أحد وأكثر منه في يوم بدر ، على أنه ما أنه ظفرهم - بعدما أصابهم وأنكأهم يوم بدر بالزهد الذي ليس بعده وهن - بقتل مثل من قتل منكم وأسر مثلكم ، ويوم أحد بالقتل والهزيمة أول النهار وهم أعداؤه ، فهو جدير بأن يظفركم بعد وهنكم وأنتم أولياؤه ، فكما لم يضعفهم وهنهم وهم على الباطل فلا تضعفوا أنتم وأنتم على الحق ، ترجون منالله ما لا يرجون ، فقد أدلناكم عليهم يوماً وأدلناهم عليكم آخر ) وتلك الأيام ( ولما نبه على على تعظيمها بأداة البعد ، وكانت إنما تعظم بعظم أحوالهما ذكر الحال المنبه عليها بقوله : ( وداولها بين الناس ) أي بأن نرفع من نشاء تارة ونرفع عليه أخرى .
ولما كان التقدير : ليدال على من كانت له الدولة ، فيعلم كل أحد أن الأمر لنا بلا شريك ولا منازع عطف عليه قوله : ( وليعلم الله ) أي المحيط بجميع الكمال ) الذين آمنوا ) أي بتصديق دعوى الإيمان بنية الجهاد فيكرمهم ، ومعنى ) ليعلم ( أنه يفعل فعل من يريد علم ذلك بأن يبرز ما يعلمه غيباً إلى عالم الشهادة ليقيم الحجة على الفاعلين على ما يتعارفه الناس بينهم ) ويتخذ منكم شهداء ) أي بأن يجعل قتلهم عين الحياة التي هي الشهادة ، لا غيبة فيها ، فهو سبحانه وتعالى يزيد في إكرامهم بما صدقوا في إيمانهم بأن لا يكونوا مشهوداً عليهم أصلاً بفتنة في قبورهم ولا غيرها ولا يغفلوا بخوف ولا صعق ولا غيره ، فإن الله يحب المؤمنين ، وليعلم الذين ظلموا ويمحق منهم أهل الجحد والاعتداء ) والله ) أي الملك الأعلى ) لا يحب الظالمين ) أي الذين يخالف فعلهم قولهم ، فهو لا يستشهدهم ، وإنما يجعل قتلهم أول خيبتهم وعذابهم ، وفيه بشارة في ترغيب بأنه لا يفعل مع الكفرة فعل المحب ، لئلا يحزنوا على ما أصابهم ، ونذارة في تأديب بأنهم ما أخذوا إلا بتضييعهم الثغر الذي أمرهم به من التزموا طاعته وأمر الله بها في المنشط والمكره بحفظه ، وأقبلوا على الغنائم قبل أن يفرغوا من العدو ، والآية من الاحتباك : إثبات الاتخاذ أولاً دال على نفيه ثانياً ، وإثبات الكراهة ثانياً دال على المحبة أولاً .
ولما قدم التنفير من الظلم دلالة على الاهتمام به أكمل ثمرات المداولة بقوله :(2/160)
صفحة رقم 161
) وليمحص ) أي وليطهر ) الله ) أي ذو الجلال والإكرام ) الذين أمنوا ) أي إن أصيبوا ، ويجعل مصيبتهم سبباً لقوتهم ) ويمحق الكافرين ) أي شيئاً فشيئاً في تلك الحالتين بما يلحقهم من الرجس ، أما إذا كانت لهم فبالقص بالقوة بالبطر الموجب للعكس ، وأما إذا كانت عليهم فبالنقص بالفعل الموجب للقطع بالنار .
ولما كان السياق يرشد إلى أن المعنى : أحسبتم أنه لا يفعل ذلك ، عادله بقوله : ( أم حسبتم ) أي يا من استكره نبينا على الخروج في هذا الوجه ) أن تدخلوا الجنة ) أي التي أعدت للمتقين ) ولما يعلم الله ) أي يفعل المحيط علماً وقدرة بالامتحان فعل من يريد أن يعلم ) الذين جاهدوا منكم ) أي أوقعوا الجهاد بصدق العزيمة ، ثم أمضوه بالفعل تصديقاً للدعوى ) ويعلم الصابرين ) أي الذي شأنهم الصبر عند الهزاهز والثبات عند جلائل المصائب تصديقاً لظاهر الغرائز ، فإن ذلك أعظم دليل على الوثوق بالله ووعده الذي هو صريح الإيمان .
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير : لفقد كنتم تقولون : لئن خرجت بنا ليبتلين الله بلاء حسناً ، عطف عليه قوله : ( ولقد ( ويجوز أن يكون حالاً من فاعل ) حسبتم ( ) كنتم تمنون الموت ) أي الحرب ، عبر عنها به لأنها سببه ، ولقد تمنى بعضهم الموت نفسه بتمني الشهادة ) من قبل أن تلقوه ) أي رغبة فيما أعد الله للشهداء ) فقد رأيتموه ) أي برؤية قتل إخوانكم ، والضمير يصلح أن يكون للموت المعبر به عن الحرب ، وللموت نفسه بؤية أسبابه القريبة ، وقوله : ( وأنتم تنظرون ( بمعنى رؤية العين ، فهو تحقيق لإرادة الحقيقة .
آل عمران : ( 144 - 147 ) وما محمد إلا. .. . .
) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ( )
ولما كان التقدير : فانهزمتم عندما صرخ الشيطان كذباً : ألا إن محمداً قد قتل ولم يكن لكم ذلك فإنكم إنما تعبدون رب محمد الحي القيوم وتقاتلون له ، وأما محمد فما هو بخالد لكم في الدنيا قال : ( وما محمد إلا رسول ) أي من شأنه الموت ، لا إله ، ثم قرر المراد من السياق بقوله : ( قد خلت ) أي بمفارقة أممهم ، إما بالموت أو(2/161)
صفحة رقم 162
الرفع إلى السماء ، ولما كان المراد أن الخلو منهم إنما كان في بعض الزمان الماضي لما مضى أثبت الجار فقال : ( من قبله الرسل ) أي فيسلك سبيلهم ، فاسلكوا أنتم سبيل من نصح نفسه من أتباعهم فاستمسك بنورهم .
ولما سبب عن ذلك إنكار انهزامهم ودعتهم على تقدير فقده أنكر عليهم بقوله : ( أفأن ( ولما كان الملك القادر على ما يريد لا يقول شيئاً وإن كان فرضاً إلا فعله ولو على أقل وجوهه ، وكان في علمه سبحانه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) يموت موتاً - لكونه على فراشه ، وقتلاً - لكونه بالسم ، قال : ( مات ) أي موتاً على الفراش ) أو قتل ) أي قتلاً ) انقلبتم ) أي عن الحال التي فارقكم عليها فأضعتم مشاعر الدين وتركتم مشاريع المرسلين ثم قرر المعنى بقوله : ( على أعقابكم ( لئلا يظن أن المراد مطلق الانتقال وإن كان على الاستواء والانتقال إلى أحسن ) ومن ) أي انتقلتم والحال أنه من ) ينقلب على عقبيه ) أي بترك ما شرعه له نبيه أو التقصير فيه ) فلن يضر الله ) أي المحيط بجميع العظمة ) شيئاً ( لأنه متعالٍ عن ذلك بأن الخلق كلهم طوع أمر ، لا يتحركون حركة إلا على وفق مراده ، فلو أراد لهداهم أجمعين ، ولو أراد أضلهم أجمعين ، وإنما يضر ذلك المنقلب نفسه لكفره بالله ، وسيجزي الله الشاكرين ، ومن سار ثابتاً على المنهج السوي فإنما ينفع نفسه لشكره لله ) وسيجزي الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) الشاكرين ) أي كلهم ، فالآية من الاحتباك : أثبت الانقلاب وعدم الضر أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً ، والجزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً .
ولما كان موت الرأس من أنصار الدين لا يصلح أن يكون سبباً للفرار إلا إذا كان موته بغير إذن صاحب الدين ، وكان الفرار لا يصلح إلا أذا كان يمكن أن يكون سبباً للنجاة ، وأما إذا كان موته لا يكون إلا بإرادة رب الدين ، والفرار لا يكون سبباً في زيادة الأجل ولا نقصه ؛ أشار إلى ذلك بقوله : ( وما كان لنفس ) أي من الأنفس كائنة من له الإحاطة التامة وإرادته وتمكينه من قبضها ( كتب لكل نفس عمرها ) ) كتاباً مؤجلاً ) أي أجلاً لا يتقدم عنه بثبات ، ولا يتأخر عنه بفرار اصلاً .
ولما كان المعنى : فمن أقدم شكرته ولم يضره الإقدام ، ومن أحجم ذممته ولم ينفعه الإحجام ، وكان الحامل على الإقدام إيثار ما عند الله ، والحامل على الإحجام أيثار الدنيا ؛ عطف على ذلك قوله : ( ومن يرد ثواب الدنيا ) أي بعمله - كما افهمه التعبير بالثواب ، وهم المقبلون على الغنائم بالنهب والفارون كفراً لنعمة الله ) نؤته منها ) أي ما راد ، وختام الآية يدل على أن التقدير هنا : وسنردي الكافرين ، ولكنه طواه رفقاً لهم(2/162)
صفحة رقم 163
) ومن يرد ثواب الآخرة ) أي وهم الثابتون شكراً على إحسانه إليهم من غير أن يشغلهم شاغل عن الجهاد ، ولما كان قصد الجزاء غير قادح في الإخلاص منه من الله تعالى علينا قال : ( نؤته ( ونبه على أن العمل لذات الله من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب أعلى فقال : ( منها ) أي وسنجزيه لشكره ، وهو معنى قوله : ( وسنجزي الشاكرين ( لكنه أظهر لتعليق الحكم بالوصف وعمم .
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الجمل على هذا الوجه الذي بين فيه العلل ، وأوضح بحال الزلل ، وكان التقدير بعد انقضائها : فكأين من قوم أمرناهم بالجهاد ، فكانوا على هذين القسمين ، فأثبنا الطائع وعذينا العاصي ، ولم يضرنا ذلك شيئاً ، ولا جرى شيء منه على غير مرادنا ، عطف عليه يؤسيهم بطريق الصالحين من قبلهم ويسيلهم بأحوالهم قوله : ( وكأين ( وهي بمعنى كم ، وفيها لغات كثيرة ، قرىء منها في العشر بثنتين : الجمهور بفتح الهمزة بعد الكاف وتشديد الياء المكسورة ، وابن كثير وأبو جعفر بألف ممدودة بعد الكاف وهمزة مكسورة ، ولعلها أبلغ - لأنه عوض عن الحرف المحذوف - من المشهورة بالمد ، والمد أوقع في النفس وأوقر في القلب ؛ وفيها كلام كثير - في لغاتها ومعناها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً ، ورسمها في مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي وقع إجماع الصحابة عليه ليكون المرجع عند الاختلاف إليه ، وهل هي بسيطة أو مركبة ومشتقة أو جامدة وفي كيفية التصرف في لغاتها - استوعبته في كتابي الجامع المبين لما قيل في ) كأين ( ، وقال سبحانه : ( من نبي ( لتكون التسلية أعظم بذكر ما هو طبق ما وقع في هذه الغزوة من قتل أصحابه ، واحتمال العبارة لقتله نفسه بقوله : ( قتل ) أي ذلك النبي حال كونه ) معه ( لكن الأرجح إسناد ) قتل ( إلى ) ربيون ) أي علماؤهم ورثة الأنبياء ، وعلى منهاجهم ) كثير فما ( عمرو - : قاتل معه ) ربيون ( أ يعلماؤهم ورثة الأنبياء ، وعلى منهاجهم ) كثير فما ) أي فما تسبب عن قتل نبيهم وهنهم ، أو يكون المعنى ويؤيده الوصف بالكثرة - : قتل الربيون ، فما تسبب عن قتلهم أن الباقين بعدهم ) وهنوا ) أي ضعفوا عن عملهم ) لما أصابهم في سبيل الله ) أي الملك الأعظم من القتل لنبيهم الذي هو عمادهم ، أو إخوانهم الذين هم أعضادهم لكونه من الله ) وما ضعفوا ) أي مطلقاً في العمل ولا في غيره ) وما استكانوا ) أي وما خضعوا لأعداهئم فطلبوا أن يكونوا تحت أيديهم - تعريضاً بمن قال : اذهبَوا إلى أبي عامر الراهب ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، بل صبروا ، فأحبهم الله لصبرهم ) والله ) أي الذي له صفات الكمال ) يحب الصابرين ) أي فليفعلن بهم من النصر وإعلاء القدر وجميع أنواع الإكرام فعل من يحبه .(2/163)
صفحة رقم 164
ولما أثنى سبحانه وتعالى على فعلهم أتبعه قولهم فقال : ( وما كان ) أي شيء من القول ) قولهم ) أي بسبب ذلك الأمر الذي دهمهم ) إلا أن قالوا ) أي وهم يجتهدون في نصر دين الله ناسبين الخذلان إلى أنفسهم بتعاطي أسبابه ) ربنا اغفر لنا ذنوبنا ) أي التي استوجبنا بها الخذلان ) وإسراقنا في أمرنا ( هضماً لأنفسهم ، فمع كونهم ربانيين مجتهدين نسبوا ما أصابهم إلى ذنوبهم ، فافعلو أنتم فعلهم لتنالوا من الكرامة ما نالوا ، كما أشار لكم سبحانه وتعالى إلى ذلك قبل الأخذ في قص القصة عندما وصف به المتقين من قوله : ( ) أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ( ) [ آل عمران : 135 ] .
ولما دعوا بمحو ما أوجب الخذلان دعوا بثمرة المحو فقالوا : ( وثبت أقدامنا ( إشارة إلى أن الرعب من نتائج الذنب ، والثبات من ثمرات الطاعة - إنما تقاتلون الناس بأعمالكم - ثم أشاروا إلى أن قتالهم لهم إنما هو لله ، لا لحظ من حظوظ النفس أصلاً بقوله : ( وانصرنا على القوم الكافرين (
آل عمران : ( 148 - 152 ) فآتاهم الله ثواب. .. . .
) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ( )
فلما تم الثناء على فعلهم وقولهم ذكر ما سببه لهم ذلك من الجزاء فقال ) فأتاهم الله ( المحيط علماً وقدرةً ) ثواب الدنيا ) أي بأن قبل دعاءهم بالصنر والغنى بالغنائم وغيرها وحسن الذكر وانشراح الصدر وزوالها شبهات الشر .
ولما كان ثواب الدنيا كيف ما كان لا بد أن يكون بالكدر مشوباً وبالبلاء مصحوباً ، لأنها دار الأكدار ؛ أعراه من وصف الحسن ، وخص الآخرة به فقال : ( وجسن ثواب الآخرة ) أي مجازاً بتوفيقهم إلى الأسباب في الدنيا ، وحقيقة في الآخرة ، فإنه أحسنوا في هذا الفعلا والمقال ، لكونهم لم يطلبوا بعبادتهم غير وجه الله ، فأحبهم لإحسانهم ) والله ( المحيط بصفات الكمال ) يحب المحسنين ( كلهم ، فهو جدير بأن يفعل بهم(2/164)
صفحة رقم 165
كل جميل ولذلك رفع نمزلتهم ولم يجعل ثوابهم بعضاً ، كما فعل بمن عبد لإرادة الثواب فقال :
77 ( ) نؤته منها ( ) 7
[ آل عمران : 145 ] فقد بان أن هذه الآية منعطفة على ما أمر به الصحابة رضي الله عنهم على طريقة اللف والنشر المشوش ، فنفي الوهن تعريض بمن أشير إليه في آية
77 ( ) ولقد كنتم تمنون الموت ( ) 7
[ آل عمران : 143 ] ونحو ذلك والثناء لعى قولهم حث عل مثل ما ندبهم اليه في قولهم
77 ( ) ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ( ) 7
[ آل عمران : 139 ] وإلى أن ثبات لاقدم للنصر على أعداء الله كان شاغلاً للاهم عن الالتفات إلى غيره ، وتعريض بمن أقبل على الغنائم وترك طلب العدو لتمام النصر المشار إليهم بآية
77 ( ) ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ( ) 7
[ آل عمران : 145 ] وإيتاء الثواب ناظر إلى النهي عن الربا وما انتظم في سلكه وداناه ، وإلى الأمر بالمسارعة إلى الجنة وما والاه ، وإيماء إلى أن من فعل فعلهم نال ما نالوا ، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه ، لأن علمه محيط ، وكرمه لا يحد ، وخزائنه لا تنفذ ، بل لا تنقص ، ثم ختمها بما ختم به للحث على التخلق بأوصاف المتقين ؛ فقد اتضح بغير لبس أن المراد بهذه الآية - وهي الإخبار عن إيتائهم الثواب - التنبيه على أن أهم الأمور وأحقها بالبداءة التخلق بما وعظوا به قبل قص القصة ، ولا ريب أن في مدح من سواهم تهييجاً زائداً لانبعاث نفوسهم وتحرك هممهم وتنبيه نشاطهم وثوران عزائمهم غيرة منهم أن يكون أحد - وهم خير أمة أخرجت للناس - أعلى همة وأقوى عزيمة وأشد شكيمة وأصلب عوداً واثبت عموداً وأربط جأشاً وأذكر لله وأرغب فيام عنده وأزهد فيما أعرض عنه منهم .
ولما أمر سبحانه وتعالى بطاعته الموجبة للنصر والأجر وختم بمحبته للمحسنين ، حذر من طاعة الكافرين المقتضية للخذلان رغبة في موالاتهم ومنا صرتهم فقال تعالى واصلاً بالنداء في آية الربا : ( الذين كفروا ) أي هذا الفريق منهم أو غيره ) يردوكم على أعاقبكم ( بتعكيس أحوالكم إلى أن تصيروا مثلهم ظالمين كافرين ) فتنقلبوا خاسرين ( في جميع أموركم في الدراين ، فتكونوا ي غاية البعد من أحوال المحسنين ، فتكونوا بمحل السخط من الله صغرة تحت أيدي الأعداء في الدنيا خالدين في العذاب في الآخرى ، وذلك ناظر إلى قوله تعالى أول ما حذر من مكر الكفار
77 ( ) ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ( ) 7
[ آل عمران : 100 ] ، وموضح أن جميع هذه الآيات شديد اتصال بعضها ببعض - والله الموفق .
ولما كان التقدير : فلا تطيعوهم ، إنهم ليسوا صالحين للولاية مطلقاً ما دمتم(2/165)
صفحة رقم 166
مؤمنين ، عطف عليه قوله : ( بل الله ) أي الملك الأعظم ) موالاكم ( مخراً بأنه ناصرهم وأن نصره لا يساويه نصر أحد سواه بقوله : ( سنلقي ) أي بعظمتنا ) في قلوب الذين كفروا الرعب ) أي المقتضي لامتثال ما أمر به من الجرأة عليهم وعدم الوهن في أمرهم ، كما افتتح القصة بالإيمان إلى ذلك بالأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين ، ثم بين سبب ذلك فقال : ( بما أشركوا بالله ) أي ليعلموا قطعاً أنه لا ولي لعدوه لأنه لا كفوء له ، وبين بقوله : ( ما لم ينزل ) أي في وقت من الأوقات ) به سلطاناً ( أنه لا حجة لهم في الإشراك ، وما لم ينزل به سلطاناً فلا سلطان له ، ومادة سلط ترجع إلى القوة ، ولما كان التقدير : فعليهم الذل في الدنيا لاتباعهم ما لا قة به ، عطف عليه : ( ومأواهم النار ( ثم هوّل أمرهم بقوله : ( وبئس مثوى الظالمين ) أي هي ، وأظهر في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف .
وما كانت السين في ) سنلقي ( مفهمة للاستقبال كان ذلك ربما أوهم أنه لم يرغبهم فيما مضى ، فنفى هذا الوهم محققاً لهم ذلك بتذكيرهم بما أنجز لهم من وعده في أول هذه الوقعة مدة تلبسهم بما شرط عليهم من الصبر والتقوى بقوله تعالى - عطفاً على قوله :
77 ( ) بلى أن تصبروا وتتقوا ( ) 7
[ آل عمران : 125 ] ، مصرحاً بما لوح إلأيه تقديراً قبل
77 ( ) ولقد نصركم الله ببدر ( ) 7
[ آل عمران : 123 ] كما مضى - : ( ولقد صدقكم الله وعده ) أي في قوله
77 ( ) وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم ( ) 7
[ آل عمران : 120 ] ) إذ تحسونهم ) أي تقتلونهم بعضهم بالفعل والباقين بالقوة التي هيأها لكم ) بإذنه ( فإن الحسن بالفتح : القتل والاستئصال - قاله في القاموس .
ثم بين لهم سبب هزيمتهم بعد تمكينه منهم ليكون رادعاً لهم عن المعاودة إلى مثله فقال مبيناً لغاية الحسن : ( حتى إذا فشلتم ) أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة خلاف ما تدعو إليه الهمم العوالي ، فكيف بهم إذا كانوا من حزب مولي الموالي فلو كانت العرب على حال جاهليتها تفاخر بالإقبال على الطعن والضرب في مواطن الحرب والإعراض عن الغنائم - كما قال عنترة بن شداد العبسي يفتخر :
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي إذ لا أزال على رحالة سابح نهد تعاوره الكماة مكلم طوراً يعرض للطعان وتارة يأوي غلى حصد القسي عرموم يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعفّ عند المنغنم(2/166)
صفحة رقم 167
وقال يفاخر بقومه كلهم :
إنا إذا حمس الوغى نروي القنا ونعف عند مقاسم الأنفال
ولما ذكر الفشل عطف عليه ما هو سببه في الغالب فقال : ( وتنازعتم ) أي بالاختلاف ، وأصله من نزع بعض شيئاً من يد بعض ) في الأمر ) أي أمر الثغر المأمور بحفظه ) وعصيتم ) أي وقع العصيان بنيكم بتضييع الثغر .
وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء ، وتبشيراً بزوالها فقال : ( من بعد ما أراكم ما تحبون ) أي من حسهم بالسيوف وهزيمتهم .
ولما كان ذلك ربما أفهم أن الجميع عصوا نفي ذلك معللاً للعصيان بقوله : ( منكم من يريد الدنيا ) أي قد أغضى عن معايبها التي أجلاها فناؤها .
ولما كان حكم الباقين غير معين للفهم من هذه الجملة قال : ( ومنكم من يريد الآخرة ( وهم الثابتون في مراكزهم ، لما يعرجوا على الدنيا .
ولما كان التقدير جواباً لإذا : سلطهم عليكم ، عطف عليه قوله : ( ثم صرفكم عنهم ) أي لاندهاشكم إتيانهم إليكم من ورائكم ، وعطفه بثم لاستبعادهم للهزيمة بعد ما رأوا من النصرة ) ليبتليكم ) أي يفعل في ذلك فعل من يريد الاختبار في ثباتكم على الدين في حالي السراء والضراء .
ولما كان اختباره تعالى بعصيانهم شديد الإزعاج للقلوب عطف على قوله ) ذو فضل على المؤمنين ( اي كافة ، وهو من الإظهار في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف .
آل عمران : ( 153 - 154 ) إذ تصعدون ولا. .. . .
) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ( )
ولما ذكر علة الصرف والعفو عنه صوّره فقال : ( إذ ) أي صرفكم وعفا عنكم حين ) تصعدون ) أي تزيلون الصعود فتنحدرون نحو المدينة ، أو تذهبون في الأرض لتبعدوا عن محل الوقعة خوفاً من القتل ) ولا تلوون ) أي تعطفون ) على أحد ) أي من(2/167)
صفحة رقم 168
قريب ولا بعيد ) والرسول ) أي الذي أرسل إليكم لتجيبوه إلى كل ما يدعوكم إليه وهو الكامل في الرسلية ) يدعوكم في أخراكم ) أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير لا يبلغون أربعين نفساً على اختلاف الروايات - وثوقاً بما عنده وعد من دونه من ولي وعدو عدماً ؛ وإنما قلت : إن ( إليّ عباد الله أنا رسول الله إليّ عباد الله ) كما هو الائق بمنصبه الشريف من الاعتماد على الله والوثوق بما عنده وعد من دونه من ولي وعدو وعدماً ؛ وإنما قلت : إن معنى ذلك الانهزام ، لأن الدعاء يراد منه الإقبال على الداعي بعد الانصراف عما يريده ليأمر وينهى ، فعلم بذلك أنهم مولون عن المقصود وهو القتال ، وفي التفسير من البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال : جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير رضي الله تعالى عنه وأقبلوا منهزمين ، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم ، ولم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غير اثني عشر رجلاً .
ولما تسبب عن العفو ردهم عن الهزيمة إلى القتال قال تعالى : ( فأثابكم ) أي جعل لكم ربكم ثواباً ) غماً ) أي باعتقادكم قتل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
وكان اعتقاداً كاذباً مُلتئم به رعباً ) بغم ( أيكان حصل لكم من القتل والجراح والهزيمة ، وسماه - وإن كان في صورة العقاب - باسم الثواب لأنه كان سبباً للسرور حين تبين أنه خبر كاذب ، وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى كأنهم - كما قال بعضهم - لم تصبهم مصيبة ، فهو من الدواء بالداء ، ثم علله بقوله : ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) أي من النصر والغنيمة ) ولا ما أصابكم ) أي من القتل والجراح والهزيمة لاشتغالكم عن ذلك بالسرور بحياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولما قص سبحانه وتعالى عليهم ما فعلوه ظاهراً وما قصدوه باطناً وما داواهم به قال - عاطفاً على ما تقديره : فالله سبحانه وتعالى خبير بما يصلح أعمالكم ويبرىء أدواءكم - : ( والله ) أي المحيط علماً وقدرة ) خبير بما تعملون ) أي من خير وشر في هذه الحال وغيرها ، وبما يصلح من جزائه ودوائه ، فتارة يداوي الداء بالداء وتارة بالداواء ، لأنه الفاعل القادر المختار .
ولما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيداً ، ولا سيما بكونه بالنعاس الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر والمحل الضنك عطف بأداة البعد في قوله : ( ثم أنزل عليكم ( لوما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن ، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال : ( من بعدهم الغم ) أي المذكور وأنتم في نحر العدو ) أمنة ) أي أمناً عظيماً ، ثم ابدل منها تنبيهاً على ما فيها من الغرابة قوله : ( نعاساً ( دليلاَ قطعياً(2/168)
صفحة رقم 169
فإنه لا يكون إلا من أمن ؛ روي البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه قال : ( غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه ) ولما كان لبعضهم فقط استأنف وصفه بقوله : ( يغشى طائفة منكم ( وهم المؤمنون ، وابتدأ الإخبار عن الباقين بقوله : ( وطائفة ) أي أخرى من المنافقين ) قد أهمتهم أنفسهم ( لا المدافعة عن الدين فهم إنما يطلبون خلاصها ، ولا يجدون إلى ذلك فيما يظنون سبيلاً لاتصال رعبهم وشدة جزعهم ، فعوقبوا على ذلك بأنه لم يحصل لهم الأمن المذكور ، ثم فسر همهم فقال : ( يظنون بالله ( المحيط بصفات الكمال ) غير الحق ) أي من أن نصره بعده هذا لا يمكن ، أو أنهم لو قعدوا في المدينة لم يقتل أحد ، ونحو ذلك من سفساف الكلام وفاسد الظنون التي فتحتها لو والأوهام ) ظن الجاهلية ) أي الذين لا يعلمون - من عظمة الله سبحانه وتعالى بأن ما أراده كان ولا يكون غيره - ما يعلم أتباع الرسل .
ثم فسر الظن بقوله : ( يقولون ) أي منكرين لأنه لم يجعل الرأي رايهم ويعمل بمقتضاه غشباً وتاسفاً على خروجهم في هذا الوجه وعدم رجوعهم مع ابن أبيّ بعد أن خرجوا ) هل لنا من الأمر ) أي المسموع ، ولكون الاستفهام بمعنى النفي ثبتت أداة الاستغراق في قوله : ( من شيء ( فكأنه قيل : فماذا يقال لهم ؟ فقيل : ( قل ) أي لهم رداً عليهم احتقاراً بهم ) إن الأمر ) أي الحكم الذي لا يكون سواه ) كله لله ) أي الذي لا كفوء له ، وليس لكم ولا لغيركم منه شيء ، شئتم أو أبيتم ، غزوتم أو قعدتم ، ثبتم أو فررتم .
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم بعض أمرهم في هذه الحرب ، وبين لهم شيئاً من فوائد ما فعل بهم بقوله :
77 ( ) إن يمسسكم قرح ( ) 7
[ آل عمران : 140 ] وكان من جملة ذلك ما أظهر من أسرار المنافقين بهذه الوقعة في اتهامهم الله ورسوله ، حتى وصل إلى هنا ، وكان قولهم هذا غير صريح في الاتهام لإمكان حمله على مساق الاستفهام أخبر سبحانه وتعالى بتدليسهم بقوله : ( يخفون ) أي يقولون ذلك مخفين ) في أنفسهم ما لا يبدون لك ( لكونه لا يرضاه اللهز ثم بين ذلك بعد إجماله فقال : ( يقولون لو كان لنا من الأمر ) أي المسموع ) شيء ما قتلنا ههنا ( لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو .
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بما أخفوه جهلاً منهم ظناً أن الحذر يغني من لاقدر أمره سبحانه وتعالى بالرد عليهم بقوله : ( قل لو كنتم في بيوتكم ) أي بعد أن(2/169)
صفحة رقم 170
أجمع رأيكم على أن لا يخرج منكم أحد ) لبرز الذين كتب عليهم القتل ) أي في هذه الغزوة ) إلى مضاجعكم ) أي التي هي مضاجعهم بالحقيقة وهي التي قتلوا بها ، لأن ما قدرناه لا يمكن أحداً دفعه بوجه من الوجوه ، ثم عطف على ما علم تقديره ودل عليه السياق قوله : ( ليبتلي ) أي لبرز المذكورون لينفذ قضاؤه ويصدق قوله لكم في غزوة بدر : إن فاديتم الأسارة ولم تقتلوزهم قتل ممنكم في العام المقبل مثلهم ) وليبتلي الله ) أي المحيط بصفات الكمال بهذا الأمر التقديري ) ما في صدوركم ) أي من الإيمان والنفاق بأن يفعل في إظهاره من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فعل المختبر كما فعل بما وجد في هذه الغزوة من الأمور التحقيقية ) ولميحص ما في قلوبكم ( اي يطهره ويصفيه من جميع الوساوس الصارفة عن المراقبة من محبة الدنيا من الغنائم التي كانت سبب الهزيمة وغيرها .
وختم بقوله : ( والله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء ) عليم بذات الصدور ( مرغباً ومرهباً ودافعاً لما قد يتوهم من ذكر الابتلاء من عدم العلم بالخفايا .
ولما كانوا في هذه الغزوة قد حصل لهم ضرر عظيم ، لكنه كان بما وقع من بعضهم من الخلل الظاهر فأدبهم بذلك ، عفا عنهم سبحانه وتعالى بعد ذلك التأديب ورحمهم وطيب قلوبهم بهذه الآية بما فيها من التأمين صريحاً ، وبما فيها من الإشارة بجمع جميع حروف المعجم فيها تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد أن يتم كما تمت الحروف في هذه الآية .
لكنه افتتحها بأداة التراخي إشارة إلى أنه لا يكون إلا بعد مدة مديدة حتى تصقل مرائي الصدور التي ختما بخا بخلاف ما في الآية الأخرى الجامعة للحروف في آخر سورة الفتح التي نزلت في الحديبية التي ساءهم رجوعهم منها دون وصولهم إلى قصدهم - كما يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى .
آل عمران : ( 155 - 157 ) إن الذين تولوا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( ( )
ولما كان فيه مع ذلك معنى التعليل والتنبيه على أنه غني عن الاختبار ، خبير بدقائق الأسرار أتبعه قوله مستأنفاً لبيان ما هو من ثمرات العلم : ( إن الذين تولوا منكم ) أي عن القتال ومقارعة الأبطال ) يوم التقى الجمعان ) أي من المؤمنين والكفار ) إنما(2/170)
صفحة رقم 171
استزلّهم ) أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي ) الشيطان ) أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ) ببعض ما كسبوا ) أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضران القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك ، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال ، فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار ، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر .
ولما كان ذلك مفهماً أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله : ( ولقد عفا الله ) أي الذي له صفات الكمال ) عنهم ( لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم ، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيداً للاسم الأعظم تنبيهاً على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم ، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال : ( إن الله غفور ) أي محاء للذنوب عيناً وأثراً .
ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله : ( حليم ) أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم - كما تقدم - حذر الموت ، فقال لهم الله : موتوا .
ولما كان قولهم : إنا لو ثبتنا في المدينة الممثلة بالدرع الحصينة - ( كما كان رأي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والأكابر من أصحابه ) لسلمنا ، إلى غير ذلك مما أشار سبحانه وتعالى إليه قولاً موجباً لغيظ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
لما فيه من الاتهام وسوء العقيدة ، وكان مع ذلك مظنة لأن يخدع كثيراً من أهل الطاعة لشدة حبهم لمن قتل منهم وتعاظم أسفهم عليهم .
كان أنسب الأشياء المبادرة إلى الوعظ بما يزيل هذا الأثر ، ولما كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مؤيداً بأعظم الثبات لما طبع عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة كان الأنسب البداءة بغيره ، فنهى الذين آمنوا عن الانخداع بأقوالهم فقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أظهروا الإقرار بالإيمان صدقوا قولكم بأن ) لا تكونوا كالذين كفروا ) أي بقلوبهم على وجه الستر ) وقالوا ) أي ما فضحهم ) لإخوانهم ) أي لأجل إخوانهم الأعزة عليهم نسباً أو مذهباً ) إذا ضربوا ) أي سافروا مطلق سفر ) في الأرض ) أي لمتجر غازٍ ، فماتوا أو قتلوا ) لو كانوا عندنا ( ي لم يفارقونا ) ما ماتوا وما قتلوا ( وهذا في غاية التهكم بهم ، لأن إطلاق هذا القول منهم - لا سيما على هذا التأكيد - يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة ، وهو لا يقوله عاقل .(2/171)
صفحة رقم 172
ولما كان هذا القول محزنا اعتقاده وكتمانه علق سبحانه وتعالى بقوله : " قالوا " وبانتفاء الكون كالذين قالوا قوله : ( ليجعل الله ) أي الذي لا كفوء له ) ذلك ) أي القول أو الانفراد به عن مشارك ) حسرة في قلوبهم ) أي باعتقاده وعدم الواسي فيه ، وعلى تقدير التعليق ب " قالوا " يكون من ياي التهكم بهم ، لأنهم لو لم يقولوه لهذا الغرض الذي لا يقصده عاقل لكانوا قد قالوه لا لغرض أصلا ، وذلك أعرق في كونه ليس من أفعال العقلاء ) واله ) أي لا تكونوا مثلهم والحال. أو قالوا ذلك والحال. أن الذي له الإحاطة الكاملة ) يحيى ) أي من أراد في الوقت الذي يريد ) ويميت ) أي من أراد إذا أراد ، لا يغني حذره من قدره ) والله ) أي المحيط بكل شيء قدره وعلما ) بما تعملون ( أب بعلمكم وبكل شيء منه ) بصير ( وعلى كل شيء منه قدير ، لا يكون شيء منه بغير إذنه ، ومتى كان على خلاف أمره عاقب عليه .
آل عمران : ( 158 - 161 ) ولئن متم أو. .. . .
) وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( ( )
ولما ذكر أشرف الموت بادئاً باشرافه ما دونه بادئاً فقال : ( ولئن متم أو قتلتم ) أي في أي وجه كان على حسب ما قدر عليكم في الأزل ) لإلى الله ) أي الذي هو متوفيكم لا غيره ، وهو ذو الجلال والإكرام الذي ينبغي أن يعبد لذاته .
ودل على عظمته بعد الدلالة بالاسم الأعظم بالبناء للمجهول فقال : ( تحشرون ( فإن كان ذلك(2/172)
صفحة رقم 173
الموت أو القتل على طاعته أثابكم وإلا عاقبكم ، والحاصل أنه لا حيلة في دفع الموت على حالة من الحالات : قتل أو غيره ، ولا في الحشر إليه سبحانه وتعالى ، وأما الخلاص من هول ذلك اليوم ففيه حيلة بالطاعة .
والله سبحانه وتعالى الموفق .
وما
أحسن ما قال عنترة في نحوه وهو جاهلي ، فالمؤمن أولى منه بمثل ذلك : بكرت تخوفني الحتوف كأنني أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل لا أن أسقى بكأس المنهل فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
ولما فرغ من وعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أتبعه تحبيب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما فعل بهم من الرفق والللين مع ما سبب الغضب الموجب للعنف والسطوة من اعتراض من اعترض على ما أشار به ، ثم مخالفتهم لأمره في والصبر والتقوى ، ثم خذلانهم له وتقديم أنفسهم على نفسه الشريفة ، ثم عدم العطف عليه وهو يدعوهم إليه ويأمر بإقبالهم عليه ، ثم اتهام من اتهمه .
إلى غير ذلك من الأمور التي توجب لرؤساء الجيوش وقادة الجنود اتهام أتباعهم وسوء الظن بهم الموجب للغض والإيقاع ببعضهم ليكون ذلك زاجراً لهم عن العود إلى مثله فقال تعالى : ( فبما رحمة من الله ) أي الذي له الكمال كله ) لنت لهم ) أي ما لنت لهم هذا اللين الخارق للعادة ورفقت بهم هذا الرفق بعدما فعلوا بك إلا بسبب رحمة عظيمة من الله الحائز لجميع الكمال ، فقابلتهم بالجميل ولم تعنفهم بانهزامهم عنك بعد إذ خالفوا رأيك ، هم كانوا سبباً لاستخراجك ؛ والذي اقتضى هذا الحصر هو ما لأنها نافية في سياق الإثبات فلم يمكن أن توجه إلا إلى ضد ما أثبته السياق ، ودلت زيادتها على أن تنوين ( رحمة ) للتعظيم ، أي فبالرحمة العظيمة لا بغيرها لنت .
ولما بين سبحانه وتعالى سبب هذا اللين المتين بين ثمرته ببيان ما في ضده من الضرر فقال : ( ولو كنت فظّاً ) أي سيء الخلق جافياً في القول ) غليظ القلب ) أي قاسية لا تتأثر بشيء ، تعاملهم بالعنف والجافء ) لانفضّوا ) أي تفرقوا تفرقاً قبيحاً لا اجتماع معه ) من حولك ) أي ففات المقصود من البعثة .
ولما أخبره سبحانه وتعالى أنه هو عفا عنهم ما فرطوا في حقه أمره بالعفو عنهم فيما يتعلق به ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبالاستمرار على مشاورتهم عند النوائب لئلا يكون خطؤهم في الرأي - أولاً في الخرودج من المدينة .
وثانياً في تضييع المركز ، وثالثاً في إعراضهم عن الإثخان في العدو بعد الهزيمة الذي ما شرع القتال إلا لأجله بإقبالهم عن النهب ، ورابعاً في وهنهم عند كر العدو إلى غير ذلك - موجباً لترك مشاورتهم ، فيفوت ما فيها(2/173)
صفحة رقم 174
من المنافع في نفسها وفيما تثمره من التألف والتسنن وغير ذلك فقال سبحانه وتعالى : ( فاعف عنهم ) أي ما فرطوا في هذه الكره في حقك ) واستغفر لهم ) أي الله سبحانه وتعالى لما فرطوا في حقه ) وشاورهم ) أي استخرج آراءهم ) في الأمر ) أي الذي تريده من أمور الحرب تألفاً لهم وتطبيقاً لنفوسهم ليستن بك من بعدك ) فإذا عزمت ) أي بعد ذلك على أمر فمضيت فيه ، وقراءة من ضم التاء للمتكلم بمعناها ، أي فإذا فعلت أنت أمراً بعد المشاورة لأني فعلت فيه - بأن أردته - فعل العازم .
ولما أمر بالمشاورة التي هي النظر في الأسباب أمر بالاعتصام بمسببها من غير التفات إليها ليكمل جهاد الإنسان بالملابسة ثم التجرد فقال : ( فتوكل ) أي فيه ) على الله ) أي الذي له الأمر كله ، ولا يردك عنه خوف عاقبة - كما فعلت بتوفيق الله في هذه الغزوة ، ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ) أي الذي لا كفوء له ) يحب المتوكلين ) أي فلا يفعل بهم إلا ما فيه إكرامهم وإن رُئي غير ذلك .
ولما كان التقدير ؛ فإذا فعلوا ما يحبه أعطاهم مُناهم مما عزموا عليه لأجله ؛ استأنف الإخبار بما يقبل بقلوبهم إليه ويقصر هممهم عليه ، بأن من نصره هو المنصور ، ومن خذله هو المخذول ، فقال تعالى : ( إن ينصركم الله ) أي الذي له جميع العظمة ) فلا غالب لكم ) أي إن كان نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) بينكم أو لا ، فما بالكم وهنتم لما صاح إبليس أن محمداً قد قتل وهلا فعلتم كما فعل سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه وكما فعل أنس بن النضير رضي الله تعالى عنه حين قال : ( موتوا على ما مات عليه نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) فهو أعذر لكم عند ربكم ) ) وإن يخذلكم ) أي بإمكان العدو منكم ) فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) أي من نبي أو غيره ، ولما كان التقدير : فعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ، عطف عليه قوله : ( وعلى الله ) أي الملك الأعظم وحده ، لا على نبي ولا على قوة بعد ولا بمال من غنيمة ولا غيرها ) فليتوكل المؤمنون ) أي كلهم فيكون ذلك أمارة صحة إيمانهم .
ولما كان الغلول من أعظم موجبات الخذلان أو أعظمها .
والنزاهة عن من أعظم موجبات النصر ، كان أنسب الأشياء تعقيب هذه الآية بآية الغلول بياناً ، لأنه كان سبب هزيمتهم في هذه الغزوة ، فإنه لا يخذل إلأا بالذنوب ، ومن أعظم الذنوب الموجبة للخذلان الغلولن فيكون المراد بتنزيهه ( صلى الله عليه وسلم ) عنه - والله أعلم - أن إقبالهم عن نهب الغنائم قبل وقته إما أن يكون لقصد أن يغلو بإخفاء ما انتهبوه أو بعضه ، وإما أن يكون(2/174)
صفحة رقم 175
للخوف من أن يغل رئيسهم وحاشاه وإما أن يكون للخوف من مطلق الخيانة بأن لا يقسمه ( صلى الله عليه وسلم ) بينهم على السواء ، وحاشاه من كل من ذلك وأما المبادرة إلى النهب لغير هذا القصد فخفة وطيش وعبث ، لا يصوب عاقل إليه ؛ إذا تقرر هذا فيمكن أن يكون التقدير : فليتوكلوا في كبت العدو وتحصيل ما معه من الغنائم ، فلا يقبلوا على ذلك إقبالاً يتطرق منه احتمال لظن السوء بهاديهم في أن يغل ، وهو الذي أخبرهم بتحريم الغلول وبأنه سبب للخذلان ، وما نهي ( صلى الله عليه وسلم ) قط عن شيء إلا كان أول تارك له وبعيد منه وما كان ينبغي لهم أن يفتحوا طريقاً إلى هذا الاحتمال فعبر عن ذلك بقوله عطفاً على
77 ( ) وكأين من نبي ( ) 7
[ آل عمران : 146 ] ) وما كان ) أي ما تأتى وما صح في وقت من الأوقات ولا على حالة من الحالات ) لنبي ) أي أي نبي كان فضلاً عن سيد الأنبياء وإمام الرسل ) أن يغل ( تبشيعاً لفعل ما يؤدي إلى هذا الاحتمال زجراً من معاودة مثل ذلك الفعل المؤدي إلى تجويز شيء مما ذكر ، وعلى قراءة الجماعة غير ابن كثير وأبي عمرو - بضم الياء وفتح العين مجهولاً من : أغل - المعنى : وما كان له وما صح أن يوجد غالاً ، أو ينسب إلى الغلول ، أو يظن به ما يؤدي إلأى ذلك ؛ ويجوز أن يكون التقدير بعد الأمر بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وحده : فلا تأتوا إن كنتم مؤمنين بما يقدح في التوكل كالغلول وما يدانيه فتخذلوا ، فإنه ما كان لكم أن تغلوا ، وما كان أي ما حل لنبي أي من الأنبياء قط أن يغل ، أي لم أخصكم بهذه الشريعة بل ما كان في شرع نبي قط إباحة الغلول ، فلا تفعلوه ولا تقاربوه بنحو الاستباق إلى النهب ، فإن ذلك يسلب كمال التوكل ، فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ، فيوجب له الخذلان ، روى الطبراني في الكبير - قال الهيثمي : ورجاله ثقات - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ( بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جيشاً فردت رأيته .
ثم بعث فردت ، ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب ، فنزلت ) وما كان لنبي أن يغل ( ) .
ولما كان فعلهم ذلك محتملاً لقصدهم الغلول ولخوفهم من غلول غيرهم عمم في التهديد بقوله : ( ومن يغلل ) أي يقع منه ذلك كائناً من كان ) يأت بما غل يوم القيامة ( ومن عرف كلام أهل اللغة في الغلول عرف صحة قولي : إنه لمطلق الخيانة ، وإنه يجوز أن يكون التقدير : وما كان لأحد أن يفعل ما يؤدي - ولو وعلى بعد - إلى نسبة نبي إلى غلول ، قال صاحب القاموس : أغل فلاناً : نسبه إلى الغلول والخيانة ، وغل غلولاً : خان - كأغل ، أو خاص بالفيء ، وقال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه(2/175)
صفحة رقم 176
الواعي : أغل الرجل أغلالاً - إذا خان ، فهو مغل وغل في المغنم يغل غلولاً ، وقرىء : أن يَغُل ، وأن يُغَل ، فمن قرأ : يَغُل - أراد : يخون ، ومن قرأ : يُغَل - أراد : يخان ، ويجوز أن يريد : لا ينسب إلى الخيانة وكل من خان شيئاً في خفاء فقد غل يغل غلولاً ، ويجوز الخائن غالاً ، وفي الحديث ( لا إغلال ولا إسلال ) الإغلال : الخيانة في كل شيء ، وغللت الشيء أغله غلاًّ - إذا سترته ، قالوا : ومنه الغلول في المغنم ، إنما أصله أن الرجل كان إذا أخذ منه شيئاً ستره في متاعه ، فقيل للخائن : غال ومغل ، ويقال : غللت الشيء في الشيء - إذا أدخلته فيه ، وقد انغل - إذا دخل في الشيء ، وقد انغل في الشجر .
دخل - انتهى .
فهذه الآية نهي للمؤمنين عن الاستباق إلى المغنم على طريق الإشارة ، فتم بها الوعظ الذي في أواخره القصة ، كما أن آية الربا نهي عنه على طريق الإشارة ، فتم بها الوعظ الذي في أوائل القصة ، فقد اكتنف التنفير من الغلول - الذي هو سبب الخذلان في هذه الغزوة بخصوصها لمباشرة ما هو مظنة له وفي الغزو مطلقاً - طرفي الوعظ فيها ، ليكون من أوائل ما يقرع السمع وأواخره .
ولما كان ثمرة الإتيان به الجزاء عليه عمم الحكم تنبيهاً على أن ذلك اليوم يوم الدين ، فلا بد من الجزاء فيه وتصويراً له تبشيعاً للفضيحة فيه بحضرة الخلق أجمعين ، وزاد في تعظيمه وتعظيم الجزاء فيه بأداة التراخي وتضعيف الفعل فقال معمماً الحكم ليدخل الغلول من باب الأولى : ( ثم توفى ) أي في ذلك اليوم العظيم ، وبناه للمجهول إظهاراًَ لعظمته على طريق كلام القادرين ) كل نفس ) أي غالة وغير غالة ) ما كسبت ) أي ما لها فيه فعل ما من خير أو شر وافياً مبالغاً في تحريز وفائه ) وهم لا يظلمون ) أي لا يقع عليهم ظلم في شيء منه بزيادة ولا نقص .
آل عمران : ( 162 - 167 ) أفمن اتبع رضوان. .. . .
) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ(2/176)
صفحة رقم 177
لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) 73
( ) 71
ولما أخبر تعالى أنه لا يقع في ذلك اليوم ظلم أصلاً تسبب عنه الإنكار على من حدثته نفسه بالأماني الكاذبة ، فظن غير ذلك من استواء حال المحسن وغيره ، أو فعل فعلاً وقال قولاً يؤدي إلأى ذلك كالمنافقي و كالمقبيلين على الغنيمة فقال تعالى : ( أفمن ابتع ) أي طلب بجد واجتهاد ) رضوان الله ) أي ذي الجلال والإكرام بالإقبال على ما أمر به الصادق ، فصار إلى الجنة ونعم الصبر ) كمن بآء ) أي رجع من تصرفه الذي يريد به الربح ، أو حل وأقام ) بسخط من الله ) أي من الملك الأعظم بأن فعل ما يقتضي السخط بالمخالفة ثم الإدبار لولا العفو ) ومأواه جهنم ) أي جزاء بما جعل أسباب السخط مأواه ) وبئس المصير ) أي هي .
ولما أفهم الإنكار على من سوّى بين الناس أنهم متمايزون صرح بذلك في قوله : ( هم درجات ) أي متباينون تباين الدرجات .
ولما كان اعتبار التفاوت ليس بما عند الخلق قال : ( عند الله ) أي الملك الأعلى في حكمه وعلمه وإن خفي ذلك عليكم ، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم فهو عالم بهم حين خلقهم ) والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) بصير ) أي بالبصر والعلم ) بما يعملون ) أي بعد إيجادهم ، لأن ذلك أيضاً خلقه وتقديره ، ولس لهم فيه إلا نسبته إلأيهم بالكسب ، فهو يجازيهم بحسب تلك الأعمال ، فكيف يتخيل أنه يساوي بينهم في المآل وقد فاوت بينهم في الحال وهو الحكم العدل فعلم بما في هذا الختام من إحاطته بتفاصيل الأعمال صحة ما ابتدى به الكلام من التوفية .
ولما أرشدهم إلى هذه المراشد ، وبين لهم بعض ما اشتملت عليه من الفوائد ، وبان بهذه القصة قدر من أسدى إليهم ذلك على لسانه ( صلى الله عليه وسلم ) بما له من الفضائل التي من أعظمها كونه من جنسهم ، يميل إليهم ويرحمهم ويعطف عليهم ، فيألفونه فيعلمهم ؛ نبه على ذلك سبحانه وتعالى ليستمسكوا بغرزه ، ولا يلتفتوا لحظة عن لزوم هدية فقال سبحانه وتعالى - مؤكداً لما اقتضاه الحال من فعل يلزم منه النسبة إلى الغلول - : ( لقد من الله ) أي ذو الجلال والإكرام ) على المؤمنين ( خصهم لأنهم المجتبون لهذه النعمة ) إذا بعث فيهم ) أي فيما بينهم أو بسببهم ) رسولاً ( وزادهم رغبة فيه بقوله : ( من أنسهم ) أي نوعاً وصنفاً ، يعلمون أمانته وصيانته وشرفه ومعاليه وطهارته قبل النبوة وبعدها ) يتلوا عليهم آياته ) أي فيمحو ببركة النفس التلاوة كبيراً من شر الجان وغيرها مما ورد في منافع القرآن مما عرفناه ، وما لم نعرفه أكثر ) ويزكيهم ) أي يطهرهم من أوضار الدنيا والأوزار(2/177)
صفحة رقم 178
بما يفهمه الثاقب من دقائق الإشارات وبواطن العبارات ، وقدم التزكية لاقتضاء مقام المعاتبة على الإقبال على الغنيمة ذلك ، كما مضى في سورة البقرة ) ويعلمهم الكتاب ) أي تلاوة بكونه من نوعهم يلذ لهم التلقي منه ) والحكمة ( تفسيراً وإبانة وتحريراً ) وإن ) أي والحال أنهم ) كانوا ( ولما كانوا قد مرت لهم أزمان وهم على دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام نبه على ذلك بإدخال الجار فقال ) من قبل ) أي من قبل ذلك ) لفي ضلال مبين ) أي ظاهر ، وهو من شدة ظهوره كالذي ينادي على نفسه بإيضاح لبسه ، وفي ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام علمهم من الحكمة في هذه الوقعة ما أوجب نصرتهم في أول النهار ، فلما خالفوه حصل الخذلان .
ولما أزال شبهة النسبة إلى الغلول بحذافيرها .
وأثبت ما له من أضدادها من معالي الشيم وشمائل الكرم صوب إلى شبهة قولهم : لو كان رسولاً ما انهزم أصحابه عنه ، فقال تعالى : ( أولما ) أي أتركتم ما أرشدكم إليه الرسول الكريم الحليم العليم الحكيم ولما ) أصابتكم ) أي في هذا اليوم ) مصيبة ( لمخالفتكم لأمره وإعراضكم عن إرشاده ) قد أصبتم مثليها ) أي في بدر وأنتم في لقاء العدو وكأنما تساقون إلى الموت على الضد مما كنتم فيه في هذه الغزوة ، وما كان ذلك إلا بامتثالكم لأمره وقبولكم لنصحه ) قلتم أنّى ( من أين وكيف أصابنا ) هذا ) أي بعد وعدنا النصر ) قل هو من عند انفسكم ) أي لأن الوعد كان مقيداً بالصبر والتقوى ، وقد تركتم المركز وأقبلتم على الغنائم قبل الأمر به ، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن ذلك باختيارهم الفداء يوم بدر الذي نزل فيه
77 ( ) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( ) 7
[ الأنفال : 68 ] وأباح لهم سبحانه وتعالى الفداء بعد أن عاتبهم وشرط عليهم إن اختاروه أن يقتل منهم في العام المقبل بعدّ الأسرى ، فرضوا وقالوا : نستعين بما نأخذه منهم عليهم ثم نرزق الشهادة .
ثم علل ذلك بقوله : ( إن اله ) أي الذي لا كفوء له ) على كل شيء ) أي من النصر والخذلان ونصب أسباب كل منهما ) قدير ( وقد وعدكم بذلك سبحانه وتعالى في العام الماضي حين خيركم فاخترتم الفداء ، وخالف من خالف منكم الآن ، فكان ذكر المصيبة التي كان سببها مخالفة ما رتبه ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ختم الآية التي قبلها بالتذكير بما كانوا عليه من الضلال على ما ترى من البلاغة .
ولما كانت نسبة المصيبة إليهم ربما أوهمت من لم ترسخ قدمه في المعارف الإلهية أن بعض الأفعال خارج عما مراده تعالى قال : ( وما أصابكم ( ولما استغرقت الحرب ذلك اليوم نزع الجار فقال : ( يوم التقى الجمعان ) أي حزب الهل وحزب الشيطان في أحد ) فبإذن الله ) أي بتمكين من له العظمة الكاملة وقضائه ، وإثبات أن ذلك بإذنه نحو ما ذكر عند التولية يوم التقى الجمعان من نسبة الإحياء والإماتة إليه .(2/178)
صفحة رقم 179
ولما كان التقدير : ليؤدبكم به ، عطف عليه قوله : ( وليعلم المؤمنون ) أي الصادقين في إيمانهم .
ولما كان تعليق العلم بالشيء على حدته أتم وآكد من تعليقه به مع غيره أعاد العامل لذلك ، وإشعاراً بأن أهل النفاق أسفل رتبة من أن اجتمعوا مع المؤمنين في شيء فقال : ( ولعلم الذين نافقوا ) أي علماً تقوم به الحجة في مجاري عاداتكم ، وهذا مثل قوله هناك ) ) وليبتلي الله ما في صدوركم ( ) [ آل عمران : 154 ] .
وعطف على قوله ) نافقوا ( ما أظهر نفاقهم ، أو يكون حالاً من فاعل ) نافقوا ( فقال : ( وقيل لهم تعالوا قاتلوا ) أي أوجدوا القتال ) في سبيل الله ) أي الذي له الكمال كله بسبب تسهيل طريق الب الذي شرعه ) أو ادفعوا ) أي عن أنفسكم وأحبائكم على عادة الناس لا سيما العرب ) قالوا لو نعلم ) أي نتيقن ) قتالاً ) أي أنه يقع قتال ) لاتبعناكم ) أي لكنه لا يقع فيما نظن قتال ورجعوا .
ولما كان هذا الفعل المسند إلى هذا القول ظاهراً في نفاقهم ترجمة بقوله : ( وهم للكفر يومئذ ) أي يوم إذ كان هذا حالهم ) أقرب منهم للإيمان ( عند كل من سمع قولهم أو رأى فعلهم ، ثم علل ذلك أو استأنف بقوله - معبراً بالأفواه التي منها ما هو أبعد من اللسان لكونهم منافقين ، فقولهم إلى أصوات الحيوان أقرب منه إلى كلام الإنسان ذي العقل واللسان لأنهم - : ( يقولون بأفواههم ( ولما أفهم هذا أنه لا يجاوز ألسنتهم فلا حقيقة له ولا ثبات عندهم ؛ صرح به في قوله ) ما ليس في قلوبهم ( بل لا شك عندهم في وقوع القتال ، علم الله هذا منهم كما علموه من أنفسهم ) والله ( اي كونه وهم لا يعلمونه إلا بعد كونه ، وإذا كان نسوه بتطاول الزمان والله سبحانه وتعالى لا ينساه .
آل عمران : ( 168 - 172 ) الذين قالوا لإخوانهم. .. . .
) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ للَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ( )
ولما حكى عنهم ما لا يقوله ذو إيمان أتبعه ما لا يتخيله ذو مروة ولا عرفان فقال مبيناً للذين نافقوا : ( الذين قالوا لإخوانهم ) أي لأجل إخوانهم والحال أنهم قد(2/179)
صفحة رقم 180
أسلموهم ) وقعدوا ) أي عنهم خذلاناً لهم ) لو أطاعونا ) أي في الرجوع ) ما قتلوا ( ولما كان هذا موجباً للغضب أشار إليه بإعراضه في قوله : ( قل ) أي لهؤلاء الأجانب الذين هم بمنزلة الغيبة عن حضرتي لما تسبب عن قولهم هذا من ادعاء القدرة على دفع الموت ) فادرءوا ) أي ادفعوا بعز ومنعة وميّلوا ) عن أنفسكم الموت ) أي حتى لا يصل إليكم أصلاً ) إن كنتم صادقين ) أي في أن الموت يغني منه حذر .
فقد انتظم الكلام بما قبل الجملة الواعظة أتم انتظام على أنه قد لاح لك أن ملائمة الجمل الواعظة لما قبلها وما بعدا ليس بدون ملاءمة ما قبلها من صلب القصة لما بعدها منه .
ولما أزاح سبحانه وتعالى العلل وشفة الغلل وختم بأنه لا مفر من القدر ، فلم يبق عند أهل افيمان إلا ما طبع عليه الإنسان من الأسف على فقد الإخوان ، وكان سرور المفقود يبرد غلة الموجود بشرهم بحياتهم وما نالوه من لذاتهم ؛ ولما كان العرب بعيدين قبل الإسلام من اعتقاد الحياة بعد الموت خاطب الذي لا ريب في علمه بذلك إشارة إلى أنه لا يفعهم حق فهمه سواه ، كما أشار إليه قوله في البقرة
77 ( ) ولكن لا تشعرون ( ) 7
[ البقرة : 153 ] فقال تعالى عاطفاً على قل محبباً في الجهاد ، إزالة لما بغضه به المنافقون من أنه سبب الموت : ( ولا تحسبن الذين قتلوا ) أي وقع لهم القتل في هذه الغزوة أو غيرها ) في سبيل الله ) أي الملك الأعظم ، والله أعلم بمن يقتل في سبيله ) أمواتاً ) أي الآن ) بل ( هم ) أحياء ( وبين زيادة شرفهم معبراً عن تقربهم بقوله : ( عند ربهم ) أي المحسن إليهم في كل حال ، فكيف في حال قتلهم فيه حياة ليست كالحياة الدنيوية فحقق حياتهم بقوله ) يرزقون ) أي رزقاً يليق بحياتهم ) فرحين بما آتاهم الله ) أي الحاوي لجميع الكمال من ذلك الفوز الكبير ) من فضله ( لأنه لو حاسبهم على أقل نعمة من نعمة لم توف جميع أعمالهم بها لأن أعمالهم من نعمه ، فأعلمنا سبحانه وتعالى بهذا تسلية وحسن تعزية أن لم يفت منهم إلا حياة الكدر التي لا مطمع لأحد في بقائها وإن طال المدى ، وبقيت لهم حياة الصفاء التي لا انفكاك لها ولا آخر لنعيمها لغم يلحقهم ولا فتنة تنالهم ولا حزن يعتريهم ولا دهش يلم بهم في وقت الحشر ولا غيره ، فلا غفلة لهم ، فكان ذلك مذهباً لحزن من خلفوه ومرغباً لهم في الأسباب الموصلة إلى مثل حالهم ، وهذا - والله سبحانه وتعالى أعلم - معنى الشهادة ، أي أنهم ليست لهم حال غيبة ، لأن دائم الحياة بلا كدر أصلاً كذلك .
ولما ذكر سرورهم بما نالوه ذكر سرورهم بما علموه لمن هو على دينهم فقال : ( ويستبشرون ) أي توجد لهم البشرى وجوداً عظيم الثبات حتى كأنهم يوجدونها كلما أرادوا ) بالذين لم يلحقوا بهم ) أي في الشهادة في هذه الغزوة .
ثم بين ذلك بقوله : ( من خلفهم ) أي في الدنيا .
ثم يبن المبشر به(2/180)
صفحة رقم 181
فقال : ( ألاّ خوف عليهم ) أي على إخوانهم في آخرتهم ) ولا هم يحزنون ) أي أصلاً ، لأنه لا يفقد منه شيء ، بل هم كل لحظة في زيادة ، وهذا أعظم البشرى لمن تركوا على مثل حالهم من المؤمنين ، لأنهم يلحقونهم في مثل ذلك ، لأن السبب واحد ، وهو منحة الله لهم بالقتل فيه ، أو مطلق الإيمان لمطلق ما هم فيه من السعادة بغير قيد الشهادة .
ولما ذكر سرورهم لأنفسهم تارة ولإخوانهم أخرى كرره تعظيماً له وإعلاماً بأنه في الحقيقة عن غير استحقاق .
وإنما هو مجرد مَنّ فقال : ( يستبشرون بنعمة من الله ) أي ذي الجلال والإكرام ، كبيرة ) وفضل ) أي منه عظيم ) وأن الله ) أي الملك الأعظم الذي لا يقدره أحد حق قدره ) لا يضيع أجر المؤمنين ) أي منهم ومن غيرهم ، بل يوفيهم أجرهم على أعمالهم ويفضل عليهم ، ولو شاء لحاسبهم على سبيل العدل ، ولو فعل ذلك لم يكن لهم شيء .
ولما ذم المنافقين برجوعهم من غير أن يصيبهم قرح ، ومدح أحوال الشهداء ترغيباً في الشهادة ، وأحوال من كانن على مثل حالهم ترغيباً في النسج على منوالهم ، وختم بتعليق السعادة بوصف الإيمان ، أخذ يذكر ما أثمر لهم إيمانهم من المبادرة إلى الإجابة إلى ما يهديهم إليه ( صلى الله عليه وسلم ) إشارة إلى أنه لم يحمل على التخلف عن أمره من غير عذر إلا صريح النفاق فقال : ( الذين استجابوا ) أي أوجدوا الإجابة في الجهاد إيجاداً مؤكداً محققاً ثابتاً ما عندهم من خالص الإيمان ) لله والرسول ) أي لا لغرض مغنم ولا غيره ، ثم عظم صدقهم بقوله - مثبتاً الجار لإرادة ما يأتي من إحدى الغزوتين إلا استغراق ما بعد الزمان - : ( من بعد ما أصابهم القرح ( ولما كان تعليق الأحكام بالأوصاف حاملاً على التحلي بها عند المدح قال سبحانه وتعالى : ( للذين أحسنوا ( وعبر بما يصلح للبيان والبعض ليدوم رغبهم ورهبهم فقال : ( منهم واتقوا أجر عظيم ( وهذه الآيات من تتمة هذه القصة سواء قلنا : إنها إشارة إلى غزوة حمراء الأسد ، أو غزوة بدر الموعد ، فإن الوعد كان يوم أحد - والله الهادي ، ومما يجب التنبيه له أن البيضاوي قال تبعاً للزمخشري : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج إلى بدر الموعد في سبعين راكباً ، وفي تفسير البغوي أن ذلك كان في حمراء الأسد ، فإن حمل على أن الركبان من الجيش كان ذلك عددهم وأن الباقين كانوا مشاة فلعله ، وإلا فلسي كذلك ، وأما في حمراء الأسد فإن النبي صلى الله عليه سولم بلغه أن المشركين همموا بعد انفصالهم من أحد بالرجوع ، فأراد أن يرهبهم وأن يريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فنادى مناديه يوم الأحد - الغد من يوم أُحد - بطلب العدون وأن لا يخرج معه إلا من كان حاضراً معه(2/181)
صفحة رقم 182
بالأمس ، فأجابوا بالسمع والطاعة ، فخرج في أثرهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، ولا يشك في أنهم أجابوا كلهم ، ولم يتخلف منهم أحد ، وقد كانوا في أحد نحو سبعمائة ولم يأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الخروج معه لأحد لم يشهد القتال يوم أحد ، واستأذنه رجال لم يشهدوها فمنعهم إلا ما كان من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه أذن له لعلة ذكرها في التخلف عن أحد محمودة .
قال الواقدي : ودعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بلوائه وهو معقود لم يحل من الأمس ، فدفعه إلى علي رضي الله عنه ، ويقال : إلى أبي بكر رضي الله عنه ، وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورأسه مشجوج وهو مجروح ، في وجهه أثر الحلقتين ، ومشجوج في جبهته في اصول اشلعر ، ورباعيته قد سقطت ، وشفته قد كلمت من باطنها وهو متوهن منكبه الأيمن بضرب ةابن قميئة ، وركبتاه مجحوشتان بأبي هو وأمي ووجهي وعيني فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا ، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ ، ثم ركع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركعتين ، فدعا بفرسه على باب المسجد ، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير ، فإذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليه الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه فقال : يا طلحة سلاحك قال : قلت : قريب ، قال : فأخرج ، أعدو فألبس درعي ولأنا أهم بجراح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مني بجراحي ، ثم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على طلحة فقال : ( أين ترى القوم ىلآن ؟ قال : هم بالسيالة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ذلك الذي ظننت أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا ) ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد ، قال جابر رضي الله عنه : وكان عامة زادنا التمر ، وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيراً حتى وافت الحمراء ، وساق جزوراً فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأمرهم في النهار بجمع الحطب ، فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران ، فيوقد كل رجل ناراً ، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار حتى نرى من المكان البعيد ، وذهب ذكر معسكرنا نيراننا في كل وجه حتى كان ما كبت الله به عدونا فهنا ظاهر في أنهم كانوا خمسمائة رجل - والله أعلم - ويؤيده ذلك ما نقل من أخبار المثقلين بالجراح - قال الواقدي : جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه والجراح في الناس فاشية ، عامة بني عبد الأشهل جريح ، بل كلهم - رضي الله عنهم فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأمركم أن تطلبوا عدوكم ، قال : يقول أسيد بن حضير رضي الله عنه وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها : سمعاً وطاعة لله ولرسوله فأخذ سلاحه ولم يعرج(2/182)
صفحة رقم 183
على دواء جراحه ولحق برسلو الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ وجاء سعد بن عبادة رضي الله عنه قومه بني ساعده فآمرهم بالمسير ، فلسوا ولحقوا ، وجاء أبو قتادة رضي الله عنه أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال : هذا منادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأمركم بطلب العدو ، فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم - رضي الله عنهم فخرج من بني سلمة رضي الله عنهم أربعون جريحاً ، وبالطفيل بن النعمان رضي الله عنه ثلاثة عشر جرحاً ، وبقطبه بن عامر بن حديدة رضي الله عنه تسع جراحات حتى وافوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببئر أبي عتبة إلى رأس الثنية عليهم السلاح ، قد صفوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية قال : ( اللهم ارحم بني سلمة ) وحدث ابن إسحاق والواقدي أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل رضي الله عنها كان بهما جراح كثيرة ، فلما بلغهما النداء قال أحدهما لصاحبه : والله إن تركنا غزوة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لغَبنا والله ما عندنا دابة نركبها وما ندريد كيف نصنع قال عبد الله : انطلق بن ، قال رافع : لا والله ما بي مشي قال أخوه : انطلق بنا نتجارّ ، فخرجا يزحفان فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة ويمشي الآخر عقبة حتى أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند العشاء وهو يوقدون النيران ، فأتى بهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال : ( ما حبسكما ؟ فأخبراه بعلتهما ، فدعا لهما بخير وقال : إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال وإبل ، وليس ذلك بخير لكم ) وأما غزوة بدر الموعد فروى الواقدي - ومن طريقة الحاكم في الإكليل - كما حكاه ابن سيد الناس قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة من أصحابه رضي الله عنهم ، وكان الخيل عشرة قال الواقدي : وأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر أهل الموسم : يا محمد لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد ، فما أعلمكم إلا أهل الموسم فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - ( ليرفع ذلك إلى عدوه : ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان وقتال عدونا ، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد ثم جالدناكم قبل أن نبرح من منزلنا هذا ، فقال الضميري : بل نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك ) .(2/183)
صفحة رقم 184
آل عمران : ( 173 - 178 ) الذين قال لهم. .. . .
) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ( )
ولما كان قول نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس عند الصحابة رضي الله عنهم صدقاً لا شك فيه لما قام عندهم من القرائن ، فكان بمنزلة المتواتر الذي تمالأ عليه الخلائق ، وكان قريش أعلى الناس شجاعة وأوفاهم قوة وأعرقهم أصالة فكانوا كأنهم جميع الناس ، كان التعبير - بصيغة في قوله : ( الذين قال لهم الناس ) أي نعيم أو ركب عبد القيس ) إن الناس ( يعني قريشاً ) قد جمعوا لكم فاخشوهم ( أمدح للصحابة رضي الله عنهم من التعبير عمن أخبرهم ومن جمع لهم بخاص اسمه أو وصفه .
ولما كان الموجب لأقدامهم على اللقاء بعد هذا القول الذي لم يشكوا في صدقه ثبات افيمان وقوة الإيقان قال تعالى : ( فزادهم ) أي هذا القول ) إيماناً ( لأنه ما ثناهم عن طاعة الله ورسوله ) وقالوا ( ازدراء بالخلائق اعتماداً على الخالق ) حسبنا ) أي كافينا ) الله ) أي الملك الأعلى في القيام بمصالحنا .
ولما كان ذلك هو شأن الوكيل وكان في الوكلاء من يذم قال : ( ونعم الوكيل ) أي الموكول إليه المفوض إليه جميع الأمور ؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( هذه الكملة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في الانر ، وقالها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين قالوا : إن الناس قد جمعوا لكم .
وقال : كان آخر كلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل ) .
ولما كان اعتمادهم على الله سبباً لفلاحهم قال ) فانقلبوا ) أي فكان ذلك سبباً لأنهم انقلبوا ، أي من الوجه الذي ذهبوا فيه مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بنعمة ( وعظمها بإضافتها إلى الاسم الأعظم فقال : ( من الله ) أي الذي له الكمال كله ) وفضل ) أي من الدنيا ا طاب لهم من طيب الثناء بصدق الوعد ومضاء العزم وعظيم الفناء والجرأة إلى ما نالوه .(2/184)
صفحة رقم 185
عند ربهم حال كونهم ) لم يمسسهم سوء ) أي من العدو خوفوه ولا غيره ) واتبعوا ) أي مع ذلك بطاعتهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بغاية جهدهم ) رضوان الله ) أي الذي له الجلال والجمال فحازوا أعظم فضله ) والله ) أي الذي لا كفوء له ) ذو عظيم ) أي في الدارين على من يرضيه ، فستنظرون فوق ما تؤملون ، فليبشر المجيب ويغتم ويحزن المتخلف ، ولعظم الأمر كرر الاسم الأعظم كثيراً .
ولما جزاهم سبحانه على أمثال ذلك بما وقع لهم من فوزهم بالسلامة والغنيمة بفضل من حاز أوصاف الكمال وتنزه عن كل نقص بما له من رداء الكبرياء والجلال ، ورغبهم فيما لديه لتوليهم إياه ، أتبع ذلك بما يزيدهم بصيرة من أن المخوف لهم مَن كيده ضعيف وأمره هين خفيف واهٍ سخيف وهو الشيطان ، وساق ذلك مساق التعليل لما قبله من حيازتهم للفضل وبعدهم عن السوء بأن وليهم الله وعدوهم الشيطان فقال التفاتاً إليهم بزيادة في تنشيطهم أو تشجيعهم وتثبيتهم : ( إنما ذلكم ) أي القائل الذي تقدم أنه الناس ) الشيطان ) أي الطريد البعيد المحترف .
ولما نسب القول إلأيه لأنه الذي زينه لهم حتى أشربته القلوب وامتلأت به الصدور ، كان كأنه قيل : فماذا عساه يصنع ؟ فقال : ( يخوف ) أي يخوفكم ) أولياءه ( لكنه أسقط المفعول الأول إشارة إلى أن تخويفه يؤول إلى خوف أوليائه ، لأنه أولياء الرحمن إذا ثبتوا لأجله أنجز لهم ما وعدهم من النصرة على أولياء الشيطان ، وإلى أن من خاف من تخويفه وعمل بموجب خوفه ففيه ولاية له تصحح إضافته إليه قلت أو كثرت .
ولما كان المعنى أنه يشوش بالخوف من أوليائه ، تسبب عنه النهي عن خوفهم فقال : ( فلا تخافوهم ) أي لأن وليهم الشيطان ) وخافون ) أي فلا تعصوا أمري ولا تتخلفوا أبداً عن رسولي ) إن كنتم مؤمنين ) أي مباعدين لأولياء الشيطان بوصف الإيمان .
ولما مدح سبحانه وتعالى المسارعين في طاعته وطاعة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وختم ذلك بالنهي عن الخوف من أولياء الشيطان ، أعقبه بذم المسارعين في الكفر والنهي عن الحزن من أجلهم .
ولما كان أكثر الناس - كالمنافقين الراجعين عن أحد ، ثم المقاتلين القائلين : هل لنا من الأمر من شيء - أرجفوا إلى أبي عامر وعبد الله بن أبيّ لأخذ الأمان من أبي سفيان ، ثم ركب عبد القيس أو نعيم بن مسعود ، ثم من استجاب من أهل المدينة(2/185)
صفحة رقم 186
وأرجف بماقالوا في ثبط المؤمنين ، وكان ذلك مما يخطر بالبال تمادي أيام الكفر وأهله غالبِين ، ويقدح في رجاء قصر مدته ، ويوجب الحزن على ذلك ، قال تعالى قاصراً الخطاب على أعظم الخلق وأشفقهم وأحبهم في صلاحهم ) ولا يحزنك الذين يسارعون ) أي يسرعون إسراع من يسابق خصماً ) في الكفر ( ثم على ذلك بقوله : ( إنهم لن يضروا الله ) أي الذي له جميع العظمة ) شيئاً ) أي دينه بإذلال أنصاره والقائمين به ، وحذف المضاف تفخيماً له وترغيباً فيه حيث جعله هو المضاف إليه .
ولما نفى ما خيف من أمرهم كان مظنة السؤال عن الحاكم لهم على المسارعة فقيل جواباً : ( يريد الله ) أي الذي له الأمر كله ) ألا يجعل لهم حظاً ) أي نصيباً ) في عظيم ( قد عم جميع ذواتهم ، لأن المسارعة دلت على أن الكفر قد ملأ أبدانهم ونفوسهم وأرواحهم .
ولما كان قبول نعيم وركب عبد القيس لذلك الجعل الذي هو من أسباب الكفر شرى الكفر بالإيمان عقب بقوله : ( إن الذين اشتروا الكفر ) أي فأخذوه ) بالإيمان ) أي فتركوه ، وأكد نفي الضرر وأبده فقال : ( لن يضروا الله ) أي الذي لا كفوء له ) شيئاً ( لما يريد سبحانه وتعالى من الإعلاء للإسلام وأهله ، وختمها بقوله : ( ولهم عذاب اليم ( لما نالوه من لذة العوض في ذلك الشرى كما هي العادة في كل متجدد من الأرباح والفوائد .
ولما كان من اشترى به الكفر رجوع المنافقين عن أحد الذي كان سبباً للإملاء لهم قال سبحانه وتعالى : ( ولا يحسبن الذين كفروا ) أي بالله ورسوله ) إنما نملي ) أي أن إملاءنا أي إمهالنا وإطالتنا ) لهم خير لأنفسهم ( ولما نفى عنهم الخير بهذا النهي تشوفت النفس إلى ما لهم فقال : ( إنما نملي لهم ) أي استدراجاً ) ليزدادوا إثماً ( وهو جميع ما سبق العلم الأزلي بأنهم يفعلونه ، فإذا بلغ النهاية أوجب الأخذ .
ولما كان الرجوع المسفر عن السلامة مظنة لعزهم في هذه الدار الفانية عند من ظن حسن ذلك الرأي ؛ عوضوا عنه الإهانة الدائمة فقال سبحانه وتعالى : ( ولهم عذاب مهين (
آل عمران : ( 179 - 183 ) ما كان الله. .. . .
) مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ(2/186)
صفحة رقم 187
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) 73
( ) 71
ولما كان مطلق المسارعة أعم مما بالعوض ، وهو أعم مما بالرجوع ، جاء نظم الآيات على ذاك ؛ ولما كشفت هذه الوقعة جملة من المغيبات من أعظمها تمييز المخلص فعلاً أو قولاً من غيره ، أخبر تعالى أن ذلك من أسرارها على وجه يشير إلى النعي على المنافقين بتأخيرهم أنفسهم بالرجوع وغيره فقال مشيراً بخطاب الأتباع إلى مزيد علمه ( صلى الله عليه وسلم ) وعلو درجته لديه وعظيم قربه منه سبحانه وتعالى : ( ما كان الله ) أي مع ما له من صفات الكمال .
ولما كان ترك التمييز غير محمود ، عبر بفعل الوذر ، وأظهر موضع الإضمار لإظهار شرف الوصف تعظيماً لأهله فقال : ( ليذر المؤمنين ) أي الثابتين في وصف الإيمان ) على ما أنتم عليه ( من الاختلاط بالمنافقين ومن قاربهم من الذين آمنوا على حال الإشكال للاقتناع بدعى اللسان دليلاً على الإيمان ) حتيى يميز الخبيث من الطيب ( بأن يفضح المبطل وإن طال ستره بتكاليف شاقة وأحوال شيديدة ، لا يصبر عليها إلا المخلص من العباد ، المخلصون في الإعتقاد ) وما كان الله ( لاختصاصه بعلم الغيب ) ليطلعكم على الغيب ) أي وهو الذي لم يبرز إلى عالم الشهادة بوجه لتعلموا به الذي في قلوبهم مع احتمال أن يكون الرجوع للعلة التي ذكروها في الظاهر والقول لشدة الأسف على إخوانهم ) ولكن الله ) أي الذي له الأمر كله ) يجتبي ) أي يختار اختياراً بليغاً ) من رسله من يشاء ) أي فيخبر على ألسنتهم بما يريد من المغيبات كما أخبر أنهم برجوعهم للكفر أقرب منهم للإيمان ، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .
ولما تسبب عن هذا وجوب الإيمان به قال : ( فأمنوا بالله ) أي في عالم الغيب والشهادة ، له الأسماء الحسنى ) ورسله ( في أنه أرسلهم وفي أنهم صادقون في كل ما يخبرون به عنه .
ولما كان التقدير : فإنكم إن لم تؤمنوا كان لكم ما تقدم من العذاب العظيم الأليم المهين ، عطف عليه قوله : ( وإن تؤمنوا ) أي بالله ورسله ) وتتقوا ) أي بالمداومة على أعدائكم شيئاً تقدم وعدكم به .(2/187)
صفحة رقم 188
ولما كان من جملة مباني السورة الأنفاق ، وتقدم في غير آية مدح المتقين به وحثهم عليه ، وتقدم أن الكفار سارعوا في الكفر : أبو سفيان بالإنفاق في سبيل الشيطان على من يخذل الصحابة ، ونعيم أو عبد القيس بالسعي في ذلك .
وكان المبادرون إلى الجهاد قد تضمن فعلهم السماح بما آتاهم الله من الأنفس والأموال ، وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبر لما لهم عنده من الحياة التي هي خير من حياتهم التي أذهبوها في حبه ، والرزق الذي هو أفضل مما أنفقوا في سبيله ، ذم الله سبحانه وتعالى الباخلين بالأنفس والأموال في سبيل الله فقال راداً الخطاب إليه ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أمكن لسروره وأوثق في إنجاز الوعد : ( ولا تحسبن ) أي أنت يا خير البرية - هذا على قراءة حمزة ، وعند الباقين الفاعل الموصول في قوله : ( الذين يبخلون ) أي عن الحقوق الشرعية ) بما آتهم الله ) أي بجلاله وعز كماله ) من فضله ) أي لا لاستحاقهم له ببخلهم ) هو خيراً لهم ) أي لتثمير المال بذلك ) بل هو ) أي البخل ) شر لهم ( لأنهم مع جعل الله البخل مَتلفة لأموالهم ) سيطوقون ) أي يفعل من يأمره بذلك كائناً من كان بغاية السهولة عليه ) ما يخلوا به ) أي يجعل لهم بوعد صادق لا خلف فيه بعد الإملاء لهم طوقاً بأن يجعله شجاعاً أي حية عظيمة مهولة ، تلزم الإنسان منهم ، محيطة بعنقه ، تضربه في جانبي وجهه ) يوم القيامة ( لأن الله سبحانه وتعالى يرثه منهم بعد أن كان خوّلهم فيه ، فيجعله بسبب ذلك التخويل عذاباً عليهم ، روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع ، له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول : أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا هذه الآية ) ولما كان هذا طلباً منهم للإنفاق ، وكان الطالب منا محتاجاً إلى ما يطلبه ، وكان ذو المال إذا علم أنه ذاهب وأن ماله موروث عنه تصرف فيه ؛ أخبر تعالى بغناه على وجه يجرئهم على الإنفاق فقال عاطفاً على ما تقديره : لأنه ثمرة كونه من فضله فلله كل ما في أيديهم : ( والله ) أي الذي له الكمال كله ) ميراث السموات والأرض ) أي اللذين هذا مما فيهما ، بأن يعيد سبحانه وتعالى جميع الأحياء وإن املى لهم ، ويفنى سائر ما وهبهم من الأعراض ، ويكون هو الوارث لذلك كله .(2/188)
صفحة رقم 189
ولما كانت هذه الجمل في الإخبار عن المغيبات جنيا وأخرى ، وكان البخل من الأفعال الباطنة التي يستطاع إخفاؤها ودعوى الاتصاف بضدها كان الختم بقوله : ( والله ) أي الملك الأعظم .
ولما كان منصب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الشريف في غاية النزاهة صرف الخطاب إلى الأتباع في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو ، وهو أبلغ في الوعيد من تركه على مقتضى السياق من الغيبة في قراءتهما ، وقدم الجار إشارة إلى أن علمه بأعمالهم بالغ إلى حد لا تدرك عظمته لأن ذلك أبلغ في الوعيد الذي اقتضاه السياق : ( بما تعملون خبير ( ولما كان العمل شاملاً لتصرفات الجوارح كلها من القلب واللسان وسائر الأركان قال - دالاًّ على خبره بسماع ما قالوه متجاوزين وهذه البخل إلى حضيض القبح مرريدين التشكيك لأهل الإسلام بما يوردونه من الشبه قياساً على ما يعرفونه من أنفسهم من أنه - كما تقدم - لا يطلب إلا محتاج - : ( لقد سمع الله ) أي الذي له جميع الكمال ) قول الذين قالوا ) أي من اليهود ) إن الله ) أي الملك الأعظم ) فقير ) أي لطلبه القرض ) ونحن أغنياء ( لكونه يطلب منا ، وهذا رجوع منه سبحانه وتعالى إلى إتمام ما نبه عليه قبل هذه القصة من بغض أهل الكتاب لأهل هذا الدين وحسدهم لهم وإرادة تشكيكهم فيه للرجوع عنه على أسنى المناهج وأعلى الأساليب .
ولما تشوفت النفوس إلى جزائهم على هذه العظيمة ، وكانت الملوك إذا علمت انتقاص أحدها وهي قادرة عاجلته لما عندها من نقص الأذى بالغيظ قال سبحانه وتعالى مهدداً لهم مشيراً إلى أنه على غير ذلك : ( سنكتب ) أي على عظمتنا لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه في الدنيا ) ما قالوا ) أي من هذا الكفر وأمثاله ، والسين للتأكيد ، ويجوز أن تكون على بابها من المهلة للحث على التوبة قبل ختم رتب الشهادة ، وسأتي في الزخرف له مزيد بيان .
ولما كان هذا اجتراء على الخالق أتبعه اجتراءهم على أشرف الخلائق فقال - مشيراً بإضافة المصدر إلى ضميرهم ، وبجمع التكسير الدال على الكثير إلى أنهم أشد الناس تمرداً تمرناً على ارتكاب العظائم ، وأن الاجتراء على أعظم أنواع الكفر قد صار لهم خلقاً - : ( وقتلهم الأنبياء ) أي الذي أقمناهم فيهم لتجديد ما أوهوه من بنيان دينهم ، ولما لم يكن في قتلهم شبهة أصلاً يقال : ( بغير حق ( فهو أعظم ذمّاً مما قبله من التعبير بالفعل المضارع في قوله
77 ( ) ويقتلون الأنبياء بغير حق ( ) 7
[ آل عمران : 112 ]. ثم عطف على قوله ) سنكتب ( قوله : ( ونقلوا ) أي بما لنا من الجلال ) ذوقوا ) أي بما نمسكم به من المصائب في الدنيا والعقاب في الأخرى كما كنتم تذوقون الأطعمة التي(2/189)
صفحة رقم 190
كنتم تبخلون بها فلا تؤدون حقوقها ) عذاب الحريق ( جزاء على ما أحرقتم به قلوب عبادنا ، ثم بين السبب فيه بقوله : ( ذلك ) أي العذاب العظيم ) بما قدمت أيديكم ) أي من الكفر بقتلهم وبغيره ) وأن ) أي وبسبب أن ) الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) ليس بظلام ) أي بذي ظلم ) للعبيد ( ولو لم يعذبكم لكان ترككم على صورة الظلم لمن عادوكم فيه واشتد أذاكم لهم .
ولما كان القربان من جنس النفقات ومما يتبين به سماح النفوس وشحها حسن نظم آية القربان هنا بقوله - رادّاً شبة لهم أخرى ومبيناً قتلهم الأنيباء : ( الذين قالوا ( تقاعداً عما يجب عليهم من المسارعة بالإيمان ) إن الله ) أي الذي لا أمر لأحد معه ) عهد إلينا ( وقد كذبوا في ذلك ) ألا نؤمن لرسول ) أي كائن من كان ) حتى يأتينا بقربان ) أي عظيم نقربه لله تعالى ، فيكون متصفاً بأن ) تأكله النار ( عند تقريبه له وفي ذلك أعظم بيان لأنهم ما أرادوا - بقولهم ) إن الله فقير ( حيث طلب الصدقة - إلا التشكيك حيث كان التقرب إلى الله بالمال من دينهم لاذي يتقربون إلى الله به ، بل وادعوا أنه لاي صح دين بغيره .
ولما افتروا هذا التشكيك أمر سبحانه بنقضه بقوله : ( قل قد جاءكم رسل ( فضلاً عن رسول .
ولما كانت مدتهم لم تستغرق الزمان الماضي أثبت الجار فقال ) من قبلي ( كزكريا وابنه يحيى وعيسى عليه السلام ) بالبينات ) أي من المعجزات ) وبالذي قلتم ) أي من القربان فإن الغنائم لم تحل - كما في الصحيح - لأحج كان قبلنا ، فلم تحل لعيسى عليه السلام فلم تكن مما نسخه من أحكام التوراة ، وقد كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها إلا إن وقع فيها غلول ) فلم قتلتموهم ) أي قتَلَهم أسلافكم ورضيتم أنتم بذلك فشاركتموهم فيه ) إن كنتم صادقين ) أي في أنكم تؤمنون لمن أتاكم على الوجه الذي ذكرتموه ، وفي ذلك رد على الفريقين : اليهود المدعين أنهم قتلوه الزاعمين أنه عهد إليهم في الإيمان بمن أتاهم بذلك ، والنصارى المسلمين لما ادعى اليهود من قتله المستلزم لكونه ليس بإله .
آل عمران : ( 184 - 188 ) فإن كذبوك فقد. .. . .
) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ(2/190)
صفحة رقم 191
عَزْمِ الأُمُورِ وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) 73
( ) 71
ولما كانت هذه السورة متضمنة لكثير من الدقائق التي أخفوها من كتابهم الذي جعلوه قراطيس ، يبدونها ويخفون كثيراً ، وفي هذه الآية بخصوصها من ذلك ما يقتضي تصديقه ( صلى الله عليه وسلم ) وكان سبحانه عالماً بأن أكثرهم يعاندون سبب عن ذلك أن سلاه في تكذيب المكذبين منهم بقوله : ( فإن كذبوك ( فكان كأنه قيل : هذا الذي أعلمتك به يوجب تصديقك ، فإن لم يفعلوا بل كذبوا ) فقد ( ولما كان السياق لإثبات مبالغتهم في الغلظة والجفاء والكفر وعدم الوفاء وكانت السورة سورة التوحيد ، والرسل متفقون عليه ، وقد أتى كل منهم فيه بأنها البيان وأزال كل لبس أسقط تاء التأنيث لأنها ربمادلت على نوع ضعف فقال : ( كذب رسل ( ولما كانت تسلية الإنسان بمن قاربه في الزمان أشد أثبث الجار فقال ) من قبلك ) أي فلك فيهم مسلاة وبهم أسوة ) جآءو بالبينات ) أي من المعجزات ) والزبر ) أي من الصحف المضمنة للمواعظ والحكم الزواجر والرقائق التي يزبر العالم بها عن المساوي ) والكتاب المنير ) أي الجامع للأحكام وغيرها .
الموضح لأنه الصراط المستقيم .
ولما تقدم في قصة أحد رجوع المنافقين وهزمية بعض المؤمنين مما كان سبب ظفر الكافرين ، وعاب سبحانه ذلك عليهم بأنهم هربوا من موجبات السعادة والحياة الأبدية إلى ما لا بد منه ، وإلى ذلك أشار بقوله :
77 ( ) قل لو كنتم في بيوتكم ( ) 7
[ آل عمران : 154 ]
77 ( ) ولئن قتلتم في سبيل الله ( ) 7
[ آل عمران : 157 ]
77 ( ) قل فادرءوا عن أنفسكم الموت ( ) 7
[ آل عمران : 168 ]
77 ( ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ( ) 7
[ آل عمران : 169 ] وغير ذلك مما بكتهم به في رجوعهم حذر الموت وطلب امتداد العمر ، مع ما افتتح به من أن موت هذا النبي الكريم وقتله ممكن كما كان من قبله من إخوانه من الرسل على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام وختم بالإخبار بأنه وقع قتل كثير من الرسل ، فكان ذلك محققاً لأنه لا يصان من الموت خاص ولا عام ، مضموماً إلى ما نشاهد من ذلك في كل لحظة ؛ صوَّر ذلك الموت بعد أن صار مستحضراً للعيان تصويراً أوجب التصريح به إشارة إلى أن حالهم في هربهم ورجوعهم وما تبع ذلك من قولهم حال من هو في شك منه فقال تعالى : ( كل نفس ) أي منفوسة من عيسى وغيره من أهل الجنة والنار ) ذآئقة الموت ) أي وهو المعنى الذي يبطل معه(2/191)
صفحة رقم 192
تصرف الروح في البدن وتكون هي باقية بعد موته لأن الذائق لا بد أن يكون حال ذوقه حيّاَ حساساً ، ومن يجوز عليه ذوق الموت يجوز عليه ذوق النار ، وهو عبد محتاج ، فالعاقل من سعى في النجاة منها والإنجاء كما فعل الخلص الذين منهم عيسى ومحمد علهيما أفضل الصلاة وأزكى السلام ، وكان نظمها بعد الآيات المقتضية لتوفية الأجور بالإثابة عليها وأنه ليس بظلام للعبيد شديد الحسن ، وذلك مناسب أيضاً لختم الآية بالتصريح لتوفية الأجور يوم الدين ، وأن الزحزحة عن النار ودخول الجنة لهو الفوز ، لا الشح في الدنيا بالنفس والمال الذي ربما كان سبباً لامتداد العمر وسعة المال بقوله : ( وإنما توفون ) أي تعطون ) أجوركم ( على التمام جزاء على ما عملتموه من خير وشر ) يوم القيامة ( وأما ما يكون قبل ذلك من نعيم القبر ونحوه فبعض لا وفاء ) فمن زحزح ) أي أبعد في ذلك اليوم إبعاداً عظيماً سريعاً ) عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) أي بالحياة الدائمة والنعيم الباقي .
والمعنى أن كل نفس توفى ما عملت ، فتوفى أنت أجرك على صبرك على أذاهم ، وكذا من أطاعك ، ويجازون هم على ما فرطوا في حقك فيقذفون في عمرة النار ، وكان الحصر إشارة إلى تقبيح إقبالهم على الغنيمة وغيرها من التوسع العاجل ، أي إنما مقتضى الدين الذي دخلتم فيه هذا ، وذلك ترهيباً من الالتفات إلى تعجيل شيء من الأجر في الدنيا - كما قال أبو بكر رضي الله عنه في أول إسلامه : وجدت بضاعة بنسيئة ، ما وقعت على بضاعة قط أنفس منها ، هي لا إله إلا الله .
فالحاصل أن ( كل نفس ) أي حذرة من الموت ومستسلمة ) ذائقة الموت ) أي فعلام الاحتراس التي وعدتموها على الأعمال الصالحة ) يوم القيامة ) أي فما لكم تريدون تعجلها بإسراعكم إلى الغنائم أو غيرها مما يزيد في أعراض الدنيا فتكونوا ممن تعجل طيباته في الحياة الدنيا ) فمن ) أي فحيث علم أنه لا فوز في الدنيا إلا بما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى تسبب عن ذلك أنه من ) زحزح عن النار ) أي بكونه وفي أجره ولم يتعجل طيباته ) وأدخل الجنة ) أي بما عمل من الصالحات فحاز الحياة الدائمة مع الطيبات طيباته ) فقد فاز ) أي كل الفوز ، ولما صح أنه لا فوز إلا ذلك صح قوله : ( وما الحياة الدنيا ) أي التي أملي لهم فيها وأزيلت عن الشهداء ) إلا متاع الغرور ) أي المتاع الذي يدلس الشيطان أمره على الناس حتى يغتروا به فيغبنوا بترك الباقي وأخذ الأشياء الزائلة بانقضاء لذاتها والندم على شهواتها بالخوف من تبعاتها .
وفي ذلك أيضاً مناسبة من وجه آخر ، وهو أنه لما سلاه سبحانه وتعالى بالرسل ، الذين لازموا الصبر والاجتهاد في الطاعة حتى ماتوا - وأممهم .
وتركوا ما كان بأيديهم(2/192)
صفحة رقم 193
عاجزين عن المدافعة ، ولم يبق إلا ملكه سبحانه وتعالى ، وأن الفريقين ينتظرون الجزاء ، فالرسل لتمام الفوز ، والكفار لتمام الهلاك ؛ أخبر أن كل نفس كذلك ، ليجتهد الطائع ويتقصر العاصي ، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين رجعوا عن أحد خوف القتل وقالوا عن الشهداء : ( لو أطاعونا ما قتلوا ) أي إن الذي فررتم منه لا بد منه ، والحياة التي آثرتموها متاع يندم عليه من محضه للتمتع كما يندم المغرور بالمتاع الذي غر به ، فالسعيد من سعى في أن يكون موته في رضى مولاه الذي لا محيص له عن الرجوع إليه والوقوف بين يديه .
ولما سلى الله سبحانه وتعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن تكذيبهم لما بما لقي إخوانه من الرسل وبأنه لا بد من الانقلاب إليه ، فيفوز من كان من أهل حزبه ، ويشقى من والى أعداءه وذوي حزبه ؛ أعاد التسلية على وجه يشمل المؤمنين ، وساقها مساق الإخبار بحلول المصائب الكبار التي هي من شعائر الأخيار في دار الأكدار المعلية لهم في دار القرار فقال - مؤكداً لأن الواقف في الخدمة ينكر أن يصيبه معبوده بسوء ، هذا طبع البشر وإن تطبّع بخلافه ، وأفاد ذكره قبل وقوعه تهوينه بتوطين النفس عليه ، وأفاد بناؤه للمفعول لتبيين المؤمن من المنافق ) في أموالكم ) أي بأنواع الإنفاق ) وأنفسكم ) أي بالإصابة في الجهاد وغيره ، فكما نالكم ما نالكم من الأذى بإذني ليلحقنكم بعده من الأذى ما أمضيت به سنتي في خلص عبادي وذوي محبتي ، وكان إيلاء ذلك للآية التي فيها الإشارة إلى أن توفية الأجور للأعمال الصالحة مما ينيل الفوز مناسباً من حيث الترغيب في كل ما يكون سبباً لذلك من الصبر على ما يبتلي به سبحانه وتعالى من لك ما يأمر به من التكاليف ، أو يأذن فيه من المصائب ، وقدم المال لأنه - كما قيل - عديل الروح ، وربما هان على الإنسان الموت دون الفقر المؤدي إلى الذل بالشماتة والعار بما تقصر عنه يده بفقده من أفعال المكارم ، وما أحسن ذكر هذه الآية إثر قصة أحد التي وقع فيها القتل بسبب الإقبال على المال ، وكان ذكرها تعليلاً لبغضة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار .
ولما كان يومها يوم بلاء وتمحيص ، وكان ربما أطمع في العافية بعده ، فتوطنت النفس على ذلك فاشتد انزعاجها بما يأتي من أمثاله ، وليس ذلك من أخلاق المشمرين أراد سبحانه وتعالى توطين النفوس على ما طبعت عليه الدار من الأثقال والآصار ، (2/193)
صفحة رقم 194
فأخبر أن البلاء لم ينقص به ، بل لا بد بعده من بلايا وسماع أذى من سائر الكفار ، ورغب في شعار المتقين : الصبر الذي قدمه في أول السورة ثم قبل قصى أحد ، وبناها عليه معلماً أنه مما يستحق أن يعزم عليه ولا يتردد فيه فقال : ( ولتسمعن ) أي بعد هذا اليوم ) من الذين ( ولما كان المراد تسوية العالم بالجاهل في الذم نزه المعلم عن الذكر فبنى للمفعول قوله : ( أوتوا الكتاب ( ولما كان إيتاؤهم له لم يستغرق الزمن الماضي أدخل الجار فقال : ( من قبلكم ) أي من اليهود والنصارى ) وتتقوا ) أي من الأميين ) أذى كثيراً ) أي من الطعن في الدين وغيره بسبب هذه الوقعة أو غيرها ) وإن تصبروا ) أي تتخلفوا بالصبر على ذلك وغيره ) وتتقوا ) أي وتجعلوا بينكم وبين ما يسخط الله سبحانه وتعالى وقاية بأن تغضوا عن كثير من أجوبتهم اعتماداً على ردهم بالسيوف وإنزال الحتوف ) فإن ذلك ) أي الأمر العالي الرتبة ) من عزم الأمور ) أي الأشياء التي هي أهل لأن يعزم على فعلها ، ولا يتردد فيه ، ولا يعوق عنه عائق ، فقد ختمت قصة أحد بمثل ما سبقت دليلاً عليه منقوله :
77 ( ) قد بدت البغضاء من أفواههم ( ) 7
[ آل عمران : 118 ] إلى أن ختم بقوله :
77 ( ) وإن تصبروا تتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ( ) 7
[ آل عمران : 120 ] ما أخبر به هنا بأنه من عزم الأمور .
ولما قدم سبحانه وتعالى في أوائل قصص اليهود أنه أخذ على النبيين الميثاق بما أخذ ، وأخبرهم أنه من تولى بعد ذلك فهو الفاسق ، ثم أخبر بقوله :
77 ( ) قد جائكم رسل من قبلي ( ) 7
[ آل عمران : 183 ]
77 ( ) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ( ) 7
[ آل عمران : 184 ] أن النبيين وفوا بالعهد ، وأن كثيراً من أتباعهم خان ؛ ثنى هنا بالتذكير بذلك العهد على وجه يشمل العلماء بعد الإخبار بسماع الأذى المتضمن لنقضهم للعهد ، فكان التذكير بهذا الميثاق كالدليل على مضمون الآية التي قبلها ، وكأنه قيل : فاذكروا قولي لكم ) لتبلون ( واجعلوه نصب أعينكم لتوطنوا أنفسكم عليه ، فلا يشتد جزعكم بحلول ما يحل منه ) و ( اذكروا ) إذ أخذ الله ( الذي لا عظيم إلا هو ) ميثاق الذين ( ولما كانت الخيانة من العالم أشنع ، واكن ذكر العلم دون تعيين المعلم كافياً في ذلك بنى للمجهول قوله : ( أوتوا الكتاب ) أي في البيان ، فخافوا فما آذوا إلا أنفسهم ، وإذا آذوا أنفسهم بخيانة عهد الله سبحانه وتعالى كانوا في أذاكم اشد وإليه أسرع ، أو يكون التقدير : واذكروا ما أخبرتكم به عند ما أنزله بكم ، واصبروا لتفوزوا ، واذكروا إذ اخذ الله ميثاق من قبلكم فضيعوه كيلا تفعلوا فعلهم ، فيحل بكم ما حل بهم من الذل والصغار في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من عذاب النار .
هذا ما كن ظهر لي أولاً ، ثم بان أن الذي لا معدل عنه أنه لما انقضت قصة أحد(2/194)
صفحة رقم 195
وما تبعها إلى أن ختمت بعد الوعظ بتحتم الموت الذي فر من فر منهم منه وخوّف الباقين أمره بمثل ما تقدم أن جعلها دليلاً عليه من بغض أهل الكتاب وما تبعه _ عطف على ( إذا ) المقدرة لعطف
77 ( ) وإذا غدوت ( ) 7
[ آل عمران : 121 ] عليها - قوله : ( وإذا أخذ الله ) أي اذكروا ذلك يدلكم على عداوتهم ، واذكروا ما صح عندكم من إخبار الله تعالى المشاهد بإ بار من أسلم من الأحبار والقسيسين أن الله أخذ ) ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) أي من اليهود والنصارى بام أكد في كتبه وعلى ألسنة رسله : ( ليبيننه ) أي الكتاب ) للناس ولا يكتمونه ) أي نصيحة منهم لله سبحانه توعالى ولرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ولأئمة المؤمنين وعامتهم ليؤمنوا بالنبي المبشر به ) فنبذوه ) أي الميثاق بنبذ الكتاب ) ورآء ظهورهم ( حسداً لكم وبغضاً ، هو تمثيل لتركهم العمل به ، لأن من ترك شيئاً وراءه نسيه ) واشتروا به ( ولما كان الثمن الذي اشتروه خسارة لا ربح فيه أصلاً على العكس مما بذلوه على أنه ثمن ، وكان الثمن إذا نض زالت مظنة الربح منه عبر عنه بقوله : ( ثمناً ( وزاد في بيان سفههم بقوله : ( قليلاً ) أي بالاستكثار من المال والاستئمار للرئاسة ، قكتموا ما عندهم من العلم بهذا النبي الكريم ) فبئس ما يشترون ) أي لأنه مع فنائه أورثهم العار الدائم والنار الباقية ، وعبر عن هذا الأخذ بالشراء إعلاماً بلجاجهم فيه ، ونبه بصيغة الافتعال على مبالغتهم في اللجاج .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنهم احتووا على المال والجاه بما كتموا من العلم وأظهروا من خلافه المتضمن لمحبة أهل دينهم فيهم وثنائهم عليهم بأنهم على الدين الصحيح وأنهم أهل العلم ، فهم أهل الاقتداء بهم ؛ قال سبحانه وتعالى مخبراً عن مآلهم تحذيراً من مثل حالهم على وجه يعم كل امرىء : ( لا تحسبن ( على قراءة الجماعة بالغيب ) الذين يفرحون بما آتوا ) أي مما يخالف ظاهره باطنه .
وتوصلوا به إلى الأغراض الدنيوية من الأموال والرئاسة وغير ذلك ، أي لا يحسبن أنفسهم ، وفي قراءة الكوفيين ويعقوب بالخطاب المعنى : لا تحسبنهم أيها الناظر لمكرهم ورواجهم بسببه في الدنيا واصلين إلى خير ) ويحبون أن يحمدوا ) أي ويجد الثناء بالوصف الجميل عليهم ) بما لم يفعلوا ) أي بذلك الباطن الذي لم يفعلوه ، قال ابن هشام في السيرة : أن يقول الناس : علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يتحملوهم على هدى ولا حق .
لما تسبب عن ذلك العلمُ بهلاكهم قال : ( فلا تحسبنهم ) أي تحسبن أنفسهم ، على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب وضم الباء وعلى قراءة الجماعة المعنى : لا تحسبنهم أيها الناظر ) بمفازة من العذاب ( بل هم بمهلكة منه ) ولهم عذاب اليم ((2/195)
صفحة رقم 196
آل عمران : ( 189 - 195 ) ولله ملك السماوات. .. . .
) وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ( ( )
ولما أخبر بهلاكهم دل عليه بحال من فاعل ( يحسب ) فقال تعالى : ( والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال وحده ) ملك السموات والأرض ) أي لا يقع في فكرهم ذلك والحال أن ملكه محيط بهم ، وله جميع ما يمكنهم الانحياز إلأيه ، وله ما لا تبلغه قُدَرُهم من ملك الخافقين فهو بكل شيء محيط ) والله ) أي الذي له جميع العظمة ) على كل شيء قدير ( وهو شامل القدرة ، فمن كان في ملكه كان في قبضته ، ومن كان في قبضته كان عاجزاً عن التفصي عما يريد به ، لأنه الحي القيوم الذي لا إله إلا هو - كما افتتح به السورة .
ولما ذكر هذا الملك العظيم وختم بشمول القدرة دل على ذلك بالتنبيه على التفكر فيه الموجب للتوحيد الذي هو المقصد الأعظم من هذه السورة الداعي إلى الإيمان الموجب للمفازة من العذاب ، لأن المقصود الأعظم من إنزال القرآن تنوير القلوب بالمعرفة ، وذلك لا يكون إلا بغاية التسليم ، وذلك هو ابتاع الملة الحنيفية ، وهو متوقف على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فبدأ سبحانه وتعالى السورة بدلائل صدقه بإعجاز القرآن بكشفه .
مع أعجاز بنظمه على لسان النبي الأمي - للشبهات وبيانه للخفيات ، وأظهر مكابرة أهل الكتاب ، وفضحهم أتم فضيحة ، فلما تم ذلك على أحسن وجه منظماً ببدائع الحكم من الترغيب والترهيب شرع في بث أنوا المعرفة بنصب دلائلها القريبة وكشف أستارها العجيبة فقال : ( إن في خلق السموات والأرض ) أي على كبرهما وما فيهما من المنافع ، ونبه على التغير الدال على المغير بقوله : ( واختلاف الليل والنهار ) أي اختلافاً هو - كما ترون - على غاية الإحكام على المغير بقوله : ( واختلاف الليل والنهار ) أي اختلافاً هو - كما ترون - على غاية الإحكام بكونه على منهاج قويم وسير لا يكون إلا بتقدير العزيز العليم(2/196)
صفحة رقم 197
) لآيات ) أي على جميع ما جاءت به الرسل عن الخالق ، وزاد الحث على التفكر والتهييج إليه والإلهاب من أجله بقوله : ( لأولي الألباب ( وذكر سبحانه وتعالى في أخت هذه الآية في سورة البقرة ثمانية أنواع من الأدلة واقتصر هنا على ثلاثة ، لأن السالك يفقتر في ابتداء السلوك إلى كثرة الأدلة .
فإذا استنار قلت حاجته إلى ذلك ، وكان الإكثار من الأدلة كالحجاب الشاغل له عن استغراق القلب في لجج المعرفة ، واقتصر هنا من آثار الخلق على السماوية لأناه أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر ، وانتقال القلب منها إلى عظمته سبحانه وتعالى وكبريائه أشد وأسرع ، وختم تلك بما هو لأول السلوك : العقل ، وختم هذه بلبه لأنها لمن تخلص من وساوس الشيطان وشوائب هواجس الوهم المانعة من الوصول إلى حق اليقين بل علم اليقين .
ولما كان كل مميز يدعي أنه في الذروة من الرشاد نعتخم بما بين من يعتد بقعله فقال : ( الذين يذكرون الله ) أي الذي ليس في خلقه لهما ولا لغيرهما شك ، وله جميع أوصاف الكمال .
ولما كان المقصود الدوام وكان قد يتجوز به عن الأكثر ، وله جميع التفصيل نفياً لاحتمال التجوز ودفعاً لدعوى العذر فقال : ( قياماً وقعوداً ( ولما كان أكثر الاضطجاع على الجنب قال : ( وعلى جنوبهم ) أي في اشتغالهم بأشغالهم وفي وقت استراحتهم وعند منامهم ، فهم في غاية المراقبة .
ولما بدأ من أوصافهم بما يحلو أصداء القلوب ويسكنها وينفي عنها الوساوس حتى استعدت لتجليات الحق وقبول الفيض بالفكر لانتفاء قوة الشهوة وسورة الغضب وقهرها وضعف داعية الهوى ، فزالت نزغات الشيطان ووساوسه وخطرات النفس ومغالطات الوهم قال : ( ويتفكرون ) أي على الأحوال .
ولما كانت آيات المعرفة إما في الآفاق وإما في الأنفس ، وكانت آيات الآفاق أعظم
77 ( ) لخلق السموات والأرض اكبر من خلق الناس ( ) 7
[ غافر : 57 ] .
قال : ( في خلق السموات والأرض ( على كبرهما واتساعهما وقوة ما فيهما من النافع لحصر الخلائق فيعلمون - بما في ذلك من الأحكام مع جري ما فيهما من الحيوان الذي خلقا لأجله على غير انتظام - أن وراء هذه الدار داراً يثبت فيها الحق وينفى الباطل ويظهر العدل ويضمحل الجور ، فيقولون تضرعاً إليه وإقبالاً عليه : ( ربنا ) أي أيها المحسن إلينا ) ما خلقت هذا ) أي الخلق العظيم المحكم ) باطلاً ) أي لأجل هذه الدار التي لا تفصل فيها على ما شرعت القضايا ، ولا تنصف فيها الرعاة الرعايا ، بل إنما خلقته لأجل دار أخرى ، يكون فيها محض العدل ، ويظهر فيها الفصل .
ولما كان الاقتصار على هذه الدار مع ما يشاهده من ظهور الأشرار نقصاً ظاهراً(2/197)
صفحة رقم 198
وخللاً بيناً نزهوه عنه فقالوا : ( سبحانك ( وفي ذلك تعليم العباد أدب الدعاء بتقديم الثناء قبله ، وتنبيه على أن العبد كلما غرزت معرفتة زاد خوفه فزاد تضرعه ، فإنه يحسن منه كل شيء من تعذيب الطائع وغيره ، ولولا أن ذلك كذلك لكانء الدعاء بدفعه عبثاً ، وما أحسن ختمها حين تسبب عما مضي تيقنهم أن أمامنا داراً يظهر فيها العدل مما هو شأن كل أحد في عبيده ، فيعذب فيها العاصي وينعم فيها الطائع ، كما هو دأب كل ملك في رعيته بقولهم رغبة في الخلاص في تلك الدار : ( فقنا عذاب النار ( على وجه جمع بين ذكر العذاب المختتم به آية محّبي المحمدة بالباطل ، والنار المحذر منها في
77 ( ) فمن زحزح عن النار ( ) 7
[ آل عمران : 185 ] ثم تعقبها بقولهم معظمين ما سألوا فدعه من العذاب ليكون موضع السؤال أعظم ، فيدل على أن الداعية في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه أتم ، مكررين الوصف المقتضي للإحسان مبالغة في إظهار الرغبة استمطاراً للإجابة : ( ربنا ( وأكدوا مع علمهم بإحاطة علم المخاطب إعلاماًَ بأن حالهم في تقصيرهم حال من أمن النار حثاً لأنفسهم على الاجتهاد في العمل فقالوا : ( إنك من تدخل النار ) أي للعذاب ) فقد أخزيته ) أي أذللته وأهنته إهانة عظيمة بكونه ظالماً .
وختمها بقوله : ( وما للظالمين من أنصار ( الحاسم لطمع من يظن منهم أنه يمفازة من العذاب ، وأظهر موضع الإضمار لتعليق الحكم بالوصف والتعميم .
ولما ابتهلوا بهاتين الآيتين في الإنجاء عن النار توسلوا بذكر مسارعتهم إلى إجابة الداعي بقولهم ) ربنا ( ولما كانت حالهم - لمعرفتهم بأنهم لا ينفكون عن تقصير وإن بالغوا في الاجتهاد ، لأنه لا يستطيع أحد أن يقدر الله حق قدره - شبيهة بحال من لم يؤمن ؛ اقتضى المقام التأكيد إشارة إلى هضم أنفسهم بالاعتراف بذنوبهم فقالوا مع عملهم بأن المخاطب عالم بكل شيء : ( إننا ( فأظهروا النون إبلاغاً في التأكيد في التأكيد ) سمعنا منادياً ) أي من قبلك ، وزاد في تفخيمه بذكر ما منه النداء مقيداً بعد الإطلاق بقوله : ( ينادي ( قال محمد بن كعب القرظي : هو القرآن ، ليس كلهم رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما كانت اللام تصلح للتعليل ومعنى ( إلى ) عبر بها فقيل : ( للإيمان ( ثم فسروه تفخيماً له بقولهم : ( أن آمنوا بربكم ( ثم أخبر بمسارعتهم إلى الإجابة بقولهم : ( فآمنا ) أي عقب السماع .
ثم أزالوا ما ربما يظن من ميلهم إلى ربوة الإعجاب بقولهم تصريحاً بما أفهمه التأكيد لمن عمله محيط : ( ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ) أي التي أسلفناها قبل(2/198)
صفحة رقم 199
الإيمان بأن تقبل منا الإيمان فلا تزيغ قلوبنا ، فيكون جابّاَ لما قبله عندك كما كان جابّاً له في ظاهر الشرع ، وكذا ما فرط منا بعد الإيمان ولو كان بغير توبة ، وإليه الإشارة بقولهم : ( وكفر عنا سيآتنا ) أي بأن توفقنا بعد تشريفك لنا بالإيمان لاجتناب الكبائر بفعل الطاعات المكفرة للصغائر ) وتوفنا مع الأبرار ) أي ليس لنا سيئات ولما كان الله سبحانه وتعالى هو المالك التام الملك ، فهو ذو التصرف المطلق الذي لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء ؛ أشار إلى ذلك بقوله ملقناً لهم مكرراً صفة الإحسان تنبيهاً على مزيد الابتهال والتضرع والتخضع والتخشع : ( ربنا وآتنا ما وعدتنا ( ثم أشار إلى صدق هذا الوعد بحرف الاستعلاء الدال على الالتزام والوجوب فقال : ( على رسلك ) أي من إظهار الدين والنصر على الأعداء وحسن العاقبة وإيراث الجنة في مثل قوله تعالى :
77 ( ) وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ( ) 7
[ البقرة : 25 ] وفي الدعاء بذلك إشارة إلى أنه لا يجب على الله سبحانه وتعالى شيء ولو تقدم به وعده الصادق وإن كنا نعتقد أنه لا يبدل القوة لديه ) ولا تخزنا يوم القيامة ) أي بالمؤاخذة بالسيئاتن ثم أرشدهم إلى الإلهاب والتهييج مع التنبيه على ما نبه عليه أولاً من أنه لا يجب عليه شيء بقوله باسطاً لهم بلذة المنادمة بالمخاطبة : ( إنك لا تخلف الميعاد ( ولما تسبب عن هذا الدعاء الإجابة لتكمل شروطه وهي استحضار عظمته تعالى بعد معرفته بالدليل وإدامة ذكره والتفكر في بدائع صنعه وافتتاحه بالثناء عليه سبحانه وتنزيهه والإخلاص في سؤاله قال : ( فاستجاب ) أي فأوجد الإجابة حتماً ) لهم ( قال الأصفهاني : وعن دعفر الصادق : من حزبه أمر فقال خمس مرات ( ربنا ) أنجاه الله مما يخاف ، وأعطاه ما أراد - وقرأ هذه الآية .
وأشار إلى أنها من منّه وفضله بقوله : ( ربهم ) أي المحسن إليهم المتفضل عليهم ) إني لا أضيع عمل عامل منكم ( كائناً من كان
77 ( ) من عيسى عند الله كمثل آدم ( ) 7
[ آل عمران : 59 ] الناظر إلى قوله
77 ( ) ذرية بعضها من بعض ( ) 7
[ آل عمران : 34 ] المفتتح بأن الله سبحانه وتعالى
77 ( ) اصطفى آدم ونوحاً ( ) 7
[ آل عمران : 33 ] المنادي بأن البشر كلهم في العبودية للواحد - الذي ليس كمثله شيء الحي القيوم - سواء نم غير تفاوت في ذلك أصلاً ، والمراد أنهم إذا كانوا مثلهم في النسب فهم مثلهم في الأجر على العمل .
ولما أقر أعينهم بألإجابة ، وكان قد تقدم ذكر الأنصار عموماً في قوله :
77 ( ) ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم - وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ( ) 7
[ آل(2/199)
صفحة رقم 200
عمران : 170 - 170 ] خص المهاجرين بياناً لفضلهم وزيادة شرفهم بتحقيقهم لكونهم معه ، لم يأنسوا بغيره ولم يركنوا لسواه من أهل ولا مال بقوله مسبباً عن الولد المذكور ومفصلاً ومعظماً ومبجلاً : ( فالذين هاجروا ) أي صدقوا إيمانهم بمفارقة أحب الناس غليهم في الدين المؤدي إلى المقاطعة وأعز البلاد عليهم .
ولما كان للوطن من القلب منزل ليس لغيره نبه عليه بقوله : ( وأخرجوا من ديارهم ) أي وهي آثر المواطن عندهم بعد أن باعدوا أهلهم وهم أقرب الخلائق إلهم ، ولما كان الأذى مكروهاً لنفسه لا بالنسبة إلى معين بنى للمفعول قوله : ( وأوذوا ) أي بغير ذلك من أنواع الأذى ) في سبيلي ) أي بسبب ديني الذي نهجته ليسلك إليّ فيه ، وحكمت أنه لا وصول إلى رضائي بدونه ) وقتلوا ) أي في سبيلي .
ولما كان القتل نفسه هو المكروه ، لا بالنسبة إلى معين ؛ كان المدح على اقتحام موجباته ، فبنى للمفعول قوله : ( وقتلوا ) أي فيه فخرجوا بذلك عن مساكن أرواحهم بعد النزوح عن منازل أشباحهم ، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أبلغ معنى ، لأنها أشد ترغيباً في الإقدام على الأخصام ، لأن من استقل أقدم المبني للمفعول أبلغ إقدام الأسد فقتل أخص منه ولم يقف أحد أمامه ، فكأنه قيل : وأرادوا القتل ، هذا بالنظر إلى الإنسان نفسه ، ويجوز أن يكون الخطاب للمجموع فيكون المعنى : وقاتلوا بعد أن رأوا كثيراً من أصحابهم قد قتل ) لأكفرن عنهم سيئاتهم ( كما تقدم سؤالهم إياي في ذلك علماً منهم بأن أحداً لن يقدر على أن يقدر الله حق قدره وإن اجتهد ) ولأدخلنهم ) أي بفضلي ) جنات تجري من تحتها الأنهار ( كما سبق به الوعد ) ثواباً ( وهو وإن كان على أعمالهم فهو فضل منه ، وعظمه بقوله : ( من عند الله ) أي المنعوت بالأسماء الحسنى التي منها الكرم والرحمة لأن أعمالهم لا توازي أقل نعمه ) والله ) أي الذي له الجلال والإكرام ، ونبه على عظمة المحدث عنه بالعندية فقال : ( عنده ) أي في خزائن ملكوته التي هي في غاية العظمة ) حسن الثواب ) أي وهو ما لا شائبة كدر فيه ، لأنه شامل القدرة بخلاف غيره .
آل عمران : ( 196 - 198 ) لا يغرنك تقلب. .. . .
) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ( ( )
ولما كانت هذه المواعدة آجلة ، وكان نظرهم إلى ما فيه الكفار من عاجل السعة ربما أثر في بعض النفوس أثراً يقدح في الإيمان بالغيب الذي هو شرط قبول الإيمان ؛(2/200)
صفحة رقم 201
داواه سبحانه بأن تلا تبشير المجاهدين بإنذار الكفار المنافقين والمصارحين الذين أملى لهم بخذلانهم المؤمنين بالرجوع عن قتال أحد وغيره من أسباب الإملاء على وجه يصدق ما تقدم أول السورة من الوعد بأنهم سيغلبون ، وأن أموالهم إنما هي صورة ، لا حقائق لها ، عطفاً لآخرها على أولها ، وتأكيداً لاستجابة دعاء أوليائه آخر التي قبلها بقوله مخاطباً لأشرف عباده ، والمراد من يمكن ذلك عادة فيه ، لأن خطاب الرئيس أمكن في خطاب الأتباع - ) لا يغرنك تقلب ) أي لا تغترر بتصرف ) الذين كفروا ( تصرف من يقلب الأمور بالنظر في عواقبها لسلامتهم في تصرفهم وفوائدهم وجودة ما يقصدونه في الظاهر كجودة القلب في البدن ) في البلاد ( فإن تقلبهم ) متاع قليل ) أي لا يعبأ به ذو همة علية ، وعبر بأداة التراخي إشارة إلى أن تمتيعهم - وإن فرض أنه طال زمانه وعلا شأنه - تافه لزواله ثم عاقبته ، وإلى هول تلك العاقبة وتناهي عظمتها ، فقال : ( ثم مأواهم ) أي بعد التراخي إن قدر ) جهنم ) أي الكريهة المنظر الشديدة الأهوال ، العظيمة الأوجال ، لا مهاد لهم غيرها ) وبئس المهاد ) أي الفراش الذي يوطأ ويسهل للراحة والهدوء .
ولما بين بآية المهاجرين أن النافع من الإيمان هو الموجب للثبات عند الامتحان .
وكانت تلك الشروط قد لا توجد ، ذكر وصف التقوى العام للأفراد الموجب للإسعاد ، فعقب تهديد الكافرين بما لأضدادهم المتقين الفائزين بما تقدم الدعاء إليه بقوله تعالى :
77 ( ) قل أأنبئكم بخير من ذلكم ( ) 7
[ آل عمران : 15 ] فقال تعالى : ( لكن الذين اتقوا ربهم ) أي أوقعوا الاتصاف بالتقوى بالائتمار بما أمرهم به المحسن إليهم والانتهاء عما نهاهم شكراً لإحسانه وخوفاً من عظم شأنه ) لهم جنات ( وإلى جنات ، ثم وصفها بقوله : ( تجري من تحتها الأنهار ( تعريفاً بدوام تنوعها وزهرتها وعظيم بهجتها .
ولما وصفها بضد ما عليه النار وصف تقلبهم فيها بضد ما عليه الكفار من كونهم في ضيافة الكريم الغفار فقال : ( خالدين فيها ( ولما كان النزل ما بعد للضيف عند نزوله قال معظماً ما لمن يرضيه : ( نزلا ( ولما كان الشيء يشرف بشرف من هو من عنده نبه على عظمته بقوله : ( من عند الله ( مضيفاً إلى الاسم الأعظم ، وأشار بجعل الجنات كلها نزلاً إلى التعريف بعظيم ما لهم بعد ذلك عنده سبحانه من النعيم الذي لا يمكن الآدميين وجه الاطلاع على حقيقة وصفه ، ولهذا قال معظماً - لأنه لو أضمر لظن الاختصاص بالنزل - ) وما عند الله ) أي الملك الأعظم من النزل وغيره ) خير للأبرار ( مما فيه الكفار ومن كل ما يمكن أن يخطر بالبال من النعيم .(2/201)
صفحة رقم 202
آل عمران : ( 199 - 200 ) وإن من أهل. .. . .
) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ( )
ولما كان للمؤمنين من أهل الكتابين - مع التشرف بما كانوا عليه من الدين الذي أصله حق - حظٌّ من الهجرة ، فكانوا قسماً ثانياً من المهاجرين ، وكان إنزال كثير من هذه السورة في مقاولة أهل الكتاب ومجادلتهم والتحذير من مخاتلتهم ومخادعتهم والإخبار - بأنهم يبغضون المؤمنين مع محبتهم لهم ، وأنهم لا يؤمنون بكتابهم ، وأنهم سيسمعون منهم أذى كثيراً إلى أن وقع الختم في أوصافهم بأنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً - ربما أيأس من إيمانهم ؛ أتبع ذلك مدح مؤمنين ، وغير الأسلوب عن أن يقال مثلاً : والذين آمنوا من أهل الكتاب - إطماعاً في موالاتهم بعد التدريب بالتحذير منهم على مناواتهم وملاواتهم فقال : ( وإن من أهل الكتاب ) أي اليهود والنصارى ) لمن يؤمن بالله ) أي الذي حاز صفات الكمال ، وأشار إلى الشرط المصحح لهذا الإيمان بقوله : ( وما أنزل إليكم ) أي من هذا القرآن ) وما أنزل إليهم ) أي كله ، فيذعن ملا يأمر منه باتباع هذا النبي العربي ، وإليه الإشارة بقوله جامعاً للنظر إلى معنى من تعظيماً لوصف الخشوع بالنسبة إل مطلق الإيمان : ( خاشعين لله ) أي لأنه الملك الذي لا كفوء له ، غير مستنكفين عن نزل المألوف ) لا يشترون بآيات الله ) أي التي متى تأملوها علموا أنه لا يقدر عليها إلا من أحاط بالجلال والجمال ، الآمره لهم بذلك ) ثمناً قليلاً ( بما هم عليه من الرئاسة ونفوذ الكلمة - كما تقدم قريباً في وصف معظمهم ، فهم يبينونها ويرشدون إليها ولا يحرفونها .
ولما أخبر تعالى عن حسن ترحمهم إليه أخبر عن جزائهم عنده بما يسر النفوس ويبعث الهمم فقال : ( أولئك ) أي العظيمو الرتبة ) لهم أجرهم ) أي الذي رباهم ولم يقطع إحسانه لحظة عنهم ، كل ذلك تعظيماً له من حيث إن لهم الأجر مرتين .
ولما اقتضت هذه التأكيدات المبشرات إنجاز الأجر وإتمامه وإحسانه ، وكان قد تقدم أنه تعالى يؤتي كل أحد من ذكر وأنثى أجره ، ولا يضيع شيئاً ، ويجازي المسيء والمحسن ، وكانت العادة قاضية بأن كثرة الخلق سبب لطول زمن الحساب ، وذلك سبب لطول الانتظار ، وذلك سبب لتعطيل الإنسان عن مهماته ولضيق صدره بتفرق عزمه وشتاته كان ذلك محل عجب يورث توهم ما لا ينبغي ، فأزال هذا التوهم بأن أمره تعالى(2/202)
صفحة رقم 203
على غير ذلك لأنه لا يشغله شأن عن شأن بقوله : ( إن الله ) أي بما له من الجلال والعظمة والكمال ) سريع الحساب ( ولما كثر في هذه الآيات الأمر بمقاساة الشدائد وتجرع مرارات الأذى واقتحام الحروب واستهانة عظائم الكروب ، والحث على المعارف الإلهية والآداب الشرعية من الأصول والفروع انخلاعاًَ من المألوفات إلى ما يأمر به سبحانه من الطاعات ، وختم بتجرع فرقة من أهل الكتاب لتلك المرارات كانت نتيجة ذلك لا محالة قوله تعالى منبهاً على عظمة ما يدعو إليه لأنه شامل لجميع الآداب : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي بكل ما ذكرنا في هذه السورة ) اصبروا ) أي أوقعوا الصبر تصديقاً لإيمانكم على كل ما ينبغي الصبر عليه مما تكرهه النفوس مما دعتكم إليه الزهراوان ) وصابروا ) أي أوجدوا المصابرة للأعداء من الكفار والمنافقين وسائر العصاة ، فلا يكونن على باطلهم أصبر منكم على حقكم ) ورابطوا ) أي بأن تربطوا في الثغور خيلاً بإزاء ما لهم من الخيول إرهاباً لهم وحذراً منهم - هذا أصله ، ثم صار الرباط يطلق على المكث في الثغور لأجل الذب عن الدين ولو لم تكن خيول ، بل وتطلق على المحافظة على الطاعات ، ثم أمر بملاك ذلك كله فقال : ( واتقوا الله ) أي في جميع ذلك بأن تكونوا مراقبين له ، مستحضرين لجميع ما يمكنكم أن تعلموه من عظمته بنعمته ونقمته ) لعلكم تفلحون ) أي ليكون حالكم حال من يرجى فلاحه وظفره بما يريد من النصر على الأعداء والفوز بعيش الشهداء ، وهذه الآية - كما ترى - معلمة بشرط استجابة الدعاء بالنصرة على الكافرين ، المختتم به البقرة
77 ( ) فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ( ) 7
[ البقرة : 186 ] داعية إلى تذكير أولي الألباب بالمراقبة للواحد الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء في اتباع آياته ومعاداة أعدائه ، كما أن التي قبلها فيمن آمن بجميع الكتب : هذا القرآن المصدق لما بين يديه والتوراة والإنجيل ، كل ذلك للفوز بالفرقان بالنصر وتعذيب أهل الكفر بأيديهم تمكيناً من الله - والله عزيز ذو انتقام - ردّاً للمقطع على المطلع على أحسن وجه - والله أعلم بالصواب وعنده حسن المآب .(2/203)
صفحة رقم 204
سورة النساء
مقصودها الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه آل عمران ، والكتاب الذي حدت عليه البقرة لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة تحذيرا مما أراده شأس بن قيس وأنظاره من الفرقة ، وذه السورة من أواخر ما نزل ، روى البخاري في فضائل القرآ ، " عن يوسف بن ماهك أن عراقيا سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تريه مصحفها ، فقالت : لم ؟ قال لعلي : أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف ، قالت : وما يضرك أيه قرأت قبل ، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل ، فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل احلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا تدع الزنى أبدا ، لقد نزل بمكة على محمد وإني لجارية ألعب ) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) [ القمر : 46 ] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلأا وأنا عنده ، قال : فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السورة انتهي. وقد عنت بهذا رضي الله عنعا أن القرآن حاز أعلى البلاغة في إنزاله مطابقا لما تقتضيه الأحوال بحسب الأزمان ، ثم رتب على أعلى وجوه البلاغة بحسب ما تقتضيه المفاهيم من المقال ، كما تشاهده من هذا الكتاب البديع البعيد المنال
النساء : ( 1 - 2 ) يا أيها الناس. .. . .
) يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( ( )
ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها من التوحيد ، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت ( النساء ) لذلك ، ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد ) بسم الله ((2/204)
صفحة رقم 205
الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور ) الرحمن ( الذي جعل الأرحام رحمة عامة ) الرحيم ( الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دنيه الذي جعله نعمة تامة .
لما تقرر أمر الكتاب الجامع الذي هو الطريق ، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك ، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع والتواصل والتعاطف والتراحيم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس ، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل - كما تبين في علم الأخلاق - أربعاً : العلم والشجاعة والعدل والعفة ، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام ، وكانت آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنين منها ، وهما العلم والشجاعة - كما أشير إلى ذلك في غير آية
77 ( ) نزل عليك الكتاب بالحق ( ) 7
[ آل عمران : 3 ] ،
77 ( ) وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ( ) 7
[ آل عمران : 7 ] ،
77 ( ) شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ( ) 7
[ آل عمران : 169 ] ،
77 ( ) الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ( ) 7
[ آل عمران : 172 ] ،
77 ( ) ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ( ) 7
[ آل عمران : 200 ] ، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد موروثهم في حب الله ، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث استشهد مورثوهم ي حب الله ، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الفضيلتين الباقيتين ، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة ، وذلك مثمر للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان ، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين ، وما أحسن ابتداءها بعموم : ( ياأيها الناس ( بعد اختتام تلك بخصوص ( ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا الآية .
ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف ، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها ، فكانت في غاية المشقة على النفوس ، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال : ( اتقوا ربكم ) أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد ، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية ، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس .
ابتدأ هذه البيان كيفية ابتداء الخلق حثاً على أساس التقوى من العفة والعدل فقال : ( الذي ( جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها(2/205)
صفحة رقم 206
ولا تضيعوها ، وذلك أنه ) خلقكم من نفس واحدة ( هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكراً بعظيم قدرته ترهيباً للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث ، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين : هذه وهي رابعة النصف الأول ، والحج وهي رابعة النصف الثاني ، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حمته من أمر المبدإ ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويراً لا مزيد عليه ، فدل فيها على المبدإ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة ، ما خلق الوجود إلا لأجله ، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه ، وربت ذلك على الترتيب الأحكم ، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية ، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السور الماضية المجادلة في أمر عيسى ، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام ، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ يولّد من أنثى فقط بلا وساطة ذكر ؛ بين ي هذه السورة بقوله - عطفاً على ما تقديره جواباً لمن كأنه قال : كيف كان ذلك ؟ - إنشاء تلك النفس ، أو تكون الجملة حالية - ) وخلق منها زوجها ) أي مثله في ذلك أيضاً كمثل كل من أبيه وأمه : آدم فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى ، فصارت الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم وحواء معاً عليهما الصلاة والسلام ، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام - المندرج تحت آية بعضكم من بعض مع آية البث التي بعد هذه - حاصراً للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها ، وهي بشر لا من ذكر ولا أنثى ، بشر منهما ، بشر من ذكر فقط ، بشر من أنثى فقط ؛ ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق ، وعبر عن غيرها بالجعل ، لخلو السياق عن هذا الغرض ، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام
77 ( ) كذلك الله يفعل ما يشاء ( ) 7
[ آل عمران : 40 ] وفي أمر عيسى عليه الصلاة والسلام
77 ( ) يخلق ما يشاء ( ) 7
[ آل عمران : 47 ] ، وأيضاً فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى ، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتداء - لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها - أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على اسبابها وإن لم يكن اختراع - فسبحان العزيز العليم العظيم الحكيم .
ولما ذكر تعالى الإنشاء عبر بلفظ الرب الذي هو من التربية ، ولما كان الكل - المشار إليه بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره : وبث لكم منه إليها : ( وبث منهما ) أي فرق ونشر من التوالد ، ولما كان المبثوث قبل ذلك عدماً وهو الذي أوجده من العدم نكر لإفهام ذلك قوله : ( رجالاً كثيراً ونساءً ( من نفس واحدة ؛ كان إحسان كل من الناس إلى كل منهم من صلة الرحم ، ووصف الرجال دونهن مع أنهن أكثر منهم إشارة(2/206)
صفحة رقم 207
إلى أن لهم عليهن درجة ، فهم أقوى وأظهر وأطيب وأظهر في رأي العين لما لهم من الانتشار وللنساء من الاختفاء والاستتار .
ولما كان قد أمر سبحانه وتعالى أول الآية بتقواه مشيراً إلى أنه جدير بذلك منهم لكونه ربهم ، عطف على ذلك الأمر أمراً آخر مشيراً إلى أنه يستحق ذلك لذاته لكونه الحاوي لجميع الكمال المنزه عن كل شائبة نقص فقال : ( واتقوا الله ) أي عموماً لما له من إحاطة الأوصاف كما اتقيتموه خصوصاً لما له إليكم من الإحسان والتربية ، واحذروه وراقبوه في أن تقطعوا أرحامكم التي جعلها سبباً لتربيتكم .
ولما كان المقصود من هذه السورة المواصلة وصف نفسه المقدسة بما يشير إلى ذلك فقال : ( الذين تساءلون ) أي يسأل بعضكم بعضاً ) به ( فإنه لا يسأل باسمه الشريف المقدس إلا الرحمة والبر والعطف ، ثم زاد المقصود إيضاحاً فقال : ( والأرحام ) أي واتقوا قطيعة الأرحام التي تساءلون بها ، فإنكم تقولون : ناشدتك بالله والرحم وعلل هذا الأمر بتخويفهم عواقب بطشه ، لأ ، ه مطلع على سرهم وعلنهم مع ما له من القدرة الشاملة .
فقال مؤكداً لأن أفعال الناس في ترك التقوى وقطيعة الأرحام أفعال من يشك ي أنه بعين الله سبحانه : ( إن الله ) أي المحيط علماً وقدرة ) كان عليكم ( وفي أداة الاستعلاء ضرب من التهديد ) رقيباً ( وخفض حمزة ( الأرحام ) المقسم بها تعظيماً لها وتأكيداً للتنبيه على أنهم قد نسوا الله في الوفاء بحقوقها - كما أقسم بالنجم والتين وغيرهما ، والقراءاتان مؤذنتان بأن صلة الأرحام من الله بمكان عظيم ، حيث قرناه باسمه سواء كان عطفاً كما شرحته آية ) وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) [ الإسراء : 23 ] ، وغيرها - أو كان قسماً ، واتفق المسلمون على أن صلى الرحم واجبة ، وأحقهم بالصلة الولد ، وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال .
ولما بان من هذا تعظيمه لصلة الرحم بجعلها في سياق ذكره سبحانه وتعالى المعبر عنه باسمه الأعظم - كما فعل نحو ذلك في غير آية ، وكان قد تقدم في السورة الماضية ذكر قصة أحد التي انكشفت عن أيتام ، ثم ذكر في قوله تعالى :
77 ( ) كل نفس ذائقة الموت ( ) 7
[ آل عمران : 185 ] ، أن الموت مشرع لا بد لكل نفس من وروده ؛ علم أنه له بد من وجود الأيتام في كل وقت ، فدعا إلى العفة والعدل فيهم لأنهم بعد الأرحام أولى من يتقى الله فيه ويخشى مراقبته بسببه فقال : ( وآتوا اليتامى ) أي الضعفاء الذين انفردوا عن آبائهم ، وأصل اليتيم الانفراد ) أموالهم ) أي هيئوها بحسن التصرف فيها لأن تؤتوهم إيلاها بعد البلوغ - كما يأتي ، أو يكون الإيتاء حقيقة والتيم باعتبار ما كان .
أو باعتبار الاسم اللغوي وهو مطلق الانفراد ، وما أبدع إيلاءها للآية الآمرة بعد عموم تقوى الله(2/207)
صفحة رقم 208
بخصوصها ي صلة الرحم المختتمة بصفة الرقيب لما لا يخفى من أنه لا حامل على العدل في الأيتام إلا المراقبة ، لأنه لا ناصر لهم ، وقد يكونون ذوي رحم .
ولما أمر بالعفة في أموالهم أتبعه تقبيح الشره الحامل للغافل على لزوم المأمور به فقال : ( ولا تتبدلوا ) أي تكلفوا أنفسكم أن تأخذوا على وجه البدلية ) الخبيث ) أي من الخباثة التي لا أخبث منها ، لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان ، فتهدم - جميع أمره ) بالطيب ) أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض ، المعلية لقدر الإنسان ؛ ثم بعد هذا النهي العام نوّه بالنهي عن نوع منه خاص ، فقال معبراً بالأكل الذي كانت العرب تذم بالإكثار منه ولو أنه حلال طيب ، فكيف إذا كان حراماً ومن مال ضعيف مع الغنى عنه : ( ولا تأكلوا أموالهم ) أي تنتفعوا بها أيّ انتفاع كان ، مجموعة ) إلى أموالكم ( شرهاً وحرصاً وحباً في الزيادة من الدنيا التي علتمتم شؤمها وما أثرت من الخذلان يف آل عمران ، وعبر بإلى إشارة إلى تضمين الأكل معنى الضم تنبيهاً على أنها متى ضمت إلى مال اولي أكل منها فوقع في النهي ، فحض بذلك على تركها محفوظة على حيالها ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إنه ) أي الأول ) كان حوباً ) أي إثماً وهلاكاً ) كبيراً (
النساء : ( 3 ) وإن خفتم ألا. .. . .
) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ( ( )
ولما كان تعالى قد أجرى سنة الإلهية في أنه لا بد في التناسل من توسط النكاح إلا ما كان من آدم وحواء وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وكانوا قد أمروا بالعدل في أموال اليتامى ، وكانوا يلون أمور يتاماهم ، وكانوا ربما نكحوا من في حجورهم منهن ، فكان ربما أوقفهم هذا التحذير من أموالهم عن النكاح خوفاً من التقصير في حق من حقوقهنم أتبعه تعالى عطفاً على ما تقديره : فإن وثقتم من أنفسكم بالعدل فخالطوهم بالنكاح وغيره : ( وإن خفتم ( فعبر بأداة الشك حثاً على الورع ) ألا تقسطوا ) أي تعدلوا ) في التيامى ( ووثقتم من أنفسكم بالعدل في غيرهن ) فانكحوا ( ولما كانت النساء ناقصات عقلاً وديناً ، عبر عنهن بأداة ما لا يعقل إشارة إلى الرفق بهن والتجاوز عنهن فقال : ( ما ( ولما أفاد أنكحوا الإذن المتضمن للحل ، وحل الطيب على اللذيذ المنفك عن النهي السابق ليكون الكلام عاماً مخصوصاً بما يأتي من آية المحرمات من النساء - ولا يحمل الطيب على الحل لئلا يؤدي - مع كونه تكراراً - إلى أن يكون الكلام مجملاً - لأن الحل لم يتقدم علمه ، والحمل على العام المخصوص أولى ، (2/208)
صفحة رقم 209
لأنه حجة في غير محل التخصيص ، ولامجمل ليس بحجة أصلاً - أفاده الإمام الرازي ؛ فقال تعالى : ( طاب ) أي زال عنه حرج النهي السابق ولذّ ، وأتبعه قيداً لا بد منه بقوله : ( لكم ( وصرح بما علم التزاماً فقال : ( من النساء ) أي من غيرهن ) مثنى وثلاث ورباع ) أي حال كون هذا المأذون في نكاحه موزَّعاً هكذا : ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً لكل واحد ، وهذا الحكم عرف من العطف بالواو ، ولو كان بأو لما أفاد التزوج إلا على أحد هذه الوجوه الثلاثة ، ولم يفد التخيير المفيد للجمع بينها على سبيل التوزيع ، وهذا دليل وضاح على أن النساء أضعاف الرجال ، وروى البخاري في التفسير ( عن عروة ابن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) [ النساء : 3 ] ، قالت : يا ابن أختي هذه التيمة تكون في حجر وليها ، وتشركه في ماله ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية ، فأنزل الله عز وجل
77 ( ) ويستفتونك في النساء ( ) 7
[ النساء : 127 ] قالت عائشة : وقول الله عز وجل في آية أخرى
77 ( ) وترغبون أن تنكحوهن ( ) 7
[ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ، قالت : فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهم إذا كن قليلات المال والجمال ) وفي رواية ( في النكاح ) ، فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق ؛ وهذا الخطاب للأحرار دون العبيد ، لأن العبد لا يستقل بنكاح ما طاب له ، بل لا بد من إذن السيد .
ولما كان النساء كالتيامى في الضعف قال مسبباً عن الإذن في النكاح : ( فإن خفتم ألا تعدلوا ) أي في الجمع ) فواحدة ) أي فانكحوها ، لأن الاقتصار عليها أقرب إلى المؤدي إلى العدل دائراً على اطراح النفس ، وكان الإماء - لكسرهن بالغربة وعدم الأهل - أقرب إلى حسن العشرة سوّى بين العدد منهم إلى غير نهاية وبين الواحدة من الحرائر فقيل : ( أو ما ) أي انكحوا ما ) ملكت أيمانكم ( فإنه لا قسم بينهن ، وذكر ملك اليمين يدل أيضاً على أن الخطاب من أوله خاص بالأحرار ) ذلك ) أي نكاح غير اليتامى(2/209)
صفحة رقم 210
والتقلل من الحرائر والاقتصار على الإماء ) أدنى ) أي أقرب إلى ) ألا تعولوا ) أي تميلوا بالجور عن منهاج القسط وهو الوزن المستقيم ، أو تكثر عيالكم ، أما عند الواحدة فواضح ، وأما عند الإماء فالبعزل ، وعدم احتياج الرجل معهن لخادم له أو لهن ، والبيع لمن أراد منهن ، وأمرهن بالاكتساب ، أو تحتاجوا فتظلموا بعض النساء ، أو تأكلوا أموال التيامى ؛ وكل معنى من هذه راجع إلى لازم لمعن المادة الذي مدارها عليه ، لأن مادة ( علا ) - واوية بجميع تقاليبها الست : علو ، عول ، لوع ، لعو ، وعل ، ولع ؛ ويائية بتركيبها : ليع ، عيل تدور على الارتفاع ، ويلزمه الزيادة والميل ، فمن الارتفاع : العلو والوعل والولع ، ومن الميل والزيادة : العول ، وبقية المادة يائيةً ووايةً إما للإزالة ، وإما لأحد هذه المعاني - على ما يأتي بيانه ؛ فعلا يعلو : ارتفع ، والعالية : الفتاة القويمة - لأ ، ها تكون أرفع مما ساواها وهو معوج ، والعالية من محال الححاز - لإشرافها على ما حولها ، وكذا العوالي - لقرى بظاهر المدينة الشريفة - لأنها في المكان العالي الذي يجري ماؤه إلى غيره ، والمعلاة : كسب الشرف ، ومقبرة مكة بالحجون - لأنها في أعلى مكة وماؤها يصوب إلى ما دوهه ، وفلان من علية الناس ، أي أشرافهم ، والعلية بالتشديد : الغرفة ، وعلى حرف الاستعلاء ، وتعلت المرأة من نفاسها ، أي طهرت وشفيت - لأنها كانت في سفول من الحال ، والعلاوة : رأس الجبل وعنقه ، وما يحمل على البعير بين العدلين ، ومن كل شيء : ما زاد عليه ، والمعلى : القدح السابع من الميسر - لأنه الغاية في القداح الفائزة ، لأن القداح عشرة : السبعة الأولى منها فائزة ، والثلاثة الأخيرة مهملة لا أنصباء لها ، وعلوان الكتاب : عنوانه وارتفاعه على بقية الكتاب واضح ، والعليان : الطويل والضخم ، والناقة المشرفة ، ومن الأصوات : الجهيرة ، والعلاة : السندان ، والعلياء : رأس كل جبل مشرف ، والسماء ، والمكان العالي ، وكل ما علا من شيء ، وعليك زيداً : الزمه - لأنه يلزم من ملازمته له العلو على أمره ، وعلا المتاع عن الدابة تعلية : أنزله ، وأعليت عن الوسادة وعاليت : ارتفعت وتنحيت ، ورجل عالي الكعب : شريف ، وعلَّى الكتاب تعلية : عنونه كعلونه ، وعالوا نعيه : أظهروه ، والعلي : الشديد القوي ، وعليون في السماء السابعة ، وأخذه علواً : عنوة ، والتعالي : الاتفاع ، إذا أمرت منه قلت : تعال - بفتح اللام ، ولها : تعالي - بفتح اللام ، - ولو كنت في موضع أسفل من موضع المأمور ، لأنه يحتاج إلى تطاول منهما كان بينك وبينه مسافة ، ولأن الآمر أعلى من المأمور رتبة فموضعه كذلك ، وتعلى : علا في مهلة ، والمعتلي : الأسد ؛ واللعو : السيء الخلق ، والفسل ، والشره الحريص ، واللاعي : الذي(2/210)
صفحة رقم 211
يفزعه أدنى شيء ، إما لأنه وصل إلى الغاية في السفول فتسنم أعلاها حتى رضي لنفسه هذه الأخلاق ، وإما لأنه من باب الإزالة ، أو التسمية بالضد ، وذئبة لعوة وامرأة لعوة ، أي حريصة ، واللعوة : السواد بين حلمتي الثدي ، إما لأن ذلك أعلاه ، وإما لعلو لون السواد على لون الثدي ، والألعاء : السلاميات ، والسلامى عظم يكون في فرسن البعير ، وعظام الصغار في اليد والرجل ، وذلك لأن العظام أعلى ما في الجسد في القوة والشدة والصلابة ، وهي أعظم قوامه ؛ واللاعية : شجيرة في سفح الجبل ، لها نور أصفر ، ولها لبن ، وإذا ألقي منه شيء في غدير السمك أطفاها ، أي جعلها طافية أي عالية على وجه الماء ، سميت بذلك إما من باب افزلاة نظراً إلى محل بيتها ، وإما لأن ريحها يعلو كل ما خالطه ويكسبه بذلك إما من باب الإزالة نظراً إلى محل بيتها وإما لأن ريحها يعلو كل - إما من اللاعية لأنها كثيرة العقد ، وإما من لازم العلو : القوة والشدة ، ولعا لك - يقال عند العثرة ، أي أنعشك الله ؛ والعول : ارتفاع الحساب في الفرائض ، والعول : الميل ، وقدم تقدم أنه لازم للعلو ، والعول : كل ما أمر غلبك ، كأنه علا عنك فلم تقدر على نيله والمستعان به - لأنه لا يتوصل به إلى المقصود إلا وفيه علو ، وقوت العيال - لأنه سبب علوهم ، وعوّل عليه معولاً : اتكل واعتمد ، والاسم كعنب ، وعيّل ككيس ، وعال : جار والميزان : نقص أو زاد ، فالزيادة من الارتفاع ، والنقص من لازم الميل ، وعالت الفريضة : ارتفعت أي زادت سهامها فدخل النقصان على أهل الفرائض ، قال أبو عبيد : أظنه مأخوذاً من الميل ، وعال أمرهم : اشتد وتفاقم ، وعال فلان عولاً وعيالاً : كثر عياله ، كأعول وأعيل ، ورجل معيل ومعيّل ذو عيال ، وأعال الرجل وأعول - إذا حرص ، إما مما تقدم تخريجه ، وإما لأنه لازم لذي العيال ، وعال عليه : حمل ، أي رفع عليه الحمول كعول ، وفلان : حرص ، والفرس ، صوتت ، وأعولت المرأة : رفعت صوتها بالبكاء ، وعيل عوله : ثكلته أمه - لما يقع من صياحها ، وعيل ما هو عائله : غلب ما هو غالبه ، يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه لأنه لا يكون كذلك إلا وقد خرج عن أمثاله علواً ، وقد يكون بسفول ، فيكون من التسمية بالضد ، والعالة : النعامة لأنها أ ( ول الطير ، وما له عال ولا مال : شيء ح لأن ذلك غاية في السفول إن كان عجزاً ، وفي العلو إن كان زهداً ، ويقال للعاثر : عالك عالياً .
كقولهم : لعا لك ، والمعول : حديدة تنفر بها الجبال - من القوة اللازمة للعلو ، والعالة ، شبه الظلة يستر بها من المطر ؛ واللوعة : حرقة توجد من الحزن أو الحب أو المرض أو الهم - لأنها تعلو الإنسان ، ولاعه الحب : أمرضه ، وأتان لاعة الفؤاد إلى جحشهاح كأنها ولهى فزعاً ، ولا ع يلاع : جزع أو مرض ورجل هاع لاع : جبان جزوع ، أو حريص ، أو سيء الخلق - لما علاه من هذه الأخلاق(2/211)
صفحة رقم 212
المنافية للعقل وغلبه منها ، ولاعته الشمس : غيرت لونه واللعة أيضاً : الحديدة الفؤاد الشهمة - لأنه يعلوا غيره ، وامرأة لاعة : التي تغازلك ولا تمكنك - لما لها في ذلك من الغلبة والعلو على القلوب ؛ والوعل : تيس الجبل ، والشريف ، والملجأ ، والوعلة : الموضع المنيع من الجبل ، أو صخرة مشرفة منه ، وهم علينا وعل واحد : مجتمعون ، وما لك عن ذلك وعل ، أي بد - إنه لولا علوه عليك ما اضطررت إليه ، والوعل : اسم شوال - كأنه لما له من العلو بالعيد والحج ، والوعل ككتف : اسم شعبان ح لما له من العلو بتوسطه بين رجب وشوال ، والوعلة أيضاً : عروة القميص والزير رزه والقدح والإبريق الذي يعلق بها فيعلو ، ووعال كغراب : حصن باليمن ، والمستوعل - بفتح العين : حرز الولع ، ووعل كوعد : أشرف ، وتوعلت الجبل : علوته ؛ وأولع فلان بكذا ، أو ولع بالكسر : استخف ، أي صار عالياً عليه غالباً له إطاقته حمله ، وولع بحقه : ذهب ، وولع بالفتح - إذا كذب ، إما للإزالة وإما لأنه استخفه الكذب فحمله ، وولع والع - مبالغة ، أي كذب عظيم والمولع : الذي فيه لمع من ألوان - كأنه علا على تلك الألوان ، أو غلب تلك الألوان أصل لونه ، وعبارة القاموس : والتوليع : استطالة البلق ، يقال برذون وثور مولع - كمعظم ، والوليع : الطلع ما دام في قيقائه ، أي وعائه وهو قشرة الطلع لعلوه ، وما أدري ما ولعه - بالفتح أي حبسه ، إما للإزالة ، لإنه لما منعه كان كأنه أزال علوه ، وإما لأنه علا عليه ، وأولعه به ، أي أغراه ، أي حمله عليه ؛ والعيلة : الحاجة ، وعال يعيل - إذا افتقر ، وذلك إما من الإزالة ، أو لأن الحاجة علته ، أو لأنها ميل ، وعالني الشيء : أعجزني ، وعيل صبري : قل وضعف أي علاه من الأمر ما أضعفه ، وعلت الضالة : لم أدر أين أبغيها ، والمعيل : الأسد والنمر والذئب - لأنه يعيل صيداً أي يلتمسن فهو يرجع إلى العلو والقدرة على الطلب ، وعالني الشيء أعوزني - إما أزال علوي ، أو علا عني ، وعال في مشيه : تمايل واختال وتبختر - لأنه لا يفعله إلا عال في نفسه مع أنه كله من الميل ، وعال في الأرض : ذهب أي علا عليها مشياً ، والذكر من الضباع عيلان ، والعيل محركة : عرضك حديثك وكلامك على من لا يريده وليس من شأنه - كأنه لم يهتد لمن يريده فعرضه على من لا يريده ، فهو يرجع إلى الحاجة المزيلة للعلو ؛ وليعة الجوع - بالفتح : حرقته - كما تقدم في اللوعة ، ولعت - بالكسر : ضجرت ، كأنه من الإزالة ، أو أن العلو للأمر المتضجر منه ، والملياع - علاها ، والملياع : التي تقدم الإبل سابقة ثم ترجع إليها ، وريح لياع - بالكسر : شديدة ، وقد وضح بذلك صحة ما فسر به إمامنا الشافعي صريحاً ومطابقة - كما تقدم ، وشهد له(2/212)
صفحة رقم 213
العول في الحساب والسهام ، وهو كثرتها ، وظهر تحامل من رد ذلك وقال : إنه لا يقال في كثرة العيال إلا : عال يعيل ، وكم من عائب قولا صحيحً وكيف لا وهو من الأئمة المحتج بأقوالهم في اللغة ، وقد وافقه غيره وشهد لقوله الحديث الصحيح ؛ قال الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني الشافعي في كتابه البيان : ( ألا تعولوا ( قال الشافعي : معناه أن لا تكثر عيالكم ومن تمونونه ، وقيل : إن أكثر السلف قالوا : المعنى أن لا تجوروا ، يقال : عال يعول - إذا جار وأعال يعيل - إذا كثر عياله ؛ إلا زيد بن أسلم فإنه قال : معناه أن لا تكثر عيالكم ، وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يشهد لذلك ، قال : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) .
انتهى .
وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما عن حكيم بن حزام عن أبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ) وفي الباب أيضاً عن عمران بن حصين وأبي رمثة البلوي وأبي أمامة رضي الله عنهم ، وأثر زيد بن أسلم رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن أبي هلاك عنه ، قال : ( ذلك أدنى أن لا يكثر من يعولونه ) أفاده شيخنا بان حجر في تخريج أحاديث الرافعي وقال الإمام : إن تفسير الشافعي هو تفسير الجماعة ، عبر عنه بالكناية وهي ذكر الكثرة ، وأراد الميل لكون الكثرة ، لا تنفك عنه ، وقال ابن الزبير : لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه الصلاة والسلام من غير أب ولا أم ، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها - مع ذكر في صدرها - أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه كمثل آدم عليه الصلاة والسلام في عدم الافتقار إلى أب ، وعلم الموقنون من ذلك أنه تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه الصلاة والسلام ، فكأن سائر الحيوان لا يتوقف إلا على أم فقط ؛ أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهما الصلاة والسلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى : ( ياأيها الناس اتقوا(2/213)
صفحة رقم 214
ربكم ( إلى قوله : ( وبث منهما رحالاً كثيراً ونساء ( ثم أعلم تعالى كيفية النكاح المجعول سبباً في التناسل وما يتعلق به ، وبين حكام الأرحام والمواريث فتضمنت السورة ابتداء الأمر وانتهاءه ، فأعلمنا بكيفية التناكح وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض وكيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق ، وبين لنا ما ينكح وما أبيح من العدد وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث ، فصل ذلك كله إلا الطلاق .
لأن أحكامه تقدمت ، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت المكتوب علينا ، وناسب هذا المقصود من التواصل والألفة ما افتتحت به السورة من قوله تعالى : ( ) الذي خلقكم من نفس واحدة ( ) [ النساء : 1 ] ، فافتتحها بالالتئام والوصلة ولهذا خصت م حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والمعدلة إبقاء لذلك التواصل فلم يكن الطلاق ليناسب هذا ، فلم يقع له هنا ذكر إلا إيماء ) ) وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ( ) [ النساء : 13 ] ولكثرة ما يعرض من رعي حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة - ويدق ذلك ويغمض - تكرر كثيراً في هذه السورة الأمر بالاتقاء ، وبه افتتحت ) ) اتقوا ربكم ( ) [ النساء : 1 ] ، ) ) واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام ( ) [ النساء : 1 ] ، و ) ) ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ( ) [ النساء : 131 ] ، ثم حذروا من حال من صمم على الكفر وحال اليهود والنصارى والنمافقين وذوي التقلب في الأديان بعد أذن اليقين ، وكل ذلك تأكيد لما أمروا به من الاتقاء ، والتحمت الآيات إلى الختم بالكلالة من المواريث المتقدمة - انتهى .
النساء : ( 4 - 6 ) وآتوا النساء صدقاتهن. .. . .
) وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ( ( )
ولما حذروا من القول الذي من مدلوله المحاجة عن كثرة النساء ؛ كان ربما تعلق به من يبخل عن بعض الحقوق ، لا يما يستكثره من الصداق ، فأتبعه ما ينفي ذلك ، فقال - مخاطباً للأزواج ، لأن السياق لهم ، معبراً بما يصلح للدفع والالتزام المهيء له : ( وآتوا النساء ) أي عامة من اليتامى وغيرهن ) صدقاتهن ( ، وقوله مؤكداً للإيتاء بمصدر من معناه : ( نحلة ( مؤيد لذلك ، لأن معناها : عطية عن طيب نفس ؛ قال الإمام أبو عبد(2/214)
صفحة رقم 215
الله القزاز في ديوانه : وأصله - أي النحل : إعطاء الشيء لا يراد به عوض وكذا إن قلنا : معنى النحلة الديانة والملة الشرعة والمذهب ، أي آتوهن ذلك ديانة .
ولما وقع الأمر بذلك كان ربما أبى المتخلق بالإسلام قبول ما تسمح به المرأة منه بإبراء أو رد على سبيل الهبة - لظنه أن ذلك لا يجوز أن غير ذلك فقال : ( فإن طبن لكم ) أي متجاوزات ) عن شيء ( ووحّد الضمير ليرجع إلى الصداق المفهوم من الصدقات ، ولم يقل : منها ، لئلا يظن أن الموهوب لا يجوز إلا إن كان صداقاً كاملاً فقال : ( منه ) أي الصداق ) نفساً ) أي عن شهوة صادقة من غير إكراه ولا خديعة ) فكلوه ) أي تصرفوا فيه بكل تصرف يخصكم ) هنيئاً ) أي سائغاً صالحاً لذيذاً في عافية بلا مشقة ولا مضرة ) مرئياً ) أي جيد المغبة بهجا ساراً ، لا تنغيص فيه ، وربما كان ابتعيض ندباً إلى التعفف عن قبول الكل ، لأنه في الغالب لا يكون إلا عن خداع أو ضجر فربما أعقب الندم ، وهذا الكلام يدل أيضاً على تخصيص الأحرار دون العبيد ، لأنهم لا يملكون ماجعلته النساء لهم ليأكلوه هنيئاً .
قال الأصبهاني : فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة علم أنها لم تطب نفسها ، وعن الشعبي ان رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع ، فقال شريح : رد عليها ، فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى :
77 ( ) فإن طبن لكم ( ) 7
[ النساء : 4 ] قال : لو طابت نفسها لما رجعت فيه ؛ وعنه قال : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله ، لأنهن يخدعن .
ولما أمر بدفع أموال اليتامى والنساء إليهم ، ونهى عن أكل شيء منها تزهيداً في المال واستهانة به ، وكان في النساء والمحاجير من الأيتام وغيرهم سفهاء ، وأمر بالاقتصاد في المعيشة حذراً من الظلم والحاجة نهى عن التبذير ، وقد حث سبحانه على حسن رعاية المال في غير آية من كتابه لأنه ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص رفعه ؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل ما يهمه من الدنيا ، وما لم يتمكن من تحصيل ما يهمه من الدنيا لا يمكنه أمر الآخرة ، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة ما يكفيه من المال - لأنه لا يتمكن في هذه الدار التي مبناها على الأسباب من جلب المنافع ودفع المضار إلا به ، فمن أراده لهذا الغرض كان من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرين ، ومن أراد لنفسه كان من أعظم المعوقات عن سعادة الآخرة فقال تعالى : ( ولا تؤتوا ( أيها الأزواج والأولياء ) السفهاء ) أي من محاجيركم ونسائكم وغيرهم ) أموالكم ) أي الأموال التي خلقها الله لعباده سواء كانت مختصة بكم أو بهم ، ولكم بهم ، ولكم بها علقة بولاية أو غيرها ، فإنه(2/215)
صفحة رقم 216
يجب عليكم حفظها ) التي جعل الله ) أي الذي له الإحاطة بالعلم الشامل والقدرة التامة ) لكم قياما ) أي ملاكاً وعماداً تقوم بها أحوالكم ، فيكون ذلك سبباً لضياعها ، فضياعها سبب لضياعكم ، فهو من تسمية السبب باسم المسبب للمبالغة ، في سببيته ) وارزقوهم ( متجرين ) فيها ( وعبر بالظرف إشارة إلى الاقتصاد واستثمار الأموال حتى لا تزال موضعاً للفضل ، حتى تكون النفقة والكسوة من الربح لا من رأس المال ) واكسوهم ) أي فإن ذلك ليس من المنهيّ عنه ، بل هو من معالي الأخلاق ومحاسن الأعمال ) وقولوا لهم ) أي مع ذلك ) قولاً معروفاً ) أي في الشرع والعقل كالعدة الحسنة ونحوها ، وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته من قول أو عمل وليس مخالفاً للشرع فهو معروف ، فإن ذلك ربما كان أنفع في كثير من الإعطاء وأقطع للشر ؛ والحجر على السفيه مندرج في هذه الآية ، لأن ترك الحجر عليه من الإيتاء المنهي عنه .
ولما نهي عن ذلك البذل للسفهاء أيتاماً كانا أو غيرهم ، بين أنه ليس دائماً بل ما دام السفه قائماً ، فمست الحاجة إلى التعريف بمن يعطي ومن يمنع وكيف عند الدفع ، ولما كان السفه أمراً باطناً لا يعرف إلا بالتصرف ولا سيما في المال ؛ بدأ سبحانه بتعليم ما يتوصلون به إلأى معرفته فقال مصرحاً بالأيتام اهتماماً بأمرهم : ( وابتلوا اليتامى ) أي اختبروهم في أمر الرشد في الدين والمال في مدة مراهقتهم واجعلوا ذلك دأبكم ) حتى إذا بلغوا النكاح ) أي وقت الحاجة إليه بالاحتلام أو السن ) فإن آنستم ) أي علمتم علماً أنتم في عظيم تيقنه كأنكم تبصرونه على وجه تحبونه وتطيب أنفسكم به ) منهم ) أي عند بلوغه ) رشداً ) أي بذلك التصرف ، ونكره لأن وجود كمال الرشد في أحد يعز وقوعه ) فادفعوا إليهم أموالهم ) أي لزوال الحاجة إلى الحجر بخوف التبذير ، وأضافها إليهم بعد إضافتها أولاً إلى المعطين إشارة إلى أنه لا يستحقها إلا من يحسن التصرف فيها .
ولما كان الإنسان مجبولاً على نقائص منها الطمع وعدم الشبع لا سيما إذا خالط ، لا سيما إن حصل له إذن ما ؛ أدبه سبحانه بقوله : ( ولا تأكلوها ) أي بعلة استحقاقكم لذلك بالعمل فيها ) إسرافاً ) أي مسرفين بالخروج عن القصد في التصرف ووضع الشيء في غير موضعه وإغفال العدل والشفقة ) وبداراً ) أي مبادرين ) أن يكبروا ) أي فيأخذوها منكم عند كبرهم فيفوتكم الانتفاع بها ، وكأنه عطف بالواو الدالة على تمكن الوصف وتمامه إشارة إلى عدم المؤاخذة بما يعجز عنه الإنسان المجبول على النقصان مما يجري في الأفعال مجرى الوسوسة في الأقوال
77 ( ) ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ( ) 7(2/216)
صفحة رقم 217
ولما أشعر النهي عن أكل الكل بأن لهم في الأكل في الجملة علة مقبولة ، أفصح به في قوله : ( ومن كان ) أي منكم أيها الأولياء ) غنياً فليستعفف ) أي يطلب العفة ويوجدها ويظهرها عن الأكل منها جملة ، فيعف عنه بما بسط الله له من رزقه ) ومن كان فقيراً ( وهو يتعهد مال اليتيم لإصلاحه ، ولما كان يخشى من امتناعه من الأكل منه التفريط فيه بالاشتغال بما يهمه في نفسه ، أخرج الكلام في صيغة الأمر فقال معبراً بالأكل لأنه معظم المقصود : ( فليأكل بالمعروف ) أي بقدر أجرة سعيه .
ولما كان ذلك ربما أفهم الأمان إلى الرشد بكل اعتبار ، أمر بالحزم - كما في الطبراني الأوسط عن أنس ) ) احترسوا من الناس بسوء الظن ( ( - فقال : ( فإذا دفعتم إليهم ) أي اليتامى ) أموالهم ) أي التي كانت تحت أيديكم لعجزهم عن حفظها ) فأشهدوا عليهم ) أي احتياطاً لأن الأحوال تتبدل ، والرشد يتفاوت ، فالإشهاد أقطع للشر ، وأنفع في كل أمر ، والأمر بالإشهاد أزجر للولي عن الخيانة ، لأن من عرف أنه لا يقبل عند الخصام إلا ببينة عف غاية العفة ، واحترز غاية الاحتراز .
ولما كانت الأموال مظنة لميل النفوس ، وكان الحب للشيء يعمي ويصم ؛ ختم الآية بقوله : ( وكفى بالله ) أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الباهرة والعظمة التي لا مثل لها ، والباء في مثل هذا تأكيد لأن ما قرنت به هو الفاعل حقيقة لا مجازاً - كما إذا أمرنا بالفعل مثلاً ) حسيباً ) أي محاسباً بليغاً في الحساب ، فهو أبلغ تحذيراً لهم وللأيتام من الخيانة والتعدي ومدّ العين إلى حق الغير .
النساء : ( 7 - 8 ) للرجال نصيب مما. .. . .
) لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ( ( )
ولما ذكر أموال التيامى على حسب ما دعت إليه الحاجة واقتضاه التناسب إلى أن ختم بهذه الآية ، كان كائناً سائلاً سأل : من أين تكون أموالهم ؛ فبين ذلك بطريق الإجمال بقوله تعالى : ( للرجال ) أي الذكور من أولاد الميت وأقربائه ، ولعله عبر بذلك دون الذكور لأنهم كانوا لا يورثون الصغار ، ويخصون الإرث بما عمر الديار ، فنبه سبحانه على أن العلة النطفة ) نصيب ) أي منهم معلوم ) مما ترك الوالدان والأقربون ( ولما كانوا لا يورثون النساء قال : ( وللنساء ( ولقصد التصريح للتأكيد قال(2/217)
صفحة رقم 218
موضع ( مما تركوا ) : ( مما ترك الوالدان والأقربون ( مشيراً إلى أنه لا فرق لينهم وبين الرجال في القرب الذي هو سبب الإرث ، ثم زاد الأمر تأكيداً وتصريحاً بقوله إبدالاً مما قبله بتكرير العامل : ( مما قل منه أو كثر ( ثم عرف بأن ذلك على وجه الحتم الذي لا بد منه ، فقال مبيناً للاعتناء به بقطعه عن الأول بالنصب على الاختصاص بتقدير أعني : ( نصيباً مفروضاً ) أي مقدراً واجباً مبيناً ، وهذا الآية مجملة بينتها آية المواريث ، وبالآية علم أنها خاصة بالعصبات من التعبير بالفرض لأن الإجماع - كما نقله الأصبهاني عن الرازي - على أنه ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر .
ولما بين المفروض أتبعه المندوب فقال تعالى : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى ) أي ممن لا يرث صغاراً أو كباراً ) واليتامى والمساكين ) أي قرباء أو غرباء ) فارزقوهم منه ) أي المتروك ، وهو أمر ندب لتطييب قلوبهم ، وقرينة صرفه عن الوجوب ترك التحديد ) وقولوا لهم ) أي مع الإعطاء ) قولاً معروفاً ) أي حسناً سائغاً في الشرع مقبولاً تطيب به نفوسهم .
النساء : ( 9 - 10 ) وليخش الذين لو. .. . .
) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( ( )
ولما أعاد الوصية باليتامى مرةبعد أخرى ، وختم بالأمر بالإنة القول ، وكان للتصوير في التأثير في النفس ما ليس لغيره ؛ أعاد الوصية بهم لضعفهم مصوراً لحالهم مبنياً أن القول المعروف هو الصواب الذي لا خلل فيه فقال : ( وليخش ) أي يوقع الخشية على ذرية غيرهم ) الذين ( وذكر لهم حالاً هو جدير فيه فقال : ( لو تركوا ) أي شارفوا الترك بموت أو هرم ، وصوّر حالهم وحققه بقوله : ( من خلفهم ) أي بعد موتهم أن عجزهم العجز الذي هو كموتهم ) ذرية ) أي أولاداً من ذكور أو إناث ) ضعفاً ) أي لصغر أو غيره ) خافوا عليهم ) أي جور الجائرين .
ولما تسبب عن ذلك التصوير في أنفسهم خوفهم على ذرية غيرهم كما يخافون على ذريتهم سواء كانوا أوصياء أو أولياء أو أجانب ، وكان هذا الخوف ربما أداهم في قصد نفعهم إلى جور على غيرهم ؛ أمر بما يحفظهم على الصراط السوي بقوله : ( فليتقوا ( وعبر بالاسم الأعظم إرشاداً إلى استحضار جميع عظمته فقال : ( الله ) أي فليعدلوا في أمرهم ليقيِّض الله لهم من يعدل في ذريتهم ، وإلا أوشك أن يسلط على ذريتهم من يجور عليهم ) وليقولوا ) أي في ذلك وغيره ) قولاً سديداً ) أي عدلاً قاصداً صواباً ، ليدل هذا الظاهر على صلاح ما أتمره من الباطن(2/218)
صفحة رقم 219
ولما طال التحذير والزجر والتهويل في شأن اليتامى ، وكان ذلك ربما أوجب النفرة من مخالطتهم رأساً فتضيع مصالحم ؛ وصل بذلك ما يبن أن لك خاص بالظالم في سياق موجب لزيادة التحذير فقال مؤكداً لما كان قد رسخ في نفوسهم من الاستهانة بأموالهم : ( إن الذين ( ولما كان الأكل أعظم مقاصد الإنسان عبر به عن جميع الأغراض فقال : ( يأكلون أموال اليتامى ظلماَ ) أي أكلاً هو في غير موضعه بغير دليل يدل عليه ، فهو كفعل من يمشي في الظلام ، ثم أتبعه ما زاده تأكيداً بالتحذير في سياق يدخلونها بأنفسهم : ( وسيصلون ) أي في الآخرة - بوعيد حتم لا خلف فيه ) سعيراً ) أي عظيماً هو نهاية في العظمة ، وذلك هو معنى ابن عامر وعاصم بالبناء للمجهول ، أي يجلئهم إلى صليها مجلىء قاهر لا يقدرون على نوع دفاع له .
النساء : ( 11 ) يوصيكم الله في. .. . .
) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ( ( )
ولما تم ذلك تشوفت النفوس إلى بيان مقادير الاستحقاق بالإرث لكل واحد ، وكان قد تقدم ذكر استحقاق الرجال والنساء من غير تقييد يتيم ، فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث ، وشفاء العليل بإيضاح أمرها ، فقال - مستأنفاً في جواب من كأنه سأل عن ذلك مؤكداً لما أمر به منها غاية التأكيد مشيراً إلى عظمة هذا العلم بالتقدم في الإيصاء في أول آياته ، والتحذير من الضلال في آخرها ، ورغب فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه نصف العلم ، وحذر من إضاعته بأنه أول علم ينزع من الأمة : ( يوصيكم الله ) أي بما له من العظمة الكاملة والحكمة البالغة ، وبدأ بالأولاد لأن تعلق الإنسان بهم أشد فقال : ( في أولادكم ) أي إذا مات مورثهم .
ولما كان هذا مجملاً كان بحيث يطلب تفسيره ، فقال جواباً لذلك بادئاً بالأشرف بياناً لفضله بالتقديم وجعله أصلاً والتفضيل : ( للذكر ) أي منهم إذا كان معه شيء من(2/219)
صفحة رقم 220
الإناث ، ولم يمنعه مانع من قتل ولا مخالفة دين ونحوه ) مثل حظ الأنثيين ) أي نصيب من شأنه أن يغني ويسعد ، وهو الثلثان ، إذا انفردتا فللواحدة معه الثلث ، فأثبت سبحانه للإناث حظاً تغليظاَ لهم من منعهن مطلقاً ، ونقصهن عن نصيب الرجال تعريضاً بأنهم أصابوا في نفس الحكم بانزالهن عن درجة الرجال .
ولما بان سهم الذكر مع الأنثى بعبارة النص ، واشعر ذلك بأن لهن إرثاً في الجملة وعند الاجتماع مع الذكر ، وفُهم بحسب إشارة النص وهي ما ثبت بنظمه ، لكنه غير مقصود ، ولا سبق له النص - حكم الأنثيين إذا لم يكن معهن ذكر ، وهو أن لهما الثلثين ، وكان ذلك أيضاً مفهماً لأن الواحدة غذا كان لها مع الأخ الثلث كان لها ذلك مع الأخت إذا لم يكن ثمَّ ذكر من باب الأولى ، فاقتضى ذلك أنهن إذا كن ثلاثاً أو أكثر ليس معهم ذكر استغرقن التركة ، وإن كانت واحدة ليس معها ذكر لم تزد على الثلث ؛ بين أن الأمر ليس كذلك - كما تقدم - بقوله مبيناً إرثهن حال الانفراد : ( فإن كن ) أي الوارثات ) نساء ) أي إناثاً .
ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع ، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله : ( فوق اثنتين ) أي لا ذكر معهن ) فلهن ثلثا ما ترك ) أي الميت ، لا أزيد من الثلثين ) وإن كانت ) أي الوارثة ) واحدة ) أي منفردة ، ليس معها غيرها ) فلها النصف ) أي فقط .
ولما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم إذا كانوا صغاراً ، وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد وأحقهم بصلته وأشدهم اتصالاً به أتبعه حكمه فقال : ( ولأبويه ) أي الميت ، ثم فصل بعد أن أجمل ليكون الكلام آكد ، ويكون سامعه إليه أشوق بقوله مبدلاً بتكرير العامل : ( لكل واحد منهما ) أي أبيه وأمه اللذين ثنيا بأبوين ) السدس مما ترك ( ثم بين شرط ذلك فقال : ( إن كان له ) أي الميت ) ولد ) أي ذكر ، فإن كانت أنثى أخذ الأب السدس فرضاً ، والباقي بعد الفروض حق عصوبة .
ولما بين حكمهما مع الأولاد تلاه بحالة فقدهم فقال : ( فإن لم يكن له ولد ) أي ذكر ولا أنثى ) وورثه أبواه ) أي فقط ) فلأمه الثلث ) أي وللأب الباقي لأن الفرض أنه لا وارث له غيرهما ، ولما كان التقدير : هذا مع فقد الإخوة أيضاً ، بني عليه قوله : ( فإن كان له إخوة ) أي اثنان فصاعدا ذكوراً أو لا ، مع فقد الأولاد ) فلأمه السدس ) أي لأن الإخوة ينقصونها عن الثلث إليه ، والباقي للأب ، ولا شيء لهم ، وأما الأخت الواحدة فإنها لا تنقصها إلى السدس سواء كانت وارثة أو لا ، وكذا الأخ إذا كان واحداً ، ثم بين أن هذا كله بعد إخراج الوصية والدين لأن ذلك سبق فيه حق الميت الذي جمع المال(2/220)
صفحة رقم 221
فقال : ( من بعد وصية يوصي بها ) أي كما مندوب لكل ميت ، وقدمها في الوضع على ما هو مقدم عليها في الشرع بعثاً على أدائها ، لأن أنفس الورثة تشح بها ، لكونها مثل مشاركتهم في الإرث لأنها بلا عوض ) أو دين ) أي إن كان عليه دين ولما كان الإنسان قد يرى أن بعض أقربائه من أصوله أو فصوله أو غيرهم أنفع له ، فأحب تفضيله فتعدى هذه الحدود لما رآه ، وكان ما رآه خلاف الحق في الحال أو في المآل ، وكان الله تعالى هو المستأثر بعلم ذلك ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماَ ما ) الحديث : لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبها كيف شاء ؛ قال تعالى حاثاً على لزوم ما حده مؤكداً بالجملة الاعتراضية - كما هو الشأن في اعتراض - لأن هذه القسمة مخالفة لما كانت العرب تفعله ، وهي على وجوه لاتدرك عللها : ( أبآؤكم وأبنآؤكم ) أي الذين فضلنا لكم إرثهم على ما ذكرنا ) لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً ) أي من غيره ، لأنه لا إحاطة لكم في علم ولا قدرة ، فلو وكل الأمر في القسمة إليكم لما وضعتم الأمور في أحكم مواضعها .
ولما بين أن الإرث على ما حده سبحانه وتعالى مؤكداً له بلفظ الوصية ، وزاده تأكيداً بما جعله اعتراضاً بين الإيصاء وبين ( فريضة ) بين أنه على سبيل الحتم الذي من تركه عصى ، فقال ذاكراً مصدراً مأخوذاَ من معنى الكلام : ( فريضة من الله ) أي الذي له الأمر كله ، ثم زادهم حثاً على ذلك ورغبة فيه بقوله تعليلاً لفريضته عليهم مطلقاً وعلى هذا الوجه : ( إن الله ) أي المحيط علماً وقدرة ) كان ( ولم يزل ولا يزال لأن وجود لا يتفاوت في وقت من الأوقات ، لأنه لا يجري عليه زمان ، ولا يحويه مكان ، لأنه خالقهما ) عليماً ) أي بالعواقب ) حكيماً ) أي فوضع لكم هذه الأحكام على غاية الإحكام في جلب المنافع لكم ودفع الضر عنكم ، ورتبها سبحانه وتعالى أحسن ترتيب ، فإن الوارث يتصل بالميت تارة بواسطة وهو الكلالة ، وأخرى بلا واسطة ، وهذا تارة يكون بنسب ، وتارة بصهر ونسب ، فقدم ما هو بلا واسطة لشدة قربه ، وبدأ منه بالنسب لقوته ، وبدأ منهم بالولد لمزيد الاعتناء به .(2/221)
صفحة رقم 222
النساء : ( 12 ) ولكم نصف ما. .. . .
) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( ( )
ولما كان الإرث بالمصاهرة أضعف من الإرث بالقرابة ذكره بعده ، وقدمه على الإرث بقرابة الأخوة تعريفاً بالاهتمام به ولأنه بلا واسطة ، وقدم منه الرجل لأنه أفضل فقال : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم ( وبين شرط هذا بقوله : ( إن لم يكن لهن ولد ) أي منكم أو من غيركم ، ثم بين الحكم على التقدير الآخر فقال : ( فإن كان لهن ولد ) أي وارث وإن سفل سواء كان ابناً أو بنتاً ) فلكم الربع مما تركن ) أي تركت كل واحدة منهن ، ويغسلها الزوج لأن الله أضافها إليه باسم الزوجية ، والأصل الحقيقة ، ولا يضر حرمة جماعها بعد الموت وحلُّ نكاح أختها وأربع سواها ، لأن ذلك لفقد المقتضي أو المانع وهو الحياة ، وذلك لا يمنع علقة النكاح المبيح للغسل - كما لم يمنعها لأجل العدة لو كان الفراق بالطلاق ، ثم كرر حكم الوصية اهتماماً بشأنها فقال : ( من بعد وصية يوصين بها ) أي الأزواج أو بعضهن ، ولعله جمع إشارة إلى أن الوصية أمر عظيم ينبغي أن يكون مستحضراً في الذهن غير مغفول عنه عند أحد من الناس ) أو دين ( ولما بين إرث الرجل أتبعه إرثها فقال معلماً أنه على النصف مما للزوج - كما مضى في الأولاد - : ( ولهن ) أي عدداً كن أو لا ) الربع مما تركتم ) أي يشتركن فيه على السواء إن كن عدداً ، وتنفرد به الواحدة إن لم يكن غيرها ، ثم بين شرطه بقوله : ( إن لم يكن لكم ولداً ( ثم بين حكم القسم الآخر بقوله : ( فإن كان لكم ولد ) أي وارث ) فلهن الثمن مما تركتم ( كما تقدم في الربع ، ثم كرر الخروج عن حق الموروث فقال : ( من بعد وصية توصون بها أو دين ( ولما فرغ من قسمي ما اتصل بالميت بلا واسطة أتبعه الثالث وهو ما اتصل بواسطة ، ولما كان قسمين ، لأنه تارة يتصل من جهة الأم فقط وهم الأخياف ، أمهم واحدة وآباؤهم شتى ، وتارة من جهة الأب فقط وهم العلات ، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى ، وتارة من جهة الأبوين وهم الأعيان ، وكانت قرابة الأخوة أضعف من قرابة(2/222)
صفحة رقم 223
البنوة ؛ أكدها بما يقتضيه حالها ، فجعلها في قصتين ، ذكر إحداهما هنا إدخالاً لها في حكم الوصية المفروضة ، وختم بالأخرى السورة لأن الختام من مظنات الاهتمام .
ولما كانت قرابة الأم أضعف من قرابة الأب قدمها هنا دلالة على الاهتمام بشأنها ، وأن ما كانوا يفعلونه من حرمان الإناث خطأ وجور عن منهاج العدل ، فقال تعالى : ( وإن كان ) أي وجد ) رجل يورث ( ي من ورث حال كونه ) كلالة ) أي ذا حالة لا ولد له فيها ولا والد ، أو يكون يورث من : أورث - بمعنى أن إرث الوارث بواسطة من مات كذلك : لا هو ولد للميت ولا والد ، ووارثه أيضاً كلالة لأنه ليس بوالد ولا ولد ، فالمورث كلالة وارثه ، والوارث كلالة مورثة ؛ قال الأصبهاني : رجل كلالة ، وامرأة كلالة ، وقوم كلالة ، لا يثنى ولا يجمع ، لأنه مصدر كالدلالة والوكالة ، وهو بمعنى الكلال ، وهو ذهاب القوة من الإعياء ، وقد تطلق الكلالة عل القرابة من غير جهة الولد والوالد ، ومنه قولهم : ما ورث المجد عن كلالة ) أو ( وجدت ) امرأة ) أي تورث كذلك ، ويجوز أن يكون ( يورث ) صفة ، و ( كلالة ) خبر كان ) وله ( خبر كان ) وله ) أي للمذكور وهو الموروث على أي الحالتين كان .
ولما كانت الإدلاء بمحض الأنوثة يستوي الذكر والأنثى لضعفها قال ) أخ أو أخت ) أي من الأم بإجماع المفسرين ، وهي قراءة أبي وسعد بن مالك رضي الله عنهما ) فلكل واحد منهما السدس ) أي ممن تركته ، من غير فضل للذكر على الأنثى. ولما أفهم ذلك ، أي بتحويل العارة المذكورة من أن يقال : فله السدس أنهما إن كانا معا كان لهما الثلث ، وكان ذلك قد يفهم أنه إن زاد الإرث عن الثلث نفاه بقوله ) فإن كانوا ) أي ما أفهمه ( أخ أو أخت ) من الوارث منهم ) أكثر من ذلك ) أي واحد ، كيق كانوا ( فهم شركاء ) أي بالسزية ) في الثلث ) أي المجتمع من السدسين اللذين تقدم أنهما بينهما ، لا يزادون على ذلك شيئا ، ثم كرر الحث على مصلحة الميت بيانا للاهتمام بها فقال ) من بعد وصية يوصين بها أو دين (
ولكا كان الميت قد يضار ورثته ، أو بعضهم بشيء يخرجه عنهم ظاهرا أو باطنا كأن يقر بماله لأجنبي ، أو بدين لا حقيقة به ، أو بدين كان له بأنه استوفاه ، ختم الآية بالزجر عن ذلك بقوله ) غير مضار ( مع ما تقدم من الإشارة إلى ذلك أول القصة بقول ) لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) [ النساء : 11 ] قال الأصبهاني : والإضرار في الوصية من الكبائر ، ثنم أكد ذلك بقوله مصدرا ليوصيكم ) وصية من الله ) أي الذي له الأمر كله مع تأكيده بجميع ما في الآيات تعظيما للأمر باكتناف الوصية بأولها وآخرها ، وهو دون الفريضة في حق الأولاد لأن حقهم أكد .(2/223)
صفحة رقم 224
ولما بين سبحانه الأصول وفصل النزاع ، وكان ذلك خلاف مألوفهم وكان الفطام عن المألوف في الذروة من المشقة ، اقتضى الحال الوعظ بالترغيب والترهيب ، فختم القصة بقوله : ( والله ) أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال ، وللإشارة إلأى عظيم الوصية كرر هذا الاسم الأعظم في جميع القصة ، ثم قال ) عليم ) أي فلا يخفى عليه أمر من خالف بقول أو فعل ، نية أو غيرها ) عليم ( فهو من شأنه أن لا يعاجل بالعقوبة فلا يعتر بإمهاله ، فإنه أخذ بعد طول الأناة لم يفلت فاحذروا غضب الحليم وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة .
النساء : ( 13 - 15 ) تلك حدود الله. .. . .
) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( ( )
ولما كان فطم أنفسهم عن منع الأطفال والنساء شديداً عليهم لمرونهم عليه بمرور الدهور الطويلة على إطباقهم على فعله واستحسانهم له أتبعه سبحانه الترغيب والترهيب لئلا يغتر بوصف الحليم ، فقال معظماً للأمر بأداة البعد ومشيراً إلى جميع ما تقدم من أمر المواريث والنساء واليتامى وغيره : ( تلك ) أي هذه الحدود الجليلة النفع العظيمة الجدوى المذكورة من أول هذه السورة ، بل من أول القرآن ) حدود الله ) أي الملك الأعظم ، فمن راعاها - ولو لم يقصد طاعته ، بل رفعاً لنفسه عن دناءة الإخلاد إلى الفاني ومعرة الاستئثار على الضعيف المنبىء عن البخل وسفول الهمة - نال خيراً كبيراً ، فإنه يوشك أن يجره ذلك إلى أن يكون ممن يطيع الله ) ومن يطع الله ( الحائز لصفتي الجلال والإكرام ) ورسوله ) أي في جميع طاعاته هذه وغيرها ، بالإقبال عليها وترك ما سواها لأجله سبحانه ؛ قال الأصبهاني : ( من ) عام ووقوعه عقيب هذه التكاليف الخاصة لا يخصصه. ولما تشوف السامع بكلتيه إلأى الخبر التفت إليه تعظيما للأمر على قراءة نافع وابن عامر بالنون فقال ) ندخله جنات ) أي بساتين ، وقراءة الجماعة بالياء عظيمة أيضا لبنائها على الأسم الأعظم وإن كانت هذه أشد تنشيطات بلذة الالتفات ) تجري من تحتها الأنهار ) أي لأن أرضها معدن المياه ، ففي أي موضع أردت جرى نهر ، فهي لا تزال يانعة غضة ، وجمع الفائزين بدخول الجنة في قوله ) خالدين فيها ( تبشيرا بكثرة الواقف عند هذه الحدود ، ولأن منادمة الإخوان من أعلى نعيم الجنان .(2/224)
صفحة رقم 225
ولما كان اختصاصهم بالإرث عن النساء والأطفال من الفوز عندهم ، بل لم يكن الفوز العظيم عندهم إلا الاحتواء على الأموال وبلوغ ما في البال منها من الآمال قال تعالى معظماً بأداة البعد : ( وذلك ) أي الأمر العالي المرتبة من الطاعة المندوب إليها ) الفوز العظيم ) أي لا غيره من الاحتواء على ما لم يأذن به الله ، وهذا أنسب شيء لتقديم الترغيب لتسمح نفوسهم بترك ما كانوا فيه مع ما فيه من التلطف بهذه الأمة والتبشير له ( صلى الله عليه وسلم ) بأنها مطيعة راشدة .
ولما أشربت القلوب الصافية ذوات الهمم العالية حب نيل هذا الفوز أتبع الترهيب فطماً لها عن تلك الفوائد بالكلية فقال : ( ومن يعص الله ) أي الذي له العظمة كلها ) ورسله ) أي في ذلك وغيره ) ويتعد حدوده ) أي التي حدها في هذه الأحكام وغيرها ، وأفرد العاصي في النيران في قوله : ( يدخله ناراً خالداً فيها ( لأن الانفراد المقتضي للوحشة من العذاب والهوان ، ولما كان منعهم للنساء والأطفال من الإرث استهانة بهم ختم الآية بقوله : ( وله عذاب مهين ( ولما تقدم سبحانه في الإيصاء بالنساء ، وكان الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب ، وارة يكون بالزجر والعتاب ، لأن مدار الشرائع على العدل والإنصاف ، والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط ، وختم سبحانه بإهانة العاصي إحساناً إليه بكفه عن الفساد ، لئلا يلقيه ذلك إلى الهلاك أبد الآباد ، وكان من أفحش العصيان الزنى ، وكان الفساد في النساء أكثر ، والفتنة بهن أكبر ، والضرر منهن أخطر ، وقد يدخلن على الرجال من يرث منهم من غير أولادهم ؛ قدمهن فيه اهتماماً بزجرهن فقال : ( واللاتي ( وهو جمع ( التي ) ولعله عبر فيهن بالجمع إشارة إلى كثرتهن - كما أشار إلى ذلك ) مثنى وثلاث ورباع ) [ النساء : 3 ] وإلى كثرة الفساد منهن ) يأتين ) أي يفعلن من إطلاق السبب على المسبب والتعبي ربع أبلغ ) الفاحشة ) أي الفعلة الشديدة الشناعة ، وفي الآية لأن من أعظم المرادات بنظمها عقب آيات الإرث وما تقدمها الاحتياط للنسب إشارة بذكر عقوبة الزانية من غير تعرض لأرص الولد الآتي منها إلأى أن الولد للفراش ، وأنه لا ينفي بالمظنة ، بل بعد التحقق على ما سورة النور ، لأنهع لا يلزم من وجود الزنى نفيه ، وكونه من الزنى ، قال أبو حيان في النهر : " الفقاحشة هنا الزنى بإجماع المفسرين إلا ما ذهب إليه مجاهد وتبعه أ [ و مسلم الأصفهاني من أنها لامساحقة ، ومن الرجال اللواط ، ثم بين الموصول بقوله ) من نسائكم ) أي الحرائر فاستشهدوا ) أي فأطلبوا أن تشهدوا ) عليهن أربعة ( من الرجال. ولما كان تعالى قد جعل هذه الأمة وسطا يقبلون على غيرهم ولا يقبل غيرهم(2/225)
صفحة رقم 226
عليهم قال ) منكم ) أي من عدول المسلمين بأنهن فعلنها ) فإن شهدوا ) أي بذلك ) فأمسكوهن ( أب فاحبسوهن ) في البيوت ) أي وامنعوهن من الخروج ، فإن ذلك أصون لهن ، وليستمر هذا المنع ) حتى يتوفاهن الموت ) أي يأتيهن هن وافيات الأعراض ) أو يجعل الله ( المحيط علمه وحكمته ) لهن سبيلا ) أي للخروج قبل الموت بتبين الحد أو بالنكاح ، وإن لم يشهدج الأربعة لم يفعل بهن ذلك وإن تحقق الفعل .
النساء : ( 16 - 18 ) واللذان يأتيانها منكم. .. . .
) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( ( )
ولما ذكر أمر النساء أتبعه حكم الرجال على وجه يعم النساء أيضاً فقال : ( والذان ( وهو تثنية ( الذي ) وشدد نونه ابن كثير تقوية له ليقرب من الأسماء المتمكنة ) يأتينها منكم ) أي من بكر أو ثيب ، أو رجل أو امرأة ، ويثبت ذلك بشهادة الأربعة .
كما تقدم ) فآذوهما ( وقد بين مجمل الأذى الصادق باللسان وغيره آية الجلد وسنة الرجم ) فإن تابا ) أي بالندم والإقلاع والعز على عدم العود ) وأصحا ) أي بالاستمرار على ما عزما عليه ، ومضت مدة علم فيها الصدق في ذلك ) فأعرضوا عنهما ) أي عن أذاهما ، وهو يدل على أن الأذى باللسان يستمر حتى يحصل الاستبراء ، ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) كان تواباً ) أي رجاعاً بمن رجع عن عصيانه إلى ما كان فيه من المنزلة ) رحيماً ) أي يخص من يشاء من عباده بالتوفيق لما يرضاه له ، فتخلقوا بفعله سبحانه وارحموا المذنبين إذا تابوا ، ولا يكن أذاكم لهم إلا اله ليرجعوا ، وليكن أكثر كلامكم لهم الوعظ بما يقبل بقلوبهم إلى ما ترضاه الإلهية ، ويؤيده أن المراد بهذا البكر والثيب من الرجال والنساء تفسير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله فيما رواه مسلم والأربعة والدارمي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ( قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) فالحديث مبين لما أجمل في الآية من ذكر السبيل .(2/226)
صفحة رقم 227
ولما ختم ذلك بذكر توبة الزناة ، وكان الحامل على الزنى - على ما يقتضيه الطبع البشري - شدة الشبق وقلة النظر في العواقب ، وكان ذلك إنما هو في الشباب ؛ وصل بذلك قوله تعالى معرفاً بوقت التوبة وشرطها مرغباً في تعجيلها مرهباً من تأخيرها : ( إنما التوبة ( وهي رجوع العبد عن المعصية اعتذاراً إلى الله تعالى ، والمراد هنا قبولها ، سماه باسمها لأنها بدون القبول لا نفع لها ، فكأنه لا حقيقة لها .
ولما شبه قبوله لها بالواجب من حيث إنه بها ، لأنه لا يبدل القول لديه ؛ عبر بحرف الاستعلاء المؤذن بالوجب حثاً عليها وترغيباً فيها فقال : ( على الله ) أي الجامع بصفات الكمال ) للذين يعملون السوء ( أيَّ سوء كان من فسق أو كفر ، وقال : ( بجهالة ( إشارة إلى شدة قبح العصيان ، لا سيما الزنى من المشايخ ، لإشعار السياق ترهيباً بأن الأمر فيهم ليس كذلك - كما صرح به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه البزار بإسناد جيد عن سلمان رضي الله عنه ( ثلاثة لا يدخلون الجنة : اليخ الزاني ، والإمام الكذاب ، والعائل المزهو ) وهو في مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر ) وهو عن كثير من الصحابة من طرق كثيرة ، وذلك لأن حضور الموت بالقوة القريبة من الفعل وإضعاف القوى الموهنة لداعية الشهوة قريب من حضوره بالفعل ، وذلك ينبغي أن يكون مذهباً لداعية الجهل ، ماحقاً لعرامة الشباب ، سواء قلنا : إن المراد بالجهالة ضد الحلم ، أو ضد العلم ؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي : قال أبو عبد الله - يعني القزاز : والجاهلية الجهلاء اسم وقع على أهل الشرك يكون مأخوذاً : استجهلت الريح الغصن - إذا حركته ، فكأن الجهل إنما هو حركة تخرج عن الحق والعلم - انتهى .
فالمعنى حينئذ : يعملون السوء ملتبسين بسفه أو بحركة أو بحركة وخفة(2/227)
صفحة رقم 228
أخرجتهم عن الحق والعلم فكانوا كأنهم لا يعلمون - بعملهم عمل أهل الجاهلية الذين لا يعلمون ، وزاد في التنفير من مواقعة السوء والتحذير بقوله : ( ثم يتوبون ) أي يجددون التوبة .
ولما كان المراد الترغيب فيها ولو قصر زمنها بمعاودة الذنب أثبت الجار فقال : ( من ) أي من بعض زمان ) قريب ) أي من زمن المعصية هم في فسحة من الأجل ، وذلك كناية عن عدم الإصرار إلى الموت ، ولعله عبر بثم إشارة إلى بُعد التوبة ولا سيما مع القرب ممن واقع المعصية ، لأن الغالب أن الإنسان إذا ارتبك في حبائلها لا يخلص إلا بعد عسر ، ولذلك أشار إلى تعظيمهم بأداة البعد في قوله - مسبباً عن توبتهم واعداً أنه فاعل ما أوجبه على نفس لا محالة من غير خلف وإن كان لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء : ( فأولئك ) أي العظيمو الرتبة الصادقو الإيمان ) يتوب الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) عليهم ) أي يردهم إلى ما كانوا فيه عندهم من مكانة القرب قبل مواقعة الذنب ) وكان الله ) أي المحيط علماً وقدرة ) عليماً ) أي بالصادقين في التوبة .
والكاذبين وبنياتهم ، فهو يعاملهم بحسب ما يقتضيه حالهم ) حكيماً ( فهو يضع الأشياء في أحكم محل لها ، فمهما فعله لم يمكن نقضه .
ولما بين بحسانه المقبول أتبعه المطرود فقال : ( وليست التوبة ) أي قبولها ) للذين يعملون السيئات ) أي واحده بعد أخرى مصرين عليها فسقة كانوا أو فكرة ، غير راجعين من قريب ، بل يمهلون ) حتى إذا حضر ( ولما كان تقديم المفعول - على وجه يجوّز كل سامع وقوعه عليه - أهول ، لكونه يصير مرتقباً حال فاعله ، خائفاً من عاقبته قال : ( أحدهم الموت ) أي بأن وصل إلى حد الغرغرة ، وهي حالة المعاينة ) قال ) أي بلسانه كفرعون ، أو قلبه ) إني تبت الآن ( فبين أن ما قبل الاحتضار قريب مع الترغيب في المسارعة جداً بالتعبير بقريب ) ولا الذين ) أي وليست التوبة للذين ) يموتون وهم كفار ( حقيقة أو مجازاً ، من غير أن يتوبوا ، ولا عند الغرغرة ، فسوى بين الفسق والكفر تنفيراً من الفسق لصعوبة النزع عنه بعد مواقعته ، ولذلك جمعهما في العذاب بقوله - جواباً لمن كأنه قال : فما جزاء هذين الصنفين : ( أولئك ) أي البعداء من الرحمة ، الذين لم يتوبوا إلا حال الغرغرة ، والذين ماتوا مصرين ) أعتدنا ) أي هيأنا وأحضرنا ) لهم عذاباً ( ولما كان تأخير التوبة لذة نفسانية ختم بقوله : ( أليماً ) أي نعذب به الكافرين ومن شئنا من عصاة المؤمنين ، لأن توبتهم في تلك الحالة عدم ، ولاميت من غير توبة من المؤمنين في المشيئة .(2/228)
صفحة رقم 229
النساء : ( 19 - 21 ) يا أيها الذين. .. . .
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ( ( )
ولما انقضى ما تخلل ذكر النساء الوالدات للوراث ، وختمه بهذا التهديد الهائل لمن فعل مالا يحل له ؛ وصل الكلام فيهن بأمر من فعله ، فهو زان مصر على الزنى إلى الموت إن اعتقد حرمته ، أو كافر إن اعتقد حله ، فقال مشيراً بتخصيص المؤمنين عقب ) ) ولا الذين يموتون وهم كفار ( ) [ النساء : 18 ] إلى أنه لا يرث كافر من مسلم ، وإلا لقال : يأيها الناس - مثلاً ، منفراً من ذلك بالتقييد بما هو لأدنى الإيمان : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي فوقعت بهم الإيمان عند زواجرنا ) لا يحل لكم أن ترثوا النساء ) أي مالهن ) كرهاً ) أي كارهين لهن ، لا حامل لكم على نكاحهن إلا رجاء الإرث ، وذلك أنهم كانوا ينكحون التيامى لمالهن ، وليس لهم فيهن رغبة إلا تربص الموت لأخذ مالهن ميراثاً - كما سيأتي في تفسير ) ) ويستفتونك في النساء ( ) [ النساء : 127 ] أو يكون الفعل واقعاً على نفس النساء ، ويكون ( كرهاً ) على هذا حالاً مؤكدة ، أي كارهات ، أو ذوات كره ، وذلك لأن الرجل كان إذا مات وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبة من عصبته فيلقي ثوبه عليها ، فيصير أحق بها من نفسها ومن غيرها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج ، يضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت ، أو تموت هي فيرثها ، وكان أهل المدينة على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت ، ففعل ابنه حصن هذا مع زوجة له ، فشكت ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأنزل الله هذه الآية ، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ؛ ( كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاؤوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، وهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك ) لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ( ) ولهذا أتبعه سبحانه قوله : ( ولا تعضلوهنَّ ) أي تمنعوهن من التزوج بعد طلاقكم لهن أو بعد موت أزواجهن ، أوتشددوا عليهن بالمضارة وهو في حبائلكم ؛ قال البيضاوي :(2/229)
صفحة رقم 230
وأصل العضل : التضييق ، يقال عضلت الدجاجة بيضها - انتهى .
والظاهر أن مدار مادته إنما هو على الاشتداد ، ومن عضلة الساق ، وهي اللحمة التي في باطنه ، ونقل عبد الحق أنها كل لحم اجتمع ، قال : وقال الخليل : كل لحمة اشتملت على عصبة - انتهى .
وتارة يكون الاشتداد ناظراً إلى المنع ، وتارة إلى الغلبة والضيق ، ثم علل ذلك بقوله : ( لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) أي أنتم إن كن أزواجاً لكم ، أو مورثوكم إن كن أزواجاً لهم وعضلتموهن بعدهم ، ليذهب ذلك بسبب إنفاقهم له على أنفسهن في زمن العضل ، أو بسبب افتدائهن لأنفسهن به منكم ، ثم استثنى من تحريم العضل في جميع الحالات فقال : ( إلا أن ) أي لا تفعلوا ذلك لعلة من العللل إلا لعلة أن ) يأتين بفاحشة ) أي فعلة زائدة القبح ) مبينة ) أي بالشهود الأربعة إن كانت زنى فاعضلوهن بالإمساك في البيوت - كما مضى - لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه ، أو بمن يقبل من الشهود إن كانت نشوزاً وسوء عشرة ، فلكم العضل حينئذ إلى الصلاح أو الافتداء بما تطيب به النفس ، والأنسب لسياق الأمر في ) وعاشروهن ( أن يكون ) تعضلونه ( منهياً ، لا معطوفاً على ( أن ترثوا ) ) بالمعروف ) أي من القول والفعل بالمبيت والنفقة والموادة قبل الإتيان بالفاحشة ) فإن ) أي إن كنتم لا تكرهونهن فالأمر واضح ، وإن ) كرهتموهن ( فلا تبادروا إلى المضاجرة أو المفارقة ، واصبروا عليهن نظراً لما هو الأصلح ، لا لمجرد الميل النفسي ، فإن الهوى شأنه أن لا يدعو إلى خير ثم دل على هذه العلة بقوله : ( فعسى ( ولوضوح دلالتها على ذلك صح جعلها جواباً للشرط ) أن تكرهوا شيئاً ) أي من الأزواج أو غيرها ، لم يقيده سبحانه تعميماً تتميماً للفائدة ) ويجعل الله ) أي المحيط علماً وقدرة ، وغيَّب بحكمته علمكم العواقب لئلا تسكنوا إلى مألوف ، أو تنفروا من مكروه ) فيه خيراً كثيراً ( ولما نهى عن العضل تسبباً إلى إذهاب بعض ما أعطيته المرأة أتبعه التصريح بالنهي عن أخذ شيء منه في غير الحالة التي أذن فيها في المضارة فقال : ( وإن ) أي إن لم تعضلوا المرأة ، بل ) أردتم استبدال زوج ) أي تنكحونها ) مكان زوج ) أي فارقتموها أو لا ، ولم يكن من قبلنا ما يبيح الضرار .
ولما كان المراد بزوج الجنس جمع في قوله : ( وآتيتم إحداهن ) أي إحدى النساء اللاتي وقع الإذن لكم في جمعهن في النكاح سواء كانت بدلاً أو مستبدلاً بها ) قنطاراً ) أي مالاً جماً ) فلا تأخذوا منه شيئاً ) أي بالمضارة عن غير طيب نفس منها ، ولا سبب مباح ، ثم عظم أخذه باستفهام إنكار وتوبيخ فقال : ( أتأخذونه ) أي على ذلك الوجه ، ولما تقدم أن من صور الغصب على الافتداء حال الإتيان بالفاحشة شبه الأخذ في هذه(2/230)
صفحة رقم 231
الحالة التي لا سبب لها بالأخذ في تلك الحالة ، فجعل الأخذ على هذه الصورة قائماً مقام القذف بما لا حقيقة له فلذلك قال : ( بهتاناً وإثماً مبيناً ( أ يكذوي بهتان في أخذه وإثم مبين - لكونه لا سبب له - يورث شبهة فيه ، ثم غلظ ذلك باستفهام آخر كذلك فقال : ( وكيف تأخذونه وقد ) أي والحال أنه قد ) أفضى ) أي بالملامسة ) بعضكم إلى بعض ) أي فكدتم أن تصيروا جسداً واحداً ) وأخذن ) أي النساء ) منكم ) أي بالإفضاء والاتحاد ) ميثاقاً غليظاً ( قوياً عظيماً ، أي بتقوى الله في المعاشرة بالإحسان وعدم الإساءة ، لأن مبنيى النكاح على ذلك وإن لم يصرح به فيه .
النساء : ( 22 - 23 ) ولا تنكحوا ما. .. . .
) وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( ( )
ولما كرر ذكر الإذن في نكاحهن وما تضمنه منطوقاً مفهوماً ، وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء ، وكان الطيب شرعاً قد يحمل على الحل ؛ مست الحاجة إلى مايحل منهن لذلك وما يحرم فقال : ( ولا تنكحوا ) أي تتزوجوا وتجامعوا ) ما نكح ) أي بمجرد العقد في الحرة ، وبالوطء في ملك اليمين ) آبأؤكم ( وبين ) ما ( بقوله : ( من النساء ) أي سواء كانت إماء أو لا ، بنكاح أو ملك يمين ، وعبر بما دون ( من ) لما في النساء غالباً من السفه المدني لما لا يعقل .
ولما نهي عن ذلك فنزعت النفوس عما كان قد ألف بهاؤه فلاح أنه في غاية القباحة وأ ، الميل إليه إنما هو شهوة بهيمية لا شيء فيها من عقل ولا مروة ، وكانت عادتهم في مثل ذلك مع التأسف على ارتكابه السؤال عما مضى منه - كما وقع في استقبال بيت المقدس وشرب الخمر ؛ أتبعه الاستثناء من لازم الحكم وهو : فإنه موجب لمقت من ارتكبه وعقابه فقال : ( إلا ما قد سلف ) أي لكم من فعل ذلك في أيام الجاهلية كما قال الشافعي رحمه الله في الأم ، قال السهيلي في روضه : وكان ذلك مباحاً في الجاهلية لشرع متقدم ، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها .
ثم عل النهي بقوله : ( إنه ( اي هذا النكاح ) كان ) أي الآن وما بعده كوناً راسخاً ) فاحشة ) أي والفاحشة لا(2/231)
صفحة رقم 232
يقدم عليها تام العقل ) ومقتاً ) أي أشر ما يكون بينكم وبين ذوي الهمم لما انتهكتم من حرمة آبائكم ) وساء سبيلاً ) أي قبح طريقاً طريقه .
ولما ابتدأ بتعظيم الآباء واحترامهم في أن ينكح الأبناء أزواجهم على العموم ثنى بخصوص الأم بقوله : ( حرمت عليكم ( ولما كان أعظم مقصود من النساء النكاح ، فكان إضافة التحريم إلى أعيانهن إفادة التأكيد غير قادح في فهمه ، وكان مع ذلك قد تقدم ما يدل على أن المراد النكاح ؛ أسند التحريم إلى الذات تأكيداً للتحريم فقال : ( أمهاتكم ) أي التمتع بهن بنكاح أو ملك يمين ، فكان تحريمها مذكوراً مرتين تأكيداً له وتغليظاً لأمره في نفسه واحتراماً للأب وتعظيماً لقدره ) وبناتكم ) أي وإن سفلن لما في ذلك من ضرار أمهاتهن ، وهذان الصنفان لم يحللن في دين من الأديان ) وأخواتكم ) أي أشقاء أو لا ) وعمّاتكم ( كذلك ) وخالاتكم ( أيضاً ، والضابط لهما أن كل ذكر يرجع نسبك إليه فأخته عمتك ، وقد تكون من جهة الأم وهي أخت أبي أمك ؛ وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك ، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك ) وبنات الأخ ( شقيقاً كان أو لا ) وبنات الأخت ) أي كذلك ، وفروعهن وإن سفلن .
ولما انقضى أمر النسب وهو سبعة أصناف أتبعه أمر السبب وهو ثمانية : أوله أزواج الآباء ، أفردها وقدمها تعظيماً لحرمتها ، لما كانوا استهانوا من ذلك ، وآخر المحصنات ، وبدأ من هذا القسم بالأم من الرضاع كما بدأ النسب بالأم فقال : ( وأمهاتكم الاَّتي أرضعنكم ( تنزيلاً له منزلة النسب ، ولذلك سماها أمّاً ، فكل أنثى انتسب باللبن إليها فهي أمك ، وهي من أرضعتك ، أو أرضعت امرأة أرضعتك ، أو رجلاً أرضعك بلبانه من زوجته أو أم ولده ، وكل امرأة ولدت امرأة أرضعتكم أو رجلاً أرضعك فهي أمك من الرضاعة والمراضعة أختك ، وزوج المرضعة الذي أرضعت هي بلبانه أبوك وأبواه جداك ، وأخته عمتك ، وكل ولد ولد له من غير المرتضعة الذي أرضعت هي وبعده إخوة الأب ، وأم المرضعة جدتك ، وأختها خالتك ، وكل من ولد لها من هذا الزوج إخوة لأب وأم ، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم ، فعلى ذلك ينزل قوله : ( وأخواتكم من الرضاعة ( كما في النسب بشرط أن يكون خمس رضعات وفي الحولين ، وبتسمية المرضعة أمّاً والمشاركة في الرضاع أختاً عُلِم أن الرضاع كالنسب .
كما بينه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فالصورتان منبهتان(2/232)
صفحة رقم 233
على بقية السبع ؛ الأم منبهة على البنت بجامع الولادة ، والأخوات على العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت بجامع الأخوة .
ولما انقضى ما هو كلحمة النسب أتبعه أمر بالمصاهرة فقال : ( وأمهات نسائكم ) أي دخلتم بهن أو لا - لما في ذلك من إفساد ذات البين غالباً ) وربائبكم ( وذكر سبب الحرمة فقال : ( اللاَّتي في حجوركم ) أي بالفعل أو بالقوة - لما فيهن من شبه الأولاد ) من نسائكم ( ولما كانت الإضافة تسوغ في اللغة بأدنى ملابسة بين سبحانه أنه لا بد من الجماع الذي كنى عنه بالدخول لأنه ممكن لحكم الأزواج الذي يصير به أولادها كأولاده فقال : ( اللاَّتي دخلتم بهن ( قيد بالدخول لأن غيره الأم من ابنتها دون غيرة البنت من أمها .
ولما أشعر هذا القيد بحل بنت من عقد عليها ولم يدخل بها أفصح به تنبيهاً على عظيم حرمة الإرضاع فقال : ( فإن لم تكونوا دخلتم بهن ) أي الأمهات ) فلا جناح عليكم ) أي في نكاحهن ؛ ولما افتتح المحرمات على التأبدي بزوجة الأب ختمها بزوجة الولد فقال : ( وحلائل أبنائكم ) أي زوجة كانت أو موطوءة بملك يمين ؛ ولما لم يكن المتبنى مراداً قيد بقوله : ( الذين من أصلابكم ) أي وإن سفلوا ، ودخل ما بالرضاع لأنه كلحمة النسب فلم يخرجه القيد .
ولما انقضى التحريم المؤبد أتبعه الموقت فقال : ( وأن ) أي وحرم عليكم أن ) تجمعوا ( بعقد نكاح لأن مقصوده الوطء ، أو بوطء في ملك يمين ) بين الأختين ( فإن كانت إحداهما منكوحة والأخرى مملوكة حلت المنكوحة وحرمت المملوكة ما دام الحل ، لأن النكاح أقوى ، فإذا زال الحل حلت الأخرة ولو في عدة التي كانت حلالاً .
ولما كان الجمع بين الأختين شرعاً قديماً قال : ( إلا ما قد سلف ) أي فإنه لا إثم عليكم فيه رحمة من الله لكم ، ثم علل رفع حرجه فقال : ( إن الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) كان غفوراً ) أي ساتراً لما يريد من أعيان الزلل وآثاره ) رحيماً ) أي معاملاً بغاية الإكرام الذي تر ضاه الإلهية .
النساء : ( 24 ) والمحصنات من النساء. .. . .
) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ( ( )
ولما ذكر مضارة الجمع أتبعه مضارة الإغارة على الحق والأول جمع بين(2/233)
صفحة رقم 234
المنكوحين وهذا جمع بين الناكحين فقال - عاطفاً على النائب عن فاعل ) جرمت ( : ( والمحصنات ) أي الحرائر المزوجات لأنهن منعت فروجهن بالنكاح عن غير الأزواج ) من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) أي من أزواج أهل الحرب ، فإن الملك بالأسر يقطع النكاح .
ولما أتم ذلك قال مؤكداً له ومبيناً عظمته : ( كتاب الله ) أي خذوا فرض الملك الأعظم الذي أوجبه عليكم إيجاب ما هو موصول في الشيء بقطعه منه ، والزموه غير ملتفتين إلى غيره ، وزاد في تأكيده بأداة الوجوب فقال : ( عليكم ( ولما أفهم ذلك حل ما سواه أفصح به احتياطاً للإيضاح وتعظيماً لحرمتها في قوله : ( وأحل لكم ( وبين عظمة هذا التحريم بأداة البعد فقال : ( ما وراء ذلكم ) أي الذي ذكر لكم من المحرمات العظيمة .
ولما كان الكلام في المنع لمن يصرح بالفاعل بل قال ؛ ( حرمت ) - ترفقاً في الخطاب حثاً على الآداب ، فلما وصل الأمر إلى الحل أظهره تطييباً للقلوب وتأنيساً للنفوس في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر بفتح الهمزة والحاء ، وأبهمه في قراءة الباقين على نسق ) حرمت ( لأن فاعل الحل والحرمة عند أهل هذا الكتاب معروف أنه الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه أصلاً ، ثم أتبع التحليل علته فقال : ( أن ) أي إرادة أن ) تبتغوا ) أي تطلبوا متبعين من شئتم مما أحل لكم ) بأموالكم ( اللاتي تدفعونها مهوراً حال كونكم ) محصنين ) أي قاصدين بذلك العفة لأنفسكم ولهن ) غير مسافحين ) أي قاصدين قضاء الشهوة وصب الماء الدافق لذلك فقط ، وهو على هذا الوجه لا يكون إلا زنّى سراً وجهراً ، فيكون فيه حينئذ إضاعة المال وإهلاك الدين ، ولا مفسدة أعظم مما يجمع هذين الخسرانين .
ولما تقدم أول السورة وأثناءهها الأمر بدفع الصداق والنهي عن أخ ذشيء مما دفع إلى المرأة ، وكان ذلك أعم من أن يكون بعد الدخول أو قبله ، مسمى أو لا قال هنا مسبباً عن الابتغاء المذكور : ( فما استمتعتم ) أي أوجدتم المتاع وهو الانتفاع ) به منهن ( بالبناء بها ، متطلبين لذلك من وجوهه الصحيحة راغبين فيه ) فآتوهن أجورهن ) أي عليه كاملة ، هي المهور ) فريضة ) أي حال كونها واجبة من الله ومسماة مقدرة قدرتموها على أنفسكم ، ويجوز كونه تأكيداً لآتوا بمصدر من معناه ) ولا جناح ) أي حرج وميل ) عليكم فيما تراضتيم به ) أي أنتم والأزواج ) من بعد الفريضة ) أي من طلاق أو فراق أو زيادة أو نقص إن كانت موجودة مقدرة ، أو من مهر المثل من بعد تقديره إن لم تكن مسماة فيمت عقد عليها من غير تسمية صداق .(2/234)
صفحة رقم 235
ولما ذكر في هذه الآيات أنواعاً من التكاليف هي في غاية الحكمة ، والتعبير عنها في الذروة العليا من العظمة ، وختمها بإسقاط الجناح عند الرضى وكان الرضى أمراً باطناً لا يطلع عليه حقيقة إلا الله تعالى ، حث على الورع في شأنه بنوط الحكم بغلبة الظن فقال مرغباً في امتثال أوامره ونواهيه : ( إن الله ) أي الذي له الإحاطة التامة علماً وقدرة ) كان عليماً ) أي بمن يقدم محترياً لرضى صاحبه أو غير متحرٍّ لذلك ) حكيماَ ) أي يضع الأشياء في أمكن مواضعها من الجزاء على الذنوب وغيره .
النساء : ( 25 ) ومن لم يستطع. .. . .
) وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )
ولما مضى ذلك على هذا الوجه الجليل عرف أنه كله في الحرائر لأنه الوجه الأحكم في النكاح ، وأتبعه تعليم الحكمة في نكاح الإماء ؛ فقال عاطفاً على ما تقديره : هذا حكم من استطاع نكاح حرة : ( ومن لم يستطع منكم ) أي أيها المؤمنون ) طولاً ) أي سعة وزيادة عبر فيما قبله بالمال تهويناً لبذله بأنه ميال ، لا ثبات له ، وهنا بالطول الذي معناه : التي قل من يجدها ) أن ) أي لأن ) ينكح المحصنات ) أي الحرائر ، فإن الحرة مظنة العفة الجاعلة لها فيما هو كالحصن على مريد الفساد ، لأن العرب كانوا يصونونهنَّ وهنَّ أنفسهن عن أن يكن كالإماء ) المؤمنات ( بسبب كثرة المؤنة وغلاء المهر ) فمن ) أي فلينكح إن أراد من ) ما ملكت أيمانكم ) أي مما ملك غيركم من المؤمنين ) من فتياتكم ) أي إمائئكم ، وأطلقت الفتوة - وهي الشباب - على الرقيق لأنه يفعل ما يفعل الشاب لتكليف السيد له إلى الخدمة وعدم توقيره وإن كان شيخاً ، ثم وضح المراد بالإضافة فقال : ( المؤمنات ) أي لا من الحرائر الكافرات ولا مما ملكتم من الإماء الكافرات ولا مما ملك الكفار حذراً من مخالطة كافرة خوفاً من الفتنة - كما مضى في البقرة ، ولئلا يكون الولد المسلم بحكم تبعية أمه في الرق ملكاً لكافر ، هذا ما تفهمه العبارة ولكنهم قالوا : إن تقييد المحصنات بالمؤمنات لا مفهوم له ، وإلا لصار نكاح الحرة الكتابية المباح بآية المائدة مشروطاً بعقد مسلمة ، حرة كانت أو أمة ، ولم يشترط ذلك ؛ ومذهب الشافعي أنه لا يجوز نكاح الأمة مع القدرة على حرة كتابية ، (2/235)
صفحة رقم 236
والظاهر أن فائدة التقييد الندب إلى مباعدة الكفار فلا ينكح منهن إلا لضرورة ، فكأن هذه سورة المواصلة ، أسقط فيها أهل المباعدة ، والمائدة سورة تمام الدين ، فذكر فيها ما يجوز لأهله فلا ضرر في القيد ، لأن المفهوم لا يقوى لمعارضة المنطوق مع ما فيه من فائدة الندب إلى الترك ، وهذا كما أن قيد الإحصان هنا للندب إلى عدم نكاح الزواني مع جوازه بآية النور
77 ( ) وانكحوا الأيامى منكم ( ) 7
[ النور : 32 ] كما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى .
ولما شرط في هذا النكاح الإيمان ، وعبر فيه بالوصف ، وكان أمراً قلبياً ، لا يطلع على حقيقته إلا الله ؛ أعقبه ببيان أنه يكتفى فيه بالظاهر فقال : ( والله ) أي الذي له الإحاطة التامة بالمعلومات والمقدورات ) أعلم بإيمانكم ( فربما ظهر ضعف إيمان أحد والباطن بخلافه ، لكن في التعبير به وبالوصف لا بالفعل إرشاد إلى مزيد التحري من جهة الدين ( فاظرفت بذات الدين ، تربت يداك ) ولما اشترط الدين كان كأنه قيل : فالنسب ؟ فأشير إلى عدم اشتراطه بقوله : ( بعضكم من بعض ) أي كلكم من آدم وإن تشعبتم بعده ) فانكحوهن ) أي بشرط العجز ) بإذن أهلهن ) أي من مواليهن ، ولا يجوز نكاحهن من غير إذنهم .
ولما كان مما لا يخفى أن السيد المالك للرقبة مالك للمنفعة من باب الأولى كان الأمر بدفع المهور إليهن مفيداً لندب السيد إلى جبرها به من غير أن يوهم أنها تملكه وهي لا تملك نفسها ، فلذلك قال تعالى : ( وآتوهن أجورهن ( وهي المهور ) بالمعروف ) أي من غير ضرارا ، لا عليكم ولا عليهن ولا على أهلهن ، حال كونهن ) محصنات ) أي عفائف بانفسهن أو بصون الموالي لهن ) غير مسافحات ) أي مجاهرات بالزنى لمن أراد ، لا لشخص معين ) ولا متخذات أخدان ) أي أخلاء في السر للزنى معينين ، لا تعدو ذات الخدن خدنها إلى غيره ؛ قال الأصبهاني : وهو - أي الخدن - الذي يكون معك ي كل ظاهر وباطن .
ولما لم يتقدم بيان حد الإماء قال مبنياً له : ( فإذا أحصن ( مبنياً للفاعل في قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم ، والمعفول في قراءة الباقين ، أي انتقلن من حيز التعريض للزنى بالإكراه إلى حيز الحرائر بأن حفظن فروجهن بكراهتهن للزنى ، أو حفظهن الموالي بالرضى لهن بالعفة ؛ وقال الشافعي في أوائل الرسالة في آخر الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه : إن معنى ( أحصن ) هنا : أسلمن ، لا نكحن فاصبن بالنكاح ، ولا أعتقن وإن لم يصبن ، وقال : فإن قال قائل : أراك توقع الإحصان على معان مختلفة ؟ قيل : نعم ، جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع(2/236)
صفحة رقم 237
من تناول المحرم ، فالإسلام مانع ، وكذلك الحرية مانعة ، وكذلك التزوج والإصابة مانع وكذلك الحبس في البيوت مانع ، وكل ما منع أحصن ، وقد قال الله عز ولجل
77 ( ) وعلمناه صنعة لبؤس لكم لتحصنكم من بأسكم ( ) 7
[ الأنبياء : 80 ] وقال :
77 ( ) لا يقاتلونكم جميعاً إلى في قرى محصنة ( ) 7
[ الحشر : 41 ] يعني مممنوعة ، قال : وآخر الكلام وأوله يدلان على أن معنى الإحصان المذكور عام في موضع دون يغره ، إذ الإحسان ها هنا الإسلام دون النكاح والحرية والتحصين بالحبس والعفاف ، وهذه الأسماء التي يجمعها اسم الإحصان - انتهى .
) فإن أتين بفاحشة ( ولا تكون حينئذ إلا عن رضى من غير إكراه .
ولما كان من شأن النكاح تغليظ الحد ، فغلظ في الحرائر بالرجم ؛ بين تعالى أنه لا تغليظ على الإماء ، بل حدهن بعده هو حدهن قبله ، فقال ) فعليهن نصف ما على المحصنات ) أي الحرائر لأنهن في مظنة العفة وإن كن بغير أزواج ) من العذاب ) أي الحد - كما كان ذلك عذابهن قبل الإحصان ، وهذا يفهمه بطريق الأولى ، والمراد هنا الجلد ، لأن الرجم لا ينتصف .
ولما كان كأنه قيل : هل هذا لكل عاجز عن الحرة ؟ استؤنف جواب هذا السؤال بقوله تعالى مشيراً بأداة البعد إلى أنه مما لا يحسن قربه : ( ذلك ) أي حل نكاح الإماء الذي ينبغي البعد منه ) لمن خشي العنت ) أي الوقوع في الزنا الموجب للإثم المقتضي للهلاك بالعذاب في الدنيا والآخرة بما عنده من عظيم الداعية إلأى النكاح ومشقة الصبر عنه ؛ قالوا : وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر ، فاستعير لكل مشقة وضرر ؛ قال الأصبهاني : وقيل : إن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد يؤدي بالإنسان إلى الأمراض الشدية ، أما في حق النساء فقد يؤدي إلى اختناق الرحم ، وأما في حق الرجال فقد يؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر .
ولما كان هذا التخفيف والتيسير خاصاً بالمؤمنين منا قيد بقوله : ( منكم ( ولما بين إباحته وأشار إلى البعد عنه لما فيه من استرقاق الولد صرح بالندب إلى حبس النفس عنه فقال : ( وإن تصبروا ) أي عن نكاحهن متعففين ) خير لكم ) أي لئلا تعيروا بهن ، أو تسترق أولادكم منهن ، ثم أتبع ذلك بتأكيده لذوي البصائر والهمم في سياق دال على رفع الحرج فقال : ( والله ) أي الذي له الجلال والإكرام ) غفور ) أي لمن لم يصبر ، والمغفرة تشير إلى نوع تقصير ) رحيم ) أي فاعل به فعل الراحم منكم بالإذن في قضاء وطره واللطف فيما يتبع ذلك من المحذور .(2/237)
صفحة رقم 238
النساء : ( 26 ) يريد الله ليبين. .. . .
) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ( )
ولما أتم سبحانه الحلال والحرام من هذه الحدود والأحكام ، وختها بصفة الرحمة بين ما أراد باه من موجبات الرحمة تذكيراً بالنعمة لتشكر ، وتحذيراً من أن تنسى فتكفر فقال تعالى : ( يريد الله ) أي الملك الأعظم إنزال هذه الأحكام على هذا النظام ) ليبين لكم ) أي ليوقع لكم البيان الشافي فيما لكم وعليكم من شرائع الدين ) ويهديكم ) أي يعرفكم ) سنن ) أي طرق ) الذين ( ولما كان المراد بعض الماضين وقال : ( من قبلكم ) أي من أهل الكتاب : الأنبياء وأتباعهم ) ويتوب عليكم ) أي يرجع بكم عن كل ما لا يرضيه ، لا سيما ما يجر إلى المقاطعة - مثل منع النساء والأطفال الإرث ، ومثل نكاح ما يحرم نكاحه وغير ذلك ، فأعلمهم بهذا أنهم لم يخصهم بهذه التكاليف ، بل يسلك بهم فيها صراط الذين أنعم عليهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول وأعون على الامتثال ، وليتحققوا أن إلقاء أهل الكتاب الشبه إليهم وتذكيرهم بالأضغان لإرادة إلقاء العداوة محض حسد لمشاركتهم لهم في مننهم إذ هدوا لسننهم ، وما أحسن ختم ذلك بقوله : ( والله ) أي المحيط بأوصاف الكمال ) عليم حكيم ( فلا يشرع لكم شيئاً إلا وهو في غاية الإحكام .
فاعملوا به يوصلكم إلى دار السلام .
بيان ذلك أن ما في هذه السورة الأمر بالتقوى والحث عليها ، وبيان الفرائض وأمر الزناة ، وما يحل ويحرم من النساء ، والتحري في الأموال ، والإحسان إلى الناس ، لا سيما الأيتام والوالدين ، والإذعان للأحكام ، وتحريم القتل ، والأمر بالعدل في الشهادة وغيرها ، وكل ذلك مبين أصوله في التوراة كما هو مبثوث في هذا الديوان عن نصوصها في المواضع اللائقة به ، لكن القرآن أحسن بياناً وأبلغ تبياناً وأبدع شأناً وألطف عبارة وأدق إشارة ، وأعجب ذلك أن سبب إنزال فرائض الميراث في شريعتنا النساء ، ففي الصحيحين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال : ( مرضت فعادني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأتاني وقد أغمي عليّ ) وفي رواية البخاري في التفسير : ( عادني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر في بنني سلمة ماشيين ، فوجدني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا أعقل ، فدعا بماء فتوضأ فصب عليّ وضوءه فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي ؟ ) وفي رواية لمسلم : ( إنما يرثني كلالة فلم يجبني بشيء ) وفي رواية الترمذي : ( وكانت لي تسع أخوات(2/238)
صفحة رقم 239
حتى نزلت آية الميراث ) وفي رواية للبخاري : ( فنزلت ) وفي رواية للترمذي : ( حتى نزلت ( يوصيكم الله في أولادكم ) ) وفي رواية للترمذي : حتى نزلت آية الميراث ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) الآية ، وقال : حديث صحيح .
ولأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قالت : ( جاءت امرأة سعد بن ربيع بابنتيها من سعد رضي الله عنهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ، ولا تنكحان إلا ولهما مال ، قال : ( يقضي الله عز وجل في ذلك ، فنزلت آية الميراث ( وفي رواية أبي داود : ( ونزلت الآية في سورة النساء ، وفيها ) يوصيكم الله في أولادكم ( وفي رواية الدارقطني : فنزلت سورة النساء ، وفيها ) يوصيكم الله في أولادكم ( إلى آخر الآية - فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأعط أمهما الثمن ، وما بقي فهو لك ( وفي رواية للدارقطني : ( إن امرأة سعد بن الربيع قالت : يا رسول الله ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ادعي لي فقبض ما ترك سعد ، وإنما تنكح النساء على أموالهن ، فلم يجبها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مجلسه ذلك ، ثم جاءته فقالت : يا رسول الله ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ادعي لي أخاه فجاء فقال : ادفع إلى انتيه الثلثين ، وإلى امرأته الثمن ، ولك ما بقي ) وقال شيخنا حافظ عصره أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر في الإصابة في أسماء الصحابة : روى أبو الشيخ في تفسيره من طريق عبد الله بن الأجلح الكندي عن الكلبي عن ابي(2/239)
صفحة رقم 240
صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الأولاد الصغار حتى يدركوا ، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت ، وترك بنتين وابناً صغيراً ، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه ، فقالت امرأته للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ، فأنزل الله تعالى
77 ( ) للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ( ) 7
[ النساء : 7 ] فأرسل إلى خالد وعرفطة فقال : لا تحركا من الميراث شيئاً ) ورواه أبو الشيخ من وجه آخر فقال : قتادة وعرفطة ورواه الثعلبي في تفسيره فقال : سويد وعرفطة ، ووقع عنده أنهما أخوا أوس : ورواه مقاتل في تفسيره لفقال : إن أوس بن مالك توفي يوم أحد وترك امرأته أم كجة وبنتين فذكر القصة ( وذكر شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف أن الثعلبي والبغوي ساقا بلا سند أن أوس بن الصامت الأنصاري ترك امرأته أم كجة وثلاث بنات ، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطه أو قتادة وعرفجة ميراثة عنهن ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح ، وذاد عن الحوزة ، وحاز الغنيمة ، فجاءت أم كجة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مسجد الفضيخ ، فشكت إليه ، فقال : ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله ، فنزلت
77 ( ) للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ( ) 7
[ النساء : 7 ] فبعث إليهما : لا تفرقا من مال أوس شيئاً ، فإن الله قد جعل لهن نصيباً ، ولم يبين حتى نزلت ) يوصيكم الله في أولادكم ( الآية ، فأعطى أم كجة الثمن والبنات الثلثين والباقي لابني العم ( ورواه الطبري من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق ، ولفظه : ( نزلت في أم كجة وأبنة أم كجة وثعلبة وأوس بن سويد ، وهم من الأنصار ، كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدهات ، فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث ، فقال عم ولدها : إن ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاًّ ولا ينكأ عدواً ، فنزلت
77 ( ) للرجال نصيب ( ) 7
[ النساء : 7 ] ، وروي من طريق السدي ، قال ي قوله :
77 ( ) يوصيكم الله في أولادكم ( ) 7
[ النساء : 11 ] ( كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ، ولا يورثون إلا من أطاق القتال ، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وتركامرأة يقال لها أم كجة ، وترك خمس أخوات ، فجاءت الورثة فأخذوا ماله ، فشكت أم كجة ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأنزل الله
77 ( ) فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ( ) 7
[ النساء : 11 ] ثم قال في أم كجة
77 ( ) ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ( ) 7
[ النساء : 12 ] )(2/240)
صفحة رقم 241
فجميع هذه الروايات - كما ترى - ناطقة بأن سبب نزول آيات الميراث النساء ، ويمكن أن يكون المجموع سبباً - والله أعلم ؛ وذلك كما أن سبب إنزال الفرائض في التوراة كان النساء أيضاً ، وذلك أنه جل أمره وعز اسمه وتعالى جده لما أمات من نكص عن أمره من بني إسرائيل ومن آلافهم في التيه وأخرج أبناءهم منه ؛ أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقسمة أرض الكنعانيين بين بنيهم بعد معرفة عددهم على منهاج ذكره ، ولم يذكر البنات ، وكان فيهم بنات لا أب لهن فسالن ميراث أبيهن ، فأنزل الله حكمهن ؛ قال في السفر الرابع من التوراة ما نصه : ولما كان بعد الموت الفاشي قال الرب لموسى ولليعازر بن هارون الحبر : احفظا عدد جماعة بني إسرائيل من ابن عشرين سنة إلى فوق ، كل من خرج للمحاربة من بين بني إسرائيل فكلما الجماعة في عربات مؤاب التي عند أردن أريحا ، وأخبراهم بقول الرب ، ثم أحصياهم ، فكان عددهم ستمائة ألف وسبعمائة وثلاثين رجلاً غير اللاويين سبط موسى فإنهم كانوا لحفظ قبة الزمان وخدمتها ، وكانوا ثلاث قبائل : أحدهم فغث فولد له عمران ، وكان اسم امرأة عمران حنة ابنة لوى ، ولدت له بأرض مصر هارون وموسى ومريم ، وكان عددهم في هذا الوقت ثلاثة وعشرين ألفاً ، كل ذكر منهم ابن شهر فما فوق ، ولم يكن في هؤلاء ممن أحصاه موسى وهارون حيث عدا بني إسرائيل في برية سيناء ، لأن الرب قال لهم : يقتلون في هذه المفازة ، ولا يبقى منهم رجل ما خلا كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون ، ودنا بنات صلفحد من قبيلة منشى بن يوسف وقلن : أبونا توفي في البرية ولم يخلف ابناً ، أعطنا ميراثنا ، فرفع موسى أمرهن إلى الرب فقال الرب لموسى : الحق قلن أعطهن ميراثاً مع أعمامه ومن لم يكن له أعمام يعطى ميراثه لمن كان قرابته من أهل عشيرته ، ابناً يعطى ميراثه ابنته ، وإن لم يكن له ابنة يعطى ميراثه إخوته ، ومن لم يكن له إخوة يعطى ميراثه أعمامه ومن لم يكن له أعمام يعطى ميراثه لمن كان قرابته من أهل عشيرته ، وتكون هذه سنة لبني إسرائيل في أحكامهم كما أمر الرب موسى ؛ وقال في السفر الثالث ومنها ما نصه سنة الخطايا التي إذا ارتكبها إنسان عوقب بالموت : وكلم الرب موسى وقال له : كلم بني إسرائيل ، وقل لهم : أنا الله ربكم لا تعملوا مثل أعمالكم أهل مصر التي سكنتموها ، ولا تعملوا مثل أعمال أهل كنعان التي أدخلكم إليها ولا تسيروا سنتهم ولكن اعملوا بأحكامي ، واحفظوا وصاياي ، وسيروا بها ، أنا الله ربكم احفظوا شرائعي وأحكامي .
لأن الذي يعمل بها يعيش ، أنا الرب وليس إله غيري ولا يجسرن الرجل منكم أنيكشف عورة قرابته ، أنا الرب وليس إله غيري ولا تكشفن عورة أبيك ولا عورة أمك ، لأنها أمك ، ولا تفضح امرأة ابنك ولا تكشف عورتها ، لان عورتها عورة(2/241)
صفحة رقم 242
ابنك ، ولا تفضح أختك من أبيك ومن أمك التي ولدت من أبيك ، أو أختك من أمك لا من أبيك ، لا تكشف عورتها ، لأن فضيحتها فضيحتك ، ولا تكشف عورة بنت امرأة أبيك التي ولدت من أبيك ، لأنها أختك ، ولا تكشف عورة امرأة عمك ولا تدن من امرأته ، لأنها امرأة عمك ، ولا تكشف عورة كنتك ، لأنها امرأة ابنك ، ولا تكشف عورة امرأة أخيك ، لأن فضيحتها فضيحة أخيك ، ولا تكشف عورة امرأة وبنتها ، أي لا تتزوج بهما ، ولا تكشف عورة بنت الابن ولا بنت البنت ، لأن فضيحتهما فضيحتك ، ولا تكشف عورتهما ، هن قرابتك وارتكابهن إثم ، ولا تتزوج أخت امرأتك في حياتها فتحزنها ، ولا تكشف عورتهما جميعاً في حياة امرأتك ، والمرأة إذا حاضت وطمثت لا تدن لتكشف عورتها ، ولا تسفح بامرأة صاحبك ولا تنجس ، ولا تنجس اسم إلهك ، أنا الله ربكم لا تضاجعن الذكر ، ولا ترتكب من الذكر ما ترتكب من المرأة ، لا ، ه فعل نجس ، ولا بهيمة ، ولا تلق زرعك فيها فتنجس بها ، والمرأة أيضاً لا تقوم بين يدي بهيمة تطأها ، لأنه فعل نجس ، لا تنجسوا منها بشيء ، فبهذه كلها تنجست الأرض بهم ، ولا تنجسواالأرض لئلا تعطل منكم كما تعطلت من الشعوب التي كانوا يها قبلكم ، لأن كل من يفعل هذه الخطايا يهلك ؛ احفظوا شرائعي ولا ترتكبوا شيئاً من سير الخطايا التي فعلها من كان قبلكم ، ولا تنجسوا بها ، أنا الله ربكم .
ثم كلم الرب موسى وقال له : كلم جميع بني إسرائيل وق لهلم : تقدسوا ، لأني قدوس ، أنا الله ربكم يهاب كل امرىء منكم والديه ويكرمهما ، واحفظوا وصاياي ، لأني أنا الله ربكم لا تقبلوا إلى الشطيان ولا تتخذوا آلهة مسبوكة ، أنا الله ربكم ، وقال في السفر الثاني : ولا تصدقن الخبر الكاذب ، لا توالِ الخبيصث لتكون له شاهد زور ، ولا تتبعن هوى الكبير فتنسى ، ولا تشايعن الكبراء الذين يحيفون في القضاء فتحيف معهم ، ولا تعن المسكين على الظلم ، لا تحيفن في فضاء المسكين وتباعد عن القول الكاذب وقال في السفر الخامس : ودعا موسى بجميع بني إسرائيل وقال لهم : اسمعوا يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أتلوا عليكم لتعلموها وتحفظوها وتعملوا بها ، وتعلمون أن الله ربنا عاهدنا عهداً بأرض حوريب ، ولم يعاهد الله آباءنا بهذا العهد ، بل إنما عاهدنا ، نحن الذين ها هنا أحياناً سالمين ، وجهاً قبل وجه كلمنا الرب في النار عن الجبل ، فأنا(2/242)
صفحة رقم 243
كنت قائماً بين يدي الرب وبينكم لأظهر لكم ذلك الزمان أقول الله ربكم ، حيث فرقتم من النار ولم تصعدوا إلى الجبل ، وقال الرب : أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر وخلصتكم من العبودية لا يكون لكم إله غيري ، ولا تتخذوا أصناماً ولا أشباهاً ، ولا تقسم باسم ربك كذباً ، لأن الربّ لا يزكي من يحلف باسمه كذباً ، احفظوه يوم السبت وطهروه - إلى أن قال ؛ لا تعملوا فيه عملاً ليستريح عبيدكم وإماؤكم معكم ، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر فأخرجكم الله ربكم من هناك بيد منيعة وذراع عظيمة ، لذلك أمركم ربكم أن تحفظوا يوم السبت ، فيكرم كل امرىء منكم والديه كما أمركم الله ربكم لتطول أعماركم ، وينعم عليكم في الأرض التي يعطيكم ، لا تقتلوا ، لا تزنوا ، لا تسرقوا ، لا يشتهين الرجل منكم امرأة صاحبه - إلى أن قال : ولا شيئاً مما لصاحبك - هذه الآيات التي أمر بها الرب بني إسرائيل ، وكلمهم بها في الجبل من النار بالسحاب والضباب بصوت عظيم لا يوصف ولا يحد ، وهي التي كتبها على لوحي الحجارة ودفعها إلى موسى النبي - فما سمعتم صوتاً من الظلمة ورأيتم ناراً تشتعل في الجبل تقدم إليّ رؤساؤكم ، وقالوا : قد أرانا الله ربنا مجده وكرامته وعظمته ، اليوم رأينا أن كلم الله الناس وعاشوا ، إن عدنا نسمع صوت الله ربنا متنا ، تقدم أنت واسمع ما يقول الله ربنا وقص علينا فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني وقال لي الرب : قد سمعت صوت الشعب وما قالوا لك ، نعم ما تكلموا به ويا ليت تكون لهم قلوب هكذا ، فتكون تسمع وتطيع وتتقوى ، ويفزعون من قولي ، ويحفظون جميع وصاياي ، كلها احفظوا ، واعملوا بما أمركم الله ربكم ولا تحيدوا يمنة ولا يسرة ، بل سيروا في كل الطريق الذي أمركم ربكم لتعيشوا ، وينعم عليكم ، وتطول مدتكم في الأرض التي ترثون - هذه السنن والوصايا والأحكام التي أمرني الله ربكم أن أعلمكم لتعلموا وتتقوا الله ربكم أنتم وبنوكم كل أيام حياتكم فتطول أعماركم ، اسمعوا يا بني إسرائيل الله ربنا واحد ، أحبوا الله ربكم في كل قلوبكم ، ولتكن هذه الآيات التي أمركم في قلوبكم أبداً ، وعلموها بنيكم ، وتكلموا بها إذا حضرتم في منازلكم ، وإذا سافرتم ، وإذا رقدتم ، وإذا قمتم ، وشدوها علامة على أيديكم ، ويكون ميسماً بين أعينكم ، واكتبوها على قوائم بيوتكم وعلى أبوابكم ، ولا تنسوا الله ربكم ، وإياه فاعبدوا وباسمه فأقسموا ، ولا تتبعوا الآلهة الأخرى التي تعبدها الشعوب التي حولكم ، لأن الله ربكم الحالّ فيكم هو إله غيور فاتقوه ، لا يشتد غضبه عليكم ، ويهلككم عن حديد الأرض ، ولا تجربوا الله ربكم كما جربتموه بالبلايا ، ولكن احفظوا وصية الله ربكم وشهادته وسنته التي أمركم بها ، فاعملوا الحسنات ، وأنصفوا واعدلوا لينعم عليكم ، وتدخلوا وترثوا الأرض المخصبة(2/243)
صفحة رقم 244
التي أقسم الله لآبائكم ، ويكسر جميع أعدائكم ويهزمهم قدامكم كما قال الرب ، فإذا سألكم بنوكم غداً وقالوا : ما الشهادة والسنة والحكومة التي أمركم الله بها ؟ قولوا لبنيكم : إنا كنا عبيداً لفرعون بأرض مصر ، وأخرجنا الرب من أرض مصر بيد منيعة ، وأنزل بأهل مصر بلاء شديداً ، وفعل ذلك بفرعون وجميع أهل بيته تجاهنا ، وأخرجنا الرب من هناك ليدخلنا ويعطينا الأرض التي أقسم لآبائنا ، وأمرنا الرب أن نعمل هذه السنن كلها ، وأننتقى الله ربنا لينعم كل أيامنا ، ويحيينا بالخير والنعم ، ويكون ربنا بنا براً إذا حفظنا هذه الوصية كلها ، وعلمناها أمام الله ربنا كما أمرنا .
وقال في السفر الخامس : ولا تكف يدك عن العطاء والصدقة على أخيك المسكين ، ولكن يصدق بعضكم على بعض ، ويعطي بعضكم بعضاً ، ولا يضيق قلبك ، ولا تحزن إذا صدقت على أخيك ، لأنك إذا فعلت هذا القول وأوسعت على أخيك يبارك الله لك في جميع أعمالك ، وفي كل ما تمد يدك إليه ، من أجل أن الأرض لا تعدم المساكين ، فلذلك آمرك - والعزم إليك - أن تمد يدك إلى أخيك المسكين ، وتصدق على الفقير في الأرض .
وقال فيه : أنصفوا بين إخوتكم وأحكموا بالحق ولا تحيفوا في القضاء ، واسمعوا من الصغير كما تسمعون من الكبير ، ولا تهابوا الرجل ولو عظم شأنه وكثرت أمواله ، لأن القضصاء لله .
وقال فيه : صيروا لكم قضاة وكتاباً في جميع قراكم ، وتقضون الأرض .
وقال فيه : أنصفوا بين إخوتكم واحكموا بالحق ولا تحيفوا في القضاء ، واسمعوا من الصغير كما تسمعون من الكبير ، ولا تهابوا الرجل ولو عظم شأنه وكثرت أمواله ، لأن القضاء لله .
وقال فيه : صيروا لكم قضاة وكتاباً في جميع قراكم ، وتقضون للشعب قضاء العدل والبر ، ولا تحيفن في القضاء ، ولا تحابوا ولا ترتشوا ، لأن الرشوة تعمي أعين الحكام في القضاء ، ولكن أقضي بالحق لتعيشوا وتبقوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم - فقد علم من هذا أصول غالب ما ذكره تعالى في هذه السورة مع ما تقدم من أشكاله في البقرة عند قوله تعالى : ( ) وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ( ) [ البقرة : 83 ] وغيرها من الآيات ، وفي آل عمران أيضاً ، وأما حد الزاني وأمر القتل والجراح فسيذكر إن شاء الله تعالى في المائدة .
النساء : ( 27 - 33 ) والله يريد أن. .. . .
) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ(2/244)
صفحة رقم 245
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ) 73
( ) 71
ولما قرر سبحانه وتعالى إرادته لصلاحهم ورغب في اتباع الهدى بعلمه وحكمته عطف على ذلك قوله : ( واله ( بلطف منه وعظم سلطانه ) يريد ( إي بإنزاله هذا الكتاب العظيم وإرساله هذا الرسول الكريم ) أن يتوب عليكم ) أي يرجع لكم بالبيان الشافي عما كنتم عليه من طرق الضلال لما كنتم فيه من العمى بالجهل ، وزادهم في ذلك رغبة بقوله : ( ويريد الذين يتبعون ) أي على سبيل المبالغة والاستمرار ) الشهوات ) أي من أهل الكتابين وغيرهم كشاش بن قيس وغيره من الأعداء ) أن تميلوا ) أي عن سبيل الرشاد ) ميلاً عظيماً ) أي إلى أن تصيروا إلى ما كنتم فيه من الشرك والضلال ، فقد أبلغ سبحانه في الحمل على الهدى بموافقة الولي المنعم الجليل الذي لا تلحقه شائبة نقص ، ومخالفة العدو الحسود الجاهل النازل من أوج العقل إلى حضيض طباع البهائم .
ولما كان الميل متعباً لمرتكبه أخبرهم أن علة بيانه للهداية وإرادته التوبة الرفق بهم فقال : ( يريد الله ) أي وهو الذي له الجلال والجمال وجميع العظمة والكمال ) إن يخفف عنكم ) أي يفعل في هذا البيان وهذه الأحكام فعل من يريد ذلك ، فيضع عنكم الآصار التي كانت على من كان قبلكم الحاملة على الميل ، ويرخص لكم في بعض الأشياء كنكاح الأمة - على ما تقدم ، ودل على علة ذلك بالواو العاطفة ؛ لأنكم خلقتم ضعفاء يشق عليكم الثقل ) وخلق الإنسان ) أي الذي أنتم بعضه ) ضعيفاً ( مبناه الحاجة ، فهو لا يصبر عن النكاح ولا غيره من الشهوات ، ولا يقوى على فعل شيء إلا بتأييد منه سبحانه .
ولما كان غالب ما مضى مبنياً على الأموال تارة بالإرث ، وتارة بالجعل في النكاح ، حلالاً أو حراماً ؛ قال تعالى - إنتاجاً مما مضى بعد أن بين الحق من الباطل وبين ضعف هذا النوع كله ، فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث بالضعف ، وبعد أن بين كيفية الترصف في أمر النكاح بالأموال وغيرها حفظاً للأنساب ، ذاكراً كيفية التصرف في الأموال ، تطهيراً للإنسان ، مخاطباً لأدنى الأسنان في الإيمان ، ترفيعاً لغيرهم عن مثل هذا الشأن : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان والتزام الأحكام .
ولما كان الأكل أعظم المقاصد بالمال ، وكان العرب يرون التهافت على الأكل أعظم العار وإن كان حلالاً ؛ كنى به التناول فقال : ( لا تأكلوا ) أي تتناولو ) أموالكم ) أي الأموال التي جعلها الله قياماً للناس ) بينكم بالباطل ) أي من التسبب فيها بأخذ(2/245)
صفحة رقم 246
نصيب النساء والصغار من الإرث ، وبعضل بعض النساء وغير ذلك مما تقدم النهي عنه وغيره .
ولما نهى عن الأكل بالباطل ، واستدر ما ليس كذلك فقال : ( إلا أن تكون ) أي المعاملة المدارة المتداولة بينكم ) تجارة ( هذا في قراءة الكوفيين بالنصب ، وعلى قراءة غيرهم : إلا أن توجد تجارة كائنة ) عن تراض منكم ) أي غير منهي عنه من الشارع ، ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل - والمعنى على المنقطع - للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل ولو لم يكن إلا معنياً بها تزهيداً فيها وصدّاً عن الاستكثار منها ، وترغيباً فيما يدوم نفعه ببقائه ، وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن ، من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له - ( وهو لكن ) - إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة - والله الموفق .
ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل ، نهى عن إتلاف النفس ، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل ، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه ، أو مجازاً بأن يقتل بعضكم بعضاً ، فإن الأنفس واحدة ، وذلك أيضاً يؤدي إلى قتل نفس القاتل ، فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر فمن غفل عن حظها فكأنما مثلها ، ثم علله بما يلين أقسى الناس فقال : ( إن الله ) أي مع ما له من صفات العظمة التي لا تدانيها عظمة ) كان بكم ) أي خاصة حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم ) رحيماً ) أي بليغ الرحمة حيث يسر لكم الطاعة ووفقكم لها فأبلغ سبحانه الترغيب في الامتثال ؛ ثم قال ترهيباً من مواقعة الضلال : ( ومن يفعل ذلك ) أي المنهي عنه من القتل وغيره العظيم الإبعاد عن حضرات الإله ) عدواناً وظلماً ) أي بغير حق ، وعطفه للوصف بالواو يدل على تناهي كل منهما ، هذا مع ما أفهمه صفة الفعلان من المبالغة ، فكان المراد العدو الشديد المفرط المتجاوز للحدود الناشيء عن العهد وتناهي الظلم الذي لا شائبة فيه للحق ) فسوف نصليه ناراً ) أي ندخله إياها بوعيد لا خلف فيه وإن طال إمهاله ) وكان ذلك ( ي الأمر العظيم الذي توعد به ) على الله ) أي الذي له الجلال والجمال ) يسيراً ) أي لأنه لا ينقصه من مكله شيئاً ، ولا يمنع منه مانع .
ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيراً ، وكان قد تقدم جملة من الكبائر ، أتبعه ما للمنتهي تبشيراً جواباً لمن كأنه قال : هذا للفاعل فما للمجتنب ؟ فقال على وجه عام : ( إن تجتنبوا ) أي تجهدوا أنفسكم بالقصد الصالح في أن تتركوا تركاً عظيماً وتباعدوا(2/246)
صفحة رقم 247
) كبائر ما تنهون عنه ) أي من أكل المال والقتل بالباطل والزنى وغير ذلك مما تقدم روى البزار - قال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح - عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أنه سئل عن الكبائر فقال : ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين قال الأصبهاني : وكل ذنب عظم الشرع الوعيد عليه بالعذاب وشدده ، أو عظم ضرره في الخمس الضرورية : حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال ، فهو كبيرة ، وما عداه صغيرة ) نكفر عنكم سيئاتكم ) أي التي هي دون الكبائر كلها ، فإن ارتكبتم شيئاً من الكبائر وأتيتم بالمكفرات من الصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج ، أو فرطتم في شي ءمنها فمنَّ الله عليكم بأن أتاكم بالمرض ؛ كفر ذلك المأتي به لاصغائر ، ولم يقاوم تلك الكبيرة فلم يكفر جميع السيئات ، لعدم إتيانه على تلك الكبيرة ) وندخلكم مدخلاً كريماً ) أي يجمع الشرف والعمل والجود وكل معنى حسن ، ومن فاته جميع ذلك لم يكفر عنه سيئاته ، ولم يدخله هذا المدخل ، ويكفي في انتفائه حصول القصاص في وقت ما ؛ وقال الإمام أحمد : المسلمون كلهم في الجنة - لهذه الآية وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتى ) فالله تعالى يغفر ما دون الكبائر ، فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يشفع في الكبائر ، فأي ذنب على المسلمين ذكره عنه الأصبهاني ، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه .
ولما نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح ، ليصير الظاهر طاهراً عن المعاصي الوخيمة ؛ نهى عن التمني الذي هو مقدمة الأكل ، ليكون نهياً عن الأكل بطريق الأولى ، فإن التمني قد يكون حسداً ، وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية : وهو حرام والرضى بالحرام ، والتمني على هذا الوجه يجر إلى الأكل والأكل يعود إلى القتل ، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ، والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال : ( ولا تتمنوا ) أي تتابعوا أنفسكم في ذلك ) ما فضل(2/247)
صفحة رقم 248
الله ) أي الذي له العظمة كلها ، فلا ينقصه شيء ) به ( اي من المال وغيره ) بعضكم عن بعض ) أي في الإرث وغيره من جميع الفضائل النفسانية المتعلقة بالقوة النظرية كالذكاء التام والحدس الكامل وزيادة المعارف بالكمية والكيفية ، أو بالقوة العملية كالعفة التي هي وسط بين الجمود والفجور ، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن ، والسخاء الذي هو سوط بين الإسراف والبخل ، وكاستعمال هذه القوى على الوجه الذي ينبغي وهو العدالة ، أو القضائل البدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل مع اللذة والبهجة ، أو الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء ، وكثرة العشائر والأصدقاء والأعوان ، والرئاسة التامة ونفاذ القول ، وكونه محبوباً للناس حسن الذكر فيهم ؛ فهذه مجامع السعادا وبعضها نظرية لا مدخل للكسب فيها ، وبعض كسبية ، ومتى تأمل العاقل في ذلك وجده محض عطاء من الله ، فمن شاهد غيره أرفع نمه في شيء من هذه الأحوال تألم قلبه وكانت له حالتان : إحداهما أن يتمنى حصول مثل تلك السعادة له ، والأخرى أن يتمنى زوالها عن صاحبهان وهذا هو الحسد المذموم ، لأنه كالاعتراض على الله الذي قسم هذه القسمة ، فإن اعتقد أنه أحق منه قد فتح على نفسه باب الكفر ، واستجلب ظلمات البدعة ، ومحا نور الإيمان ، فإن الله فعال لما يريد ، لا يسأل عما يفعل فلا اعتراض عليه ، وكما أن الحسد سبب الفاسد في الدين فهو سبب الفساد في الدنيا ؛ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ذلك مصلحة ، ولو كان غير ذلك فسد ، فإن ذلك كله قسمة من الله صادرة عن حكمه وتدبيره وعلمه بأحوال العباد فيما يصلحهم ويفسدهم .
وأما تمني المثل فإن كان دينياً كان حسناً ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا حسد إلا في اثنتين ) وإن كان دنيوياً فمن الناس من جوز ذلك ، ومنهم من قال - وهم المحققون : لا يجوز ذلك ، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة في الدنيا كقصة قارون - قال معنى ذلك الإمام الرازي .(2/248)
صفحة رقم 249
ولما نهى سبحانه عن ذلك علله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ) وكما قال ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا .
ولكن قل : قدر الله ، وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) فقال مشيراً إلى أنه لا ينال أحد جميع ما يؤمل : ( للرجال نصيب ) أي قد فرغ من تقديره فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص ، وبين سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل ، كما أشار إليه الحديث فقال : ( مما اكتسبوا ) أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح ( جعل رزقي تحت ظل رمحي ) ( لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) ) وللنساء(2/249)
صفحة رقم 250
نصيب مما اكتسبن ) أي وكذلك فالتمني حينئذ غير نافع ، فالاشتغال به مجرد عناء .
ولما أشار بالتبعيض إلى أن الحصول بتقديره ، لا بالكسب الذي جعله سبباً ، فإنه تارة ينجحه وتارة يخيبه ، فكان التقدير : فاكتسبوا ولا تعجزوا فتطلبوا بالتمني ؛ أمر بالإقبال - في الغنى وكل شيء - عليه إشارةإلى تحريك السبب مع الإجمال في الطلب فقال : ( وسئلوا الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال .
ولما كان سبحانه تعالى عظمته لا ينقصه شيء وإن جل قال : ( من فضله ) أي من خزائنه التي لا تنفد ولا يقضها شيء ، وإن جل قال : ( من فضله ) أي من خزائنه التي لا تنفد ولا يقضيها شيء ، وفي ذلك تنبيه على عدم التعيين ، لأ ، ه ربما كان سبب الفساد ، بل يكون الطلب لام هو له صلاح ، وأحسن الدعاء المأثور ، وأحسنه
77 ( ) ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ( ) 7
[ البقرة : 201 ] ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ) أي الملك الأعظم الذي بيده مقاليد كل شيء ) كان بكل شيء عليماً ) أي فكان علىكل شيء قديراً ، فإن كمال العلم يستلزم شمول القدرة - كما سيبين إن شاء الله تعالى في سورة طه ، والمعنى أنه قد فعل بعلمه ما يصلحكم فاسألوه بعلمه وقدرته ما ينفعكم ، فإنه يعلم ما يصلح كل عبد وما يفسده .
وعطف على ذلك ما هو من جملة لعلة فقال : ( ولكل ) أي من القبيلتين صغاراً كانوا أو كباراً ) جعلنا ( بعظمتنا التي لا تضاهى ) موالي ) أي حكمنا بأنهم هم الأولياء ، أي الأنصار ، والأقرباء لأجل الإرث ، هم الذين يلون المال ويرثونه ، سواء كانوا عصبة خاصة وهم الوراث ، أو عصبة عامة وهم المسلمون .
ولما كان الاهتمام بتوريث الصغار أكثر قال : ( مما ) أي من أجل ما ) ترك ) أي خلفه ) الوالدان ) أي لكم ، ثم أتبع ذلك ما يشمل حقي الأصل والفرع فقال : ( والأقربون ) أي إليكم ، ثم عطف على ذلك قوله : ( والذين ) أي وما ترك الذين ) عقدت أيمانكم ) أي مما تركه من تدلون إليه بنسب أو سبب بالحلف أو الولاء أو الصهر ، وذكر اليمين لأن العهد يكون مع المصافحة بها ، ثم سبب عن ذلك قوله : ( فآتوهم ) أي الموالي وإن كانوا صغاراً أو إناثاً على ما بينت لكم في آية المواريث السابقة ، واتركوا كل ما خالف ذلك فقد نسخ بها ) نصيبهم ) أي الذي فرضناه لهم من الإرث موافراً غير منقوص ، ولا تظنوا أن غيرهم أولى منهم أو مساوٍ لهم ، ثم رهب من المخالفة ، وأكد الأمر وعداً ووعيداً بقوله : ( إن الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) كان(2/250)
صفحة رقم 251
على كل شيء شهيداً ) أي فهو يعلم الولي من يغره والخائن من غيره وإن اجتهد في الإخفاء ، لأنه لا يخفى عليه شيء ، لأنه لا يغيب شيء ولا يغيب عنه شيء ، فالمعنى : إنا لم نفعل سوى ما قصدتم من إعطاء المال لمن يحمي الذمار ويذب عن الحوزة ، وأنتم كنتم غير منزليه حق منازله لغيبتكم عن حقائق الأمور وغيبتها عنكم ، فإنا لم نخرج شيئاً منه لغير الموالي - أي الأنصار - إما بالقرابة أو بالمعاقدة بالولاء أو المصاهرة ، فالحاصل أنه لمن يحمي بالفعل ، أو بالقوة القريبة منه ، أو البعيدة الآئلة إلى القرب ، وأما التفضيل في الأنصباء فأمر استأثرنا بعلم مستحقيه ، وفي البخاري في التفسير عن ابن عباس : ( موالي : ورثة والذين عاقدت أيمانكم كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجرين الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بينهم ، فلما نزلت ) ولكل جعلنا موالي ( نسخت ، ثم قال : ( والذي عاقدت أيمانكم ( من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ، ويوصي له ) .
النساء : ( 34 - 35 ) الرجال قوامون على. .. . .
) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ( ( )
ثم بين سحانه وجه استحقاق بعض المفضلين ، فقال - جواباً لسؤال من كأنه قال : ما للرجال فضلوا ؟ - ) الرجال قوامون ) أي قيام الولاة ) على النساء ( في التأديب والتعليم وكل أمر ونهي ، وبين سببي ذلك بقوله : ( بما فضل الله ) أي الذي له الحكمة البالغة والكمال الذي لا يدانى ، هبة منه وفضلاً من غير تتكسب ) بعضهم ( وهم الرجال ، في العقلا والقوة والشجاعة ، ولهذا كان فيهم الأنبياء والولاة والإمامة الكبرى والولاية في النكاح ونحو ذلك من كل أمر يحتاج إلى فضل قوة في البدن والعقل والدين ) على بعض ( يعني النساء ، فقال للرجال ) ) انفروا خفافاً وثقالاً ( ) [ التوبة : 41 ] وقال للنساء : ( وقرن في بيوتكن ) [ الأحزاب : 33 ] .
ولما ذكر السبب الموهبي أتبعه الكسبي فقال : ( وبما انفقوا ) أي من المهور(2/251)
صفحة رقم 252
والكسى وغيرها ) من أموالهم ) أي عليهن ، فصارت الزيادة في أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر .
ولما بان بذلك فضلهم ، فأذعنت النفس لما فضلوا به في الإرث وغيره ، وكان قد تقدم ذكر نكاحهم للنساء والحث على العدل فيهن ؛ حسن بيان ما يلزم الزوجات من حقوقهم وتأديب من جحدت الحق ، فقال مسبباً لما يلزمهن من حقوقهم عما ذكر من فضلهم ) فالصالحات قانتات ) أي مخلصات في طاعة الأزواج ، ولذلك ترتب عليه ) حافظات للغيب ) أي لحقوق الأزواج من الأنفس والبيوت والأموال في غيبتهم عنهن ) بما ) أي بالأمر الذي ) حفظ الله ) أي المحيط علماً وقدرة به غيبتهم بفعله فيه فعل من يحفظ من الترغيب في طاعتهم فيما يرضي الله والترهيب من عصيانهم بما يسخطه ، ورعي الحدود التي أشارت إليها سبحانه في البقرة ، وشرحتها سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولما عرف بالصالحات لاستحقاق الإنفاق في اللوازم أتبعه حكم غيرهن فقال ) والتي تخافونه نشوزهن ) أي ترفعهن عليكم عن الرتبة التي أقامهن الله بها ، وعصيانهن لكم فيما جعل الله لكم من الحق ، وأصل النشوز : الانزعاج في ارتفاع ، قال الشافعي : دلالات النشوز قد تكون قولا ، وقد تكون فعلا ، فالقول مثل أن كانت تلبية إذا دعاها وتخضع لسه بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت ، والفعل مثل أن كانت تقوم إذا دخل إليها أو كانت تسارع إلأى أمره ، وتبادر إلأى فراشه باستبشار إذا التمسها ، ثم إذا تغيرت فحيئذ ظن نشوزها ، ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز ) فعظوهن ) أي ذكروهن من أمر الله بما يصدع قلوبهم ويرفقها ويخيفهن من جلال الله .
ولما كان الوعظ موجبا لتحقق الطاعة أو المعصية قال : ( واهجروهن ) أي إن لم يرجعن بالوعظ ) في المضاجع ) أي التي كنتم تبيتون معهن فيها من البيت ، وفي ضمن الهجر امتناعه من كلامها ، قال الشافعي : ولا يزيد في هجرة الكلام على ثلاث ) واضربوهن ) أي إن أصررن ضرب تأديب غير مبرح ، وهو ما لا يكسر عظما ولا يشين عضوا ، ويكون مفرقا على بدنها ولا يوالي به في موضع واحد ، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن ، ويكون دون الأربعين ، قال الشافعي : الضرب مباح وتركه أفضل ) فإن أطعنكم ) أي بشيء من الوعظ ، والهجر في موضع المبيت من البيت ، أو الضرب ) فلا تبغوا ) أي تطلبوا ) عليهن سبيلا ) أي طريقا إلأى الأذى على ما سلف من العصيان من توبيخ على ما سلف نحوه ، بما لكم عليهن من العلو ، بل اغفروا لهن ما سلف ، ولا يحملنكم ما منحكم الله من العلو على المناقشة ، ثم علل ذلك بقوله ) إن الله ) أي وقد علمتم ما له من الكمال ) كان ( ولم يزل ) عليا كبيرا ) أي من العلو والكبر على(2/252)
صفحة رقم 253
الإطلاق بكمال القدرة ونفوذ المشيئة ، فهو لا يحي الباغي ولا يقره على بغية ، وقدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن ، وهو مع ذلك يعفو عمن أعصاه وإن ملأ ألأرض خطايا إذا أطاعهع ، ولا يؤاخذه بشيء مما فرط في حقه ، بل يبدل سيئاته حسنات فلو أخذكم بذنوبكم أهلككم ، فتخلفوا بما قدرتم عليه من صفاته لتنالوا جليل هباته ، وخافوا سطواته ، واحذروا عقوبته ، بما له من العلو والكبر .
ولما حال الوفاق وما خالطه من شيء من الأخلاق التي يقوم بإصلاحها الزوج ، أتبعه حال المباينة والشقاق المحوج إلى من ينصف أحدهما من الآخر فقال : ( وإن خفتم ) أي أيها المتقون القادرون على الإصلاح من الولاة وغيرهم ) شقاق بينهما ) أي الزوجين المفهومين من السياق ، يكون كل واحد منهما في شق غير الشق الذي فيه الآخر ، ولا يكون ذلك إلا وأحدهما على باطل وأضاف الشقاق إلى البين ليفيد أن هذا العمل إنما يكون عند الخوف من شقاق خاص ، وهو أن يكون البين المضاف إليهما وهو الذي يميز كل واحد منهما من الآخر لا تمكن في العادة إزالته ليكونا شيئا واحدا كما كانا لا بين لهما ، وذلك بظن أنه لا صلاح في اجتماعهما ) فابعثوا ) أي إليهما للإصلاح بينهما بإنصاف المظلوم من الظالم ) حكما من أهله ) أي الزوج ) وحكما من أهلها ) أي الزوجة ، هذا أكمل لأن أهلهما أقرب إلى إزالة أسباب الشقاق من بينهما ، لأنهم أجدر بالإطلاع على بواطن أمورهما وعلى حقائق أحوالهما ، والزوجان أقرب إلى إطلاعهما إن كانا قريبيتن على ضمائرهما ، وأقرب إلى إخفاء ذلك عن الأجانب ، وفائدة الحكمين أن يخلو كل منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ليعرف وجه الصلاح .
ةثم أجاب من كأنه قال : وماذا عسى أن يضيفا ؟ بقوله " ) إنت يريدا ) أي الحكمان ) إصلاحا ) أي بينهما ، وكأنه تكره لأن الإخلاص ووجود الكمال قليل ) يوفق الله ( الذي له الإحاطة بعلم الغيب والشهادة ) بينهما ) أي الزوجين لأن صلاح النية أكبر معين على بلوغ المقاصد ، وهذا دال على أنه لا يكون شيء إلا بالله ، وأن الأسباب إنما هي محنة من الله ، يسعد بها من يباشرها ويعتمد على الله دونها ، ويشقى بها من يجعلها محط قصده ، فيعتمد عليها .
ولما كان المصلح قد يظن مفسدا لصدعه بمر الحق من غير مداراة ، والمفسد قد يعد مصلحا لما يرى منه من المداهنة والمراءاة والمكر ، فيظن من يخلف الوعد بالتوفيق غير ما نفس الأمر ، قال تعالى لهذا الوهم مرغبا ومرهبا ) إن الله ) أي المحيط بجميع صفات الكمال ) كان عليما ) أي مطلقا على ما يمكن الاطلاع عليه وإن(2/253)
صفحة رقم 254
غاب عن غيره ) خبيرا ) أي لا يخفى عليه من ذلك خفي ، ولا يغيب عنه خبئ ، فصارت هذه الآيات كفيلة بغالب أحوال النكاح ، ولم يذكر سبحانه وتعالى الطلاق عندما ذكر الشقاق لتقدمه في البقرة ، ولأن مبني هذه السورة على التواصل واالتواد دون التفاصل والتراد كما قال ابن الزبير ، ولهذا أي لبناء السورة على التواصل والائتلاف دون التفاصل والاختلاف ، خصت حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والعدالة إبقاء لذلك التواصل ، فلم يكن الطلاق ليناسب هذا ، فلم يقع له هنا ذكر ولا إيماء إلا قوله ) وإن يتفرقا يغن الله كلا من فضله ) [ النساء : 130 ] انتهى .
النساء : ( 36 - 39 ) واعبدوا الله ولا. .. . .
) وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قًّرِيناً وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً ( ( )
ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا بنتيجة التقوى : العدل والفضل ، والترغيب في نواله ، والترهيب من نكاله - إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى ، وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر ، وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب ، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها ، فكان التقدير حتماً : فاتقوه ؛ عطف عليه ، أو على نحو ) ) وسئلوا الله من فضله ( ) [ النساء : 32 ] أو على ) اتقوا ربكم ( الخُلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة ، وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق ، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق فقال : ( واعبدوا الله ) أي أطيعوا - الذي له الكمال كله فلا يشبهه شيء - طاعة محضة من غير شائب خلاف مع الذل والانكسار ، لأن ملاك ذلك كله التعبد بامتثال الأوامر واجتناب الزواجر .
ولما كان سبحانه غنياً لم يقبل إلا الخالص ، فقال مؤكداً لما أفهمه ما قبله : ( ولا تشركوا به شيئاً ( ولما أمر للواحد الحقيقي بما ينبغي له ، وكان لذلك درجتان : أولاهما الإيمان ، (2/254)
صفحة رقم 255
وأعلاهما الإحسان ، فصار المأمور بذلك مخلصاً في عبادته ؛ أمره بالإحسان في خلافته ، وبدأ بأولى الناس بذلك ، وهو من جعله سبباً لإيجاده فقال - مشيراً إلى أنه لا يرضى له من ذلك إلا درجة الإحسان ، وإلى أن من أخلص له أغناه عن كل ما سواه ، فلا يزال منعماً على من عداه - : ( وبالوالدين ) أي وأحسنوا بهما ) إحساناً ( وكفى دلالة على تعظيم أمرهما جعل برهما قرين الأمر بتوحيده سبحانه .
ولما كان مبنى السورة على الصلة لا سيما لذي الرحم ، قال مفصلاً لما ذكر أول السورة تأكيداً له : ( وبذي القربى ( لتأكد حقهم بمزيد قربهم ، ولاقتضاء هذه السورة مزيد الحث على التعاطف أعاد الجار ، ثم أتبع ذلك من تجب مراعاته لله ، أو لمعنى تفسد بالإخلال به ذات البين ، وبدأ بما لله لأنه إذا صح تبعه غيره فقال : ( واليتامى والمساكين ) أي وإن لم تكن رحمهم معروفة ، وخصهم لضعفهم وقدم اليتيم لأنه أضعف ، لأنه لصغره يضعف عن دفع حاجته ورفعها إلى غيره ) والجار ذي القربى ) أي لأن له حقين ) والجار الجنب ) أي الذي لا قرابة له ، للبلوى بعشرته خوفاً من بالغ مضرته ( اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة ، فإن جار البادية يتحول ) ) والصاحب الجنب ) أي الملاصق المخالط في أمر من الأمور الموجبة لامتداد العشرة ) وابن السبيل ) أي المسافر لغربته وقلة ناصره ووحشته ) وما ملكت أيمانكم ) أي من العبيد والإماء كذلك ، فإن الإحسان إليهم طاعة عظيمة ( آخر ما تكلم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة وماملكت أيمانكم )(2/255)
صفحة رقم 256
ولما ذكر الإحسان الذي عماده التواضع والكرم ، ختم الآية ترغيباً فيه وتحذيراً من منعه معللاً للأمر به بقوله : ( إن الله ) أي بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى ) لا يحب ) أي لا يفعل فعل المحب مع ) من كان مختالاً ) أي متكبراً معجباً بنفسه متزيناً بحليته مرائياً بام آتاه الله تعالى من فضله على وجه العظم واحتقار الغير ، يأنف من أن ينسب إليه أقاربه الفقراء ، ويقذر جيرانه إذا كانوا ضعفاء ، فلا يحسن إليهم لئلا يلمّوا به فيعيَّر بهم .
ولما كان المختال ربما أحسن رياء ، قال معلماً أنه لا يقبل إلا الخالص : ( فخوراً ( مبالغاً في التمدح بالخصال ، يأنف من عشرة الفقراءن وفي ذلك أتم ترهيب من الخلق المانع من الإحسان ، وهو الاختيال على عباد الله والافتخار عليهم ازدراء بهم ، فإنه لا مقتضى لذلك لأن الكل من نفس واحدة ، والفضل نعمة منه سبحانه ، يجب شكرها بالتواضع لتدوم ، ويحذر كفرها بالفخار خوفاً من أن تزول .
ولما كان الاختيال والفخر على الفرح بالأعراض الفانية والركون إليها والاعتماد عليها ، فكانا حاملين على البخل خوفاً من زوالها ؛ قال واصفاً لهم بجملة من الأخلاق الرديئة الجيلة ، ذلك منشأها : ( الذين يبخلون ( ي يوقعون البخل بما حملهم من المتاع الفاني على الفخار ، وقصره ليعم كتم العلم ونحوه ؛ ثم تلا ذلك بأسوأ منه فقال ) ويأمرون الناس بالبخل ( مقتاً للسخاء ، وفي التعبير بما هو من النوس إشارة إلى أنهم لا يعقلون أطماعهم بذلك إلا بذوي الهمم السافلة والرتب القاصرة ، ويحتمل أن يكون الأمر كناية عن حملهم غيرهم على البخل بما يرى من اختيالهم وافتخارهم عليهم ؛ ثم أتبع ذلك أخبث منه ، وهو الشح بالكلام الذي لا يخشى نقصه وجحد النعمة وإظهار الافتقار فقال : ( ويكتمون ما اتاهم الله ) أي الذي له الجلال والإكرام ) من فضله ) أي من العلم جاحدين أن يكون لهم شيء يجودون به .
قال الأصبهاني : ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر ، مثل أن يظهر الشكاية لله سبحانه وتعالى ولا يرضى بالقضاء .
ثم عطف على ) إن الله لا يحب ( ملتفتاً إلى مقام التكلم ، دلالة على تناهي الغضب وتعييناً للمتوعد ، مصرحاً بمظهر العظمة الذي دل عليه هناك بالاسم الأعظم قوله : ( وأعتدنا ) أي أحضرنا وهيأنا ، وكان الأصل : لهم ، ولكنه قال - تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ، وإعلاماً بأن ذلك حامل على الكفر - : ( للكافرين ) أي بفعل هذه(2/256)
صفحة رقم 257
الخصال كفراً حقيقياً بما أوصلهم إليه لزوم الأخلاق الدنية ، أو مجازياً بكتمان النعمة ) عذاباً مهيناً ) أي بما اغتروا بالمال الحامل على الفخر والكبر والاختيال ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ) .
ولما ذم المقترين ، أتبعه ذم المسرفين المبذرين فقال - عطفاً على ) الكافرين ( أو ) الذين يبخلون ( معرفاً أن الذين لا يحسنون على الوجه المأمور به فينم تقدم الأمر بالإحسان إليهم فرقتان : فرقة يمنعون النفقة أصلاً ، وفرقة يمنعون وصفها ويفعلونها رياء ، فيعدمون بذلك روحها - : ( والذين ينفقون ( وأشار إلى عظيم رغبتهم في نفقتهم بقوله : ( أموالهم ( ودل على خسة مقاصدهم وسفول هممهم بقوله : ( رئاء الناس ) أي لقصور نظرهم وتقيده بالمحسوسات كالبهائم التي لا تدرك إلا الجزيئات المشاهدات .
ولما ذكر إخراج المال على وجه لا يرضاه ذو عقل ، ذكر الحامل عليه مشيراً إلى أنهم حقروا أنفسهم بما عظموها به ، وذلك أنهم تعبدوا للعبيد ، وتكبروا على خالقهم العزيز المجيد فقال : ( ولا يؤمنون بالله ( وهو الملك الأعظم .
ولما كان المأمور بالإحسان إليهم هنا من الوالدين ومن ذكر معهم أخص ممن أشير إليهم في البقرة ، أكد بزيادة النافي فقال : ( ولا باليوم الآخر ( الحامل على كل خير ، والنازع عن كل شر .
ولما كان التقدير : فكان الشيطان قرينهم ، لكفره بإعجابه وكبره ؛ عطف عليه قوله : ( ومن يكن الشيطان ) أي وهو عدوه البعيد من كل خير ، المحترق بكل ضير ) له قريناً ( فإنه يحمله على كل شر ، ويبعده عن كل خير ؛ وإلى ذلك أشار بقوله : ( فساء قريناً ( ولما كان التقدير : فماذا لهم في الكفر والإنفاق رياء لمن لا ضر ولا نفع بيده ؟ عطف عليه قوله تعنيفاً لهم وإنكاراً عليهم : ( وماذا عليهم ) أي من حقير الأشياء وجليلها ) لو آمنوا بالله ) أي الذي له كل كمال ، وبيده كل شيء ) واليوم الآخر ( الحامل على كل صلاح ) وأنفقوا ( ولما وصفهم بإنفاق جميع أموالهم للعدو الحقير أشار إلى شحهم فيما هو لله العلي الكبير بشيء يسير يحصل لهم به خير كثير ، فقال : ( مما رزقهم الله ( الذي له الغنى المطلق والجود الباهر ، ولما كان التقدير : فقد كان الله عليهم لما بذروا أموالهم قديراً ، عطف عليه قوله : ( وكان الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) بهم ) أي في كلتا الحالتين ) عليماً ) أي بليغ العلم ، وللإعلام بعظمة العلم بهم قدم الجار المفيد للاختصاص في غير هذا الموضع .(2/257)
صفحة رقم 258
النساء : ( 40 - 43 ) إن الله لا. .. . .
) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ( ( )
ولما فرغ من توبيخهم قال معللاً : ( إن الله ) أي الذي له كل كمال ، فهو الغني المطلق ) لا يظلم ) أي لا يتصور أن يقع منه ظلم ما ) مثقال ذرة ) أي فما دونها ، وإنما ذكرها لأناه كناية عن العدم ، لأنها مثل في الصغر ، أي فلا ينقص أحداً شيئاً مما عمله ، ولا يثيب عليه شيئاً لم يعمله ، فماذا على من آمن به وهو بهذه الصفة العظمى .
ولما ذكر التخلي من الظلم ، أتبعه التحلي بالفضل فقال عاطفاَ على ما تقديره : فإن تك الذرة سيئة لم يزد عليها ، ولا يجزي بها إلا مثلها : ( وإن ( ولما كان تشوف السامع إلى ذلك عظيماً ، حذف منه النون بعد حذف المعطوف عليه تقريباً لمرامه فقال : ( تك ) أي مثقال الذرة ، وأنثه لإضافته إلى مؤثنث ، وتحقيراً له ، ليفهم تضعيف ما فوقه من باب الأولى ، وهذا يطرد في قراءة الحرمينين برفع ) حسنة ) أي وإن صغرت ) يضاعفها ) أي من جنسها بعشرة أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى أزيد من ذلك بحسب ما يعلم من حسن العمل بحسن النية ) ويؤت من لدنه ) أي من غريب ما عنده فضلاً نم غير عمل لمن يريد .
قال الإمام : وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية ، وهذا الأجر إلى السعادات الروحانية ) أجراً عظيماً ( وسماه أجراً - وهو من غير جنس تلك الحسنة - لابتنائه على الإيمان ، أي فمن كان هذا شأنه لا يسوغ لعاقل توجيه الهمة إلا إليه ، ولا الاعتماد أصلاً بإنفاق ويغره إلا عليه .
ولما تم تحذيره من اليوم الآخر وما ذكره من إظهار العدل واستقصائه فيه كان سبباً للسؤال عن حال المبكتين في هذه الآيات إذ ذاك ، فقال : ( فكيف ) أي يكون حالهم وقد حملوا أمثال الجبال من مساوي الأعمال ) إذا جئنا ( على عظمتنا ) من كل أمة بشهيد ) أي يشهد عليهم ) وجئنا بك ( وأنت أشرف خلقنا ) على هؤلاء ) أي الذين أرسلناك إليهم وجعلناك شهيداً عليهم ) شهيداً ( وفي التفسير من البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : ( قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اقرأ عليّ ( قلت : أقرأ عليك وعليك(2/258)
صفحة رقم 259
أنزل ؟ قال ) إني أحب أن أسمعه من غيري ( فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ( قال ) أمسك ( فإذا عيناه تذرفان ) ثم استأنف الجواب عن ذلك بقوله : ( يومئذ ) أي تقوم الإشهاد ) يوم الذين كفروا ) أي ستروا ما تهدي إليبه ما أظهر من بيناته ) لو تسوى بهم الأرض ) أي تكون مستوية معتدلة بهم ، ولا تكون كذلك إلا وقد غيبتهم واستوت بهم ، ولم يبق فهيا شيء من عوج ولا نتوّ بسبب أحد منهم ولا شيء من أجسامهم ؛ وإنما ودوا ذلك خوفاً مما يستقبلهم من الفضيحة بعتابهم ثم الإهانة بعقابهم .
ولما كان التقدير : فلا تسوي بهم ، عطف عليه قوله : ( ولا يكتمون الله ) أي الملك الأعظم ) حديثاً ) أي شيئاً أحدثوه بل يفتضحون بسيء أخبارهم ، ويحملون جميع أوزارهم ، جزاء لما كانوا يكتمون من آياته وما نصب للناس من بيناته .
ولما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم ، ومنعت قوة يد القهر والجبر أن يكتم حديثاً ، وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ ؛ وصف الوقوف بين يديه في الدنيا خطرت معاني اللطف والجمال فهي الالتفات إلى غيره ، الوقوف في ذلك اليوم ، والذي خطرت معاني اللطف والجمال فهي الالتفات إلى غيره ، وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث فقال : ( ياأيها الذين أمنوا ) أي أقروا بالتصديق بالرسل وما أتوا به عن الله ، وأوله وأولاه أن لا تشركوا به شيئاً من الإشراك ) لا تقربوا الصلاة ) أي بأن لا تكونوا في موضعها فضلاً عن أن تفعلوها ) وأنتم ) أي والحال أنكم ) سكارى ) أي غائبو العقل من الخمر أو نحوها ، فإنه يوشك أن يسبق اللسان - بتمكن الشيطان بزوال العقل إلى شيء من الإشراك ، فيكون شركاً لسانياً وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان ، فيوشك أن يعرض ذلك عليه يوم الوقوف الأكبر ، فإن من أنتم بين يديه لا يكتم حديثاً ، فيود من نطق سانه بذلك - لما يحصل له من الألم - لو كان من أهل العدم وأصل السكر في اللغة : سد الطريق ؛ وسبب نزولها ما رواه مسدد بإسناد - قال شيخنا البوصيري : رجاله ثقات - عن علي رضي الله تعالى عنه ( أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فسقاهما قبل أن تحرم الخمر ، (2/259)
صفحة رقم 260
فأمهم علي رضي الله تعالى عنه في المغرب وقرأ ) قل يأيها الكافرون ) [ الكافرون : 1 ] فنزلت ) هكذا رواه ، وقد رواه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري ، فبينوا المراد ، وهو أن الذي صلى بهم قرأ : أعبد ما تعبدومن ، وفي رواية الترمذي : ونحن نعبد ما تعبدون .
ولما أفهم النهي عن قربانها ي هذا الحال زواله بانقضائه ، وصرح به في قوله : ( حتى ) أي ولا يزال هذا النهي قائماً حتى ) تعلموا ( بزوال السكر ) ما تقولون ( فلا يقع منكم حينئذ تبديل ؛ وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المراد بالصلاة نفسها وموضعها وهو المسجد ، وذلك من أدلته على اتسعمال الشيء في حقيقته ومجازه ؛ نهى السكران أن يصلي إلى أن يفهم ، أي يصحو ، ونهى كل واحد أن يكون في المسجد وهو جنب بقوله عطفاً على محل ) وأنتم سكارى ( : ( ولا ) أي ولا تقربوا الصلاة بالكون في محالها فضلاً عنها ) جنباً ) أي ممنين بالفعل أو القوة القريبة منه بالتقاء الختانين ، لأن الجنابة المني سواء كان عن جماع أو لا في حال من أحوال الجنابة ) إلا عابري سبيل ) أي مارين مروراً من غير مكث ولا صلاة ؛ ولما غيَّى منع الجنابة بقوله : ( حتى تغتسلوا ) أي تغسلوا البدن عمداً ، ولما كان للإنسان حالات يتعسر أو يتعذر فيها عليه استعمال الماء ؛ ذكرها فقال مرتباً لها على الأحوج إلى الرخصة فالأحوج ) أو على سفر ( كذلك سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً ) أو جاء أحد منكم ) أي أيها المؤمنون ولو كان حاضراً صحيحاً ) من الغائط ) أي المكان المطمئن من الأرض الواسع الذي يقصد للتخلي ، أي : أو جاء من التخلي فقضى حاجته التي لا بد له منها ، فهو بها أحوج إلى التخفيف مما بعده .
ولما تقدم أمر الجنابة التي هي المني أعم من أن تكون بجماع أو غيره ، ذكر هنا ما يعمها وغيرها من وجه فقال : ( أو لامستم النساء ) أي بمجرد التقاء البشرتين أو بالجماع سواء حصل إنزال أو لا ، وأخر هذا لأنه مما منه بد ، ولا يتكرر تكرر قضاء الحاجة ) فلم تجدوا ماء ) أي إما بفقده أو بالعجز عن استعماله ) فتيمموا ) أي اقصدوا قصداً صادقاً بأن تلابسوا ناوين ) صعيداً ) أي تراباً ) طيباً ) أي طهوراً خالصاً فهو بحيث(2/260)
صفحة رقم 261
ينبت ) ) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ( ) [ الأعراف : 58 ] ) فامسحوا ( وهذه عبادة خاصة بنا .
ولما كان التراب لا يتمكن من جميع العضو وإن اجتهد الإنسان في ذلك أدخل الباء قاصراً للفعل في قوله : ( بوجوهكم ) أي أوقعوا المسح بها سواء عم التراب منبت الشعر أم لا ) وأيديكم ) أي منه كما صرح به ف المائدة ، لا فيه ولا عليه مثلاً ، ليفهم التمعك / أو أن الحجر مثلاً يكفي ، والملامسة جوز الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضاً أن يراد بها المس - أي ملاقاة البشرتين - الذي هو حقيقة اللمس والجماع الذي هو مسبب عن المس ، أو هو مماسة خاصة ، فهو من تسمية الكل باسم البعض حينئذ .
ولام نهى عما يدني من وقوع صورة الذنب الذي هو جري اللسان بما لا يليق به سبحانه وتعالى ، وخفف ما كان شديداً بالتيمم ؛ ختم الآية بقوله : ( إن الله ) أي الذي اختص بالكمال ) كان عفوّاً ) أي بترك العقاب على الذنب ، وكأن هذا راجع إلى ما وقع حالة السكر ) غفوراً ) أي بترك العقاب وبمحو الذنب حتى لا ذكر بعد ذلك أصلاً ، وكأن ها راجع إلى التيمم ، فإن الصلاة معه حسنة ، ولولاه كانت سيئة مذكورة ومعاقباً عليها ، إما على تركها لمشقة استعمال الماء عند التساهل ، أو على فعلها بغير طهارة في بعض وجوه التنطع ، وذلك معنى قوله سبحانه وتعالى في المائدة ) ) ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ( ) [ المائدة : 6 ] ومن كانت عادته العفو والمغفرة كان ميسراً غير معسر .
النساء : ( 44 - 46 ) ألم تر إلى. .. . .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ( )
ولما أفهم ختام هذه الآية أن التشديد في الأحكام يكون سبباً للإجرام ، فيكون سبباً في الانتقام ؛ قرر ذلك بحال اليهود الذين أوجبت لهم الآصار عذاب النار فقال - ليكون ذلك مرغباً في تقبل ما مر من التكاليف ليسره ولرجاء الثواب ، مرهباً من تركها خوفاً من العقاب ، وليصير الكلام حلواً رائقاً بهجاً بتفصيل نظمه تارة بأحكام ، وتارة بأقاصيص عظام ، فينشط الخاطر وتقوى القريحة - : ( ألم تر ( أو يقال : إنه لما حذر سبحانه وتعالى فيما مضى من أهل الكتاب بقوله سبحانه وتعالى ) ) ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ( ) [ النساء : 27 ] ومر إلى أن أنزل هذه فيمن حرف في(2/261)
صفحة رقم 262
الصلاة لسانه فقط لا عن عمد الكلم عن واضعه ؛ أتبعها التصريح بالتعجيب من حال المحرفين بالقلب واللسان عمداً وعدواناً اجتراء على الله سبحانه وتعالى ، الملوح إليهم بالآية السابقة أنهم يريدون لنا الضلال عما هديا إليه من سننهم فقال : ( ألم تر ( ولما كانوا بمحل البعد - بما لهم من اللعن - عن حضرته الشريفة ، عبر بأداة الانتهاء ، بصرية كانت الرؤية أو قلبية ، فقال : ( إلى الذين أوتوا ( وحقر أمرهم بالبناء للمفعول وبقوله : ( نصيباً من الكتاب ) أي كشاش بن قيس الذي أراد الخلق بين الأنصار ، وفي ذلك أن أقل شيء من الكتاب يكفي في ذم الضلال ، لأنه كاف في الهداية ) يشترون ) أي يتكلفون ويلحون - بما هم فيه من رئاسة الدنيا من المال والجاه - أن يأخذوا ) الضلالة ( معرضين عن الهدى غير ذاكرية بوه ، وسبب كثير من ذلك ما في دينهم من الآصال والأثقال ، كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى
77 ( ) فخلف من بعدهم خلق اضاعوا الصلاة ( ) 7
[ مريم : 59 ] أي بسبب ما شدد عليهم فيها بأنها لا تفعل إلا في الموضع المبني لها ، وبغير ذلك من أنواع الشدة ، وكذا غيرها المشار إليه بقوله سبحانه وتعالى
77 ( ) فبما نقضهم ميثاقهم ( ) 7
[ النساء : 155 ] وغير ذلك ، ومن ا " ظمه ما يخفون من صفة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ليتقربوا بذلك إلى أهل دينهم ، ويأخذوا منهم الرشى على ذلك ، ويجعلوهم عليهم رؤساء .
ولما ذكر ضلالهم المتضمن لإضلالهم ، أتبعه ما يدل على إعراقهم فيه ، فقال مخاطباً لمن يمكن توجيه هممهم بإضلال إليه : ( ويريدون أن تضلوا ) أي ياأيها الذين آمنوا ) السبيل ( حتى تساووهم ، فلذلك يذكرونكم بالأحقاد والأضغان والأنكاد - كما فعل شاس - لا محبة فيكم ، ويلقون إلأيكم الشبهة ، فالله سبحانه وتعالى أعلم بهم حيث حذركم منه بقوله
77 ( ) لا يالونكم خبالاً ( ) 7
[ آل عمران : 118 ] وما بعده إلى هنا ) والله ) أي المحيط علمه وقدرته ) أعلم ) أي من كل أحد ) بأعدائكم ) أي كلهم هؤلاء وغيرهم ، بما يعلم من البواطن ، فمن حذركم منه كائناً من كان فاحذره .
ولما كان كل من قبيلتي الأنصار قد والوا ناساً من اليهود ليعتزوا بهم وليستنصروهم ، قال تعالى فاطماً لهم عن موالاتهم : ( وكفى ) أي والحال أنه كفى به هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر الاسم الأعظم لتستحضر عظمته ، فيستهان أمر الأعداء فقال : ( بالله ولياً ) أي قريباً بعمل جميع ما يفعله القريب الشفيق .
ولما كان الولي قد تكون فيه قوة النصرة ، والنصير قد لا يكون له شفقة الولي ، وكانت النصرة أعظم ما يحتاج إلى الولي فيه ؛ أفردها بالذكر إعلاماً باجتماع الوصفين مكرراً الفعل والاسم الأعظم اهتماماً بأمرها فقال : ( وكفى بالله ) أي الذي له العظمة(2/262)
صفحة رقم 263
كلها ) نصيراً ) أي لمن والاه فلا يضره عداوة أحد ، فثقوا بولايته ونصرته دونهم ، ولا تبالوا بأحد منهم ولا من غيرهم ، فهو يكفيكم الجميع .
ولما وفرت هذه الآيات الدواعي على تعيين هؤلاء الذين يريدون الإضلال ، قال بعد الاعتراض بما بين المبين والمبين من الجمل لمزيد الاهتمام به : ( من الذين هادوا ( ثم بين ما يضلون به ويضلون بقوله - ويجوز أن يكون استئنافاً بمعنى : بعهضم ، أو منهم من - : ( يحرفون الكلم ) أي الذي أتى به شرعهم من صفة النبي الأمي ( صلى الله عليه وسلم ) وصفه دينه وأمته وغير ذلك مما يريدون تحريفه لغرض ، فيتألفون في إمالته وتغييره عن حده وطرفه إلى حد آخر مجاوزين به ) عن ( ولما كانت الكلمة إذا غيرت تبعها الكلام وهو المقصود بالذات ، نبه على ذلك بتذكير الضمير فقال : ( مواضعه ) أي التي هي به أليق ، فيتم ضلالهم وإضلالهم ، وهو يشمل ما إذا كان المعنى المغير إليه بعيداً عن المغير أو قريباً ، فالذي في المائدة أخص .
ولما كان سبحانه وتعالى عالماً بجميع تحريفهم ، أشار إليه بالعطف على ما تقديره : فيقولون كذا ويقولون كذا : ( ويقولون سمعنا ) أي ما تقول ) وعصينا ( موهمين أنهم يريدون أن ذلك حكاية ما وقع لأسلافهم قديماً ، وإنما يريدون أنهم هم سمعوا ما تقول وخالفوه عمداً ليظن من سمع ذلك أنهم على بصيرة في المخالفة بسبب ما عندهم من العلم الرباني ليورثه ذلك شكاً في أمره وحيرة في شأنه ) واسمع ( حال كونك ) غير مسمع ( موهمين عدم إسماعه ما يكره من قولهم : فلان أسمع فلاناً الكلام ، وإنما يريدون الدعاء ، كما يقال : اسمع لا سمعت ) وراعنا ( موهمين إرادة المراعاة والإقبال عليهم ، وإنما يريدون الشتم بالرعونة ؛ وقال الأصفهاني : ويحتمل شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي : راعينا ، فكانوا - سخرية بالدين وهزءاً برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - يكلمونه بكلام محتمل ، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والإكرام ، ولذلك قال : ( ليّاً بألسنتهم ) أي صرفاً لها عن مخارج الحروف التي تحق لها في العربية إلى ما يفعله العبرانيون من تغليظ بعض الحروف وشوب بعضها بغيره ، لإرادة معانٍ عندهم قبيحة مع احتمالها لإ ) ادة معانٍ غير تلك يقصدها العرب مليحة ) وطعناً في الدين ) أي بما يفسرونه به لمن يطمعون فيه من تلك المعاني الخبيثة .
ولما ذكر هذه الكلمات الموجهة ، بين ما كان عليهم لو وقفوا فقال قاطعاً جدالهم : ( ولو أنهم قالوا ) أي في الجواب له ( صلى الله عليه وسلم ) ) سمعنا واطعنا ) أي بدل الكلمة الأولى ) واسمع وانظرنا ( بدل ما بعدها ) لكان ) أي هذا القول ) خيراً لهم ) أي من ذلك ، لعدم استيجابهم الإثم ) وأقوم ) أي لعدم الاحتمال الذم ) ولكن لعنهم الله ( أي(2/263)
صفحة رقم 264
طردهم الذي له جميع صفات العظمة والكمال ، وأبعدهم عن الخير ) بكفرهم ) أي بدناءتهم بما يغطون من أنوار الحق ودلائل الخير ، فلم يقولوا ذلك ولما سبب عن طردهم استمر كفرهم قال : ( فلا يؤمنون ) أي يتجدد لهم إيمان ) إلا قليلاً ) أي منهم ؛ استثناء من الواو ، فإنهم يؤمنون ، أو هو استثناء مفرغ من مصدر يؤمن أي من إيمانهم ببعض الآيات الذي لا ينفعها لكفرهم بغيره .
النساء : ( 47 - 48 ) يا أيها الذين. .. . .
) يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ( ( )
ولما بكتهم على فعلهم وقولهم وصرح بلعنهم ، خوَّفهم إظهار ذلك في الصور المحسوسة فقال مقبلاً عليهم إقبال الغضب : ( ياأيها الذين ( منادياً لهم من محل البعد ) أوتوا الكتاب ( ولم يسند الإيتاء إليه تحقيراً لهم ، ولم يكتف بنصيب منه لأنه لا يكفي في العلم بالمصادقة إلا الجميع ) آمنوا بما نزلنا ) أي تدريجاً كما نزلنا التوراة كذلك ، على ما لنا من العظمة التي ظهرت في إعجازه وإخباره بالمغيبات ودقائق العلوم مما عندكم وغيره على رشاقته وإيجازه ؛ وأعلم بعنادهم وحسدهم بقوله : ( مصدقاً لما معكم ( من حيث أنهم له مستحضرون ، وبه في حد ذاته مُقِّرون .
ولما أمرهم وقطع حجتهم ، حذرهم فقال - مخففاً عنهم بالإشارة بحرف الجر إلى أنه متى وقع منهم إيمان في زمن مما قبل الطمس أخره عنهم - : ( من قبل أن نطمس ) أي نمحو ) وجوهاً ( فإن الطمس في اللغة : المحو ؛ وهو يصدق بتغيير بعض الكيفيات ، ثم سبب عن ذلك قوله : ( فنردها ( فالتقدير : من قبل أن نمحو أثر وجوه بأن نردها ) على أدبارها ) أي بأن نجعل ما إلى جهة القبل من الرأس إلى جهة الدبر ، وما إلى الدبر النقل من حال إلى ما دونها من ضدها بجعلها على حال القفا ، ليس فيها معلم من فم ولا غيره ، ليكون المعنى بالطمس مسح ما في الوجه من المعاني ؛ قال ابن هشام : نطمس : نمسحها فنسويها ، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه ، وكذلك ) ) فطمسنا أعينهم ( ) [ القمر : 37 ] المطموس العين : الذي ليس بن جفنيه شق ، ويقال : طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء .
ويكون الوجه في هذا التقدير على حقيقته ؛ ثم خوفهم نوعاً آخر من الطمس فقال عاطفاً على ( نردها ) : ( أو نلعنهم ((2/264)
صفحة رقم 265
أي نبعدهم جداً عن صورة البشر أن نقلب وجوههم أو جميع ذواتهم على صورة القردة ) كما لعنا أصحاب السبت ( إذ قلنا لهم
77 ( ) كونوا قردة خاسئين ( ) 7
[ البقرة : 65 ] ويكون الوجه في هذا التقدير الأخير عبارة عن الجملة ، فهو إذن ما استعمل في حقيقته ومجازه ، ويجوز أن يكون واحد الوجهاء ، فيكون عود الضمير إليه استخداماً ، ويكون المراد بالرد على الأدبار جعلهم أدنياء صغرة من الأسافل - والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما كان ذلك أمراً غريباً ومقدوراً عجيباً ، وكان التقدير : فقد كان أمر الله فيهم بذلك - كما علمتم - نافذاً ؛ أتبعه الإعلام بأن قدرته شاملة ، وأن وجوه مقدوراته لا تنحصرن فقال عاطفاً على ما قدرته : ( وكان أمر الله ) أي حكمه وقضاؤه ومراده في كل شيء شاء منهم ومن غيره بذلك وبغيره ، لأن له العظمة التي لا حد لها والكبرياء التي تعيي الأوصاف دونها ) مفعولاً ) أي كائناً حتماً ، لا تخلف له أصلاً ، فلا بد من وقوع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا ، وقد آمن بعضهم فلم يصح أنهم لم يؤمنوا ، لأنه قد وقع منهم إيمان .
ولما كانوا مع ارتكابهم العظائم يقولون : سيغفر لنا ، وكان امتثالهم لتحريف أحبارهم ورهبانهم شركاً بالله - كما قال سبحانه وتعالى
77 ( ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أراباباً من دون الله ( ) 7
[ التوبة : 31 ] قال - معللاً لتحقيق وعيدهم ، معلماً أن ما أشير إليه من تحريفهم أداهم إلى الشرك - : ( إن الله ) أي الجامع لصفات العظمة ) لا يغفر أن يشرك به ) أي على سبيل التجديد المستمر إلى الموت سواء كان المشرك من أهل الكتاب أم لا ، وزاد ذلك حسناً انه في سياق
77 ( ) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ( ) 7
[ النساء : 36 ] ولما أخبر بعدله أخبر بفضله فقال : ( ويغفر ما دون ذلك ( الأمر الكبير العظيم من كل معصيته سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، سواء تاب فاعلها أو لا ، ورهب بقوله - إعلاماً بأنه مختار ، لا يجب عليه شيء - : ( لمن شيئاً ( ولما كان التقدير : فإن من أشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ، عطف عليه قوله : ( ومن يشرك ) أي يوجد منه شرك في الحال أو المآل ، وأما الماضي فجبته التوبة ) بالله ) أي الذي كل شيء دونه ) فقد افترى ) أي تعمد كذباً ) إثماً عظيماً ) أي ظاهراً في نفسه من جهة عظمه أنه قد ملأ أقطار نفسه وقلبه وروحه وبدنه مظهراً للغير أنه إثم ، فهو في نفسه منادٍ بأنه باطل مصر ، فلم يدع للصلح موضعاً ، فلم تقتض الحكمة العوف عنه ، لأنه قادح في الملك ، وإنما طوى مقدمة الضلال وذكر مقدمة الافتراء - لكون السياق لأهل الكتاب الذين ضلالهم على علم منهم وتعمد وعناد ، بخلاف ما يأتي عن العرب ، وفي التعبير بالمضارع استكفاف مع استعطاف واستجلاب في استرهاب .(2/265)
صفحة رقم 266
النساء : ( 49 - 55 ) ألم تر إلى. .. . .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ( ( )
ولما كان في ذلك إشارة إلى أن المرادين بهذه الآيات من أهل الكتاب أضل الناس ، وكانوا يقولون : إنهم أهدى الناس ؛ عجب منهم منكراً عليهم بعد افترائهم تزكية أنفسهم فقال : ( ألم تر ( وأبعدهم بقوله : ( إلى الذين يزكون أنفسهم ) أي بما ليس لهم من قولهم ) ) لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ( ) [ البقرة : 80 ] وقولهم ) ) لن يدخل الجنة لا من كان هوداً أو نصارى ( ) [ البقرة : 111 ] وقوله : ( ) ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ( ) [ آل عمران : 188 ] ) ) ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ( ) [ النساء : 27 ] فإن إبعاد غيرهم في الميل مصحح لتزكيتهم أنفسهم بالباطل ونحو ذلك مما تقدم وغيره .
ولما كان معنى الإنكار : ليس لهم ذلك لأنهم كذبوا فيه وظلموا ، أشار إليه بقوله : ( بل الله ) أي الذي له صفات الكمال ) يزكي من يشاء ) أي بما له من العلم التام والقدرة الشاملة والحكمة البالغة والعدل السوي بالثناء عليه وبخلق معاني الخير الظاهرة فيه لتنشأ عنها الأعمال الصالحة ، فإذا زكي أحداً من أصفيائه بشيء كالنبوة ، كان له أن يزكي نفسه بذلك حملاً على ما ينفع الناس به عن الله ) ولا ) أي والحال أن الذين يزكيهم أو يدسيهم لا ) يظلمون فتيلاً ) أي مقدار ما في شق النواة من ذلك الشيء المفتول ، أي قليلاً ولا كثيراً ، لأنه عالم بما يستحقون وهو الحكم العدل الغني عن الظلم ، لأن له صفات الكمال .
ولما أخبر تعالى أن التزكية إنما هي إليه بما له من العظمة والعلم الشامل ، وكان ذلك أمراً لا نزاع فيه ، وشهد عليهم بالضلال ، وثبت أن ذلك كلامه بما له من الإعجاز في حالتي الإطناب والإيجاز ؛ ثبت كذبهم فزاد في توبيخهم فقال - معجباً لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من وقاحتهم واجترائهم على من يعلم كذبهم ، ويقدر على معالجتهم بالعذاب ، مبيناً(2/266)
صفحة رقم 267
أنه ( صلى الله عليه وسلم ) في الحضرة بعد بيان بعدهم - : ( انظر كيف يفترون ) أي يتعمدون ) على الله ) أي الذي لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء ) الكذب ) أي من غير خوف منهم لذلك عاقبة ) وكفى ) أي والحال أنه كفي ) به ) أي بهذا الكذب ) إثماً مبيناً ) أي واضحاً في نفسه ومنادياً عليها بالبطلان .
ولما عجب من كذبهم دلَّ عليه بقوله : ( ألم تر ( وكان الأصل : إليهم ، ولكنه قال - لزيادة التقريع والتوبيخ والإعلام بأن كفرهم عناد لكونه عن علم - : ( إلى الذين ( وعبر بإلى دلالة على بعدهم عن الحضرات الشريفة ) أوتوا نصيباً من الكتاب ) أي الذي هو الكتاب في الحقيقة لكونه من الله ) يؤمنون بالجبت ( وهو الصنم والكاهن والساحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله ) والطاغوت ( وهو اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ؛ وكل هذه المعاني تصح إرادتها هنا ، وهي مما نهي عنه في كتابهم - وأصله ومداره مجاوزة الحد عدواناً ، وهو واحد وقد يكون جمعاً ، قال سبحانه وتعالى
77 ( ) أوليائهم الطاغوت يخرجونهم ( ) 7
[ البقرة : 257 ] والحال أن أقل نصيب من الكتاب كافٍ في النهي عن ذلك وتكفير فاعله .
ولما دل على ضلالهم دل على إضلالهم بقوله - معبراً بصيغة المضارع دلالة على عدم توبتهم - : ( ويقولون للذين كفروا ( ودل بالتعبير بالإشارة دون الخطاب على أنهم يقولون ذلك فيهم حتى في غيبتهم ، حيث لا حامل لهم على القول إلا محض الكفر فقال : ( هؤلاء ) أي الكفرة العابدون للأصنام ) أهدى ) أي أقوم في الهداية ) من الذين آمنوا ) أي أوقعوا هذه الحقيقة ، فيفهم ذمهم بالتفضيل على الذين يؤمنون ومن فوقهم من باب الأولى ) سبيلاً ( مع أن في كتابهم من إبطال الشرك وهدمه وعيب مدانيه وذمه في غير موضع تأكيداً أكيداً وأمراً عظيماً شديداً .
ولما أنتج ذلك خزيهم قال : ( أولئك ) أي البعداء عن الحضرات الربانية ) الذين لعنهم الله ) أي طردهم بجميع ما له من صفات الكمال طرداً هم جديرون بأن يختصوا اللعن الذل ولاصغار ، عطف عليه قوله : ( ومن يلعن الله ) أي الملك الذي له الأمر كله منهم ومن غيرهم ) فلن تجد له نصيراً ) أي في وقت من الأوقات أصلاً ، وكرر لاتعبير بالاسم الأعظم لأن المقام يقتضيه إشعاراً لتناهي الكفر الذي هو أعظم المعاصي بتناهي الغضب .
ولما كان التقدير : كذلك كان من إلزامهم الذل والصغار ، عطف عليه قوله :(2/267)
صفحة رقم 268
) أم ) أي ليس ) لهم نصيب ) أي واحد من الأنصباء ) من الملك فإذاً ) أي فيتسبب عن ذلك أنهم إذا كان لهم أدنى نصيب منه ) لا يؤتون الناس ) أي الذين آمنوا ) نقيراً ) أي شيئاً من الدنيا ولا الآخرة من هدى ولا من غيره ، والنقير : النقرة في ظهر النواة ، قيل : غاية في القلة ؛ فهو كناية عن العدم ، فهو بيان لأنهم لإفراط بخلهم لا يصلحون إلا لما هم فيه من الذل فكيف بدرجة الملك لأن الملك والبخل لا يجتمعان ) أم ) أي ليس لهم نصيب ما من الملك ، بل ذلهم لازم وصغارهم أبداً كائن دائم ، فهم ) يحسدون الناس ) أي محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الذي جمع فضائل الناس كلهم من الأولين والآخرين وزاد عليهم ما شاء الله ، أو العرب الذي لا ناس الآن غيرهم ، لأنَّا فضلناهم على العالمين - بأن يتمنوا دوام ذلهم كما دام لهم هم ، ودل على نهاية حسدهم بأداة الاستعلاء في قوله : ( على ما آتاهم الله ) أي بما له من صفات الكمال ) من فضله ( حسدوهم لما رأوا من إقبال جدهم وظهور سعدهم وأنهم سادة الناس وقادة أهل الندى والبأس :
إن العرانين تلقاها محسدة ولن ترا للئام الناس حساداً
وقد آتاهم الله سبحانه وتعالى جميع أنواع الملك ، فإنه على ثلاثة أقسام : ملك على الظواهر والبواطن معاً ، وهو للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لهم من غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة والشفاعة والبر واللطف التي كل منها سبب للانقياد ، وذلك مع ما لهم بالله سبحانه وتعالى من تمام الوصلة ؛ وملك على الظواهر فقط ، وهو ملك الملوك ؛ وملك على البواطن فقط ، وهو ملك العلماء .
ولما ذمهم سبحانه وتعالى أولاً بالجهل ومدح النفس تشبعاً بما لم يعطوا ، وذلك سبب لجميع النقائص ، وثانياً بأعظم منه : منع الحق من أهله بخلاً ، وثالثاً بأعظم منهما : تمنى ألا يصل إلى أحد نعمة وإن كان لا تنقصهم ، فحازوا بذلك أعلى خلال الذم ، وكانت المساوي تضع والمحاسن ترفع ، تسبب عن هذا توقع السامع لإعلاء العرب وإدامة ذل اليهود وموتهم بحسدهم فقال : ( فقد ) أي فتسبب عن هذا وتعقبه أنَّا آتيناهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر للتنبيه على التوصيف الذي شاركوهم به في استحقاق الفضائل فقال : ( آتينا ) أي بما لنا من العظمة ) آل إبراهيم ) أي الذي أعلمانكم في كتابكم أنا أقسمنا له أنَّا نعز ذريته ونهديهم ونجعل ابنة إسماعيل حالاً على جميع حدود إخوته ، ويده في جميع الناس ويده على كل أحد ويد كل به ) الكتاب ) أي الذي لا كتاب إلا هو لما له من الحفظ والفضل بالإعجاز والفصل ) والحكمة ) أي النبوة التي ثمرتها العمل المتقن بالعلم المحرر المحكم ) وآتيناهم ( مع ذلك ) ملكاً(2/268)
صفحة رقم 269
عظيماً ) أي صخماً واسعاً باقياً إلى أن تقوم الساعة ) فمنهم ) أي من آل إبراهيم ) من آمن به ( وهم أغلب العرب ) ومنهم من صد عنه ) أي أعرض بنفسه ، وصد غير كبني إسرائيل وبعض العرب .
ولما كان قد علم من السياق أن الطاعن فيه ميت بحسده من غير أن يضره بأمر دنيوي ، وكان التقدير لبيان أمرهم في الآخرة : فحكمنا أن تسعر بهم النار بعد الذل في هذه الدار والهوان والصغار ، عطف عليه قوله : ( وكفى بجهنم سعيراً ) أي توقداً والتهاباً في غاية الإحراق والعسر والإسراع إلى الأذى ، وفي آية الطاغوت أنهم سمحوا ببدل الدين - وهو لا أعز منه عند الإنسان - في شهادتهم للكفرة بالهداية ، وفي آية الملك الإيماء إلى أنهم في الحضيض من الشح بالخسيس الفاني ، وفي آية الحسد أنه لم يكفهم التوطن في حضيض الشح بما أوتوا مع الغنى حتى سفلوا عنه إلى أدنى من ذلك الحسد لمن آتاه الله ما لا ينقصهم .
النساء : ( 56 - 59 ) إن الذين كفروا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( ( )
ولما أثبت لمن صد عنه النار علله بقوله : ( إن الذين كفروا بآياتنا ) أي ستروا ما أظهرته عقولهم بسببها ) سوف نصليهم ) أي بوعد ثابت وإن طال معه الإمهال ) ناراً ( ولما كانت النار - على ما نعهده - مفنية ماحقة ، استأنف قوله رداً لذلك : ( كلما نضجبت جلودهم ) أي صارت بحرّها إلى حالة اللحم النضيج الذي أدرك أن يؤكل ، فصارت كاللحم الميت الذي يكون في الجرح ، فلا يحس بالألم ) بدَّلناهم ) أي جعلنا لهم ) جلوداً غيرها ) أي غير النضيجة بدلاً مناه بأن أعدناها إلى ما كانت عليه قبل تسليط النار عليها ، كما إذا صُغتَ من خاتم خاتماً على غير هيئته ، فإنه هو الأول لأن الفضة واحدة ، وهو غيره لأن الهيئة متغايرة ، وهكذا الجلد الثاني مغاير للنضيج في الهيئة ) ليذوقوا ) أي أصحاب الجلود المقصودون بالعذاب ) العذاب ) أي ليدوم لهم تجدد ذوقه ، فتجدد لهم مشاهده الإعادة بعد البلى كل وقت ، كما كانوا يجددون التكذيب(2/269)
صفحة رقم 270
بذلك كل وقت ، ليكون الجزاء من جنس العمل ، فإنه لو لم يُعِدْ منهم ما وهي لأداه وهيه إلى البلى ، ولو بلى منهم شيء لبلوا كلهم فانقطع عذابهم .
ولما كان هذا أمراً لم يعهد مثله ، دل على قدرته عليه بقوله : ( إن الله ) أي الملك الأعظم ) كان ( ولم يزل ) عزيراً ) أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ) حكيماً ( ي يتقن صنعه ، فجعل عذابهم على قدر ذنوبهم ، لأن عزائمهم كانت على دوامهم على ما استحقوا به ذلك ما بقوا .
ولما ذكر الترهيب بعقاب الكافرين أتبعه الترغيب بثواب المؤمنين فقال : ( والذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ) وعملوا ( بياناً لصدقهم فيه ) الصالحات سندخلهم ) أي بوعد لا خلف فيه ، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف - كما في الكافرين - أنهم أقصر الأمم مدة ، أو أنهم أقصرهم أعماراً إراحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء ، وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف ) جنات ) أي بساتين ، ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال : ( تجري من تحتها الأنهار ) أي إن أرضها في غاية الريّ ، كل موضع منها صالح لأن تجري منه نهر .
ولما ذكر قيامها وما به دوامها ، أتبعه ما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال : ( خالدين فيها أبداً ( ولما وصف حسن الدار ذكر حسن الجار فقال : ( لهم فيها أزواج ( والمطرد في وصف جمع القلة لمن يفضل الألف والتاء ، فعدل هنا عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهن لشدة الموافقة في الطهر كذات واحد فقيل : ( مطهرة ) أي متكرر طهرها ، لا توجد وقتاً وكانت الشمس تنسخ الظل فتخرج إلى التحول إلى مكان آخر ، وربما آذى حرها ، أمّن من ذلك فيها بقوله : ( وندخلهم ) أي فيها ) ظلاً ) أي عظيماً ، وأكده بقوله ) ظليلاً ) أي متصلاً لا فرج فيه ، منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما ، ولا حر فيه ولا برد ، بل هو في غاية الاعتدال .
ولما تقدم في هذه السورة الأمر بالإحسان والعدل في النساء واليتامى في الإرث وغيره ، وفي غير ذلك من الدماء والأموال والأقوال والأفعال ، وذكرخيانة أهل الكتاب وما أحل بهم لذلك من العقاب ، وذكر أنه آتى هذه الأمة الملك المقتضي للحكم ، وآتاهم الحكمة بعد جهلهم وضعفهم ؛ أقبل عليهم بلذيذ خطابه بعد ما وعدهم على امتثال أمره من كريم ثوابه بما ختمه بالظل الموعود على العدل في حديث ( سبعة يظلمهم الله في ظله ) فقال : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) يأمركم ) أي أيتها الأمة ) إن(2/270)
صفحة رقم 271
تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) أي من غير خيانة ما ، كما فعل أهل الكتاب في كتمان ما عندهم والإخبار بغيره ، والأمانة : كل ما وجب لغيرك عليك .
ولما أمر بما يحق للإنسان في نفسه ، أمر بما يحق له في معاملة غيره ، وحقق لهم ما لم يكونوا يرومونه من أمر الملك بقوله بأداة القطع عاطفاً شيئين على شيئين : ( إذا حكمتم ( وبين عموم ملكهم لسائر الأمم بقوله : ( بين الناس ( وبين المأمور به بقوله : ( أن تحكموا بالعدل ) أي السواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له ، فإن ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل ، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ) الحديث .
ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله : ( إن الله ( معبراً أيضاً بالاسم الأعظم ) نعمَّا ) أي نعم شيئاً عظيماً ) يعظم به ( وحثهم على المبادرة إلى حسن الامتثال بقوله : ( إن الله ( مكرراً لهذا الاسم الشريف ليجتهدوا في الترقي في طهارة الأخلاق إلى حد لم يبلغه غيرهم .
ولما كان الرقيب في الأمانات لا بد له من أن يكون له من يد سمع وعلم قال : ( كان ) أي ولم يزل ولا يزال ) سميعاً ) أي بالغ السمع لكل ما يقولونه جواباً لأمره وغيره ذلك ) بصيراً ) أي بالغ البصر والعلم بكل ما يفعلونه في ذلك وغيره من امتثال وغيره .
ولما أمر سبحانه بالعدل ورغب فيه ، ورهب من تركه ؛ أمر بطاعة المتنصبين لذلك وغيره ، وفي غير ذلك من الدماء والأموال والأقوال والأفعال ، وذكر خيانة أهل الكتاب وما أحل بهم لذلك من العقاب ، وذكر أنه آتى هذه الأمة الملك المقتضي للحكم ، وآتاهم الحكمة بعد جهلهم وضعفهم ؛ أقبل عليهم بلذيذ خطابه بعد ما وعدهم على امتثال أمره من كريم ثوابه بما ختمه بالظل الموعود على العدل في حديث ( سبعة يظلمهم الله في ظله ) فقال : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) يأمركم ) أي الذي له صفات الكمال ) يأمركم ) أي أيتها الأمة ) إن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) أي من غير خيانة ما ، كما فعل أهل الكتاب في كتمان ما عندهم والإخبار بغيره ، والأمانة : كل ما وجب لغيرك عليك .
ولما أمر بما يحق للإنسان في نفسه ، أمر بما يحق له في معاملة غيره ، وحقق لهم ما لم يكونوا يرومونه من أمر الملك بقوله بأداة القطع عاطفاً شيئين على شيئين : ( إذا حكمتم ( وبين عموم ملكهم لسائر الأمم بقوله : ( بين الناس ( وبين المأمور به بقوله : ( أن تحكموا بالعدل ) أي السواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له ، فإن ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل ، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ) الحديث .
ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله : ( إن الله ( معبراً أيضاً بالاسم الأعظم ) نعمَّا ) أي نعم شيئاً عظيماً ) يعظكم به ( وحثهم على المبادرة إلى حسن الامتثال بقوله : ( إن الله ( مكرراً لهذا الاسم الشريف ليجتهدوا في الترقي في طهارة الأخلاق إلى حد لم يبلغه غيرهم .
ولما كان الرقيب في الأمانات لا بد له من أن يكون له من يد سمع وعلم قال : ( كان ) أي ولم يزل ولا يزال ) سميعاً ) أي بالغ السمع لكل ما يقولونه جواباً لأمره وغيره ذلك ) بصيراً ) أي بالغ البصر والعلم بكل ما يفعلونه في ذلك وغيره من امتثال وغيره .
ولما أمر سبحانه بالعدل ورغب فيه ، ورهب من تركه ؛ أمر بطاعة المنتصبين لذلك الحاملة لهم على الرفق بهم والشفقة عليهم فقال : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ، وبدأ بما هو العمدة في الحمل على ذلك فقال : ( أطيعوا ) أي بموافقة الأمر تصديقاً لدعواكم الإيمان ) الله ) أي فيما أمركم به في كتابه مستحضرين ما له من الأسماء الحسنى ، وعظم رتبة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بإعادة العامل فقال : ( وأطيعوا الرسول ( فيما حده لكم في سنته عن الله وبينه من كتابه لأن منصب الرسالة مقتضٍ لذلك ، ولهذا عبر به دون النبي ) وأولي الأمر منكم ) أي الحكام ، فإن طاعتهم فيما لم يكن معصيته - كما أشير إلى ذلك بعدم إعادة العامل - من طاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وطاعته من طاعة الله عز وجل ؛ والعلماء من أولي الأمر أيضاً ، وهم العاملون فإنهم يأمرون بأمر الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) (2/271)
صفحة رقم 272
ولما أبان هذا الحكم الأصول الثلاثة أتبعها القياس ، فسبب عما تقديره : هذا في الأمور البينة من الكتاب والسنة والتي وق الإجماع عليها ، قوله : ( فإن تنازعتم في شيء ) أي لإلباسه فاختلفت فيه آراؤكم ) فردوه إلى الله ) أي المحيط علماً وقدرة بالتضرع بين يديه بما شرعه لكم من الدعاء والعبادة ، ليفتح لكم ما أغلق منه ويهديكم إلى الحق منه ) والرسول ) أي الكامل الرسالة بالبحث عن آثار رسالته من نص في ذلك بعينه أو ولى قياس ، ودلت الآية على ترتيب الأصول الأربعة على ما هو فيها وعلى إبطال ما سواها ، وعلم من إفراده تعالى وجمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أعلام أمته أن الأدب توحيد الله حتى في مجرد ذكره ، وأكد البيان لدعوى الطاعة بقوله : ( إن كنتم تؤمنون ) أي دائمين على الإيمان بتجديده في كل أوان ) بالله ) أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ) واليوم الآخر ( الحامل على الطاعة الحاجز عن المعصية ، ثم دل على عظمة هذا الأمر وعميم نفعه بقوله مخصصاً رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ذلك ) أي الأمر العالي الرتبة ) خير ) أي وغيره شر ) وأحسن تأويلاً ) أي عاقبة أو ترجيعاً ورداً من ردكم إلى ما يقتضيه قويم العقل من غير ملاحظة لآثار الرسالة من الكتاب والسنة ، فإن في الأحكام ما لا يستقل عنهما قال : ( نزلت هذه الآية ) أطيعوا الله ( في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في سرية ) يعني فأمرهم أن يدخلوا في النار .
النساء : ( 60 - 63 ) ألم تر إلى. .. . .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ( ( )(2/272)
صفحة رقم 273
ولما كان التقدير - كما أفهمه آخر الآية وأشعر به أولها بعد أن جمع الخلق على طاعته بالطريقة الذي ذكره : فمن أبى ذلك فليس بمؤمن ، دل عليه بقوله معجباً مخاطباً لأكمل الخلق الذي عرفه الله المنافقين في لحن القول : ( ألم تر ( وأشار إلى بعدهم عن على حضرته بقوله : ( إلى الذين ( وإلى كذبهم ودوام نفاقهم بقوله : ( يزعمون أنهم آمنوا ) أي أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم ) بما أنزل إليك ( ودل على أن هذا الزاعم المنافق كان من أهل الكتاب قبل ادعاء الإسلام بقوله : ( وما ) أي ويزعمون أنهم آمنوا بما ) أنزل من قبلك ) أي من التوراة والإنجيل ، قال الأصبهاني : ولا يستعمل - أي الزعم - في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق ، يقال : زعم فلان - إذا شك فيه فلم يعرف كذبه أو صدقه ، والمراد أن هؤلاء قالوا قولاً هو عند من لا يعلم البواطن أهل لأن يشك فيه بدليل أنهم ) يريدون أن يتحاكموا ) أي هم وغرماؤكم ) إلى الطاغوت ) أي إلى الباطل المعرق في البطلان ) وقد ) أي والحال أنهم قد ) أمروا ( منم له الأمر ) أن يكفروا به ( في كل ما أنزل من كتابك وما قبله ، ومتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين به أي بالتحاكم إليه ) ضلالاً بعيداً ( بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى .
وهذه الآية سبب تسمية عمر رضي الله عنه بالفاروق لضربه عنق منافق لم يرض بحكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قصة ذكرها الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت ، ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( وإذا قيل لهم ) أي من أي قائل كان ) تعالوا ) أي أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم ) إلى ما أنزل الله ) أي الذي عنده كل شيء ) وإلى الرسول ) أي الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع أنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة ، رأيتهم - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر الوصف الذي دل على كذبهم فيما زعموه من الإيمان فقال : ( رأيت المنافقين يصدون ) أي يعرضون ) عنك ( وأكد ذلك بقوله : ( صدوداً ) أي هو في أعلى طبقات الصدود .
ولما تسبب عن هذا تهديدهم ، قال - مهولاً لوعيدهم بالإبهام والتعجيب منه بالاستفهام ، معلماً بأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ولا يغني عنهم الاعتذار - : ( فكيف ) أي يكون حالهم ) إذا أصابتهم مصيبة ) أي عقوبة هائلة ) بما قدمت أيديهم ( مما ذكرنا ومن غيره .
ولما كان الذي ينبغي أن يكون تناقضهم بعيداً لأن الكذب عند العرب كان شديداً ؛ قال : ( ثم جاءوك ) أي خاضعين بما لينت منهم تلك المصيبة حال(2/273)
صفحة رقم 274
كونهم ) يحلفون بالله ) أي الحاوي لصفات الكمال من الجلال والجامل غير مستحضرين لصفة من صفاته ) إن ) أي ما ) أردنا ) أي في جميع أحوالنا وبسائر افعالنا ) إلا إحساناً وتوفيقاً ) أي أن تكون الأمور على الوجه الأحسن والأوفق لما رأينا في ذلك مما خفي على غيرنا - وقد كذبوا في جميع ذلك .
ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما يصدر منهم من التناقضات وهم غير محتشمين ولا هائبين ، قال معلماً بشأنهم معلماً لما يصنع بهم : ( أولئك ) أي البعداء عن الخير ) الذين يعلم الله ) أي الحاوي لنعوت العظمة ) ما في قلوبهم ) أي من شدة البغض للإسلام وأهله وإن اجتهدوا في إخفائه عنه ، ثم سبب تعليماً لما يصنع بهم وإعلاماً بأنهم لا يضرون إلا أنفسهم قوله : ( فأعرض عنهم ) أي عن عقابهم وعن الخشية منهم وعن عتابهم ، لأنهم أقل من أن يحسب لهم حساب ) وعظهم ) أي وإن ظننت أن ذلك لا يؤثر ، لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يصطنعها لما أراد متى أراد ) وقل لهم في أنفسهم ) أي بسببها وما يشرح أحوالها ويبين ونقائصها من نفائسها ، أو خالياً معهم ، فإن ذلك أقرب إلى ترقيقهم ) قولاً بليغاً ) أي يكون في غاية البلاغة في حد ذاته .
النساء : ( 64 - 68 ) وما أرسلنا من. .. . .
) وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ( ( )
ولما أمر بطاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذم من حاكم إلى غيره وهدده ، وختم تهديده بأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالإعراض عنه والوعظ له ، فكان التقدير : فما أرسلناك وغيرك من الرسل إلا الرفق بالأمة والصفح عنهم والدعاء لهم على غاية الجهد والنصيحة ، عطف عليه قوله : ( وما أرسلنا ) أي بما لنا من العظمة ، ودل على الإعراق في الاستغراق بقوله : ( من رسول ( ولما كان ما يؤتيهم سبحانه وتعالى من الآيات ويمنحهم به من المعجزات حاملاً في ذاته على الطاعةن شبهه بالحامل على إرساله فقال : ( إلا ليطاع ) أي لأن منصبه الشريف مقتض لذلك آمر به داعٍ إليه ) بإذن الله ) أي بعلم الملك الأعظم الذي له الإحاطة بكل شيء في تمكينه من أن يطاع ، لما جعلنا له من المزية بالصفات العظيمة والمناصب الجليلة والأخلاق الشريفة كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من الأنبياء نبي إلا وقد أوتي من(2/274)
صفحة رقم 275
الآيات ما مثله آمن عليه البشر ) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه .
ولما كان التقدير : فلو أطاعوك لكان خيراً لهم ، عطف عليه قوله : ( ولو أنهم إذ ) أي حين ) ظلموا أنفسهم ) أي بالتحاكم إلى الطاغوت أو غيره ) جاءوك ) أي مبادرين ) فاستغفروا الله ) أي عقبوا مجيئهم بطلب المغفرة من الملك الأكرم لما استحضروه له من الجلال ) واستغفر لهم الرسول ) أي ما فرطوا بعصيانه فيما استحقه عليهم الطاعة ) لوجدوا الله ) أي الملك الأعظم ) تواباً رحيماً ) أي بليغ التوبة على عبيده والرحمة ، لإحاطته بجميع صفات الكمال ، فقبل توتبهم ومحا ذنوبهم وأكرمهم .
ولما أفهم ذلك أن إباءهم لقبول حكمه والاعتراف بالذنب لديه سبب مانع لهم من الإيمان ، قال - مؤكداً للكلام غاية التأكيد بالقسم المؤكد لإثبات مضمونه و ( لا ) النافية لنقيضه : ( فلا وربك ) أي المحسن إليك ) لا يؤمنون ) أي يوجدون هذا الوصف بأداة التراخي فقال : ( ثم لا يجدوا في نفسهم حرجاً ) أي نوعاً من الضيق ) مما قضيت ) أي عليهم به ، وأكد إسلامهم لأنفسهم بصيغة التفعيل فقال : ( ويسلموا ) أي يوقعوا لتسليم البليغ لكل ما هو لهم من أنفسهم وغيرها لله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) خالصاً عن شوب كره ؛ ثم زاده تأكيداً بقوله : ( تسليماً ( وفي الصحيح أن الآية نزلت في الزبير وخصم له من الأنصار ، فلا التفات إلى من قال : إنه حاطب رضي الله عنه .
ولما كان التقدير : فقد كتبنا عليهم طاعتك والتسيم لك في هذه الحنيفية السمحة التي دعوتهم إليها وحملتهم عليها ، عطف عليه قوله : ( ولو أنا كتبنا عليهم ) أي هذا المخاصم للزبير رضي الله عنه وأشباه هذا المخاصم ممن ضعف إيمانه كتابة مفروضة ) إن اقتلوا أنفسكم ) أي كما كان ي التوراة ي كفارة بعض الذنوب مباشرة حقيقة ، وكما فعل المهاجرون بتعريض أنفسهم لذلك ثلاث عشرة سنة ، هم فيها عند أعداء الله مضغة لحم بين يدي نسور يتخاطفونها ) أو اخرجوا ( كما فعل المهاجرون - رضي الله عنهم - الذين الزبير من رؤوسهم ) من دياركم ) أي التي هي لأشباحكم كأشباحكم لأرواحكم - توبة لربكم ) ما فعلوه ) أي لقصور إيمانهم وضعف إيقانهم ، ولو كتبناه عليهم ولم يرضوا به كفروا ، فاستحقوا القتل(2/275)
صفحة رقم 276
ولما كان كل كدر لا يخلو عن خلاصه ، قال : ( إلا قليل منهم ) أي وهم العالمون بأن الله سبحانه وتعالى خير لهم من أنفسهم ، وأن حياتهم إنما هي في طاعته ؛ روي أن من هؤلاء ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه ، قال : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ، لو أمروني محمد أن أقتل نفسي لقتلها وكذا قال ابن مسعود وعمار ابن ياسر رضي الله عنهما ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : والله لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك .
ولا ريب في أن التقدير : ولكنا لم نكتب عليهم فليشكروا لنا ويستمسكوا بهذه الحنيفية السمحة .
ولما كان مبنى السورة على الائتلاف وكان السياق للاستعطاف ، قال مرغباً : ( ولو أنهم ) أي هؤلاء المنافقين ) فعلوا ما يوعظون ) أي يجدد لهم الوعظ في كل حين ) به لكان ) أي فعلهم ذلك ) خيراً لهم ) أي مما اختاروه لأنفسهم ) وأشد تثبيتاً ) أي مما ثبتوا به أنفسهم بالأيمان الحانثة ) وإذاً لآتيناهم ) أي وإذا فعلوا ما يوعظون به آتيناهم بما لنا من العظمة إيتاء مؤكداً لا مرية فيه .
وأشار بقوله : ( من لدنا ( إلى أنه من غرائب ما عنده من خوارق خوارق العادات ونواقض نواقض المطردات ) أجراً عظيماً ولهديناهم ) أي بما لنا من العظمة ) صراطاً مستقيماً ) أي يوصلهم إلى مرادهم ، وقد عظم سبحانه وتعالى هذا الأجر ترغيباً في الطاعة أنواعاً من العظمة منها التنبيه ب ( إذا ) ، والإتيان بصيغة العظمة و ( لدن ) مع العظمة والوصف العظيم .
النساء : ( 69 - 73 ) ومن يطع الله. .. . .
) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ( ( )
ولما رغب في العمل بمواعظه ، وكان الوعد قد يكون لغلظ في الموعوظ ، وكان ما قدمه في وعظه أمراً مجملاً ؛ رغب بعد ترقيقه بالوعظ ي مطلق الطاعة التي المقام كله لها ، مفصلاً إجمال ما وعد عليها فقال : ( ومن يطع الله ) أي في امتثال أوامره والوقوف عند زواجره مستحضراً عظمته - طاعة هي على سبيل التجدد والاستمرار ) والرسول ) أي ي كل ما أراده ، فإن منصب الرسالة يقتضي ذلك ، لا يما من بلغ نهايتها ) فأولئك ) أي العالو الرتبة العظيمو الشرف ) مع الذين أنعم ) أي بما له من(2/276)
صفحة رقم 277
صفات الجلال والجمال ) عليهم ) أي معدود من حزبهم ، فهو بحيث إذا أراد زيارتهم أو رؤيتهم وصل إليها بسهولة ، لا أنه يلزم أن يكون في درجاتهم وإن كانت اعماله قاصرة .
ثم بينهم بقوله : ( من النبيين ) أي الذين أنبأهم الله بدقائق الحكم ، وأنبؤوا الناس بحلائل الكلم ، بما لهم من طهارة الشيم والعلو والعظم ) والصديقين ) أي الذين صدقوا أول الناس ما أتاهم عن الله وصدقوا هم في أقوالهم وأفعالهم ، فكانوا قدوة لمن بعدهم ) والشهداء ) أي الذين لم يغيبوا أصلاً عن حضرات القدس ومواطن الأنس طرفة عين ، بل هم مع الناس بجسومهم ومع الله سبحانه وتعالى بحلومهم وعلومهم سواء شهدوا لدين الله بالحق ، ولسواه بالبطلان بالحجة أو بالسيف ، ثم قتلوا في سبيل الله ) والصالحين ) أي الذي لا يعرتيهم في ظاهر ولا باطن بحول الله فساد أصلاً ، وإلى هذا يشير كلام العارف الشيخ رسلان حيث قال : ما صلحت ما دامت فيك بقية لسواه ، وقد تجتمع الصفات الأربع في شخص وقد لا تجتمع ، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أحق الأمة بالصديقية وإن قلان : إن علياً وزيداً رضي الله تعالى عنهما أسلما قبله ، لأنه - لكبره وكونه لم يكن قبل الإسلام تابعاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) - كان قدوة لغيره ، ولذلك كان سبباً لإسلام ناس كثير وأولئك كانوا سبباً لإسلام غيرهم ، فكان له مثل أجر الكل ، وكان فيه حين إسلامه قوة الجهاد في الله سبحانه وتعالى بالمدافعة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - وغير ذلك من الأفعال الدالة على صدقه ، ولملاحظة هذه الأمور كانت رتبتها تلي رتبة النبوة ، ولرفع الواسطة بينهما وفق الله سبحانه وتعالى هذه الأمة التي اختارها بتولية الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) ودفنه إلى جانبه ، ومن عظيم رتبتهم تنويه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في آخر عمره بهم فقال : ( مع الرفيق الأعلى ) روى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنهما قالت : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة ) ، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة ، فسمعته يوقل : ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين ( فعلمت أنه خيّر .
ولما أخبر أن المطيع مع هؤلاء ، لم يكتف بما أفهم ذكرهم من جلالهم وجلال من معهم ، بل زاد في بيان علو مقامهم ومقام كل من معهم بقوله : ( وحسن ) أي وما أحسن ) أولئك ) أي العالو الأخلاق السابقون يوم السباق ) رفيقاً ( من الرفق ، وهو(2/277)
صفحة رقم 278
لغة : لين الجانب ولطافة الفعلن وهو مما يستوي واحده وجمعه .
ثم أشار إلى تعظيم ما منحهم به مرغباً في العمل بما يؤدي إليه بأداة لابعد فقال : ( ذلك الفضل ( وزاد في الترغيب فيه بالإخبار عن هذا الابتداء بالاسم الأعظم فقال : ( من الله ( ولما كان مدار التفضيل على العلم ، قال - بانياً على تقديره : لما يعلم من صحة بواطنهم اللازم منها شرف ظواهرهم - : ( وكفى بالله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) عليماً ( يعلم من الظواهر والضمائر ما يستحق به التفضيل من فضله على غيره .
ولما دل على درجة الشهادة بعد ما ذكر من ثواب من قبل موعظته ولو في قتل نفسه ، وذم من أبى ذلك بعد ما حذر من الأعداء من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين المخادعين ، فتوفرت دواعي الراغبين في المكارم على ارتقابها ؛ التفت إلى المؤمنين ملذذاً لهم بحسن خطابه نادباً إلى الجهاد مع الإرشاد إلى الاستعداد له مما يروع الأضداد ، فقال سبحانه وتعالى - منبهاً بأداة البعد وصيغة المضي إلى أن الراسخ لا ينبغي له أن يحتاج إلى تنبيه على مثل هذا - : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان .
ولما كان سبحانه وتعالى قد خلق للإنسان عقلاً يحمله على التيقظ والتحرز من الخوف ، فكان كالآلة له ، وكان - لما عنده من السهو والنسيان في غالب الأوقات - مهملاً له ، فكان كأنه قد ترك آلة كانت منه ؛ قال سبحانه وتعالى : ( خذوا حذركم ) أي من الأعداء الذين ذكرتهم لكم وحذرتكم منهم : المشاققين منهم والمنافقين ) فانفروا ) أي اخرجوا تصديقاً لما ادعيتم إلى جهادهم مسرعين ) ثبات ) أي جماعات متفرقين سرية في إثر سرية .
لا تملوا ذلك أصلاً ) أو انفروا جميعاً ) أي عسكراً واحداً ، ولا تخاذلوا تهلكوا ، فكأنه قال : خففت عنكم قتل الأنفس على الصفة التي كتبتها على من قبلكم ، ولم آمركم إلا بما تألفونه وتتمادحون به فيما بينكم وتذمون تاركه ، من موارد القتالن الذي هو مناهج الأبطال ، ومشارع فحول الرجال ، وجعلت للباقي منكم المحبوبين من الظفر وحل المغنم ، وللماضي أحب المحبوب ، وهو الدجرة التي ما بعدها إلا درجة النبوة ، مع أنه لم ينقص من أجله شيء ، ولو لم يقتل في ذلك السبيل المرضى لقتل في غيره في ذلك الوقت .
ولما كان التقدير : فإن منكم الخارج إلى الجهاد عن غير حزم ولا حذر ، عطف عليه قوله - مبيناً لما هو من أجلّ مقاصد هذه الآيات من تبكيت المنافقيو للتحذير منهم ، ووصفهم ببعض ما يخفون ، مؤكداً لأن كل ما ادعى الإيمان ينكر أن يكون كذلك - : ( وإن منكم ) أي يا أيها الذين آمنوا وعزتنا ) لمن ليبطئن ) أي يتثاقل في نفسه عن(2/278)
صفحة رقم 279
الجهاد لضعفه في الإيمان أو نفاقه ، ويأمر غيره بذلك أمراً مؤكداً إظهاراً لشفقة عليكم وهو عين الغش فإنه يثمر الضعف المؤدي إلى جرأة العدو المفضي إلى التلاشي .
ولما كان لمن يتثاقل عنهم حالتا نصر وكسر ، وسبب عن تثاقله مقسماً لقوله فيهما : ( فإن أصابتكم مصيبة ) أي ي وجهكم الذي قعدوا عنه ) قال ( ذلك القاعد جلهاً منه وغلظة ) قد أنعم الله ) أي الملك الأعظم ، ذاكراً لهذا الاسم غير عارف بمعناه ) عليّ إذ ) أي حين ، أو لأني ) لم أكن معهم شهيداً ) أي حاضراً ، ويجوز أن يريد الشهيد الشرعي ، ويكون إطلاقه من باب التنزل ، فكأنه يقول : هذا الذي هو أعلى ما عندهم أعدُّ فواته مني نعمة عظيمة ) ولئن أصابكم فضل ) أي فتح وظفر وغنيمة ) من الله ) أي الملك الأعلى الذي كل شيء بيده .
ولما كان تحسره إنما هو على فوات الأغراض الدنيوية أكد قوله : ( ليقولن ) أي في غيبتكم ، واعترض بين القول ومقوله تأكيداً لذمهم بقوله : ( كأن ) أي كأنه ) لم ) أي مشبهاً حاله حال من لم ) يكن بينكم وبينه مودة ) أي بسبب قوله : ( يا ليتني كنت معهم فأفوز ) أي بمشاركتهم في ذلك ) فوزاً عظيماً ( وذلك لأنه لو اكن ذا مودة لقال حال المصيبة : يا ليتها لم تصبهم ولو كنت معهم لدافعت عنهم وحال الظفر : لقد سرني عزهم ، ولكنه لم يجعل محط همه في كلتا الحالتين غير المطلوب الدنيوي ، ولعله خص الحالة الثانية بالتشبيه لأن ما نسب إليه فيها لا يقتصر عليه محب ، وأما الحالة الأولى فربما اقتصر المحب فيها على ذلك قصداً للبقاء لأخذ الثأر ونكال الكفار ، وذكر المودة لأن المنافقين كانوا يبالغون في إظهار الود والشفقة والنصيحة للمؤمنين .
النساء : ( 74 ) فليقاتل في سبيل. .. . .
) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( ( )(2/279)
صفحة رقم 280
ولما بين أن محط حال القاعد عن الجهاد الدنيا ، علم أن قصد المجاهد الآخرة ، فسبب عن ذلك قوله : ( فليقاتل في سبيل الله ) أي بسبب تسهيل طريق الملك الذي له الأمر كله وحفظ الناس عليه ) الذين يشرون ) أي يبيعون برغبة ولجاجة وهم المؤمنون ، أو يأخذون وهم المنافقون - استعمالاً للمشترك في مدلوليه ) الحياة الدنيا ( فيتركونها ) بالآخرة ( ولما كان التقدير : فإنه من قعد عن الجهاد فقد رضي في الآخرة بالدنيا ، عطف عليه قوله : ( ومن يقاتل في سبيل الله ) أي فيريد إعلاء كلمة الملك المحيط بصفات الجمال والجلال ) فيقتل ) أي في ذلك الوجه وهو على تلك النية بعد أن يغلب القضاء والقدر على نفسه ) أو يغلب ) أي الكفار فيسلم ) فسوف نؤتيه ) أي بوعد لا خلف فيه بما لنا من العظمة المحيطة بالخير والشر ، والآية من الاحتباك : ذكرُ القتل أولاً دليل على السلامة ثانياً ، وذكر الغالبية ثانياً دليل على المغلوبية أولاً ؛ وربما دل التعبير بسوف على طول عمر المجاهد غالباً خلافاً لما يتوهمه كثير من الناس - إعلاماً بأن المدار على فعل الفاعل المختار ، لا على الأسباب ) أجراً عظيماً ) أي في الدارين على اجتهاده في إعزاز دين الله سبحانه وتعال ، واقتصاره على هذين القسمين حث على الثبات ولو كان العدو أكثر من الضعف
77 ( ) فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ( ) 7
[ البقرة : 249 ]
77 ( ) والله يؤيد بنصره من يشاء ( ) 7
[ آل عمران : 13 ] والله مع الصابرين .
ولما كان التقدير : فما لكم لا تقاتلون في سبيل الله لهذا الأجر الكثير ممن لا يخلف الميعاد ، وكانوا يقولون : إنا لا نعطي الميراث إلا لمن يحمي الذمار ، ويذب عن الجار ، ويمنع الحوزة ؛ قال عاطفاً على هذا المقدر ملهباً لهم ومهيجاً ، ومبكتاً للقاعدين وموبخاً : ( وما ) أي وأي شيء ) لكم ( من دنيا آو آخره حال كونكم ) لا تقاتلون ) أي تجددون القتال في كل وقت ، لا تملونه ) في سبيل الله ) أي بسبب تسهيل طريق الملك الذي له العظمة الكاملة والغنى المطلق وبسبب خلاص ) والمستضعفين ) أي المطلوب من الكفار ضعفهم حتى صار موجوداً ، ويجوز - وهو أقعد - أي يكون منصوباً على الاختصاص تنبيهاً على أنه من أجل ما في سبيل الله .
ولما كان الإنكاء من هذا ما لمن كان رجاء نفعه أعظم ، ثم ما لمن يكون العار به أقوى وأحكم ؛ رتبهم هذا الترتيب فقال : ( من الرجال والنساء والولدان ) أي المسلمين الذين حبسهم الكفار عن الهجرة ، وكانوا يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، وكل منهما كافٍ(2/280)
صفحة رقم 281
في بعث ذوي الهمم العالية والمكارم على القتال ، ثم وصفهم بما يهيج إلى نصرهم ويحث على غياثهم فقال : ( الذين يقولون ) أي لا يفترون ) ربنا ) أي أيها المحسن إلينا بإخراجنا من الظلمات إلى النور ) أخرجنا من هذه القرية ( ثم وصفوها بالحامل على هذا الدعاء فقالوا : ( الظالم أهلها ) أي بما تيسره لنا من الأسباب ) واجعل لنا من لدنك ) أي من أمور العجيبة في الأمور الخارقة للعادات ) ولياً ( يتولى مصالحنا .
ولما كان الولي قد لا يكون فيه قوة النصر قالوا : ( واجعل لنا ( ولما كانوا يريدون أن يأتيهم خوارق كرروا قولهم : ( من لدنك نصيراً ) أي بليغ النصر إلى حد تعجب منه المعتادون للخوارق ، فكان بهذا الكلام كأنه سبحانه وتعالى قال : قد جعلت لكم الحظ الأوفر من الميراث ، فما لكم لا تقاتلون في سبيلي شكراً لنعمتي وأين ما تدّعون من الحمية والحماية ما لكم لا تقاتلون في نصر هؤلاء الضعفاء لتحقق حمايتكم للذمار ومنعكم للحوزة وذبكم عن الجار .
ولما أخبر عن افتقارهم إلى الأنصار وتظلمهم من الكفار ، استأنف الإخبار عن الفريقين فقال مؤكداً للترغيب في الجهاد : ( الذين آمنوا ) أي صدقوا في دعواهم الإيمان ) يقاتلون ) أي تصديقاً لدعواهم من غير فترة أصلاً ) في سبيل الله ) أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال قاصدين وجهه بحماية الذمار وغيره ، وأما من لم يصدق دعواه بهذا فما آمن ) والذين كفروا يقاتلون ) أي كذلك ) في سبيل الطاغوت ( فلا ولي لهم ولا ناصر .
ولما كان الطاغوت الشيطان أو من زينة الشيطان ، وكان كل من عصى الله منه وممن أغواه حقيراً ؛ سبب عن ذلك قوله : ( فقاتلوا أولياء الشيطان ( ثم علل الجرأة عليهم بقوله : ( إن كيد الشيطان ) أي الذي هو رأس العصاة ) كان ( جبلة وطبعاً ) ضعيفاً ( ولما عرفهم هذه المفاوز الأخروية والمفاخر الدنيوية ، وختم بما ينهض الجبان ، ويقوي الحنان ، ورغبهم بما شوق إليه من نعيم الجنان ؛ عجب من حال من توانى بعد ذلك واستكان ، فقال تعالى مقبلاً بالخطاب على أعبد خلقه وأطوعهم لأمره : ( ألم تر ( وأشار إلى أنهم بمحل بعد عن حضرته تنهيضاً لهم بقوله : ( إلى الذين قيل لهم ) أي جواباً لقولهم : إنا نريد أن نبسط ايدينا إلى الكفار بالقتال لأن امتحاننا بهم قد طال ) كفوا أيديكم ) أي ولا تبسطوها إليهم فإنا لم نأمر بهذا ) وأقيموا الصلاة ) أي صلة بالخالق واستنصاراً على المشاقق ) وأتوا الزكاة ( منماة للمال وطهرة للأخلاق وصلة للخلائق ) فلما كتب عليهم القتال ) أي الذي طلبوه وهم يؤمرون بالصفح ، كتابة لا تنفك إلى آخر(2/281)
صفحة رقم 282
الدهر ) إذا فريق منهم ) أي ناس تلزم عن فعلهم الفرقة ، فأحبوا هذه الكتب بأنهم ) يخشون الناس ) أي الذين هم مثلهم ، أن يضروهم ، والحال أنه يقبح عليهم أن يكونوا أجراً منهم وهم ناس مثلهم ) كخشية الله ) أي مثل ما يخشون الله الذي هو القادر لا غيره .
ولما كان كفهم عن القتال شديداً يوجب لمن يراه منهم أن يظن بهم من الجبن ما يتردد به في الموازنة بين خوفهم من الناس وخوفهم من الله ، عبر بأداة الشك فقال : ( أو أشد خشية ) أي أو كانت خشيتهم لهم عند الناظر لهم أشد من خشيتهم نم الله ، فقد أفاد هذا أن خوفهم من الناس ليس بأقل من خوفهم من الله جزماً بل إما مثله أو أشد منه ؛ وقد يكون الإبهام لتفاوت بالنسبة إلى وقتين ، فيكون خوفهم منه في وقت متساوياً ، وفي آخر أزيد ، فهو متردد بين هذين الحالين ؛ ويجوز أن يكون ذلك كناية عن كراهتهم القتال في ذلك الوقت وتمنيهم لتأخيره إلى وقت ما .
وأيد ما تقدم من الظن بقوله ما هو كالتعليل للكراهة : ( وقالوا ( جزعاً من الموت أو المتاعب - إن كانوا مؤمنين ، أو اعتراضاً - إن كانوا منافقين ، على تقدير صحة ما يقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ربنا ) أي أيها المحسن إلينا القريب منا ) لم كتبت علينا القتال ) أي ونحن الضعفاء ) لولا ) أي هلا ) أخرتنا ) أي عن الأمر بالقتال ) إلى أجل قريب ) أي لنأخذ راحة مما كنا فيه من الجهد من الكفار بمكة ، ( وسبب نزولها أن عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون وسعد بن أي وقاص وجماعة رضي الله عنهم كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيراً قبل أن يهادروا ، ويقولون : يا رسول الله إئذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا ، فيقول لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كفوا أيديكم ، فإني لم أومر بقتالهم ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم ) حكاه البغوي عن الكلبي ، وحكاه الواحدي عنه بنحوه ، وروي بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة فقالوا : يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة ، فقال : ( إني أمرت بالعفو ، فلا تقاتلوا القوم ) فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله عز وجل ) ألم إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ( الآية .
وهذا يفهم أن نسبة القول إليهم إنما هي(2/282)
صفحة رقم 283
حالهم في التأخر عن المبادرة إلى القتال حال من يقول ذلك ، فالمراد من الآية إلهابهم إلى القتال وتهييجهم ، ليس غير .
ولما عجب عليه الصلاة والسلام منهم إنكاراً عليهم كان كأنه قال : فما أقول لهم ؟ أمره بوعظهم وتضليل عقولهم وتقيييل أرائهم بقوله : ( قل متاع الدنيا قليل ) أي ولو فرض أنه مدّ في آجالكم إلى أن تملوا الحياة ، فإن كل منقطع قليل ، مع أن نعيمها غير محقق الحصول ، وإن حصل كان منغصاً بالكدورات ) والآخرة خير لمن اقى ) أي لأنها لا يفنى نعيمها مع أنه محقق ولا كدر فيه ، هي شر من الدنيا لمن لم يتق ، لأن عذابها طويل لا يزول ) ولا تظلمون فتيلاً ) أي لا في دنياكم بأن تنقص آجالكم بقتالكم ، ولا أرزاقكم باشتغالكم ، ولا في آخرتكم بأن يضيع شيء من ثوابكم على ما تنالونه من المشقة ، لأنه سبحانه وتعالى حكيم لا يضع شيئاً في غير موضعه ، ولا يفعل شيئاً إلا على قانون الحكمة ، فما لكم تقولون قول المتهم : لم فعلت ؟ أتخشون الظلم في إيجاب ما لم يجب عليكم وفي نقص الرزق والعمر ؟ أتخشون الظلم في إيجاب العدل وله أن يفعل ما شاء ، ) ) لا يسئل عما يفعل ( ) [ الأنبياء : 23 ] يحسن ويعطي من تقبل إحسانه أتم الفضل .
النساء : ( 78 - 81 ) أينما تكونوا يدرككم. .. . .
) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ( ( )
ولما زهدهم في دار المتاعب والأكدار على تقدير طول البقاء ، وكانوا كأنهم يرجون بترك القتال الخلود ، أو تأخير موت يسببه القتال ؛ نبههم على ما يتحققون من أن المنية منهل لا بد من وروده في الوقت الذي قدر له وإن امتنع الإنسان منه في الصحون ، أو رمى نفسه في المتألفن فقال تعالى - مبكتاً من قال ذلك ، مؤكداً بما النافية لنقيض ما تضمنه الكلام لأن حالهم حال من ينكر الموت بغير القتال ، مجيباً بحاق الجواب بعد ما أورد الجواب الأول على سبيل التنزل - : ( أينما تكونوا ( أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم ) يدرككم الموت ) أي فإنه طالب ، لا يفوته هارب ) ولو كنتم في بروج ) أي حصون برج داخل برج ، أو كل واحد منكم في برج .(2/283)
صفحة رقم 284
ولما كان ذلك جمعاً ناسب التشديد المراد به الكثرة في ) مشيّدة ) أي مطولة ، كل واحد منها شاهق في الهواء منيع ، وهو مع ذلك مطلي بالشيد أي بالجص ، فلا خلل فيه أصلاً ، ويجوز أن يراد بالتشيد مجرد الإتقان ، يعني أنها مبالغ في تحصينها - لأن السياق أيضاً يقتضيه ، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يكون في الجهاد الذي يستعقب السعادة الأبدية أولىمن أن يكون في غيره .
ثم عطف ما بقي من أقوالهم على ما سلف منها في قوله :
77 ( ) ربنا لم كتبت ( ) 7
[ النساء : 77 ] إلى آخره وإن كان هذا الناس منهم غير الأولين ، ويجوز أن يقال : إنه لما أخبر أن الحذر لا يغني من القدر أتبع ذلك حالاً لهم مبكتاً به لمن توانى في أمره ، مؤذناً بالالتفات إلى الغيبة إعراضاً عن خطابهم ببعض غضب ، لأنهم جمعوا إلى الإخلال بتعظيمهم لله تعالى الإخلال بالأدب مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الذي أرسله ليطاع بإذن الله فقال : ( وإن ) أي قالوا ذلك والحال أنه إن ) تصبهم ) أي بعض المدعوّين من الأمة ، وهم من كان في قلبه مرض ) حسنة ) أي شيء يعجبهم ، ويحسن وقعه عندهم من أي شيء كان ) يقولوا هذه من عند الله ) أي الذي له الأمر كله ، لا دخل لك فيها ) وإن تصبهم سيئة ) أي حالة تسوءهم من أي جهة كانت ) يقولوا هذه من عندك ) أي من جهة حلولك في هذا البلد تطيراً بك .
ولما كان هذا أمراً فادحاً ، وللفؤاد محرقاً وقادحاً ، سهل عليه بقوله : ( قل كل ) أي من السيئة والحسنة في الحقيقة دنيوية كانت أو أخروية ) من عند الله ) أي الذي له كل شيء ، ولا شيء لغيره ، وذلك كما قالوا لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار رضي الله تعالى عنه عندما هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - كما في السيرة : ( بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب يقولون : لو كان نبياً لم يمت صاحبه ، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي منالله شيئاً )(2/284)
صفحة رقم 285
ولما تسبب عن هذا معرفة أنهم أخطؤوا في ذلك ، فاستحقوا الإنكار قال منكراً عليهم : ( فما ( وحقرهم بقوله : ( لهؤلاء ( وكأنه قال : ( القوم ( الذي هو دال على القيام والكفاية ، إما تهكماً بهم ، وإما نسبة لهم إلى قوة الأبدان وضعف المكان ) لا يكادون يفقهون ( لا يقربون من أن يفهموا ) حديثاً ) أي يلقي إليهم أصلاً فهما جيداً .
ولما أجابهم بما هو الحق إيجاداً علمهم ما هو الأدب لماحظة السبب فقال مستأنفاًك ) ما أصابك من حسنة ( اي نعمة دنيوية أو أخروية ) فمن الله ) أي إيجاداً وفضلاً ، والإيمان أحسن الحسنات ، قال الإمام : إنهم يقولون : إنهم اتفقوا على أن قوله
77 ( ) ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ( ) 7
[ فصلت : 33 ] المراد به كلمة الشهادة ) وما أصابك ( وأنت خير الخلق ) من سيئة ) أي بلاء ) فمن نفسك ) أي بسببها فغيرك بطريق الأولى .
ولما اقتضى قولهم إنكار رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن فعل كل خارق ، وأخبر سبحانه وتعالى بأنه مستو مع الخلق في القدرة قال سبحانه وتعالى مخبراً بما اختصه به عنهم : ( وأرسلناك ) أي مختصين لك بعظمتنا ) للناس ) أي كافة ) رسولا ) أي تفعل ما على الرسل من البلاغ ونحوه ، وقد اجتهدت في البلاغ والنصيحة ، ولم نجعلك إلهاً تأتي بما يطلب منك من خير وشر ، فإن أنكروا رسالتك فالله يشهد بنصب المعجزات والآيات البينات ) وكفى بالله ( المحيط علماً وقدرة ) شهيداً ( لك بالرسالة والبلاغ .
ولما نفى عللهم في التخلف عن طاعته إلى أن ختم بالشهادة برسالته ؛ قال مرغباً مرهباً على وجه عام يسكن قلبه ، ويخفف من دوام عصيانهم له ، دالاً على عصمته في جميع حركاته وسكناته : ( من يطع الرسول ) أي كما هو مقتضى حاله ) فقد أطاع الله ( الملك الأعظم الذي لا كفوء له ، لأنه داع إليه ، وهو لا ينطق عن الهوى ، إنما يخبر بما يوحيه إليه ) ومن تولى ) أي عن طاعته .
ولما كان التقدير : فإنما عصى الله .
والله سبحانه وتعالى عالم به وقادر عليه ، فلو راد لرده ولو شاء لأهلكه بطغيانه ، فاتركه وذاك عبر عن ذلك كله بقوله : ( فما أرسناك ) أي بعظمتنا ) عليهم حفيظاً ( إنما أرسلناك داعياً .
ولما كان من شأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحفظ من أطاعه ومن عصاه ليبلغ ذلك من أرسله ، وكان سبحانه وتعالى قد أشار له إلى الأعراض عن ذلك ، لكونه لا يحيط بذلك علماً وإن اجتهد ؛ شرع يخبره ببعض ما يخفونه فقال حاكياً لبعض أقوالهم مبيناً لنفاقهم فيه وخداعهم ) ويقولون ) أي إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك ) طاعة ) أي كل طاعة منا لك دائماً ، نحن ثابتون على ذلك ، والتنكير للتعظيم بالتعميم ) فإذا برزوا ((2/285)
صفحة رقم 286
أي خرجوا ) من عندك بيَّت طائفة ( هم في غاية التمرد ) منهم ) أي قدرت وزورت على غاية من التقدير والتحرير مع الاستدارة والتقابل كفعل من يدبر الأمور ويحكمها ويتقنها ليلاً ) غير الذي تقول ) أي تجدد قوله لك في كل حين من الطاعة التي أظهروها أو غير قولك الذي بلغته لهم ، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاء بعد تسكينها استثقالاً لتوالي الحركات في الطاء لقرب المخرجين ، والطاء تزيد بالإطباق ، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد ؛ وأظهر الباقون ، والإدغام أوفق لحالهم ، والإظهار أوفق لما فصح من محالهم .
ولما كان الإنسان من عادته إثبات الأمور التي يريد تخليدها بالكتابة أجرى الأمر على ذلك فقال : ( والله ( ي والحال أن الملك المستجمع لصفات الكمال ) يكتب ما يبيتون ) أي يجددون تبييته كلما فعلوه ، وهو غني عنه ولكن ذلك ليقربهم إياه يوم يقوم الأشهاد ، ويقيم به الحجة عليهم على ما جرت به عادتهم ، أو يوحى به إليك فيفضحهم بكتابته وتلاوته مدى الدهر ، فلا يظنوا أن تبييتهم يغنيهم شيئاً .
ولما تسبب عن ذلك كفايته ( صلى الله عليه وسلم ) هذا المهم قال : ( فأعرض عنهم ) أي فإنهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم ) وتوكل ) أي في شأنهم وغيره ) على الله ) أي الذي لا يخرج شيء عن مراده ) وكفى بالله ) أي المحيط علماً وقدرة ) وكيلاً ( فستنظر كيف تكون العاقبة في أمرك وأمرهم .
النساء : ( 82 - 84 ) أفلا يتدبرون القرآن. .. . .
) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ( ( )
ولما كان سبب إبطانهم خلاف ما يظهرونه اعتقاد أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رئيس ، لا يعلم إلا ما أظهروه ، لا رسول من الله الذي يعلم السر وأخفى ؛ سبب عن ذلك على وجه الإنكار إرشادهم إلى الاستدلال على رسالته بما يزيح الشك ويوضح الأمر ، وهو تدبر هذا القرآن المتناسب المعانين المعجز المباني ، الفائت لقوى المخاليق ، المظهر لخفاياهم على اجتهاده في إخفائها ، فقال سبحانه وتعالى دالاً على وجوب النظر في القرآن والاستخراج للمعاني منه : ( أفلا يتدبرون ) أي يتأملون ، يقال : تدبرت الشيء - إذا تفكرت في عاقبته وآخر أمره ) القرآن ) أي الجامع لكل ما يراد علمه من تمييز الحق من الباطل على نظام لا يختل ونهج لا يمل ؛ قال المهدوي : وهذا دليل على وجوب تعلم(2/286)
صفحة رقم 287
معاني القرآن وفساد قول من قال : لا يجوز أن يؤخذ منه إلا ما ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب ، وفيه دليل على النظر والاستدلال .
ولما كان التقدير : فلو كان من عند غير الله لم يخبر بأسرارهم ، عطف عليه قوله : ( ولو كان من عند غير الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة - كما زعم الكفار ) لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) أي في المعنى بالتناقض والتخلف عن الصدق في الإخبار بالمغيبات أو بعضها ، وفي النظم بالتفاوت في الإعجاز ؛ فإذا علموا أنه من عند الله بهذا الدليل القطعي حفظوا سرائرهم كما يحفظون علانياتهم ، لأن الأمر بالطاعة مستوٍ عند السر والعلن ؛ والتقيد بالكثير يفيد أن المخلقو عاجز عن التحرز من النقص العظيم بنفسه ، وإفهامه - عند استثناء نقيض التالي - وجود الاختلاف اليسير فيه تدفعه الصرائح ولما أمر سبحانه وتعالى بالنفر إلى الجهاد على الحزم والحذر ، وأولاه الإخبار بأن من الناس المغرر والمخذل تصريحاً بالثاني وتلويحاً إلى الأول ، وحذر منهما ومن غيرهما إلى أن ختم بأمر الماكرين ، وبأن القرآن قيم لا عوج فيه ؛ ذكر أيضاً المخذلين والمغررين على وجه أصرح من الأول مبيناً ما ان عليهم فقال : ( وإذا جاءهم ) أي هؤلاء المزلزلين ) أمر من الأمن ( من غير ثبت ) أو الخوف ( كذلك ) أذاعوا ) أي أوقعوا الإذاعة لما يقدرون عليه من المفاسد ) به ) أي بسببه نم غير علم منهم بصدقه من كذبه ، وحقه من باطله ، ومتفقه من مختلفه ، فيحصل الضرر البالغ لأهل الإسلام ، أقله قلب الحقائق ؛ قال في القاموس : أذاعه وبه : أفشاه ونادى به في الناس .
وذلك كما قالوا في أمر الأمن حين انهزم أهل الشرك بأحد ، فتركوا المركز الذي وضعهم به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وخالفوا أمره وأمر أميرهم ، فكان سبب كرة المشركين وهزمة المؤمنين ، وفي أمر الخوف حين صاح الشيطان : إن محمداً قد قتل ، فصدقوه وأذاعه بعضهم لبعض ، وانهزموا وأرادزا الاستجارة بالكفار من أبي سفيان وأبي عامر ، وكذا ما أشاعوه عند الخروج إلى بدر الموعد من أن أبا سفيان قد جمع لهم ما لا يحصى كثرة ، وأنهم إن لقوة لم يبق منهم أحد - إلى غير ذلك من الإرجاف إلى أن صارت المدينة تفور بالشر فوران المرجل ، حتى أحجموا كلهم - أو إلا أقلهم - حتى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد ) فاستجابوا حينئذ ، وأكسبهم هذا القول شجاعة وأنالهم طمأنينة ، فرجعوا بنعمة من اله وفضل لم يمسسهم سوء كما وعدهم الله سبحانه وأنالهم ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) إن صبروا واتقوا ، فكذب ظنهم وصدق الله ورسوله ، وفي هذا إرشاد إلى الاستدلال على كون القرآن من عنده سبحانه وتعالى بما يكذب من أخبارهم هذه التي(2/287)
صفحة رقم 288
يشيعونها ويختلف ، وأن ما كان من غيره تعالى فمختلف - وإن تحرى فيه متشبه - وإن دل عقله وتناهي نبله إلا أن استند عقله إلى ما ورد عن العالم بالعواقب ، المحيط بالكوائن على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، وإلى أن القياس حجة .
وأن تقليد القاصر للعالم واجب ، وأن الاستنباط واجب على العلماء ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) راس العلماء ، وإلى ذلك يومي قوله تعالى : ( ولو ردوه ) أي ذلك الأمر الذي لا نص فيه من قبل أن يتكلموا به ) إلى الرسول ) أي نفسه إن كان موجوداً ، وأخباره إن كان مفقوداً ) وإلى أولي الأمر منهم ) أي المتأهلين لأن يأمروا وينهوا من الأمراء بالفعل أو بالقوة من العلماء وغيرهم ) لعلمه ) أي ذلك الأمر على حقيقته وهل هو مما يذاع أو لا ) الذين يستنبطونه ) أي يستخرجونه بفطنتهم وتجربتهم كما يستخرج الإنباط المياه ومنافع الأرض ) منهم ) أي من الرسول وأولي الأمر .
ولما كان التقدير : فلولا فضل الله عليكم ورحمته بالرسول وورّاث علمه لاستبيحت بإشاعاتهم هذه بيضة الدين واضمحلت أمور المسلمين ؛ عطف عليه قوله : ( ولولا فضل الله عليكم ) أي أيها المتسمون بالإسلام بإنزال الكتاب وتقويم العقول ) ورحمته ( بإرسال الرسول ) لاتبعتم الشيطان ) أي المطرود المحترق ) إلا قليلاً ) أي منكم فإنهم لا يتبعونه حفظاً من الله سبحانه وتعالى بما وهبهم من صحيح العقل من غير واسطة رسول ؛ وهذه الآية من المواضع المستصعبة على الأفهام بدون توقيف على المراد بالفضل إلا عند من آتاه الله سبحانه وتعالى علماً بالمناسبات ، وفهماً ثاقباً بالمراد بالسياقات ، وفطنة بالأحوال والمقامات تقرب من الكشف ، وذلك أن من المقرر أنه لا بد من مخالفة حكم المستثنى لهم تكون بأحد أمور ثلاثة كل منها فاسد ، إما بأن والرحمة فاهتدوا ، ومخالفة المستثنى لهم تكون بأحد أمور ثلاثة كل منها فاسد ، إما بأن يعدموا الفضل فيتبعوه ، ويلزم لعيه أن يكون الضال أقل من المهتدي ، وهو خلاف المشاهد ؛ أو بأن يعدموه فلا يتبعوه ، فيكونوا مهتدين من غير فضل ؛ أو بأن يوجد عليهم الفضل فيتبعوه ، فيكونوا ضالين مع الفضل والرحمة اللذين كانا سبباً في امتناع الضلال عن المخاطبين .
فيكونا ن تراة مانعين ، وتارة غير مانيعن ، فلم يفيدا إذن مع أن أيضاً يلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي ؛ فإذا حمل الكلام على أن المراد بالفضل الإرسال وضح المعنى ويكون التقدير : ولولا إرسال الرسول لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم ، فإنهم لا يتبعونه من غير إرشاد الرسول ، بل بهداية من الله سبحانه وتعالى وفضل بلا واسطة كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ؛ والدليل على هذا المقدر أن السياق لرد الأشياء كلها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، والمنع من الاستقلال بشيء دونه ، (2/288)
صفحة رقم 289
ولما بين سبحانه وتعالى نفاقهم المقتضي لتقاعدهم عن الجهاد بأنفسهم وتنشيطهم لغيرهم ، كان ذلك سبباً لأن يمضي ( صلى الله عليه وسلم ) لأمره سبحانه وتعالى من غير التفات إليهم وافقوا أو نافقوا ، فقال سبحانه وتعالى بعد الأمر بالنفر ثبات وجميعاً ، وبيان أن منهم المبطىء ، مشيراً إلى أن الأمر باق وإن بطّأ الكل : ( فقاتل في سبيل الله ) أي الذي له الأمر كله ولو كنت وحدك .
ولما كان كأنه قيل : فما أفعل فيمن أرسلت إليهم إن لم يخرجوا ؟ قال - معلماً بأنه قد جعله اشجع الناس وأعلمهم بالحروب وتدبيرها ، وهو مع تأييده بذلك قد تكفل بنصرته ولم يكله إلى أحد - : ( لا تكلف إلا نفسك ) أي ليس عليك إثم تباعك لو تخلفوا عنك ، وقد أعاذهم الله سبحانه وتعالى من ذلك ، ولا ضرر عليك في الدنيا أيضاً من تخليهم ، فإن الله سبحانه وتعالى ناصرك وحده ، وليس النصر إلا بيده سبحانه وتعالى ، وما كان سبحانه وتعالى ليأمره بشيء إلا وهو كفوء له ، فهو ملىء بمقاتلة الكفار كلهم وحده وإن كانوا أهل الأرض كلهم ، ولقد عزم في غزوة بدر الموعد - التي قيل : إنها سبب نزول هذه الآية - على الخروج إلى الكفار ولو لم يخرج معه أحد ؛ وقد اقتدى به صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه في قتال أهل الردة فقال للصحابة رضي الله تعالى عنهم : والله لو لم أجد إلا هاتين - يعني ابنتيه : عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما - لقاتلتهم بهما .
ولما كان ذلك قد يفتر عن الدعاء قال : ( وحرض المؤمنين ) أي مرهم بالجهاد وانههم عن تركه وعن مواصلة كل من يثبطهم عنه وعظمهم واجتهد في أمرهم حتى يكونوا مستعدين للنفر متى ندبوا حتى كأنهم لشدة استعدادهم حاضرون في الصف دائماً .
ثم استأنف الذكر لثمرة ذلك فقال : ( عسى الله ) أي الذي استجمع صفات الكمال ) أن يكف ( بما له من العظمة ) بأس الذين كفروا ) أي عن أن يمنعوك من إظهار الدين بقتالك وقتال من تحرضه ، ولقد فعل سبحانه وتعالى ذلك ، فصدق وعده ، ونصر عبده ، هزم الأحزاب وحده ، حتى ظهر الدين ، ولا يزال ظاهراً حتى يكون آخر ذلك على يد عيسى عليه الصلاة والسلام .
ولما كان السامع ربما فهم أنه لا يتأتى كفهم إلا بذلك ، قال ترغيباً وترهيباً واحتراساً : ( والله ) أي الذي لا مثل له ) أشد بأساً ) أي عذاباً وشدة من المقاتلين والمقاتَلين ) وأشد تنكيلاً ) أي تعذيباً بأعظم العذاب ، ليكون ذلك مهلكاً للمعذب(2/289)
صفحة رقم 290
ومانعاً لغيره عن مثل فعله ؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز : يقال : نكلته تنكيلاً - إذا عملت به عملاً يكون نكالاً لغيره ، أي عبرة فيرجع عن المراد من أجله ، وهو أن الناظر إليه والذي يبلغه ذلك يخاف أن يحل به مثله ، أي فيكون له ذلك قيداً عن الإقدام ؛ والنكل - بالكسر : القيد .
النساء : ( 85 - 88 ) من يشفع شفاعة. .. . .
) مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( ( )
ولما كان ذلك موجباً للرغبة في طاعة النبي صلى الله عليه وسم لا سيما في الجهاد ، وللرغبة فيمن كان بصفة المؤمنين من الإقبال على الطاعة ، والإعراض عن كل من كان بصفة المانفقين ، والإدامة لطردهم وإبعادهم والغلظة عليهم ، والحذر من مجالستهم حتى يتبين إخلاصهم ، وكان بين كثير من خلص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبينهم قرابات توجب العطف المقتضي للشفقة عليهم ، الحاملة للشفاعة فيهم ، إما بالإذن في التخلف عن الجهاد لما يزخوفون القول من الأعذار الكاذبة ، أو ي العفو عنهم عند العثور على نقائصهم ، أو في إعانتهم أو إعانة غيرهم بالمال والنفس في أمر لاجاهد عند ادعاء أن المانع له عنه العجز - وفي غير ذلك ، وكانت التوبة معروضة لهم ولغيرهم ، وكان البر ما سكن إلأيه القلب ، والإثم ما حاك في الصدر ، والإنسان على نفسه بصيرة ، وكانت البواطن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، وكان الإنسان ربما أظهر شراً في صورة خير ؛ رغب سبحانه وتعالى في البر ، وحذر من الإثم بقوله - معمماً مستأنفاً في جواب من كأنه قال : أما تقبل فيهم شفاعة : ( من يشفع ) أي يوجد ويجدد ، كائناً من كان ، في أي وقت كان ) شفاعة حسنة ) أي يقيم بها عذر المسلم في كل ما يجوز في الدين ليوصل إليه خيراً ، أو يدفع عنه ضيراً ) يكن له نصيب منها ( بأجر تسببه في الخير ) ومن يشفع ( كائناً من كان ، في أي زمان كان ) شفاعة سيئة ) أي بالذب عن مجرم ي أمر لا يجوز ، والتسبب في إعلائه وجبر دائه ؛ وعظّم الشفاعة السيئة لأن درء المفاسد أولى من جلب المصلح ، فقال - معبراً بما يفهم النصيب ويفهم أكثر مه تغليظاً في الزجر : ( يكن له كفل منها ( وهذا بيان لأن الشفاعة فيهم سيئة إن تحق إجرامهم ، حسنة إن علمت توبتهم وإسلامهم .(2/290)
صفحة رقم 291
ولما كان كل من تحريض المؤمنين على الجهاد والشفاعة الحسنة من وادي ( من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) حَسُنَ اقترانهما جداً ، والنصيب قدر متميز من الشيء يخص من هو له ، وكذا الكفل إلا أن الاستعمال يدل على أنه أعظم من النصيب ، ويؤيده ما قالوا من أنه قد يراد به الضعف ، فكأنه نصيب متكف بما هو له من إسعاد وإبعاد ؛ قال أهل اللغة : النصيب : الحظ ، والكفر - بالكسر : الضعف والنصيب والحظ ، ومادة ( نصب ) يدور على العلم المنصوب ، ويلزمه الرفع والوضع والتمييز والأصل والمرجع والتعب ، فيلزمه الوجع ، ومن لوازمه أيضاً الحد والغاية والجد الوقوف ؛ ومادة ( كفل ) تدور على الكفل - بتحريك وهو العجز أو ردفه ، ويلزمه الصحابة واللين والرفق والتأخر ؛ وقال الإمام : الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه ، والمقصود هنا حصول ضد ذلك كقوله
77 ( ) فبشرهم بعذاب اليم ( ) 7
[ آل عمران : 21 والتوبة : 34 والانشقاق : 24 ] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سيقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله سبحانه وتعالى - انتهى .
وما غلظ هذا الزجر إلا للعلم بأن أكثر النفوس ميالة بأصحابها للشفاعة بالباطل .
ولما كان الأليق بالرغبة أن لا يقطع في موجبها وإن عظم بالحقية ، ليكون ذلك زاجراً عن مقارفة شيء منها وإن صغر ؛ عبر في الحسنة بالنصيب ، وفي السيئة بالكفل ؛ ويؤيد إرادة هذا أنه تعالى لما ذكر ما يوجب الجنة من الإيمان والتقوى ، وكان في سياق الوعظ لأهل الكتاب الذين هم على شرع أصله حق بتشريع رسول من عند الله ، فتركهم لذلك بعيد يحتاج إلى زيادة ترغيب ؛ عبر بالكفل فقال تعالى :
77 ( ) ياأيها الذين آمنوا تقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ( ) 7
[ الحديد : 28 ] إلى آخرها .
ولما كان نصيب مبهماً بالنسبة إلى علمنا لتفاوته بالنسبة إلى قصور الشافعين ، وإقدامهم على الشفاعة على علم أو جهل وغير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به إلا الله سبحانه وتعالى علماً وقدرة ؛ قال تعالى مرغباً ومرهباً : ( وكان الله ) أي ذو الجلال والإكرام ) على كل شيء ( من الشافعين وغيرهم وجزاء الشفاعة ) مقيتاً ) أي حفيظاً وشهيداً وقديراً على إعطاء ما يقوت من أخلاق النفوس وأحوال القلوب وأرزاق الأبدان وجميع ما به القوام جزاء وابتداء من جميع الجهات ، وعلى تقدير ما يستحق كل أحد من الجزاء على الشفاعة وكل خير وشر .(2/291)
صفحة رقم 292
ولما كان ذلك موجباً لإعراض عنهم رأساً ومنابذتهم قولاً وفعلاً ، وبين سبحانه وتعالى أن التحية ليست من وادي الشفاعة ، وأن لاشفاعة تابعة للعمل ، والتحية تابعة للظاهر ، فقال سبحانه وتعالى عاطفاً على ما تقديره : فلا تشفعوا فيهم وأنتم تعلمون سوء مقاصدهم ، فقال معبراً بأداة التحقق بشارة لهم بأنهم يصرون - بعد ما هم فيه الآن من النكد - ملوكاً ، وفي حكم الملوك ، يحبون ويشفع عندهم ، وحثاً على التواضع : ( وإذا حييتم بتحية ) أي أي تحية كانت إيذا كانت مشروعة ، وأصل التحية الملك ، واشتقاقها من الحياة ، فكأن أي تحية كانت إذا كانت مشروعة ، وأصل الحية الملك ، واشتقاقها يبدأ به عند اللقاء ؛ وقال الأصبهاني : لفظ التحية صار كناية عن الإكرام ، فجميع أنواع الإكرام تدخل تحت لفظ التحية ) فحيوا بأحسن منها ( كأن تزيدوا عليها ) أو ردوها ) أي من غير زيادة ولا نقص ، وذلك دال على وجوب رد السلام - من الأمر ، وعلى الفور - من الفاء والإجماع موافق لذلك ، وترك الجواب إهانة ، والإهانة ضرر ، والضرر حرام ؛ قال الأصبهاني : والمبتدىء يقول : السلام عليكم ، والمجيب يقول : وعليكم السلام ، ليكون الافتتاح والاختتام بذكر الله سبحانه وتعالى .
ما أحسن جعلها تالية لآية الجهاد إشارة إلى أن من بذل السلام وجب الكف عنه ولو كان في الحرب ، على أن من مقتضيات هاتين الآيتين أن مبني هذه السورة على الندب إلى الإحسان والتعاطف والتواصل ، وسبب ذلك إما المال وقد تقدم الأمر به في قوله تعالى
77 ( ) وإذا حضر القسمة ( ) 7
[ النساء : 8 ] ، وإما غيره ومن أعظمه القولن ، لأنه ترجمان القلب الذي به العطف ، ومن أعظم ذلك الشفاعة والتحية ، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم ) فناسب ذكر هاتين الآيتين بعد ذكر آية الجهاد المختتمة بالبأس والتنكيل .
ولما كانت الشفاعة أعظمها في الإحسان قدمت ولا سيما وموجبها الإعراض ، ومقصد السورة التواصل ، فشأنها أهم والنظر إليها آكد ، ثم رغب في الإحسان في الرد ، ورهب من تركه بقوله معللاً : ( إن الله ) أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة ) كان ) أي أزلاً وأبداً ) على كل شيء حسيباً ) أي محصياً لجميع المتعددات دقيقها وجليلها ، كافياً لها في أقواتها وموباتها ، محاسباً بها ، مجازياً عليها ، وذلك كله شأن المقيت ؛ ثم(2/292)
صفحة رقم 293
علل ذلك بقوله دالاً على تلازم التوحيد والعدل : ( الله ) أي الذي لا مثل له ) لا إله إلا هو ) أي وقد أمركم بالعدل في الشفاعة والسلام ، فإن لم تفعلوه - لما لكم من النقائص التي منها الحساب ولا غيره ، ولا يخفى عليه شيء فالحكم على البواطن إنما هو له تعالى ، وأما أنتم فلم تكلفوا إلا بالظاهر .
ولما تبين أنه لا معارض له أنتج قوله مبيناَ لوقت الحساب الأعظم : ( ليجمعنكم ( وأكده باللام والنون دلالة على تقدير القسم لإنكار المنكرين له ، ولما كان التدريج بالإماتة شيئاً فيئاً ، عبر بحرف الغاية فقال : ( إلى يوم القيامة ( والهاء للمبالغة ، ثم آكده بقوله : ( لا ريب فيه ) أي فيفصل بينكم وبين من أخبركم بهم من المنافقين ونقد أحوالهم وبين محالهم ، فيجازي كلاً بما يستحق .
ولما كان التقدير : فمن أعظم من الله قدرة عطف عليه قوله : ( ومن أصدق من الله ) أي الذي له الكمال كله فلا شوب نقص يلحقه ) حديثاً ( وهو قد وعد بذلك لأنه عين الحكمة ، وأقسم عليه ، فلا بد من وقوعه ، وإذ قد تحرر بما مضى أن المنافقين كفرة ، لا لبس في أمرهم ، وكشف سبحانه وتعالى الحكم في باطن أمرهم بالشفاعة وظاهرة بالتحية ، وحذر من خالف ذلك بما أوجبته على نفسه حكمته من الجمع ليوم الفصل للحكم بالعدل ، وختم بأن الخبر عنهم وعن جميع ذلك صدق ؛ كان ذلك سبباً لجزم القول بشقاوتهم والإعراض عنهم والبعد عن الشفاعة فيهم ، والإجماع على ذلك من كل مؤمن وإن كان مبنى السورة على التواصل ، لأن ذلك إنما هو حيث لا يؤدي إلى مقاطعة أمر الله ، فقال تعالى مبكتاً لمن توقف عن الجزم بإبعادهم : ( فما لكم ( أيها المؤمنون ) في المنافقين ) أي أيّ شيء لكم من أمور الدنيا أو الآخرة في افتراقكم فيها ) فئتين ( بعضكم يشتد عليهم وبعضكم يرفق بهم .
ولما كان هذا ظاهراً في بروز الأمر المطاع بين القول بكفرهم وضحه بقوله ؛ ) والله ) أي والحال أن الملك الذي لا أمر لأحد معه ) أركسهم ) أي ردهم منكوسين مقلوبين ) بما كسبوا ) أي بعد إقرارهم بالإيمان من مثل هذه العظائم ، فاحذروا ذلك ولا تختلفوا في أمرهم بعد هذا البيان ؛ وفي عزوة أحد والتفسير من البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : ( لما خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه ، وكان أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرقتين : فرقة تقول : نقاتلهم ، وفرقة تقول : لا نقاتلهم ، فنزلت : ( فما لكم في المنافقين ( - الآية ، وقال : إنها طيبة تنفي الذنوب وفي رواية : -(2/293)
صفحة رقم 294
كما تنفي النار خبث الفضة ) انتهى .
فالمعنى حينئذ : اتفقوا على أن تيسيروا فيها بما ينزل عليكم في هذه الآيات .
ولما كان حال من يرفق بهم حال من يريد هدايتهم ، أنكر سبحانه وتعالى ذلك عليهم صريحاً لبت الأمر في كفرهم فقال ) أتريدون ) أي أيها المؤمنون ) إن تهدوا ) أي توجدوا الهداية في قلب ) من أضل الله ) أي وهو الملك الأعظم الذي لا يرد له أمر ، وهو معنى قوله : ( ومن ) أي والحال أنه من ) يضلل الله ) أي بمجمامع أسمائه وصفاته ) فلن تجد ) أي أصلاً أيها المخاطب كائناً من كان ) له سبيلاً ) أي إلى ما أضله عنه أصلاً ، والمعنى : إن كان رفقكم بهم رجاء هدايتهم فذلك أمر ليس إلا الله ، وإنما عليكم أنتم الدعاء ، فمن أجاب صار أهلاً للمواصلة ، ومن أبى صارت مقاطعته ديناً ، وقتله قربة ، والإغلاظ واجباً .
النساء : ( 89 - 92 ) ودوا لو تكفرون. .. . .
) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ( )
ولما أخبر بضلالهم وثباتهم عليه ، أعلم بأعراقهم فيه فقال : ( ودّوا ) أي أحبوا وتمنوا تمنياً واسعاً ) لو تكفرون ) أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً ) كما كفروا ( ولما لم يكن بين ودهم لكفرهم وكونهم مساوين لهم تلازم ، عطف على(2/294)
صفحة رقم 295
الفعل المودود - ولم يسبب - قوله : ( فتكونون ) أي وودوا أن يتسبب عن ذلك ويتعقبه أن تكونوا أنتم وهم ) سواء ) أي في الضلال ، أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً ، فأنتم ترجون في زمان الرفق بهم هدايتهم وهم يودون فيه كفركم وضلالكم ، فقد تباعدتم في المذاهب وتباينتم في المقاصد .
ولما أخبر بهذه الودادة ، سبب عنه أمرهم بالبراءة منهم حتى يصلحوا ، بياناً لأن قولهم في الإيمان لا يقبل ما لم يصدقوه بفعل فقال : ( فلا تتخذوا ) أي أيها المؤمنون ) منهم أولياء ) أي أقرباء منكم ) حتى يهاجروا ) أي يوقعوا المهاجرة ) في سبيل الله ) أي يهرجوا من خالفهم في ذات من لا شبه له ، ويتسببوا في هجرانه لهم إن كانوا في دار الحرب فبتركها ، وإن كانوا عندكم فبترك موادة الكفرة والموافقة لهم في أقوالهم وأفعالهم وإن كانوا أقرب أقربائهم ، وهجرتهم في جميع ذلك بمواصلتكم في جميع أقوالكم وأفعالكم ، والهجرة العامة هي ترك ما نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه .
ولما نهى عن موالاتهم وغيّي النهي بالهجرة ، سبب عنه قوله : ( فإن تولوا ) أي عن الهجرة المذكورة ) فخذوهم ) أي اقهروهم بالأسر وغيره ) واقتلوهم حيث وجدتموهم ) أي في حل أو حرم .
ولما كانوا يف هذه الحالة لا يوالون المؤمنين إلا تكلفاً قال : ( ولا تتخذوا ) أي تتكلفوا أن تأخذوا ) منهم ولياً ) أي من تفعلون معه فعل المقارب المصافي ) ولا نصيراً ( على أحد من أعدائكم ، بل جانبوهم مجانبة كلية .
ولما كان سبحانه وتعالى قد أمر فيهم على تقدير توليهم بما أمر ، استثنى منه فقال : ( إلا الذين يصلون ( فراراً منكم ، وهم من الكفار عند الجمهور ) حصرت ( اي ضاقت وهابت وأحجمت ) صدورهم أن ) أي عن أن ) يقاتلوكم ) أي لأجل دينهم وقومهم ) أو يقاتلوهم قومهم ) أي لأجلكم فراراً أن يكفوا عن قتالكم وقتال قومهم فلا تأخذوهم ولا تقاتلوهم ، لأنهم كالمسالمين بترك القتال ، ولعله عبر بالماضي في ( جاء ) إشارة إلى أن شرط مساواتهم للواصلين إلى المعاهدين عدم التكرر ، فإن تكرر ذلك منهم فهم الآخرون الآتي حكمهم .
ولما كان التقدير : فلو شاء الله لجعلهم مع قومهم إلباً واحداً عليكم ، عطف عليه قوله : ( ولو ) أي يكون المعنى : والحال أنه لو ) شاء الله ) أي وهو المتصف بكل كمال ) لسلطهم ) أي هؤلاء الواصلين والجائين على تلك الحال من الكفار ) عليكم ( ينوع من أنواع التسليط ، تسليطاًَ جارياً على الأسباب ومقتضى العوائد ، لأن بهم قوة على قتالكم ) فلقاتلوكم ) أي فتسبب عن هذا التسليط أنهم قاتولكم منفردين أو مع غيرهم من أعدائكم ، واللم فيه جواب ( لو ) على التكرير ، أو البدل من سلط .(2/295)
صفحة رقم 296
ولما كان المغيّي على النهي عن قتالهم حينئذ ، صرح به في قوله : ( فإن اعتزلوكم ) أي هؤلاء الذي أمرتكم بالكف عنهم من المنافقين ، فكفوا عنكم ) فلم يقاتلوكم ( منفردين ولا مجتمعين مع غيرهم ) وألقوا إليكم السلم ) أي الانقياد ) فما جعل الله ) أي الذي لا أمر لأحد معه بجهة من الجهات ) لكم عليهم سبيلاً ) أي إلى شيء من أخذهم ولا قتلهم .
ولما كان كأنه قيل : هل بقي من أقسام المنافقين شيء ؟ قيل : نعم ) ستجدون ) أي عن قرب بوعد لا شك فيه ) آخرين ) أي من المنافقين ) يريدون أن يأمنوكم ) أي فلا يحصل لكم منهم ضرر ) ويأمنوا قومهم ( كذلك ، لضعفهم عن كل منكم .
فهم يظهرون لكم الإيمان إذا لقوكم ، ولهم الكفر إذا لقوهم ، وهو معنى ) كلما ردوا إلى الفتنة ) أي الابتلاء بالخوف عند المخالطة ) أركسوا ) أي قلبوا منكوسين ) فيها ( ولما كان هؤلاء أعرق في النفاق وأردى وأدنى من الذين قبلهم وأعدى ، صرح بمفهوم ما صرح به في أولئك ، لأنه أغلظ وهم أجدر من الأولين بالإغلاظ ، وطوى ما صرح به ، ثم قال : ( فإن لم يعتزلوكم ( ولما كان الاعتزال خضوعاً لا كبراً ، صرح به في قوله : ( ويلقوا إليكم السلم ) أي الانقياد .
ولما كان الإلقاء لا بد له من قرائن يعرف بها قال : ( ويكفوا أيديهم ) أي عن قتالكم وأذاكم ) فخذوهم ) أي اقهروهم بكل نوع من أنواع القهر تقدرون عليه ) واقتلوهم ( ولما كان نفاقهم - كما تقدم - في غاية الرداءة ، وأخلاقهم في نهاية الدناءة ، أشار إلى الوعد بتيسير التمكين منهم فقال : ( حيث ثقفتموهم ( فإن معناه : صادفتموهم وأدركتموهم وأنتم ظافرون بهم ، حاذقون في قتالهم ، فطنون به ، خفيفون فيه ، فإن الثقف : الحاذق الخفيف الفطن ، ولذلك أشار إليهم بأداة البعد فقال : ( وأولئكم ) أي البعداء عن منال الرحمة من النصر والنجاة وكل خير ) جعلنا ) أي بعظمتنا ) لكم عليهم سلطاناً ) أي تسلطاً ) مبيناًَ ) أي ظاهراً قوته وتسلطه .
وهذه الآيات منسوخة بالآية براءة ، فإنها متأخرة النزول فإنها بعد تبوك .
ولما بين أقسامهم بياناً ظهر منه أن أحوالهم ملبسة ، وأمر بقتالهم مع الاجتهاد في تعرف أحوالهم ، وختم بالتسلط عليهم ، وكان ربما قتل من لا يستحق القتل بسبب الإلباس ؛ أتبع ذلك بقوله المراد به التحريم ، مخرجاً له في صورة النفي المؤكد بالكون لتغليظ الزجر عنه لما للنفوس عند الحظوظ من الدواعي إلى القتل : ( وما كان لمؤمن ) أي يحرم عليه ) أن يقتل مؤمناً ) أي في حال من الحالات ) إلا خطأ ) أي في حالة الخطأ بأن لا يقصد القتل ، أو لا يقصد الشخص ، أو يقصده بما لا يقصد به زهوق(2/296)
صفحة رقم 297
الروح ، أو لا يقصد ما هو ممنوع منه كمن يرمي إلى صف الكفار وفيهم مسلم ، أو بأن يكون غير مكلف ، فإن القتل على هذا الوجه ليس بحرام ، وهذا الذي ذكره في أقسام المنافقين إشارة إلى أنه ينبغي التثبت والتحري في جميع أمر القتل متى احتمل أن يكون القاتل مؤمناً احتمالاً لا تقضي العادة بقربه ، فلزم من ذلك بيان حكم الخطأ ، ولام الاختصاص قد تطلق على ما لا مانع منه ( فغنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ) وكأنه عبر به ليفيد بإيجاب الكفارة والدية غاية الزجر عن قتل المؤمن ، لأنه إذا كان هذا جزاء ما هو له فما الظن بما ليس له فقال تعالى : ( ومن قتل مؤمناً ( صغيراً كان أو كبيراً ، ذكراً كان أو أنثى ، وعله عبَّر سبحانه وتعالى بالوصف تنبيهاً على أنه إن لم يكن كذلك في نفس الأمر لم يكن عليه شيء في نفس الأمر وإن ألزم به في الظاهر ) خطأ ( ولما كان الخطأ مرفوعاً على هذه الأمة ، فكان لذلك يظن أنه لا شيء على المخطىء ؛ بين أن الأمر ي القتل ليس كذلك حفظاً للنفوس ، لأن الأمر فيها خطر جداً ، فقال - مغلظاً عليه حثاً على زيادة النظر والتحري عند فعل ما قد يقتل - : ( فتحرير ) أي فالواجب عليه تحرير ) رقبة ) أي نفس ، عبر بها عنها لأنها لا تعيش بدونها كاملة الرق ) مؤمنة ( ولو ببيع الدار أو البساتين ، سليمة عما يخل بالعمل ، وقدم التحرير هنا حثاً على رتق ما خرق من حجاب العبد ، وإيجاب ذلك في الخطأ إيجاب له في العمد بطريق الأولى ، وكأنه لم يذكره في العمد لأنه تخفيف في الجملة والسياق للتغليظ ) ودية مسلّمة ) أي مؤداة بيسر وسهولة ) إلى أهله ) أي ورثته يقتسمونها كما يقسم الميراث ) إلا أن يصدّقوا ) أي يجب ذلك عليه في كل حال إلا في حال تصدقهم بالعفو عن القاتل بإبرائه من الدية ، فلا شيء عليه حينئذ ، وعبر بالصدقة ترغيباً ) فإن كان ) أي المقتول ) من قوم ) أي فيهم منعة ) عدو لكم ) أي محاربين ) وهو ) أي والحال أنه ) مؤمن فتحرير ) أي فالواجب على القاتل تحرير ) رقبة مؤمنة ( وكأنه عبر بذلك إشارة إلى التحري في جودة إسلامها ، وقد أسقط هذا حرمة نفسه بغير الكفارة بسكناه في دار الحرب التي هي دار الإباحة أو وقوعه في صفهم ، ولعده في عدادهم قال : ( من ( ومعناه - كما قال الشافعي وغيره تعباً لابن عباس رضي الله تعالى عنهما - : في ) وإن كان ) أي المقتول ) من قوم ) أي كفرة أيضاً عدو لكم ) بينكم وبينهم ميثاق ( وهو كافر مثلهم ) فدية ) أي فالواجب فيه كالواجب في المؤمن المذكور قبله دية ) مسلّمة إلى أهله ( على حسب دينه ، إن اكن كتابياً فثلث دية المسلم ، وإن كان مجوسياً فثلثا عشرها ) وتحير رقبة مؤمنة ( وكأنه قدم الدية هنا إشارة إلى المبادرة بها حفظاً للعهد ، ولتأكيد أمر التحير بكونه ختاماً كما كان افتتاحاً حثاً على الوفاء به ، لأنه أمانة لا(2/297)
صفحة رقم 298
طالب له إلا الله ؛ وقال الأصبهاني : إن سر ذلك أن إيجابه في المؤمن أولى من الدية ، وبالعكس ها هنا - انتهى .
وكان سره النظر إلى خير الدين في المؤمن ، وإلى حفظ العهد في الكافر ) فمن لم يجد ) أي الرقبة ولا ما يتوصل به إليها ) فصيام ) أي فالواجب عليه صيام ) شهرين متتابعين ( حتى لو أفطر يوماً واحداً بغير حيض أونفاس وجب الاستئناف ، وعلل ذلك بقوله عادا للخطأ - بعد التعبير عنه باللام المقتضية أنه مباح - ذنباً تغليظاً للحث على مزيد الاحتياط : ( توبة ) أي أوجب ذلك عليكم لأجل قبول التوبة ) من الله ) أي الملك الأعظم الذي كل شيء في قبضته .
ولما كان الكفارات من المشقة على النفس بمكان ، رغب فيها سبحانه وتعالى بختم الآية بقوله : ( وكان الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) عليماً ) أي بما يصلحكم في الدنيا والآخرة ، وبما يقع خطأ في نفس الأمر أو عمداً ، فلا يغتر أحد بنصب الأحكام بحسب الظاهر ) حكيماً ( في نصبه الزواجر بالكفارات وغيرها ، فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة .
النساء : ( 93 - 97 ) ومن يقتل مؤمنا. .. . .
) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً ( ( )
ولما ساق تعالى الخطأ مساق ما هو للفاعل منفراً عنه هذا التنفير ، ناسب كل المناسبة أن يذكر ما ليس له من ذلك ، ذ كان ضبط النفس بعد إراسلها شديداً ، فربما سهلت قتل من تحقق إسلامه إحنة ، وجرت إليه ضغينة وقوت الشبه فيه شدة شكيمة ، ولعمري إن الحمل على الكف بعد الإرسال أصعب من الحمل على الإقدام وإنما يعرف ذلك من جرب النفوس حال الإشراف على الظفر واللذاذة بالانتقام مع القوى(2/298)
صفحة رقم 299
والقدرة فقال : ( ومن يقتل مؤمناً ( ولعله أشار بصيغة المضارع إلى دوم العزم على ذلك لأجل الإيمان ، وهو لا يكون إلا كفراً ، وترك الكلام محتملاً زيادة تنفير من قتل المسلم ) متعمّداً ) أي وأما الخطأ فقد تقدم حكمه في المؤمن وغيره ) فجزاؤه ) أي ماكثاً إلى ما ) جهنم ) أي تتلقاه بحالة كريهة جداً كما تجهم المقتول ) خالداَ فيها ) أي ماكثاً إلى ما لا آخر له ) وغضب الله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له مع ذلك ) عليه ولعنه ) أي وأبعده من رحمته ) وأعد له عذاباً عظيماً ) أي لا تبلغ معرفته عقولكم ، وإن عمم القول في هذه الآية كان الذي خصها ما قبلها وما بعداه من قوله تعالى
77 ( ) ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( ) 7
[ النساء : 48 و 116 ] لا آية الفرقان فإنها مكية وهذه مدنية .
ولما تبين بهذا المنع الشديد من قتل العمد ، وما في قتل الخطأ من المؤاخذة الموجبة للتثبت ، وكان الأمر قد برز بالقتال والقتل في الجهاد ومؤكداً بأنواع التأكيد ، وكان ربما التبس الحال ؛ أتبع ذلك التصريح بالأمر بالتثبت جواباً لمن كأنه قال : ماذا نفعل بين أمري الإقدام والإحجام ؟ فقال : ( ياأيها الذين أمنوا ( مشيراً بأداة البع والتعبير بالماضي الذي هو لأدنى الأسنان إلى أن الراصخين غير محتاجين إلى مزيد التأكيد في التأديب ، وما أحسن التفاته إلى قوله تعالى ) وحرض المؤمنين ) [ النساء : 84 ] إشارة منه تعالى إلى أنهم يتأثرون من تحريضه ( صلى الله عليه وسلم ) وينقادون لأمره ، بما دلت عليه كلمة ( إذا ) في قوله تعالى : ( إذا ضربتم ) أي سافرتم وسرتم في الأرض ) في سبيل الله ) أي الذي له الكمال كله ، لأجل وجهه خالصاً ) فتبينوا ) أي اطلبوا بالتأني والتثبت بيان الأمور والثبات في تلبسها والتوقف الشديد عند منالها ، وذلك بتميز بعضها من بعض وانكشاف لبسها غاية الانكشاف ؛ ولا تقدموا إلا على ما بان لكم ) ولا تقولوا ( قولاً فضلاً عما هو أعلى منه ) لمن ألقى ) أي كائناً من كان ) إليكم السلام ) أي بادر بأن حياكم بتحية افسلام ملقياً قياده ) لست مؤمناً ) أي بل متعوذ - لتقتلوه .
ولما كان اتباع الشهوات عند العرب في غاية الذم قال موبخاً منفراً عن مثل هذا في موضع الحال من فاعل ( تقولوا ) ) تبتغون ) أي حال كونكم تطلبون طلباً حثيثاً بقتله ) عرض الحياة الدنيا ) أي بأخذ ما معه من الحطام الفاني والعرض الزائل ، أو بإدراك ثأر كان لكم قبله ؛ روى البخاري ي التفسير ومسلم في آرخ كتابه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ( قال : كان رجل في غنيمة له ، (2/299)
صفحة رقم 300
فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم : فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك إلى قوله ) عرض الحياة الدنيا ( ( ورواه الحارث بن أسامة عن سعيد بن جبير وزاد ) كذلك كنتم من قبل ( تخفون إيمانكم وأنتم مع المشركين ، ) فمنَّ الله عليكم ( وأظهر الإسلام ) فتبينوا ( ثم علل النهي عن هذه الحالة بقوله : ( فعند الله ) أي الذي له الجلال والإكرام ) مغانم كثيرة ) أي يغنيكم بها عما تطلبون من العرض مع طيبها ؛ ثم علل النهي من أصله بقوله : ( كذلك ) أي مثل هذا الذي قتلتموه بجعلكم إياه بعيداً عن الإسلام ) كنتم ( وبعّض زمان القتل - كما هو الواقع - بقوله : ( من قبل ) أي قبل ما نطقتم بكلمة الإسلام ) فمنّ الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) عليكم ) أي بأن ألقى في قلوب المؤمنين قبول ما أظهرتم امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى بذلك ، فقوى أمر الإيمان في قلوبكم قليلاً قليلاً حتى صرتم إلى ما أنتم عليه في الرسوخ في الدين والشهرة به والعز ، ولو شاء لقسى قلوبكم وسلطهم عليكم فقتلوكم .
فإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الدين من القبول ما فعل بكم ، وهو معنى ما المختص بأنه عالم الغيب والشهادة ) كان بما تعملون خبيراً ) أي يعلم ما أقدمتم عليه عن تبيين وغيره فاحذروه بحفظ بواطنكم وظواهركم .
ولما ناسبت هذه الآية ما قبلها من آية القتل العمد ، والتفتت إلى
77 ( ) وحرض المؤمنين ( ) 7
[ النساء : 84 ] وإلى آية التحية ، فاشتد اعتناقها لهما ، ولعم بها أن في الضرب في سبيل الله هذا الخطر ، فكان ربما فتر عنه ؛ بين فضله لمن كأنه قال : فحينئذ نقعد عن الجهاد لنسلم ، بقوله : ( لا يستوي القاعدون ) أي عن الجهاد حال كونهم ) من المؤمنين ) أي الغريقين في افيمان ، ليفيد التصريح بتفضيل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد لئلا يخصه أحد بالكافر الجاحد .
ولما كان من الناس من عذره سبحانه وتعالى برحمته استثناهم ، فقال واصفاً للقاعدين أو مستثنياً منهم : ( غير أولي الضرر ) أي المانع أو العائق عن الجهاد في سبيل الله من عوج أو مرض أو عمى ونحوه ، وبهذا بان أن الكلام في المهاجرين ؛ وفي البخاري في التفسير عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أملى عليه(2/300)
صفحة رقم 301
) لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ( فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليّ فقال : يا رسول الله والله لو استطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى ؛ فأنزل الله ع وجل على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي ، ثم سرى عنه فأنزل الله ) غير أولي الضرر ( ) وأخرجه في فضائل القرآن عن البراء رضي الله تعالى عنه قال : ( لما نزلت ) لا يستوي القاعدون ( - الآية ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ادع لي زيداً وليجىء باللوح والدواة والكتف ؛ ثم قال : اكتب - فذكره ) وحديث زيد أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي ولانسائي ، وفي رواية أبي داود : قال : ( كنت إلى جنب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على فخذي ، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم سرى عنه فقال لي : اكتب ، فكتبت في كتلف ) لا يستوي القاعدون ( إلأى آخرها ؛ فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلاً أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ، فسرى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : اقرأ يا زيد فقرأت ) لا يستوي القاعدون من المؤمنين ( فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) غير أولي الضرر ( - الآية كلها ، قال زيد : أنزلها الله وحدها فألحقتها والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف ) ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وفيه : ( إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا نزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه ، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل ) .
ولما ذكر القاعد أتبعه قسيمه المجاهد بقوله : ( والمجاهدون في سبيل الله ) أي دين الملك الأعظم الذي من سلكه وصل إلى رحمته ) بأموالهم وأنفسهم ( ولما كان نفي المساوواة سبباً لترقب كل من الحزبين الأفضليبة ، لأن لاقاعد وإن فاته الجهاد فقد تخلف الغازي في أهله ، إذ يحيي الدين بالاشتغال بالعلم ونحوه ؛ قال متسأنفاً : ( فضل(2/301)
صفحة رقم 302
الله ) أي الذي له صفات الكمال ) المجاهدين ( ولما كان المال في أول الأمر ضيقاً قال مقدماً للمال : ( بأموالهم وأنفسهم ) أي جهاداً كائناً بالفعل ) على القاعدين ) أي عن ذلك وهم متمكنون منه بكونهم في دار الهجرة ) درجة ) أي واحدة كاملة لأنهم لم يفوقوهم بغيرها ، وفي البخاري في المغازي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر ) .
ولما شرك بين المجاهدين والقاعدين بقوله : ( وكلاً ) أي من الصنفين ) وعد الله ) أي المحيط بالجلال والإكرام أجراً على إيمانهم ) الحسنى ( بين أن القاعد المشارك إنما هو الذي يه قوة الجهاد القريبة من الفعل ، وهو التمكن من تنفيذ الأمر بسبب هرجته الأرض الحرب وكونه بين أهل الإيمان ، وأما القاعد عن الهجرة مع التمكن فليس بمشارك في ذلك ، بل هو ظالم لنفسه فإنه ليس متمكناً من تنفيذ الأوامر فلا هو مجاهد بالفعل ولا بالقوة القريبة منه ، فقال : ( وفضل الله ) أي الملك الذي لا كفوء له فلا يجبر عليه ) المجاهدين ) أي بالفعل مطلقاً بالنفس أو المال ) على القاعدين ) أي عن الأسباب الممكنة من الجهاد ومن الهجرة ) أجراً عظيماً ( ثم بينه بقوله : ( درجات ( وعظمها بقوله : ( منه ( وهي درجة الهجرة ، ودرجة التمكن من الجهاد بعد الهجرة ودرجة مباشرة الجهاد بالفعل .
ولما كان الإنسان لا يخلو عن زلل وإن اجتهد في العمل قال : ( ومغفرة ) أي محواً لذنوبهم بحيث أنها لا تذكر ولا يجازى عليها ) ورحمة ) أي كرامة ورفعة ) وكان الله ) أي المحيط بالأسماء الحسنى والصفات العلى ) غفوراً رحيماً ( أزلاَ وأبدأ ، لم يتجدد له ما لم يكن ؛ ثم علل ذلك بأبلغ حث على الهجرة فقال : ( إن الذين توافاهم الملائكة ) أي تقبض أرواحهم كاملة على ما عندهم من نقص بعض المعاني بما تركوا من ركن الهجرة بما أشارة إليه حذف التاء ، وفي الحذف إرشاد إلى أنه إذا ترك من يسعى في جبره بصدقة أو حج ونحوه من أفعال البر جُبر ، لأن الأساس الذي تبنى عليه الأعمال الصالحة موجود وهو الإيمان ) ظالمي أنفسهم ) أي بالقعود عن الجهاد بترك الهجرة والإقامة في بلاد الحرب حيث لا يتمكنون من إقامة شعائر الدين كلها ) قالوا ) أي الملائكة موبخين لهم ) فيم كنتم ) أي في أي شيء من الأعمال والأحوال كانت إقامتكم في بلاد الحرب .(2/302)
صفحة رقم 303
ولما كان المراد من هذا السؤال التوبيخ لأجل ترك الهجرة ) قالوا ( معتذرين ) كن مستضعفين في الأرض ) أي أرض الكفار ، لا نتمكن من إقامة الدين ، وكأنهم أطلقوها إشارة إلى أنها عندهم لاتساعها لكثرة الكفار هي الأرض كلها ، فكأنه قيل : هل قنع منهم بذك ؟ فقيل : لا ، لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة ، فكأنه قال : فما قيل لهم ؟ فقيل : ( قالوا ) أي الملائكة بياناً لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة إلى موضع يأمنون فيه على دينهم ) ألم تكن أرض الله ) أي المحيط بكل شيء ، الذي له كل شيء ) واسعة فتهاجروا ) أي بسبب استاعها كل من يعاديكم في الدين ضاربين ) فيها ) أي إلى حيث يزول عنكم المانع ، فالآية من الاحتباك : ذكر الجهاد أولاً في ) ) وفضل الله المجاهدين ( ) [ النساء : 95 ] دليل عى حذفه ثانياً بعد ) ) ظالمي أنفسهم ( ) [ النساء : 97 ] ، وذكر الهجرة ثانياً دليل على حذفها أولاً بالقعود عنها ، ولذلك خص الطائفة الأولى بوعد الحسنى .
ولما وبخوا على تركهم الهجرة ، سبب عنه جزاؤهم فقيل : ( فأولئك ) أي البعداء من اجتهادهم لأنفسهم ) مأواهم جهنم ) أي لتركهم الواجب وتكثيرهم سواد الكفار وانبساطهم في وجوه أهل الناس ) وساءت مصيراً ( روى البخاري في التفسير والفتن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب فيقتل ، فأنزل الله تعالى ) ) إن الذين توافاهم ( ) [ النساء : 97 ]
النساء : ( 98 - 101 ) إلا المستضعفين من. .. . .
) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً ( ( )
ولما توعد على ترك الهجرة ، أتبع ذلك بما زاد القاعد عنها تخويفاً بذكر من لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناء تنبيهاً على أنهم جديرون بالتسوية في الحكم لولا فضل الله عليهم ، فقال بياناً لأن المستثنى منهم كاذبون في ادعائهم الاستضعاف : ( إلا المستضعفين ) أي الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعُدوا ضعفاء وتقوى عليهم غيرهم ) من الرجال والنساء والولدان ( ثم بين ضعفهم بقوله : ( لا يستطعيون حيلة ) أي في إيقاع الهجرة ) ولا يهتدون سبيلاً ) أي إلى ذلك(2/303)
صفحة رقم 304
ولما كانت الهجرة شديدة ، وكان ربما تركها بعض الأقوياء واعتل بالضعف ، وربما ظن القادر مع المشقة أنه ليس بقادر ؛ نفر من ذلك بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال : ( فأولئك ( ولما كان الله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء ، لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، بل له أن يعذب الطائع وينعم العاصي ، ويفعل ويقول ما يشاء
77 ( ) لا يسأل عما يفعل ( ) 7
[ الأنبياء : 23 ] أحل هؤلاء المعذورين محل الرجاء إيذاناً بأن ترك الهجرة في غاية الخطر فقال : ( عسى الله ) أي ولو آخذهم لكان له ذلك ، وكل ما جاء في القرآن من نحو هذا فهو للإشارة إلى هذا المعنى ، وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن عسى من الله واجبة ، معناه أنه مع أن له أن يفعل ما يشاء لا يفعل إلا ما يقتضيه الحكمة على ما يستصوبه منهاج العقل السليم ) وكان الله ) أي الملك الذي له كل شيء فلا اعتراض عليه أزلاً وأبداً ) عفواً ) أي يمحو الذنب إذا أراد فلا يعاقب عليه وقد يعاتب عليه ) غفوراً ) أي يزيل أثره أصلاً ورأساً بحيث لا يعاقب عليه ولا يعاتب ولا يكون بحيث يذكر أصلاً ، ولعل العفو راجع إلى الرجال ، والغفران إلى النساء والولدان .
ولما رهب من ترك الهجرة ، رغب فيها بما يسلي عما قد يوسوس به لاشيطان من أنه لو فارق رفاهية الوطن وقع في شدة الغربة ، وأنه ربما تجشم المشقة فاخترم قبل بلوغ القصد ، فقال تعالى : ( ومن يهاجر ) أي يوقع الهجرة لكل ما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بهجرته ) في سبيل الله ) أي الذي لا أعظم من ملكه ولا أوضح من سبيله ولا أوسع ) يجد في الأرض ) أي في ذات الطول والعرض ) مرغماً ) أي مهرباً ومذهباً ومضطرباً يكون موضعاً للمراغمة ، يغضب الأعداء به ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل له من الرفق وحسن الحال ، فيخجل مما جروه من سوء معاملتهم له ؛ من الرغم وهو الذل والهوان ، وأصله : لصوق الأنف بالرغام وهو التراب ، تقول : راغمت لفلاناً ، أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك .
ولما كان ذلك الموضع وإن كان وأحداً فغ ، ه لكبره ذو أجزاء عديدة ، وصف بما يقتضي العدد فقال ) كثيراً ( .
ولما كانت المراغمة لذة الروح ، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها ؛ أتبعها قوله : ( وسعة ) أي في الرزق ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( صوموا تصحوا وسافروا تغنموا ) أخرجه(2/304)
صفحة رقم 305
الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه ( واغزوا ، وهاجروا تفلحوا ) .
ولما كان ربما مات المهاجر قبل وصوله إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فظن أنه لم يدرك الهجرة مع تجشمه لفراق بلده قال : ( ومن يخرج من بيته ) أي فضلاً عن بلده ) مهاجراً إلى الموت ) أي رضى الملك الذي له الكمال كله ) فقد وقع أجره ) أي في هجرته بحسب الوعد فضلاً ، لا بحسب الاستحقاق عدلاً ) على الله ) أي في الإحاطة فلا ينقصه شيء ، وكذا كل من نوى خيراً ولم يدركه ( لا حسد إلا في اثنتين ) فهو موفيه إياه توفية ما يلتزمه الكريمن منكم .
ولما كان بعضهم ربما قصر به عن البلوغ توانيه في سيره أو عن خروجه من بلده فظن أن هجرته هذه لم تجبُر تقصيره قال : ( وكان الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) غفوراً ) أي لتقصير إن كان ) رحيماً ( يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات .
ولما أوجب السفر للجهاد والهجرة ، وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء ؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى : ( وإذا ضربتم ) أي بالسفر ) في الأرض ( أيّ سفر كان لغير معصية .
ولما كان القصر رخصة غير عزيمة ، بينه بقوله : ( فليس عليكم جناح ) أي إثم(2/305)
صفحة رقم 306
وميل في ) وأن تقصروا ( ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات ، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه يف الكم لا في الكيف فقال : ( من الصلاة ) أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم ، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات ، وكم يقصر منها من ركعة ، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء مثلاً في صلاة الخوف بقول عمر رضي الله تعالى عنه ليعلى بن أمية - حين قال له : كيف تقصر وقد أمنا - : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك - ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ) وهذا هو حقيقة القصر والذي دلت عليه ( من ) ، وأما الإيماء ونحوه من كيفيات صلاة الخوف بإبدال لا قصر ، والسياق كام ترى مشير إلى شدة الاهتمام بشأنها ، وأنه لا يسقطها عن المكلف شيء ، وقاض بأن المخاطرة بالنفس والمال لا تسقط الجهاد ولا الهجرة إذ الخوف والخطر مبنى أمرهما ومحط قصدهما ، فهذا سر قوله : ( وإن خفتم أن يفتنكم ) أي يخالطم مخالطة مزعجة ) الذين كفروا ( لا أنه شرط في القصر ، كما بينت نففي شرطيته السنة ، والحاصل أن هذا الشرط ذكر لهذا المقصد ، لا لمخالفة المفهوم للمنطوق بشهادة السنة ؛ وقد كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين ، فأتمت بعد الهجرة إشارة إلى أن المدينة دار الإقامة وما قبلها كان محل سفر ونقلة ؛ روى الشيخان وأحمد - وهذا لفظه - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة أقرت صلاة لاسفر وزيد فصل صلاة الحضر ) .
ولما ذكر الخوف منهم ، علله مشيراً بالإظهار موضع الإضمار ، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما ، أعرق فيه ، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال : ( إن الكافرين ) أي الراسخين منهم في الكفر ) كانوا ) أي جبلة وطبعاً .
ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله : ( لكم ( دون عليكم ) عدواً ( ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال : ( مبيناً ) أي ظاهر العداوة ، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلاً ، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها ، ولولا أنها لا رخصة(2/306)
صفحة رقم 307
فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة ، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير ، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره .
النساء : ( 102 ) وإذا كنت فيهم. .. . .
) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ( ( )
ولما أتم سبحانه وتعالى بيان القصر في الكمية مقروناً بالخوف لما ذكر ، وكان حضور النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مظنة الأمن بالتأييد بالملائكة ووعد العصمة من الناس ، وما شهر به من الشجاعة ونصر به من الرعب وغير ذلك من الأمور القاضية بأن له العاقبة ؛ بيَّن سبحانه وتعالى حال الصلاة في الكيفية عند الخوف ، وأن صلاة الخوف تفعل عند الأنس بحضرته كما تفعل عند الاستيحاش بغيبته ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجوازها لقوم ليس هو ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم مفهوم موافقة ، فقال سبحانه وتعالى : ( وإذا كنت ( حال الخوف الذي تقدم فرضه ) فيهم ) أي في أصحابك سواء كان ذلك في السفر أو في الحضر ) فأقمت ) أي ابتدأت وأوجدت ) لهم الصلاوات ) أي الكاملة وهي المفروضة ) فلتقم طائفة منهم معك ) أي في الصلاة ولتقم الطائفة الأخرى وجاه العدون ويطوفون في كل موضع يمكن أن يأتي منه العدو ) وليأخذوا ) أي المصلون لأنهم المحتاجون إلى هذا الأمر لدخولهم في حالة هي بترك السلاح أجدر ) أسحلتهم ( كما يأخذها من هو خارج الصلاة ، وسبب الأمر بصلاة الخوف - كما ي صحيح مسلم وغيره عن جابر رضي الله تعالى عنه ( أنهم غزوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقاتلوا قوماً من جهينة فقاتلوا قتالاً شديداً ، قال جابر رضي الله تعالى عنه : فلما صلينا الظهر قال المشركون : لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم ، فأخبر جبرئيل عليه الصلاة والسلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ، فذكر ذلك لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : وقالوا : إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد فلام حضرت العصر صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة ) الحديث ) فإذا سجدوا ( يمكن أن يكون المراد بالسجود ظاهره ، فيكون(2/307)
صفحة رقم 308
الضمير في ) فليكونوا ( للجمع الذين منهم هذه الطائفة - المذكورين بطريق الإضمار في قوله ) وإذا كنت فيهم ( وفي ) فلتقم طائفة منهم ) أي فإذا سجد الذين قاموا معك في الصلاة فليكن المحدث عنهم وهم الباقون الذين أنت فيهم وهذه الطائفة منهم ) من ورائكم ( فإذا أتمت هذه الطائفة صلاتها فلتذهب إلى الحراسة ) ولتأت طائفة أخرى ) أي من الجماعة ) لم يصلوا فليصلوا معك ( كما صلت الطائفة الأولى ، فغن كانت الصلاة ثنائية ولم تصل بكل طائفة جميع الصلاة فلتسلم بالطائفة الثانية ، وإن كانت رباعيته ولم تصل بكل فرقة جميع الصلاة فلتتم صلاتها ، ولتذهب إلى وجاه العدو ولتأت طائفة أخرى - هكذا حتى تتم الصلاة ؛ ويمكن أن يكون المراد بالسجود الصلاة - من إطلاق اسم الجزء على الكل ، فكأنه قال : فإذا صلوا ، أي أتموا صلاتهم - على ما مضت الإشارة إليه ، والضمير حينئذ في ( فليكونوا ) للطائفة الساجدة ، وقوله : ( وليأخذوا ( يمكن أن يكون ضميره للكل ، لئلا يتوهم أن الأمر بذلك يختص بالمصلي ، لأن غيره لا عائق له عن الأخذ متى شاء ، أو ولتأخذ جميع الطوائف يمنع كيد العدو كالآلة المحسوسة ، وخص في استعماله في الصلاة في شأن العدو وخص آخر الصلاة بزيادة لاحذر إشارة إلى أن العدو في أول الصلاة قلما يفطنون لكونهم في الصلاة بخلاف الآخر ، فلهذا خص بمزيد الحذر ، وهذا الكلام على وجازته محتمل - كما ترى - لجميع الكيفيات المذكورة في الفقه لصلاة الخوف إذا لم يكن العدو في وجه القلة على أنها تحتمل التنزيل على ما إذا كان في وجه القبلة بأن يحمل الواء على ما وراره السجود عنكم وإتيان الطائفة الأخرى على الإقبال على المتابعة للامام في الأفعال ) ولم يصلوا ( اي بقيد المتابعة له فيها - والله سبحانه وتعالى الهادي .
وما أحسن اتصال ذلك بأول آيات الجهاد في هذه السورة
77 ( ) ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم ( ) 7
[ النساء : 71 ] فهو من رد المقطع على المطلع ، ثم علل أمره بهذه الكيفية على هذا الاحتياط والحزم بقوله مقوياً لترغيبهم في ذلك بإقبال الخطاب عليهم : ( ودَّ ) أي تمنى تمنياً عظيماً ) الذين كفروا ) أي باشروا الكفر وقتاً ما ، فكيف بمن هو غريق فيه ) لو تغفلون ) أي تقع لكم غفلة في وقت ما ) عن أسلحتكم ( ولما كانت القوة بالآلات مرهبة للعدو ومنكبة قال : ( وأمتعتكم ( ولما كانت الغفلة ضعفاً ظاهراً ، تسبب عنها قوله : ( فيميلون ( واشار إلى العلو والغلبة بقوله : ( عليكم ( وأشار إلى سرعة الأخذن بقوله : ( ميلة ( وأكده بقوله : ( واحدة ((2/308)
صفحة رقم 309
ولما كان الله - وله المنّ - قد رفع عن هذه الأمة الحرج ، وكان المطر والمرض شاقين قال : ( ولا جناح ) أي حرج ) عليكم إن كان بكم أذى ) أي وإن كان يسيراً ) من مطر ) أي لأن حمل السلاح حينئذ يكون سبباً لبلّه ) أو كنتم مرضى ) أي متصفين بالمرض وكأن التعبير بالوصف إشارة إلى أن ادنى شيء منه لا يرخص ) أن تضعوا أسلحتكم ) أي لأن حملها يزيد المريض وهنا .
ولما خفف ما أوجبه أولاً من أخذ السلاح برفع الجناح في حال العذر ، فكان التقدير : فضعوه إن شئتم ؛ عطف عليه بصيغة الأمر إشارة إلى وجوب الحذر منهم في كل حال قوله : ( وخذوا حذركم ) أي في كل حالة ، فإن ذلك نفع لا يتوقع منه ضرر ؛ ثم علل ذلك بما بشر فيه بالنصر تشجيعاً للمؤمنين ، وإعلاماً بأن الأمر بالحزم إنما هو للجري على ما رسمه من الحكمة في قوله - ربط المسببات بالأسباب ، فهو من باب ( اعقلها وتوكل ) فقال : ( إن الله ( المحيط علماً وقدرة ) أعدَّ ) أي في الأزل ) للكافرين ) أي الدائمين على الكفر ، لا من اتصف به وقتاً ما وتاب منه ) عذاباً مهيناً ) أي يهينهم به ، من أعظمه حذركم الذي لا يدع لهم عليكم مقدماً ، ولا تمكنهم معه منكم فرصة .
النساء : ( 103 - 106 ) فإذا قضيتم الصلاة. .. . .
) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ( ( )
ولما علمهم بما يفعلون في الصلاة حال الخوف ، أتبع ذلك ما يفعلون بعدها لئلا يظن أنها تغني عن مجرد الذكر ، فقال مشيراً إلى تعقيبه به : ( فإذا قضيتم الصلاة ) أي فرغتم من فعلها وأديتموها على حالة الخوف أو غيرها ) فاذكروا الله ) أي بغير الصلاة لأنه لإحاطته بكل شيء يستحق أني راقب فلا ينسى ) قياماً وقعوداَ وعلى جنوبكم ) أي في كل حالة ، فإن ذكره حصنكم في كل حالة من كل عدو ظاهر أو باطن .
ولما كان الذكر أعظم حفيظ للعبد ، وحارس من شياطين الإنس والجن ، ومسكن للقلوب ) ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( ) [ الرعد : 28 ] ؛ اشار إلى ذلك بالأمر بالصلاة حال الطمأنينة ، تنبيهاً على عظم قدرها ، وبياناً لأنها أوثق عرى الدين وأقوى دعائمه(2/309)
صفحة رقم 310
وأفضل مجليات القلوب ومهذبات النفوس ، لأنها مشتملة على مجامع الذكر
77 ( ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ( ) 7
[ العنكبوت : 48 ] فقال : ( فإذا اطمأننتم ) أي عما كنتم فيه من الخوف ) فأقيموا الصلاة ) أي فافعلوها قائمة المعالم كلها على الحالة التي كنتم تفعلونها قبل الخوف ؛ ثم علل الأمر بها في الأمن والخوف والسعة والضيق سفراً أو حضراً بقول : ( إن الصلاة ( مظهراً لما اكن الأصل فيه الإضمار تنيبهاً على عظيم قدرها بما للعبد فيها من الوصلة بمعبوده ) كانت على المؤمنين كتاباً ) أي هي - مع كونها فرضاً - جامعة على الله جمعاً لا يقارنها فيه غيره ) موقوتاً ) أي وهي - مع كونها محدودة - مضبوطة بأوقات مشهورة ، فلا يجوز إخراجها عنها في أمن ولا خوف فوت - بما أشارت إليه مادة وقت للأبدان بما تسبب من الأرزاق .
وللقلوب بما تجلب من المعارف والأنوار .
ولما عرف من ذلك أن آيات الجهاد في هذه السورة معلمة للحذر خوف الضرر ، مرشدة إلى إتقان المكائد للتخلص من الخطر ، وكان ذلك نمظنة لمتابعة النفس والمبالغة فيه ، وهو مظنة للتواني في أمر الجهاد ؛ أتبع ذلك قوله تعالى منبهاً على الجد في أمره ، وأنه لم يدع في الصلاة ولا غيرها ما يشغل عنه ، عاطفاً على نحو : فافعلوا ما أمرتكم به ، أو على ) فأقيموا الصلاة ( : ( ولا تهنوا ) أي تضعفوا وتتوانوا بالاشتغال بذكر ولا صلا ، فقد يسرت ذلك لكم تيسيراً لا يعوق عن شيء من أمر الجهاد ) في ابتغاء القوم ) أي طلبهم بالاجتهاد وإن كانوا ي غاية القوم والقيام بالأمور ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( إن تكونوا تألمون ) أي يحصل لكم ألم ومشقة بالجهاد من القتل وما دونه ) فإنهم يألمون كما تألمون ) أي لأنهم يحصل لهم من ذلك ما يحصل لكم ، فلا يكونن على باطلهم اصبر منكم على حقكم .
ولما بين ما يكون مانعاً لهم من الوهن دونهم ، لأنه مشترك بينهم ؛ بيّن ما يحملهم على افقدام لاختصاصه به فقال : ( وترجون ) أي أنتم ) من الله ) أي الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى ) ما لا يرجون ) أي من النصر والعزم والكرم واللطف ، لأنكم تقاتلون فيه وهم يقاتلون في الشيطان ، وهذا لكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سواء كان ذلك في جهاد الكفار أو لا .
ولما كان العلم مبنى كل خير ، وكانت الحكمة التي هي نهاية العلم وغاية القدرة مجمع الصفات العلى قال تعالى ؛ ) وكان الله ) أي الآمر لكم بهذه الأوامر وهو المحيط بكل شيء ) عليماً ) أي بالغ العلم فهو لا يأمر إلا بما يكون بالغ الحسن مصلحاً للدين والدنيا ) حكيماً ( فهو يتقن لمن يأمره الأحوال ، ويسدده في المقال والفعال ، فمن علم منه خيراً أراده ورقاه في درج السعادة ، ومن علم منه شراً كاده فنكس مبدأه ومعاده .(2/310)
صفحة رقم 311
ولما كان أول هذه القصص والتعجيب من حال الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في ضلالهم وإضلالهم ، ثم التعجيب من إيمانهم بالجبت والطاغوت ، ثم التعجيب من حال من ادعى الإيمان بهذا الكتاب مع الكتب السالفة ، ثم رضي بحكم غيره ، وساق سبحانه وتعالى أصول ذلك وفروعه ، ونصب الأدلة حتى علت على الفرقدين ، وانتشر ضياؤها على جميع الخافقين ، وختم ذلك بمجاهدة المبطلين بالحجة والسيف ، وسوّر ذلك بصفتي العلم والحكمة ؛ ناسب أتم مناسبة الإخبار بأنه أنزل هذا الكتاب بالحقن وبين فائدته التي عدل عنها المنافقون في استحكام غيره فقال : ( إنا أنزلنا ) أي بما لنا من العظمة التي تتقاصر دونها كل عظمة ) إليك ) أي خاصة وأنت أكمل الخلق ) الكتاب ) أي الكامل الجامع لكل خير ) بالحق ) أي ملتبساً بما يطابقه الواقع ) لتحكم بين الناس ) أي عامة ، لأن دعوتك عامة فلا أضل ممن عدل عن حكمك وابتغى خيراً من غير كتابك ، وأشار إلى أنه لا ينطق عن الهوى بقوله : ( بما أراك الله ) أي عرفكه الذي له القدرة الشاملة والعلم الكامل ، فإن كان قد بين لك شيئاً غاية البيان فافعله ، وإلا فانتظر منه البيان ؛ ثم شرع سبحانه وتعالى في إتمام ما بقي من أخبارهم ، وكشف ما بطن من أسرارهم ، وبيان علاماتهم ليعرفوا ، ويجتنبها المؤمنون لئلا يوسموا بميسمهم .
ولما كان سبحانه وتعالى قد خفف عليه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن شرع له القناعة في الحكم بالظاهر وعدم التكليف بالنقب عن سرائرهم بالدفع عن طعمة بن أبيرق ، لأن أمره كان مشكلاً ، فإنه سرق درعاً وأودعها عند يهودي ، فوجدت عنده فادعى أن طعمة أودعها عنده ، ولم يثبت ذلك على طعمة حتى أنزل الله سبحانه وتعالى الآية ، فأراد تعالى إنزاله في هذه النازلة وغيرها مما يريده سبحانه وتعالى في المقام الخضري من الحكم بما في نفس الأمر مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى إذ كان الصحيح الذي عليه الجمهور - كما نقله شيخنا قاضي الشافعية بمصر أبو الفضل أحمد بنعلي بن حجر رحمه الله تعالى في الإصابة في أسماء الصحابة - أن الخضر عليه الصلاة والسلام نبي ، وكان نيبنا ( صلى الله عليه وسلم ) قد أعطى مثل جميع معجزات الأنيباء صلوات الله عليهم مع ما اختص به دونهم - على جميعهم أفضل الصلاة وأتم التسليم والبركان ، فقال تعالى عاطفاً على ما علم تقديره من نحو : فاحكم بما نريك من بحار العلوم التي أودعناها هذا الكتاب : ( ولا تكن للخائنين ) أي لأجلهم ، من طعمة وغيره ) خصيماً ) أي مخاصماً لمن يخاصمهم ، وأتبع ذلك قوله : ( واستغفر الله ) أي الذي له الإحاطة التامة والغنى المطلق ) كان ) أي أزلاً وأبداً ) غفوراً رحيماً ( وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك ، (2/311)
صفحة رقم 312
معصوم منه ، ولكن عن مقام عال تام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم ؛ وقد روى الترمذي سبب نزول هذه الآيات إلى قوله تعالى ) فقل ضل ضلالاً بعيداً ( من وجه مستقص مبين بياناً شافياً وسمى بني أبيرق بشراً وبشيراً ومبشراً ، ولم يذكر طعمة - والله سبحانه وتعالى أعلم ، قال : عن قتادة بن النعمان قال : ( كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير ومبشر ، فكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخييث قال : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، فقدمت ضافطة من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له ، وفي المشربة سلاح درع وسيف ، فعدى عليه من تحت البيت فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشرتبنا وذهب بطعامنا وسلاحنا ، قال : فتحسسنا في الدار ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم ، قال : وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - ؛ والله مانرى صابحكم إلا لبيد بن سهل - رجل منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع لبيد اخترط سيفه قوال : أنا أسرق فما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك السرقةَ قالوا : إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت ذلك له قال قتادة : فأتيته ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : سآمر في ذلك ، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح ، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة : فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكلمته ، فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة قال : فقال لي عمي : يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بام قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : الله المستعان فلم يلبث أن نزل القرآن ) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ( إلى ) خصيماً ( بني أبيرق ، ) واستغفر الله ( مما قلت لقتادة ، ) إن الله كان غفوراً رحيماًْ ( إلى قوله : ( فسوق نؤتيه أجراً عظيماً ( ؛ فلا نزل القرآن أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالسلاح(2/312)
صفحة رقم 313
فرده إلى رفاعة ، فلام نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية ، فأنزل الله سبحانه وتعالى ) ومن يشاقق الرسول ( إلى قوله : ( ضلالاً بعيداً ( ) وروى الحديث ابن إسحاق في السرة وزاد : إن حساناً قال في نزوله عندها أبياتاً فطردته ، فلحق بالطائف فدخل بيتاً ليسرق منه ، فوقع عليه فمات ، فقالت قريش : والله ما يفارق محمداً من أصحابه أحد فيه خير .
النساء : ( 107 - 111 ) ولا تجادل عن. .. . .
) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ( )
ولما نهاه عن الخصام لمطلق الخائن ، وهو من وقعت منه خيانة ما ؛ أتبعه النهي عن المجادلة عمن تعمد الخيانة فقال سبحانه وتعالى : ( ولا تجادل ) أي في وقت ما ) عن الذين يختانون ) أي يتجدد منهم تعمد أن يخونوا ) أنفسهم ( بأن يوقعوها في الهلكة بالعصيان فيما اؤتمنوا عليه من الأمور الخفية ، والتعبير بالجمع - مع أن الذي نزلت فيه الآية واحد - للتعميم وتهديد من أعانه من قومه ، ويجوز أن يكون أشار بصيغة الافتعال إلى أن الخيانة لا تقع إلا مكررة ، فإنه يعزم عليها أولاً ثم يفعلها ، فأدنى لذلك أن يكون قد خان من نفسه مرتين ، قال الإمام ما معناه أن التهديد في هذه الآية عظيم جداً ، وذلك أنه سبحانه وتعالى عاتب خير الخلق عنده وأكرمهم لديه هذه المعاتبة وما فعل إلا الحق في الظاهر ، فكيف بمن يعلم الباطن ويساعد أهل الباطل ؟ فكيف إن كان بغيرهم ؟ ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن من خان غيره كان مبالغاً في الخيانة بالعزم وخيانة الغير المستلزمة لخيانة النفس فلذا ختمت بالتعليل بقوله : ( إن الله ) أي الجليل العظيم ذا الجلال والإكرام ) لا يحب ) أي لا يكرم ) من كان خواناً أثيماً ( بصيغتي المبالغة - على أن مرتب المبالغين في الخيانة متفاوتة ، وفيه مع هذا استعطاف لمن وقعت منه الخيانة مرة واحدة وقدم سبحانه وتعالى ذلك ، لأن فيه دفعاً للضر عن البريء وجلباً للنفع إليه ؛ ثم أتبعه بعيب هذا الخائن وقلة تأمله والإعلام بأن المجادلة عنه قليلة(2/313)
صفحة رقم 314
الجدوى ، فقال سبحانه وتعالى معجباً منهم بما هو كالتعليل لما قبله : ( يستخفون ) أي هؤلاء الخونة : طعمة ومن مالأه وهو يعلم باطن أمره ) من الناس ( حياء منهم وخوفاً من أن يضروهم لمشاهدتهم لهم وقوفاً مع الوهم كالبهائم ) ولا يستخفون ( اي يطلبون ويوجدون الخفية بعدم الخيانة ) من الله ) أي الذي لا شيء أظهر منه لما له من صفات الكمال ) وهو ) أي والحال أنه ) معهم ( لا يغيب عنه شيء من أحوالهم ، ولا يعجزه شيء من نكالهم ، فالاستخفاء منه لا يكون إلا بترك الخيانة ومحض الإخلاص ، فواسوأتاه من أغلب الأفعال والأقوال والأحوال ) إذ ) أي حين ) يبيتون ) أي يرتبون ليلاً على طريق الإمعان في الفكر والإتقان للرأي ) ما لا يرضى من القول ) أي من البهت والحلف عليه ، فلا يستحيون منه ولا يخافون ، لاستيلاء الجهل والغفلة على قلوبهم وعدم إيمانهم بالغيب .
ولما أثبت علمه سبحانه وتعالى بهذا من حالهم عم فقال : ( وكان الله ) أي الذي كل شيء في قبضته لأنه الواحد الذي لا كفوء له ) بما يعملون ) أي منهذا وغيره ) محيطاً ) أي علماً وقدرة .
ولما وبخهم سبحانه وتعالى على جهلهم ، حذر من مناصرتهم فقال مبنياً أنها لا تجديهم شيئاً ، مخوفاً لهم جداً بالمواجهة بمثل هذا التنبيه والخطاب ثم الإشارة بعد : ( هاأنتم هؤلاء ( وزاد في الترهيب للتعيين بما هو من الجدل الذي هو أشد الخصومة - من جدل الحبل الذي هو شدة فتله - وإظهاره في صيغة المفاعلة ، فقال مبيناً لأن المراد من الجملة السابقة التهديد : ( جادلتم عنهم ( في هذه الواقعة أو غيرها ) في الحياة الدنيا ) أي بما جعل لكم من الأسباب .
ولما حذرهم وبخهم على قلة فطنتهم وزيادة في التحذير بأن مجادلتهم هذه سبب لوقوع الحكومة بين يديه سبحانه وتعالى فقال : ( فمن يجادل الله ) أي الذي له الجلال كله ) عنهم ) أي حين تنقطع الأسباب ) يوم القيامة ( ولا يفترق الحال في هذا بين أن تكون ( ها ) من ) هأنتم ( للتنبيه أو بدلاً عن همزة استفهام - على ما تقدم ، فإن معنى الإنكار هنا واضح على كلا الأمرين .
ولما كان من أعظم المحاسن كف الإنسان عما لا علم له به ، عطف على الجملة من أولها من غير تقييد بيوم القيامة منبهاً على قبح المجادلة عنهم بقصور علم الخلائق قوله : ( أم من يكون ) أي فيما يأتي من الزمان ) عليهم وكيلاً ) أي يعلم منهم ما يعلم الله سبحانه وتعالى بأن يحصي أعمالهم فلا يغيب عنه منها شيء ليجادل الله عنهم ، فيثبت لهم ما فارقوه ، وينفي عنهم ما لم يلابسوه ويرعاهم ويحفظهم مما يأتيهم به القدر من الضرر والكدر .(2/314)
صفحة رقم 315
ولما نهى عن نصرة الخائن وحذر منها ، ندب إلى التوبة من كل سوء فقال - عاطفاً على ما تقديره : فمن يصر على مثل هذه المجادلة يجد الله عليماً حكيماً - : ( من يعمل سوءاً ) أي قبيحاً متعدياً يسوء غيره شرعاً ، عمداً - كما فعل طعمة - أو غير عمد ) أو يظلم نفسه ( بما لا يتعداه إلى غيره شركاً كان أو غيره ، أو بالرضى لها بما غيره أعلى منه ، ولم يسمه بالسوء لأنه لا يقصد نفسه بما يضرها في الحاضر ) ثم يستغفر الله ) أي يطلب من الملك الأعظم غفرانه بالتوبة بشروطها ) يجد الله ) أي الجامع لكل كمال ) غفوراً ) أي ممحيّاً للزلات ) رحيماً ) أي مبالغاً في إكرام من يقبل إليه ( من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت نمه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) روى إسحاق بن راهويه عن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو يعلى الموصلي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية نسخت
77 ( ) من يعمل سوءاً يجز به ( ) 7
[ النساء : 123 ] وأنها نزلت بعدها .
ولما ندب إلى التوبة ورغب فيها ، بين أن ضرر إثمه لا يتعدى نفسه ، حثاً على التوبة وتهييجاً إليها لما جبل عليه كل أحد من محبة نفع نفسه ودفع الضر عنها فقال : ( ومن يكسب إثماً ) أي إثم كان ) فإنما يكسبه على نفسه ( لأن وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد ، فهو مجازيه على ذلك لا محالة غير حامل لشيء من إثمه على غيره كما أنه غير حامل لشيء من إثم غيره عليه ، والكسب : فعل ما يجر نفعاً أويدفع ضراً .(2/315)
صفحة رقم 316
ولما كان هذا لا يكون إلا مع العلم والحكمة قال تعالى : ( وكان الله ) أي الذي له كمال الإحاطة أزلاً وأبداً ) عليماً ) أي بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله ، فلا يترك شيئاً منه ) حكيماً ( فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه ، وإذا أراد شيئاً وضعه في أحكم مواضعه فلا يمكن غيره شيء من نقضه .
النساء : ( 112 - 116 ) ومن يكسب خطيئة. .. . .
) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ( ( )
ولما ذكر ما يخص الإنسان من إثمه أتبعه ما يعديه إلى غيره فقال : ( ومن يكسب خطيئة ) أي ذنباً غير متعمد له ) أو إثماً ) أي ذنباً تعمده .
ولما كان البهتان شديداً جداً قلَّ من يجترىء عليه ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : ( ثم يرم به بريئاً ) أي ينسبه إلى من لم يعمله - كما فعل طعمة باليهودي ، وابن أبي بالصديقة رضي الله تعالى عنها .
وعظم جرم فاعل ذلك بصيغة الافتعال في قوله : ( فقد احتمل ( وبقوله : ( بهتاناً ) أي خطر كذب يبهت المرمى به لعظمه ، وكأنه إشارة إلى ما يحلق الرامي في الدنيا من الذم ) وإثماًَ ) أي ذنباً كبيراً ) مبيناً ( يعاقب به في الآخرة ، وإنما كان مبيناً لمعرفته بخيانة نفسه وبراءة المرمى به ، ولأن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته الجميلة أن يظهر براءة المقذوف به يوماً ما بطريق من الطرق ولو لبعض الناس .
ولما وعظ سبحانه وتعالى في هذه النازلة وحذر ونهى وأمر ، بين نعمته على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في عصمته عما أرادوه من مجادلته عن الخائن بقوله تعالى : ( ولولا فضل الله ) أي الملك الأعلى ) عليك ) أي بإنزال الكتاب ) ورحمته ) أي بإعلاء أمرك وعصمتك من كل ذي كيد وحفظك في أصحابك الذين أتوا يجادلون عن ابنعمهم سارق الدرع في التمسك بالظاهر وعدم قصد العناد ) لهممت طائفة منهم ) أي فرقة فيها أهلية الاستدارة والتخلق ، لا تزال تتخلق فتفيل الآراء وتقلب الأمور وتدير الأفكار في ترتيب ما تريد ) أن يضلوك ) أي يوقعوك في ذلك بالحكم ببراءة طعمة ، ولكن الله حفظك في أصحابك فما همموا بذلك ، وإنما قصدوا المدافعة عن صاحبهم بام لم يتحققوه ، ولو(2/316)
صفحة رقم 317
هموا لما أضلوك ) وما يضلون ) أي على حالة من حالات هذا الهم ) إلا أنفسهم ( إذ وبال ذلك عليهم ) ما يضرونك ) أي يجددون في ضرك حالاً ولا مالاَ بإضلال ولا غيره ) من شيء ( وهو وعد بدوام العصمة في الظاهر والباطن كآية المائدة أيضاً وإن كانت هذه بسياقها ظاهرة في الباطن وتلك ظاهرة في الظاهر ) وأنزل الله ) أي الذي له جميع العظمة ) عليك ( وأنت أعظم الخلق عصمة لأمتك ) الكتاب ) أي الذي تقدم أول القصة الإشارة إلى كماله وجمعه لخيري الدارين ) والحكمة ) أي الفهم لجميع مقاصد الكتاب فتكون أفعالك وأفعال من تابعك فيه على أتم الأحوال ، فتظفروا بتحقيق العلم وإتقان العمل ، وعمم بقوله : ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) أي من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا ) وكان فضل الله ) أي المتوحد بكل كمال ) عليك عظيماَ ) أي بغير ذلك من أمور لا تدخل تحت الحصر ، وهذا من أعظم الأدلة على أن العلم أشرف الفضائل .
ولما كان قوم طعمة قد ناجوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الدفع عنه ، نبههم سبحانه وغيرهم على ما ينبغي أن يقع به التناجي ، ويحسن يه التفاؤل والتجاذب على وجه ناه عن غيره أشد نهي بقوله سبحانه وتعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم ) أي نجوى جميع المناجين ) إلا من ) أي نحوى من ) أمر بصدقة ( ولما خص الصدقة لعزة المال في ذلك الحال ، عمم بقوله : ( أو معروف ( أيّ معروف كان مما يبيحه الشرع من صدقة وغيرها .
ولما كان إصلاح ذات البين أمراً جليلاً ، نبه على عظمه بتخصيصه بقوله : ( أو إصلاح بين الناس ) أي عامة ، فقد بين سحانه وتعالى أن غير المستثنى من التناجي لا خير فيه ، وكل ما انتقى عنه الخير كان مجتنباً - كما روى أحمد والطبراني في الكبير بسند لا بأس به وهذا لفظه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال : إنما الأمور ثلاثة : أمر تبين لك رشده فاتبعه ، وأمر تبين لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه ) .
ولما كان التقدير : فمن أمر بشي من ذلك فنجواه خير ، وله عليها أجر ؛ عطف عليه قوله : ( من يفعل ذلك ) أي الأمر العظيم الذي أمر به من هذه الأشياء ) ابتغاء مرضاة الله ( الذي له صفات الكمال ، لأن العمل لا يكون له روح إلا بالنية ) فسوف(2/317)
صفحة رقم 318
نؤتيه ) أي في الآخرة بوعد لا خلف فيه ) أجراًَ عظيماً ( وهذه الآية من أعظم الدلائل على أن المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال القلب في إخلاص النية ، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض دنيوي ، فإن كان رياء انقلبت فصارت من أعظم المفاسد .
ولما رتب سبحانه وتعالى الثواب العظيم على الموافقة ، رتب العقاب الشديد على المخالفة والمشاققة ، ووكل المخالف إلى نفسه بقوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول ) أي الكامل في الرسلية ، فيكون بقلبه أو شيء من فعله في جهة غير جهته على وجه المقاهرة ، وعبر بالمضارع رحمة منه سبحانه بتقييد الوعيد بالاستمرار ، وأظهر القاف إشارة إلى تعليقه بالمجاهرة ، ولأن السياق لأهل الأوثان وهم مجاهرون ، وقد جاهر سارق الدرعين الذي كان سبباً لنزول الآية في آخر قصته - كما مضى .
ولما كان في سياق تعليم الشريعة التي لم تكن معلومة قبل الإيحاء بها ، لا في سياق الملة المعلومة بالعقل ، أتى ب ( من ) تقييداً للتهديد بما بعد الإعلام بذلك فقال : ( من بعد ما ( ولو حذفت لفهم اختصاص الوعيد بمن استغرق زمان البعد بالمشاققة .
ولما كان ما جاء به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الظهور قال : ( تبين له الهدى ) أي الدليل الذي هو سببه .
ولما كان المخالف للإجماع لا يكفر إلا بمنابذة المعلوم بالضرورة ، عبر بعد التبين بالاتباع فقالك ) ويتبع غير سبيل ) أي طريق ) المؤمنين ) أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة ، والمراد الطريق المعنوي ، وجه الشبه الحركة البدنية الموصلة إلى المطلوب في الحسي ، والنفسانية في مقدمات الدليل الموصل إلى المطلوب في المعنوي ) نوله ) أي بعظمتنا في الدنيا والآخرة ) ما تولى ) أي نكله إلى ما اختار لنفسه وعالج فيه فطرته الأولى خذلاناً منا له ) ونصله ) أي في الآخرة ) جهنم ) أي تلقاه بالكراهة والغلظة والعبوسة كما تجهم أولياءنا وشاققهم .
ولما كان التقدير : فهو صائر إليها لا محالة ، بين حالها في ذلك فقال : ( وساءت مصيراً ( وهذه الآية دالة على أن الإجماع حجة لأنه لات يتوعد إلا على مخالفة الحق ، وكذا حديث ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله - وفي رواية : ظاهرين على الحق - حتى يأتي أمر الله ) رواه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثوبان(2/318)
صفحة رقم 319
والمغيرة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وأنس وأبو هريرة ، بعض أحاديثهم في الصحيحين ، وبعضها في السنن ، وبعضها في المسانيد ، وبعضها في المعاجيم وغير ذلك ؛ ووجه الدلالة أن الطائفة التي شهد لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحق في جملة أهل الإجماع والله سبحانه وتعالى الموفق .
ولما كان فاعل ذلك بعد بيان الهدى هم أهل الكتاب ومن أضلوه من المنافقين بما ألقوه إليهم من الشبه ، فردوهم إلى ظلام الشرك والشك بعد أن بهرت أبصارهم اشعة التوحيد ؛ حسن إيلاؤه قوله سبحانه إيلاؤه قوله سبحانه وتعالى - معللاً تعظيماً لأهل الإسلام ، وحثاً على لزوم هديهم ، وذما لمن نابذهم وتوعداً له ، إشارة إلى أن من خرق إجماع المسلمين صار حكمه حكم المشركين ، فكيف بمن نابذ المرسلين : ( إن الله ) أي الأحد المطلق فلا كفوء له ) لا يغفر أن يشرك به ) أي وقوع الشرك به ، من أي شخص كان ، وبأي شيء كان ، لأن من قدح في ملك استحق البوار والهلك ، وسارقالدرع أحق الناس بذلك ) ويغفر ما ) أي كل شيء هو ) دون ذلك ) أي الأمر الذي لم يدع للشناعة موضعاً - كما هو شأن من ألقى السلم ودخل في ربقة العبودية ، ثم غلبته الشهوة فقصر في بعض أنواع الخدمة .
ثم دل على نفوذ أمره بقوله : ( لمن يشاء ( ولما كان التقدير : فإن من أشرك به فقد افترى إثماً مبيناً ، عطف عليه قوله : ( ومن يشرك ) أي يوقع هذا الفعل القذر جداً في أي وقت كان من ماض أو حال أو استقبال مداوماً على تجديده ) بالله ) أي الملك الذي لا نزاع في تفرده بالعظمه لأنه لا خفاء في ذلك عند أحد ) فقد ضل ) أي ذهب عن السنن الموصل ) ضلالاً بعيداً ( لا تمكن سلامة مرتكبه ، وطوزى مقدمة الافتراء الذي هو تعمد الكذب ، وذكر مفدمة الضلال ، لأن معظم السياق للعرب أهل الأوثان والجهل فيهم فاش ، بخلاف ما مضى لأهل الكتاب فإن كفرهم عن علم فهو تعمد للكذب(2/319)
صفحة رقم 320
النساء : ( 117 - 120 ) إن يدعون من. .. . .
) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ( ( )
ولما كان المنافقون هم المقصودين بالذات بهذه الآيات ، وكان أكثرهم أهل أوثان ؛ ناسب كل المناسبة قوله معللاً لأن الشرك ضلالاً : ( إن ) أي ما ) يدعون ( وما أنسب التعبير لعباد الأوثان عن العبادة بالدعاء إشارة إلى أن كل معبود لا يدعي في الضرورات فيسمع ، فعابده أجهل الجهلة .
ولما كان كل شيء دونه سبحانه وتعالى ، لأنه تحت قهره ؛ قال محتقراً لما عبدوه : ( من دونه ) أي وهو الرحمن .
ولما كانت معبوداتهم أوثاناً متكثرة ، وكل كثرة تلزمها الفرقة والحاجة والضعف مع أنهم كانوا يسمون بعضها بأسماء الإناث من اللات والعزى ، ويقولون في الكل : إنها بنات الله ، ويقولون عن كل صنم : أنثى بني فلان ؛ قال : ( إلا إناثاً ) أي فجعلوا أنفسهم للإناث عباداً وهم يأنفون من أن يكون لهم لهم أولاداً ، وفي التفسير من البخاري : إناثاً يعني الموات حجراً أو مدراً - أو ما أشبه ذلك ؛ هذا مع أن مادة ( أنث ) و ( وثن ) يلزمها في نفسها الكثرة والرخاوة والفرقة ، وكل ذلك في غاية البعد عن رتبة الإلهية ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في سورة العنكبوت وأن هذا القصر قلب قصر لاعتقادهم أها آلهة ، ومعنى الحصر : ما هي إلا غير آهلة لما لها من النقص ) وإن يدعون ) أي يعبدون في الحقيقة ) إلا شيطاناً ) أي لأنه هو الآمر لهم بذلك ، المزين لهم ) مريداً ) أي عاتياً صلباً عاصياً ملازماً للعصيان ، مجرداً من كل خير ، محترقاً بأفعال الشر ، بعيداً من كل أمن ، من : شاط وشطن ؛ ومرد - بفتح عينه وضمها ، وعبر بصيغة فعيل التي هي للمبالغة في سياق ذمهم تنبيهاً على أنهم تعبدوا لام لا إلباس في شراراته ، لأنه شر كله ، بخلاف ما في سورة الصافات ، فإن سياقه يقتضي عدم المبالغة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى ؛ ثم يبن ذلك بقوله : ( لعنه الله ) أي أبعده الملك الأعلى منكل خير فبعد فاحترق .
ولما كان التقدير : فقال إصراراً على العداوة بالحسد : وعزتك لأجتهدن في إبعاد غيري كما أبعدتني عطف عليه قوله : ( وقال لأتخذنَّ ) أي والله لأجتهدن في أن آخذ ) من عبادك ( الذين هم تحت قهرك ، ولا يخرجون عن مرادك ) نصيباً مفروضاً ) أي جزءاً أنت قدرته لي ) ولأضلنهم ) أي عن طريقك السوي بما سلطتني به من الوساوس(2/320)
صفحة رقم 321
وتزيين الأباطيل ) ولأمنينّهم ) أي كل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث وغيره من طول الأعمال وبلوغ الآمال من الدنياوالآخرة بالرحمة والعفو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة ) ولآمرنهم ( ولما كان قد علم مما طبعوا عليه من الشهوات والحظوظ التي هيأتهم لطاعته ، وكانت طاعته في الفساد عند كل عاقل في غاية الاستبعاد ؛ أكد قوله : ( فليبتكن ) أي يقطعن تقطيعاً كثيراً ) آذان الأنعام ( ويشققونها علامة على ما حرموه على أنفسهم ) ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) أي الذي له الحكمة الكاملة فلا كفوءله ، بأنواع التغيير من تغيير الفطرة الأولى السليمة إلى ما دون ذلك من فقء عين الحامي ونحو ذلك ، وهو إشارة إلى ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم بالتقريب للأصنام من السائبة وما معها ، المشار إلى إبطاله في أول المائدة بقوله
77 ( ) أحلت لكم بهيمة الأنعام لا ما يتلى عليكم ( ) 7
[ المائدة : 1 ] المصرح به في آخرها بقوله :
77 ( ) ما جعل الله من بحيرة ( ) 7
[ المائدة : 103 ] ويكون التغيير بالوشم والوشر ، ويدخل فيه كل ما خالف الدين ، فإن الفطرة الأولى داعية إلى خلاف ذلك حتى أدخلوا فيه تشبيه الرجال بالنساء في التخنث وما يتفرع عنه في تشبيه النساء بالرجال في السحق ومانحاً فيه نحوه .
ولما كان التقدير : فقد خسر من تابعه في ذلك ، لأنه صار للشيطان ولياً ؛ عطف عليه معمماً قوله : ( ومن يتخذ ) أي يتكلف منهم ومن غيرهم تغيير الفطرة الأولى فيأخذ ) الشيطان ولياً ( ولما كان ذلك ملزوماً لمحادة الله سبحانه وتعالى ، وكان ما هو أدنى من رتبته في غاية الكثرة ؛ بعّض ليفهم الاستغراق من باب الأولى فقال : ( من دون الله ) أي المستجمع لكل وصف جميل ) فقد خسر ( باتخاذه ذلك ولو على أدنى وجوه الشرك ) خسراناً مبيناً ) أي في غاية الظهور والرداءة بما تعطيه صيغة الفعلان ، لأنه تولى من لا خير عنده ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( يعدهم ) أي بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل أنه قريب الحصول ، وأنه لا درك في تحصيله ، وأنه إن لم يحصل كان في فواته ضرر ، فيسعون في تحصيله ، فيضع عليهم في ذلك الزمانُ ، ويرتكبون فيه ما لا يحل من الأهوال والهوان ) ويمنيهم ) أي يزين لهم تعليق الآمال بما لا يتأتى حصوله ، ثم بين ذلك بقوله : ( وما ) أي والحالة أنه ما ) يعدهم ( وأظهر في موضع الإضمار تنبيهاً على مزيد النفرة فقال : ( الشيطان ) أي المحترق البعيد عن الخير ) إلا غروراًَ ) أي تزييناً بالباطل خداعاً ومكراً وتلبيساً ، إظهاراً - لما لا حقيقة له أو له(2/321)
صفحة رقم 322
حقيقة سيئة - في أبهى الحقائق وأشرفها وألذها إلى النفس وأشهاها إلى الطبع ، فإن مادة ( غر ) و ( رغ ) تدول على الشرف والحسن ورفاهة العيش ، فالغرور إزالة ذلك .
النساء : ( 121 - 123 ) أولئك مأواهم جهنم. .. . .
) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( ( )
ولما أثبت لهم ذلك أنتج بلا شك قوله : ( أولئك ) أي البعداء من كل خير ) مأواهم جهنم ) أي تتجهمهم وتتقد عليهم بما اتخذوا من خلق منها ولياً ) ولا يجدون عنها محيصاً ) أي موضعاً ما يميلون إليه شيئاً من الميل .
ولما ذكر ما للكافرين ترهيباً أتبعه ما لغيرهم ترغيباً فقال : ( والذين آمنوا ) أي بوعد لا خلف فيه ) جنات تجري ( وقرب وبعض بقوله : ( من تحتها الأنهار ) أي لرّي أرضها ، فحيث ما أجرى منها نهر جرى .
ولما كان الانزعاج عن مطلق الوطن - ولو لحاجة تعرض - شديداً ، فيكف بهذا قال : ( خالدين فيها ( ولما كان الخلود يطلق على مجرد المكث الطويل ، دل على أنه لا بإلى آخر بقوله : ( أبداً ( ثم أكد ذلك بأن الواقع يطابقه ، وهويطابق الواقع فقال : ( وعد الله حقاً ) أي يطابقه الواقع ، لأنه الملك الأعظم وقد برز وعده بذلك ، ومن أحق من الله وعداً ، وأخبر به خبراً صاداقً يطابق الواقع ) ومن أصدق من الله ) أي المختص بصفات الكمال ) قيلاً ( وأكثر من التأكيد هنا لأنه في مقابلة وعد الشيطان ، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد .
ولما أخبر تعالى عما أعد لهم ولمن أضلهم من العقاب وعما أعد للمؤمنين من الثواب ، وكانوا يمنون أنفسهم الأماني الفارغة من أنه لا تبعة عليهم في التلاعب بالدين ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ويشطعهم على ذلك أهل الكتاب ويدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، لا يؤاخذهم بشيء ، ولا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى أو من شفعوا فيه ، ونحو هذه التكاذيب مما يطمعون به من والاهم بأنهم ينجونه ، وكان المشركون يقولون : ( ) نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين ( ) [ سبأ : 35 ] ، ونحو ذلك - كنا قال العاصي بن وائل لخباب بن الأرت وقد تقاضاه ديناً كان له عليه : دعني إلى تلك الدار فأقضيك مما لي فيها ، فوالله لا تكون أنت وصاحبك فيها آثر عند الله مني(2/322)
صفحة رقم 323
ولا أعظم حظاً ، فأنزل الله في ذلك : ( ) أفرأيت الذي كفر بآياتنا ( ) [ مريم : 77 ] الآ ] ات من آخر مريم ، ويقول لهم أهل الكتاب : أنتم أهدى سبيلاً ، لما كان ذلك قال تعالى راداً على الفريقين : ( ليس ) أي ما وعده الله وأوعده ) بأمانيكم ) أي أيها العرب ) ولا أماني أهل الكتاب ) أي التي يمنيكم جميعاً بها الشيطان .
ولما اكنت أمانيهم أنهم لا يجازون بأعمالهم الخبيثة ، أنتج ذلك لا محالة قوله : ( ومن يعمل سوءاً يجز به ) أي بالمصاشب من الأمراض وغيرها ، عاجلاً إن أريد به الخير ، وآجلاًَ إن أريد به الشر ، وما أحسن إيلاؤها لتمنيه الشيطان المذكورة في قوله ) ) يعدهم ويمنيهم ( ) [ النساء : 120 ] فيكون الكلام وافياً بكشف عوار شياطين الجن ثم الإنس في غرورهم لمن خف معهم مؤيساً لمن قبل منهم ، وما أبدع ختامها بقوله : ( ولا يجد له ( ولما كان كل أحد قاصراً عن مولاه ، عبر بقوله : ( من دون الله ) أي الذي حاز جميع العظمة ) ولياً ) أي قريباً يفعل معه ما يفعل القريب ) ولا نصيراً ) أي ينصره في وقت ما وما أشد التئامها بختام أول الآيات المحذرة منهم ) ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيراً ( ) [ النساء : 45 ] إشارة إلى أن مقصود المنافقين من مشايعة أهل الكتاب ومتابعتهم إنما هو الولاية والنصرة ، وأنهم قد ضيعوا منيتهم فاستنصروا بمن لا نصرة له ، وتركوا من ليست النصرة إلا له .
النساء : ( 124 - 125 ) ومن يعمل من. .. . .
) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ( ( )
ولما أبدى جزاء المسيء تحذيراً ، أولاه أجر المحسن تبشيراً فقال : ( ومن يعمل ( وخفف تعالى عن عباده بقوله : ( من الصالحات ( ولما عمم بذكر ( من ) صرح بما اقتضته في قوله : ( من ذكر وأنثى ( وقيد ذلك بقوله : ( وهو ) أي والحال أنه ) مؤمن ( ليكون بناؤه الأعمال على أساس الإيمان ) فأولئك ) أي العالو الرتبة ، وبنى فعل الدخول للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وأبي جعفر وأبي بكر عن عاصم وروح عن يعقوب ، وللفاعل في قراءة غيرهم ، لأن المقصود نفس الفعل ، لا كونه من فاعل معين ؛ وإن كانت قراءة الأولين أكثر فائدة ) يدخلون ) أي يدخلهم الله ) الجنة ) أي الموصوفة ) لا يظلمون ( وبنى الفعل للمجهول ، لأن المقصود الخلاص منه لا بقيد فاعل معين ) نقيراً ) أي لا يظلم الله المطيع منهم بنقص شيء ما ، ولا العاصي بزيادة شيء ما ، والنقير : ما في ظهر النواة من تلك الوقبة الصغيرة جداً ، كني بها عن العدم ، وهذا على(2/323)
صفحة رقم 324
ما يتعارفه الناس وإلا فالله تعالى له أن يفعل ما يشاء ، فإن مِلكه ومُلكه عام ، لا يتصور منه ظلم كيف ما لعل .
ولما كشف سبحانه زورهم وبيَّن فجورهم ، أنكر أن يكون أحد أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم الذي يزعمون أنه كان على دينهم زعماًَ تقدم كشف عواره وهتك أستاره في آل عمران ، فقال عاطفاً على ماتقديره : فمن أحسن دائناً ومجازياً وحاكماً منه سبحانه وتعالى : ( ومن أحسن ديناً ( أو يكون التقدير : لأنهم أحسنوا في دينهم ومن أحسن ديناً منهم لكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وتعليماً لما يفعل يفعل المؤمن وحثاً عليه فقال : ( ممن أسلم ) أي أعطى .
ولما كان المراد الإخلاص الذي هو أشرف الأشياء ، عبر عنه بالوجه الذي هو أشرف الأعضاء فقال : ( وجهه ) أي قياده ، أي الجهة التي يتوجه إليها بوجهن أي قصده كله الملازم للإسلام نفسه كلها ) لله ( فلا حركة له سكنة إلا فيما يرضاه ، لكونه الواحد الذي لا مثل له ، فهو حصر بغير صيغة الحصر ، فأفاد فساد طريق من لفت وجهه نحو سواه باستعانة أو غيرها ولا سيما المعتزلة الذين يرون الطاعة من أنفسهم ، ويرون أنها موجبة لثوابهم ، والمعصية كذلك وأنها موجبة لعقابهم ، في الحقيقة لا يرجون إلا أنفسهم ، ولا يخافون غيرها ؛ وأهل السنة فوّضوا التدبير والتكوين والخلق إلى الحق ، فهم المسلمون .
ولما عبر تعالى عن كمال الإعتقاد بالماضي ، شرط فيه الدوام والأعمال الظاهرة بقوله : ( وهو ) أي والحال أنه ) محسن ) أي مؤمن مراقب ، لا غفلة عنده أصلاً ، بل الإحسان صفة له راسخة ، لأنه يعبد اله كأنه يراه ، فقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذم الكامل لغيره .
ولما كان هذا ينتظم مَنَ كان على دين أي نيب كان قبل نسخه ، قيده بقوله : ( واتبع ) أي بجهد منه ) ملة إبراهيم ( الذي اشتهر عند جميع الطوائف أنه ما دعا إلا إلى الله سبحانه وتعالى وحده ، وتبرأ مما سواه من فلك وكوكب وصنم وطبيعة وغيرها حال كون ذلك المتبع ) حنيفاً ) أي ليناً سهلاً ميّالاً مع الدليل ، والملة : ما دعت إليه الفطرة الأولى بمساعدة العقل السليم من كمال الإسلام بالتوحيد .
ولما كان التقدير ترغيباً في هذا الاتباع : فقد جعل الله سبحانه وتعالى ملة إبراهيم أحسن الملل ، وخلقه يوم خلقه حنيفاً ، عطف عليه قوله : ( واتخذ الله ) أي الملك الأعظم أخذ من معين بذلك مجتهد فيه ) إبراهيم خليلاً ( لكونه كان حنيفاً ، (2/324)
صفحة رقم 325
وذلك عبارة عن اختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله من ترديد الرسل بالوحي بينه وبينه ، وإجابة الدعوة ، وإظهار الخوارق عليه وعلى آله ، والنصرة على الأعداء وغير ذلك من الألطاف ، وأظهر اسمه في موضع الإضمار تصريحاً بالمقصود احتراساً من الإبهام وإعلاءً لقدره تنويهاً بذكره .
النساء : ( 126 - 127 ) ولله ما في. .. . .
) وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ( ( )
ولما أخبر بمن يحبه ومن يبغضه وبما يرضيه وما يغضبه ، وكان ربما توهم عدم القدرة على أخذه لغير ما أخذ ، وجعله لغير ما جعل ، أو تعنت بذلك متعنت فظن أن في الكلام دخلاً بنوع احتياج إلى المحالة أو غيرها قال : ( ولله ) أي والحال أن للمختص بالوحدانية - فلا كفوء له ) ما في السموات ( ولما كان السياق للمنافقين والمشركين أكد فقال : ( ما في الأرض ( من إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن غيره إشارة إلى أنه التام المُلك العظيم المِلك ، فلا يعطي إلا من تابع أولياءه وجانب أعداءه ، ولا يختار إلا من علمه خياراً وهو مع ذلك قادر على ما يريد من إقرار وتبديل ، ولذلك قال : ( وكان الله ) أي الملك الذي له الكمال كله ) بكل شيء ) أي منهما ومن غيرهما ) محيطاً ( علماً وقدرة ، فمهما راد كان في وعده ووعيده للمطيع والعاصي ، لا يخفى عليه أحد منهم ، ولا يعجزه شيء .
ولما كان سبحانه وتعالى قد رتب هذا الكتاب على أنه يذكر أحكاماً من الأصول والفروع ، ثم يفصلها بوعد ووعيد وترغيب وترهيب ، يونظمها بدلائل كبريائه وجلاله وعظيم بره وكماله ، ثم يعود إلى بيان الأحكام على أبدع نظام لأن إلقاء المراد في ذلك القالب أقرب إلى القبول ، والنظم كذلك أجدر بالتأثير في القلوب ، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا تنقاد له النفوس إلا إذا كان مقروناً ببشارة ونذارة ، وذلك لا يؤثر إلا عند القطع بغاية الكمال لمن صدر عنه ذلك المقال ، ولا ينتقل مع ذلك من أسلوب إلى آخر إلا على غاية ما يكون من المناسبة بين آخر كل نوع وأول ما بعده بكمال التعلق لفظاً ومعنى ، وفعل سبحانه وتعالى في هذه السورة في أحكام العدل الذي بدأ السورة به في المواصلة التي مبناها النكاح والإرث وغير ذلك مما اتصل به - كما بين - إلى أن ختم هنا بالإسلام المثمر لقبول ذلك كله وعظمة الملك الموجبة لتمام الإسلام ، وقامت(2/325)
صفحة رقم 326
البراهين وسطعت الحجج ، وكان من أعظم مقاصد السورة العدل في الضعفاء من الأيتام وغيرهم في الميراث وغيره ، وكان توريث النساء والأطفال - ذكوراً كانوا أو إناثاً - مما أبته نفوسهم ، وأشربت بغضه قلوبهم ، وكان التفريق في إثبات ما هذا سبيله أنجع ، وإلقاؤه شيئاً فشيئاً في قوالب البلاغة أنفع ؛ وصل بذلك قوله تعالى : ( ويستفتونك ( في جملة حالية من اسم الجلالة التي قبلها ، أي له ما ذكر فلا مساغ للاعتراض عليه والحال أنهم يسألونك طلباً لأن تتفتى عليهم بالجواب في بعض ما أعطى من ملكه لبعض مخلوقاته ) في النساء ( طمعاً في الاستئثار عليهم بالمال وغيره محتجين بأنه لا ينبغي أن يكون المال إلا لمن يحمي الذمار والحال أنهم قد عبدوا من دونه إناثاً ، وجعلوا لهم مما خولهم فيه من الرزق الذي ملكهم له بضعف من الحرث والأنعام نصيباً ، فلا تعجب من حال من كرر الاستفتاء - الذي لا يكون في العرف غالباً إلا فيما فيه اعتراض - في إناث أحياء وأطفال ذكور وأعطاهم المِلك التام المُلك العظيم المِلك بعض ما يريد ، ولم يعترض على نفسه حيث أعطى إناثاً لا حياة لها ولا منفعة مما في يده ، وملكه في الحقيقة لغيره ، ولم يأذن فيه المالك ما لا ينتفع به المعطي .
ولما كان المقام بكثرة الاستفتاء محتاجاً إلى زيادة الاعتناء قال : ( قل الله ( آمراً معبراً بالاسم الأعظم منبهاً على استحضار ما ذكر أول السورة ) يفتيكم ) أي يبين لكم تجدد فيكم تلاوته إلى آخر الدهر سيفاً قاطعاً وحكماً ماضياً جامعاً ) في الكتاب ) أي فيما سبق أول السورة في قوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ( ، وغير ذلك ) في يتامى النساء ) أي في شأن التيامى من هذا الصنف ) الاّتي لا تؤتونهن ) أي بسبب التوقف في ذلك وتكرير الاستفتاء عنه ) ما كتب لهن ) أي ما فرض من الميراث وسائر الحقوق فرضاً وهو في غاية اللزوم ) وترغبون أن ) أي في أن أو عن أن ) تنحوهن ( لجمالهن أو لدمامتهن ) و ( يفتيكم في ) المستضعفين ) أي الموجود ضعفهم والمطلوب إضعافهم ، يمنعهم حقوقهم ) من الولدان ( ولما كان التقدير ؛ في أن تقوموا لهم بالقسط ، أي في ميراثهم وسائر حقوقهم ولا تحقروهم لصغرهم ؛ عطف عليه قوله : ( وأن تقوموا ) أي تفعلوا فيه من القوة والمبادرة فعل القائم المنشط ) لليتامى ( من الذكور والإناث ) بالقسط ) أي بالعدل من الميراث وغيره .
ولما كان التقدير : فما تفعلوا في ذلك من شر فإن الله كان به عليماً وعليكم قديراً ؛ عطف عليه قوله ترغيباً : ( وما تفعلوا من خير ) أي في ذلك أو في غيره ) فإن(2/326)
صفحة رقم 327
الله ) أي الذي له لاكمال كله ) كان به عليماً ) أي فهو جدير - وهو أكرم الأكرمين .
وأحكم الحاكمين - بأن يعطي فاعله على حسب كرمه وعلو قدره ، فطيبوا نفساً وتقروا عيناً ؛ روى البخاري في الشركة والنكاح ومسلم في آخر الكتاب وأبو داود والنسائي في النكاح ( عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنهما عن قول الله عز وجل : ( فإن خفتم ألا تقسطوا في التيامى ( إلى ) رباع ( قالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر ولهيا تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهو أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ؛ قال عروة : قالت عائشة رضي الله عنها : ثم إن الناس استفتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل ( ويستفتونك - إلى - وترغبون أن تنكحوهن ) ) والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب : الآية الأولى التي قال فيها : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ( قالت عائشة رضي الله عنها : وقول الله تعالى في الآية الأخرى : ( وترغبون أن تنكحوهن ( هي رغبة أحدكم يتيمته - وقال مسلم : عنيتيمته - التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ، زاد مسلم : إذا كن قليلات المال والجمال ، وقال البخاري في النكاح : فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق ؛ وفي البخاري ومسلم في التفسير عن عروة أيضاً ( يستفتونك في النساء ( الآية قالت : ( هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته - وقال مسلم : لعلها أن تكون قد شركته ، في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية ؛ وفي رواية مسلم : نزلت في الرجل تكون له التيمة وهو وليها ووراثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينحكها لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها فقال : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في التيامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء ( يقول : ما حللت لكم ، ودع هذه التي تضر بها ) وفي رواية له وللبخاري في النكاح ( فيرغب عناه أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله - وقال البخاري : فيدخل عليه في ماله - فيعضلها ولا يتزوجها ولا(2/327)
صفحة رقم 328
يزوجها ، زاد البخاري : فنهاهم الله سبحانه وتعالى ) عن ذلك ، وحاصل ذلك ما نقله الأصبهاني أنه كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً ، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها .
وما أنسب ذكر هذا الحكم الذي كثرت فيه المراجع على وجه يؤذن بعدم إذعان بعض النفوس له عقب آية الإسلام الذي معناه الانقياد والخضوع والإحسان الذي صار في العرف أكثر استعماله للاعطاء والتألف والعطف لا سيما للضعيف ، وذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أنه أتم ما ابتلاه الله تعالى به من الكلمات ووفي بها من غير مراجعة ولا تلعثم ، وأنه كان حنيفاً ميالاً مع الدليل ، تعنيفاً لمن قام عليه دليل العقل وأتاه صريح النقل وهو يراجع وإذا تأملت قوله تعالى : ( ) من يعمل سوءاً يجز به ( ) [ النساء : 123 ] مع قوله فيما قبل ) ) وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم ( ) [ النساء : 9 ] لاحت لك أيضاً مناسبة بديعة .
النساء : ( 128 - 130 ) وإن امرأة خافت. .. . .
) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ( ( )
ولما صاروا يعطفون اليتامى أموالهم ، وصاروا يتزوجون ذوات اموال منهن ويضاجرون بعضهن ؛ عقب ذلك تعالى بالإفتاء في أحوال المشاققة بين الأزواج فقال : ( وإن امرأة ) أي واحدة أو على ضرائر .
ولما كان ظن المكروه مخوفاً قال : ( خافت ) أي توقعت وظنت بما يظهر لها من القرائن ) أو إعراضاً ( عنها بقلبه بأن لا ترى من محادثته ومؤانسته ومجامعته ما كانت ترى قبل ذلك ، تخشى أن يجر إلى الفراق وإن كان متكلفاً لملاطفتها بقوله وفعله ) فلا جناح ) أي حرج وميل ) عليهما أن يصلحا ) أي يوقع الزوجان ) بينهما ( تصالحاً ومصالحة ، هذا على قراءة الجماعة ، وعلى قراءة الكوفيين بضم الياء وإسكان الصاد(2/328)
صفحة رقم 329
وكسر اللام التقدير : إصلاحاً ، لكنه لما كان المأمور به يحصل بأقل ما يقع عليه اسم الصلح بنى المصدر على غير هذين الفعلين فقال مجرداً له : ( صلحاً ( بأن تلين هي بترك بعض المهر أو بعض القسم أو نحو ذلك ، وأن يلين لها هو بإحسان العشرة في مقابلة ذلك .
ولما كان التقدير : ولا حناح عليهما أن يتفارقا على وجه العدل ، عطف عليه قوله : ( والصلح ) أي بترك كل منهما حقه أو بعض حقه ) خير ) أي المفارقة التي أشارة إليها الجملة المطوية لأن الصلح مبناه الإحسان الكامل بالرضى من الجانبين ، والمفارقة مبناها العدل الذي يلزمه في الأغلب غيظ أحدهما وإن كانت مشاركة للصلح في الخير ، لكنها مفضولة ، وتخصيصُ المفارة بالطي لأن مبنى السورة على المواصلة .
ولما كان منشأ التشاجر المانع من الصلح شكاسة في الطباع ، صوَّر سبحانه وتعالى ذلك تنفيراً عنه ، فقال اعتراضاً بين هذه الجمل للحث على الجود بانياً الفعل للمجهول إشارة إلى أن هذا المُحِضر لا يرضى أحد نسبته إليه : ( وأحضرت الأنفس ) أي الناظرة إلى نفاستها عجباً ) الشح ) أي الحرص وسوء الخلق وقلة الخير والنكد والبخل بالموجود ، وكله يرجع إلى سوء الخلق والطبع الرديء واعوجاج الفطرة الأولى الذي كني عنه بالإحضار الملازم الذي لا انفكاك له إلا بجهاد كبير يناله به الأجر الكثير ولما كان هذا خلقاً رديئاً لم يذكر فاعله ، والمعنى : أحضهرا إياه مُحضر .
فصار ملازماً لها ، لا تنفك عنه إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى في قهرها عليه بتذكير ما عنده سبحانه وتعالى من حسن الجزاء ، ولما كان التقدير : فإن شححتم فإنه أعلم بها في الشح من موجبات الذم ، عطف عليه قوله : ( وإن تحسنوا ) أي توقعوا الإحسان بالإقامة على نكاحكم وما ندبتم إليه من حسن العشرة وإن كنتم كارهين ) وتتقوا ) أي توقعوا التقوى بمجانبة كل ما يؤذي نوع أذى إشارة إلى أن تلشحيح لا محسن ولا متق ) فإن الله ) أي وهو الجامع لصفات الكمال ) كان ( أزلاً وأبداً ) بما تعملون ) أي في كل شح وإحسان ) خبيراً ) أي بالغ العلم به وأنتم تعلمون أنه أكرم الأكرمين ، فهو مجازيكم عليه أحسن جزاء .
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الوقوف على الحق فضلاً عن الإحسان - وإن كانت المراة واحدة - متعسر ، أتبعه أن ذلك عند الجمع أعسر ، فقال تعالى معبراً بأداة التأكيد : ( ولن تستطيعوا ) أي توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة ) أن تعدلوا ) أي من غير حيف أصلاً ) بين النساء ( في جميع ما يجب لكل واحدة منهن عليكم من الحقوق ) ولو حرصتم ) أي على فعل ذلك ، وهذا مع قوله تعالى :
77 ( ) فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ( ) 7
[ النساء : 3 ] كالمختم للاختصار على واحدة .(2/329)
صفحة رقم 330
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأن لا يخلو نكاح العدد عن ميل ، سبب عنه قوله : ( فلا ) أي فإن كان لا بد لكم من العدد ، أو فإن وقع الميل والزوجة واحدة فلا ) تميلوا ( ولما كان مطلق الميل غير مقدور على تركه فلم يكلف به ، بين المراد بقوله : ( كل الميل ( ثم سبب عنه قوله : ( فتذروها ) أي المرأة ) كالمعلقة ) أي بين النكاح والعزوبة والزواج والانفراد .
ولما كان الميل الكثير مقدوراً على تركه ، فكان التقدير : فإن ملتم كل الميل مع إبقاء العصمة فإن الله كان منتقماً حسبياً ، عطف عليه قوله : ( وإن تصلحوا وتتقوا ) أي بأن توجدوا الإصلاح بالعدل في القسم والتقوى في ترك الجور على تجدد الأوقات ) فإن الله ) أي الذي له الكمال كله ) كان غفوراً رحيماً ) أي محّاء للذنوب بليغ الإكرام فهو جدير بأن يغفر لكم مطلق الميل ، ويسبغ عليكم ملابس الإنعام .
ولما كان من الإصلاح المعاشرة بالمعروف ، ذكر قسيمه فقال : ( وإن يتفرقا ) أي يفترق كل من الزوجين من صاحبه ) يغن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) كلاًّ ) أي منهما ، أي يجعله غنياً هذه برجل وهذا بامرأة أو بغير ذلك من لطفه ، وبين منشأ هذا الغني فقال : ( من سعته ) أي من شمول قدرته وغير ذلك من كل صفة كمال ، ولمزيد الاعتناء بتقرير هذه المعاني في النفوس لإحضارها الشح ، كرر اسمه الأعظم الجامع فقال : ( وكان الله ) أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً ) واسعاً ) أي محيطاً بكل شيء ) حكيماً ) أي يضع الأشياء في أقوم محالها .
النساء : ( 131 - 134 ) ولله ما في. .. . .
) وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيراً مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( ( )
ولما كان مبنى هذه السورة على التعاطف والتراحم والتواصل ، لم يذكر فيها الطلاق إلا على وجه الإيماء في هذه الآية على وجه البيان لرأفته وسعة رحمته وعموم تربيته ، وفي ذلك معنى الوصلة والعطف ، قال ابن الزبير : ولكثرة ما يعرض من رعى حظوظ النفس عند الزوجية ومع القرابة - ويدق ذلك ويغمض - لذلك ما تكرر كثيراً في هذه السورة الأمرُ بالاتقاء ، وبه افتتحت ) ) اتقوا ربكم ( ) [ النساء : 1 ] ، ) ) واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ( ) [ النساء : 1 ] ، ) ) ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ( ) [ النساء : 131 ](2/330)
صفحة رقم 331
ولما ذكر تعالى آية التفرق وختمها بصفتي السعة والحكمة دل على الأول ترغيباً في سؤاله : ( ولله ) أي الذي له العظمة كلها ) ما في السموات ( ولما كان في السياق بيان ضعف النفوس وجبلها على النقائص ، فكانت محتاجة إلى تقوية الكلام المخرج لها عما ألفت من الباطل قال : ( وما في الأرض ( وعلى الثانية بالوصية بالتقوى لأنه كرر الحث على التقوى في هذه الجمل في سياق الشرط بقوله :
77 ( ) وإن تحسنوا وتتقوا ( ) 7
[ النساء : 128 ]
77 ( ) وإن تصلحو وتتقوا ( ) 7
[ النساء : 128 ] فأخبر تعالى بعد اللطف بذلك السياق أن وصيته بها مؤكدة ، لم تزل قديماً وحديثاً ، لأ ، العلم بالمشاركة في الأمر يكون أدعى للقبول ، وأهون على النفس ، فقال تعالى : ( ولقد وصينا ) أي على ما لنا من العظمة .
ولما كان الاشتراك في الأحكام موجباً للرغبة فيها والتخفيف لثقلها ، وكانت الوصية للعالم أجدر بالقبول قال : ( الذين أوتوا الكتاب ) أي التوراة والإنجيل وغيرها وبنى الفعل للمجهول لأن القصد بيان كونهم أهل علم ليرغب فيما أوصوا به ، ودلالة على أن العلم في نفسه مهيىء للقبول ، ولإفادة أن وصيتهم أعم من أن تكون في الكتاب ، أو على لسان الرسول من غير كتاب ، ولما كان إيتاؤهم الكتاب غير مستغرق للماضي وكذا الإيصاء قال : ( من قبلكم ) أي من بني إسرائيل وغيرهم ) وإياكم ) أي ووصيانكم مثل ما وصيناهم ؛ ولما كانت التوصية بمعنى القول فسرها بقوله : ( أن اتقوا الله ) أي الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له .
ولما كان التقدير : فإن تتقوا فهو حظكم وسعادتكم في الدارين ، عطف عليه قوله : ( وأن تكفروا ) أي بترك التقوى ) فإن الله ) أي الذي له الكمال المطلق ) ما في السموات ( ولما كان السياق لفرض الكفر حسن التأكيد في قوله : ( وما في الأرض ( منكم ومن غيركم من حيوان وجماد أجساداً وأروحاً وأحوالاً .
ولما كان المعنى : لا يخرج شيء عن ملكه ولا إرادته ، ولا يلحقه ضرر بكفركم ، ولم تضروا إن فعلتم إلا أنفسكم ، لأنه غني عنكم ، لا يزداد جلاله بالطاعات ، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات ؛ أكده بقوله دالاً على غناه واستحقاقه للمحامد : ( وكان الله ) أي الذي له الإحاطة كلها ) غنياً ) أي عن كل شيء الغنى المطلق لذاته ) حميداً ) أي محموداً بكل لسان قالي وحالي ، كفرتم أو شكرتم ، فكان ذلك غاية في بيان حكمته .
ولما كان الملك قد لا يمنع الاعتراض على المالك بين أن ذلك إنما هو في الملك الناقص وأنه ملكه تام : ( ولله ) أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة ) ما في(2/331)
صفحة رقم 332
السموات ( وأكد لمثل ما مضى فقال : ( وما في الأرض ) أي هو قائم بمصالح ذلك كله ، يستقل بجميع أمره ، لا معترض عليه ، بل هما وكل من فيهما مظهر العجز عن أمره ، معلق مقاليد نفسه وأحواله إليه طوعاً أو كرهاً ، فهو وكيل على كل ذلك فاعل به ما يفعل الوكيل من الأخذ والقبض والبسط ، ولمثل ذلك كرر الاسم الأعظم فقال : ( وكفى بالله ) أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ) وكيلاً ) أي قائماً بالمصالح قاهراً متفرداً بجميع الأمور ، قادراً على جميع المقدور ، وقد بان - كما ترى - أن جملة ( لله ) المكررة ثلاث مرات ذكرت كل مرة دليلاً على شيء غير الذي قبلاه وكررت ، لأن الدليل الواحد إذا كان دالاً على مدلولات كثيرة يحسن أن يستدل به على كل واحد منها .
وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرة واحدة ، لأن عند إعادته يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ، فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل ؛ وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أن هذا الدليل دال على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر ، فيجتهد السامع في التفكر لإظهار الأسرار والأفهام عن الاشتغال بغير الله تعالى إلى الاستغراق في معرفته سبحانه ، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده ، فكان في غاية الحسن والكمال .
ولما تقرر بهذا شمول علم من هذا من شأنه وتمام قدرته أنتج قوله مهدداً مخوفاً مرهباً : ( إن يشأ يذهبكم ( وصرح بالعموم إشارة إلى عموم الإرسال بقوله : ( أيها الناس ) أي المتفرغون من تلك النفس الوحدة كافة لغناه عنكم وقدرته على ما يريد منكم ) ويأت بآخرين ) أي من غيركم يوالونه ) وكان الله ) أي الواحد الذي لا شريك له أزلاً وأبداً ) على ذلك ) أي الأمر العظيم من الإيجاد والإعدام ) قديراً ) أي بالغ القدرة ، وهذا غاية البيان لغناه وكونه حميداً وقاهراً وشديداً ، وإذا تأملت ختام قوله تعالى في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر هذه السورة
77 ( ) سبحانه أن يكون له ولد ( ) 7
[ النساء : 171 ] زاد ذلك هذا السر - وهو كونه لا اعتراض عليه - وضوحاً .
ولما كان في هذا تهديد بليغ وتعريف بسعة الملك وكمال التصرف ، وكان مدار أحوال المتشاححين في الإرث وحقوق الأزواج وغيرها الأمرَ الدنيوي ، وكان سبحانه وتعالى قد بين فيما مضى أن مبنى أحوال المنافقين على طلب العرض الفاني خصوصاً قصة طعمة بن أبيرق الراضي لنفسه بالفضيحة في نيل شيء تافه ؛ قال تعالى تفييلاً لآرائهم وتخسيساً لهممهم حيث نزلوا إلى الأدنى مع القوة على طلب الأعلى مع طلب الأدنى أيضاً منه تعالى ، فلا يفوتهم شيء من معوّلهم مع إحراز الأنفس : ( ما كان يريد(2/332)
صفحة رقم 333
ثواب الدنيا ( لقصور نظره على المحسوس الحاضر مع خسته كالبهائم ) فعند ) أي فليقبل إلى الله فإنه عند ) الله ) أي الذي له الكمال المطلق ) ثواب الدنيا ( الخسيسة الفانية ) الآخرة ) أي النفسية الباقية فليطلبها منه ، فإنه يعطي من أراد ما شاء ، ومن علت همته عن ذلك فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه فلم يطلب إلا الباقي جمع سبحانه وتعالى له بينهما ، كمنا يجاهد الله خالصاً ، فإنه يجمع له بين الأجر والمغنم ، وما أشد التئامها مع ذلك بما قبلها ، لأن من كان تام القدرة واسع الملك كان كذلك .
ولما كان الناشيء عن الإرادة إما قولاً أو فعلاً ، وكان الفعل قد يكون قلبياً قال : ( وكان الله ) أي المختص بجميع صفات الكمال ) سميعاً ) أي بالغ السمع لكل قول وإن خفي ، نفسياً كان أو لسانياً ) بصيراً ) أي بالغ البصر لكل ما يمكن أن يبصر من الأفعال ، والعلم بكل ما يبصر وما لا يبصر منها ومن غيرهان فيكون من البصر ومن البصيرة ، فليراقبه العبد قولاً وفعلاً .
النساء : ( 135 - 136 ) يا أيها الذين. .. . .
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ( ( )
ولما كان ذلك من أحسن المواعظ لقوم طعمة الذين اعتصبوا له ، التفت إليهم مستعطفاً بصيغة الإيمان ، جائياً بصيغة الأمر على وجه يعم غيرهم ، قائلاً ما هو كالنتيجة لام مضى من الأمر بالقسط من أول السورة إلى هنا على وجه أكده وحث عليه : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ) وكونوا قوَّامين ) أي قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه .
ولما كان أعظم مباني هذه السورة العدل قدمه فقال : ( بالقسط ( بخلاف ما يأتي في المائدة فإن النظر فيها إلى الوفاء الذي إنما يكون بالنظر إلى الموفي له ) شهداء ) أي حاضرين متيقظين حضور المحاسب لكل شيء أردتم الدخول فيه ) لله ) أي لوجه الذي كل شيء بيده لا لشيء غيره ) ولو ( طان ذلك القسط ) على أنفسكم ) أي فإني لا أزيدكم بذلك إلا عزاء ، وإلا تفعلوا ذلك قهرتكم على الشهادة على أنفسكم على رؤوس الأشهاد ، فضحتم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون من جميع العباد .
ولما كان ذكر أعز ما عند الإنسان أتبعه ما يليه وبدأ منه بمن جمع إلى ذلك(2/333)
صفحة رقم 334
الهيبة فقال : ( أو ) أي أو كان ذلك القسط على ) الوالدين ( وأتبعه ما يعمهما وغيرها فقال : ( والأقربين ) أي من الأولاد وغيرهم ، ثم على ذلك بقوله : ( إن يكن ) أي المشهود له أو عليه ) غنياً ) أي ترون الشهادة له بشيء باطل دافعة ضراً منه للغير من المشهود عليه أو غيره ، أو مانعة فساداً أكبر منها ، أو عليه بما لم يكن صلاحاً طمعاً في نفع الفقير بما لا يضره ونحو ذلك ) أو فقيراً ( فيخيل إليكم أن الشهادة له بما ليس له نفعه رحمة له أو بما ليس عليه لمن هو أقوى منه تسكن فتنة ) فالله ) أي ذو الجلال والإكرام ) أولى بهما ) أي بنوعي الغني والفقير المندرج فيهما هذان المشهود بسببهما منكم ، فهو المرجو لجلب النفع ودفع الضر بغير ما ظننتموه ، فالضمير من الاستخدام ، ولو عاد للمذكور لوحد الضمير لأن المدث عنه واحد مبهم .
ولما كان هذا ، تسبب عنه قوله : ( فلا تتبعوا ) أي تتكلفوا تبع ) الهوى ( وتنهمكوا فيه انهماك المجتهد في المحب له ) أن ) أي إرادة أن ) تعدلوا ( فقد بان لكم أنه لا عدل في ذلك ولما كان التقدير : فإن تتبعوه لذلك أو لغيره فإن الله كان عليكم قديراً ، عطف عليه قوله : ( وإن تلوا ) أي ألسنتكم لتحرفوا الشهادة نوعاً من التحريف أو تديروا ألسنتكم أي تنطقوا بالشهادة باطلاً ، وقرأ ابنعامر وحمزة بضم اللام - من الولاية أي تؤدوا الشهادة على وجه من العدل ، أو الليّ ) أو تعرضوا ) أي عنها وهي حق فلا تؤدوها لأمر ما ) فإن الله ) أي المحيط علماً وقدرة ) كان ) أي لم يزل ولا يزال ) بما تعملون خبيراً ) أي بالغ العلم باطناً وظاهراً ، فهو يجازيكم على ذلك بما تستحقونه ، فاحذروه إن خنتم ، وارجوه إن وفيتم ، وذلك بعد ما مضى من تأديبنهم على وجه الإشارة والإيماء من غير أمر ، وما أنسبها لختام التي قبلها وأشد التئام الختامين : ختام هذه بصفة الخبرن وتلك بصفتي السمع والبصر .
ولما أمر بالعدل على هذا الوجه أمر بالحامل على ذلك ، وهو الإيمان بالشارع والمبلغ والكتاب الناهج لشرائعه المبين لسرائره الذي افتتح القصة بحقيته وبيان فائدته فقال : ( ياأيها الذين ءامنوا ) أي أقروا بالإيمان ؛ ولما ناداهم بوصف الإيمان أمرهم بما لا يحصل إلا به فقال مفصلاً له : ( ءامنوا بالله ) أي لأنه أهل لذلك لذاته المستجمع لجميع صفات الكمال كلها .
ولما كان الإيمان بالله لا يصح إلا بالإيمان بالوسائط ، وكان أقرب الوسائط إلى الإنسان الرسول قال : ( ورسوله ) أي لأنه المبلغ عنه سواء كان من الملك أو البشر ) والكتاب الذي نزل ) أي مفرقاً بحسب المصالح تدريجاً تثبيتاً وتفهيماً ) على رسوله ((2/334)
صفحة رقم 335
أي لأنه المفصل لشريعتكم لشريعتكم المتكفل بما تحتاجون إليه من الأحكام والمواعظ وجميع ما يصلحكم ، وهو القرآن الواصل إليكم بواسطة أشرف الخلق ) والكتاب الذي أنزل ) أي أوجد إنزاله ومضى ؛ ولما لم يكن إنزاله مستغرقاً للزمان الماضي بين المراد بقوله : ( من قبل ( من الإنجيل والزبور والتوراة وغيرها لأن رسولكم بلغكم ذلك فلا يحصل الإيمان إلا بتصديقه في كل ما يقوله .
ولما كان المؤمن الذي الخطاب معه عالماً بأن التنزيل والإنزال لا يكون إلا من الله بنياً للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وابن عامر للعمل بالفاعل ، وصرحت قراءة الباقين به .
ولما كان التقدير : فمن آمن بذلك فقد اهتدى وآمن قطعاً بالملائكة واليوم الآخر وغير ذلك من كل ما دعا إليه الكتاب والرسول ، عطف عليه قوله : ( ومن يكفر ) أي يوجد الكفر ويجدده وقتاً من الأوقات ) بالله وملائكته وكتبه ) أي التي أنزلها على أنبيائه بواشطة مائكته أو بغير واسطة ) ورسله ) أي من الملائكة والبشر ، فكان الإيمان بالترقي للاحتياج إليه ، وكان الكفر بالتدلي للاجتراء عليه .
ولما كان الإيمان بالبعث - وإن كان أظهر شيء - مما لا تستقل به العقول فلا تصل إليه إلا بالرسل ، ذكره بعدهم فقال : ( واليوم الآخر ) أي الذي أخبرت به رسله ، وقضت به العقول الصحيحة وإن كانت لا تستققل بإدراكه قبل تنبيه الرسل لها عليه ، وهو روح الوجود وسره وقوامه وعماده ، فيه تكشف الحقائق وتجمع الخلائق ، ويظهر شمول العلم وتمام القدرة ويبسط ظل العدل وتجتني ثمرات الفضل ) فقد ضل ( وأبلغ في التأكيد لكثرة المكذبين فقال : ( ضلالاً بعيداً ) أي لا حيلة في رجوعه معه .
النساء : ( 137 - 141 ) إن الذين آمنوا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( ( )(2/335)
صفحة رقم 336
ولما كان المتمادي بعد نزول هذا الهدي موجداً للكفر مجدداً له ، نبه على إغراقه في البعد بغضبه سبحانه وتعالى لمتاديه معلماً أن الثبات على الكفر عظيم جداً ، وصوّره بأقبح صورة ، وفي ذلك ألطف استعطاف إلى النزوع عن الخلاف فقال : ( إن الذين ءامنوا ) أي بما كانوا مهيئين له من الإيمان بالفطرة الأولى ) ثم كفروا ) أي أوقعوا الكفر فعوَّجوا ما أقامه الله من فطرهم ) ثم ءامنوا ) أي حقيقة أو بالقوة بعد مجيء الرسول بما هيأهم له بإظهار الأدلة وإقامة الحجج ) ثم كفروا ) أي أوقعوا الكفر فعوَّجوا ما أقامه الله من فطرهم ) ثم ءامنوا ) أي حقيقة أو بالقوة بعد مجيء الرسول بما هيأهم له بإظهار الأدلة وإقامة الحجج ) ثم كفروا ) أي بذلك الرسول أو برسول آخر بتجديد الكفر أو التمادي فيه ) ثم ازدادوا ) أي بإصرارهم على الكفر إلى الموت ) كفراً لم يكن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) ليغفر لهم ) أي ما داموا على هذا الحال لأنه لا يغفر أن يشرك به ) ولا ليهديهم سبيلاً ) أي من السبل الموصلة إلى المقصود .
ولما كانت جميع صور الآية منبطقة على النفاق ، بعضها حقيقة وبعضها مجازاً ، قال جواباً لمن كأنه سأل عن جزائهم متهكماً بهم : ( بشر المنافقين ( فأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ) بأن لهم عذاباً أليماً ( ثم وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى : ( الذين يتخذون الكافرين ) أي المجاهرين بالكفر ) أولياء ) أي يتعززون بهم تنفيراً من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق ، وبياناً لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي ، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله : ( من دون المؤمنين ) أي الغريقين في الإيمان ، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله : ( أيبتغون ) أي المنافقون يتطلبون ، تطلباً عظيماً ) عندهم ) أي الكافرين ) العزة ( فكأنه قال : طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب ، لأنه لا شيء من العزة عندهم .
ولما أنكر عليهم هذا الابتغاء علله بقوله : ( فإن العزة لله ) أي الذي لا كفوء له ) جميعاً ) أي وهم أعداء الله فإنما يترقب لهم ضرب الذلة والمسكنة ، وما أحسن التفات هذه الآية إلى أول الآيات المحذرة من أهل الكتاب
77 ( ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ( ) 7
[ النساء : 44 ] المختتمة بقوله :
77 ( ) وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً ( ) 7
[ النساء : 45 ] ) وقد ) أي يتخذونهم والحال أنه قد ) نزل عليكم ) أي أيتها الأمة ، الصادقين منكم والمنافقين ) في الكتاب ) أي في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم ، أفلا تخافون عزة من نهاكم عن ذلك أن يضربكم بذل لا تخلصون منه أبداً ، لأنهم لا تنفكون عن الكفر بآيات الله فإنه لا تباح ولايتهم يف حال من الأحوال إلا عند الإعراض عن الكفر ، وذلك هو المراد من قوله : ( أنْ ) أي إنه ) إذا سمعتم آيات الله ) أي ذي الجلال والإكرام .(2/336)
صفحة رقم 337
ولما كان السماع مجملاً بين المراد بقول : ( يكفر بها ) أي يستر ما أظهرت من الأدلة من أي كافر كان من اليهود وغيرهم ) ويستهزأ بها ) أي يطلب طلباً شديداً أن تكون مما يهزأ به ) فلا تقعدوا معهم ) أي الذين يفعلون ذلك بها ) حتى يخوضوا ( وعبر عن الشروع بالخوض إيماء إلى أن كلامهم لا يخلو عن شيء في غير موضعه ، رمزاً إلى عدم مجالستهم على كل حال ) في حديث غيره ( فهذا نهي من مجرد مجالستهم فكيف بولايتهم .
ولما كانت آية الأنعام مكية اقتصر فيها على مجرد الإعراض وقطع المجالسة لعدم التمكن من الإنكار بغير القلب ، وأما هذه الآية فمدنية فالتغيير عند إنزالها باللسان واليد ممكن لكل مسلم ، فالمجالس من غير نكير راض ، فلهذا علل بقوله : ( إنكم إذاً ) أي إذا قعدتم معهم وهم يفعلون ذلك ) مثلهم ) أي في الكفر لأن مجالسة المظهر للإيماء المصرح بالكفران دالة على أن إظهاره لما أظهر نفاق ، وأنه راض بما يصرح به هذا الكافر والرضى بالكفر كفر ، فاشتد حسن ختم الآية بجمع الفريقين في جهنم بقوله مستأنفاً لجواب السؤال عما تكون به المماثلة : ( إن الله ) أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته ) جامع ( ولما كان حال الأخفى أهم قدم قوله : ( المنافقين ) أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فيقعدون مع من يسمعونه بكفر ) والكافرين ) أي الذين يجاهرون بكفرهم لرسوخهم فيه ) في جهنم ( التي هي سجن الملك ) جميعاً ( كما جمعهم معهم مجلس الكفر الذي هو طعن في ملك الملك ، والتسوية بينهم في الكفر بالقعود معهم دالة على التسوية بين العاصية ومجالسه بالخلطة من غير إنكار ؛ ثم وصفهم سبحانه وتعالى بما يعرف بهم فقال : ( الذين يتربصون بكم ) أي يثبتون على حالهم انتظاراً لوقوع ما يغيظكم ) فإن كان لكم فتح ) أي ظهور وعز وظفر ، وقال : ( من الله ) أي الذي له العظمة كلها - تذكيراً للمؤمنين بما يديم اعتمادهم عليه وافتقارهم إليه ) قالوا ) أي الذين آمنوا نفاقاً لكم أيها المؤمنون ) ألم نكن معكم ) أي ظاهراً بأبداننا بما تسمعون من أقوالنا فأشركونا في فتحكم ) وإن كان للكافرين ) أي المجاهرين ، وقال : ( نصيب ( تحقيراً لظفرهم وأنه لا يضر بما حصل للمؤمنين من الفتح ) قالوا ( للكافرين ليشركوهم في نصيبهم ) ألم نستحوذ عليكم ) أي نطلب حياطتكم والمحافظة على مودتكم حتى غلبنا على جميع أسراركم واستولينا عليها ، وخالطناكم مخالطة الدم للبدن ، من قولهم : حاذه ، أي حاطه وحافظ عليه ) ونمنعكم من المؤمنين ) أي من تسلطهم عليكم بما كنا(2/337)
صفحة رقم 338
نخادعهم به ، ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرغبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد ، لتصديقهم لنا لأظهارنا الإيمان ، ورضانا من مداهنة من نكره بما لا يرضاه إنسان .
ولما كان هذا لأهل الله سبحانه وتعالى أمراً غائظاً ملقاً موجعاً ؛ سبب عنه قوله : ( فالله ) أي بما له من جميع صفات العظمة ) يحكم بينكم ) أي أيها المؤمنون والكافرون المساترون والمجاهرةن .
ولما كان الحكم في الدارين بين أنه في الدار التي لا يظهر فيها أحد غيره أمر ظاهراً ولا باطناً ، وتظهر فيها جميع المخبئات فقال : ( يوم القيامة ( ولما كان هذا ربما أيأسهم من الدنيا قال : ( ولن يجعل الله ( عبر بأداة التأكيد وبالاسم الأعظم لاسبتعاد الغلبة على الكفرة لما لهم في ذلك الزمان من القوة والكثرة ) للكافرين ) أي سواء كانوا مساترين أو مجاهرين ) على المؤمنين ) أي كلهم ) سبيلاً ) أي بوجه في دنيا ولا آخرة ، وهذا تسفيه لآرائهم واستخفاف بعقولهم فكأنه يقول : يا أيها المتربصون بأحباب الله الدوائر ، المتمنون لأعدائه النصر - وقد قامت الأدلة على أن العزة جميعاً لله - ما أضلكم في ظنكم أنه يخذل أولياءه وما أغلظ أكبادكم ويدخل في عمومها أنه لا يقتل مسلم بذمي ، ولا يملك كافر مال مسلم قهراً ؛ ثم بين أن صورتهم في ضربهم الشقة بالوجهين صورة المخادع ، وما أضلهم حيث خادعوا من لا يجوز عليه الخداع لعلمه بالخافيا ، فقال معاللاً لمنعهم السبيل .
النساء : ( 142 - 144 ) إن المنافقين يخادعون. .. . .
) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ( ( )
) إن المنافقين ( لإظهارهم لكل من غلب أنهم منه ) يخادعون الله ) أي يفعلون بإظهار ما يسر وإبطان ما يضر فعل المخادع مع من له الإحاطة الكاملة بكل شيء لأنه سبحانه وتعالى يستدرجهم من حيث لا يشعرون ، وهم يخدعون المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر ) وهو ( الذي أمر المؤمنين بما أمرهم فكأنهم يفعلون ذلك معه وهو ) خادعهم ( باستدارجهم من حيث لا يعلمون ، لأنه قادر على أخذهم من مأمنهم وهم(2/338)
صفحة رقم 339
ليسوا قادرين على خدعه بوجه ) وإذا ) أي يخادعونه والحال أنهم قد فضحوا أنفسهم بما أظهر مكرهم للمستبصرين وهو أنهم إذا ) قاموا إلى الصلاة ) أي المكتوبة ) قاموا كسالى ( متقاعسين متثاقلين عادة ، لا ينفكون عنها ، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم ، لأنهم يرون أناه تعب من غير أرب ، فالداعي إلى تركها - وهو الراحة - أقوى م الداعي إلى فعلها وهو خوف الناس ؛ ثم استأن في جواب من كأنه قال : ما لهم يفعلون ذلك ؟ فقال : ( يرآءون الناس ) أي يفعلون ذلك ليراهم الناس ، ليس إلا ليظنوهم مؤمنين ، ويريهم الناس لأجل ذلك ما يسرهم من عدهم في عداد المؤمنين لما يرون هم المؤمنين حين يصلون ) ولا يذكرون الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال في الصلاة وغيرها ) إلا قليلاً ) أي حيث يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم ، يفعلون ذلك حال كونهم ) مذبذبين ) أي مضطربين كما يضطرب الشيء الخفيف المعلق في الهواء ، وحقيقة : الذي يذب عن كلا الجانبين ذباً عظيماً .
ولما كان ما تقدم يدل على إيمانهم تارة وكفرهم أخرى قال : ( بين ذلك ) أي الإيمان والكفر ؛ ولما كان الإيمان بدل على أهله والكفر كذلك قال : ( لا إلى ) أي لا يجدون سبيلاً مفر إلى ) هؤلاء ) أي المؤمنين ) ولا إلى هؤلاء ) أي الكافرين ؛ ولما كان التقدير لأن الله أضلهم ، بنى عليه قوله : ( ومن يضلل الله ) أي الشامل القدرة الكامل العلم ) فلن تجد ) أي أصلاً ) له سبيلاً ) أي طريقا إلى شيء يريده .
ولما انقضى ما أراد من الإنكار على من ادعى الإيمان في اتخاذ الكافرين أولياء ، المستلزم للنهي عن ذلك الاتخاذ ، صرح به مخاطباً للمؤمنين فقال : ( ياأيها الذين ءامنوا ) أي أقروا بالإيمان بأسلنتهم صدقاً أو كذباً ) لا تتخذوا ) أي تكلفوا أنفسكم غير ما تدعوا إليه الفطرة الأولى السليمة فتأخذوا ) الكافرين ) أي المجاهرين بالكفر الغريقين فيه ) أولياء ) أي أقرباء ، تفعلون معهم من الود والنصرة ما يفعل القريب مع قريبه .
ولما كان الغريق في الإيمان أعلى الناس ، وكان تحت رتبته رتب متكاثره ، نبه على ذلك وعلى دناءة مقصدهم بالجار فقال : ( من دون المؤمنين ) أي الغريقين في الإيمان ، وهذا إشارة إلى أنه لا يصح لمن يواليهم دعوى الإيمان ، ولذلك قال منكراً : ( أتريدون ) أي بموالاتهم ) أن تجعلوا لله ) أي الذي لا تطاق سطوته لأن له الكمال كله ) عليكم ) أي في النسبة إلى النفاق ) سلطاناً ) أي دليلاً اضحاً على كفركم باتباعكم غير سبيل المؤمنين ) ميبناً ( واضحاً مسوِّغاً لعقابكم وخزيكم وجعلكم في زمرة المنافقين .(2/339)
صفحة رقم 340
النساء : ( 145 - 147 ) إن المنافقين في. .. . .
) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ( ( )
ولما نهاهم عن فعل المنافقين استأنف بيان جزائهم عنده فقال : ( إن المنافقين في الدرك ) أي البطن والمنزل ) الأسفل من النار ( لأن ذلك أخفى ما في النار وأستره وأدناه وأوضعه كما أن كفرهم أخفى الكفر أدناه ، وهو أيضاً أخبث طبقات النار كما أن كفرهم أخبث أنواع الكفر ، وفيه أن من السطلان وضع فاعل ذلك في دار المنافقين لفعله مثل فعلهم ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ، وسميت طبقات النار أدراكاً لأناه متداركة متتابعة إلى أسفل كما أن الدرج متراقية إلى فوق .
ولما أخبر أنهم من هذا المحل الضنك ، أخبر بدوامه لهم على وجه مؤملم جداً فقال : ( ولن تجد ) أي أبداً ) لهم نصيراً ( وأشار بالنهي عن موالاتهم وعدم نصرهم إلى ختام أول الآيات المحذرة من الكافرين ) ) وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً ( ) [ النساء : 45 ] ولما كان فيما تقدم أن الغفران للكافر - أعم من أن يكون منافقاً أولاً - متعذر ، وأتبعه ما لاءمه إلى أن ختم بما دل على أن النفاق أغلظ أنواع الكفر استثنى منه دلالة على أن غيره من الكفرة في هذا الاستثناء أولى ، تنبيهاً على أن ذلك النفي المبالغ فيه إنما هو لمن مات على ذلك ، ولكنه سيق على ذلك الوجه تهويلاً لما ذكره في حيزه وتنفيراً منه فقال تعالى : ( إلا الذين تابوا ) أي رجعوا عما كانوا عليه من النفاق بالندم والإقلاع ) وأصحلوا ) أي أعمالهم الظاهرة من الصلاة التي كانوا يراؤون فيها وغيرها بالإقلاع عن النفاق ) واعتصموا بالله ) أي اجتهدوا في أن تكون عصمتهم - أي ارتباطهم - بالملك الأعظم في عدم العود إلى ما كانوا عليه .
ولما كان الإقلاع عن النفاق الذي من أنواعه الرياء - أصلاً ورأساً في غاية العسر قال حثاً على مجاهدة النفس فيه : ( وأخلصوا دينهم ) أي كله ) لله ) أي الذي له الكمال كله ، فلم يريدوا بشيء من عبادتهم غير وجهه لا رياء ولا غيره ) فأولئك ) أي العالو الرتبة ) مع المؤمنين ) أي الذي صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً في الجنة ، وإن عذبوا على معاصيهم ففي الطبقة العليا من النار ) وسوف يؤت الله ) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) المؤمنين ) أي بوعد لا خلف فيه وإن أصابهم قبل ذلك ما أصابهم وإن(2/340)
صفحة رقم 341
طال عذابهم ، تهذيباً لهم من المعاصي بما أشار إليه لفظ ( سوف ) ) أجراً عظيماً ) أي بالخلود في الجنة التي لا ينقضي نعيمها ، ولا يتكدر يوماً نزيلها ، فيشاركهم من كان معهم ، لأنهم القول لا يشقى بهم جليسهم .
ولما كان معنى الاستثناء أنه لا يعذبهم ، وأنهم يجدون الشفيع بإذنه ؛ قال مؤكداً لذلك على وجه الاستنتاج منكراً على من ظن أنه لا يقبلهم بعد الإغراق في المهالك : ( من يفعل الله ) أي وهو المتصف بصفات الكمال التي منها الغنى المطلق ) بعذابكم ) أي أياه الناس ، فإنه لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا قال : ( إن شكرتم ) أي نعمه التي من أعظمها إنزال الكتاب الهادي إلى الرشاد ، المنقذ من كل ضلال ، المبين لجميع ما يحتاج إليه العباد ، فأداكم التفكر في حالها إلى معرفة مسديها ، فأذعنتم له وهرعتم إلى طاعته بالإخلاص في عبادته وأبعدتم عن معصية .
ولما كان الشرك هو الحامل على الإيمان قدمه عليه ، ولما كان لا يقبل إلا به قال : ( وآمنتم ) أي به إيماناً خالصاً موافقاً فيه القلب ما أظهره اللسان ؛ ولما كان معنى الإنكار أنه لا يعذبكم ، بل يشكر ذلك قال عاطفاً عليه : ( وكان الله ) أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً ) شاكراً ( لمن كشره بإثابته على طاعته فوق ما يستحقه ) عليماً ( بمن عمل له شيئاً وإن دق ، لا يجوز عليه سهو ولا غلط ولا اشتباه .
النساء : ( 148 - 151 ) لا يحب الله. .. . .
) لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ( ( )
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من تقبيح حال المجالسين الخائضين في آياته بما هي منزهة عنه ، ومما يتبعه من وصفهم وبيان قصدهم بتلك المجالسة من النهي عن مثل حالهم ، ومن جزاء من فعل مثل فعلهم - إلى أن ختم بأشد عذاب المنافقين ، وحث على التوبة بما خمته بصفتي الشكر والعلم ؛ أخبر أنه يبغض خوض الكافرين الذين قبح مجالستهم حال التلبس به ، وكذا كل جهر بسوء إلا ما استثناءه ، فمن أقدم على ما لا يحبه لم يقم بحق عبوديته ، فقال معللاً ما مضى قبل افتتاح أمر المنافقين من الأمر بإحسانه التحية : ( لا يحب الله ) أي المختص بصفات الكمال ) الجهر ) أي ما يظهر(2/341)
صفحة رقم 342
فيصير في عداد الجهر ) بالسوء ) أي الذي يسوء ويؤذي ) من القول ) أي لأحد كائناً من كان ، فإن ذلك ليس من شكر اله من لا يشكر الناس ) إلا من ) أي جهر من ) ظلم ) أي كان من أحد من الناس ظلم إليه كائناً من كان فإنه يجوز له الجهر بشكواه والتظلم منه والدعاء عليه وإن ساءه ذلك بحيث لا يعتدي .
ولما كان القول مما يسمع ، وكان من الظلم ما قد يخفي ، قال مرغباً مرهباً : ( وكان الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة ) سمعياً ) أي لكل ما يمكن سماعه من جهر وغيره ) عليماً ) أي بكل ما يمكن أن يعلم فاحذروه لسلا يفعل بكم فعل الساخط ، وجهر ومن ظلم - وإن كان داخلاً فيما يحبه الله تعالى على تقدير كون الاستثناء متصلاً - لكن جعله من جملة السوء وإن كان من باب المشاكلة فإن فيه لطيفة ، وهي نهي الفطن عن تعاطيه وحثه على العفو ، لأن من علم أن فعله بحيث ينطلق اسم السوء - على أي وجه كان إطلاقه - كف عنه إن كان موفقاً .
ولما كانت معاقد الخيرات على كثرتها منحصرة في قسمين : إيصال النفع إبداء وإخفاء ، ودفع الضرر ، فكان قد أشار سبحانه وتعالى إلى العفو ، وختم بصفتي السمع والعلم ؛ قال مصرحاً بالندب إلى العفو والإحسان ، فكان نادباً إليه مرتين : الأولى بطريق الإشارة لأولى البصارة ، والثانية بطريق العبارة للراغبين في التجارة ، حثاً على الأحب إليه سبحانه والأفضل عنده والأدخل في باب الكرم : ( إن تبدوا خيراً ) أي من قول أو غيره ) أو تخفوه ) أي تفعلوه خفية ابتداء أو في مقابلة سوء فعل إليكم ؛ ولما ذكر فعل الخير أتبعه نوعاً منه هو أفضله فقال : ( أو تعفوا عن سوء ) أي فعل بكم .
ولما كان التقدير : يعلمه بما له من صفتي السمع والعلم فيجازي عليه بخير أفضل منه وعفو أعظم من عفوكم ؛ سبب عنه قوله : ( فإن ) أي فأنتم جديرون بالعفو بسبب علمكم بأن ) الله كان ) أي دائماً أزلاً وأبداً ) عفواً ( ولما كان ترك العقاب لا يسمى عفواً إلا إذا كان من قادر وكان الكف - عند القدرة عن الانتقام ، ممن أثر في القلوب الآثار العظام - بعيداً ، شاقاً على النفس شديداً ؛ قال تعالى مذكراً للعباد بذنوبهم إليه وقدرته عليهم : ( قديراً ) أي بالغ العفو عن كل ما يريد العفو عنه من أفعال الجانبين والقدرة على كل ما يريد ومن يريد ، فالذي لا ينفك عن ذنب وعجز أولى بالعفو طمعاً في عفو القادر عنه وخوفاً منانتقامه منه وتخلقاً بخلقه العظيم والاقتداء بسنته .
ولما انقضى ذلك على أتم وجه وأحسن سياق ونحو ، وختم بصفتي العفو والقدرة ؛ شرع في بيان أحوال من لا يعفى عنه من أهل الكتاب ، وبيان أنهم هم الذين(2/342)
صفحة رقم 343
أضلوا المنافقين بما يلقون إليهم من الشبه التي وسَّعَ عقولهم لها ما أنعم به عليهم سبحانه وتعالى من العلم ، فأبدوا الشر وكتموا الخير ، فوضعوا نعمته حيث يكره ، ثم كشف سبحانه وتعالى بعض شببهم ، فقال مبيناً لما افتتح به قصصهم من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، ويريدون ضلال غيرهم ، بعد أن كان ختم هناك ما قبل قصصهم بقوله عفواً قديراً : ( إن الذين يكفرون ) أي يسترون ما عندهم من العلم ) بالله ) أي الذي له الاختصاص بالجلال والجمال ) ورسله ( .
ولما ذكر آخر أمرهم ذكر السبب الموقع فيه فقال : ( ويريدون أن يفرقوا بين الله ) أي الذي له الأمر كله ، ولا أمر لأحد معه ) ورسله ) أي فيصدقون بالله ويكذبون ببعض الرسل فينفون رسالاتهم ، المستلزم لنسبتهم إلى الكذب على الله المقتضي لكون الله سبحانه وتعالى بريئاً منهم .
ولما ذكر الإرادة ذكر ما نشأ عنها فقال : ( ويقولون نؤمن ببعض ) أي من الله ورسله كاليهود الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وغيره إلا عيسى ومحمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فكفروا بهما ) ونكفر ببعض ) أي من ذلك وهم الرسل كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويريدون أن يتخذوا ) أي يتكلفوا أن يأخذوا ) بين ذلك ) أي الإيمان والكفر ) سبيلاً ) أي طريقاً يكفرون به ، وعطف الجمل بالواو - وإن كان بعضها سبباً لبعض - إشارة إلى أنهم جديرون بالوصف بكل منها على انفراده ، وأن كل خصلة كافية في نسبة الكفر إليهم ، وقدم نتيجتها ، وختم بالحكم بها على وجه أضخم ، تفظيعاً لحالهم ، وأصل الكلام : أرادوا سبيلاً بين سبيلين ، فقالوا : نكفر ببعض ، فأروادوا التفرقة ، فكفروا كفراً هو في غاية الشناعة على علم منهم ، فأنتج ذلك : ( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) هم الكافرون ) أي الغريقون في الكفر ) حقاً ( ولزمهم الكفر بالجميع لأن الدليل على نبوة البعض لزم منه القطع بنبوة كل من حصل منه مثل ذلك الدليل ، وحيث جوز حصول الدليل بدون المدلول تعذر الاستدلال به على شيء كالمعجزة ، فلزم حينئذ الكفر بالجميع ، فثبت أن من كذب بنبوة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لزمه الكفر بجميع الأنبياء ، ومن لزمه الكفر بهم لزمه الكفر بالله وكل ما جاء به .
ولما كان التقدير : فلا جرم أنا أعتدنا - أي هيأنا - لهم عذاباً مهيناً ، عطف عليه تعميماً : ( وأعتدنا للكافرين ) أي جميعاً ) عذاباً مهيناً ) أي كما استهانوا بعض الرسل وهم الجديرون بالحب والكرامة ، والآية شاملة لهم ولغيرهم من كان حاله كحالهم ، وإيلاء ذلك بيان أحوال المنافقين أنسب شيء وأحسنه للتعريف بأنهم منافقون ، من حيث أنهم يظهرون شيئاً من أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويبطنون غيره وإن كان ما يظهرونه على الضد مما(2/343)
صفحة رقم 344
يظهره المنافقون ، وبأنهم هم الذين أضلوا المنافقين ، وللتحذير من أقوالهم وتزييف ما حرفوا من محالهم ، وفي ذلك التفات إلى أول هذه القصة ) ) يا أيها الذين ءامنوا ءامِنوا بالله ورسوله ( ) [ النساء : 136 ] .
النساء : ( 152 - 153 ) والذين آمنوا بالله. .. . .
) وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ( ( )
ولما بين سبحانه وتعالى ما أعد لهم بيّن ما أعد لأضدادهم من أهل طاعته بقوله : ( والذين ءامنوا بالله ) أي الذي له الكمال والجمال ) ورسله ( ولما جمعوهم في الإيمان ضد ما فعل أهل الكفران ، صرح بما أفهمه فقال : ( ولم يفرقوا ) أي في اعتقادهم ) بين أحد منهم ) أي لم يجعلوا أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض - كما فعل الأشقياء ، والتفرقة تقتضي شيئين فصاعداً ، و ( أحد ) عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما ، فلذلك صح التعبير به بمعنى : بين اثنين أو جماعة ، وكأنه اختير للمبالغة بأن لو أن الواحد يمكن فيه التفرقة فكان الإيمان بالبعض دون البعض كفراً ) أولئك ) أي العالو الرتبة في رتب السعادة .
ولما كان المراد تأكيد وعدهم ، وكان المشاهد فيه غالباً التأخر قال : ( سوف نؤتيهم ) أي بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه وإن تأخر ، فالمراد تحقيقه ، لا تحقيق تأخره ، ولكنه أتى بالأداة التي هي أكثر حروفاً وأشد تنفيساً ، لأن هذا السياق لأهل الإيمان المجرد ، الشامل لمن لم يكن له عمل ، ولذا أضاف الأجور غليهم ، وختم بالمغفرة لئلا يحصل لهم بأس وإن طال المدى ) أجورهم ) أي كاملة بحسب نياتهم وأعمالهم .
ولما كان الإنسان محل النقصان قال : ( وكان الله ) أي الذي لا يبلغ الواصفون كنه ما له من صفات الكمال ) غفوراً ( لما يريد من الزلات ) رحيماً ) أي بمن يريد إسعادة بالجنات .
ولما أخبر تعالى بما على المفرقين بين الله ورسله وما لأضدادهم أتبعه بعض ما أرادوا به الفرقة ، وذلك أن كعب بن الشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا كذباً : إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء نعاينه حين ينزل - كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بكتابه كذلك ، فأنزل الله تعالى موبخاً لهم على هذا الكذب مشيراً إلى كذبهم فيه موهياً لسؤالهم محذراً من غوائله مبيناً لكفرهم بالله ورسله : ( يسألك ((2/344)
صفحة رقم 345
ولما كانت هذه من أعظم شبههم التي أضلوا بها من أراد الله ، وذلك أنهم رأوا أن هذا الكتاب المبين أعظم المعجزات ، وأن العرب لم يمكنهم الطعن فيه على وجه يمكن قبوله ، فوجههو مكايدهم نحوه بهذه الشبهة ونحوها ، زيفها سبحانه وتعالى أتم تزييف ، وفضحهم بسببها غاية الفضيحة ، وزاد سبحانه في تبكيتهم بقوله : ( أهل الكتاب ( إشارة إلى أن العالم ينبغي له أن يكون أبعد الناس من التمويه فضلاً عن الكذب الصريح ) أن تنزل عليهم ) أي خاصاً بهم بإثبات أسمائهم ) كتاباً من السماء ( ؛ وأما أوهموا به في قولهم هذا من أن موسى عليه الصلاة والسلام أتى بالتوراة جملة كذبة تلقفها منهم من أراد الله تعالى من أهل الإسلام ، ظناً منهم أن الله تبارك وتعالى أقرهم عليها وليس كذلك - كما يفهمه السياق كله ، ويأتي ما هو كالصريح فيه في قوله : ( إنا أوحينا إليك ( - الآية كما سيأتي بيانه ، واليهود الآن معترفون بأنها لم تنزل جملة ، وقال الكلبي في قصة البقرة التي ذبحوها لأجل القتيل الذي تداروا فيه : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة .
ولما كان هذا مما يستعظمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أشار إلى ذلك مبيناً تسلية له ( صلى الله عليه وسلم ) أن عادتهم التعنت ، وديدنهم الكفر وأنهم أغرق الناس في غلظ الأكباد وجلافة الطبائع ، وأن أوائلهم تعنتوا على من يدعون الإيمان به الآن ، وأنهم على شريعته ، وأحب شيء فيه ما أراهم من تلك الآيات العظام التي منها استنقاذهم من العيودية بل من الذبح وأن ذلك تكرر منهم مع ما يشاهدونه من القوارع والعفو فقال : ( فقد ) أي إن تستعظم ذلك فق ) سألوا ) أي آباؤهم ، أي وهم على نهجهم في التعنت فهم شركاؤهم ) موسى ( لغير داع سوى التعنت ) أكبر ) أي أعظم ) من ذلك ) أي الأمر العظيم الذي واجهوك به بعد ما ظهرت من المعجزات ما أوجبنا على كل من علمها الإيمان بك والتأديب معك ، ثم بينه بقوله : ( فقالوا أرنا الله ) أي عياناً من غير ستر ولا حجاب ولا نوع من خفاء بل تحيط به أبصارنا كما يحيط السمع بالقول الجهر ، وهذا يدل على أن كلاً من السؤالين ممنوع لكونه ظلماً ، لأدائه إلى الاستخفاف بما نقدمه من المعجزان ، وعده غير كاف مع أن إنزا الكتاب جملة غير مناسب للحكمة التي بنيت عليها هذه الدار من ربط المسببات بالأسباب وبنائها عليها ، لأن من المعلوم أن تفريق الأوامر سبب لخفة حملها ، وذلك أدعى لامتثالها وايسر لحفظها وأعون على فهمها ، وأعظم تثبيتاً للمنزل عليه وأشرح لصدره وأقوى لقلبه وأبعث لشوقه ، والرؤية على هذا الوجه الذي طلبوه - وهو الإحاطة - محال فسؤالهم لذلك استخفاف مع أنه تعنت ، ولذلك سبب عن سؤالهم قوله :(2/345)
صفحة رقم 346
) فأخذتهم ) أي عقب هذا السؤال وبسببه من غير إمهال أخذ قهر وغلبة ) الصاعقة ) أي نار نزلت من السماء بصوت عظيم هو جدير بأن لا يسمى غيره - إذا نسب إليه - صاعقة ، فأهلكتهم ) بظلمهم ) أي بسبب ظلمهم بهذا السؤال وغيره ، لكونه تعنتاً من غير مقتض له أصلاً ، وبطلب الرؤية على وجه محال وهو طلب الإحاطة ) ثم ( بعد العفو عنهم وإحيائهم من إماتة هذه الصاعة ) اتخذوا العجل ) أي تكلفوا أخذه وعتوا أنفسهم باصطناعه .
ولما كان الضال بعد فرط البيان أجدر بالتبكيت قال : ( من بعد ( وأدخل الجار إعلاماً بأن اتخاذهم لم يستغرق زمان البعد ، بل تابوا عنه ) ما جاءتهم البينات ) أي بهذا الذنب العظيم بتوبتنا عليهم من غير استئصال لهم ) وآتينا ) أي بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة ) موسى سلطاناً ) أي تسلطاًَ واستيلاء قاهراً ) مبيناً ) أي ظاهراً فإنه أمرهم بقتل أنفسهم فبادروا الامتثال بعد ما ارتكبوا من عظيم هذا الضلال ، وفي رمز ظاهر إلى أنه سبحانه وتعالى يسلط محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) على كل من يعاند أعظم من هذا التسليط .
النساء : ( 154 - 155 ) ورفعنا فوقهم الطور. .. . .
) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( ( )
ولما بيَّن هذا من عظمته أتبعه أمراً آخر أعظم منه فقالك ) ورفعنا ) أي بعظمتنا ؛ ولما كان قد ملأ جهة الفوق بأن وارى جميع أبدانهم ولم يسلم أحد منهم من ذلك ؛ نزع الجار فقال : ( فوقهم الطور ) أي الجبل العظيم ، ثم ذكر سبب رفعه فقال : ( بميثاقهم ) أي حتى التزموه وأذعنوا له وقبلوه .
ولما ذكر الميثاق على هذا الوجه العجيب أتبعه ما نقضوا فيه على سهولته دليلاً على سوء طباعهم فقال : ( وقلنا لهم ) أي بما تكرر لهم من رؤية عظمتنا ) وقلنا لهم ) أي على لسان موسى عليه الصلاة والسلام في كثير من التوراة ) لا تعدوا ) أي لا تتجاوزوا ما حددناه لكم ) في السبت ) أي لا تعملوا فيه عملاً من الأعمال - تسمية للشيء باسم سببه سمي عدواً لأن العالم للشيء يكون لشدة إقباله عليه كأنه يعدو ) وأخذنا منهم ) أي في جميع ذلك ) ميثاقاً غليظاً ( وإنما جزمت بأن المراد بهذا - والله تعالى أعلم - على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ، لأنه تعالى كرر التأكيد عليهم(2/346)
صفحة رقم 347
في التوراة في حفظ السبت ، وأوصاهم به ، وعهد إليهم فيه ما قل أن عهده في شيء من الفروع غيره ، قال بعض المترجمين للتوراة في السفر الثاني في العشر الآيات التي أولها ( أنا إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ، لا يكون لك إله غيري ) ما نصه : اذكر حفظ يوم السبت وطهره ستة أيام ، كد فيها واصنع جميع ما ينبغي لك أن تصنعه ، واليوم السابع سبت الله ربك ، لا تعملن فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك ودوابك والساكن في قرارك ، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وجميع ما فيها ، واستراح في اليوم السابع ، ولذلك بارك الله اليوم السابع وقدسه ، أكرم أباك - إلى آخر ما مر في سورة البقرة ؛ ثم عاد العشر الآيات في أوائل السفر الخامس وقال في السبت : احفظوا يوم السبت وظهوره كما أمركم الله ربكم ، واعملوا الأعمال في ستة أيام كما أمركم الله ربكم ، واعملوا الأعمال في ستة أيام ، فاصنعوا ما أردتم أن تصنعوا فيها ، فأما يوم السبت فأسبوع ربكم ، لا تعملوا فيه عملاً أنتم وبنوكم وعبيدكم وإماؤكم وثيرانكم وحميركم وكل بهائمكم والساكن الذي في قراكم ليستريح عبيدكم - إلى آخر ما في أوائل هذه السورة عند ) ويهديكم سنن الذين من قبلكم ( وقال في الثاني بعد ذلك : وقال الرب لموسى : وأنت فأمر بني إسرائيل أن تحفظوا السبوت ، لأنها أمارة العهد وعلامة فيما بيني وبينكم لأحقابكم ، فتعلموا أني أنا الرب إلاهكم مقدسكم ، احفظوا يوم السبت فإنه مطهر مخصوص لكم ، ومن نقصه وأخذ العمل فيه فليقتل ، ومن عمل عملاً فليهلك ذلك الإنسان من شعبه ، اعملوا أعمالكم ستة أيام ، واليوم السابع فهو يوم سبت قدس للرب ، لأن الرب خلق لاسماوات والأرض في ستة أيام والبحور وما فيها ، وهذا في اليوم السابع ودفع إلى موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ كلامه له في طور سيناء لوحي الشهادة ، وأبلغ في تأكيد حفظه عليهم في غير ذلك من المواضع ، حتى أنه شرع لهم أسباب الأرض ونحوها ، فقال في السفر الثاني فيأكل مسكين شعبك ، وما يبقى بعد ذلك يأكله حيوان البرن وكذلك فافعل بكرومك وزيتونك ، اعمل عملك في ستة أيام وفي اليوم السابع تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ، وتستريح أمتك وابن أمتك والساكن في قراك ، ثم ذكر الأعياد في السفر الثالث ، وحرم العمل فيها ؛ وقال في بعضها : وكل نفس يعمل عملاً في هذا اليوم تهلك تلك النفس من شعبها ، فلا تعملوا فيه عملاً ، لأنه سنة جارية لكم إلى الأبد في جميع مساكنكم ، فليكن هذا اليوم سبت السبوت ؛ ثم أمرهم بعيد المظال سبعة أيام وقال : ليعلم أحقابكم أنني أجلست بني إسرائيل يفي المظال حيث أخرجتهم من أرض مصر ، ثم(2/347)
صفحة رقم 348
ذكر بعض القرابين وقال : ويصف هارون الخبز صفين في اليوم السادس وهو يوم الجمعة ، ويكون ذلك من عيد بني إسرائيل ؛ وكلم الرب موسى وقال له في طور سيناء كلم بني غسرائيل وقل لهم : إذا دخلتم الأرض التي أعطيكم ميراثاً تسبت الأرض سبتاً للرب ، ازرعوا مزارعكم ست سنين واكسحوا كرومكم ست سنين ، واستغلوا غلاتكم ست سنين ، فأما السنة السابعة فلتكن سبت الراحة للأرض ، لا تزرعوا مزارعكم ، ولا تكسحوا كرومكم ، ول تحصدوا ما ينبت في أرضكم في تلك السنة من غير أن يزرع ، ولا تقطعوا عنب كرومكم ، بل يكون سبت الراحة للأرض لكم ولبنيكم ولإمائكم ولإخوانكم وللسكان الذين يسكنون معكم ، وأحصوا سبع مرات سبعاً سبعاً : تسعاً وأربعين سنة ، وقدسوا سنة خمسين ، وليكن رد الأشياء إلى أربابها ، ولا تزرعوا أرضكم في تلك السنة ، ولا تحصدوا ما نبت فيها ، ولا تقطعوا عشبها لأنها سنة الرد ، واتقوا الله لأني أنا الله ربكم ، احفظوا وصاياي واعملوا بها ، واحفظوا أحكامي وعملوا بها ، واسكنوا أرضكم بالسكون والطمأنينة لتغل لكم الأرض غلاتها ، وتأكلوا وتشبعوا وتسكنوها مطمئنين ، وإن قلتم : من أين نأكل في السنة السابعة التي لا نزرع فيها فلا تهتموا أنا منزل لكم بركاتي في السادسة ، وتغل لكم أرضكم في تلك السنة غلة ثلاث سنين ، حتى إذا زرعتم في السنة الثامنة لم تحتاجوا إلى غلتها ، لأنكم تأكلون من السنة السادسة إلى التاسعة ، وأما الأرض فلا تباع بيعاً صحيحاً أبداً ، لن الأرض لي ، وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا نسبة الاستراحة إليه سبحانهن هذا مع أنه أكد سبحانه العهود عليهم في التوحيد وحفظ الأحكام في جميع التوراة على نحو ما تراه فيما أنقله منها في هذا الكتاب .
فلما بين سبحانه أنه أكد عليهم الميثاق ، وأكثر من التقدم في حفظ العهد ؛ بين أنهم نقضوا ، فأقبهم بسبب ذلك ما هددوا به في التوراة من الخزي وضرب الذلة مع ما ادخر لهم في الآخرة فقال : ( فبما ( مؤكداً بإدخال ( ما ) ) نقضهم ميثاقهم ) أي فعلنا بهم بسبب ذلك جميع ما ذكرنا في التوراة من الخزي ، وقد تقدم كثير منه في القرآن ، ولا يبعد عندي تعليقه بقوله الآتي ( حرمنا عليهم طيبات - واعتدنا ) ويكون من الطيبات العز ورغد العيش ، وذلك جامع لنكد الدارين وعطف على هذا الأمر العام ما اشتدت به العناية من إفراده عطف الخاص على العام فقال : ( وكفرهم بآيات الله ( مما جاءهم على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واقتضت حكمته سبحانه أن يكون عظمتها مناسبة لعظمة اسمه الأعظم الذي هو مسمى جميع الأسماء ، فاستلزم كفرهم به كفرهم بما أنزل على موسى عليه(2/348)
صفحة رقم 349
الصلاة والسلام لأنه أعظم ما نقضوا فيه وأخص من مطلق النقض ) وقتلهم الأنيباء ( وهو أعظم من مطلق كفرهم ، لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم ، لأن الأنبياء سبب الإيمان وفي محو السبب محو المسبب .
ولما كان الأنيباء معصومين من كل نقيصة ، ومبرئين من كل دنية ، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه ؛ قال : ( بغير حق ) أي كبير ولا صغير أصلاً .
وهذا الحرف - لكونه في سياق طعنهم في القرآن الذي هو أعظم الآيات - وقع التعبير فيه أبلغ مما في آل عمران الذي هو أبلغ مما سبق عليه ، لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقاً وصفة راسخة ، بخلاف ما مضى ، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض ؛ ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال : ( وقولهم قلوبنا غلف ) أي لا ذنب لنا لأن قلوبنا خلقت من أصل الفهم بعيدةً عن فهم مثل ما يقول الأنبياء ، لكونهم في أغشية ، فهي شديدة الصلابة ، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم ، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم ، ويشهدون له بالرسالة وبأنه خاتم الأنبياء ، ويصفون بأشهر صفاته ، ويترقبون إتبانه ، لا جرم رد الله عليهم بقوله عطفاً على ما تقديره : وقد كذروا لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان ، فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفاً : ( بل طبع الله ) أي الذي له معاقد العز ومجامع العظمة ) عليها ( طبعاً عارضاً ) بكفرهم ( بل إنه خلقها أولاً على الفطرة متكنة من اختيار الخير والشر ، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقض - عن الخير ، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم ، وترك ما تدعو إليه عقولهم ، طبع سبحانه وتعالى عليها .
فجعلها قاسية محجوبة عن رحمته ، ولذا سبب عنه قوله : ( فلا تؤمنون ) أي يجددون الإيمان في وقت من الأوقات الآتية ، ويجوز أن يتعلق بما تقديره تتمة لكلامهم : طبع الله عليها فهي لا تعي ، وتكون ( بل ) استدراكاً للطبع بالكفر وحده ، لأنه ربما انضم إليه ، وأن يكون أضرب عن قولهم : إنها في غلف ، لكون ما في الغلاف قد يكون مهيئاً لإخراجه من الغلاف إلى الطبع الذي من شأنه الدوام ) إلا قليلاً ( من الإيمان بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً كوجه النهار ويكفروا في غيره ، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض ، أو إلا إناساً قليلاً منهم - كما كان أسلافهم يؤمنون بما يأتي به موسى عليه الصلاة والسلام من الآيات ، ثم لم يكن بأسرع من كفرهم وتعنتهم بطلب آية أخرى كما هو مذكور في توراتهم التي بين أظهرهم ، ونقلت كثيراً منه في هذا الكتاب ، فقامت الحجة عليهم بأنهم يفرقون بين قدرتهم على الإيمان وقدرتهم على الطيران .(2/349)
صفحة رقم 350
النساء : ( 156 - 158 ) وبكفرهم وقولهم على. .. . .
) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ( ( )
ولما بين كفرانهم بقتل الأبنياء بين كفرهم بالبهتان الذي هو سبب القتل ، والفتنة أكبر من القتل ، فقال معظماً له باعادة العامل : ( وبكفرهم ) أي المطلق الذي هو سبب اجترائهم على الكفر بنبي معين كموسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى القذف ، ليكون بعض كفرهم معطوفاً على بعض آخر ، ولذلك قال : ( وقولهم على مريم ) أي بعد علمهم بما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وأنهاملازمة للعبادة بأنواع الطاعات ) بهتاناً عظيماً ( ثم علمهم بما لم ينالوا من قتل أعظم من جاء من أنبيائهم بأعظم ما رأوا من الآيات من بعد موسى وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام ، ثم بادعائهم لقتله وصللبه افتخاراً به مع شكهم فيه فقال : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح ( ثم بينه بقوله : ( عيسى ابن مريم ( ثم تهكموا به بقولهم ) رسول الله ) أي الذي له أنهى العظمة ، فجمعوا بين أنواع من القبائح ، منها التشيع بما لم يعطوا ، ومنها أنه على تقدير صدقهم جامع لأكبر الكبائر مطلقاً ، وهو الكفر بقتل النبي لكونه نبياً ، وأكبر الكبائر بعده وهو مطلق القتل ، ولم يكفهم ذلك حتى كانوا يصفونه بالرسالة مضافة إلى الاسم الأعظم استهزاء به وبمن أرسله عزَّ اسمه وجلت عظمته وتعالى كبرياؤه وتمت ما ) قتلوه وما صلبوه ( وإن كثر قائلو ذلك منهم ، وسلمه لهم النصارى ) ولكن ( لما كان المقصود وقوع اللبس عليهم الضار لهم ، لا لكونه من معين قال : ( شبه لهم ) أي فكانوا في عزمهم بذلك متشيعين بما لم يعطوا .
ولما أفهم التشبيه الاختلاف ، فكان التقدير : فاختلفوا بسبب التشبيه في قتله ، فمنهم من قال : قتلناه جازماً ، ومنهم من قال : ليس هو المقتول ، ومنهم من قال : الظاهر أنه هو ، عطف عليه قوله دالاً على شكهم باختلافهم : ( وإن الذين اختلفوا فيه ) أي في قتله ) لفي شك منه ) أي تردد مستوى الطرفين ، كلهم وإن جزم بعضهم ، ثم أكد هذا المعنى بقوله : ( ما لهم به ( وأغرق في النفي بقوله : ( من علم ( ولما كانوا يكلفون أنفسهم اعتقاد ذلك بالنظر في شهادته ، فربما قويت عندهم شبهة فصارة أمارة أوجبت لهم - لشغفهم بآمالها - ظناً ثم اضمحلت في الحال لكونها لا حقيقة لها ، فعاد الشك وكان أبلغ في التحير ؛ قال : ( إلا ) أي لكن ) ابتاع الظن ) أي يكلفون أنفسهم الارتقاء من درك الشك إلى رتبة الظن ، وعبر بأداة الاستثناء دون ( لكن )(2/350)
صفحة رقم 351
الموضوعة للانقطاع إشارة إلى أن إدراكهم لما زعموه من قتله مع كونه في الحقيقة شكاً يكلفون أنفسهم جعله ظناً ، ثم يجزمون به ، ثم صار عندهم متواتراً قطعياً ، فلا أجهل منهم .
ولما أخبر بشكهم فيه بعد الإخبار بنفيه أعاد ذلك على وجه أبلغ فقال : ( وما قتلوه ) أي انتفى قتلهم له انتفاء ) يقيناً ) أي انتفاؤه على سبيل القطع ، ويجوز أن يكون حالاً من ( قتلوه ) أي ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام ، بل فعلوه شاكين فيه والحق أنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى شبهه عليه ، والوجه الأول أولى لقوله : ( بل رفعه الله ( بما له من العظمة البالغة والحكمة الباهرة ، رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ) إليه ) أي إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي ، وعن وهب أنه أوحى إليه ابن ثلاثين ، ورفع ابن ثلاث وثلاثين فكانت رسالته ثلاثاً وثلاثين سنة ) وكان الله ) أي الذي له جميع صفات الكمال في كل حال عند قصدهم له وقبله وبعده ) عزيزاً ) أي يغلب ولا يغلب ) حكيماً ) أي إذا فعل شيئاً أتقنه بحيث لا يطمع أحد في نقض شيء منه ، وختمُ الآية بما بين الصفتين يدل على أن المراد ما قررته من استهزائهم ، وأنه قصد الرد عليهم ، أي إنه قد فعل ما يمنع من استهزائكم ، فرفعه إليه بعزته وحفظته بحكمته ، وسوف ينزله ببالغ قدرته ، فيردكم عن أهوائكم ، ويسفك دماءكم ، ويبيد خضراءكم ، وله في رفعه وإدخاله الشهبة عليكم حكمة تدق عن أفكار أمثالكم .
قصة رفعه عليه الصلاة والسلام من الإنجيل الموجود اليوم يبن أظهر النصارى ، وهي تتضمن الإنذار بالدجال والإخبار بنزوله صعيد ، والبشارة بنبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي وصفه بالفارقليط وبالأركون ، وأن إخبارهم بقتله وصلبه ليس مستنداً إلا إلى شك - كما قال الله تعالى ، وأحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده ، قال مترجمهم في إنجيل متى : إنه عليه الصلاة والسلام دخل إلى الهيكل في يروشليم - وهي القدس - وجرت بينه وبين الأحبار محاورات كان آخرها أن قال لهم : إني أقول لكم : إنكم لا تروني الآن حتى تقولوا : مبارك الآتي باسم الرب ، ثم خرج من الهيكل ، فجاء إليه تلاميذه كي يُروه بناء الهيكل ، فأجاب وقال لهم : انظروا هذا كله ، الحق أقول لكم : إنه لا يترك هنا حجر على حجر إلا نقض ، ثم جلس على جبل الزيتون - قال مرقس : قدام الهيكل - فجاء إليه تلاميذه قائلين : قل لنا : متى هذا وما علامة مجيئك وانقضاء الزمان ؟ فقال لهم : انظروا لا يضلنكم أحد - قال مرقس ولوقا : فإن كثيراً يأتون باسمي قائلين : إنما هو المسيح ، ويضلون كثيراً - فإذا سمعتم بالحروب وأخبار الحروب انظروا لا تقلقوا ، فلا بد أن يكون هذا كله ، تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة ، ويكون خوف عظيم واضطراب وجوع(2/351)
صفحة رقم 352
ووباء ح قول لوقا : وعلامات عظيمة من السماء - وزلازل في أماكن ، وكل هذا أول المخاض - وقال مرقس : وهذه بداية الطلق ، انظروا أنتم إنهم يسلمونكم إلى المجامع والمحافل وتضربون - وقال لوقا : وقبل هذا كله يضعون أيديهم عليكم ، ويطردونكم إلى المجامع والسجون وتقامون أمام الملوك والقواد شهادة عليهم وعلى كل الأمم ، ينبغي أولاً أن يكرز بالإنجيل ، فإذا قدّموكم وأسلموكم فلا تهتموا بما تقولون ولا ماذا تجيبون ، فإنكم تعطون في تلك الساعة الذي تتكلمون به ولستم المتكلمين ، لكن روح القدس ؛ قال لوقا : فإني معطيكم فماً وحكمة لا يقدر الذين يناصبونكم يقاومونها ولا الجواب عنها ، ويسلم الأخ أخاه للموت ، والأب ابنه ، ويثب الأبناء على آبائهم ؛ قال متى : حينئذ يسلمونكم إلى الضيق ويقتلونكم ، وتكونون مبغوضين من كل الأمم ، وحينئذ يشك كثير ، ويسلم بعضكم بعضاً ، ويبغض بعضكم بعضاً ، ويقوم كثير من المنتهى يخلص ، ويكرز بهذه البشارة في الملكوت في جميع المسكونة بشهادة لكل الأمم ؛ قال مرقس : فإذا رأيتم فساد الحراب المذكور في دانيال النبي قائماً حيث لا ينبغي - فليفهم القارىء - حينئذ الذين تهودوا يهربون إلى الجليل ، والذي فوق السطح لا يقدر أن ينزل إلى بيته ليأخذ شيئاً ، والويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام ؛ وقال لوقا : وحينئذ الذي في اليهودية يهربون إلى الجبال ، والذين في وسطها يفرون خارجاً ، والذين في الكورة لا يدخلونها ، لأن هذه في أيام الانتقام لكي يتم كل ما هو مكتوب ، يكون على الأرض ضر وشدة عظيمة ، وسخط على هذا الشعب ، ويقعون في فم السيف ، ويسبون في كل الأمم .
ويكون يروشليم موطىء الأمم حتى يكمل الزمان ، وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم ، وتخرج نفوس أناس من الخوف ؛ وقال متى : وحينئذ يأتي الانفصال ، ثم قال : سيكون ضيق عظيم - قال مرقس : تلك الأيام - لم يكن مثله في أول العالم حتى الآن ولا يكون ، ولولا أن تلك الأيام قصرت لم يخص ذو جسد - وقال مرقس : فلولا أن الرب أقصر تلك الأيام لم يحيى ذو جسد - لكن لأجل المتحببين قصرت تلك الأيام ، فإن قال لكم أحد : إن المسيح ها هنا فلا تصدقوا ، فسيقوم مسيحو كذب وأنبيائه كذبه ، ويعطون علامات عظاماً وآيات ، ويضلون المختارين إن قدروا ، هو ذا قد تقدمت وأخبرتكم ، فإن قالوا لكم : إنه في البرية ، فلا تخرجوا ، أو فيّ المخادع ، فلا تصدقوا ، وكما أن البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب ، كذلك يكون حضور ابن البشر ، لأنه حيث تكون الجثة تجتمع النسور وتلوف بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس ، والقمر لا يعطي ضوءه ، ولاكواكب تتساقط من(2/352)
صفحة رقم 353
السماء ، وقوات ترتج ، وحينئذ تظهر علامات ابن الإنسان في السماء ، وتنوح كل قبائل الأرض ، وترون ابن الإنسان آتياً في سحاب السماء مع قوات ومجد كثير ، ويرسل الملائكة مع صوت الناقور العظيم ، ويجمع مختاريه من الأربعة الأزياج من أقصى السماوات - وقال مرقس : من أطراف الأرض إلى أطراف السماء - فمن شجرة التينة - وقال لوقا : ومن كل الأشجار - تعلمون المثل ، إذا لانت أغصانها وفرعت أوراقها علمتم أن الصيف قد دنا .
كذلك أنتم إذا رأيتم هذا كله علمتم أنه قد قرب على الأبواب ، الحق أقول لكم إن هذا الجيل لا يزول حتى يتم هذا كله ، والأرض والسماء تزولان وكلامي لا يزول ، لأجل ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفها أحد ولا ملائكة السماوات - وقال مرقس : ولا الابن - إلا ألأب وحده ، وقال لوقا : سأله الفريسيون : متى يأتي ملكوت الله ؟ فقال : ليس يأتي ملكوت الله برصد ولا يقولون : هوذا ها هنا أو هناك ها هو ذا ملكوت الله ؛ ثم قال لتلاميذه : ستأتي أيام تشتهون أن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان ولا ترون ، فإن قالوا لكم : هوذا هاهنا أو هناك ، فلا تذهبوا ولا تسرعوا ، لأنه كمثل البرق الذي يضيء في السماء فيضيء تحت السماء ، كذلك تكون أيام ابن البشر - انتهى .
وكما كان في أيام نوح عليه الصلاة والسلام كذلك يكون استعلاء ابن الإنسان ، لأنه كما كنوا قبل أيام الطوفاني يأكلون ويشربون ويتزجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح إلى السفينة ، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان فأدرك جميعهم ، كذلك يكون حضور ابن الإنسان ؛ وقال لوقا : ومثل ما كان في أيام لوط يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون ويغرسون ويبنون إلى اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم ، ومطر من السماء ناراً وكبريتاً ، وأهلك جميعهم ، كذلك في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان ، وفي ذلك اليوم من كان في السطح وآلته في البيت لا ينزل كي ييأخذها ، ومن كان في الحقل أيضاً لا يرجع هكذا إلى ورائه .
انظروا إلى امرأة لوط ، من أراد أن يحيي نفسها فليهلكها ، ومن أهلكها أحياها ، أقول لكم : إن في هذه الليلة - وقال متى : حينئذ - يكون اثناب في الحقل ، يؤخذ واحد ، ويترك الآخر ، واثنتان تطحنان على رحة واحدة ، تؤخذ الواحدة ، وتترك الأخرى ، وقال مرقس : فانظروا واسهروا وصلّوا ، لأنكم لا تعلمون متى يكون الزمان اسهروا فإنكم لا تعملون متى يأتي رب البيت ليلاً يأتي بغتة فيجدكم نياماً ، والذي أقول لكم أقوله للجميع ، اسهروا قال متى : حينئذ - يكون اثنان في على الهرب في هذه الأمور الكائنة كلها ، وتفقوا قدام ابن الإنسان ، وقال متى : فاسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم ، واعلموا أنه لو علم رب البيت في أي هجعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب ، كذلك كونوا مستعدين لأن ابن الإنسان يأتي(2/353)
صفحة رقم 354
ساعة لا تظنونها ، من ترى هو العبد الأمين الحليم الذي يقيمه سيده على بيته لعيطيهم الطعام في حينه طوبى لذلك العبد ، يأتي سيده فيجده يعمل هكذا ، الحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع ماله ، فإن قال ذلك العبد الرديء في قلبه : إن سيدي يبطىء ، فيبدأ يأكل ويشرب مع المسكرين فيأتي سيده في يوم لا يظنه وساعة لا يعرفها ، فيجعل نصيبه مع المرائين ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان .
يشبه ملكوت السماوات عشرة عذاراى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس ، خمس منهن جاهلات ، وخمس حليمات ، فأما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يأخذن زيتاً ، وأما الحليمات فأخذن زيتاً في إناء مع مصابيحهن ، فلما أبطأ العريس نعسن كلهن ونمن ، وانتصف الليل فُصرِخ : هذا العريس قد أقبل ، اخرجن للقائه حينئذ قام جميع العذارى وزين مصابيحهن ، فقال الجاهلات للحليمات : أعطيننا من زيتكن ، فإن مصابيحنا قد طفئت فقلن : ليس معنا ما يكفينا وإياكن ، فاذهبن إلى الباعة وابتعن لكنّ ، فلما ذهبن ليبتعن جاء العريس ، فالمستعدات ذهبن معه وأُغلِقَ ، فجاء بقية العذارا قائلات : يا رب افتح لنا ، فأجاب وقال : الحق أقول لكنّ إني لا أعرفكن ؛ اسهروا الآن فإنكم لا تعرفون ذلك اليوم ولا تلك الساعة ، كمثل إنسان أراد السفر ، فدعا عبيداً له فأعطاهم ماله ، فأعطى خمس وزنات لواحد ، ووزنتين للآخر ، وواحداً وزنة ، كل منهم على قدر قوته ، وسافر للوقت ، فمضى الذي أخذ الخمس فاتجر فيها ، فربح خمس وزنات أخرى وهكذا الذي أخذ الوزنتين ربح فيهما وزنتين أخريين ، وأما الذي أخذ الوزنة فمضى وحفر في الأرض ودفن حصة سيده ، وبعد زمان كثير جاء سيد هؤلاء فحاسبهم ، فجاء الذي أخذ الخمس وزنات فأعطى خمس وزنات أخرى قائلاً : يا رب خمس وزنات أعطيتني ، وهذه خمس وزنات أخرى ربحتها ، قال له سيده - قال لوقا - : حبذا أيها العبد الصالح ألفيت أميناً على القليل ، وقال متى : نعم يا عبد صالح أمين وجدت في القليل أميناً ، أنا أقيمك على الكثير أميناً ، ادخل إلى فرح سيدك ، وجاء الذي أخذ الوزنتين فقال : يا صالح أمين وجدت في القليل أميناً ، أنا أقيمك على الكثير ، ادخل إلى فرح سيدك ، فجاء الغير مصيب الذي أخذ الوزنة فقال : يا سيد عرفت أنك إنسان شديد ، تحصد ما لم تزرع ، وتجمع من حيث لا تبذر ، فخفت ومضيت فدفنت مالك في الأرض ، هذا مالك ، فأجاب سيده وقال : أيها العبد الشرير الكسلان علمت أنني أحصد من حيث لا أزرع ، وأجمع من حيث لا أبذر ، كان ينبغي لك أن تجعل حصتي على مائدة ، فأنا آتي وآخذه إليّ مع أرباحه ، خذوا منه الوزنة ، وأعطوها للذي له عشر وزنات ، لأن من له(2/354)
صفحة رقم 355
يعطي ويزاد ، والذي ليس له يؤخذ منه ما معه ، والعبد الشرير الغير نافع ألقوه في الظلمة القصياء ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ؛ إذا جاء ابن الإنسان في مجده ، وجميع الملائكة المقدسين معه ، حينئذ يجلس على كرسي مجده ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; ويجمع إليه كل الأمم ، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء ، ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن شماله ، حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه : تعالوا يا مباركي أبي رِثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم ، جعت فأطعمتموني ، وعطشت فسقيتموني ، وغريباً كنت فآويتموني ، وعريناناً فكسوتموني ، ومريضاً فعدتموني ، ومحبوساً فأتيتم إليّ ، حينئذ يجيب الصديقون ويقولون : يا رب متى رأيناك جائعاً فأطعناك ؟ أو عطشاناً فسقيناك ؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك ؟ أو عرياناً فكسوناك ؟ أو مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك ؟ فيجيب الملك ويقول : الحق أقول لكم الذي فعلتموه بأحد هؤلاء الحقيرين فبي فعلتم ، حينئذ يقول للذين عن يساره : اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدّة لإبليس وجنوده ، جعت فلم تطعموني - إلى آخره ، فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم ، والصديقون إلى الحياة الأبدية .
ولما أكمل يسوع هذا الكلام كله قال لتلاميذه : علمتم أن بعد يومين يكون الفسح - وقال مرقس : وكان الفسح والفطير بعد يومين - واجتمع رؤساء الكيسر والكهنة ومشايخ الشعب في دار رئيس الكهنة الذي يقال له قيافاً ، فتشاوروا على يسوع ليمسكوه - قال مرقس : بمكر - ويقتلوه ، وقالوا : ليس في العيد لئلا يكون شجن ؛ وقال مرقس : شغب في الشعب ؛ وقال يوحنا : فجمع عظماء الكهنة والفريسيين محفلاً وقالوا : ماذا نصنع إذا كان هذا الرجل يعمل آيات كثيرة ، وإن تركناه هكذا فسيؤمن به جميع الناس ، وتأتي الروم فتتغلب على أمتنا ، وإن واحداً منهم اسمه قيافا كان رئيس الكهنة فقال : إنه خير لنا أن يموت رجل واحد عن الشعب من أن تهلك الأمة كلها ، لأن يسوع كان مزمعاً أن يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد ؛ وفي تلك الساعة تشاوروا على قتله ، فأما يسوع فلم يكن يمشي بين اليهود علانية ، ولكنه انطلق من هناك إلى البرية إلى كورة تسمى مدينة أفريم ، وكان يتردد هناك مع تلاميذه ، وكان عيد فسح اليهود قد قربن فصعد كثير من القرى إلى يروشليم قبل الفسح ليطهروا أنفسهم ، فطلب اليهود يسوع ، وكانوا أمروا إن علم إنسان مكانه أن يدلهم عليه ، وإن يسوع قبل ستة أيام من الفسح قصد إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذي أقامه يسوع ، فصنعوا له هناك وليمة ، وجعلت مرتا تخدم ، وعلم جمع كثير من اليهود فجاؤوا إليه ، ولينظروا إلى لعازر الذي أقامه من بين الأموات ، وتشاور عظماء الكهنة أن يقتلوا لعازر ، لأن كثيراً من اليهود من أجله كانوا(2/355)
صفحة رقم 356
يؤمنون بيسوع ، وكان الجمع الذي معه يشهد له أنه دعا لعازر من القبر وأقامه ، ومن الغد سمعوا أن يسوع يأتي إلى يروشليم ، فخرجوا للقائه يصرخون : مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل ووجد يسوع حماراً فركبه - كما هو مكتوب : لا تخافي يا بنت صيون هوذا ملكك يأتيك راكباً على جحش - ابن أتان - ثم قال : وقال يسوع : قد قربت الساعة لاتي يمجد فيها ابن البشر ، الحق الحق أقول لكم إنه حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتَمُتْ بقيت وحدها ، وإن هي ماتت أتت بثمار كثيرة ، من أحب نفسه فليهلكها ، ومن أبغض نفسه في هذا العالم فإنه يحفظها لحياة الأبد ، وقال : يا رباه مجد اسمك ، فجاء صوت من السماء : قد مجدتُ وأيضاً أمجد ، فسمع الجمع الذي كان واقفاً فقال بعضهم : إنما كان رعداً ، وقال آخرون : إن ملاكاً كلمه ، قال يسوع : ليس من أجلي كان هذا الصوت ، ولكن من أجلكم ، وقد حضر الآن دينونة هذا العالم ، الآن يلقى رئيس هذا العالم إلى خارج ، وأنا إذا ارتفعت من الأرض جبيت إليّ كل واحد ، فأجاب الجمع : نحن سمعنا في الناموس أن المسيح يدوم إلى الأبد ، فكيف تقول أنت : يرتفع ابن البشر ، فقال لهم يسوع : إن النور معكم زماناً يسيراً ، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام ، إن الذي يمضشي في الظلام ليس يدري أين يتوجه ، فما دام لكم النور آمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور ؛ تكلم يسوع بهذا ثم مضى وتوارى عنهم ، وقال : يا بنى أنا معكم زماناً قليلاً ، وتطلبوني فلا تجدوني ، وكما قلت لليهود : إن الموضع الذي امضي إليه أنا ، لستم تقدرون على المضي إليه ، قال يوحنا في محاورته ليهود في الهيكل : قال يسوع : أنا أمضى وتطلبوني وتموتون بخطاياكم ، وحيث أنا أذهب لستم تقدرون على إتيانه ، فقال اليهود : لعله يريد أن يقتل نفسه ، فقال لهم : أنتم من أسفل ، وأنا من فوق ، أنتم من هذا العالم ، وأما أنا فلست من هذا العالم ، قد أخبرتكم أنكم تموتون بخطاياكم ، فقالوا له : أنت من أنت ؟ ثم قال : وقالوا له : إن أبانا هو إبراهيم ، قال : لو كنتم بني إبراهيم كنتم تعملون أعمال إبراهيم ، لكنكم تريدون قتل إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله تعالى ، ولم يفعل إبراهيم ، لكنكم تريدون قتل إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله تعالى ، ولم يفعل إبراهيم هذا ، أنتم تعملون أعمال أبيكم ؟ فقالوا : أما نحن فلسنا مولودين من زنى ، فقال لهم : أنتم من أبيكم إبليس ، وشهوة أبيكم تهوون إن لم تعملوا ذلك ، الذي هو من البدء قتّال الناس ولم يلبث على الحق لأنه ليس فيه حق ، وإذا ما تكلم بالكذب فإنما يتكلم بما هو له ، وأما أنا فأتكلم بالحق ولستم تؤمنون بي ، من منكم يوبخني على خطيئة - انتهى ، وأقول لكم الآن أن يحب بعضكم بعضاً كما أحببتم ، فبهذا يعرف كل أحد أنكم تلاميذي ، وقال يسوع : من يؤمن بي ليس من يؤمن بي فقط ، بل وبالذي أرسلني ، ومن رآني فقد رأى الذي(2/356)
صفحة رقم 357
أرسلني ، أنا جئت نور العالم لكي ينجو كل منن يؤمن بي من الظلام ، ومن يسمع كلامي ولا يؤمن بي أنا لا أدينه ، لأني لم آت لأدين العالم ، بل لاحيي العالم ، من جحدني ولم يقبل كلامي فإن له من يدينه ، الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الىخر ، لأني لم أتكلم من نفسي ، لأن الرب الذي أرسلني هو أعطاني الوصية ، ثم قال : الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أعملها ، وأفضل مناه يصنع ، إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب يعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد - روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه ، لانهم لم يروه ولم يعرفوه ، وأنتم تعرفونه ، لأنه مقيم عندكم وهو فيكم ، لست أدعكم يتامى لأني سوف أجيئكم عن قليل ، من يحبّني يحفظ كلمتي ، ومن لا يحبني ليس يحفظ كلامي ، الكلمة التي تسمعونها ليست لي ، بل للرب الذي أرسلني ، كلمتكم بهذا لأني عندكم مقيم ، والفارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي هو يعلمكم كل شيء ، وهو يذكركم كل ما قلت لكم ، السلام استودعتكم ، سلامي خاصة أعطيكم ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع ، قد سمعتم أني قلت لكم : ني منطلق وعائد إليكم ، لو كنتم تحبوني لكنتم تفرحون بمضيّي إلى الرب ، لأن الرب أعظم مني ، وها قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون ، ولست أكلمكم كثيراً لأن أركون العالم يأتي وليس له فيّ شيء ، ولكن ليعلم العالم أني أحب الرب ، وكما أوصاني الرب كذلك أفعل ، أنا هو الكرمة الحقيقية وربي العارس ، كل غصن لا يأتي بثمار ينزعه ، والذي يأتي بثمار بنقيه ليأتي بثمار كثيرة ، أنتم لتيامن هذا الكلام الذي كلمتكم به اثتبوا فيّ وأنا فيكم ، كما أن الغصن لا يطيق أن يأتي بالثمار من عنده إن لم يثبت في الكرمة ، كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيّ ، أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان ، من ثبت فيّ وأنا فيه يأتي بثمار كثيرة ، وبغيري لستم تقدرون تعملون شيئاً ، فإن لم يثبت أحد فيّ طرجح خارجاً مثل الغصن الذي يجني فيأخذونه ويطرحونه في النار فيحترق ، وإن أنتم ثبتم فيذ وثبت كلامي فيكي كان لكم كل ما تريدونه ، وبهذا يمجد ربي بأن تأتوا بثمار كثيرة ، وأنتم أحبابي إن علمتم كل ما وصيتكم به ، إنما وصيتكم بهذا لكي يحب بعضكم بعضاً ، فإن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم ، لو كنتم من العالم كان العالم يحب من هو منه ، لكنكم لستم من العالم ، بل اخترتكم من العالم ، من أجل هذا يبغضكم العالم ، لو لم آت وأكلمهم لم يكن لهم خطيئة ، والآن ليس لهم حجة في خطيئتهم ، لو لم أعمل أعمالاً لم يعملها أحد لم يكن لهم خطيئة ، لتتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني باطلاً ، إذا جاء الفارقليط الذي أرسله إليكم - روح الحق الذي من الرب بسق - هو يشهد وأنتم تشهدون ، لأنكم(2/357)
صفحة رقم 358
معي صفوة ، كلمتكم بهذا لكيلا تشكون ، فإنهم سوف سوف يخرجونكم من مجامعهم ، ولم أخبركم بهذا من قبل لأني كنت معكم ، والآن فإني منطلق إلى من أرسلني ، أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق ، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط ، فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فإذا جاء ذاك فهو موبخ العالم على الخطيئة ، وإن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقول لكم ، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن ، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس تطيقون حمله الآن ، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يرشدكم يأتي ، وهو مجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم ، قليلاً ولا ترونني ، وقليلاً وترونني ، قالوا : ما هذا القليل الذي يقول ؟ فقال لهم : أفي هذا يراطن بعضكم بعضاً ، الحق أقول لكم إنكم تبكون وتنوحون والعالم يفرح ، وأنتم تحزنون لكن حزنكم يؤول إلى فرح ، كالمرأة إذا حضر ولادها تحزن لأن قد جاءت ساعتها ، فإذا ولدت ابناً لم تذكر الشدة من أجل الفرح ، لأنها ولدت إنساناً في العلم ؛ تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء وقال : يا رب قد حضرت الساعة فمجد عبدك ليمجدك عبدك ، كما أعطيته السلطان على كل ذي جسد ، ليعطي كل من أعطيته حياة الأبد ، وهذه هي حياة الأبد أن يعرفوك أنك أنت إله الحق وحدك ، والذي أرسلته يسوع المسيح ، أنا قد مجدتك على الأرض ، ذلك العمل الذي أعطيتني لأصنعه قد أكمت ، والآن مجدني أنت يا رباه بالمجد الذي عندك ، قد أظهرت اسمك للناس ، الآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك ، وعلموا حقاً أني من عندك أتيت ، وآمنوا أنك أرسلتني ، وأنا أجيء إليك أيها الرب القدوس احفظهم باسمك الذي أعطيتني كي يكونوا واحداً كما نحن ، إذ كنت معهم في العالم أنا كنت أحفظم باسمك ، ليس أسأل أن تنزعهم من العالم ، بل أن نحفظهم من الشرير ، لأنهم ليسوا من العالم ، كما أني لست من العالم ، قدسهم بحقك فإذا كلمتك خاصة هي الحق ، كام أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا أيضاً إلى العالم ، ولست أسأل في هؤلاء فقط ، بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحداً ، كما أنك يا رباه فيّ وأنا فيك ليكونوا أيضاً فيناً واحداً ، ليؤمن العالم أنك أرسلتني ؛ قال يسوع هذا وخرج معه تلاميذه إلى عين عمرة وادي الأرز ، وكان هناك بستان ، دخله هو وتلاميذه ، وكان يهودا الذي أسلمه يعرف ذلك المكان ، لأن يسوع كان يجتمع هناك مع تلاميذه كثيراً ، وقبل عيد الفسح كان يسوع يعلم أن قد حضرت الساعة التي ينتقل فيها من هذا العالم ، فلما حضر العشاء خامر الشيطانُ قلبَ يهودا شمعون الإسخريطي لكي يسلمه ، فقام يسوع عن العشاء وترك ثيابه وائتزر وسطه بمنديل ، وبدأ يغسل أقدام التلامذة وينشفها بمنديل كان مؤتزراً به ، فلما انتهى إلى شمعون الصفا قال له : أنت يا سيدي تغسل لي قدمي ؟ فقال(2/358)
صفحة رقم 359
يسوع : إن الذي أصنع لست تعرفه الآن ، ولكنك ستعرفه فيما بعده ، قال له شمعون الصفا : إنك لست غاسلاً لي قدمي الآن ، قال له يسوع : إن أنا لم أغسلهما فليس لك معي نصيب ، قال شمعون : يا سيدي ليس تغسل لي قدمي فقط ، بل ويدي ورأسي ، قال له يسوع : إن الذي يطهر لا يحتاج إلا إلى غسل قدمي ؛ فلما غسل أرجلهم تناول ثيابه واتكأ وقال لهم : تعلمون ما صنعت بكم ؟ أنتم تدعونني معلماً ورباً ، وما أحسن ما تقولون فإذا كنت أنا معلمكم وربكم قد غسلت أقدامكم فأنتم أحرى أن يغسل بعضكم أرجل بعض ، والحق الحق أقول لكم إن واحداً منكم يسلمني ؛ وقال متى : ولما كان يسوع ي بيت عنيا في بيت شمعون الأبرص جاءت امرة معها قارورة طيب كثير الثمن فأفاضته على رأسه وهو متكىء ، حينئذ مضى أحد الاثني عشر - أي الحواريين الذي سيذكرون في المائدة والأنعام بأسمائهم - وهو الذي يقال له يهودا الإسخريطي إلى رؤساء الكهنة وقال لهم : ماذا تعطوني حتى أسلمه إليكم ؟ فأقاموا له ثلاثين من الفضة ، ومن ذلك الوقت جعل يطلب فرضة ليسلمه ، وفي أول يوم الفطير - قال مرقس : لما ذبحوا الفسح - قال له تلاميذه : أين تريد حتى نستعد لتأكل الفسح ؟ فقال : اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له : المعلم يقول : زماني قد اقترب ، وعندك أصنع الفسح مع تلاميذي ، ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدوا الفسح ، وقال لوقا : وكان في النهار يعلم في الهيكل ، ويخرج في الليل ليستريح في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون ، وكان تطلّب الكهنة يهلكونه ، وكانوا يخافون من الشعب ، فدخل الشيطان في يهودا الذي يدعى الإسخريطي الذي كان من الأثني عشرة ، فمضى وكلم رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم ، ففرحوا ووعدوه ، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم مفرداً عن الجمع ، فجاء يوم الفطير الذي يذبح فيه الفسح ، فأرسل بطرس ويوحنا وقال : امضيا وأعدا لنا الفسح ، ثم قال : فانطلقا وأعدا الفسح ، ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر تليمذاً ، قال : فقال لهم : شهوة اشتهيت أن آكل معكم الفسح ، فإني أقول لكم : إني أيضاً لا آكل منه حتى يتم في ملكوت الله ؛ وقال متى : وفيما هم يأكلوا قال : الحق أقول لكم إن واحداً منكم يسلمني ، فحزنوا جداًن وشرع كل واحد منهم يقول : لعلي أنا هو ؛ وقال يوحنا : وقال : الحق الحق أقول لكم إن واحداً منكم يسلمني ، فنظر التلاميذ بعضهم إلى بعض ، وكان واحداً من تلاميذه متكئاً في حضن يسوع ، وهو الذي كان يسوع يحبه ، فأومأ شمعون الصفا إليه أن يعلمه مَن الذي قال لأجله ؛ فوقع ذلك التلميذ على صدر يسوع وقال له :(2/359)
صفحة رقم 360
يا سيدي من هذا ؟ فقال يسوع : هو الذي أبلّ خبزاً وأناوله ، فبلّ خبزاً ودفعه إلى شمعون الإسخريوطي ، وقال متى : فقال : ألذي يجعل يده معي في الصحفة هو يسلمني ؛ وابن الإنسان ماضٍ كما كتب من أجله ، الويل لذلك الإنسان الذي يسلم ابن الإنسان ، حبذا له لو لم يولد ، أجابه يهودا مسلمه وقال : لعلي أنا هو يا معلم قال : أنت ، قال : فسبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون ؛ وقال لوقا : فقال لهم : إن ملوك الأمم هم ساداتهم ، والمسلطون عليهم يدعون المحسنين إيهم ، فأما أنتم فليس كذلك ، لكن الكبير منكم يكون كالصغير والمقدم كالخادم ، من أكبر ؟ المتكىء أم الذي يخدم ؟ أليس المتكىء فأما أنا في وسطكم فمثل الخادم ، وأنتم الذي صبرتم معي في تجاربي ، وأنا أعد لكم كما وعدني ربي الملكوت ، لتأكلوا وتشروبوا على مائدتي في ملكوتي ، وتجلسوا على كرسيّ ، وتدينوا اثني عشر سبط إسرائيل - إلى أن قال : ثم خرج كالعادة ومضى إلى جب الزيتون ، ومعه أيضاً تلاميذه ، فلما انتهى إلى المكان قال لهم : صلوا لئلا تدخلوا لتجرية ، وانفرد عنهم كرمية حجر وخرَّ على ركبتيه فصلى ؛ وقال متى : حينئذ قال لهم يسوع : كلكم تشكون في هذه الليلة ، لأنه مكتوب : أضرب الراعي ، تفرق خراف الرعية ، فأجاب بطرس وقال له : لو شك جميعهم لم أشك أنا ، قال له يسوع : الحق أقول لك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات ؛ وقال يوحنا : الحق الحق أقول لكم لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاثاً ، لا تضطرب قلوبكم ، آمنوا بالله وآمنوا بي ؛ وقال متى : قال له بطرس : لو ألجئت إلى أن أموت معك ما أنكرت ؛ وقال مرقس : فتمادى بطرس وقال : يا أبت وإن اضطررت إلى أن أموت معك ليس أنكرك ، وهكذا قال جميع التلاميذ ، حينئذ جاء معهم إلى قرية تدعى جسمانية ، فقال للتلاميذ : اجلسوا ها هنا لأمضي أصلي هناك ، امكثوا واسهروا معي ، وبعد ذلك خرَّ على وجهه يصلي ، وجاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً ، قال مرقس : فقال البطرس : يا شمعون أنت نائم ؟ ما قدرت تسهر معي ساعة واحدة ؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا التجارب ، أما الروح فمستبشرة ، وقال مرقس : فمستعدة ، وأما الجسد فضعيف ، ومضى أيضاً وصلى ، وجاء أيضاً فوجدهم نياماً ، لأن عيونهم كانت ثقيلة ، فتركهم ؛ ومضي أيضاً يصلي ، قال لوقا : وظهر له ملاك من السماء ليقويه ، وكان يصلي تواتراً ، وكان عرفه كعبيط الدم نازلاً على الأرض وقال متى : حينئذ جاء إلى التلاميذ وقال لهم : ناموا الآن واستريحوا قد اقتربت الساعة ، وفيما هو يتكلم إذ جاء يهودا الإسخريوطي أحد الاثني عشر ، معه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب ، والذي أسلمه أعطاهم علامة وقالك ألذي أقبّله هو هو فأمسكوه ، (2/360)
صفحة رقم 361
وجاء إلى يسوع وقال له : السلام يا معلم وقبّله له يسوع : يا هذا ألهذا جئت ؟ حينئذ جاؤوا فوضعوا أيديهم على يسوع وقبضوا عليه ، ثم قال : في تلك الساعة قال يسوع للجموع : كأنكم قد خرجتم إلى لص بالسيوف والعصيّ لتأخذوني ، في كل يوم كنت أجلس عندكم أعلِّم في الهيكل فما قبضتم عليّ ، وهذا كله كان لتكميل كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ وقال يوحنا : إن يهودا أخذ جنداً من عند عظماء الكهنة والفريسيين وشرطاً ، وجاء إلى هناك بسرج ومصابيح وسلاح ، ويسوع كان عارفاً بكل شيء يأتي عليه ، فخرج وقال لهم : من تطلبون ؟ قالوا : يسوع الناصرين ، قال : أنا هون ] وكان يهودا واقفاً معهم ، فلما قال : أنا هو ، رجعوا إلى ورائهم وسقطوا على الأرض ، فقال يسوع : إن كنتم تطلبوني فدعوا هؤلاء يذهبوا ، لتتم الكلمة التي قالها : إن الذي أعطيتني لن يهلك منهم أحد ؛ وقال متى : حينئذ تركه تلاميذه كلهم وهربوا ، والذين أخذوا يسوع اقتادوه إلى دار قيافا رئيس الكهنة ، وأما بطرس فأتبعه على بُعُد منه إلى دار رئيس الكهنة ، ودخل إلى داخلها وجلس مع الخدام لينظر التمام ، وقال مرقس : وجلس مع الخدام عند النار يصطلي ؛ وقال يوحنا : وإن شمعون الصفا والتلميذ الآخر - يعني الذي تقدم أن عيسى كان يحبه - تبعا يسوع ، وكان عظيم الكهنة يعرف ذلك التلميذ ، فدخل يسوع إلى دار عظيم الكهنة ، فأما شمعون فكان واقفاً خارج الباب ، فخرج التلميذ الآخر الذي كان معارف رئيس الكهنة ، فقال للبوابة وأدخل شمعون بطرس ، فقالت الجارية البوابة لشمعون : أما أنت من تلاميذ هذا الرجل ؟ فقال لها : لا وكان العبيد والشرط قياماً يوقدون ناراً ليصطلوا ، لأنها كانت ليلة باردة ، وقام شمعون معهم أيضاً يصطلي : قال متى : فقال رئيس الكهنة : أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا إن كنت أنت هو المسيح قال مرقس : وبينما بطرس في أسفل الدار جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة فقالت له : وأنت أيضاً قد كنت مع يسوع الناصري ؛ وقال متى : مع يسوع الجليلي ، وقال لوقا : فلما رأته جارية جالساً عند الضوء ميزته فقالك هذا أيضاً كان معه ، فأنكر وقال : ما أعرفه ؛ وقال متى : فجحد بين أيديهم أجميعن ، وعند خروجه إلى الباب أبصرته جارية أخرى فقالت : وهذا أيضاً كان مع يسوع الناصري ، فجحد أيضاً بيمين : إني لست أعرف الرجل ، وبعد قليل تقدم الوقوف فقالوا لبطرس : بالحقيقة إنك منهم أنت لأن كلامك يدل عليك ؛ وقال مرقس : وأنت جليلي وكلامك يشبه كلامهم ، وقال : حينئذ أقبل بطرس يلعن ويحلف : إني لست أعرف الإنسان ، وفي الحال صاح .(2/361)
صفحة رقم 362
الديك ، فذكر بطرس كلمة يسوع : قبل أن يصيح الديك ، تجحدني ثلاثاً ، فخرج إلى خارج وكبى بكاءً مُرّا .
ولما كان الصبح عملوا كلهم مؤامرة على يسوع حتى يميتوه فربطوه وساقوه إلى بيلاطيس النبطي ، ولما أبصر يودس - يعني يهودا الإسخربوطي - أنه قد حكم عليه تندم ورد الثلاثين الفضة على رؤساء الكهنة قائلاً : قد أخطأت إذ أسلمت دماً زكياً ، فقالوا : ما علينا فطرح الفضة في الهيكل ومضى فخنق نفسه ، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا : لن يجوز لنا أن نلقيها في داخل الزكاة ، لأنها ثمن دم ، فتشاوروا وابتاعوا حقل الفاخوري لدفن الغرباء ، لذلك دعي ذلك الحقل حقل الدم إلى اليوم ، حينئذ تم قول إرميا النيب القائل : وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن الدم الذي ثمنه بنوا غسرائيل ، وجعلوها في حقل الفاخوري على ما رسمل لي ؛ وأما يسوع فوقف أمام الوالي ، ثم ذكر أن الوالي كان كارهاً لقتله ، وأن امرأته أرسلت إلأيه تقول : إياك ودم ذاك الصديق ، فإني توجعت في هذا اليوم كثيراً من أجله في الحلم ، وأنه اجتهد بهم ليطلقوه فأبوا إلا صلبه ، وصاحوا عليه ، وأنه قال لهم : أي شر عمل ؟ فازدادوا صياحاً وقالوا : يصلب ؛ فلام رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع وقال : إنني بريء من دم هذا الصديق ، فقالوا : دمه علينا وعلى أولادنا ، وقال لوقا : وإن بيلاطس قال لرؤساء الكهنة : أنا لم أجد على هذا الإنسان علة - حتى قال : فلما علم أنه من سلطان هيرودس - يعني من الجليل - أرسله إلى هيرودس ، لأنه كان في تلك الأيام بيروشليم ، وأن هيرودس لما رأى يسوع فرح جداً ، لأنه كان يشتهي أن يراه من زمان طويل لما كان يسمع عنه من الأمور الكثيرة ، وكان يرجو أن يعاين آية يعملها ، وسأله عن كلام كثير ذكره ، وذكر أنه لم يجبه ، فاحتقره هيرودس وجنده واستهزؤوا به وألبسه ثياباً حمراء ، وأرسله إلى بيلاطس وصار بيلاطس وهيرودس صديقين في ذلك اليوم ، لأنه كان بينهما عداوة ، ثم ذكر أن بيلاطس قال لهم : لم أجد عليه علة آخذة بها ، ولا هيرودس أيضاً ، وأنهم لم يقبلوا منه ذلك وصاروا يصيحون : اصلبه اصلبه ، وقال يوحنا : ثم جلس - يعني بيلاطس - على كرسي في موضع يعرف برصيف الحجارة ، وبالعبرانية يسمى جاحلة ؛ ثم ذكر جميع نقلة أناجيلهم أنهم صلبوه بين لصّين ، وأنهم كانوا يستهزئون به حتى اللصان المصلوبان ؛ قال مرقس : فلما كانت الساعة السادسة تفشّت الأرض كلها ظلمة إلى الساعة التاسعة ، وأنه صاح بصوت عظيم منه : إلهي إلهي لِمَ تركتني فانشق ستر حجاب الهيكل باثنين من فوق إلى أسفل ، والأرض تزلزلت ، وتشققت الصخور ، وتفتحت القبور ، وكثير من أجساد القدسين النيام قاموا من قبورهم ، ودخلوا المدينة فظهروا لكثير ، وكان هناك نسوة كثير(2/362)
صفحة رقم 363
ينظرن من بعيد ، ومن اللاتي تبعن عيسى من الجليل منهم مريم المجدلانية ، ومريم أم يعقوب الصغير ، وأم يوسا ، وأم ابن يزبدي ، وقال يوحنا : وكان واقفاً عند صلبه أمه وأخت أمه مريم ابنة إكلاوبا ومريم المدجدلية ، ثم ذكروا أنه دفن ؛ وذكر مرقس أنه كان يوم جمعة ؛ وقال يوحنا : وأما اليهود - فلأنه يوم الجمعة - قالوا : هذه الأجساد لا تثبت على صلبها ، لأن السبت كان عظيماً ، ثم ذكر أنهم أنزلوهم ، وأن عيسى دفن ؛ وقال متى : إن الملك جاء بعد ثلاث وأقامه ، وقال للنسوة : إنه قد قام فأسرعن فقلن لتلاميذه : هوذا سبقكم إلى الجليل ، وإن رؤساء اليهود رشوا الجند الذين كانوا يحرسون قبره ليقولوا : إن تلاميذه سرقوه من القبر ، فقالوا وشاع ذلك عند اليهود إلى اليوم ، فأما الأحد عشر تلميذاً فمضوا إلى الجليل الذي أمروا به ، فلما رأوه سجدوا له ، وبعضهم شك ؛ وقال لوقا : وفيما هم يتكلمون وقف عيسى إلى وسطهم ، وقال لهم : السلام عليكم يا هؤلاء لا تخافوا فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم ينظرون روحاً ، فقال لهم : ما بالكم تضطربون ؟ وِلمَ يأتي الإنكار في قلوبكم ؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو ، جسّوني وانظروا إليّ الروح ليس له لحم ولا عظم ، كما ترون أنه لي ، ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه ، وإذا هم غير مصدقين من الفرح والتعجب ، وقال لهم : أعندكم ها هنا ما يؤكل ؟ فأعطوه جزءاً من حوت مشوي ومن شهد عسل ، فأخذ قدامهم وأكل ، وأخذ الباقي وأعطاهم ، ثم قال : ثم أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا فرفع يديه وباركهم ، وكان فيما فهو يباركهم انفرد عنهم ، وصعد إلى السماء ؛ وقال يوحنا : إنه قال لمريم : امضي إلى إخوتي وقولي لهم : إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي والاهكم ؛ وقال متى : فجاء يسوع فكلمتهم فقال : أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأض فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم .
انتهى ما أردته هنا من الأناجيل من هذه القصة ، فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد ، وهو الإسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه ، وأنه إنما وضع يده عليه ، ولم يقل بلسانه : إنه هو ، وأن الوقت كان ليلاً ، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه : كلكم تشكون في هذه الليلة ، وأن تلاميذه كلهم هربوا ، فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره ، وأن بطرس إنما تبعه من بعيد ، وأن الذي دل عليه خنق نفسه ، وأن الناقل لأن الملك قال : إنه قام من الأموات ، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد ، وما يدري النسوة الملك من غيره - ونحوه ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن بالجهد ، وأما الآيات التي وقعت فعلى تقدير تسليمها لا يضرنا التصديقُ بها ، وتكون لجرأتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح(2/363)
صفحة رقم 364
ومن أحسن ما في ذلك قوله بعد اجتماعهم به بعد رفعه : أعطيت كل سلطان ، فأثبت أن المعطي غيره ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه ، ويدل على أن المصلوب - إن صح أنهم صلبوه من ظنوه إياه - هو الذي دل عليه ، كما قال بعض العلماء : إنه ألقى شبهه عليه ، ويؤيد ذلك قولهم : إنه خنق نفسه ، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه ، فجزموه به - والله أعلم ، وقوله : إنك يا رباه فيّ وأنا فيك ، ليكونوا - أي التلاميذ - فينا ، ونحوه مما يوهم حلولهاً المراد به الاتحاد في المراد بحيث أن واحداً منهم لا يريد إلا ما يريد الآخر ، ولا يرضى إلا ما يرضاه ، فهو من وادي ما في الحديث القدسي ( كنت سمعه الذي يسمع به ) - إلى آخره ، وكذا إطلاق الابن والأب معناه أنه يعاملهم في لطفه معاملة الأب ابنة ، فالمراد الغاية ، كما يؤل ذلك في إطلاق الغضب والمحبة ونحو ذلك في حق الله تعالى في شرعنا ، وقد مضى كثير من رد المتشابه في مثل ذلك إلى المحكم في آل عمران ، ومضى في ذلك الموضع وغيره أن كل ما أوهم نقصاً لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى - والله الموفق .
النساء : ( 159 - 161 ) وإن من أهل. .. . .
) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( } )
ولما أنجز الكلام إلى أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على هذا المنهاج البديع بما ذكر في نصائح اليهود وقبائح أفعالهم ، وأنهم قصدوا قتله عليه الصلاة والسلام ، فخاب قصدهم ، واصلد زندُهم ، وقال رأيهم ، ورد عليهم بغيهم ، وحصل له بذلك على المناصب وأولى المراتب ؛ قال محققاً لام أثبته في الآية قبلها من القطع بكذبهم ، مثبتاً أنهم في مبالغتهم في عدواته سكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره الذي منه(2/364)
صفحة رقم 365
التصديق بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومؤكداً له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له : ( وإن ) أي والحال أنه ما ) من أهل الكتاب ) أي أحد يدرك نزوله في آخر الزمان ) إلا ( وعزتي ) ليؤمن به ) أي بعيسى عليه الصلاة والسلام ) قبل موته ) أي موت عيسى عليه الصلاة والسلام ، أي إنه لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان ، يؤيد الله دين الإسلام ، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل ، إشارة إلى أن موسى عليه الصلاة والسلام إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زماناً طويلاً ، فالنبي الذي نسخ شريعة موسى - وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام - هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربي في تجديد شريعته وتمهيد أمره والذب عن دينه ، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة وأتباع مستكثرة ، أمر قضاء الله في الأزل فأمضاه ، فأطيلوا أيها اليهود أو أقصروا فمعنى الآية إذن - والله أعلم - أنه مات من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه الصلاة والسلام على شك إلا وهو يوقن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موته بعد نزوله من السماء أنه ما قتل وما صلب ، ويؤمن به عند زوال الشبهة - والله أعلم ؛ روى الشيخان وأحمد وأبو بكر بن مردويه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً وإماماً عادلاً ، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها ) ؛ وفي رواية : وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ؛ وفي رواية : حتى يهلك الله الملل كلها غير الإسلام ، فيهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، يقول أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم ) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ( الآية : موت عيسى عليه الصلاة والسلام - ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات - ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ؛ وفر رواية : ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ؛ ولمسلم عنه رضي الله عنه : كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ؛ وي رواية : فأمكم منكم ، قال الوليد بن مسلم - أحد رواة الحديث : قال ابن أبي ذئب : تدري ما أمكم منكم ؟ قلت تخبرني قال : فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ ولمسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، فينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقول أميرهم : تعال صل لنا(2/365)
صفحة رقم 366
فيقول : لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة ؛ وروى عن ابن عباس ومحمد بن علي المشهور بابن الحنفية رضي الله عنهم أن المعنى : ألا ليؤمنن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موت ذلك الكتابي عند الغرغرة حين لا ينفعه الإيمان ، ليكون ذلك زيادة في حسرته ، قال الأصبهاني : وتدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ : ليؤمنن قبل موتهم - بضم النون .
ولما أخبر تعالى عن حالهم معه في هذه الدار أتبعه فعله بهم في تلك فقال : ( ويوم القيامة ) أي الذي يقطع ذكره القلوب ، ويحمل التفكر فيه على كل خير ويقطع عن كل شر ) يكون ( وأذن بشقائهم بقوله : ( عليهم شهيداً ) أي بما عملوا ؛ ولما أذن حرف الاستعلاء في الشهادة بأنه لا خير لهم في واحد من الدارين ، وبأن التقدير : فبظلمهم ، سبب عنه قوله دلالة على أن التوراة نزلت منجمة : ( فبظلم ) أي عظيم جداً راسخ ثابت ، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه بعد أن حرمته التوارة ، وقال مشيراً إلى زيادة تبكيتهم : ( من الذين هادوا ) أي تلبسوا باليهودية في الماضي ادعاء أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق ، ولم يضمر تعييناً لهم زيادة في تقريعهم ) حرمنا عليهم طيبات أحلت ) أي كان وقع إحلالها في التوراة ) لهم ( كالشحوم التي ذكرها الله تعالى في الأنعام .
ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته ، وبدأها بإعراضهم عن الدين الحق ، فقال معيداً للعامل تأكيداً له : ( وبصدهم عن سبيل الله ) أي الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم ، لكون الذي نهجه له من العظمة والحكمة ما لا يدرك ، و ( صد ) يجوز أن يكون قاصراً فيكون ) كثيراً ( صفة مصدر محذوف ، وأن يكون متعدياً فيكون مفعولاً به ، أي وصدهم كثيراً من الناس بافضلال عن الطريق ، فمُنِعوا مستلذات تلك المآكل بما مَنَعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان .
ولما ذكر امتناعهم ومنعهم من المحاسن التي لا أطيب منها ولا أشرف ، أتبعه إقدامهم على قبائح دنية فيها ظلمهم للخلق فقال : ( وأخذهم الربا ) أي وهو قبيح في نفسه مُزرٍ بصاحبه ) وقد ) أي الحال أنهم قد ) نهوا عنه ( فضموا إلى مخالفة الطبع السليم الاجتراء على انتهاك حرمة الله العظيم .
ولما ذكر الربا أتبعه ما هو أعم منه فقال : ( وأكلهم أموال الناس بالباطل ) أي سواء كانت رباً أو رشوة أو غيرهما ؛ ولما ذكر بعض ما عذبهم به في الدنيا أتبعه جزاءهم في الآخرة ، فقال عاطفاً على قوله ( حرمنا ) : ( وأعتدنا للكافرين ) أي الذين صار الكفر لهم صفة راسخة فماتوا عليه ؛ ولما علم أن منهم من يؤمن فيدخل الجنة(2/366)
صفحة رقم 367
فقال : ( منهم ( ولما كان الحزاء من جنس العمل قال : ( عذاباً أليماً ) أي بسبب ما آلموا الناس بأكل أموالهم وتغطيتهم على حقوقهم من الفضائل والفواضل .
ذكرُ تحريم المال بالربا وغيره من أنواع الباطل بنص التوراة ، قال في السفر الثاني بعد ما قدمتهُ في البقرة من الأمر بالإحسان إلى الناس والنهي عن أذاهم : وإن أسلفت ورقك للمسكين الذي معك من شعبي فلا تكونن له كالغريم ولا تأخذن منه رباً ؛ وقال في الثالث : وإن افتقر أخوك واستعان بك فلا تتركه بمنزلة الغريب الساكن معك ، بل وسع عليه ، وإياك أن تأخذ منه رباً أو عينة ، لا تقرضه بالعينة ؛ وقال في الخامس : ولا تطعموا بيت الله ربكم أجر زانية ولا ثمن كلب ، ولا تأخذوا من إخوتكم رباً في فضة ولا في طعام بيت الله ربكم أجر زانية ولا ثمن كلب ، ولا تأخذوا من إخوتكم رباً في فضة ولا في طعام ولا في شيء مما تعانونه ، وأما الغريب فخذوا منه إن أحببتم ؛ فقد ثبت من توراتهم النهيُ عن الربا ، وأما تخصيصه بالغريب فتبديل منهم بلا ريب ، بدليل ما قدمته عنها في البقرة عند قوله تعالى : ( ) إن الذين آمنوا والذين هادوا ( ) [ البقرة : 62 ] ومن النهي عن غدر العدو ، وعند قوله تعالى : ( ) لا تعبدون إلا الله ( ) [ البقرة : 83 ] من الإحسان إلى عامة الناس لا سيما الغريب - والله الموفق .
النساء : ( 162 - 164 ) لكن الراسخون في. .. . .
) لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( ( )
ولما بين تعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب ، بين ما لنّيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقالك ) لكن الراسخون في العلم منهم ) أي الذي هيئت قلوبهم في أصل الخلقة لقبول العلم فأبعد عنها الطبع ، وجلت الحكمة ، ورسخت بالرحمة ، فامتلأت من نور العلم ، وتمكنت بأنس الإيمان .
ولما ذكر نعت العلم المفيد لجميع الفضائل أبتعه ما نشأن عنه فقال : ( والمؤمنون ) أي الذين هيئوا للإيمان ودخلوا فيه ، فصار لهم خلقاً لازماً ، منهم ومن غيرهم ) وما أنزل من قبلك ) أي على موسى عليه الصلاة والسلام ، وبسبب إيمانهم الخالص أمنوا بما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام ، ثم بما أنزل إليك .(2/367)
صفحة رقم 368
ولما كانت الصلاة أعظم دعائم الدين ، ولناهية عن الفحشاء والمنكر ، نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها فقال تعالى : ( والمقيمين الصلاة ) أي بفعلها بجميع حدودها ، ويجوز على بُعد أن يكون المقتضي لنصبها جعل ( لكن ) بالنسبة إليها بمعنى ( إلا ) وتضمينها لفظها ، لما بينهما من التآخي ، فيكون المعنى ولما كان الرجوع بما بعدها إلى الأسلوب الماضي أبين في مدحها قال : ( والمؤتون الزكاة ( ولما ذكر أنهم جمعوا إلى صلة الخالق الإحسان إلى الخلائق ذكر الإيمان بانياً على عظمته مفصلاً له بعض التفصيل ومشيراً غلأآ أن نفعه كما يشترط أن صفات الكمال ، وضم إليه الحامل على كل خير والمعقد عن كل شر ترغيباً وترهيباً فقال : ( واليوم الآخر ( فصار الإيمان مذكوراً خمس مرات ، فإ ، هذه الأوصاف لموصوف واحد عطفت بالواو تفخيماً لها وإشارة إلى أن وصف الرسوخ في العلم مقتض واحد عطفت بالواو تفخيماً لها وإشارة إلى أن وصف الرسوخ في العلم الدين ، فإنه لا يمدح أحد اتصف بشيء منها عرياً عن الإيمان به ، لا جرم نبه على فخامة أمرهم وعلو شأنهم بأداة البعد فقال : ( اولئك ) أي العالو الرتبة والهمم ، ولكون السياق في الراسخين العاملين أنهى في التأكيد بالسين لأن المكر هنا أقل منه في الأولى ، ولم يعرف الأجر ، ووصفه بالعظم فقال : ( سنؤتيهم ) أي بعظمتنا الباهرة بوعد لا خلف فيه ) أجراً عظيماً ( ولما كانت هذه الأوصاف منطبقة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكان من أحوالهم الوحي ، قال تعالى إبطالاً لشبهتهم القالئلة : لو كان نبياً أتى بكتابه جملة من السماء كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بالتوارة كذلك ، بإقرارهم بنبوة هؤلاء الأنبياء عليهم السلام مع كونهم ليس لهم تلك الصفة ، ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة أحد منهم ولا رسالته : ( إنا ( ويصح أن يكون هذا تعليلاً ليؤمنون ، أي إنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا ) أوحينا إليك كما ) أي مثل ما ) أوحينا إلى نوح ( وقد آمنوا بما به لما أتى به من المعجز الموجب للإيمان من غير توقف على معجز آخر ولا غيره ، لان إثبات المدلول(2/368)
صفحة رقم 369
إنما يتوقف على ثبوت الدليل ، فإذا تم الدليل كانت المطالببة بدليل آخر طلباً للزيادة وإظهاراً للتعنت واللجاج - والله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
ولما كان مقام الإيحاء - وهو الأنبياء - من قِبَل الله تعالى قال : ( والنبيِّين من بعده ) أي فهم يعلمون ذلك بما لهم من الرسوخ في العلم وطهارة الأوصاف ، ولا يشكون في أن الكل من مشكاة واحدة ، مع أن هذا الكتاب أبلغ ، والتعبير فيه عن المقاصد أجلى وأجمع ، فهم إليه أميل ، وله أقبل ، وأما المبطوع على قلوبهم ، الممنوعون من رسوخ العلم فيها بكثافة الحجاب ، حتى أنها لا تنظر إلى اسراره إلا من وراء غشاء ، فهم غير قابلين لنور العلم المتهيىء للإيمان ، فأسرعوا إلى الكفر ، وبادروا بالذل والصغار ، وفي الآخرة بالسخط والنار .
ولما أجلم تعالى ذكر النبيين فصّل فقال منبهاً على شرف من ذكرهم وشهرتهم : ( وأوحينا إلى إبراهيم ) أي أبيكم وأبيهم كذلك ) وإسماعيل ) أي ابنه الأكبر الذي هو أبوكم دونهم ) وإسحاق ( وهو ابنه الثاني وأبوهم ) ويعقوب ) أي ابن إسحاق ) والأسباط ) أي أولاد يعقوب .
ولما أجمل بذكر الأسباط بعد تفصيل مَنْ قبلهم فصّل من بعدهم فقال : ( وعيسى ) أي الذي هو آخرهم من ذرية يعقوب ) وأيوب ( وهو من ذرية عيصو بن إسحاق على ما ذكروا ) ويونس وهارون وسليمان ( ولما كان المقام للتعظيم بالوحي ، وكان داود عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب قال : ( وآتينا داود زبوراً ) أي وهم يدعون الإيمان به مع اعترافهم بأنه لم ينزل جملة ولا مكتوباً من السماء .
ولما تم ما اقتضاه مقام النبوة ، وكان فيهم رسل ، وكان ربما قال متعنت : إن شأن الرسل غير شأن الأنيباء في الوحي ، قال عاطفاَ على ما تقديره من معنى ( أوحينا ) : أرسلنا من شئنا من هؤلاء الذين قصصناهم عليك هنا إلى من شئنا من الناس : ( ورسلاً ) أي غير هؤلاء ) قد قصصناهم ) أي تلونا ذكرهم ) عليك ( ولما كان القص عليه غير مستغرق للزمان الماضي قال : ( من قبل ) أي من قبل إنزال هذه الآية ) ورسلاً تكليماً ) أي على التدريج شيئاً فشيئاً بحسب المصالح من غير واسطة ملك ، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة ، والمعنى أنكم لو كنتم إنما(2/369)
صفحة رقم 370
تتوقفون عن الإيمان ببعض الأنبياء تثبتاً لتعلموا أنه فعل به ما فعل بموسى عليه الصلاة والسلام من الكرامة ، لم تؤمنوا بإبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وهارون وغيرهم ، فإنه خص بالتكليم دونهم ، فلِمَ جعلتم الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام شرطاً في الإيمان ببعض الأنيباء دون بعض ؟ وإن جعلتم الشرط الإتيان بالكتاب جملة ومن السماء مدعين أنه كان له ذلك دون التكليم وغيره مما جعل له ، كان ذلك .
على تقدير التسليم تنزلاً - تحكماً وترجيحاً من غير مرجح ، على أن التوراة أيضاً - كما تقدم بيانه - كهذا القرآن في إنزالها منجمة على حسب الوقائع على ما أشار إليه قوله ( تكليماً ) ولم يكتب منها جملة إلا اللوحان اللذان وضعا في تابوت الشهادة كما أنزل بعض سور القرآن جملة كسورة الأنعام ، وليس في نزول موسى عليه الصلاة والسلام بهما من جبل الطور مكتوبَين دليل على نزولهما من السماءن ويدل على ذلك كثير من نصوصها اصرحها أنه تعالى حرم عليهم العمل في السبت عقب إخراجهم من البحر عند إنزال المن - كما بين في السفر الثاني منهما - ولم يبين كيف يفعل بالعاصي فيه إلا بعد ذلك بدهر ، بدليل ما في السفر الرابع منها في قصة التبيه : ومكث بنو إسرائيل في البرية ووجدوا رجلاً يحتطب حطباً يوم السبت ، فقدمه الذين وجدوه يحتطب إلى موسى وهارون وإلى الجماعة كلها ، وحبسوه في السجن ، لأنه لم يكن أوحى إلى موسى كيف يصنع به ؟ فقال الرب لموسى : يقتل هذا الرجل ، يرجم بالحجارة خارجاً من العسكر ، ورجمه الجماعة كلها بالحجارة ومات - كما أمر الرب موسى ؛ ومنها أنه أمرهم - كما بين في السفر الثاني - بنصب قبة الزمان التي كانوايصلون إليها ، ويسمع موسى الكلام منها ، ثم بعد ذلك بمدة أمرهم - كما بين في السفر الرابع - بالزيادة فيها ؛ ومنها أنه كتب له الألواح في الطور : اللوحين اللذين كسرهما غضباً من اتخاذهم العجل ، ثم لوحين عوضاً عنهما ، ثم لما نصبت قبة الزمان صار سبحانه وتعالى يكلمه منها ، وغالب أحكامهم إنما شرعت بالكلام الذي كان في قبة الزمان - كما هو في غاية الوضوح في التوراة ؛ ومنها ما قال في أوخر السفر الخامس وهو آخرها : فلما أكمل موسى كتاب آيات هذه التوراة في السفر وفرغ منها ، أمر موسى الأحبار الذين يحملون تابوت عهد الرب وقال لهم : خذوا سفر هذه السنن واجعلوه في جوف تابوت عهد الهل ربكم في جانب من جوانبه ، ليكون هناك شاهداً ، لأني قد عرفت جفاءكم وقساوة قلوبكم وما تصيرون إليه ، وكيف لا يكون ذلك وقد أغضبتم الرب وأنا حي معكم ؟ فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك ، فليجتمع إليّ أشياخ أسباطكم وكتّابكم فأتلو عليهم هذه الأقوال ، ولأشهد عليهم السماء والأرض ، لأنكم مفسدون من بعد وفاتي ، تحيدون عن الطريق(2/370)
صفحة رقم 371
الذي آمركم به ، شر شديد في آخر الأيام إذا عملتم السيئات بين يدي الرب ، وأغضبتموه بأعمال أيديكم ، وقال موسى بين يدي جماعة بني إسرائيل : انصتي أيتها السماء فأتكلم ، ولتسمع الأرض النطق من فيّ - وقال كلاماً كثيراً في ذمهم أذكره إن شاء الله تعالى في المائدة عند ) من لعنه الله وغضب عليه ) [ المائدة : 60 ] ثم قال : يقول الله : أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم ، وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين - ومضى يتكلم من كلام الله الذي هو من أحسن التوراة إلى أن قال : فلما أكمل موسى هذه الآيات كلها لبني إسرائيل قال لهم : أقبلوا بقلوبكم إلى هذه الأقوال ؛ ثم قال : وكلم الرب موسى ذلك اليوم وقا : اصعد إلى جبل العبرانيين ، هذا جبل نابو الذي في أرض مواب حيال إيريحا ، وانظر إلى أ ) ض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثاً - وذكر بعد ذلك كلاماً طويلاً فهيا كلها لمن يتأملها كثير مما هو ظاهر في ذلك ، بل صريح ، وفي قصة نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ما هو صريح في أن الإيحاء إليهما كان منجماً - كما مضى عنهما في قصة إبراهيم عليه السلام في البقرة ، ويأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الأحبار في الأعراف وفي قصة نوح عليه الصلاة والسلام في سورة هود - والله الموفق ، وقد ابتدأ سبحانه في هذه الآية بنوح عليه الصلاة والسلام أول أولي العزم وأصحاب الشرائع وجوداً ، وهو من أوائل الأنبياء ، وزمانه في القدم بحيث لا يعلم مقداره على الحقيقة إلا الله تعالى ، ثم ثنى بثانيهم في الوجود وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم ذكر أولاده على ترتيبهم ، والأسباط يحتمل أن يراد بهم أولاد يعقوب عليه الصلاو والسلام أنفسهم وقبائلهم ، ويكون المعنى حينئذ : وأنياء الأسباط ، ويكون مما استعمل في حقيقته ومجازه ، ويكون شاملاً لجميع أنبياء بني إسرائيل ، ثم صرح ببعض من دخل منهم في العموم فبدأهم بآخرهم بعثاً وهو عيسى عليه الصلا والسلام الذي هو أحد نبي أهل الكتابي ، وختم الآية بأحد أصحاب الكتب منهم ، وهو جده المشهور بالنسبة إليه ، فإن اليهود يقولون لعيسى عليه الصلاة والسلام : يا ابن داود لأن أمه في ذريته ، وختم الآية بأول نبي أهل الكتابين موسى عليه الصلاة والسلام الذي آخر آدرّ تبنى على الإسلام ، فانتقله المنتمون إلى أتباعه ، ووسّط أخاه هارون عليه الصلاة والسلام بين اثنين من أهل البلاء : أيوب ويونس واثنين من أهل الملك - وأحدهم صاحب كتاب - وهما سليمان وداود ، وكل ذلك إشارة إلى أنه لا فرق في كيفية الإيحاء بحوما إلى الأنياء بين متقدمهم ومتأخرهم ، سواء كان من بني غسرائيل أو من غيرهم ، وسواء منهم من أوتي الملك ومن لم يؤته ، ومن أى بكتاب ومن لم يأت ؛ ومن لطائف هذا الترتيب أن المخصوصين بالذكر في الآية الأولى بعد دخولهم في العموم أحد عشر أسماء ، الأسباط أحدها ، والمشهور(2/371)
صفحة رقم 372
بالكتب والصحف منهم ثلاثة : إبراهيم وعيسى وداود ، وقد وقع كل منهم سادساً لصاحبه ، وهو العد الذي كان فيه الخلق ، فلعل ذلك إشارة إلى أن الله لا يحب العجلة ، فكما أنه لم يعجل في إنشاء الخلقن فلعل ذلك إشارة إلى أن الله لا يحب العجلة ، فكما أنه لم يعجل في إنشاء الخلق ، فكذلك لم يعجل بإنزال الكتب التي بها قوامهم وبقاؤهم دفعة ، بل أنزلها منجمة تبعاً لمصالحهم وتثبيتاً لدعائمهم ، ومن لطائفه أنه تعالى بدأ المذكورين ، وختمهم باثنين من أولي العزم اشتركا في أن كلاً منهما أهلك من عانده كنفس واحدة بالإغراء ، ترهيباً لهؤلاء الملبسين على أهل الإسلام بالباطل المدعين أ ، هم أتباع ، ووسّط بينهم وبين بقية المسمين عموم النبيين والمرسلين ، ولعله آخر الرسل ليفهم أن كل من عطفوا عليه مرسل ، ولأن رتبة النبوة قبل رتبة الرسالة ، بمعنى أنها أعم منها .
ولما سرد أسماء من دخل في العموم بدأهم بأشرفهم ثم بالأقرب إلى هذا النبي الكريم فالأقرب من المرتبين على حسب ترتيب الوجود ، إشارة إلى أنه سن به في الوحي سنة آبائه وإخوانهم وذرياتهم - والله أعلم .
النساء : ( 165 - 166 ) رسلا مبشرين ومنذرين. .. . .
) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ( ( )
ولما كان معظم رسالة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بشارة ونذارة ، قال مبيناً أنهم مثله في ذلك كما كانوا قبله في الوحي ، لأن المقصود من الإرسالة لجميع الرسل جمع الخلق بالبشارة والنذارة : ( رسلاً ) أي جعلناهم رسلاً ، ويجوز أن يكون بدلاً من ( رسلاً ) الماضي ، وأن يكون حالاً ، حال كونهم ) مبشرين ومنذرين ( ثم علل ذلك بقوله : ( لئلا يكون ) أي لينتفي أن يوجد ) للناس ) أي نوع مَنْ فيه قوة النوس .
ولما كانت الحجة قد تطلق على مطلق العذر ولو كان مردوداً ، عبّر بأداة الاستعلاء فقال : ( على الله حجة ) أي واجبة القبول على الملك الذي اختص بجميع صفات الكمال في أن لا يعذب عصاتهم ؛ ولما كان المراداستغراق النفي لجميع الزمان المتعقب للإرسال أسقط الجار فقال : ( بعد ) أي انتفى ذلك انتفى مستغرقاً لجميع الزمان الذي يوجد بعد إرسال ) الرسل ( وتبليغهم للناس ، ، ذلك على أن وجوب معرفته تعالى إنما يثبت بالسمع ، وأما نفس المعرفة والنظر والتوحيد فطريقها العقل ، فالمعرفة متلقاة من العقل ، والوجوب متلقى من الشرع والنقل .
ولما كان ذلك ربام أوهم أنه ربما امتنع عليه قبل ذلك سبحانه أخذ بحجة أو(2/372)
صفحة رقم 373
غيرها ، قال مزيلاً لذلك : ( وكان الله ) أي المستجمع لصفات العظمة ) عزيزاً ) أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، فهو قادر على ما طلبوه ، ولكنه لا يجب عليه شيء ، لأنه على سبيل اللجاج وهم غير معجزين ) حكيماً ) أي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ، فلذلك رتب أموراً لا يكون معها لأحد حجة ومن حكمتهأنه لا يجب المتعنت .
ولما لم يبق سبحانه لهم شبهة ، واستمروا على عنادهم ، أشار تعالى إلى ما تقديره : إنهم لا يشهدون لك عند اتضاح الأمر ، فقال : ( لكن ) أي ومع ماقام من البراهين على صدقك وكون كتابك من عند الله فهم لا يشهدون بذلك لكن ) الله ) أي الذي له الأمر كله فلا كفوء له ) يشهد ) أي لك ) بما أنزل إليك ) أي من هذا الكتاب المعجز الذي قد أخرس الفصحاء وأبكم البلغاء ، وفيه هذه الأحكام الصادقة لما عندهم وهم يريدون الإضلال عنها ، فشهادته ببلاغته وحكمته بصدق الآتي به هي شهادة الله لأنه قائله ، ولذلك عللل بقوله : ( أنزله بعلمه ) أي عالماً بإنزاله على الوجه المعجز مع كثرة المعارض فلم يقدر أحد ولا يقدر على إحداث شيء فيه من تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان ولا معارضة ) والملائكة ( أيضاً ) يشهدون ( بذلك لأنهم كانوا حضوراً إنزاله وأمناء على من كان منهم على يده ليبلغه - كما قال تعالى : ( ) فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ( ) [ الجن : 27 - 28 ] وهذا خطاب للعباد على حسب ما يعرفون .
ولما كان ربما أفهم نقصاً نفاه بقوله : ( وكفى بالله ) أي الذي له الكمال كله ) شهيداً ) أي وكفى بشهادته في ذلك شهادة عن شهادة غيره ، وذلك لأنه أنزل سبحانه شاهداً بشهادته ناطقاً بها لإعجازه بنظمه وبما فيه من علمه من الحِكَم والأحكام وموافقة كتب أهل الكتاب ، فشهادته بذلك هي شهادة الله ، وهي لعمر يلا تحتاج إلى شهادة أحد غيره .
النساء : ( 167 - 169 ) إن الذين كفروا. .. . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاَ بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ( ( )
ولما بين سبحانه أنه أقام الأدلة على صحته بالمعجزات ، صار كأنه شهد بحقيقتهن كان أنفع الأشياء اتباع ذلك بوصف من جحده في نفسه وصد عنه غيره زجراً عن مثل حاله وتقبيحاً لما أبدى من ضلاله فقال : ( إن الذين كفروا ) أي ستروا ما(2/373)
صفحة رقم 374
عندهم من العلم بصدقه بما دل عليه من شاهد العقل وقاطع النقل ، من اليهود وغيرهم ) وصدوا عن سبيل الله ) أي الملك الأعلى الذي لا امر لأحد معه بأنفسهم وبإضلال غيرهم بما يلقونه من الشبه من مثل هذه وقولهم كذباً : إن في التوراة أن شريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا تنسخ ، وقولهم : إن الأنبياء لا يكونون إلا من أبناء هارون وداود عليهما الصلاة والسلام ) قد ضلوا ) أي عن الطريق الموصل إلى مقصودهم في حسده ومنع ما يراد من إعلائه ) ضلالاً بعيداً ) أي لأن أشد الناس ضلالاً مبطل يعتقد أنه محق ، ثم يحمل غيره على مثل باطله ، فصاروا بحيث لا يرجى لهم الرجوع إلى الطريق النافع ، لا سيما إن ضم إلى ذلك الحسد ، لأن داء الحسد أدوأ داء ؛ ثم علل إغراقهم في الضلال بإضلاله لهم لتماديهم فيما تدعوا إليه نقيصة النفس من الظلم بقوله وعيداً لهم : ( إن الذين كفروا ) أي ستروا ما عندهم من نور العقل ) وظلموا ) أي فعلوا لحسدهم فعل الماشي في الظلام بإعراضهم وإضلالهم غيرهم ) لم يكن الله ) أي بجلاله ) ليغفر لهم ) أي لظلمهم ) ولا ليهديهم طريقاً ) أي لتضييعهم ما أتاهم من ور العقل ومنابذتهم ؛ ثم تهكم بهم بقوله : ( إلا طريق جهنم ) أي بما تجهموا مَنْ ظلموه .
ولما كان المعنى : فإنه يسكنهم إياها ، قال : ( خالدين فيها ) أي لأن الله لا يغفر الشرك ، وأكد ذلك بقوله : ( أبداً ( ولما كان ذلك مع ما لهم من العقول أمراً عجيباً قال تعالى : ( وكان ذلك ) أي الأمر العظيم من كفرهم وضلالهم وعذابهم ) على الله يسيراً ( اي أنه قادر على كلل شيء .
النساء : ( 170 - 171 ) يا أيها الناس. .. . .
) يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً يأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ( ( )
ولما وضح بالحجاج معهم الحق ، واستبان بمحو شبههم كلها من وجوه كثيرة الرشدُ ، وأوضح فساد طرقهم ، وأبلغ في وعيدهم ؛ أنتج ذلك صدق الرسول وحقيقة ما يقول : فأذعنت النفوس ، فكان أنسب الشياء أن عمم سبحانه في الخطاب لما وجب من اتباعه على وجه العموم عند بيان السبيل ونهوض الدليل ، فقال مرغباً مرهباً ) ياأيها الناس ) أي كافة ) قد جاءكم الرسول ) أي الكامل في في الرسلية الذي كان ينتظره أهل(2/374)
صفحة رقم 375
الكتاب لرفع الارتياب ملتبساً ) بالحق ) أي الذي يطابقه الواقع ، وستنظرون الوقائع فتطبقونها على ما سبق من الأخبار ، كائناً ذلك الحق ) من ربكم ) أي المحسن إليكم ، فإن اتبعتم رسوله قبلتم إحسانه ، فتمت نعمته عليكم ، ولهذا سبب عن ذلك قوله : ( فآمنوا ( ولما كان التقدير بما أرشد إليه السياق توعداً لهم : إن تؤمنوا يكن الإيمان ) خيراً لكم ( ، عطف عليه قوله : ( وإن تكفروا ) أي تستمروا على كفرانكم ، أو تجددوا كفراً ، يكن الكفران شراً لكم ، أي خاصاً ذلك الشر بكم ، ولا يضره في ذلك شيء ، ولا ينقصه من ملكه شيئاً ، كما أن الإيمان لم ينفعه شيئاً ولا زاد في ملكه شيئاًن لأن له الغنى المطلق ، وهذا معنى قوله : ( فإن الله ) أي الكامل العظمة ) ما في السموات والأرض ( فإنه نم إقامة العلة مقام المعلول ، ولم يؤكد بتكرير ( ما ) وإن كان الخطاب مع المضطرين ، لأن قيام الأدلة أوصل إلى حد من الوضوح بشهادة الله ما لا مزيد عليه ، فصار المدلول به كالمحسوس .
ولما كان التقدير : فهو غني عنكم ، وله عبيد غيركم لا يعصونه ، وهو قادر على تعذيبكم بإسقاط ما أراد من السماء ، وخسف ما أراد من الأرض وغير ذلك ، وكان تنعيم المؤالف وتعذيب المخالف تلقي النضيحة بالقبول دائراً على العلم وعلى الحكمة التي هي نتيجة العلم والقدرة قال : ( وكان الله ) أي الذي له الاختصاص التام بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً مع أن له جميع الملك ) عليماً ) أي فلا يسع ذا لب أن يعدل عما أخبر به من أن أمر هذا الرسول حق إذ هو لم يخبر به إلا عن تمام العلم ، ولا يخفى عليه عاص ولا مطيع ) حكيماً ( فلا ينبغي لعاقل أن يضيع شيئاً من أوامره لأنه لم يضعها إلا على كمال الأحكام ، فهو جدير بأن يحل بمخالفة أي انتقام ، ويثيب من أطاعه بكل إنعام .
ولما اقتضى السياق الأكمل فيما سبق إتمام أمر عيسى عليه الصلاة والسلام إذ كان الكلام في بيان عظيم جرأتهم وجفاءهم ، وكان ما فعلوا معه أدل دليل على ذلك ، وكان كل من أعدائه وأحبابه قد ضل في أمره ، وغلا في شأنه اليهود بخفضه ، والنصارى برفعه ؛ اقتضى قانون العلم والحكمة المشار إليهما بختام الآية السالفة بيان ما هو الحق من شأنه ودعاء الفريقين إليه فقال : ( ياأهل الكتاب ) أي عامة ) لا تغلوا في دينكم ) أي لا تفرطوا في أمره ، فتجاوزوا بسببه حدود الشرع وقوانين العقل ) ولا تقولوا على الله ) أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له شيئاً من القول ) إلا الحق ) أي الذي يطابقه الواقع ، فمن قال عن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لغير رشدة ، فقد أغرق في الباطل ، فإنه لو(2/375)
صفحة رقم 376
كان كذلك ما وقفت أمه للدوام على الطاعات ، ولا ظهرت عليها عجائب الكرامات ، ولا تكلم هو في المهد ، ولا ظهرت على لسانه ينابيع الحكمة ، ولا قدر على إحياء الموتى ، وذلك متضمن لأن الله تعالى العليم الحكيم أظهر المعجزات على يد من لا يحبه ، وذلك منافٍ للحكمة ، فهو كذب على الله بعيد عن تنزيهه ، ومن قال : إن الله أو ابن الله ، فهو أبطل وأبطل ، فإنه لو كان كذلك لما كان حادثاً ولما احتاج إلى الطعام والشراب وما ينشأ عنهما ، ولا قدر أحد على أذاه وثبتت الحاجة إلى الصاحبة للإله ، فلم يصلح للإلهية ، وذلك أبطل الباطل .
ولما ادعى اليهود أنه غير رسول ، والنصارى أنه إله ، حسن تعقيبه بقوله : ( إنما المسيح ) أي المبارك الذي هو أهل لأن يمسحه الإمام بدهن القدس ، لما فيه من صلاحية الإمامة ، وهو أهل أيضاً لأن يمسح الناس ويطهرهم .
لما له من الكرامة ، ولما ابتدأ سبحانه بوصفه الأشهر ، وكان قد يوصف به غيره بيّنه بقوله : ( عيسى ( ثم أخبر عنه بقوله : ( ابن مريم ( أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم ، لا يصح نسبته للبنوة إلى غيرها ، وليس هو الله ولا ابن الله - كما زعم النصارى ) رسول الله ( لا أنه لغير رشدة - كما كذب اليهود .
ولما كان تكّونه بكلمة الله من غير واسطة ذكر ، جعل نفس الكلمة فقال : ( وكلمته ( لأن كان بها من غير تسبب عن أب بل ، كوناً خارقاً للعوائد ) ألقاها ) أي تشريفاً بقوله : ( وروح ) أي عظيمة نفخها فيما تكّون في مريم من الجسد الذي قام بالكلمة ، لا بمادة من ذكر ، والروح هو النفخ في لسان العرب ، وهو كالريح إلا أنه أقوى ، بما له من الواو والحركة المجانسة لها ، ولغلبة الروح عليه كان يحيى الموتى إذا اراد ، وأكمل شرفه بقوله : ( منه ) أي وإن كان جبرئيل هو النافخ ، وإذا وصف شيء بغاية الطهارة قيل : روح ، لا سيما إن كان به حياة في دين أوبدن .
ولما أفضح بهذا الحق سبب عنه قوله : ( فآمنوا بالله ) أي الذي لا يعجزه شيء ، ولا يحتاج إلى شيء ) ورسله ) أي عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره عامة ، من غير إفراط ولا تفريط ، ولا تؤمنوا ببعض ولا تكفروا ببعض ، فإن ذلك حقاً هو الكفر الكامل - كما مر .
ولما أمرهم بإثبات الحق نهاهم عن التلبس بالباطل فقال : ( ولا تقولوا ) أي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ) ثلاثة ) أي استمروا أيها اليهود على التكذيب بما تقول فيه النصارى ، ولا تقولوا : إنه متولد من أب وأم لغير رشدة - المقتضي للتثليث ، (2/376)
صفحة رقم 377
وارجعوا أيها النصارى عن التثليث الذي تريدون به أن الإله بثلاثة وإن ضممتم إليه أنه إله واحد ، لأن ذلك بديهي البطلان ، فالحاصل أنه نهى كلاً عن التثليث وإن كان المراد أن به مختلِفَين ، وإنما العدل فيه أنه ابن مريم ، فهما اثنان لا غير ، وهو عبدالله ورسوله وكلمته وروح منه .
ولما نهاهم عن ذلك بصيغة النهي صرح به في مادته مرغباً مرهباً في صيغة الأمر بقوله : ( انتهوا ) أي عن التثليث الذي نسبتموه إلى الله بسببه ، وعن كل كفر ، وقد أرشد سياق التهديد إلى أن التقدير : إن تنتهوا يكن الانتهاء ) خيراً لكم ( ولما نفى أن يكون هو الله ، كما تضمن قولهم ، حصر القول فيه سبحانه في ضد ذلك ، كما فعل في عيسى عليه الصلاة والسلام فقال : ( إنما الله ) أي الذي له الكمال كله ؛ ولما كان النزاع إنما هو في الوحدانية من حيث الإلهية ، لا من حيث الذات قال : ( إله واحد ) أي لا تعدد فيه بوجه .
ولما كان المقام عظيماً زاد في تقديره ، فنزهه عما قالوه فقال : ( سبحانه ) أي تنزه وبعد بعداً عظيماً وعلا علواً كبيراً ) أن ) أي عن أن ) يكون له ولد ) أي كما قلتم أيها النصارى فإن ذلك يقتضي الحاجة ، ويقتضي التركيب والمجانسة ، فلا يكون واحداً ؛ ثم علل ذلك بقوله : ( له ) أي لأنه إله واحد لا شريك له له ) مافي السموات ( وأكد لأن المقام له فقال : ( وما في الأرض ) أي خلقاً ومِلكاَ ومُلكاً ، فلا يتصور أن يحتاج إلى شيء منهما ولا إلى شيء متحيّز فيهما ، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزءاً منه وولداً له ، وعيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام من ذلك ، وكل منهما محتاج إلى ما في الوجود .
ولما كان معنى ذلك أنه الذي دبرهما وما فيهما ، لأن الأرض في السماء ، وكل سماء في التي فوقها ، والسابعة في الكرسي ، والكرسي في العرش ، وهو ذو العرش العظيم لا نزاع في ذلك ، وذلك هو وظيفة الوكيل بالحقيقة ليكفي من وكله كل ما يهمه ؛ كان كأنه قيل : وهو الوكيل فيهما وفي كل ما فيهما في تدبير مصالحكم ، فبنى عليه قوله : ( وكفى بالله ) أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ) وكيلاً ) أي يحتاج إليه كل شيء ، ولا يحتاج هو إلى شيء ، وإلا لما كان كافياً .
النساء : ( 172 - 174 ) لن يستنكف المسيح. .. . .
) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ(2/377)
صفحة رقم 378
وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ) 73
( ) 71
ولما كان الوكيل من يقوم مقام الموكل ، ويفعل ما يعجز عنه الموكل ، وكان الله تعالى لا يعجزه شيء ، ولا يحتاج إلى شيء ، وكان عيسى عليه الصلاة السلام لا يدّعى القدرة على شيء إلا بالله ، وكان يحتاج إلى النوم وإلى الأكل والشرب وإلى ما يستلزمانه ، صح أنه عبدالله فقال سبحانه دالاً على ذلك : ( لن يستنكف ) أي يطلب ويريد أن يمتنع ويأبى ويستحي ويأنف ويستكبر ) المسيح ) أي الذي ادعوا فيه الإلهية ، وأنفوا له من العبودية لكونه خلق من غير ذكر ، ولكونه أيضاً يخبر ببعض المغيبات ، ويحيي بعض الأموات ، ويأتي بخوارق العادات ) أن ) أي من أن ) يكون عبداً لله ) أي الملك الأعظم الذي عيسى عليه الصلاة والسلام من جملة مخلوقاته ، فإنه من جنس البشر في الجملة وإن كان خلقه خارقاً لعادة البشر ) ولا الملائكة ) أي الذي هم أعجب خلقاً منه في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى ولا ما يجانس عنصر البشر ، فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً ، وهم لا يستنكفون بذلك عن أن يكونوا عباد الله .
ولما كان التقريب مقتضياً في الأغلب للاستحقاق ، وكان صفة عامة للملائكة قال : ( المقربون ) أي الذين هم في حضرة القدس ، فهم أجدر بعلم المغيبات وإظهار الكرامات ، وجبرئيل الذي هو أحدهم كان سبباً في حياة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وقد ادعى بعض الناس فيهم الإلهية أيضاً ، وبهذا طاح استدلال المعتزلة بهذه الآية على أفضلية الملك على البشر بأن العادة في مثل هذا السياق الترقي من الأدنى إلى الأعلى بعد تسليم مدعاهم ، لكن في الخلق لا في المخلوق .
ولما أخبر تعالى عن خلّص عباده بالتشرف بعبوديته أخبر عمن يأبى ذلك ، فقال مهدداً محذراً موعداً : ( ومن يستنكف ) أي من الموجودات كلهم ) عن عبادته ( ولما كان الاستنكاف قد يكون بمعنى مجرد الامتناع لا كبراً ، قال مبيناً للمراد من معناه هنا : ( ويستكبر ) أي يطلب الكبر عن ذلك ويوجده ، لأن مجدرد الامتناع لا يستلزمه .
ولما كان الحشر عاماً للمستكبر وغيره كان الضمير في ) فسحشرهم ( عائداً على العباد المشار إليهم بعبداً وعبادته ، ولا يستحسن عوده على ( مَنْ ) لأن التفصيل يأباه ، والتقدير حينئذ : فسيذلهم لأنه سيحشر العباد ) إليه جميعاً ) أي المستكبرين وغيرهم بوعد لا خلف فيه لأن الكل يموتون ، ومن مات كان مخلوقاً محدثاً قطعاً ، ومن كان مقدوراً على ابتدائه وإفنائه كانت القدرة على إعادته أولى ، والحشر : الجمع بكره .(2/378)
صفحة رقم 379
ولما عم بالحشر المستكبرين وغيرهم جاء التفصيل إلى القسمين فقال : ( فأما الذين آمنوا ) أي أذعنوا الله تعالى وخضعوا له ) واعملوا الصالحات ( تصديقاً لإقرارهم بالإيمان ) فيوفيهم أجورهم ) أي التي جرت العادات بينكم أن يُعطَوها وإن كانوا في الحقيقة لا يستحقونها ، لأن الله تعالى هو الذي وفقهم لها ، فهي فضل منه عليهم ) ويزيدهم ) أي بعد ما قضيت به العادات ) من فضله ) أي شيئاً لا يدخل تحت الحصر لأنه ذو الفضل العظيم ) وأما الذين استنكفوا واستكبروا ) أي طلبوا كلاً من الإباء والكبر ) فيعذبهم عذاباً أليماً ) أي بما وجدوا من لذاذة الترفع والكبر ، وآلموا بذلك أولياء الله ) ولا يجدون لهم ) أي حالاً ولا مآلاً ) من دون الله ( الي لا أمر لا ؛ د معه ) ولياً ) أي قريباً يصنع معهم ما يصنع القريب ) ولا نصيراً ) أي وإن كان بعيداً ، وفي هذا أتم زاجر عما قصده المنافقون من موالاة أهل الكتاب ، وأعظم نافٍ لما منّوهم إياه مما لهم وزعموا من المنزلة عند الله ، المقتضية أن يقربوا من شاؤوا ، ويبعدوا من شاؤوا ، وهو من أنسب الأشياء لختام أول الآيات المحذرة منهم
77 ( ) وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً ( ) 7
[ النساء : 45 ] ولما أزاح شبه جميع المخالفين من سائر الفرق : اليهود والنصارى والمنافقين ، وأقام الحجة عليهم ، وأقام الأدلة القاطعة على حشر جميع المخلوقات ، فثبت أنهم كلهم عبيده ؛ عمّ في الإرشاد لطفاً منه بهم فقال : ( ياأيها الناس ) أي كافة أهل الكتاب وغيرهم .
ولما كان السامع جديراً بأن يكون قد شرح صدراً بقواطع الأدلة بكلام وجيز جامع قال : ( قد جاءكم برهان ) أي حجة نيّرة واضحة مفيدة لليقين التام ، وهو رسول مؤيد بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها ) من ربكم ) أي المحسن إليكم بإرسال الذي لم تروا قط إحساناً إلا منه .
ولما كان القرآن صفة الرحمن أتى بمظهر العظمة فقال : ( وأنزلنا ) أي بما لنا من العظمة والقدرة والعلم والحكمة على الرسول الموصوف ، منتهياً ) إليكم نوراً مبيناً ) أي واضحاً في نفسه موضحاً لغيره ، وهو هذا القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه بين تحقيق النقل وتبصير العقل ، فلم يبق لأحد من المدعوين به نوع عذر ، والحاصل أنه سبحانه لما خلق لللآدمي عقلاً وأسكنه نوراً لا يضل ولا يميل مهما جرد ، ولكنه سبحانه حفّه بالشهوات والحظوظ والملل والفتور ، فكان في أغلب أحواله قاصراً إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ألحقه سبحانه بهم ؛ أنزل كتبه بذلك العقل مجرداً عن كل عائق ، وأمرهم أن يجعلوا عقولهم تابعة له منقادة به ، لأنها مشوبة ، وهو مجرد لا شوب فيه بوجه .(2/379)
صفحة رقم 380
النساء : ( 175 - 176 ) فأما الذين آمنوا. .. . .
) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ( )
ولما أشار في هذه الآية إلى الرسول الأصفى والنبي الأهدى ، المجبول على هذا العقل الأقوم الأجلي ، والكتاب الأتم الأوفى ، الجاري على هذا القانون الأعلى ، الوافي تعبيره الوجيز بأ ؛ كام الأولى والأخرى ، الكفيل سياقه وترتيب آياته بوضوح الأدلة وظهور الحجج ؛ أخذ يقسم المنذرين فقال تعالى : ( فأما الذين آمنوا بالله ) أي الذي اتضح أنه لا أمر لأحد معه في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه بما دل عليه قاطع البرهان ) واعتصموا به ) أي جعلوه عصاماً لهم في الفرائض التي هي من أعظم مقاصد هذه السورة ، يربطهم ويضبطهم عن أن يضلوا بعد الهدى ، ويرجعوا من الاسبتصار إلى العمى ، لأن العصام هو الرابط للوعاء أن يخرج شيء مما فيه ، وصيغة الافتعال تدل على الاجتهاد في ذلك ، لأن النس داعية إلى الإهمال المنتج للضلال ) فسيدخلهم ) أي بوعد لا خلف فيه ، ولعل السين ذكرت لتفيد مع تحقيق الوعد الحثَّ على المثابرة والمداومة على العمل إشارة إلى عزة ما عنده سبحانه ) في رحمة منه ) أي ثواب عظيم هو برحمته لهم ، لا بشيء استوجبوه ، وأشار إلى البر على ما تقتضيه أعمالهم لو كانت لهم بقوله : ( وفضل ) أي عظيم يعلمون أنه زيادة ، لا سبب لهم فيها ) ويهديهم ) أي في الدنيا والآخرة ) إليه صراطاً ) أي عظيماً واضحاً جداً ) مستقيماً ) أي هو مرشد قومه ، كأنه طالب لتقويم نفسه ، فهو يوصلهم لا محالة إلى وعجه بما يحفظهم في سرهم وعلنهم ، يستجلي أنوار عالم القدس في أرواحهم وتوفيقهم لاتباع ما هدت إليه من أمر الفرائض وغيرها ، فقد أتى - كما ترى - بأما المقتضية للتقسيم لا محالة ، وأتى بأحد القسمين المذكورين في الآية التي قبلها ، ووصفهم بالاعتصام بالله في النصرة وقبول جميع أحكامه في الفرائض غيرها ، وافقت أهويتهم أو خالفتها ، تعريضاً للمنافقين الذين والوا غيرهم ، وبالكافرين الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وترك القسم الآخر وهو قسم المستنكفين والمستكبرين ، ووضع موضعه حكماً من أحكام الفرائض المفتتح بها السورة التي هي من أعظم مقاصدها من غير حرف عطف ، بل بكمال الاتصال ، فقال منكراً عليهم تركير السؤال عن النساء والأطفال بعد شافي المقال ، مبيناً أنه قد هدى في ذلك كله أقوم طريق : ( يستفتونك ) أي يسألونك أن تفتيهم ، أي أن تبين لهم بما عندك(2/380)
صفحة رقم 381
من الكرم والجود والسخاء ما انغلق عليهم وانبهم لديهم سره من حكم الكلالة ، وللاعتناء بأمر المواريث قال إشارة إلى أن الله لم يكل أمرها إلى غيره : ( قل الله ) أي الملك الأعظم ) يفتيكم في الكلالة ( وهو من لا ولد له ؛ ولا والد روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله عنه قال : آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت ) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ( ( ، وقال الأصبهاني عن الشعبي : اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة ، فقال أبو بكر : هو ما عدا الوالد ، وقال عمر : ما عدا الوالد والولد ، ثم قال عمر : إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر رضي الله عنه ؛ ثم استأنف قوله : ( إن امرؤ هلك ) أي وهو موصوف بأنه ، أو حال كونه ) ليس له ولد ) أي وإن سفل سواء كان ذكراً أو أنثى عند إرث النصف ، وليس له أيضاً والد ، فإ ، كان له أحدهما لم يسم كلالة وقد بينت ذلك السنة ؛ قال الأصبهاني : وليسا بأول حكمين بُينَ أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر ، والأب أولى من الأخ ( ) و ( الحال أنه ) له أخت ) أي واحدة من أب شقيقة كانت أو لا ، لأنه سيأتي أن أخاها يعصبها ، فلو كان ولد أم لم يعصب ) فلها نصف ما ترك وهو ) أي وهذا الأخ الميت ) يرثها ) أي إن ماتت هي وبقي هو ، جميع مالها ) إن لم يكن لها ولد ) أي ذكراً كان أو أنثى - كما مر في عكسه ، هذا إن أريد بالإرث جميع المال ، وإلا فهو يرث مع الأنثى كما أنها هي أيضاً ترث مع الأنثى - كما يرشد إليه السياق أيضاً - دون النصف .
ولما بين الأمر عند الانفراد أتبعه بيانه عند الاجتماع ، وقدم أقله فقال : ( فإن كانتا ) أي الوارثتان ببيان السياق لهما وإرشاده إليهما ؛ ةولما أضمر ما دل عليه السياق ، وكان الخبر صالحاً لأن يكون : صالحتين ، أو صغيرتين ، أو غير ذلك ؛ بين أن المراد - كما يرشد إليه السياق أيضاً - مطلق العدد على أي وصف اتفق فقال : ( اثنتين ) أي من الأخوات للأب شقيقتين كانتا أو لا ) فلهما الثلثان مما ترك ( فإن كانت شقيقتين كان لكم منهما ثلث ، وإن اختلفتا كان للشقيقة النصف وللتي للأب فقط السدس تكملة الثلثين .
ولما بين أقل الاجتماع أتبعه ما فوقه فقال : ( وإن كانوا ) أي الوارث ) إخوة ( أي(2/381)
صفحة رقم 382
مختلطين ) رجالاً وسناء فللذكر ) أي منهم ) مثل حظ الأنثيين ( وقد أنها سبحانه ما أراد من بيان إرث الأخوة لأب ، فتم بذلك جميع أحوالما أراد من الإرث ، وهو على وجازته كما ترى - يحتمل مجلدات - والله الهادي ، ووضع هذه الآية هنا - كما تقدم - إشارة منه إلى أن من أبى توريث النساء والصغار الذي تكرر الاستفتاء عنه فقد استنكف عن عبادته واستكبر وإن آمن بجميع ما عداه من الأحكام ، ومن استنكف عن حكم من الأحكام فذاك هو الكافر حقاً ، وهذا مراد شياطين أهل الكتاب العارفين بصحة هذه الأحكام ، الحاسدين لكم عليها ، المريدين لضلالكم عنها لتشاركوهم في الشقاء الذي وقع لهم لما بدلوا الأحكام المشار إليهم بعد ذكر آيات الميراث وما تبعها من أحوال النكاح بقوله :
77 ( ) يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ( ) 7
[ النساء : 26 ] وقوله :
77 ( ) ويريد الذي يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ( ) 7
[ النساء : 27 ] ثم المصرح بهم في قوله :
77 ( ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم ( ) 7
[ النساء : 44 ] ولذلك - والله أعلم - ختم هذه الآية بقوله : ( يبين الله ) أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ) لكم ) أي ولم يكلكم في هذا البيان إلى بيان غيره ، وقال مرغباً مرهباً : ( أن ) أي كراهة أن ) تضلوا والله ) أي الذي له الكمال كله ) بكل شيء عليم ) أي فقد بين لكم بعلمه ما يصلحكم بيانه محياًَ ومماتاً دنيا وأخرى ، حتى جعلكم على المحجة البيضاء في مثل ضوء النهار ، لا يزيغ عنها منكم إلا هالك ، والحاصل أن تأخير هذه الآية إلى هنا لما تقدم من أن تفريق القول فيما تأباه النفوس وإلقاءه شيئاً فشيئاً باللطف والتدريج أدعى لقبوله ، وللإشارة إلى شدة الاهتمام بأمر الفرائض بجعل الكلام فيها في جميع السورة أولها وأثنائها وآخرها ، والتخويف من أن يكون حالهم كحال المنافقين في إضلال أهل الكتاب لهم بإلقاء الشبهة الاهتمام بأمر الفرائض بجعل الكلام فيها في جميع السورة أوائلهم ، وأشربته قلوهبم ، والترهيب من أن يكونوا مثلهم في افيمان ببعض والكفر ببعض ، فيؤديهم ذلك إلى إكمال الكفر ، لأن الدين لا يتجزأ ، بل من كفر بشيء منه كفر به جميعه ، ومن هنا ظهرت مناسبة آخر هذه السورة لأولها ، لأن أولها مشير إلى أن الناس كلهم كشيء واحد ، وذلك يقتضي عدم الفرق بينهم إلا فيما شرعه الله ، وآخرها مشير إلى ذلك بالتسوية بين النساء والرجال في مطلق التوريث بقرب الأرحام وإن اختلفت الأنصباء ، فكأنه قيل : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ، وسوى بينهم فيما أراد من الأحكام فإنه من استكبر - ولو عن حكم من أحكامه - فسيجازيه يوم الحشر ، ولا يجد له من دون(2/382)
صفحة رقم 383
الله ناصراً ؛ ولا يخفى عليه شيء من حاله ، وما أشد مناسبة ختامها بإحاطة العلم لما دل عليه أولها من تمام القدرة ، فكان آخرها دليلاً على أولها لأن تمام العلم مستلزم لشمول القدرة ، قال الإمام : وهذان الوصفان هما اللذان بهما ثبتت الربوية والإلهية والجلال والعزة ، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاًَ للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف - انتهى .
ولختام أول آية فيها بقوله :
77 ( ) إن الله كان عليكم رقيباً ( ) 7
[ النساء : 1 ] أي وهو بكل شيء من أحوالكم وغيرها عليم ، فلا تظنوا أنه يخفى عليه شيء وإن دقَّ ، فليشتد حذركم منه ومراقبتكم له ، وذلك أشد شيء مناسبة لأول المائدة - والله الموفق بالضواب ، وإليه المرجع والمآب .
.. .. .(2/383)
صفحة رقم 384
اللهم يسر يا كريم يا حليم قال الشيخ الإمام العالم العامل العلامة ، الحبر البحر الفهامة ، المتقن الحافظ الضابط المجاهد في سبيل الله المرابط ، برهان الدين لسان الله من الأولى والأخرى ما يتمناه ، جعل الفردوس مقره ومأواه بمحمد وآله .
سورة المائدة
المائدة : ( 1 ) يا أيها الذين. .. . .
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( ( )
مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب ، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمة ، وقصة المائدة أدل ما فهيا على ذلك ، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب ، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار .
) بسم الله ) أي الذي تمت كلماته فصدقت وعوده وعمت مكرماته ) الرحمن ( الذي عم بالدعاء إلى الوفاء في حقوقه وحقوق مخلوقاته ) الرحيم ( الذي نظر إلى القلوب فثبت منها على الصدق ما جبّله على التخلق بصفاته .
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله ) ) وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ( ) [ الأنعام : 146 ] ، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأ ، ه شامل العلم ، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب ، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه ، وتخصيصهم مشير إلى أن(2/384)
صفحة رقم 385
من فوقهم من الأسنان عنده ما يغنيه عن الحمل ، وذلك أبعث له على التدبر والأمثال ) ياأيها الذين آمنوا ) أي ادعوا ذلك بألسنتهم ) أوفوا ) أي صدقوا ذلك أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره ، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود ، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك ، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر ، وأما غير ذلك فليس بعقد ، بل حل بيد الشرع القوية ، تذكيراً بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك
77 ( ) اذكروا نعمتي وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ( ) 7
[ البقرة : 40 ] وإخباراً لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك ، فقال على سبيل التعليل مشيراً إلى أن المقصود من النعمة كونها ، لا بقيد فاعل مخصوص ، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه المقصود من النعمة كونها ، لا بقيد فاعل مخصوص ، وإلى أن ) بهيمة ( وبينها بقوله : ( الأنعام ) أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها ، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا ، فيحرم عليكم ما حرم عليهم ، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم ، ولا تعترضوا على نبيكم ، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا ، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل ، وسيأتي في قوله :
77 ( ) لا تسئلوا عن أشياء ( ) 7
[ المائدة : 101 ] ما يؤيد هذا .
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة ، وهي في الأصل كل حي لا يميز ، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة : ( إلا ما يتلى عليكم ) أي في بهيمة الأنعام أنه محرم ، فإنه لم يحل لكم ، ونصب ) غير محلي الصيد ( على الحال أدل دليل على أن هذا السياق .
وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر - فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت ، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال ، فإن تركتموها انتفى الإحلال ، وهذه مشرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان
77 ( ) ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ( ) 7
[ النساء : 119 ] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً ، وفصّلو فيه تفاصيل - كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى :
77 ( ) ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ( ) 7
[ المائدة : 103 ] الآية ، وكذا في آخر الأنعام ، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من(2/385)
صفحة رقم 386
تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق ، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء - التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث ، المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم .
أتم مناسبة ، وقال ابن الزبير : لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم ، ومن تنكب عن نهجهم ، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين ، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً ، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله : ( الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم والشهادة سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، والحج سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وقد خاب من لا سهم له ) قلت : وهذا الحديث أخرجه البزاز عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم ) فذكره ، وصحح الدارقطني وقفه ، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قالك ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الإسلام عشرة أسهم ، وقد خاب من لا سهم له : شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهي الملة ، والثانية : الصلاة وهي الفطرة ، والثالثة : الزكاة وهي الطهور ، والرابعة : الصوم وهي الجنة ، والخامسة : الحج وهي الشريعة ، والسادسة : الجهاد وهي الغزوة ، والسابعة : الأمر بالمعروف وهو الوفاء والثامنة : النهي عن المنكر وهي الحجة ، والتاسعة : الجماعة وهي الألفة ، والعاشرة : الطاعة وهي العصمة ( وفي سنده من ينظر في حاله ؛ قال ابن الزبير : وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بني الإسلام على خمس ) أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن(2/386)
صفحة رقم 387
عمر وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ( قال ابن الزبير : وقد تحصلت - أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس - فيما مضى ، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه ، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود ) ) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ( ) [ المائدة : 13 ] وكان النقض كل مخالفة ، قال الله تعالى لعباده المؤمنين : ( ) ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ( ) [ المائدة : 1 ] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود ، فحذر المؤمنين - انتهى .
والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر ، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال : ( وأنتم حرم ) أي أحلت البهيمة مطلقاً إلا ما يتلى عليكم من ميتاتها وغيرها في غير حال الدخول في الإحرام بالحج أو العمرة أو دخول الحرم ، وأما في حال الإحرام فلا يحل الصيد أكلاً ولا فعلاً .
ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها ، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها ، والأزلام والذبح على النصب ، وأخذ الإنسان بجريمة الغير ، والفساد في الأرض ، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر - إلى غير ذلك ؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا ، وختم الآية بقوله معللاً : ( إن الله ) أي ملك الملوك ) يحكم ما يريد ) أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام ، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد ، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره ، فما فهمتم حكمته فذاك ، وما لا فكلوه إليه ، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته ؛ قال الإمام - وهذا هو الذي يقوله أصحابنا : إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية ، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة .
المائدة : ( 2 ) يا أيها الذين. .. . .
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا(2/387)
صفحة رقم 388
آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ ) 73
( ) 71
ولما استثنى بعض ما أحل على سبيل الإبهام شرع في بيانه ، ولما كان منه ما نهى عن التعرض له لا مطلقاً ، بل ما يبلغ محله ، بدأ به لكونه في ذلك كالصيد ، وقدم على ذلك عموم النهي عن انتهاك معالم الحج المنبه عليه بالإحرام ، أو عن كل محرم في كل مكان وزمان ، فقال مكرراً لندائهم تنويهاً بشأنهم وتنبيهاً لعزائمهم وتذكيراً لهم بما ألزموه أنفسهم : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي دخلوا في هذا الدين طائعين ) لا تحلو شعائر الله ) أي معالم حج بيت الملك الأعظم الحرام ، أو حدوده في جميع الدين ، وشعائر الحج أدخل في ذلك ، والاصطياد أولاها .
ولما ذكر ما عممه في الحرم أو مطلقاً ، أتبعه ما عممه في الزمان فقال : ( ولا الشهر الحرام ) أي فإن ذلك لم معاقداً على احترامه في الجاهلية والإسلام ، ولعله وحده والمراد الجمع إشارة إلى أن الأشهر الحرم كلها في الحرمة سواء .
ولما ذكر الحرم والأشهر الحرم ذكر ما يهدى للحرم فقال : ( ولا الهدي ( وخص منه أشرفه فقال : ( ولا القلائد ) أي صاحب القلائد من الهدي ، وعبر بها مبالغة في تحريمه ؛ ولما أكد في احترام ما قصد به الحرم من البهائم رقّى الخطاب إلى من قصده من العقلاء ، فإنه مماثل لما تقدمه في أن قصد البيت الحرام حامٍ له وزاجر عنه ، مع ما زاد به من شرف العقل فقال : ( ولا آمين ) أي ولا تحلوا التعرض لناس قاصدين ) البيت الحرام ( لأن من قصد بيت الملك كان محترماً باحترام ما قصده .
ولما كان المراد القصد بالزيارة بقوله : ( يبتغون ) أي حال كونهم يطلبون على سبيل الاجتهاد ) فضلاً من ربهم ) أي المحسن إليهم شكراً لإحسانه ، بأن يثيبهم على ذلك ، لأن ثوابه لا يكون على وجه الاستحقاق الحقيقي أصلاً ؛ ولما كان الثواب قد يكون مع السخط قال : ( ورضواناً ( وهذا ظاهر في المسلم ، ويجوز أن يراد به أيضاً الكافر ، لأن قصده البيت الحرام على هذا الوجه يرق قلبه فيهيئه للإسلام ، وعلى هذا فهي منسوخة .
ولما كان التقدير : فإن لم يكونوا كذلك .
أي في أصل القصد ولا في وصفه - فهم حل لكم وإن لم تكونوا أنتم حرماً ، والصيد حلال لكم ، عطف عليه التصريح بما أفهمه التقييد فيما سبق بالإحرام فقال : ( وإذا حللتم ) أي من الإحرام بقضاء المناسك(2/388)
صفحة رقم 389
والإحصار ) فاصطادوا ( وترك الشهر الحرام إذ كان الحرام فيه حراماً في غيره ، وإنما صرح به تنويهاً بقدره وتعظيماً لحرمته ، ثم أكد تحريم قاصد المسجد الحرام وإن كان كافراً ، وإن كان على سبيل المجازاة بقوله : ( ولا يجرمنكم ) أي يحملنكم ) شنئان قوم ) أي شدة بغضهم .
ولما ذكر البغض أتبعه سببه فقال : ( إن ( على سبيل الاشتراط الذي يفهم تعبير الحكم به أنه سيقع ، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، والتقدير في قراءة الباقين بالفتح : لأجل أن ) صدوكم ) أي في عام الحديبية أو غيره ) عن المسجد الحرام ) أي على ) أن تعتدوا ) أي يشتد عوكم عليهم بأن تصدوهم عنه أو بغير ذلك ، فإن المسلم من لم يزده تعدي عدوه فيه حدود الشرع إلا وقوفاً عند حدوده ، وهذا قبل نزول ) ) إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ( ) [ التوبة : 28 ] سنة تسع .
ولما نهاهم عن ذلك ، وكان الانتهاء عن الحظوظ شديداً على النفوس ، وكان لذلك لا بد في الغالب من منتهٍ وآبٍ ، أمر بالتعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال : ( وتعاونوا على البر ( وهو ما اتسع وطاب من حلال الخير ) والتقوى ( وهي كل ما يحمل على الخوف من الله ، فإنه الحامل على البر ، فإن كان منكم من اعتدى فتعاونوا على رده ، وإلا فازدادوا بالمعاونة خيراً .
ولما كان المعين على الخير قد يعين على الشر قال تنبيهاً على الملازمة في المعاونة على الخير ، ناهياً أن يغضب الإنسان لغضب أحد من صديق أو قريب إلا إذا كان الغضب له داعياً إلى بر وتقوى : ( ولا تعانوا على الإثم ) أي الذنب الذي يستلزم الضيق ) والعدوان ) أي المبالغة في مجاوزة الحدود والانتقام والتشفي وغير ذلك وكرر الأمر بالتقوى إشارة إلى أنها الحاملة على كل خير فقال : ( واتقوا ) أي الذي له صفات الكمال لذاته فلا تتعدوا شيئاً من حدوده ؛ ولما كان كف النفس عن الانتقام وزجرها عن شفاء داء الغيظ وتبريد غلة الاحن في غاية العسر ، ختم الآية بقوله : ( إن الله ) أي الملك الأعظم ) شديد العقاب (
المائدة : ( 3 ) حرمت عليكم الميتة. .. . .
) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( )(2/389)
صفحة رقم 390
ولما أتم الكلام على احترام أعظم المكان وأكرم الزمان وما لابسهما ، فهذب النفوس بالنهي عن حظوظها ، وأمر بعد تخليتها عن كل شر بتحليتها بكل خير عدّد على سبيل الاستئناف ما وعد بتلاوته عليهم مما حرم مطلقاً إلا في حال الضرورة فقا : ( حرمت ( بانياً الفعل للمفعول لأن الخطاب لمن يعلم أنه لا محرم إلا الله ، وإشعاراًَ بأن هذه الأشياء لشدة قذارتها كأنها محرمة بنفسها ) عليكم الميتة ( وهي ما فقد الروح بغير ذكاة شرعية ، فإن دم كل ما مات حتف أنفه يحبس في عروقه ويتعفن ويفسد ، فيضر أكله البدن بهذا الضرر الظاهر ، والدين بما يعلمه أهل البصائر ) والدم ) أي المسفوح ، وهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ) ولحم الخنزير ( خصة بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارة أكله كالدين ) وما أهل ( ولما كان القصد في هذه السورة إلى حفظ محكم العهود المذكر بجلاله الباهر ، قدم المفعول له فقال : ( لغير الله ) أي الملك الأعلى ) به ) أي ذبح على اسم غيره نم صنم أو غيره على وجه التقرب عبادة لذلك الشيء ، والإهلاك : رفع الصوت .
ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره ، نص عليه فقال : ( والمنخنقة ) أي بحبل ونحوه ، سواء خنقها أو لا ) والموقوذة ) أي المضروبة بمثقل ، منك وقذه - إذا ضربه ) والمتردية ) أي الساقطة من عال ، المضطربة غالباً في سقوطها ) والنطيحة ) أي التي نطحها فماتت ) وما أكل السبع ) أي كالذئب والنسر ونحوهما .
ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى ، استثنى فقال : ( إلا ما ذكيتم ) أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة ، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم ؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة ، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال : ( ما ذبح على النصب ( وهو واحد الأنصاب ، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب ، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها ) وأن تستقسموا ) أي تطلبوا على ما قسم لكم ) بالأزلام ) أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة ، على واحد : أمرني ربي ، وعلى آخر : نهاني ربي ، والآخر غفل ، فإن خرج الآمر فعل ، أو الناهي ترك ، أو الغفل أجيلت ثانية ، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه ، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح .(2/390)
صفحة رقم 391
وقال صاحب كتاب الزينة : يقال : إنه كانت عندهم سبعة قداح مستوية من شوحط ، وكانت بيد السادن ، مكتوب عليها ( نعم ) ( لا ) ( منكم ) ( من غيركم ) ( ملصق ) ( العقل ) ( فضل العقل ) فكانوا إذا اختلفوا في نسب الرجل جاؤوا إلى السادن بمائة درهم ، ثم قالوا للصنم : يا إلهنا قد تمارينا في نسب فلان ، فأخرج علينا الحق فيه ، فتجال القداح فإن خرج القدح الذي عليه ( منكم ) كان أوسطهم نسباً ، وإن خرج الذي عليه ( من غيركم ) كان حليفاً وإن خرج ( ملصق ) كان على منزلته لا نسب له ولا حلف ، وإذا أرادوا سفراً أو حاجة جاؤوا بمائة فقالك يا إلهناَ أردنا كذا ، فغ ، خرج ( نعم ) فعلوا ، وإن خرج ( لا ) لم يفعلوا ، وإن جنى أحدهم جناية ، فاختلفوا فيمن يحمل العقل جاؤوا بمائة فقالوا : يا إلهنا فلان جنى عليه ، أخرج الحق ، فإن خرج القدح الذي عليه ( العقل ) لزم من ضرب عليه وبرىء الآخرو ، وإن خرج غيره كان على الآخرين العقل ، وكانوا إذا عقلوا العقل ففضل الشيء منه تداروا فيمن يحمله ، فضربوا عليه ؛ فإن خرج القدح الذي عليه ( فضل العقل ) للذي ضرب عليه لزمه ، وإلا كان على الآخرين الذين لم يضرب عليهم فهذا الاستقسام الذي حرمه الله لأنه يكون عند الأصنام ويطلبون ذلك منها ، ويظنون أن الذي أخرج لهم ذلك هو الصنم ، وأما إجالة السهام لا على هذا الوجه فهو جائز ، هو وتساهم واقتراع لا استقسام وقال أبو عبيدة : واحد الأزلام زلم - بفتح الزاء ، وقال بعضهم بالضم وهو القدح لا ريش له ولا نصل ، فإذا كان مريَّشاً فهو السهم - والله أعلم ؛ ويجوز أن يراد مع هذا ما كانوا يفعلونه في الميسر - على ما مضى في البقرة ، فإنه طلب معرفة ما قسم من الجزور ، ويلتحق بالأول كل كهانة وتنجيم ، وكل طيرة يتطيرها الناس الآن من التشاؤم ببعض الأيام وبعض الأماكن والأحوال ، فإياك أن تعرج على شيء من الطيرة ، فتكون على شعبة جاهلية ، ثم إياك .
ولما كانت هذه الأشياء شديدة الخبث أشار إلى تعظيم النهي عنها بأداة البعد وميم الجمع فقال : ( ذلكم ) أي الذي ذكرت لكم تحريمه ) فسيق ) أي فعله خروج من الدين .
ولما كانت هذه المنهيات معظم دين أهل الجاهلية ، وكان سبحانه قد نهاهم قبلها عن إحلال شعائر الله والشهر الحرام وقاصدي المسجد الحرام بعد أن كان أباح لهم ذلك في بعض الأحوال والأوقات بقوله
77 ( ) وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - ولا تقتلوهم عند(2/391)
صفحة رقم 392
المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ( ) 7
[ البقرة : 191 ]
77 ( ) الشهر الحرام بالشهر الحرام ( ) 7
[ البقرة : 194 ]
77 ( ) واقتلوهم حيث ثقفتموهم ( ) 7
[ البقرة : 191 ] علم أن الأمر بالكف عن انتهاز الفرص إنما هو للأمن من الفوت ، وذلك لا يكون إلا من تمام القدرة ، وهو لا يكون إلا بعد كمال الدين وإظهاره على كل دين - كما حصل به الوعد الصادق ، وكذا الانتهاء عن جميع هذه المحارم إنما يكون لمن رسخ في الدين قدمه ، وتمكنت فيه عزائمه وهممه ، فلا التفات له إلى غيره ولا همه إلى سواه ، ولا مطمع لمخالفه فيه ، فعقب سبحانه النهي عن هذه المناهي كلها بقوله على سبيل النتيجة والتعليل : ( اليوم ) أي وقت نزول هذه الآية ) يئس الذين كفروا ) أي لابسوا الكفر سواء كانوا راسخين فهي أو لا ) من دينكم ) أي لم يبق لكم ولا لأحد منكم عذر في شيء من إظهار الموافقة لهم أو لاتستر من أحد منهم ، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كاتبهم ليحمي بذلك ذوي رحمه ، لأن الله تعالى قد كثركم بعد القلة ، وأعزكم بعد الذلة ، وأحيى بكم منار الشرع ، وطمس معالم شرع الجهل ، وهدّ منار الضلال ، فأنا أخبركم - وأنتم عالمون بسعة علمي - أن الكفار قد اضمحلت قواهم ، وماتت هممهم ، وذلت نخوتهم ، وضعفت عزائمهم ، فانقطع رجاؤهم عن أن يغلبوكم أو يستميلوكم إلى دينهم بنوع استمالة ، فإنهم رأوا دينكم قد قامت منائره ، وعلت في المجامع منابره ، وضرب محرابه ، وبرّك بقواعده وأركانه ، ولهذا سبب عما مضى قوله : ( فلا تخشوهم ) أي أصلاً ) واخشون ) أي وامحضوا الخشية لي وحدي ، فإن دينكم قد أكمل بدره ، وجل عن المحلق محله وقدره ، ورضي به الآمر ، ومكنه على رغم أنف الأعداء .
وهو قادر على ذلك ، وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا ، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع ، نصاً على البعض ، وبياناً لطريق القياس في الباقي ، وذلك بيان لجميع الأحكام ، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملاً لكنه بغير هذا المعنى ، بل إلى حين إلى هذه يزيد فيه سبحانه ما يشاء ، فيكون به كاملاً أيضاً وأكمل مما مضى ، وهكذا إلى هذه النهاية ، وكان هذا هو المراد من قوله : ( وأتممت عليكم نعمتي ) أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول ، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل ، ليظهر بهم الدين ، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ) ورضيت لكم الإسلام ) أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة ) ديناً ((2/392)
صفحة رقم 393
تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم ؛ روى البخاري في المغازي وغيره ، ومسلم في آخر الكتاب ، والترمذي في التفسير ، والنسائي في الحج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال : أي آية ؟ قال : ( اليوم أكملت لكم دينكم ( فقال عمر رضي الله عنه : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة ) وفي التفسير من البخاري عن طارق بن شهاب ( قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً ، فقال عمر : إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أنزلت ) وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده ، قلت : ويوم الجمعة هو اليوم الذي أتم الله فيه خلق هذه الموجودات بخلق آدم عليه السلام بعد عصره ، وهو حين نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى ، فكانت تلك الساعة من ذلك اليوم تماماً ابتداء ، وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : ( لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما يبكيك يا عمر ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فإذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، قال : صدقت ( فكانت هذه الآية نعي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً وقد روي أنه كان هجيري النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم عرفة من العصر إلى الغروب شهد الله أنه لا إله إلا هو - الآية ، وكأن ذلك(2/393)
صفحة رقم 394
كان جواباً منه ( صلى الله عليه وسلم ) لهذه الآية ، لفهمه ( صلى الله عليه وسلم ) أن إنزال آية سر الإسلام وأعظمه وأكمله ، وهذه الآية من المعجزات ، لأنها إخبار بمغيب صدقها فيه الواقع .
ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد ، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة ، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة ؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات ، فقال مسبباً عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين : ( فمن اضطر ) أي ألجىء إلجاء عظيماً - من أي شيء كان - إل تناول شيء مما مضى أنه حرم ، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه ) في مخمصة ) أي مجاعة عظيمة ) غير متجانف ) أي متعمد ميلاً ) لإثم ) أي بالأكل على غير سد الرمق ، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه بضرب قهر ، وزاد بعد هذا التقييد تخويفاً بقوله : ( فإن الله ) أي الذي له الكمال كله ) غفور رحيم ) أي يمحو عنه إثم ارتكابه للمنهي ولا يعاقبه عليه ولا يعاتبه ويكرمه ، بأن يوسع عليه من فضله ، ولا يضطره مرة أخرى - إلى غير ذلك من الإكرام وضروب الأنعام .
المائدة : ( 4 ) يسألونك ماذا أحل. .. . .
) يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ( )
ولما تقدم إحلال الصيد وتحريم الميتة ، وختم ذلك بهذه الرخصة ، : وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد أمر بقتل الكلاب ( وكان الصيد ربما مات في يد الجارح قبل إدراك ذكاته ، سأل بعضهم عما يحل من الكلاب ، وبعضهم عما يحل من ميتة الصيد إحلالاً مطلقاً لا بقيد الرخصة ، إذ كان الحال يقتضي هذا السؤال ؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن أبي رافع رضي الله عنه قال : ( أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتل الكلاب ، فقال الناس : يا رسول الله ما أحل لان من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فأنزل الله تعالى : ( يسئلونك ( ( .(2/394)
صفحة رقم 395
ولما كان هذا إخباراً عن غائب قال : ( ماذا أحل لهم ( دون ) لنا ( قال الواحدي : أي من إمساك الكلاب وأكل الصيود وغيرها ، أي من المطاعم ، ثم قال الواحدي : رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه ، وذكر المفسرون شرح هذه القصة ، قال : قال أبو رافع رضي الله عنه : جاء جبريل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستأذن عليه ، فأذن له فلم يدخلن فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : قد أذنا لك قال : أجل يا رسول الله ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب ، فنظر فإذا في بعض بيوتهم جرو ، قال أبو رافع : فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلباً إلا قتلته ، حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته ، فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فلما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأمر الكلاب جاء أناس فقالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا نم هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه ، وأمر بقتل الكلاب الكلب والعقور ما يضر ويؤذي ، ورفع القتل عما سواها مما لا ضر فيه ، وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين رضي الله عنهما ، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زيد الخير ، وذلك أنهما جاءا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالا : ( يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت : ( يسئلونك ( الآية ) الطيبات ( يعني الذبائح ، و ) الجوارح ( الكواسب من الكلاب وسباع الطير ( انتهى .
فإذا أريد كون الكلام على وجه يعم قيل : ( قل ( لهم في جواب من سأل ) أحل ( وبناه للمفعول طبق سؤالهم ولأن المقصود لا كونه من معين ) لكم الطيبات ) أي الكاملة(2/395)
صفحة رقم 396
الطيب ، فلا خبث فيها بنوع تحريم ولا تقذر ، من ذوي الطباع السليمة مما لم يرد به نص ولا صح فيه قياس ، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرمونه على أنفسهم من السائبة وما معها ، وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم ) وما ( وهو على حذف مضاف للعلم به ، فالمعنى : وصيد ما ) علمتم من الجوارح ) أي التي من شأنها أن تجرح ، أو تكون سبباً للجرح وهو الذبح ، أو من الجرح بمعنى الكسب
77 ( ) ويعلم ما جرحتم بالنهار ( ) 7
[ الأنعام : 60 ] وهو كواسب الصيد من السباع والطير ، فأحل إمساكها للقنية وصيدها وشرط فيه التعليم ، قال الشافعي : والكلب لا يصير معلماً إلا عند أمور : إذا أشلى استشلى ، وإذا زجر انزجر وحبس ولم يأكل ، وإذا دعي أجاب ، وإذا أراده لم يفر منه ، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم ، ولم يذكر حداً لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من نص ولا إجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف ، وبنى الحال من الكلاب وإن كان المراد العموم ، لأن التأديب فيها أكثر فقال : ( مكلبين ) أي حال كونكم متكلفين تعليم هذه الكواسب ومبالغين في ذلك ، قالوا : وفائدة هذه الحال أن يكون المعلم نحريراً في علمه موصوفاً به ، وأكد ذلك بحال أخرى أو استئناف فقال : ( تعلمونهن ( وحوشاً كنَّ أو طيوراً ) مما علمكم الله ) أي المحيط بصفات الكمال من علم التكليب ، فأفاد ذلك أن على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدهم دراية له وأغواصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل ، فكم من آخذ من غير متقن قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النجارين إبهامه ثم سبب عن ذلك قوله : ( فكلوا ( .
ولما كان في الصيد من العظم وغيره ما لا يؤكل قال : ( مما أمسكن ) أي الجوارح مستقراً إمساكها ) عليكم ) أي على تعليمكم ، لا على جبلتها وطبيتعها دون تعليمكم ، وذلك هو الذي لم يأكلن منه وإن مات قبل إدراك ذكاته ، وأما ما أمسك الجارح على أي مستقراً على جبلته وطبعه ، ناظراً فيه إلى نفاسه نفسه فلا يحل ) واذكروا اسم الله ) أي الذي له كل شيء ولا كفوء له ) عليه ) أي على ما أمسكن عند إرسال الجارح أو عند الذبح إن أدركت ذكاته ، لتخالفوا سنة الجاهلية وتأخذوه من مالكه ، وقد صارت نسبة هذه الجملة .
كما ترى .
إلى
77 ( ) حرمت عليكم الميتة ( ) 7
[ المائدة : 3 ] نسبة المستثنى إلى المستثنى منه ، وإلى مفهوم غير محلي الصيد وأنتم حرم نسبة الشرح .
ولما كان تعليم الجوارح أمراً خارجاً عن العادة في نفسه وإن كان قد كثر ، حتى صار مألوفاً ، وكان الصيد بها أمراً تُعجب شرعته وتهز النفوس كيفيتُه ، ختم الآية بما هو خارج عن عادة البشر وطرقها من سرعة الحساب ولطف العلم بمقدار الاستحقاق من(2/396)
صفحة رقم 397
الثواب والعقاب ، فقال محذراً من إهمال شيء مما رسمه : ( واتقوا ) أي حاسبوا أنفسكم واتقوا ) الله ) أي عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء فيما أدركتم ذكاته وما لم تدركوها ، وما أمسكه الجارح عليكم وما أمسكه على نفسه .
إلى غير ذلك من أمور الصيد التي لا يقف عندها إلا من غلبت عليه مهابة اله واستشعره خوفه ، فاتقاه فيما أحل وما حرم ، ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ) أي الجامع لمجامع العظمة ) سريع الحساب ) أي عالم بكل شيء وقادر عليه في كل وقت ، فهو قادر على كل جزاء يريده ، لا يشغله أحد عن أحد ولا شأن عن شأن .
المائدة : ( 5 - 6 ) اليوم أحل لكم. .. . .
) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ( )
ولما كان قد تقدم النهي عن نكاح المشركات ، والمنافرة لجميع أصناف الكفار ، وبيان بغضهم وعداوتهم ، والحث على طردهم ومنابذتهم ) ) هآأنتم أولاء تحبونهم ( ) [ آل عمران : 119 ] ونحوها لضعف الأمر إذ ذاك وشدة الحاجة إلى إظهار الفظاظة والغلظة لهم لتعظيم دين الله ، حتى كانت خلطتهم من أمارات النفاق .
كما سيأتي في كثير من آيات هذه السورة ، وكان الدين وصل عند نزولها من العظمة إلى حد لا يحتاج في إلى تعظيم معظم ، وكانت مخالطة أهل الكتاب لا بد منها عند فتوح البلاد التي وعد الصادق بهان وسبق في الأزل علمها ، فكانت الفتنة في مخالطتهم قد صارت في حد الأمن وسّع الأمر بحل طعامهم ونسائهم ، فقال تعالى مكرراً ذكر الوقت الذي أنزل فيه هذه الآيات ، تنبيهاً على عظم النعمة فيه بتذكر ما هم فيه من الكثرة والأمن والجمع والألفة ، وتذكر ما كانوا فيه قبل ذلك من القلة والخوف والفرقة ، فقال معيداً لصدر الآية التي قبلها إعلاماً بعظم النعمة فيه ، ومفيداً بذكر وقت الإحلال أنه إحلال مقصود به الثبات ، لكونه يوم إتمام النعمة فهو غير الأول : ( اليوم ( .(2/397)
صفحة رقم 398
ولما كان القصد إنما هو الحل ، لا كونه من محل معين ، مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله ، بني الفعل للمجهول فقال : ( أحل ) أي ثبت الإحلال فلا ينسخ أبداً ) لكم ) أي أيها المؤمنون ) الطيبات ) أي التي تقدم في البقرة وصفها بالحل لزوال الإثم وملاءمة الطبع ، فهي الكاملة في الطيب .
ولما كان الطيبات أعم من المآكل قال : ( وطعام الذين ( ولما كان سبب الحل الكتاب ، ولم يتعلق بذكر مؤتيه غرض ، بني الفعل للمجهول فقال : ( أوتوا الكتاب ) أي مما يصنعونه أو يذبحونه ، وعبر بالطعام الشامل لما ذبح وغيره وإن كان المقصود المذبوح ، لا غيره ، ولا يتخلف حاله من كتابي ولا غيره تصريحاً بالمقصود ) حل لكم ) أي تناوله لحاجتكم ، أي مخالطتهم للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية ، ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختراوا لأنفسهم زاده تأكيداً بقوله : ( وطعامكم حل لهم ) أي فلا عليكم في بذله لهم ولا عليهم في تناوله .
ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها ، وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم ، وكانت المطاعم حلالاً من الجانبين والمناكح من جانب واحد قال : ( والمحصنات ) أي الحرائر ) من المؤمنات ( ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب فقال : ( والمحصنات ) أي الحرائر ) من الذين أوتوا الكتاب ( وبنى الفعل للمفعول للعلم بمؤتيه مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض .
ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي ، أثبت الجار فقال : ( من قبلكم ) أي وهم اليهود والنصارى ، وعبر عن العقد بالصداق للملابسة فقال مخرجاً للأمة لأنها لا تعطى الأجر وهو الصداق ، لأنها لا تملكه بل يعطاه سيدها : ( إذا آتيتموهن أجورهن ) أي عقدتم لهن ، ودل مساق الشرط على تأكد وجوب الصداق ، وأن من تزوج وعزم على عدم الإعطاء ، كان في صورة الزاني ، وورد فيه حديث ، وتسميته بالأجر تدل على أنه لا حد لأقله .
ولما كان المراذ بالأجر المهر ، وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضاً ، بينه بقوله : ( محصنين ) أي قاصدين الإعفاف والعفاف ) غير مسافحين ) أي قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهاراً ) ولا متخذي أخذان ) أي صدائق لذلك في السر ، جمع خدن ، وهو يقع على الذكر والأنثى ، فكانت هذه الآية مخصصة لقوله تعالى
77 ( ) ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ( ) 7
[ البقرة : 221 ] فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهن من جميع المشركات حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام ، وصرح هنا بالمؤمنات المقتضي لهن قوله تعالى في النساء(2/398)
صفحة رقم 399
77 ( ) وأحل لكم ما وراء ذلكم ( ) 7
[ النساء : 24 ] وقوله
77 ( ) ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات ( ) 7
[ النساء : 25 ] ولعل ذكر وصف الإحصان الواقع على العفة للتنبيه على أنه لا يقصد المتصفة بغيره لمجرد الشهوة إلا من سلب الصفات البشرية ، وأخلد إلأى مجرد الحيوانية ، فصار في عداد البهائم ، بل أدنى ، مع أن التعليق بذلك الوصف لا يفهم الحرمة عند فقده ، بل الحل من باب الأولى ، لأن من حكم مشروعية النكاح الإعفاف ، فإذا شرع إعفاف العفائف كان شرع إعفاف غيرهن أولى ، لأن زناها إما لشهوة أو حاجة ، وكلاهما للنكاح مدخل عظيم في نفيه .
والله أعلم .
ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة ، وكانت الفتنة .
وإن علا الدين روسخ الإيمان واليقين .
لم تنزل عن درجة الإمكان ، وكانت الصلاة تسمى إيماناً لأنها من أعظم شرائعه
77 ( ) وما كان الله ليضيع إيمانكم ( ) 7
[ البقرة : 143 ] أي صلاتكم ، وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ، فإن صلحت صلح سائر عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله ) وله في الأوسط أيضاً بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ( وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها ، ولهذا أنزلت آية
77 ( ) حافظوا على الصلاة ( ) 7(2/399)
صفحة رقم 400
[ البقرة : 238 ] كما مضى بالمحل الذي هي به ، لما كان ذلك كذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى منفرداً من نكاحهن بعد إحلاله ، إشارة إلى أن الورع ابتعد عنه ، امتثالاً للآيات الناهية عن موادة المحاد لئلا يحصل ميل فيدعو إلى المتابعة ، أو يحصل ولد ، فتستميله لدينها : ( ومن ) أي أحل لكم ذلك والحال أنه من ) يكفر ) أي ويوجد ويجدد الكفر على وجه طمأنينة القلب به والاستمارا عليه إلى الموت ) بالإيمان ) أي بسبب التصديق القلبي بكل ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب ، الذي منه حل الكتابيات ، فيدعوه ذلك إلى نكاحهن ، فتحمله الخلطة على اتباع دينهن ، فيكفر بسبب ذلك التصديق فيكفر بالصلاة التي يلزم من الكفر بها الكفر به ، فإطلاقه عليها تعظيم لها
77 ( ) وما كان الله ليضيع إيمانكم ( ) 7
[ البقرة : 143 ] أي صلاتكم ) فقد حبط ) أي فسد ) عمله ) أي إذا اتصل ذلك بالموت بدليل قوله : ( وهو في الآخرة من الخاسرين ( والآية من أدلة إمانا الشافعي على استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ، فحيث قصد التحذير من الكفر حقيقة فالإيمان حقيقة وحيث أريد الترهيب من إضاعة الصلاة فهو مجاز ، ومما يؤيد ذلك أن في السفر الثاني من التوراة : لا تعاهدن سكان الأرض لكيلا تضلوا بأوثانهم ، وتذبحوا لآلهتهم ، أو يدعوك فتأكل من ذبائحهم ، وتزوج بنيك من بناتهم وبناتك من بنيهم ، فتضل بناتك خلف آلهتهم ويضل بنوك بىلهتهم ، وقال في الخامس منها : وإذا أدخلكم الله ربنا الأرض التي تدخلونها لترثوها ، وأهلك شعوباً كثيرة من بين أيديكم : حتانيين وجرجسانيين وأمورانيين وكنعانيين وفرزانيين وحاوانيين ويابسانيين .
سبعة شعوب أكثر وأقوى منكم ، ويدفعهم الله ربكم في أيديكم فاضربوهم واقتلوهم وانفوهم وحرموهم ولا تعاهدوا عهداً ولا ترحموهم ، وتحاشوهم ولا تزوجوا بناتكم من بنيهم ، ولا تزوجوا بنيكم من بناتهم لئلا يغوين بنيكم عن عبادتي ، ويخدعنهم فيعبدوا آلهة أخرى ، ويشتد غضب الرب عليكم ويهلككم سريعاً ، ولكن اصنعوا بهم هذا الصنيع : استأصلوا مذابحهم ، وكسروا أنصابهم ، وحطموا أصنامهم المصبوغة ، وأحرقوا أوثانهم المنحوتة ، لأنكم شعب طاهر لله ربكم - انتهى .
وإذا تأملت جميع ذلك ، وأمعنت فيه النظر لاح لك سرُّ تعقيبها بقوله تعالى في سياق مشير إلى البشارة بأن هذه الأمة تطيع ولا تعصى فتؤمن ولا تكفر ، لما خص به كتابها من البيان الأتم في النظم المعجز مع شرف التذكير بما أفاضه من شرف جليل الأيادي ، فاتتح هذه السورة بالأمر باوفاء بحق الربوبية ، وأتبعه التذكير بما وفى به سبحانه من حق الربوبية من نوع المنافع في لذة المطعم وتوابعه ولذة المنكح وتوابعه ، وقدم المطعم لأن الحاجة إليه فوق الحاجة إلى المنكح ، فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه ، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية ، وقدم(2/400)
صفحة رقم 401
منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان ، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا به صدقوه بأنكم ) إذا ( عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة ) قمتم ) أي بالقوة ، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام ) إلى الصلاة ) أي جنسها محدثي ، لما بينه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل ، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى
77 ( ) اليوم أكملت لكم دينكم ( ) 7
[ المائدة : 3 ] الثابت أنها نزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد عصر يوم عرفة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ناقته يخطب ، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما : ( ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم ) رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة والترمذي عن جابر رضي الله عنه ، فقوله ( المصلون ) إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة ، فما دامت قائمة فهو زائل ، ومتى زالت والعياذ بالله ورجع ، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بين العبد والكفر ترك الصلاة ( وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر ) ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن أول ما افترض الهل على الناس من دينهم الصلاة ، وآخر ما يبقى الصلاة ( .(2/401)
صفحة رقم 402
ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً ، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله ، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن بالوضوء تبع للأمر بالصلاة ، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط : ( فاغسلوا ) أي لأجل إرادة الصلاة ، ومن هنا يعلم وجوب النية ، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً ، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية ) وجوهكم ( وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً ، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة ، لأنه من الحرج ، وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية ، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب ) وأيديكم ( ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب وروؤس الأصابع ، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين ، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم : ( إلى المرافق ) أي آخرها ، أخذاً من بيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بفعله ، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه ، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدل كقوله تعالى
77 ( ) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ( ) 7
[ الإسراء : 1 ] وتارة لا تدخل كقوله تعالى
77 ( ) ثم أتموا الصيام إلى اللّيل ( ) 7
[ البقرة : 187 ] والمرفق ملتقى العظمين ، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً ) وامسحوا ( ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس ، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه ، بل أتى بالباء فقال : ( برءوسكم ( علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس ، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح .
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه ، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً ، قرىء : ( وأرجلكم ( بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب ، قال في القاموس : المسح كالمنع : إمارا اليد على(2/402)
صفحة رقم 403
الشيء السائل .
فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك ، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل .
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها ، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل - كما مضى في المرافق ، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأسابع ، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل : ( إلى الكعبين ( وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين ، ولو قيل : إلى الكعاب ، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل - كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده ، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب ، لأن عادة العرب - كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب - أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب ، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب : ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة ، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضاً ، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء ، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض ، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما ، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم ، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض ، لظهور الكافر وغلبتهم ، كما كان المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها ، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة ، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج ، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة ، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه ، عاطفاً على ما تقديره : هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر : ( وإن كنتم ) أي حال القصد للصلاة ) جنباً ) أي منين باحتلام أو غيره ) فاطهروا ) أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن ، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء .
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء ، وبدأ بالوضوء لعمومه ، ذكر الطهارة رخصة بالتراب ، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة : ( وإن كنتم مرضى ) أي بجراح أو غيره ، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب ) أو على سفر ( طويل أو قصير كذلك ، ولما ذكر(2/403)
صفحة رقم 404
الأكبر أتبعه الأصغر فقال ) أو جاء أحد منكم ( وهو غير جنب ) من الغائط ) أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي ، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها ، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره .
كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح ، فغضب وقال : كأنك ما تعرفني ؟ فقال بلى والله إني لأعرفك ، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة .
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال : ( أو لمستم النساء ) أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا ) فلم تجدوا ماء ) أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره ) فتيمموا ) أي اقصدوا قصداً متعمداً ) صعيداً ) أي تراباً ) طيباً ) أي طهوراً خالصاً ) فامسحوا ( ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته ، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة ، وبينت السنة أن المراد جميع العضو ، فقال : ( بوجوهكم وأيديكم منه ) أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم ، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً : ( ما يريد الله ) أي الغنى الغنى المطلق ) ليجعل عليكم ( وأغرق في النفي بقوله : ( من حرج ) أي ضيق علماً منه بضعفكم ، فسهل عليكم ما كان عسرة على من كان قبلكم ، وإكراماً لكم لأجل نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم ) ولكن يريد ليطهركم ) أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه ، عقلتم معناه أو لا ، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن ) وليتم نعمته ) أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص ، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال ) عليكم ( لأجل تسهيلها ، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به ، إلا لمن لج طبعه في العوج ، وتمادى في الغواية والجهل والبطر ) لعلكم تشكرون ) أي وفعل ذلك كله .
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه ، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت :(2/404)
صفحة رقم 405
( خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء .
وفي رواية : سقط قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة ، فأناخ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونزل ، فثنى رأسه في حجري راقداً .
فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال : حبست النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قلادة ، فبي الموت لمكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد أوجعني ، ثم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت ) ) ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ( ) [ المائدة : 6 ] ، وفي رواية : فأنزل الله آية التيمم ) فتيمموا ( فقال أسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم ، وفي رواية : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته ( وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أمساء قلادة فهلكت ، فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ناساً من أصحابه في طلبها ، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أم رقط إلا جعل الله لك منه مخرجاً ، وجعل للمسلمين فيه بركة ) وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء ، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكيم ومزيد الامتنان به ، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجناية نص خاص ، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به .
المائدة : ( 7 - 8 ) واذكروا نعمة الله. .. . .
) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ( )
ولما كان في هذه المأمورات والمنهيات خروج عن المألوفات ، وكانت الصلاة أوثق عرى الدين ، وكان قد عبر عنها بالإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الأعمال ، (2/405)
صفحة رقم 406
عطف عليها قوله تذكيراً بما يوجب القبول والانقياد : ( واذكروا ) أي ذكر اتعاظ وتأمل واعتبار .
ولما كان المقصود من الإنعام غايته قال : ( نعمة الله ) أي الملك الأعلى ) عليكم ) أي في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة نم النار فأنقذكم منها ، وفي غير ذلك من جميع النعم ، وإنما لم تجمع لئلا يظن أن المقصود تعداد النعم ، لا الندب إلى الشكر بتأمل أن هذا الجنس لا يقدر عليه غيره سبحانه وعظَّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما يستحقه بجعل فعله سبحانه فعله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( وميثاقه ) أي عقده الوثيق ) الذي واثقكم به ) أي بواسطة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ) إذ ) أي حين ) قلتم سمعنا وأطعنا ( وفي ذلك تحذر من مثل ما أراد بهم شاس بن قيس ، وتذكير بما أوجب له ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم من الشكر بهدايته لهم إلى الإسلام المثمر لالتزام تلك العهود ليلة العقبة الموجبه للوفاء الموعود عليه الجنة ، والتفات إلى قوله أول السورة
77 ( ) أوفوا بالعقود ( ) 7
[ المائدة : 1 ] وحديث إسباغ الوضوء على المكاره مبيّن لحسن هذه التناسب .
ولما كان أمر الوفاء بالعهد صعباً ، لا يقوم به إلا من صدقت عريقته وصلحت سريرته ، وإنما يحمل عليه خافة الله قال : ( واتقوا الله ) أي اجعلوا بينكم وبين ما يغضب الملك الأعظم .
الذي يفعل ما يشاء .
من نقض العهد وقاية من حسن القيام ، لتكونوا في أعلى درجات وعيه ، ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله : ( إن الله ) أي الذي له صفات الكمال ) عليم ) أي بالغ العلم ) بذات الصدور ) أي أحوالها من سرائرها وإن كان صاحبها لم يعلمها لكونها لم تبرز إلى الوجود ، وعلانيتها وإن صاحبها قد نسيها .
ولما تقدم القيام إلى الصلاة ، وتقدم ذكره الأزواج المأمور فيهن بالعدل في أول النساء وأثنائها ، وكان في الأزواج المذكورات هنا الكافرات ، ناسب تعقيب ذلك بعد الأمر بالتقوى بقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان ، ولما كان العدل في غاية الصعوبة على الإنسان ، فكان لذلك يحتاج المتخلق به إلى تدريب كبير ليصير صفة(2/406)
صفحة رقم 407
راسخة ، عبر بالكون فقال تعالى : ( كونوا قوّامين ( اي مجتهدين في القيام على النساء اللاتي أخذتموهن بعهد الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وعلى غيرهن في الصلاة وغيرها من جميع الطاعات التي عاهدتم على الوفاء بها .
ولما كان مبنى السورة على الوفاء بالعهد الوثيق ، وكان الوفاء بذلك إنما يخف على النفوس ، ويصح النشاط فيه ، ويعظم العزم عليه بالتذكير بجلالة موثقة وعدم انتهاك حرمته ، لأن المعاهد إنما يكون باسمه ولحفظ وحده ورسمه ، قدم قوله : ( لله ) أي الذي له الإحاطة بكل شيء .
بخلاف ما مضى في النساء .
ولما كان من جملة المعاقد عليه ليلة العقبة ( ليلة تواثقوا على الإسلام ) أن يقولوا الحق حيث ما كانوا ، لا يخافون في الله لومة لائم ، قال : ( شهداء ) أي متيقظين محضرين أفهامكم غاية الإحضار بحيث لا يسد عنها شيء مما تريدون الشهادة به ) بالقسط ) أي العدل ، وقال الإمام أبو حيان في نهره : إن التي جاءت ي سورة النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدأ فيها باقسط الذي هو العدل ولاسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاحن ، فبدىء فيها بالقيام بله إذ كان الأمر بالقيام لله أولاً أردع للمؤمنين ، ثم أردف بالشهادة بالعدل ، فالتي يف معرض المحبة والمحاباة بدىء فيها بما هو آكد وهو القسط ، والتي في معرض العدواة والشنآن ، بدىء فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض ما جيء به إليه ، وأيضاُ فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله
77 ( ) ولن تستطيعوا أن تعدلوا ( ) 7
[ النساء : 129 ] وقوله
77 ( ) فلا جناح عليهما أن يصالحا ( ) 7
[ النساء : 128 ] فناسب ذكر تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط .
انتهى .
ولما كان أمر بهذا الخبر ، نهى مما يحجب عنه فقال : ( ولا يجرمنكم ) أي يحملنكم ) شنئان قوم ) أي شدة عداوة من لهم قوة على القيام في الأمور من المشركين ، بحيث يخشى من إهمالهم ازدياد قوتهم ) على ألا تعدلوا ) أي أن تتركوا قصد العدل ، وهو يمكن أن يدخل فيه بغض أهل الزوجة الكافرة أو ازدراؤها في شيء من حقوقها لأجل خسة دينها ، فأمروا بالعدل حتى بين هذه المرأة الكافرة وضرّاتها المسلمات ، وإذا كان هذا شأن الأمر به في الكافر فما الظن به في المسلم ؟ ثم استأنف(2/407)
صفحة رقم 408
قوله آمراً بعد النهي تأكيداً لأمر العدل : ( اعدلوا ) أي تحروا العدل واقصدوه في كل شيء حتى في هذه الزوجات وفيمن يجاوز فيكم الحدود ، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم ، فإن الذي منعكم من التجاوز وفيمن يجاوز فيكم الحدود ، فكلما عصوا الله فيكم أطيعوه فيهم ، فإن الذي منعكم من التجاوز خوفه يريكم من النصرة وصلاح الحال ما يسركم .
ولما كان ترك قصد العدل قد يقع لصاحبه العدل اتفاقاً ، فيكون قريباً نم التقوى ، قال مستأنفاً ومعللاً : ( هو ) أي قصد العدل ) أقرب ) أي من ترك قصده ) للتقوى ( والإحسان الذي يتضمنه الصلح أقرب من العدل إليها ، وتعدية ) أقرب ( بالام دون إلى المقتضية لنوع بعد زيادة في الترغيب - كما مر في البقرة ؛ ولما كان الشيء لا يكون إلا بمقدماته ، وكان قد علم من هذا أن العدل مقدمة التقوى ، قال عاطفاً على النهي أو على نحو : فاعدلوا : ( واتقوا الله ) أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية بالإحسان فضلاً عن العدل ، ويؤيد كون الآية ناظرة إلى النكاح مع ما ذكر ختام آية الشقاق التي في أول النساء بقوله ) ) إن الله كان عليماً خبيراً ( ) [ النساء : 35 ] ، وختام قوله تعالى في أواخرها وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو اعراضاً بقوله ) فإن الله كان بما تعملون خبيراً ( وختام هذه بقوله معللاً لما قبله : ( إن الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) خبير بما تعملون ( لأن ما بين الزوجين ربما دق علمه عن إدراك غير العليم الخبير ؛ وقالو أبو حيان : لما كان الشنآن محله القلب ، وهو الحامل على ترك العدل ، أمر بالتقوى وأتى بصفة ) خبير ( ومعناها عليم ولكنها مما تختص بما لطف إدراكه انتهى .
) وشهداء ( يمكن أن يكون من الشهادة التي هي حضور القلب - كما تقدم من قوله ) ) أو ألقى السمع وهو شهيد ( ) [ ق : 37 ] وأن يكون من الشهادة المتعارفة ، ويوضح المناسبة فيها مع تأييد إرادتها كونها بعد قوله ) ) إن الله عليم بذات الصدور ( ) [ آل عمران : 119 ] ومع قوله تعالى : ( ) ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ( ) [ البقرة : 283 ] وختام آية النساء التي في الشهادة بقوله : ( ) وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً ( ) [ النساء : 135 ] كما ختمت هذه بمثل ذلك .
المائدة : ( 9 - 12 ) وعد الله الذين. .. . .
) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً(2/408)
صفحة رقم 409
لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ) 73
( ) 71
ولما أمر سبحانه ونهى ، بشر وحذر فقال : ( وعد الله ) أي الملك الذي له الكمال المطلق فله كل شيء ) الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ) وعملوا ( تصديقاً لهذا الإقرار ) الصالحات ( وترك المفعول الثاني أقعد في باب البشارة ، فإنه يحتمل كل خير ، وتذهب النفس في تحريزه كل مذهب .
ولما كان الموعود في صيغة دالة على الثبات والاختصاص : ( لهم مغفرة ) أي لما فرط منهم لما طبع الإنسان عليه من النقص نسياناً أو عمداً ، بعمل الواجبات إن كان صغيرة ، وبالتوبة إن كان كبيرة ، وفيه إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ؛ ولما أمنهم بالتجاوز أتبعه الجود بالعطاء فقال ) وأجر ) أي على قدر درجاتهم من حسن العمل ) عظيم ) أي لا يدخل تفاوت درجاته تحت الحصر .
ولما قدم الوعد لأنه في سورة الذين آمنوا أتبعه الوعيد لأضدادهم ، وهو أعظم وعد لأحبابه المؤمنين أيضاً فقال : ( والذين كفروا ) أي غطوا ما اتضح لعقولهم من أدلة الوحدانية ) وكذبوا ) أي زيادة على الستر بالعناد : ( بآياتنا ( على ما لها من العظمة في أنفسها وبإضافتها إلينا ) أولئك ) أي البغضاء البعداء من الرحمة خاصة ) أصحاب الجحيم ) أي النار التي اشتد توقدها فاشتد احمرارها ، فلا يراها شيء إلا أحجم عنها ، فهم يلقون فيها بما أقدموا على ما هو أهل للإجحام عنه من التكذيب بما لا ينبغي لأحد التكذيب به ، ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب .
ولما اكن من الأجر ما يحصل من أسباب السعادة في الدنيا ، قال تعالى ذاكراً لهم بعض ذلك مذكراً ببعض ما خاطبهم به ليقدموا على مباينة الكفرة يقفوا عند حدوده كائنة ما كانت : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي صدقوا بالله ورسوله وكتابه ) اذكروا نعمت الله ) أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ) عليكم ( عظمها بإبهامها ، ثم زادها تعظيماً بالتذكير بوقتها فقال : ( إذ ) أي حين ) همّ قوم ) أي لهم قوة ومنعه وقدرة على ما يقومون فيه ) أن يبسطوا إليكم أيديهم ) أي بالقتال والقتل ، وهو شامل .
مع ذكر من أسباب نزوله - لما اتفق صبيحة ليلة العقبة من أن قريشاً تنطست الحبر عن البيعة ، فلما صح عندهم طلبوا أهل البيعة ففاتوهم إلا أنهم أدركوا سعد بن عبادة بأذاخر ، والمنذر بن(2/409)
صفحة رقم 410
عمرو أخا بني ساعدة ، وكلاهما كان نقيباً ، فأما المنذر فأعجزهم ، وأما سعد فأخذوه فربطوه وأقبلوا يضربونه ، حتى خلصه الله منهم بجبير بن مطعم والحارث بن حرب بن أمية بما كان بينه وبينهما من الجوار ، فكان في سيوق الآية بعد آية الميثاق الذي أعظمه ما كان ليلة العقبة أعظم مذكر بذلك ) فكف أيديهم عنكم ) أي مع قلتكم وكثرتهم وضعفكم وقوتهم ، ولم يكن لكم ناصر إلا الذي آمنتم به تلك الليلة وتوكلتم عليه وبايعتم رسوله ، فكف ببعض الأعداء عنكم أيدي بعض ، ولو شاء لسلطهم عليكم كما سلط ابن آدم على أخيه ؛ وينبغي أن يعلم أن القصة التي عُزِيت في بعض التفاسير هنا إلى بني قريظة في الاستعانة في دية القتيلين إنما هي لبني النضير ، وهي كانت سبب إجلائهم .
ولما أمرهم بذكر النعمة ، عطف على ذلك الأمر الأمر بالخوف من المنعم أن يبدل نعمته بنقمة فقال : ( واتقوا الله ) أي الملك الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له ، حذراً من أن يسلط عليكم أعداءكم ومن غير ذلك من سطواته .
ولما كان التقدير : على الله وحده في كل حالة فتوكلوا ، فإنه جدير بنصر من انقطع إليه ولم يعتمد إلا عليه ، عطف على ذلك قوله تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : ( وعلى الله ) أي وحده لكونه لا مثل له ) فليتوكل المؤمنون ) أي في كل وقت فإنه يمنعهم إذا شاء كهذا المنع وإن اشتد الخطب وتعاظم الأمر ، فتوكلوا ولا تنكلوا عن أعدائكم الذين وعدكم الله أرضهم وديارهم وأبناءهم وتهابوا جموعهم كما هاب بنو إسرائيل - كما سيقص عليكم ، وقوله هنا ) المؤمنون ( وفي قصة بني إسرائيل ) إن كنتم مؤمنين ( شديد التآخي ، معلم بمقامي الفريقين ، وحينئذ حسن كل الحسن تعقيبها مع ما(2/410)