بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب : من أسرار التنزيل
المؤلف : الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازى المتوفى سنة 606 هـ
دار النشر : دار المسلم ـ جمهورية مصر العربية
تحقيق : عبد القادر أحمد عطا
عدد الأجزاء : 1
تنبيه :
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ]
جزى الله تعالى كاتبه خير الجزاء وأحسنه.(1/19)
الفصل الأول
فى أسرار كلمة لا إله إلا الله
قال الله سبحانه وتعالى لرسوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)
اعلم أن الله تعالى قدم الأمر بمعرفة التوحيدعلى الأمر بالاستغفار، والسبب فيه : أن معرفة التوحيد إشاره إلى علم الأصول ، والإشتغال بالاستغفار
إشارة إلى علم الفروع ، والأصل يجب تقديمه على الفرع ، فإنه ما لم يعلم وجود الصانع امتنع القيام بطاعتة وخدمته.
وهذه الدقيقه معتبرة فى آيات كثيره :
أولها :
أن إبراهيم عليه السلام لما اشتغل بالدعاء قدم المعرفه على الطاعة فقال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) فقوله : (هَبْ لِي حُكْمًا )إشارة إلى استكمال القوه النظريه بمعرفة حقائق الأشياء ، وقوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) إشارة إلى استكمال القوة العلمية بالإجتناب عن طرفى الإفراط والتفريط. فقدم العلم على العمل.
وثانيها : أنه تعالى لما أوحى إلى موسى عليه السلام راعى هذا الترتيب
فقال : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) فقوله : (لاأله إلا أنا) اشارة إلى علم الأصول ، وقوله : (فاعبدنى) إشارة إلى علم الفروع.(1/20)
وثالثها : أن عيسى عليه السلام لما أنطقه الله تعالى فى وقت الطفولية
قال : (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ). فقوله : ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ) إشاره إلى علم الأصول ، وقوله : (آتَانِيَ الْكِتَابَ) إشاره إلى علم الفروع ، فإن احتياجه إلى الكتاب إنما يكون فى معرفة الاحكام والشرائع ، لا فى معرفة ذات الله تعالى وصفاته.
ورابعاً : الآية التى نحن فيها
ولا نزاع فى أن أفضل الأنبياء والرسل عليهم السلام هؤلاء الأربعة،
فلما ثبت أن الله تعالى قدم الأمر بمعرفة الأصول على معرفة الفروع
فى حق هؤلآء الأنبياء المكرمين : ثبت أن الحق الصحيح الصريح ليس إلا ذلك ، ومما يؤكد ذلك وجوه أخر :
* * *
الوجه الأول :
أن أكثر المفسرين أجمعوا على أن أول أية أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم هى قوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
وهذه الأية مشتملة على دلائل التوحيد. وذلك أن أظهر الدلائل الدالة على
وجود الصانع الحكيم : توالد الإنسان من النطفة.
ثم إنه تعالى نبه فى هذه الأية على لطيفة عجيبة ، ولا يتأتى شرحها إلا فى معرض السؤال والجواب .(1/21)
فإن قال قائل : لابد من رعاية النظم بين أجزاء الكلام ، وهاهنا ذكر أنه تعالى يولد الإنسان من النطفة فقال : (الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ).
ثم ذكر بعده أنه (علم الإنسان مالم يعلم).
فأى مناسبه بين هذين الامرين ؟
الجواب : أن اخس مراتب الإنسان وأدناها : العلقة ، وذلك لأنه يستقذرها كل أحد.
وأعلى المراتب وأشرفها : كون الإنسان عالماً محيطاً بحقائق الأشياء ، كأنه قال : عبدى ، تأمل إلى أول حالك حين كنت علقة،
وهى أخس الأشياء : وإلى آخر حالك حين صرت ناطقاً عالماً بحقائق الأشياء ، وهو أشرف المراتب ، حتى يظهر لك أنه لا يمكن الإنتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الدرجة الرفيعة الشريفة إلا بتدبير أقدر القادرين ، وأحكم الحاكمين ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون.
* * *
الوجه الثانى :
أنه تعالى مدح المؤمنين فى سورة البقرة من أول السورة إلى قوله :
(أولئك هم المفلحون). وذم الكافرين فى آيتين : أولهما قوله : (أن الذين كفروا) إلى قوله : (ولهم عذاب عظيم).
ثم ذم المنافقين فى ثلاث عشرة آية(1/22)
أولها قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) إلى قوله :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).
ثم لما مدح المؤمنين وذم الكافرين والمنافقين
كأنه قيل : هذا المدح والذم لا يستقيمان إلا بتقديم الدلائل على إثبات التوحيد
والنبوة والمعاد ، فإن أصول الإسلام هى هذه الثلاثة.
فلهذا السبب بين الله تعالى صحة هذه الأصول بالدلائل القاطعه.
فبدأ أولا بإثبات الصانع وتوحيده ، وبين ذلك بخمسة أنواع من الدلائل :
أولها أنه استدل على التوحيد بأنفسهم ، واليه الإشارة بقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ).
وثانيها بأحوال آبائهم وأجدادهم،وإليه الإشارة بقوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ).
وثالثها بأحوال اهل الأرض : وإليه
الإشارة بقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا).
وربعها بأحوال أهل السماء ، وإليه الإشارة بقوله : (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً).
وخامسها بالأحوال الحادثه المتعلقة بالسماء والأرض ، وإليه الإشارة بقوله : ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ).
فإن السماء كالأب ، والأرض كالأم : ينزل المطر من صلب السماء ، إلى رحم الأرض،
فيتولد منها انواع النبات.
ولما ذكرهذه الدلائل الخمسة رتب المطلوب عليها فقال :
(فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وذلك : أن هذه الدلائل الخمسة رتب المطلوب عليها فقال : (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وذلك : أن هذه الدلائل تدل على وجود الصانع من وجه ، وعلى كونه تعالى واحداً من وجه آخر ، فأنها من حيث أنها حدثت مع جواز ألا تحدث ، ومع جواز أن تحدث على خلاف ما حدثت به يدل على وجود الصانع القادر.
ومن حيث انها حدثت لا على وجه الخلل(1/23)
والفساد دلت على وحدة الصانع القادر كما قال تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)
فلهذا السبب ذكر بعد تلك الدلائل ذاك المطلوبين.
أحدهما إثبات الصانع ، والثانى كونه واحداً ،لأن قوله تعالى : ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا).
يشمل على إثبات الإله ، وعلى إثبات كونه واحدا.
ثم هنا لطيفة أخرى مرعية فى هذه الآية
وهى : أن الترتيب الحسن المفيد
فى التعليم أن يقع الإبتداء فى التعليم من الأظهر فالأظهر ، مرتقيا إلى الأخفى.
وهذه الدقيقة مرعية فى هذه الآية.
وذلك أنه سبحانه وتعالى قال : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ).
فجعل إستدلال كل عاقل بنفسه مقدماً على جميع الاستدلالات ، لأن اطلاع كل أحد على أحوال نفسه أتم من إطلاعه على أحوال غيره : فسيجد أنه بالضروره من نفسه[أنه]
تارة يكون مريضاً ، وتارة يكون صحيحاً ، وتارة ملتذاً ، وتارة متألماً ، وتارة شاباً ، وتارة شيخاً.
والانتقال من بعض هذه الصفات إلى غيرها ليس باختيار أحد من البشر.
وأيضاً فقد يجتهد فى طلب كل شئ فلا يجد ، وكثيرا ما يكون غافلا عنه فيحصل ، وعند ذلك يعلم كل أحد عند نقص الغرائم وفسخ الهمم :
أنه لابد من مدبر يكون تدبيره فوق كل البشر.
وربما اجتهد العاقل الذكى فى الطلب فلا يجد ، والغر الغبى يتيسر له ذلك المطلوب.
فعند هذه الاعتبارات يلوح له صدق قول الشافعى رضي الله عنه
ومن الدليل على القضاء كونه * بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق.
ويظهر له أن هذه المطالب إنما تحصل وتتيسر بناء على قسمة قسام(1/24)
لا يمكن منازعته ولا مغالبته ، كما قال سبحانه وتعالى : (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ).
ثم إن هذه الاعتبارات غير محصورة ، فتارة كما فى قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ).
وأخرى كما فى قوله : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).
وبالجمله ، فلما كان اطلاع كل أحد على أحوال نفسه أشد من اطلاعه على أحوال غيره ، لا جَرَمَ قدم هذا الدليل على سائر الدلائل.
ثم هذه المراتب يتلوها مرتبة أخرى ، وهى علم كل أحد باحوال آبائه وأجداده وأهل بلده.
ثم هذه المرتبة الثانية تتلوها مرتبة ثالثة ، وهى
معرفة الإنسان لأحوال الأرض التى هى مسكن الخلآئق ، فإنها مختلفة
الأجزاء ، كما قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ).
وقال أيضاً : (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ).
ثم هذه المرتبة الثالثة تتلوها مرتبة رابعه
وهى : العلم بأحوال الأفلاك ،
فإن بعضها يخالف البعض فى العلو والسفل ،والصغر والكبر ، والبطء والسرعة ، واختلاف أحوال الكواكب المذكورة فيها ،كما قال : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وقال : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ).(1/25)
وقال : (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ).
وقال : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ).
وقال : (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ).
وقال فى نوح : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا(15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا).
وقال فى يس : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
وقال : ( فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ).
ثم بعد هذه المرتبة الرابعة مرتبة خامسة ، وهى الأحوال المنزلة من السماء إلى الأرض ، وهى نزول المطر من صلب السماء ووقوعه فى رحم الأرض ثم بعد ذلك يحدث فى الأرض الواحدة انواع من النباتات
بحيث يخالف كل واحد منها صاحبه فى الشكل والطعم والخاصيه فمنه ما يكون قوتاً ، ومنه ما يكون فاكهة ومنه ما يكون دواء ،
ومنه مايكون إداماً ، ومنه ما يكون سماً ، ومنه ما يكون علفاً ، للسائر الحيوانات.
فذكر فى تفصيل المطعومات قوله : (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ).
وقال : (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى).(1/26)
بل إذا نظرت إلى ورقة واحده من أوراق الورد وجدت أن أحد وجهيها غايه فى الحمرة ، والوجه الآخر فى غاية الصفرة ، مع أنها تكون فى غاية الرقة ، وقلة الثخانة ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبه
تأثير الكواكب وحركات الأفلاك والطبائع إلى كل واحد من وجهى تلك الورقة الرقيقة جداً من الوردة نسبة واحده.
فاختصاص أحد وجهى تلك الوردة بالحمرة ، والاخر بالصفرة لابد وأن يكون لأجل القادر المختار الذى يفعله بالعلم والقدرة ، لا بالعليه والطبيعة.
وإذا عرفت ذلك ظهر لك أن لله تعالى فى ترتيب هذه الدلائل الخمسة وتقديم بعضها على بعض حكمه بالغة ، وأسرار مرعية ، فسبحان من لا نهاية لعلمه ولا غاية لحكمتة.
ثم أن الله تعالى لما بين دلائل إثبات الصانع ووحدانيته أردف هذه المسألة بمسألة إقامة الدلاله على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَافَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).
وذلك لأن المتحدى به وقع بكل القرآن فى قوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).
فلما عجزوا عن معارضة كل القرآن أتبعه بالتحدى بعشر سورمن القرآن
فقال : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ). فلما عجزوا عنه أتبعه بالتحدى بسورة واحدة فقال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).(1/27)
فلما عجزوا أتبعه بالتحدى بآية فقال : ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ).
فلما عجزوا عنه مع توافر الدواعى ظهر كونه معجزاً باهراً ، وبرهاناً قاهراً
ثم إنه اتبع هذه المسألة بمسألة المعاد ، وهى قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ).
كأنه قيل : إنما قدمنا مدح المؤمنين وذم الكافرين والمنافقين ، ولو لم يكن معاد يجد المحسن ثمرة إحسانه ، ويجد المسئ عاقبة إساءته ، لم يكن ذلك لائقاً بحكمته ، وهذا هو المراد من قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). وقال فى طه : ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى).
وقال فى ص : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).
فظهر بما ذكرنا : أنه تعالى لم يذكر فى أول كتابه إلا دلائل التوحيد
والنبوة والمعاد ، فثبت أنه لا بد من تقديم الأصول على الفروع ، فلهذا السبب قدم الأمر بالتوحيد على الأمر بالاستغفار ، فقال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ).
الوجه الثالث فى تقرير هذا الأصل :
أنه تعالى قال فى أولسورة النحل : ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)(1/28)
فقوله (لا إله ألا أنا) إشارة إلى علم الأصول.
وقوله : ( فاتقون) إشارة إلى علم الفروع
الوجه الرابع :
أن موسى عليه السلام لما ادعى الرسالة عند فرعون قال له فرعون : (وما رب العالمين ).
يعنى أن رسالتك متفرعة على إثبات
أن للعالم إلهاً ، فما الدليل عليه ، ثم إن موسى عليه السلام لم ينكر [عليه]
هذا السؤال ، بل انشغل بذكر الدلائل على وجود الصانع ، فقال :
( قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ).
فاستدل على وجود الصانع أولا بأحوال نفسه ، وثانيا بأحوال آبائه ، وهو نظير قوله فى سورة البقرة : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ).
فظهر بما ذكرنا من الوجوه القائدة فى أنه تعالى ذكر أولا قوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ).
وذكر ثانياً قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ).
والله اعلم بحقائق كتابه.
فهذا ما يتعلق بالدلائل القرآنية الداله على [وجوب] تقديم علم الأصول على علم الفروع.
ويؤكد هذا المعنى بعشرة حجج اخرى :
الحجة الاولى : وهى أن شرف العلم بشرف المعلوم ، فمهما كان المعلوم أشرف كان العلم الحاصل به أشرف ، ولما كان أشرف المعلومات ذات البارى تعالى وصفاته ، وجب أن يكون معرفته وتوحيده أشرف العلوم.
الحجة الثانية : أن العلم إما أن يكون دينياًَ. أو يكون غير ديني(1/29)
ولا شك أن العلم الدينى أشرف من غير الدينى.
وأما العلم الدينى فإما أن يكون من علم الأصول أو ما عاداه.
أما ماعادا علم الأصول فإن صحته متوقفه على صحة علم الأصول ، لأن المفسر إنما يبحث عن معانى كلام الله تعالى ، وذلك فرع على معرفة الصانع المختار المتكلم.
وأما المحدث فإنما يبحث عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك فرع عن إثبات نبوته.
والفقيه يبحث عن أحكام الله تعالى ، وذلك فرع على ثبوت التوحيدوالنبوة.
فثببت أن هذه العلوم مفسرة إلى علم الأصول.
وظاهر أن علم الأصول غنى عنها بأسرها ،فوجب أن يكون علم الأصول أشرف.
الحجة الثالثة : أن شرف الشئ قد يظهر بواسطة حاسة ضده ، فكلما كان ضده شئ أخس كان هو أشرف ، ولاشك أن ضد علم الأصول هو الكفر والبدعة ، وهما من أخس الأشياء ، فوجب أن يكون علم الأصول من أشرف العلوم.
الحجة الرابعة : أن شرف العلم تارة يكون لشرف موضوعه وتارة لشدة الحاجة اليه ، وتارة لقوة براهينه ودلائله ، وذلك : أن علم الهيئة أشرف من علم الطب ، مع أن الحاجة إلى الطب أشد ، وعلم الحساب أشرف منهما ، من حيث أن موضوع علم الهيئة أشرف من موضوع علم الطب ، إن كان علم الطب أشرف من حيث أن براهين هذا العلم أقوى وعلم الأصول مجتمع لهذه الخصال.(1/30)
وأما شرف هذا الموضوع فذلك لأن المبحوث عنه ذات الله تعالى وصفاته ، وقدرته وعظمته ، ولا شك فى أنه أشرف ، وأما شدة الحاجة اليه فظاهر
(وذلك) لأن إلية الحاجة فى إما فى الدين وإما فى الدنيا.
أما فى الدين فلأن من عرف هذه المطالب يستحق الثواب العظيم ، ويتخلص من العقاب الأليم ، ويصير من زمرة الملائكة المقربين ، فى جوارب العالمين.
ومن جهلها صار محروما من الثواب العظيم ، مستوجباً للعقاب الأليم ، وصارمن زمرة الأبالسة والشياطين ، وبقى فى دركات الضلالة أبد الآبدين ، ودهر الداهرين.
وأما فى الدنيا فلأن معظم مصالح العالم إنما تنتظم بسبب الرغبة فى الثواب ، والرهبة من العقاب ، والإ لوقع الهرج والمرج فى العالم.
أماقوة براهين هذا العلم فلأن براهينه مركبة من المقدمات البديهية الضرورية ، وهى أقوى العلوم والمعارف.. فثبت أن علم الأصول مستجمع خصال الشرف ، فوجب أن يكون أشرف العلوم.
الحجه الخامسة :
أن هذاالعلم لا يتطرق إليه النسخ والتغير ، ولا يختلف بأختلاف النواحى والأمم ، بخلاف سائر العلوم ، فوجب أن يكون أشرف العلوم.
الحجة السادسة :
أن الإنسان لا يكون من أهل النجاة والدرجات إلا مع هذا العلم ، وقد يكون من أهل النجاة وإن لم يعلم شيئاً من الفقه اصلاً البتة.(1/31)
أما أنه لا بد فى النجاة من علم الأصول فلأن الجاهل بالله البتة لايكون من أهل النجاة باالإجماع.
وأما أنه قد تحصل النجاة بدون الفقه ، فلأن الإنسان قبل البلوغ لا يكون مكلفاً بشئ من الأعمال ، فإذا بلغ وقت الضحوة الكبرى ففى هذه الساعة لم يجب عليه شئ من الصلوات والزكوات والصيامات وسائر العبادات.
فلو مات فى هذه الساعة مع المعرفة والتوحيد لقى الله مؤمناًحقا.
ولو قدرنا أن هذا الذى بلغ كان أمرأة ، ثم لما بلغت حاضت ، وبقيت مدة أخرى فى البلوغ ، وهى غير مكلفة لا بالصلاة ولا بالقراءة ، فإذا انقضى زمان حيضها وماتت فهى قد لقيت حضرة الله مؤمنة حقاً.
فلعلمنا أن النجاة ، واستيجاب الدرجات ، لا يتوقف على الفقه ، وهو موقوف على علم الأصول.
الحجةالسابعة :
أن الآيات المشتملة على دلائل علم الأصول أشرف من الآيات المشتملة على دلائل علم الفروع ، بدليل أنه قد جاء فى فضيلة (قل هو الله أحد) و (آمن الرسول) وآية الكرسى ، و (شهد الله ) مالم يجئ فى فضيلة قوله تعالى : (وسألونك عن المحيض) و (أحل الله البيع ) و (ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ) الآية.
ولذلك فإن الزهاد والعباد يواظبون فى شرائف الأوقات على قراءة هذه الآيات المشتملة على الإلهيات ، دون الآيات المشتملة على الأحكام.
الحجة الثامنة :
أن الآيات الواردة فى الأحكام الشرعية اقل من ست مائة آيه ، وأما اللواتى فى بيان التوحيد والرد على عدة الأوثان وأصناف المشركين وفى إثبات النبوات والمعاد ، ومسألة القضاء والقدر فكثيرة .(1/32)
وأما الآيات الواردة فى القصص فالمقصود منها إماالتوحيد ، وإماالنبوة أما التوحيد فهو.
الإستدلال على قدرة الله وعظمته وحكمته ، كما قال : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى).
وأما على النبوة فمن وجهين :
الأول : بألفظ مختلفة كما قال فى سورة الشعراء بعد ذكر القصص (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ).
ووجهة الاستدلال : أنه عليه السلام لما لم يتعلم علماً ، ولم يقرأ كتاباً ، ولم يتتلمذ لأستاذ ، استحال منه رواية القصص إلا عن وحى الله وتنزيه.
والثانى : أنه يذكر القصة الواحدة مراراً مختلفة بألفاظ مختلفة ، وكل ذلك متشابهة فى الفصاحة ، مع أن الفصيح إذا ذكر القصة الواحد ة مره واحدة بالألفاظ الفصيحة ، عجز عن ذكرها بعينها مرة أخرى بالألفاظ الفصيحة ، فيستدل بفصاحة الكل على كونها من عند الله لا من عند البشر فدل [ذلك] على أن معظم القرآن فى علم الأصول ، فلنشر إلى معانى الدلائل :
أما دلائل التوحيد فتارة بخلق الإنسان من النطفة ، والله تعالى ذكر هذا الدليل أكثر من ثمانين مرة فى القرآن.
وتارة بدلائل الآفات ، وهى أحوال الأرض والسماء والهواء والنبات ، وهى أظهر من أن تحتاج إلى الشرح.
وأماالدلائل الداله على الصفات فنقول : أما الذى يدل على العلم فقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ).(1/33)
ثم أردفه بقوله : ( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ).
وهذا هو دليل المتكلمين ، فإنهم يستدلون بأحكام الأفعال وإتقانها على علم الفاعل ، وهاهنا استدل سبحانه بتصوير الصور فى ظلمات الأرحام على كونه الفاعل عالماً.
وقال أيضاً : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
وهو غنى عن تلك الدلائل. وقال : (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ). وهذا التنبيه للدلائل على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات ، لأنه تعالى يخبر عن الغيبات فتقع تلك الأشياء على وفق ذلك الخبر : وذلك يدل على كونه عالماً بكل المغيبات :
وأما صفة القدرة فكل ما ذكرالله تعالى فى القرآن من الثمرات المختلفة ، والحيونات المختلفة ، مع استواء تأثر الطبائع والافلاك ، فإنه يدل على صفة القدرة : وسيجئ الاستقصاء فى هذه الدلائل القرآنية.
الحجة التاسعة :
أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء عليهم السلام أنهم كانوا طوال عمرهم مشتغلين بهذه الدلائل ، ولنذكر ما ينبه على المقصود :
أما الملآئكة عليهم السلام فإنهم لما قالوا : (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ). فكأن المراد من خلق هؤلاء [ليكونوا] سبب الشر والفتنة ، وذلك قبيح ، والحكيم لا يفعل القبيح. فأجابهم الله تعالى بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
والمعنى والله أعلم : إنى لما كنت عالماً بكل المعلومات ، كنت قد علمت فى خلقهم وإيجادهم حكمة لاتعلمونها أنتم.
فلما سمعوا ذلك سكتوا(1/34)
وأما مناظرة الله مع إبليس فالقرآن ناطق بها.
وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم آدم عليه السلام ، وقد أظهرالله تعالى الحجة على فضله بأن أظهر علمه على الملآئكة ، وذلك محض الاستدلال.
وأما نوح عليه السلام فقد حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا : (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ). ومعلوم أن مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الكفار لا تكون فى تفاصيل الأحكام الشرعيه ، فلم يبقى الا أنها فى التوحيد والنبوه.
وأيضاً فإنه عليه السلام لما أمرهم بالاستغفار فى قوله : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا).
ففى الحال ذكر ما يدل على التوحيد فقال : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ).
وأما إبراهيم عليه السالم فالاستقصاء فى شرح الحواله يطول فى هذا الباب ، وله مقامات :
أولها : مع نفسه ، وهو قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي). الى آخر الآية فهذه طريقه المتكلمين.
فإنه استدل بأفولها على حدوثها ، ثم استدل بحدوثها على وجود محدثها : كما أخبر الله تعالى بقوله : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا).
ثم إن الله تعالى عظم شأنه بسبب ذلك فقال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ).(1/35)
وأيضاًً ذكر فى وقت دعائه ما هو محض الاستدلال : وهو قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ). إلى آخر الآيات.
وثانيها : مناظرة إبراهيم مع أبيه ، وهو قوله : (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ). إلى آخر الآيات.
وثالثها : حاله مع قومه تارة ، بالقول : وأخرى بالفعل.
أما القول فقوله : (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ). وأما بالفعل فقوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ).
وربعها : حاله مع ملك زمانه ، حيث قال : ( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ). إلى آخر الآية. فهذا كل مباحثه ابراهيم عيه السلام فى معرفة المبداء.
وأما بحثه فى معرفة المعاد فهو قوله : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ). إلى آخر الآيات.
واعلم أن موسى عليه السلام كان يقول فى الاستدلال على [ طريقة] دلائل ابراهيم. وذلك أنه حكى فى سورة طه قال له ولهارون(1/36)
(قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ). فرد بقوله : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). وهذا هو الدليل الذى ذكره إبراهيم عليه السلام حيث قال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ). ثم حكى الله تعالى عن موسى فى سورة الشعراء أنه قال لفرعون : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ).
وهذا هو الذى عول عليه ابراهيم عليه السلام فى قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ). فلما لم يكتف فرعون بذلك ، وطالبه بدليل آخر ، قال موسى : ( رب الشرق والمغرب). وهذا هو الذى عول عليه ابراهيم عليه السلام فى قوله : (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ).
وهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، ثم إن موسى عليه السلام لما فرغ من تقرير دلائل التوحيد قال : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ). وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما فرع بيان النبوة على بيان التوحيد والمعرفة.
وأما سليمان عليه السلام فله مقامان : أحدهما فى بيان إثبات التوحيد ، الآخر فى إثبات النبوة .(1/37)
أما المقام الأول فى إثبات التوحيد فهو قوله تعالى : ( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ). وهذه الآيات دالة على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم.
أما القدرة فقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ). وسمى الخبء بالمصدر ، وهو يتناول جميع انواع الأرزاق ، وإخراجه من السماء بالغيث ، ومن الأرض بالنبات ، وتقريره ما قدمناه وأما للعلم فيدل على ثبوته قوله : (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ).
واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس ، وتخليص الدلالة على قانون الجدل على وجهين :
الأول : الإله. ويجب أن يكون قادراً على إخراخ الخبء ، ويكون عالماً بالخفيات ، والشمس ليست كذلك ، فهى لا تكون الهاً. أما أنه سبحانه يجب أن يكون قادراً عالماً على الوجه المذكورو ، فكما أنه واجب الوجود لزاته ، فلا تختص قدرتة وعلمه ببعض المقدورات وبعض المعلومات دون البعض.
وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه ، وكل ما كان متناهياً فى الذات كان منتناهياً فى الصفات. وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن تكون الشمس قادرة على إخراج الخبء وعلمه بالخفيات. وإذا لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار فهى ليست الهاً.
فرجع حاصل هذا الدليل الى ما ذكره إبراهيم عليه السلام فى قوله : ( يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا).
الوجه الثانى : أنهذا إشارة إلى دليل إبراهيم فى قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ). إلى آخر الآيات. وبيانه أنه سبحانه وتعالى هو(1/38)
الذى يخرج الشمس من المشرق إلى المغرب بعد أفولها ، فهذا هو المراد بإخراج الخبء فى السماوات والأرض ، وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام :
(لا أحب الآفلين ). ومن قوله : ( فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ). ومن قول موسى : (رب المشرق والمغرب ).
وحاصل الكلام راجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر ، فكانت العبادة لقاهرها ومدبرها ، والمتصرف فيها أحق.
وأما إخراج الخبء من الأرض فالمراد منه : إخراج النطفة من بين الصلب والترائب ، وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام : (ربى الذى يحيى ويميت ). ومن قول موسى عليه السلام : (ربكم ورب أبائكم الأولين ).
فإن قيل : إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلائل النفس على دلائل الأفلاك. فإن إبراهيم عليه السلام قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ).
ثم قال : (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ).وموسى عليه السلام قال : ( ربكم ورب أبائكم الأولين ). ثم قال : (رب المشرق والمغرب ). ثم عكس سليمان هذا الترتيب ، فقدم دلائل السماوات على دلائل النفس فقال : ( الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ).
فاعلم أن موسى وإبراهيم عليهما السلام كانت مناظرتهما مع من يدعى إلهيه البشر. فإن نمروذ وفرعون كل واحد منهما كان يدعى الإلهية ، فلا جرم ابتدأ إبراهيم وموسى بإبطال الإلهية للبشر ، ثم انتنقلا إلى ابطال الإلهية للأ فلاك .(1/39)
و أما سليمان عليه السلام فإنه كانت مناظرته مع من يدعي إلهيه الشمس ، فإن الهدهد قال : ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ). فلا جرم ابتداء بذكر السماوات ، ثم ذكر الأرضيات.
ثم أن سليمان عليه السلام لما تمم دلائل التوحيد قال بعدها : (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ). والمراد : أنه لما بين افتفار السماوات والأرض وسائر الأفلاك إلى مدبر خالق ، ذكربعد ذلك أن كل ماكان فهو مخلوق ومربوب ، سواء كان عظيماً أو صغيراً ، فقال : (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ). فهذا مقام سليمان عليه السلام فى تقرير دلائل التوحيد.
وأما المقام الثانى [هو] فى تقرير دلائل النبوه فهو قوله تعالى حكاية عنه : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ).
واعلم أن كثيراً من الناس قالوا : ذلك الشخص الذى قال : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). هو غير سليمان وظنوا أن الكاف فى قوله : (آتِيكَ) خطاب مع سليمان ، وعلى هذا التقدير لا بد وأن يكون القائل غير سليمان .. إلا أن هذا ضعيف ، بل الصحيح عندنا : أن الآتى بذلك العرش هو سليمان.
وذلك أنه عليه السلام قال : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا). على سبيل التحدى. فقال العفريت : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ). فقال سليمان عليه السلام للعفريت : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ).فهذا الكلام قاله سليمان للعفريت تقريراً لتحديه الذى(1/40)
ذكره أولا ، وكسراً للعفريت وإظهاراً للمعجزة
والذى يدل عليه وجوه :
الأول : أن سليمان عليه السلام ذكر دلائل التوحيد أولا ، ثم افتقر بعد ذلك إلى تقرير دلائل النبوة ومع بلقيس فإن سليمان قد كلفها الإقرار بالتوحيد والنبوة ، فلما ذكر دلائل التوحيد وحجب عليه أن يذكر بعد
ذلك دلائل النبوة ، وهذا معجز دال على النبوة ، فوجب جعله معجزاً لسليمان عليه السلام حتى يتم الدليل.
الثانى : أن لفظة الذى موضوعه فى اللغه للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفها بقصة معلومة : والشخص المعروف بأن عنده علم الكتاب هو سليمان عليه السلام. قال الله تعالى : (ففهمنها سليمان ). وقال : (وورث سلمان داود). فوجب انصرافه اليه. واقصى ما فى الباب :
أن آصف أيضاً كان عالماً بالكتاب ، الإ أن سليمان كان أعرف من آصف ،
لأن الرسول أعرف بكلام الله من غيره ، فكان صرف اللفظ إلى سليمان أولى.
الثالث : أن إحضار العرش فى تلك الساعة اللطيفة درجة عالية ، فلو حصل لآصف دون سليمان لقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان ، وإنه غير جائز.(1/41)
الرابع : أن سليمان لو افتقر فى هذا الغرض إلى آصف لاقتضى قصور سليمان فى عين الخلق.
الخامس : ان سليمان قال : (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ).
وظاهره يقتضى أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان..
فهذا مايتعلق باشتغال سليمان عليه السلام بتقرير التوحيد والنبوة ، والله اعلم.
واعلم أن عيسى عليه السلام أول ما تكلم شرح أمر التوحيد ، فقال : (انى عبد الله ). وشهادة حاله دالة على صدق مقالته ، وهذه الكلمة الواحدة كانت جامعة لكل المقاصد.
أما دلالتها على التوحيد فإن إنطاق الطفل فى زمان الطفولية لا يتأتى إلا من الإله القادر على كل المقدورات.
وأما دلالتها على النبوة ففى دلالتها على
براءة امه من طعن اليهود : فإنه لايليق بحكمة الحكيم تخصيص ولد الزنا بهذه الرتبة العالية والدرجة الشريفه ..ثم إنه عليه السلام بعد هذه الكلمة الوافية بتقرير كل الأغراض انتقل إلى بيان الشرائع فقال : (آتانى الكتاب وجعلنى نبيا).
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فاعلم أن اشتغاله بتقرير دلائل التوحيد(1/42)
والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى مزيد تقرير.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان مبتلى بالرد على جميع فرق الكفار :
فالأول : الدهرية ، الذين كانوا يقولون : (وما يهلكنا الا الدهر)
والله تعالى ابطل قولهم ، فإنه خالق الدهر والزمان
والثانى : الذين ينكرون القادر المختار والله تعالى ابطل قولهم بحدوث أنواع النبات ، وأصناف الحيونات ، مع اشتراك الكل فى تأثير الطبائع والفلاك.
والثالث : الذين أثبتوا شريكاً مع الله وذلك الشريك إما أن يكون علوياً أو سفلياً.
أما الشريك العلوى فمنهم من أثبت أن ذلك الشريك هو الكواكب ، والشمس والقمر ، والله تعالى أبطلهم بدليل الخليل ، وهو قوله : (لا احب الآفلين). ومنهم من قال : هو النور والظلمة ، والله تعالى أبطله بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ).
ومنهم من قال : يزدان واهرمن ، والله تعالى ابطله بقوله : (لو كان فيهما آلهة الإ الله لفسدتا ). وبقوله : ( إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ). وبقوله : (وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ).
وأما الشريك السفلى فمنهم من قال بإلهية المسيح ، والله تعالى أبطله(1/43)
بقوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ). ومنهم من قال :
إنه الوثن ، والله تعالى أبطله بقوله : (أفمن يخلق كمن الا يخلق ).
والرابع : الذين طعنوا فى أصل النبوة ، وحكى الله تعالى عنهم قوله :
(أبعث الله بشراً رسولا ). ثم رد الله تعالى عليهم بقوله : (أهم يقسمون رحمة ربك)
والخامس : الذين طعنوا فى التكليف ، تارة بأنه لافائدة فيه والله تعالى رد عليهم بقوله
: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).
وتارة أخرى بأن الحق هو الجبر ، وهو ينافى صحة التكليف ، والله تعالى
أجاب عنه بقوله : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
والسادس : الذين سلموا أصل النبوة ، وطعنوا فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن مملوء من الرد عليهم
ثم إن طعنهم كان من وجوه : تارة بالطعن فى القرآن ، من حيث
أنه مشتمل على ذكر خسائس الحيونات ، من البعوضة والنملة والذبابة ،
فأجاب الله عنه بقوله : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) وتارة بأن القرآن سحر وشعر ، فأجاب الله عنه بقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). وتارة بالتماس سائر المعجزات كقوله تعالى : (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا). فأجاب(1/44)
الله عنه بقوله .(هل كنت إلا بشراً رسولا) وذلك أن الدليل لما تم لم يبق للإقتراح فى الزيادات فائدة ، وهو قوله تعالى : ( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ). وتارة بأن هذا القرآن نزل نجماً بطريق التهمة ، فأجاب الله بقوله : (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ). وتارة بأنه يحتمل أن يكون هذا القرآن من إلقاءالجن والشياطين ، كمافى سورة الشعراء ، فأجاب الله عنه بقوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ).
والسابع : الذين أنكروا الحشر والنشر ، والقرآن مملوء من الرد عليهم فثبت بما ذكرنا أن الإشتغال بدليل التوحيد والنبوة حرفة جميع الأنبياء عليهم السلام.
الحجة العاشرة : على نهاية شرف هذا العلم قوله تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
وليس المراد منه المجادلة فى فروع الشرائع ، لأن من أنكر نبوته فلا يخالفه فعلمنا بهذا أن الجدال المأمور به فى تقرير دلائل الأصول. فإذا ثبت هذا فى حق الرسول ثبت فى حق أمته ، لقوله تعالى : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ).
ولقوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ). وقوله عليه السلام ."عليكم بسنتى وسنة الخلفاء من بعدى".(1/45)
الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ).
وذلك يقتضى أن الجدال مع العلم لا يكون مذموماً.
وأيضاًحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا. (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا).
ومن المعلوم أن ذلك الجدال كان فى تقرير دلائل الأصول وإذا ثبت بهذه الآيات أن الجدال فى تقرير الدلائل مستحسن ، ثبت أن المراد من قوله تعالى : (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ).
محمول على ذم الجدال فى تقرير الباطل.
الحجة الثانية عشرة : أنه تعالى أمر بالنظر ، فقال : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ).
(أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ). (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ). ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا). (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
الحجة الثالثة عشر : أنه تعالى ذكر التفكر فى معرض المدح فقال : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ). (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ) وأيضاً ذم المعرضين فقال :
( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ). ( لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا).(1/46)
الحجة الرابعة عشرة : أنه تعالى ذم التقليد فقال حكاية عن الكفار : (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
وقال : (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) .(بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ).
وقال : (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا). وقال فى والد إبراهيم عليه السلام : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ).
وكل ذلك يدل على وجوب النظر وفساد التقليد.
الحجة الخامسة عشرة : إنه تعالى حكى أنهم سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن امور ،كقوله : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ). (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ).
فذكر فى هذه المواضع كذا وكذا ، إلا فى آية واحدة وهى أنهم سألوه عن مسألة أصولية ، وهى قوله : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا). الآية
فهاهنا حرف التعقيد. يعنى : يا محمد ، اذكر هذا الجواب فى الحال ، لأن هذه المسألة أصولية ولا يجوز تأخير الجواب عنها ، لأن ذلك يقدح فى الإيمان : أماسائر المسائل فإنها فروعية ، فلايكون تأخير الجواب عنها إلى وقت الحاجة ضاراً.
فثبت بجميع هذه الدلائل وجوب تقديم الأصول على الفروع ، فلا جرم قال الله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
فقدم الأمربمعرفة التوحيد على الأمربالاستغفار ، والله اعلم .(1/47)
الفصل الثانى
فى فوائد كلمة لا أله ألاالله
الفائدة الأولى :
اعلم أن هذا الذكر لما كان من أفضل الأذكار فالعدو لما جاءته المحنة فزع اليه ، والوالى لما جاءته المحنة فزع اليه.
أما العدو فإن فرعون لما قرب من الغرق قال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ). والمعنى : أنه لا إله يقدر أن يجعل النار راحة كما فى حق إبراهيم ، ولا الماء عذب كما فى حق فرعون ، إلا الذى آمنت به بنوا إسرائيل.
وأما الولى فكما فى حق يونس.
قال الله تعالى : (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ). والمعنى : لا إله إلا أنت ، فأنك انت الذى تقدر على حفظ الإنسان حياً فى بطن الحوت ، ولا قدرة لغيرك على هذا الحال.
فإن قيل : كل واحد منهما نادى ، فلماذا قبل نداء أحدهما ولم يقبل نداء الآخر ؟(1/48)
قلنا : الفرق من وجوه :
الأول : أن يونس عليه السلام كان قد سبقت له المعرفة مع هذه الكلمة ، فسبق المعرفة إعانه على قبولها منه.
وأما فرعون فقد تقدم له سبق الكفر ، وذلك لأن الذى تقدم له هو النداء إلى نفسه كما قال تعالى : (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى).
وأما يونس عليه السلام فقد كان ينادى الله. قال تعالى : (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ). وأيضاً قال : ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ). وهذا ينبهك على أن من حفظ الله فى الخلوات ، يحفظه الله فى الفلوات.
الثانى : أن يونس عليه السلام إنما ذكر هذه الكلمة مع الحضور فقال : (لا إله إلا انت ). فكان فى الحضور والشهود. وأما فرعون فإنه قالها فى الغيبه ، فقال : (لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ). فأحال العلم بحقيقة هذه الكلمة على الغير.
الثالث : أن فرعون ذكر هذه الكلمة على سبيل التقليد لبنى إسرائيل ، فقال : ( آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ). وأما يونس عليه السلام فإنه إنما ذكرها على سبيل الإستدلال مع العجز والإنكسار بسبب تلك الكلمات ، ثم قال بعد : (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فحصل له العجز والإنكسار بسبب الذله ، فلما كانت هذه مسبوقة بالعجز والإنكسار ملحوقة بهما لاجرم صارت مقبولة : لقوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ).(1/49)
الرابع : أن فرعون أنما ذكر هذه الكلمة لا للعبودية ، بل لطلب الخلاص من الغرق ، بدليل قوله تعالى :
( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ).
وأما يونس عليه السلام فهو إنما قالها لما حصل له من الإنكسار بسبب التقصير فى الطاعة والعبودية ، بدليل قوله بعده : (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
***
الفضيلة الثانية لهذه الكلمة :
أنه تعلى أمرك بطعات كثيرة ، من الصلاة والصام والحج ، ويستحيل
أن يوفقك [الله ] فى شئ منها ، ثم أمرك أن تقول : لاإله إلا الله ، ثم إن الله يوفقك فيها ، فقال : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
والمقصود من التكرير وجهان : أن يكون العبد مواظب على تكريرها طول عمره ،
الثانى : كأنه قال : عبدى ، جعلت هذه الكلمة أول الآية وآخرها ، فاجعلها أنت أيضاً أول عمرك وآخره ، حتى تفوز بالنجاة والسلامة.
وهاهنا نكت :
الأولى : أنه تعالى جعلك ثالث نفسه فى هذه الآية وكفاك هذا فخراً.(1/50)
الثانية : روى أن يوسف عليه السلام أراد أن يتخذ وزيراً ، فجاءه جبريل عه السلام فقال : أن الله يأمرك أن تتخذ فلاً وزيراً لك.
فنظر إليه يوسف عليه السلام ، وكان [الرجل] فى غاية الدناءة ، فسأل جيريل عن السبب ، فقال : إن له عليك حق الشهادة ، إنه هو الذى شهد (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ). الآية. والإشارة : أن من شهد لمخلوق وجد وزارته فى الدنيا ، فمن شهد لله بالتوحيد والحلال كيف لا يجد معرفته ورحمته فى العقبى ؟
الثالثة : فى الحديث : " إن لله ملآئكة يؤمنون عند تأمين الإمام ، فمن وافق تأمينه تأمين الملآئكة غفر له ما تقدم من ذنبه " .والإشارة .. أن من وافق تأمينه تأمين الملآئك ة مرة سار مغفوراً له ، فمن وافقت شهادته بوحدانية الله شهادة الله الف مرة أولى أن يصير مغفوراً له.
الرابعة : أنه سبحانه سماك وقت التخليق مختاراً فقال ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ).
أى مختاراً له ، لا أنه اثبت ألخيار للعبد ، وفى موضع الذنب [سماه ] جاهلاً فقال : (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). وفى موضع الرزق [ سماه] دابة [فقال] : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا).
وفى وقت الطاعة [سماه ] أجيراً :
(فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) وعند الشهادةعالم (وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ). ثم إن العلم أفضل الدرجات : (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).
والغرض منه : التنبيه على الدرجات. فأنت من حيث أنى خلقتك(1/51)
مختارى ، فلك درجة موسى حيث قالت : (وأنا اخترتك ).
وحين أذنبت فأنت جاهل ، والجهل عزر من بعض الوجوه ، وحين تشتغل بطلب الرزق كالبهيمة ، لأنه هو الذى تكفل برزقك ، فماهو مقدور لك يصل اليك ، وماليس مقدوراً لك لا يصل اليك ، فكأن الطلب عديم الفائدة فكان [هذا ] شبيه افعال البهائم ، وحين تشتغل بالعمل كنت كالأجير وتلك كلها درجات نازلة ، أما حين تشتغل بالشهادة والتوحيد فأنت من العلماء الخائضين فى لجة بحر التوحيد ، وبلغت الغاية القصوى فى المنقبة والشرف ، كما قال تعالى : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).
الخامسة : قال الله تعالى : ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى).
وقعت هذه الإشارة على العصا وعلى اليد ، أما العصا فقوله : (تلك ). وأما اليد فقوله : (بيمينك ). فصارت العصا من قوة هذه الكلمة تلقف حبال السحرة وعصيهم ، وصارت اليد يداً بيضاء ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).
وكلمة لا إله إلا الله ، وهى صفة وحدانيته وفرادنيته فى ذاته وجلاله وعزته ، ألا تستقل بإفناء آثار العصيان عن قلب العبد وإنارة روحه بنور المعرفة والهداية
السادسة : عصا موسى أخرجت من الجنة فبطل السحر عندها ، فهذه الكلمة إنما ظهرت من شجرة العزة والربوبية والعظمة ، ونرجوا أن تبطل الذنوب عندها.
السابعة : حكى عن الحجاج أنه أمر بضرب عنق رجل ، فقال لا تقتلنى حتى تأخذ بيدى وتمشى معى. فأجابه اليه ، فقال الرجل : بحرمة صحبتى معك فى(1/52)
هذه الساعة لا تقتلنى. فعفا عنه ، فهاهنا وقعت للمؤمن صحبة مع الله الكريم فى هذه الشهادة ، فنرجوا أن يغفر الله له.
الثامنة : وجد المؤمن بهذه الشهادة أبوه إبراهيم وهو قوله : ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ). وأمومة ازواج النبى صلى الله عليه وسلم (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ).
وإخوة المؤمنين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
واسغفار الأنبياء (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
واسغفار الملآئكة (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) وشفيعاً مثل محمد صلى الله عليه وسلم "شفاعتى لأهل الكبائر من امتى " ومشاركة الله تعالى فى الاسم "مؤمن" فزنبه ما أزال عنه هذه التشريفات ، أفترى أنه يخرجه عن رحمة أحرم الراحمين ، وأكرم الاكرمين ؟
التاسعة : يحكى أنه عرض على نصر بن أحمد عسكرة وكان سأل عن أسماء الرجال فيجيبون ، فسأل واحد عن اسمه فسكت ، لأنه كان سميه ،
ففطن لذلك ، فأعطاه خلعة ، فإذا كان حال سمى الملك ذلك ، فكيف من كان سمى ربه تعالى (المؤمن )
* * *
الفضيلة الثالثة لهذه الكلمة :
أن كل طاعة فإنه يصعد بها الملك ، أما قول لا إله إلا الله فإنه يصعد بنفسه ، ودليله قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
أى : عمل الصالح ترفعه الملآئكة. هكذا قال بعضهم(1/53)
الفضيلة الرابعة : قال بعضهم : الحكمة فى قوله تعالى (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ).
ان يوم القيامة يتجلى نور كلمة لا إله إلا الله ، فينمحق فى ذلك النور نور الشمس والقمر ، لأن تلك الأنوار مجازيه ، ونور لا إله إلا الله نور ذاتى واجب الوجود لذاته ، ولامجاز يبطل فى مقابله الحقيقة. فلا جرم يبطل كل نور فى مقابلة هذا النور ، بل يبطل كل وجود فى مقابة هذا الوجود ، كام قال :
( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).
* * *
الفضيلة الخامسة :
أن جميع الطعات تزول يوم القيامة مثل الصلاة والصيام والحج ، فإن التكاليف الظاهرة تزول فى علم الغيب : أما طاعة التهليل والتحميد فلا تزول عنهم ، وكيف يمكن زوالها عنهم والقرآن يدل على أنهم مواظبون على الحمد ، والمواظبة على الحمد تدل على المواظبة على الذكر والتوحيد.
وإنما قلنا : إنهم مواظبون على الحمد لقوله تعالى حكاية عن أهل الجنة : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) ، (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).
(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ).
فثبت أنهم مواظبون على الحمد ، مواظبة على الذكر ، فعلمنا أن جميع العبادات زائلة عن أهل الجنة إلا طاعة الذكر والتوحيد.
* * *
الفضيلة السادسة :
ماروى فى الآثار أنه قال " إذا قال العبد : لاإله إلا الله ، فإنه تعالى(1/54)
يعطيه من الثواب بعدد كل كافر وكافرة على وجه الأرض.
قال المحقيقون : السبب فى ذلك أنه لما قال هذه الكلمة ، فإنه قد رد على كل كافر وكافرة يثبت لله ضداً أو نداً أو شريكاً ، فلا جرم يستحق الثواب بعددهم.
الفضيلة السابعة :
قال السدى فى قوله تعالى : (حم (1) عسق). الهاء حلمه وحكمه وحجته ، والميم ملكه ومجده ، والعين عظمته وعلمه وعزه وعدله ، والسين سناه وسره والقاف قدرته وقهره. يقول : بحلمى وبحكمى وملكى ، ومجدى وعظمتى ، وعزى وعلمى وعدلى ، وسنائى وسرى ، وقدرتى وقهرى ، لا أعذب فى النار ابداً من قال : لا إله إلا الله.
الفضيلة الثامنة :
قيل : إذا كان آخر الزمان فليس لشئ من الطعات فضل كفضل لا إله إلا الله ، لأن صلاتهم وصومهم يشوبها الرياء والسمعة وصدقاتهم يشوبها الحرام والشبهة ، فلا خلاص من شئ منها ، أماكلمة لا إله إلا الله
فهى ذكر الله ، والمؤمن لا يذكرالله إلا من صميم القلب.
* * *
الفضيلة التاسعة :
الاحاديث الواردة فى فضل هذه الكلمة :
فالأول : قوله صلى الله عليه وسلم (أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله ).
والثانى : عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه السلام قال : (ليس(1/55)
على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ، ولا منشرهم ، وكأني أنظر إلى أهل لا إله إلا الله وهم ينفضون التراب عن رءوسهم ، ويقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).
الثالث : يروى أن المأمون لما انصرف من مرو يريد العراق ، واجتاز نيسابور ، وكان على مقدمته على بن موسى الرضا ، فقام إليه قوم من المشايخ ، وقالوا : نسألك بحق قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحدثنا حديث ينفعنا. فروى عن أبيه عن آبائه عن النبى صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله تعالى انه قال : (لا إله إلا الله حصنى ، فمن دخل حصنى أمن من عذابى).
الرابع : روى عن بن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "يفتح الله أبواب الجنة ، وينادى مناد من تحت العرش : أيتها الجنة ، وكل ما فيكى من النعيم ، لمن أنت ؟ فتنادى الجنة ومن فيها : نحن لأهل لا إله إلا الله ، ونشتاق لأهل لا إله إلا الله ، ونحن محرمون على من لم يقل لا إله إلا الله ومن لم يؤمن بلا إله إلا لله ".
الخامس : قال عليه السلام : ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ).
قال بعض العلماء : إنه تعالى جعل العذاب عذابين : احدهما السيف من يد المسلمين ، والثانى عذاب الآخرة فالسيف فى غلاف يرى ، والنار فى غلاف لا يرى : فقال لرسوله : من أخرج لسانه من غلاف المرئ وهو الفم فقال : لا إله إلا الله ، أدخلنا السيف فى الغمد الذى يرى : ومن أخرج لسان القلب من الغلاف الذى لا يرى وهو السر ، فقال : لا إله إلا الله ، أدخلنا سيف عذاب الآخرة فى غمد الرحمة ، حتى يكون واحد بواحد ، ولا ظلم ولا جور.(1/56)
السادس : عن أنس قال : قال عليه السلام ( من قرأ عند منامه "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) خلق الله تعلى سبعين الف خلق يسغفرون له إلى يوم القيامه ، أنا على ذلكم من الشاهدين ).
السابع : عن على بن ابى طالب قال قال عليه السلام : "إن فاتحة الكتاب ، وآية الكرسى ، وشهد الله _ إلى قوله _ إن الدين عند الله الإسلام : قل اللهم مالك الملك _ إلى قوله _ بغير حساب ، معلقات ما بينهن وبين الله حجاب ، يقول الله غز وجل : بى حلفت ، لا يقرأكن أحد من عبادى إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه : وأسكنته خضيرة القدس ، ولأنظرن بعين الرحمة كل يوم سبعين الف مره ، ولقضيت له كل يوم سبعين حاجه أدنها المغفرة ، وأحفظه من كل عدو وحاسد ".
الثامن : قال أبو سعيد الخدرى قال عليه السلام : ما من عبد يقول أربع مرات : اللهم إنى أشهدك وكفى بك شهيداً ، وأشهد حملة عرشك وملآئكتك ، وجميع خلقك ، أنى أشهد أن لاإله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك إلاكتب الله له صكاً بالعتق من النار ".
التاسع : عن ابن عمر قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ(1/57)
سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ قَالَ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ أَحْضِرُوهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ قَالَ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ شَيْءٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ).
العاشر : قال قال عليه السلام : مازلت أشفع إلى ربى فيشفعنى ، حتى يقول : يارب شفعنى فى من قال : لا إله إلى الله. فيقول الله تعالى : هذه ليست لك يا محمد ،
إنما هذه لى.
وعزتى ورحمتى وحلمى ، لا أدع فى النار أحداً قال : لا إله إلا الله".
* * *
وأعلم أن أهل العرفان ذكروا فى تفسير لا إله إلا الله وجوهاً :
الأول : قال بن عباس ، لا إله إلا الله : لا نافع ولا ضار ولا معز ولا مذل ولا معطى ولامانع إلا الله.
الثانى : لا إله يرجى فضله ، ويخاف عدله ، ويؤمن جوده ، ويؤكل رزقه ، ويسأل عفوه ، ويترك أمره ، ويرتكب نهيه ، ولايحرم فضله إلا الله الذى هو رب العالمين ، وغفار المذنبين ، وملجأ التائبين المغمومين ، وغاية رجاء الراجين ، ومنتهى مقصد العارفين.
الثالث : قول العبد : لا إله إلا الله ، إشارة إلى المعرفة والتوحيد بلسان الحمد والتسديد ، إلى الملك المجيد ، فإذا قال : لا إله إلا الله ، فالمعنى لا إله له الآلاء والنعماء ، والقدرة والبقاء ، والعظمة والسناء : والعزة(1/58)
والثناء ، والسخط والرضا ، إلا الله الذى هو رب العالمين وخالق الأولين والآخرين ، وديان يوم الدين.
الرابع : لا إله للرغبة ، ولا إله للرهبة ، إلا الله الذى هو كاشف الكربة.
وعن عمران بن حصين قال : قال عليه السلام لأبى حصين : "كم تعبد اليوم من إله" ؟ قال : أعبد ستة أو سبعة فى الأرض ، وواحدا فى السماء. قال : "أيهما تعبده برهبتك ورغبتك " ؟ قال : الذى فى السماء. قال : "فيكفيك إله فى السماء". ثم قال : "يا حصين ، لو أسلمت علمتك كلمتين ينفعانك " فأسلم حصين ، ثم قال : يا رسول الله ، علمنى هاتين الكلمتين. فقال : "اللهم ألهمنى رشدى ، واغفرلى ، واعصمنى من شر نفسى ".
الخامس : قيل فى قوله : "شهد الله ". يشهد الله تعالى فى عوالم القدس ، وحظائر الجلال ، وسرادقات الصمدية ، والملآئكة يشهدون بهذه الشهادة فى السماوات ، وأولو العلم يشهدون بهذه الشهادة فى الأراضين.
وقال جعفر الصادق وقد سألوه عن هذه الآية : إن الله شهد لنفسه بالفردانية والصمدية والأحدية والأزلية ، ثم خلق الخلق ، فشغلهم بعبادة هذه الكلمة ، وذلك لأن شهادة الحق لنفسه حق ، وشهادتهم له رسم ، فكيف يستوى الرسم مع الحق ، ومن أين للتراب طاقة على تجلى نور رب الأرباب.
وقال سعيد بن جبير : كان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً فلما نزل قوله تعالى : (شهد الله ) خرت الأصنام سجدا حول الكعبة(1/59)
الفصل الثالث
فى اسماء كلمة التوحيد
الأول : كلمه التوحيد :
وذلك لأنها تدل على نفى الشرك على الإطلاق.
وفائدة قولنا : على الإطلاق ، أنه تعالى لما قال :
( وإلهكم إله واحد ).
أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : إن إلهنا واحد ، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا.
فالله تعالى أزال هذا التوهم ببيان التوحيد المطلق ، فقال : (لا إله إلا هو) وذلك لأن قولنا : لا رجل فى الدار ، يقتضى نفى الماهية ، ومتى أنتفت الماهيه ، إنتفى جميع أفرادها ، إذ لو حصل فرد من أفراد تلك الماهية لحصلت تلك الماهية ، لأن كل فرد من أفراد الماهية يشتمل على الماهية ، وإذا وجدت الماهية فذلك يناقض نفى الماهية ، فثبت أن قولنا : لارجل فى الدار ، يفيد النفى العام الشامل فإذا قيل بعد ذلك : إلا ذيداً ، أفاد التوحيد العام الكامل.
ثم أعلم أن لهذا ثمرتين :
الأولى : أن جوهر الإنسان خلق فى الأصل مشرفاً مكرماً ، قال تعالى : (ولقد كرمنا بنى آدم ).
فإذا كان الأصل فيه كونه مكرماً ، كان كونه مطهراً على وفق الأصل ، وكونه منجساً على خلاف الأصل ، ثم إنا رأينا الإنسان متى أشرك صار نجساًَ ، بدليل قوله تعالى : (إنما المشركون نجس)(1/60)
فإذاكان الشرك يقتضى كونه نجساً مع ذلك على خلاف الأصل ، فكونه موحداً بأن يقتضى كونه طاهراً أولى ، لأنه على وفق الأصل.
وإذا ثبت أن الموحد كامل فى كونه طاهراً وجب أن يكون من خواص الله تعالى ، لقوله : ( الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ).
الثانية : أن الشرك سبب لخراب العالم ، بدليل قوله تعالى : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ).
وإذا كان الشرك سبب لخراب العالم ، وجب أن يكون التوحيد سبباً لعمارة العالم ضرورة كون الضدين مختلفين فى الحكم ، فإذا ثبت أن كلمة التوحيد سبب لعمارة العالم ، فأولى أن تكون سبب لعمارة القلب الذى هو محل الوحدانية ولعمارة اللسان الذى هو محل ذكر الوحدانية ، وذلك يناسب عفو الله عن أهل التوحيد
* * *
الاسم الثانى :
أن هذه الكلمة تسمى ( كلمة الإخلاص).
وكان معروف الكرخى يقول : (يانفسى : تخلصى).
ثم التحقيق فيه : أن كل شئ يتصورأن يشوبه غيره ، فإذا صفا عن شوبه ، وخلص لله ، سمى خلصاً ، وسمى الفعل إخلاصاً.
ولاشك أن كل من أتى بفعل إختيارى فلابد له فى ذلك الفعل من غرض ، فمتى كان الغرض فى الفعل واحداً ، سمى هذا الفعل اخلاصاً. فمن تصدق وكان غرضه محض الرياء فهو غير مخلص ، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله فهو مخلص ، ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص(1/61)
بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب ، كما أن الإلحاد هو الميل ، ولكن خصصه العرف بالميل عن الحق.
فإذا عرفت هذا فنقول : الباعث على الفعل إما أن يكون روحانياً فقط ، وهو الإخلاص ، أو شيطانياً فقط ، وهو الرياء ، أو مركب منهما ، وهو على ثلاثة أقسام ، لأن الطرفين إما أن يكوناعلى السوية ، أو يكون الروحانى أقوى ، أو يكون النفسانى أقوى.
القسم الأول : وهو أن يكون الباعث روحانياً فقط ، وهذا لايتصور الإ من محب لله ، مستغرق الهمة به : بحيث لم يبقى فى حب الدنيا فى قلبه مقر ، حتى لا يحب الأكل والشرب. بل تكون رعبته فيه كرغبته فى قضاء الحاجة ، من حيث أنه ضرورة الجبلة.
فلذلك لا يشتهى الطعام لأنه طعام ، بل لأنه يقويه على عبادة الله.
فمثل هذا الشخص إذا أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل فى جميع حركاته وسكناته ، وإذا نام مثلاً لتستريح نفسه لتقوى على عبادة الله كان نومه أيضاً عبادة.
أماالقسم الثانى : وهو أن يكون الباعث نفسانياً ، فهو لا يتصور إلا من محب للنفس والدنيا ، مستغرق الهم بهما ، بحيث لم يبقى لحب الله فى قلبه مقر.
وكما أنه فى القسم الأول لما غلب حب الله وحب الآخرة على قلبه أكتسب بحركاته الإختيارية هذه الصفة ، فكذلك من غلب على قلبه حب النفس والدنيا ، أكتسبت جميع أفعاله تلك الصفة ، فلا يسلم له شئ من عبادته ، وهذان القسمان لا يخفى حكمهما فى الثواب والعقاب.
وأما الأقسام الثلاثة الباقية فتقول :
أما الذى فيه الباعثان (متساويان ) فالأظهر أنهما يتعارضان ويتناقضان ، فيصير ذلك العمل لا له ولا عليه وأما الذى يكون أحد الطرفين فيه أغلب ،(1/62)
فينحط منه ما يساوى الطرف الآخر ، وتبقى الزيادة موجبة أثرها الآئق بها.
وذلك هو المراد بقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ).
وقوله : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ).
وتمام التحقيق فيه : أن الأعمال لها تأثيرات فى القلب ، فإذا خلا المؤثر عن المعارض خلا الأثر عن المضعف ، وإذا كان المؤثر مقروناً بالمعارض ، فإن تساويا تساقطا ، وإن كان أحدهما أغلب فلابد وأن يحصل فى الزائد بمقدار الناقص ، فيحصل التساوى بينهم ، أو يحصل التساقط ويبقى القدر الزائد خالياًعن المعارض ، فيؤثر لا محالة أثر ما.
وكما لا يخلوا مثقال ذرة من الطعام أو الشراب عن أثر فى الجسد ، فكذلك لا يخلوا مثقال ذرة من الخير والشر عن أثر فى التقريب من باب الله تعالى أو التبعيد منه.
فإذا جاء بما يقر به شبراً مع ما يباعده شبراً فقد عاد إلى ما كان عليه ، لا له ولا عليه. وإذا كان أحد الفعلين مما يقربه شبرين والفعل الثانى مما يباعده شبراً واحداً اقترب لا محاله شبراً إلى الله.
واحتج من زعم أن المشوب لا ثواب عليه بوجهين :
الحجة الأولى : ما روى أن رجلاً سأل النبى صلى الله عليه وسلم عمن يصنع المعروف ثم يحب أن يحمد عليه ويؤجر ، فلم يدرى ما يقول حتى نزل : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
الحجة الثانية : ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال(1/63)
لمن أشرك فى عمله أحدا : "خذ أجرك ممن عملت له " وعن النبى صلى الله عليه وسلم أن الله يقول : أنا أغنى الأغنياء عن الشرك : من عمل عملاً أشرك فيه غيرى ، تركت نصيبى لشريكى ".
والجواب عن الحجة الأولى : أنها محمولة على ما إذا أتى بالعمل لغرض الدنيا فقط.
والجواب عن الثانية : أن لفظ الشرك محمول على تساوى الداعين ، وقد بينا أنه عند التساوى فيحيط كل واحد منهما الآخر.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : كلمة لا إله إلا الله ، مسماة بكلمة الإخلاص ، وذلك أن الأصل فى هذه الكلمة عمل القلب ، وهوكون الإنسان عارفاً بقلبه وحدانية الله تعالى ، وهذه المعرفة الحاصلة بالقلب مستحيل أن ياتى بهالغرض آخر سوى طاعة الله وحبه وعبوديته ، فهذه المعرفة إن طلبت ظلت لوجه الله تعالى ، لا لغرض آخر ألبتة ، بخلاف سائر الطاعات البدنية ، فإنها كما يؤتى بها لتعظيم الله ، قد يؤتى بها لسائر الأغراض العاجلة من الدنيا ، وطلب المدح والثناء ، فلهذا السبب سميت هذه الكلمة الإخلاص.
* * *
الاسم الثانى لهذه الكلمة "كلمة الإحسان" :
ويدل على صحة هذه التسمية القرآن والخبر والمعقول ، أما القرآن فآيات :
إحداها قوله تعالى : (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ). قال المفسرون المراد من قوله (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ ) : هل جزاء الإيمان. والتحقيق فيه : أن عليك عهد العبودية ، وعلى كرمه عهد الربوبية ، كما قال(1/64)
تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
وعهد عبوديتك :
أن تكون عبداً له لالغيره ،
ثم كمال هذه الدرجة : أن تعرف أن ما سوى الله فهو عبد له ، كما قال : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ).
ومن أتى بالفعل على أحسن الوجوه كان محسناً فيه ، وقوله : لا إله إلا الله ، يدل على اعتراف بأن كل ما سواه عبده ومربوبه. فثبت أن قول لا إله إلا الله ، احسان من العبد ، فقوله : ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ). أى هل جزاء من أتى يقول لا إله إلا الله إلا أن أجعله فى حماية لا إله إلا الله.
والثانية قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
والمراد من قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ) هو قول لا إله إلا الله بأتفاق أهل التفسير.
وبدليل أنه لو قال ذلك ومات ولم يتفرغ لعمل آخر دخل الجنة.
وثالثها قوله : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا).
واتفقوا على أن هذه الآية نزلت فى فضيلة الأذان ، وما ذلك إلا لشتمال الأذان على كلمة لا إله إلا الله.
وأيضاً فإنه تعالى قال فى صفة الكافرين : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
فكما أنه لا قبيح أقبح من كلمة الكفر ، لا حسنه أفضل من كلمة التوحيد ، ولهذا قال تعالى فى أول سورة المؤمنين : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). وقال فى آخر السورة : ( إنه لا يفلح الكافرون ).(1/65)
ثم إنه لماكان قول الموحد حسناً كما قال تعالى : (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) ولما كان قول الكافر قبيحاً كان مقيله أيضاً مظلماً قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ).
وربعها قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).
ولا شك أن أحسن القول لا إله إلا الله.
وخامسها قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)
قيل العدل :
الإعراض عما سوى الله تعالى ، والإحسان : الإقبال على الله تعالى.
وسادسها قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ). ولاشك أن الإحسان قول لاإله إلا الله.
وأما الخبر فما روى أبو موسى الأشعرى قال : قال صلى الله عليه وسلم ( "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" للذين قالوا لا إله إلا الله)
الحسنى وهى الجنة ، والزيادة هى النظر إلى وجه الله الكريم).
وأماالمعقول فهو أنه كلما كان الفعل حسناً كان فاعله أكثر إحساناً ، ولا شك أن أحسن الأذكار ذكر لا إله إلا الله ، وأحسن المعارف لا إله إلا الله ، وإذا كان كذلك كانت هذه المعرفة وهذا الذكر إحساناً(1/66)
الإسم الرابع "دعوة الحق " :
قال الله تعالى فى سورة الرعد : (له دعوة الحق ).
قال ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله. واعلم أن قوله تعالى : (له دعوة الحق). يفيد الحصر ،
ومعناه : له هذه الدعوة لا لغيره ، كما أن قوله تعالى (لكم دينكم ولى دين).
معناه : لكم دينكم لا لغيركم ، ولى دين ، وتحقيق الكلام فى إثبات هذا الحصر : أن الحق نقيض الباطل ، فالحق هو الموجود ، والباطل هو المعدوم ، فلما كان الحق سبحانه وتعالى حقاً فى ذاته وبذاته وصفاته ، وكان ممتنع التغير فى حقيقته ، كان معرفته هى المعرفة الحقة ، وذكره هو الذكرالحق ، والدعوة اليه هى الدعوة الحق.
أما كل ما سواه فهو ممكن لذاته ، ولا يكون حق لذاته ، فلا تكون معرفته واجبة التحقيق ، ولاذكره ولا الدعوة اليه وإذا ثبت هذا ظهر تحقيق قوله تعالى
: ( له دعوة الحق ).
واعلم أن دعوة الحق تارة تكون من الحق للخلق إلى الحق ، وتارة تكون من الخلق للخلق إلى الحق.
أما الأول فنقول : أما أن دعوة الحق تكون من الحق فلأنه تعالى هو الذى دعا القلوب إلى حضرته ، فلولا دعوته إلى تلك الحضرة ،وتوفيقه فى ذلك [ماكان ] الوصول ، وإلا فمن أين يتمكن العقل البشرى من الوصول إلى حضرة الله تعالى.
وأيضاً فلأن مبادئ الحركات ، وأوائل المحدثات تنتهى إلى قدرة الله تعالى وقضائه وقدره ، ولهذا المعنى قال الله تعالى : ( لله الأمرمن قبل ومن بعد ).
وأما أن تلك الدعوة للخلق فلقوله تعالى : (لمن الملك اليوم).(1/67)
وأما الانتهاء إلى الحق فلقوله تعالى : (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى).
وأما أن دعوة الحق تارة تكون من الخلق فلقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ). ولقوله : (إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ ).
* * *
الاسم الخامس "كلمة العدل" :
قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ).
قال عثمان بن مظعون الجمحى : ما أسلمت يوم أسلمت إلى حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه كان كثيراً ما يدعونى إلى الإسلام فاستحييت منه وأسلمت ، ولكن الإسلام ما كان مستقراً فى قلبى ، ثم إنه عليه السلام دعانى يوماً فجلست إليه ، فبينما هو يحدثنى إذ وقع بصرى على شخص ينزل من السماء ، فإذا هو جبريل عليه السلام ، فقال : يا محمد ، (إن الله يأمر بالعدل والإحسان ). العدل : شهادة ألا إله إلا الله ، والإحسان : القيام بالعبودية. قال عثمان فوقع الإسلام فى قلبى.
وقال بن عباس : العدل : شهادة ألا إله إلا الله ، والإحسان : الإخلاص فيه.
وقال آخرون : العدل مع الناس بالرعاية ، والإحسان مع نفسك بالطاعة قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ).(1/68)
وقال آخرون : العدل مع الأعضاء ، والإحسان مع القلب.
وقال آخرون : العدل : رؤية الافتقار إلى الحق ،
ولإحسان : مشاهدة الحق إلى كل شئ فى الخلق.
واعلم أن السبب فى تسمية هذه الكلمة بكلمة العدل وجوه :
الأول : أن العدل فى كل شئ : تحصيل ما هو سبب اعتداله ، وكمال حاله.
ومن المعلوم أن كمال القوة الحساسة فى إدراك المحسوسات ، وكمال القوة الشهوانية فى طلب الأشياء النافعة الجسمانية ، وكمال القوة الغضبية فى دفع الأشياء الجسمانية المنافية ، وأما القوى العقلية وكمال حالها ، وغاية سعادتها ، فبأن ترسم فيها صورة الحقائق ، وأشباه المعقولات كما هى ، حتى تصير القوى العقلية كالمرآة التى تتجلى فيها صورالوجود بتمامها.
ولا شك أن أشرف المعقولات ، وأعلاها : معرفة جلال الله وقدسيته وعظمته وعزته ، فكان غاية المعقول ، واعتدال الأرواح البشرية ،والقوى العقلية :
كونها مقبلة على هذه الحالة ، مسغرقة فيها.
فلهذ السبب سميت كلمة لا إله إلا الله
"كلمةالعدل".
السبب الثانى : أن هذه الكلمة إنما سميت بكلمة العدل لأن معرفة الله متوسطة بين الإفراط الذى هو التشبيه ، وبين التفريط الذى هو التعطيل. فمن بالغ فى الإثبات وقع فى التشبيه ، ومن بالغ فى النفى وقع فى التعطيل ، والحق هو طريق الإعتدال بين هذين الطرفين المتباينين.
السبب الثالث : من ترك النظر والإستدلال فى معرفة الله تعالى ،(1/69)
وعول على الطريقة التى ألفها بحثه وخياله ، وقع فى الضلال.
ومن توغل فى البحث ، وأراد الوصول إلى كنه العظمة ، وهوية الجلال ، تحير وتردد ، بل عمى ، فإن نور جلال الإلهية مما يعمى أحد العقول البشرية ، فصار هذان الطرفان مذمومين.
والطريق المستقيم هو : أن يخوض الإنسان البحر المعتل فى البحث ، ويترك التعمق ، وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام بقوله : (تفكروا فى الخلق ولاتتفكروا فى الخالق ).
فهذه هى الوجوه التى لأجلها سميت كلمة لا إله إلا الله كلمة العدل.
فإن قيل : كيف أمر الله تعالى بالعدل فى بحرالتوحيد ، وقد قال تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ).
فمن يعجز عن العدل فى حق النساء يقدر على العدل فى معرفة الأحد الصمد ؟
فألجواب : أنه تعالى أظهر عجزك فى الضعيف ، وأقدرك على الشريف لتعلم أن الكل منه سبحانه وتعالى.
* * *
الاسم السادس (الطيب "من القول") :
قال تعالى : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ).
أى كلمة توجد أطهر وأطيب من هذه الكلمة وقد قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).
ثم إن النجاسة الحاصلة بسبب كفر سبعين سنة تزول بسبب ذكر هذه الكلمة مرة واحدة .(1/70)
وتحقيق القول فيه : أن الطيب هو اللذيذ. والذة هى : إدراك الملائم.
وقد بينا أن الملائم للقوى الحساسة : إدرالك المحسوسات ، والملائم للقوى الشهوانية : جلب النافع الجسمانى ، وللقوة الغضبية دفع المنافى الجسمانى.
وأما الملائم للقوة العقلية فهو إدرالك جلال الله وقدرته وعظمته وعزته.
إذا عرفت هذا فتقول : إدرالك القوة العلقلة أقوى من إدرالك القوة الحساسة ، وسيأتى شرح هذا فيما بعد إن شاء الله.
وأما مدركات القوى الحساسة فهى الأعراض القائمة بالأجسام الكائنة الفاسدة ، ومدك القوة العاقلة هو : ذات الله تعالى وعظمته وجلاله. وظاهر أنه كلما كان الإدراك أقوى والمدرك أشرف كانت اللذة الحاصلة بسبب ذلك الإدراك أشرف وأعلا.
فعلى هذا نسبة اللذة العقلية إلى اللذة الحسية فى ألشرف والقوة كنسبة الإدراك العقلى إلى الإدراك الحسى ، وكنسبة ذات الله تعالى وصفاته فى الشرف والتعالى إلى الأعراض القائمة بالأجسام. وكما أنه لا نهاية للنسبة الحاصلة بين هذين الإدراكين وبين هذين المدركين ، فكذلك لا نهاية للنسبة الحاصلة بين اللذات العقلية الحاصلة بسبب إدراك جلال الله ويبن اللذات الحاصلة بسبب الروائح والطعوم وسائر المحسوسات.
إذا عرفت هذا ظهر أن الطيب المطلق هو : معرفة ألا إله إلا الله ، وذكر لا إله إلا الله ، والإستغراق فى أنوار جلال لا إله إلا الله ، فلهذا السبب قال تعالى : (وهدوا إلى الطيب من القول ).
والمراد منه : كلمة لا إله إلاالله .(1/71)
والألف واللام فى لفظة ( الطيب ) للاستغراق _ كأنه تعالى ينبه إلى أنه لا لذيذ ولاطيب إلا هذا ، وذلك هوالحق ، لأنا بينا أن أطيب المحسوسات بالنسبة إلى طيب هذه الحالة عدم محض ، فلذلك بين بحرف الإستغراق أن كل طيب ليس إلا ذلك.
* * *
الاسم السابع "الكلمة الطيبة " :
قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ). أختلفوا فى أنه تعالى لما سماها كلمة طيبة على وجوه :
الأول : أنها طيبة بمعنى أنها طاهرة عن التشبيه والتعطيل ، ولكنها متوسطة بينهما ، مباينة لكل واحدة منهما.
كما أن اللبن خارج من بين الفراث والدم ، وهو مبرأ عنهما مصفى عن شائبة كل واحد منهما.
الثانى : أنها طيبة بمعنى أن صاحبها يكون طيب الاسم فى الدنيا ، طيب المسكن فى العقبى ، أما طيب اسمه فلقوله تعالى (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ).
وأراد به المؤمنين والمؤمنات. وأما طيب المسكن فلقوله تعالى : ( وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ).
الثالث : انها طيبة بمعنى أنها مقبولة ، يقبلها الله تعالى ،وتصعد إليه ، كما قال الله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ). قالوا : والسبب فى أن(1/72)
هذه الكلمة تصعد إلى الله تعالى بذاتها : أنها طيبة. وقال عليه السلام : "إن الله طيب لا يقبل إلا طيب".
وتمام التحقيق فيه : أن العقل والروح عشقان على التحلى والمعرفة والمكاشفة على ماسبق تقريرة بالبرهان ، والمعرفة مجزوبة إلى المعروف وإذا تصاعد العرفان إلى المعروف _ والعرف ملازم للعرفان _ إنجذب العارف إلى المعروف ، وصعد إليه. فذلك هو المراد من قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ).
فإن قيل : قال المفسرون : الشجرة الطيبة هى النخلة. فما السبب فى تشبيه كلمة التوحيد بالنخلة ؟
فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أن شجرة النخلة لا تنبت فى جميع البلدان ، بل فى بعض دون البعض ، فكذلك كلمة التوحيد لا تجرى على كل لسان ، ومعرفة التوحيد لا تحصل فى كل قلب.
الثانى : أن النخلة أطول الأشجار ، وكذلك كلمة التوحيد أعلى الكلمات.
الثالث : أن الشجرة الطيبة ثابته فى الأرض ، وفروعها فى السماء ، فهكذا أصل الكلمة الطيبة ثابت فى القلب ، وهو المعرفة ، وفروعها ثابت فى السماء (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ).
الرابع : أن النخلة تحمل كل سنة مرتين ، فكذلك الإيمان يحمل فى الدنيا مرة فيثاب [ المؤمن ] لأجل إيمانه بأهلية الشهادة والولاية والامانة :
ومرة أخرى فى الآخرة ، وهى الجنة الباقية ، والنعمة الدائمة.(1/73)
الخامس : أن النخلة إن حصل فى وسط ثمرتها نواة لا خير فيها ولا منفعة ، فإن قيمة تلك الثمرة لا تنقص بسبب تلك النواة ، وكذا كلمة التوحيد وإن كاد يحصل معها شئ من المعاصى إلى أن قيمتها لا تنقص بسبب ذلك : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ).
السادس : أن النخلة أسفلها الذى يقرب من الناس كله شوك ، والثمرة والمنفعة لا تحصل إلا عن أعلاها ، فكذلك الدين ، أوله التكاليف الشاقة التى هى كالشوك ، وفى أعلاه الثمرة الحلوة اللذيذة ، التى هى الجنة والمعرفة.
* * *
الاسم الثامن "القول الثابت" :
قال الله تعالى : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ).
وعلة التسمية من وجوه :
الأول : ان المذكور المعلوم ثابت واجب الثبوت لذاته ، ممتنع العدم لذاته. والقول والاعتقاد يتبعان المقول والمعتقد ، فلما كان المقول والمعتقد واجب الثبوت لذاته ، كان القول والاعتقاد كذلك ، فلهذا سماه الله بالقول الثابت.
الثانى : أن هذا القول ثابت لا يؤثر الذنب فيه ، بل هو مؤثر فى إزالة الذنب ، لأن الموحد وإن عظمت ذنوب ، إلا أنه ترجى له المغفرة ،(1/74)
قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). والكافر وإن عظم كفرة إذا رجع من الكفر إلى التوحيد هدم التوحيد كفره ..
الثالث : أن هذه الكلمة ثابتة فى الآخرة ، لاترتفع عن العبيد ، وذلك لأن أهل الجنة يشتغلون فى الجنة بذكرالتوحيد. ألا ترى أن الله أخبر عنهم بقوله :
( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ).
( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ).
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا).
الرابع : أنها ثابتة لأن أصلها محكم ، وذلك لأن أول من شهد هذه الشهادة هوالله تعالى ، بدليل قوله تعالى : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). فشهادة جيمع الشاهدين بتوحيد الله تعالى فرع على شهادة الله ، وشهادة الله هى الأصل ، فكل شهادة أصلها شهادة الله فهى ثابتة فى الدنيا ولآخرة.
الخامس : أن الإنسان بدون هذه الكلمة يعمل فيه الماء والنار ، ومع هذه الكلمة لا يعمل فيه الماء والنار.
أما بيان أن الإنسان بدون هذه الكلمة يعمل فيه الماء والنار ، فإن فرعون أغرق فى الماء أولاً ، ثم انتقل من الماء إلى النار ، بدليل قوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا). وعجل السامرى أحرق بالنار(1/75)
أولا ، ثم نقل من النار إلى الماء. بدليل قوله تعالى
( لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ).
وأما أنه مع هذه الكلمة لا يعمل فى الماء ولا النار ، فإن إبراهيم وموسى عليهما السلام كانا مع حقيقة هذه الكلمة ، فلم تعمل النار فى إبراهيم : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ).
ولم يعمل الماء فى موسى : ( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ).
الأسم التاسع "كلمة التقوى" :
قال الله تعالى : ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى).
وفى سبب هذه التسمية وجوه :
الأول : أنه لما أتقى صاحب هذه الكلمة أن يصف ربه بما وصفه به المشركون وصفت هذه الكلمة بأنها كلمة التقوى ، ورأس التقوى ، إتقاء لكلمة الكفر.
ثم فى هذه الآية إشارة وبشارة.
أما الإشارة فهى أنه تعالى سمى نفسه "أهل التقوى " فقال : ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ).
وسمى الموحدين أهل كلمة التقوى فقال : ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى).
وكأنه تعالى يقول : أنا أهل أن أكون مذكوراً لهذه الكلمة ، وأنت أهل لذكر هذه الكلمة ، فما أعظم هذه الشرف .(1/76)
وأما البشارة فهى أن الله تعالى قال : (كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) : فأثثبت أن الموحدين أحق الخلق بهذه الكلمة ، وهم أهل هذه الكلمة ، وأنه كريم لا ينزع الحق عن مستحقه ، فهذا يدل على أنه لا ينزع الإيمان من قلب المؤمن.
الثانى : فى بيان أنه لم سميت هذه الكلمة بكلمة التقوى : هو أن هذه الكلمة واقية لبدنك من السيف ، ولمالك من الا ستغنام ، ولذمتك من الجزية ، ولأولادك من السبى ، فإن إنصاف القلب إلى اللسان صارت واقية لقلبك عن الكفر ، إن إنضم التوفيق إليه صارت واقية لجوارحك عن المعاصى ، ثم قال :
( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ). أى. نحن الزمناهم بهذه الكلمة التى هى المفتاح لباب الجنة ، فنحن أردناهم أولاً ، وهم ما أرادونا فلنا المنة عليهم فى فتح هذا الباب ، وتقريره بقوله تعالى : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ).
الاسم العاشر "الكلمة الباقية " :
روى عن كثير من المفسرين أنهم قالوا فى تفسير قوله تعالى : ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ). أنها قول لاإله إلا الله. ويدل عليه وجوه :
الأول : مقدمة هذه الآية ، وهى قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).(1/77)
وكأن معنى قوله. ( إِنَّنِي بَرَاءٌ) نفى الإلهية عن الأشياء التى كانوا يعبدونها. ثم قال. (إلاالذى فطرنى ). فكان فيه إثبات الإلهية للذى فطره ، فإذا حصل هذان المعنيان كان مجموعهما هو قول لا إله إلا الله. ثم قال : (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ). فثبت أن المراد من الكلمة الباقية قول لا إله إلى الله.
الثانى : أنه تعالى قال فى سورة القصص : (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).
فبين أن كل شئ هالك إلا هو ، فإنه واجب الدوام البقاء. والسرمدية ، وقد عرفت أن القول تبع المقول ، والإعتقاد تبع المعتقد فكان صدق لا إله إلا الله وحقيقة لا إله إلا الله وآجبى الثواب والبقاء والدوام ، وذلك هو المراد بكونها باقية.
الثالث : أنا بينا أن التوحيد لا يزول بسبب المعصية ، والمعصية تزول بسبب التوحيد ، أيضاً التوحيد يبقى مع أهل الجنة ، وسائر الطعات لا تبقى ، ( روى جابر بن عبد الله عن النبى صلى الله عليه وسلم عن جبريل أن الله يقول يوم القيامة .مالى أرى فلان بن فلان فى صفوف أهل النار ؟ فأقول. يارب إنا لم نجد له حسنة. فيقول الله تعالى. إنى سمعته فى الدنيا يقول. يا حنان يا منان ، فأذهب اليه فسله .فيأتيه فيجده فى زاوية من زوايا جهنم. ياحنان يامنان ، فيسأله جبريل عن هذه الكلمة ، فيقول. وهل حنان منان غير الله. قال جبريل. فأخذ بيده من صفوف أهل النار ، فأدخله فى صفوف أهل الجنة (1)
__________
(1)لم أعثر على هذا الحديث فيما لدى من مصادر(1/78)
الاسم الحادى عشر "كلمة الله العليا" :
قال الله تعالى : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا). أعلم أن السبب فى علو هذه الكلمة وجوه :
الأول : وهو أن القلب إذا تجلى فيه نور هذه الكلمة كان ذلك التجلى نور الربوبية ، ونور الربوبية إذا تجلى فى القلب استعقب حصوله قوة وهيبة ربانية ، ولهذا السبب صار المتحققون بهذه الكلمة يستحقرون الأحوال الدنيوية ويستحقرون عظماء الملوك ، ولا يبالون بالقتل ، ولا يقيمون لشئ من طيبات الدنيا وزناً ، وكل ذلك يدل على استعلاء قوة هذه الكلمة.
وانظر إلى استغراق سحرة فرعون لما تجلى لهم نور هذه الكلمة ، كيف لم يلتفتوا إلى قطع الأيدى والأرجل ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لما استغرق فى هذا النوع لم يلتفت إلى الملكوت ، كما قال تعالى : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى).
السبب الثانى : فى كون هذه الكلمة عالية : استعلاؤها فى الدنيا على سائر الأديان ، كما قال تعالى : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ).
الثالث : كونها مستعلية على جميع الذنوب ، فإنها تزيل جميع الذنوب ، وشئ من الذنوب لا يزيل نور هذه الكلمة.
* * *(1/79)
الاسم الثانى عشر "المثل الأعلى " :
قال قتادة فى قوله تعالى : (ولله المثل الأعلى ) : معناه قول لا إله إلا الله ..
واعلم أن معنى المثل هناالصفة ، كذا قال أهل اللغة ، ونظيره قوله تعالى : ( مثل الجنة التى وعد المتقون ).
أى صفتها. فصار المراد من قوله : ( ولله المثل الأعلى ). عين المراد من قوله : (وكلمة الله هى العليا).
* * *
الاسم الثالث عشر "كلمة السواء" :
قال الله تعالى : (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ). قال أبو العلية الرياحى : هى كلمة لا إله إلا الله ، والدليل عليه أنه تعالى قال بعده : ( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا). ولا وعنى لهذه الآية إلا ما هو المراد من قول لا إله إلا الله. فثبت أن المراد من كلمة السواءهو كلمة لا إله إلا الله.
ومما يقرر ذلك : أن جميع العقول معترفة بصحة لا إله إلا الله : وجميع الألسنة ناطقة بها ، وجميع الرقاب خاضعة لها ، قال الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ).
وأيضاً يحتمل أنها سميت كلمة السواء لأنها تفيد الاستواء فى الدين والعقل والروح ، وتوجب الاستقامة ، وترك الاعوجاج فى الأمور.
* * *
الاسم الرابع عشر "كلمة النجاة" :
والذى يدل عليه القرآن والحديث والعقول :
أما القرآن فمن وجهين : (1/80)
الأول : قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). فهذه الآية صريحة فى أن النجاة لا تحصل بدون الإيمان بلا إله إلا الله ، وتحصل مع الإيمان بلا إله إلا الله.
والثانى : قوله تعالى : (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ).
النجاة قول الإله إلا الله.
وأماالأخبار فيدل عليه الأخبار التى ذكرناها فى الفصل الثانى ، ونزيد هاهنا أخبارأخرى :
أحدها ماروى جابر بن عبد الله أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الموحدين فقال" من لقى الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقى الله يشرك به شيئاً دخل النار " :
وثانيها : عن أبى سعيد الخدرى قال : قال صلى الله عليه وسلم "لقنوا موتاكم شهادة لا إله إلاالله".
وثالثها : (رَأَى عُمَرُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَقِيلًا فَقَالَ مَا لَكَ يَا أَبَا فُلَانٍ لَعَلَّكَ سَاءَتْكَ إِمْرَةُ ابْنِ عَمِّكَ يَا أَبَا فُلَانٍ قَالَ لَا إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا مَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ إِلَّا الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا أَشْرَقَ لَهَا لَوْنُهُ وَنَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا هِيَ قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ تَعْلَمُ كَلِمَةً أَعْظَمَ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ طَلْحَةُ صَدَقْتَ هِيَ وَاللَّهِ هِيَ).
وربعها : روى أبو أمامة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ينادى فى الناس : "من شهدأن لا إله إلا الله دخل الجنة"(1/81)
وخامسها : قال معاذ بن جبل حين خضرته الوفاة : اكشفوا عنى سجف القبة حتى أحدثكم حديثاً ، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يمنعنى أن أحدثكموه إلا أن تتكلوا ، أو تتركوا العمل ، وتردوا إلى النار. سمعته يقول : "من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة ، ولم تمسه النار".
وسادسهم : عن عبدالله بن أبى قتادة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، يجرى بها لسانه ، ويطمأن بها قلبه ، حرمت عليه النار "
وسابعها : روى أبو هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى زر : ناد فى الناس : من شهد أن : لا إله إلا الله وجبت له الجنة. قال أبوذر : وإن زنا ، وإن سرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإن زنا وإن سرق ، حتى قالها ثلاث مرات ، فقال فى الثالثة : وأن وإن زنا وإن سرق على رغم أنف أبى زر".
وثامنها : روى معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من كان آخر كلامة لا إله إلا الله : وفاضت نفسه بعده ، دخل الجنة".
* * *
الاسم الخامس عشر "العهد" :
قال بن عباس رضي الله عنه فى قوله تعالى :
( لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ
عَهْدًا ) .(1/82)
العهد هو قول لا إله إلا الله. وأقول : الذى يدل على صحة هذا القول وجوه :
الأول : أن قوله : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا). نكرة فى طرف الثبوت ، وذلك لا يفيد إلا عهداً واحداً ، فهذه الآية تدل على أن تلك الشفاعة تحصل بسبب عهد واحد ، ثم أجمعنا على أن ما سوى الإيمان فإن الواحد منه ، بل مجموعه لا يفيد تلك الشفاعة البتة ، فوجب أن يكون العهد الواحد الذى يفيد تلك الشفاعة هو الإيمان ، وهو قول : لا إله إلا الله.
والثانى : أن جماعة من المفسرين قالوا فى تفسير قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
هو عهد الايمان ، بدليل أن لفظ العهد مجمل ، فلما أعقبه بقوله : (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ).
علمنا أن المراد من ذلك العهد هو الإيمان ، وهو قوله لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
والثالث : أن أول ما وقع من العهد قوله تعالى :
( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ). وذلك فى الحقيقة قول لا إله إلا الله. فكان لفظ العهد محمولا عليه.
والرابع : أنه تعالى قال : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ ).
فكأن العهد من جانبك عهد الإقرار بالعبودية ، ومن جانب الحق سبحانه وتعالى عهد الكرم والربوبية. فثبت بهذه الوجوه : أن المراد من قوله : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا). هو قول لاإله إلا الله.
الخامس : قوله تعالى : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا). أى قلتم لا إله إلا الله.
* * *(1/83)
الاسم السادس عشر "كلمة الاستقامة" :
قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) : قال أبن مسعود رضى الله عنه : المراد من قوله تعالى (استقاموا ) هو قوله لا إله إلا الله.
وذلك لأن قولهم : (ربنا الله ) إقرار بوجود الرب ، ثم أن المقرين بذلك من أثبت له نداً أو شريك.
فالذين نفوا الشركاء والأضداد هم الذين اسقاموا على النهج القويم والصراط المستقيم.
واعلم أن السلامة فى القيامة بقدر الاستقامة فى نفى الشركاء. فمن الناس من أنكر الوحدانية ، وهو الشرك الظاهر ، والاستقامة فى الدين لا تحصل إلا بنفى الشركاء ، كما قال تعالى : (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).
ومنهم من أقر بالوحدانية فى الظاهر ، إلا أنه يقول قولاً يهدم بذلك التوحيد ، مثل أن يضيف السعادة والنحوسة إلى الكواكب ، ويضيف الصحة والمرض إلى الدواء والغذاء ، ويضيف الفعل إلى العبد على سبيل الاستقلال فكل ذلك يبطل الاستقامة فى معرفة الحق سبحانه وتعالى :
ومنهم من ترك كل ذلك ، ولكنه قد يطيع النفس والشهوة فى بعض الأفعال ، وإليه الإشارة بقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ).
وهذا النوع من الشرك هو المسمى بالشرك الخفى ، وهو المراد من قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام : ( واجعلنا مسلمين لك ) .(1/84)
وقول يوسف عليه السلام : ( توفنى مسلما).
فإن الأنبياء عليهم السلام مبرءون عن الشرك الجلى ، أما الحلة المسماة بالشرك الخفى ، وهو الالتفات إلى غير الله ، فالبشر لا ينفك عنه فى جميع الأوقات ، فلذلك السبب تضرع الأنبياء عليهم السلام إلى الله تعالى فى أن يصرفه عنهم.
* * *
الاسم السابع عشر "مقاليد السموات والأرض" :
قال الله : ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ).
قال ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله وأقول : هذا هو الحق ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه تعالى بين أنه لو كان فى الوجود إلهان لحصل الفساد فى العالم ، ولاختلت ، قال الله تعالى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) فثبت أن الشرك سبب لفساد العالم ، وأن التوحيد سبب لانتظام العالم فسبت أن مقاليد السموات والأرض هو قول : لا إله إلا الله
الثانى : أنا بينا أن الشرك سبب لفساد العالم ، بدليل قوله تعالى : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ) وأذا كان كذلك كان التوحيد سبباً لعمران العالم.
الثالث : أن أبواب السموات لا تفتح عند الدعاء إلا بقول ، لا إله إلا الله ، وأبواب الجنان لا تفتح إلا بهذا القول ، وأبواب النيران لا تغلق إلا بهذا القول ، وباب القلب لا يفتح إلا بهذه الكلمة ، وأنواع الوساوس لا تندفع إلا بهذا القول ، فكانت هذه الكلمة أشرف مقاليد السموات والأرض ، وأعز مفاتيح الأرواح والنفوس والأجسام والعقول .(1/85)
الاسم الثامن عشر " السديد " :
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).
قيل فى تفسيره : للفعيل قد يكون بمعنى الفاعل ، كالسميع بمعنى السامع ، وقد يكون بمعنى المفعول ، كالقتيل بمعنى المقتول ، والجريح بمعنى المجروح فإذا جعلته بمعنى الفاعل كان معناه : أنه يسد على صاحبه أبواب جهنم. وإذا حملته على معنى المفعول كان معناه : أنه يسد عن أن يضيره شئ من الذنوب.
وأيضاً فان ذى القرنين بنى السد دفعا لضرر يأجوج ومأجوج ، والله تعالى جعل الإيمان سد ضرر الشياطين من الجن والإنس.
* * *
الاسم التاسع عشر "البر " :
قال الله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ).
والإشارة فى الآية : أن من كان مشتغلا بجميع الجوانب والجهات لم يكن صاحب البر ، إنما صاحب البر هو الذى يتوجه إلى صاحب الكعبة (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا).
فقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ). إشارة إلى الكثرة والقول بالشركاء ، وقوله : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) إشارة إلى التوحيد فصار معناه هو المفهوم من قول لا إله إلا الله .(1/86)
الاسم العشرون " الدين " :
قال الله تعالى : (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) واعلم أن الدين هو : الإنقياد والخضوع قال عليه السلام فى دعواته : "يا من دانت له الرقاب ". أى خضعت. فقوله : (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ). أى : له الخضوع والخشوع لا لغيره. وإنما يكون كذلك إذا كان واحداً فى إلهيته ، إذ لو وجد إلاهان لكان ،كما أن الخضوع لأحدهما حاصل كان أيضاً حاصلاً للثانى ، فلا يمكن حصر ثبوت الخضوع إلا لله فقط ، فالحصرُ دل على أنه لا إله سواه ، ولا معبود إلا إياه.
* * *
الاسم الحادى والعشرون "الصراط" :
قال تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). وقال حكاية عن رسوله : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ). وقال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
واعلم أن هذا الصراط المستقيم هو قول لا إله إلا الله .وذلك باعتبار أن حدوث كل محدث ، وإمكان كل ممكن ، يحوجه إلى المؤثر الذى يوجده وينقله من العدم إلى الوجود ، وإذا كان الموجد والمدبر واحداً ، فمتى نسبت حدوث المحدثات ووجود الممكنات إلى قدرته كان ذلك صراطاً مستقيماً ، وطرق قويماً.
ومتى نسبت حدوث محدث ، ووجود ممكن إلى غير قدرته ، كان ذلك طريقاً معوجاً ، وسبيلاًمنحرفاً. فثبت أن الصراط المستقيم لا يحصل إلى بإسناد كل الحوادث والممكنات إلى تخليق الله وتكوينه ،(1/87)
وإسناد الكل إليه ، فهو التوحيد.
فثبت أن الصرط المستقيم هو قولنا : لا إله إلا الله.
* * *
الاسم الثانى والعشرون" كلمه الحق " :
لقوله تعالى : (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) يعنى قول لا إله إلا الله
* * *
الاسم الثالث والعشرون " العروة الوثقى " :
قال تعالى : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ). يعنى قول لا إله إلا الله.
* * *
الاسم الرابع والعشرون "كلمة الصدق " :
لقوله تعالى : (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ).
أى قول لا إله إلا الله.
* * *
فهذا جملة الكلام فى لا إله إلا الله .. اللهم بحق أسمائك الطاهرة المقدسة ، أن تحفظ بحفظك معرفة هذه الكلمة فى قلوبنا ، وذكرها على ألسنتنا ، يا أرحم الراحمين.
* * *(1/88)
الفصل الرابع
فى الأشياء التى شبه الله تعالى بها كلمة التوحيد
(الأول : النار ) :
الأول : ان الله تعالى شبه الإيمان ، بالنار : فقال : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا). وقال فى آية أخرى : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ). وفيه إشارتان :
الأولى : كما أن النار إذا عرضت عليها الذهب المغشوش أحرقت كل ما فيه من الغش ، وبقى جوهر الذهب سليماً عن الإحتراق ، فكذلك يوم القيامة ، إذا عرض المذنب على النارأحرقت ذنوبه ومعاصيه ، وبقى إيمانه سليماًمن الإحتراق
الثانيه : أن النار تحرق كل شئ ، وكذا الإيمان إذا قوى نوره أحرق ما سوى محبة الله تعالى عن القلب ، (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
* * *
( الثانى : النور)
النوع الثانى : من الأمور التى شبه الله بها الإيمان : النور ، قال الله تعالى ( مثل نوره ). والسبب فى أنه تعالى أضاف المعرفة إلى نفسه وجوه :
الأول : أنه تعالى إنما أضاف المعرفة إلى نفسه قطعاً للأطماع عنها ،(1/89)
وذلك لأنها جوهرة نفيسة ، وقيمتها رفيعة وصاحبها غافل ، والشيطان محتال مكار ، وأجل مقصودة أن يسلب المعرفة من العارف ويحول بينه وبينها ، والله تعالى برحمته جعل المعرفة فى حمايته ، حتى ينقطع طمع إبليس عنها.
وتحقيقه : انه لما قال : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ). فلما أضاف العباد إلى نفسة إنقطع طمع إبليس عنهم فقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). فهنا لما أضاف الإيمان إلى نفسه بقوله :
(مثل نوره ) لا جرم كان أبليس منقطعاً عنه.
الثانى : أن كل ماللعبد فهو للحق ، لأنه حصل بتخليقه وإيجادة : فإذا بلغ العبد درجة يشهد فيها هذه الحالة فقد كملت حاله ، فعند ذلك قيل له : كل ماله فهو لنا وكل ما لنا فهو له والمعرفة التى له فهى لنا فلا جرم أضافها إلى نفسه فقال : ( مثل نوره ).
الثالث : أن تخصيص الشئ بإضافته إلى الله تعالى سبب لتشريفه ، كما فى قوله : ( وطهر بيتى ). وقوله : (هذه ناقة الله ). وقوله : ( وأنه لما قام عبد الله).
فكذا هنا ، إضافة المعرفة إلى نفسه تدل على أنها أشرف الخلع والتشريفات.
ثم هاهنا سؤلات :
السؤال الأول : ما الحكمة فى أنه شبه نور المعرفه بنور السراج حيث قال :
(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) ؟
الجواب من وجوه :
الأول : أن البيت إذا كان فيه سراج لم يتجاسر اللص على دخوله مخافة أن يفتضح ، وكذا القلب ، إذا كان فيه سراج المعرفة لم يتجاسر الشيطان على دخوله مخافة أن يفتضح .(1/90)
الثانى : أن البيت إذا كان فيه سراج أهتدى صاحبه إلى طلب الأمتعة ، فكذلك القلب إذا كان فيه سراج المعرفة ، استدل صاحبه إلى المشروع فى الطاعات ..
الثالث : إذا كان فى البيت سراج أنتفع بضيائه كل أحد من غير أن ينقص من إستضاءة صاحبه بنوره [شيئاً]. وكذا كل قلب كان فيه سراج المعرفة أنتفع بنوره غير صاحبه ، من غير أن ينقص من نور صاحبه شئ..
الرابع : أن السراج إذا كان فى البيت ، وكان موضوعاً فى كوة مسدودة بزجاجة أضاء داخل البيت وخارجه ، وكذلك سراج المعرفة يضئ القلب وخارج القلب حتى يظهر نوره على الأذنين و العينين واللسان : فيظهر فنون الطاعات فى هذه الأعضاء ، واليه الإشارة بقوله عليه السلام "اللهم أجعل فى قلبى نوراً ، وفى سمعى نوراً ، وفى بصرى نوراً ، وفى عظمى نوراً وفى مخى نوراً "..
الخامس : أن البيت إذا كان فيه سراج كان صاحبه مستأنساً مسروراً ، فإذا طفئ السراج صار مستوحشاً ، فكذلك القلب ، ما دام فيه سراج المعرفة : كان صاحبه مستأنساً مسروراً ، فإذا فارقه والعياذ بالله صار حزيناً مغموماً ، قال الله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).
السادس : أن جرم السراج صغير ، وضوءه منتشر عن كل جانب فكذلك ضوء المعرفة ينتشر من القلب إلى جميع الجوانب كما قال الله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
وخوصوصاً من الجانب العلوى ، قال الله تعالى :
( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) .(1/91)
السؤال الثانى : ما الفرق بين سراج الدنيا الذى هو الشمس وبين سراج المعرفة ؟
والجواب : الفرق من وجوه :
الأول : أن الشمس تحجبها غمامة ، والمعرفة لا تحجبها سبع سموات
الثانى : أن الشمس تغيب باليل والمعرفة لا تغيب لا ليلا ً ولا نهاراً بل هى بالليل آكد ، قال الله تعالى : (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ). قال تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ). وقال : ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ).
الثالث : أن الشمس تفنى .قال اله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) أماالمعرفة فلا تفنى. قال الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).
أى إلا ما حصل بمعناه..
الرابع : الشمس تنكسف ، والمعرفة لا تنكسف.
الخامس : الشمس تسود الأشياء ، والمعرفة تبيضها.
السادس : الشمس تحرق ، والمعرفة تنجى من الحرق.
السابع : الشمس تارة تضر وتارة تنفع ، والمعرفة تنفع ولاتضر البتة.
الثامن : الشمس منهفعتها فى الدنيا ، والمعرفة منفعتها فى الدنيا والآخرة.
التاسع : الشمس فى السماء زينة لأهل الأرض ، والمعرفة زينة لأهل السماء.
العاشر : الشمس فى الفوق وهى تضئ ما تحتها، والمعرفة فى قلب المؤمن وهى فى التخت ، وهى تضئ ما فوقها .(1/92)
الحادى عشر : بالشمس ينكشف وجود الخلق ، وبالمعرفة ينكشف وجود الخالق.
والدليل عليه قول أمير المؤمنين على معين قيل له :
هل رأيت ربك ؟ فقال ؛؛ لا أعبد رباً لم أره.
الثانى عشر : الشمس تقع على العدو والولى ، والمعرفة ليست إلا للولى.
الثالث عشر : ولاية الشمس فى الدنيا دون الآخرة ، أما المعرفة فإنها فى الدنيا ذات بداية وفى الآخرة ذات ولاية.
وأيضاً فإن الكواكب مصباح الخلق ، والمعرفة مصباح الحق.
وأيضاً فإن الكواكب تطلع من خزانة الفلك ، والمعرفة تطلع من خزانة الملك.
وأيضاً فإن الكواكب علامة ، والمعرفة كرامة.
وأيضاً فإن الكواكب موضع نظرالمخلوقين ، والمعرفة موضع نظر رب العالمين.
قال عليه السلا م : " أن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
السؤال الثالث : ما الفرق بين السرج والمعرفة ؟
الجواب فى وجوه :
الأول : أن سراج الدنيا مشوب نورة ، بالظلمة ، وهى الدخان الذى يعلوه ، وسراج المعرفة نوره صاف ، لا ظلمة معه.
الثانى : أن سراج الدنيا يحرق نفسه لينتفع به غيره ، وسراج المعرفى يحرق الذبب ، ويروح السر ، وينور الصدر .(1/93)
الثالث : أن سراج الدنيا يضمحل من نور الشمس ، أما سراج المعرفة والتوحيد فإنه يضمحل نور الشمس فى نوره.
الرابع : أن سراج الدنيا لا وفاء له ، يحرق من أوقده ، ومن أمده بالفتيلة ، كما يحرق من لم يوقده ولم يمده بالفتيلة ، وسراج المعرفة ذو وفاء ، لا يحرق صاحبه البتة ، بل ينجيه من الحرق ، فشتان ما بين السراجين.
السؤال الربع : ما الحكمة فى تشبيه المعرفة بالمصباح ؟
الجواب من وجوه :
الأول : أن المصباح تضره الرياح ، والمعرفة يضرها الوسواس والشبهات.
الثانى : أن المصباح لايبقى بغير الدهن ، والمعرفة لا تبقى بغير التوفيق.
الثالث : لا بد للمصباح من حافظ يتعهده ، ولا بد لمصبح المعرفة من متعهد وهو فضل الله ورحمته :
السؤال الخامس : ما الحكمة من تشبيه القلب بالزجاجة ؟
والجواب من وجوه :
الأول : ان الذهب والفضه وإن كانا نفيسين رفعين إلا أنهما كثيفان يوقعان الحجاب ، والزجاجة أن كانت قليلة القيمة إلا أنها لطيفة صافية لا توقع الحجاب ، فإنه يرى ظاهرها من باطنها وبالضد ، والله تعالى ذكر هذا المثل لرفع الحجاب لا لوضعه.
الثانى : أنه ليس لأنية الزجاجة خطر ، إنما الخطر لما فى الآنية ، فكذلك ليس لقلبك خطر إنما ، الخطر للإيمان.
الثالث : إذا إنكسرت الزجاجة لم تصلح إلا بإدخال النار والإذابة ، وكذا القلب إذا فسد لم يصلح إلا بإدخال النار و الإذابة : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ).(1/94)
الرابع : أن صاحب الذهب والفضة لا يخاف كسرها ، لعلمة أن قيمتها لا تبطل بسبب الإنكسار ، وأما صاحب الزجاجة فإنه على حزر ووجل ، لعلمه بأنها إذا إنكسرت بطلت قيمتها ، فكذلك المؤمن ينبغى أن يكون على حزر ووجل كصاحب الزجاجة ، ولا يكون على أمن كصاحب الذهب والفضة.
الخامس : شبهه بالزجاجة لأن النور من الزجاجة أحسن وأتم ضياء منه فى الذهب والفضة. والزجاجة لقلة قيمتها ، أستعدادها للإنكسار والبطلان صار النور فيها أحسن ، وهو إشارة إلى قوله : ( أنا عند المنكسرة قوبهم ).
السؤال السادس : ماالحكمة من تشبيه الزجاجة بالكوكب الدرى ؟
الجواب من وجوه :
الأول : أن الكوكب الدرى فيه لأهل الرض هداية كما قال تعالى : ( وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ). ولأهل السماء زينة قال تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ).
وكذلك [قلب] المؤمن ، سبب لهدية صاحبه إلى الخيرات ، وأيضاً نزهة لأهل السماء فإن روى أن معرفة العارف تضئ لأهل السماء كما يضئ الكوكب الدرى لأهل الأرض.
الثانى : الكوكب لا قدرة للشياطين عليه ، بل الكوكب يحرق الشياطين قال الله تعالى : ( وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ). فكذلك قلب المؤمن لا سبيل للشياطين عليه ، بل نور قلبه وإيمانه يحرق الشياطين ولذلك قال الله تعالى : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ). وقال : ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ).
ولم يقل : فى قلوب الناس وقال :
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ).(1/95)
فذلك التذاكر هو ظهور نور الإيمان. وقوله ( فإذا هم مبصرون ) إشارة إلى إحتراق وساوس الشياطين.
السؤال السابع : ما الحكمة فى أن شبه القلب بالكوكب لا بالشمس والقمر ؟
الجواب من وجوه :
الأول : أن الكوكب مستتر بالنهار ويظهر بالليل ، والعارف مستور بالنهار ، فإذا أظلم الليل ظهر بالخدمة والتضرع ..
الثانى : أن الكوكب زينة السماء : والقلب زينة العارف ..
الثالث أن الكواكب مصابيح السماء
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ). والقلب مصباح العارف ، قال تعالى (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ).
السؤال الثامن : هل فى تشبيه الإيمان بالسراج بشارة لأهل الإيمان ؟
الجواب من وجوه :
الأول : أن الشمس سراج أستوقده الله تعالى للفناء ، ثم لا يقدر أحدا على إطفائه ، والمعرفة سراج إستوقده الله تعالى للبقاء ، فكيف يقدر إبليس على إطفائه ؟
الثانى : استوقد الله تعالى سراج الشمس فى السماء ، فهى تزيل الظلمة عن بيتك ، فإذا استوقد شمس المعرفة فى قلبك كيف لا تزول ظلمة المعصية عنك مع شدة الكرب؟
الثالث : من استوقد سراجاً فعليه تعهده ، والله هو الموقد لسراج المعرفة ، قال الله تعالى (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ).
فلا جرم. أوجب على رحمته إمداده وتعهده ، وعواطف تعهده عاطفة حافظة ، كماقال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .(1/96)
الرابع : اللص إذا رأى السراج فى البيت مستوقداً لايقصد ذلك البيت للسرقة ، والله تعالى أوقد سراج المعرفة فى قلبك ، فكيف يقدر لص الشيطان من القرب منك.
الخامس : المجوس أوقدوا ناراً لا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد نار المعرفة والمحبة فى قلبك فكيف يرضى بإطفائها و إبطالها.
السادس : من أراد أن يستوقد سراجاً إحتاج إلى سبعة أشياء :
إلى زناد ، وحجر ، وحراق ، وكبريت ، ومسرجة ، وفتيلة ، ودهن ، والعبد إذا طلب أن يوقد سراج المعرفة فلا بد من زناد الجهد (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ).
وحجر التضرع : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
وأما الحراق فهو إحراق النفس بمنعها من شهوتها قال تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى).
والرابع كبريت الإنابة (وأنيبوا إلى ربكم ).
والخامس : مسرجة الصبر (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ).
والسادس : فتيلة الشكر ( وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
والسابع : دهن الرضاء بقضاء ربك قال تعالى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ).
وقال عليه السلام "الرضا بالقضاء باب الله الأعظم ".
فهذة الحرفة متعلقة بك فى حفظ عهد العبودية وإذا وفيت بعهد العبودية وهو أولى أن يفى بعهد الربوبية كما قال تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
فتحفظ هذه المعرفة فى قلبك ، وهذا الذكر فى لسانك واجعلها نوراً باقياً معك فى القبر والظلمات والقيامة ...(1/97)
النوع الثالث : من الأمور التى شبه الله تعالى الإيمان بها : التراب قال الله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ).
ووجه المشابهة : أن التراب ذو أمانة ، من أودع فيه شيئاً سلم اليه أضعافاً قال الله تعالى : (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ).
فكذا المؤمن إذا عمل عملا ً سلم اليه أضعاف ذلك العمل يوم القيامة قال الله تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ).
الثانى : من خاصية الأرض أنها يطرح عليها كل قبيح ويخرج منها كل مليح ، فكذا أرض الإيمان يطرح عليها قبائح الكفر والذنوب ، ثم يخرج منها ثمرات المغفرة والرحمة والرضوان (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).
الثالث : من خاصية الأرض أنها كالأم الحاضنة لك ، فهى كالمهد قال الله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا).
وكالخزانة لك (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) وكالأم المشفقة عليك (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى). فكذا الإيمان ، منه يحصل جميع منافعك فى الدنيا والعقبى
* * *
النوع الرابع من الأشياء التى شبه الله تعالى بها الإيمان والقرآن : الماء قال الله تعالى(1/98)
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ).
أى الإيمان والكفر. فالزبد الكفر. والإيمان الماء ؛ وفى تقرير وجه الشبه وجوه :
الأول : الماء يزيل النجاسة عن الثوب (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ). (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ). فكذلك الإيمان يزيل نجاسة الكفروالمعصية عن القلب.
قال عليه الصلاة والسلام " الإسلام يجب ما قبله ".
الثانى : أن الله تعالى سمى الماء المنزل من السماء رحمة ، فقال : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ).
وسمى القرآن رحمة فقال : (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
وجعل الإيمان رحمة وسببً للرحمة فقال : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ).
وقال (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فلا جرم شبه القرآن والإيمان بالماء لهذا السبب.
الثالث : أن الله تعالى سمى القرآن مباركاً فقال :
(وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ). وقال فى الماء : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ) فلا جرم شبه الإيمان وكذا القرآن بالماء لكون كلاً منهما مباركا.
الرابع : أن الماء شفاء للنفوس ، والقرآن شفاء للقلوب ، قال الله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ).
فهو شفاء لقلوبهم ؛ ورحمة لذنوبهم ؛
الخامس : كما أنه تعالى هو الذى أنزل الماء من السماء فلا يقدر عليه أحد سواه .(1/99)
السادس : كما أن الله تعالى إذا أنزل المطر من السماء لم يقدر أحد على دفعه ، فكذلك لما أنزل القرآن من السماء لم يقدر أحد على دفعه ، وإدخال الباطل عليه ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ).
السابع : أن المطر لا يقدرمخلوق أن يحصى عدد قطراته ، فكذا القرآن لا يحيط أحد بكمال أسراره ولطائف حقائقه.
الثامن : كما أن المطر ينزل من السماء قطرة قطرة ثم يسيل فى الأرض نهراً نهراً،ومجراً مجراً فكذلك القرآن ، ينزل من السماء آية آية ، ونجماً نجماً ثم صار المجموع أنهاراً وبحاراً ، وفى الخبر : أن القرآن بحر عميق لا يدرك قعره.
التاسع : كما أن المطر لو نزل من السماء دفعة واحدة لا قتلع الأشجار ، وخرب الديار ، وكان الفساد فيه أكثر من الصلاح ، فكذا القرآن لو نزل جملة واحدة ، لضلت فيه الأفهام ، وتاهت فيه الأوهام قال الله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).
العاشر : كما أن الله تعالى يحيى الأرض بعد موتها بالمطر فكذلك إحياء القلوب الميتة بالقرآن قال الله تعالى :
( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ).
الحادى عشر : كما أن المطر الواحد يقع على الأرض فيخرج منه الورد والريحان ، وعلى أرض أخرى فيخرج منه الشوك والسم ، فكذا القرآن يقع على قلب المؤمن المطيع فيخرج منه ورد العبودية وريحان الطاعة ، ويقع على قلب الكافر فيخرج منه سم الكفر وشوك المعصية قال الله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا )(1/100)
الثانى عشر : أن فى الماء النازل من السماء غنيه من جميع المياه ، فكذلك فى القرآن غنية عن جميع الكتب والعلوم ،
الثالث عشر : أن الماء الكثير إذا أنغمس فيه من لايحسن السباحة هلك ، فكذلك القرآن ، إذا تكلم فيه واحد بغير علم. قال عليه السلام : "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار "..
الرابع عشر : كما أن الشرب فوق الكفاية يضر ولا ينفع ، فكذلك الكلام فى القرآن فوق الفهم والفطنة يضر ولا ينفع قال عليه السلام : " أمرت أن أكلم الناس على قدر عقولهم " ..
الخامس عشر : أذا نزل المطر زال القحط ، وظهر النبات والغذاء والفواكه ، فكذك كان قبل نزول القرآن قحط الدين ، فلما نزل القرآن زال القحط فى الدين ، وظهرت أنواع الغذاء والفواكه للروح ، وهو بيان التوحيد والنبوة والشرائع.
* * *
النوع الخامس :
من الأشياء التى شبه الله تعالى بها الإيمان : الحبل.
قال الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ).
ووجه المشابهة من وجوه.
اللأول : أن من أراد أن يصعد من الأسفل إلى العلو ، وخاف من الإنزلاق ، فإذا تمسك بحبل أمن من ذلك الخوف. فالعبد إذا أراد أن يصعد من سفل البشرية إلى عالم الجلال والكبرياء ، وخاف أن ينزلق قدم عقله ، فإذا تمسك بالقرآن أمن منه(1/101)
ألثانى : أن الأعمى إذا أراد الذهاب إلى موضع فإن كان بين مكانه وبين ذلك الموضع حبل ممدود ، وتمسك بذلك الحبل ذهب فارغاً من كل خوف ، فكذلك العقول البشرية كالأعمى فى سلوك سبيل التوحيد والمعرفة ، فإذا تمسكت بالقرآن أمن من الخوف.
الثالث : أن من سقط فى البئر فطريق تخليصه أن يرسل اليه حبل ، حتى يتعلق به ويصعد ، ينجو من المهالك ، فالأرواح البشرية وقعت فى هاوية عالم الأجسام. فالملك الرحيم أرسل اليها حبل القرآن ، فمن تعلق به وصعد نجا ، ومن لم يتعلق به فى بئر الظلمات وقع وكان من الهالكين.
* * *
النوع السادس :
من الأشياء التى شبه الله تعالى بها الإيمان : شجرة الزيتون. قال الله تعالى : (وشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ).
وذكروا فى جة التشبيه أمرين :
الأول : أنه تعالى إنما شبه الإيمان بهذه الشجرة ،لأن هذه الشجرة فى أكثر الأمور إنما تنبت فى الأمكنة المطهرة ، فكذلك المعرفة لا تستقر فى كل قلب ، بل فى القلوب المطهرة.
الثانى : أن شجرة الزيتون يتولد من ثمرتها ذلك الدهن الذى هو فى غاية الصفاء ، فكذلك قلب المؤمن يتولد منه الإيمان والمعرفة ، وهم أصفى الأنوار وأشرفها.
* * *
تكريم المؤمن :
واعلم أن الله قد وعد المؤمنين بعشر كرامات : (1/102)
الأول : المغفرة. قال الله تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
والمعنى : إن قبلوا الإيمان ، وتركوا الكفر.
وثانيها : الأمن. قال الله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )
وثالثها : الهداية. قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ).
وربعها : الزيادة. قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).
وخامسها : الفلاح. قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وسادسها : الثبات. قال الله تعالى : ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ).
السابع : الشفاعة. قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا).
يعنى قول لا إله إلاالله.
وثامنها : إصلاح الأعمال. قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله ). إلى قوله تعالى : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ).
وتاسعها : البشرى. قال تعالى : ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ).
وعاشرها : كلام الله تعالى ورؤيته يو القيامة.
قال تعالى : ( سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).
وقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ).(1/103)
الفصل الخامس
فى شرح المباحث المتعلقة بكلمة لا إله إلا الله
وهى وجوه :
المبحث الأول :
زعم جماعة من النحوين أن هذا الكلام فيه حذف وإضمار. ثم ذكروا فيه وجهان :
أحدهما : التقدير : لا إله لنا إلاالله.
والثانى : لا إله فى الوجود إلا الله..
واعلم أن الكلام غير سديد لوجوه :
أما الأول : فلأنه لو كان التقدير : لا إله لنا إلا الله ، لم يكن هذا الكلا م يفيد التوحيد الحق ، إذ يحتمل أن يقال : هب أنه لا إله لنا إلا الله ، فلما قلتم : إنه لا إله لجميع المحدثات والممكنات إلا الله ؟ ولهذا السبب فإنه تعالى لما قال : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). قال بعده :
( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ). لأنه لما قال : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). بقى للسائل أن يسأل ويقول : هب أن إلهنا واحد ، فلم قلتم إن إله الكل واحد ؟ فلأجل إزالة هذا السؤال قال تعالى بعده : ( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ).
ولو كان المراد من قوله : (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) .أنه لا إله لنا إلا هو كان هذا تكراراً محصنا.
وأما الثانى : فهو قولهم : التقدير : لا إله فى الوجود إلا الله. فنقول : وأى حامل يحملكم على إلتزام هذا الإضمار ؟ بل نقول : حمل هذا الكلام على ظاهره أولى من ذلك الإضمار الذى ذكرتم. وذلك لأننا لو ألزمنا ذلك الإضمار كان معناه : لا إله فى الوجود إلا هو ، فكان هذا نفياً لوجود إلا له. أما لو أجرينا الكلام على ظاهره كان هذا نفياً لماهية إلا له الثانى .(1/104)
ومعلوم أن نفى الماهية أولى وأقوى من إثبات التوحيد فى نفى الوجود ، فثبت أن إجراء الكلام على ظاهرة أولى.
فإن قيل : إن نفى الماهية غير معقول ، فإنك إذا قلت : السواد ليس بسواد ، كنت قد حكمت بأن السواد انقلب إلى نقيضه ، وصيرورة الشئ عين نقيضه غير معقول. أما إذا قلت : السواد غير موجود كان هذا كلاماً غير معقول ، فلهذا السبب أضمرنا فيه هذه الضمائر.
فالجواب : أن قولكم نفى الماهية غير معقول باطل. فإنك إذا قلت : السواد ليس بموجود فقد نفيت الوجود ، لكن الوجود من حيث هو وجود ماهية ، فإذا نفيت الماهية المسماة بالوجود ، وإذا كان ذلك صار نفى الماهية أمر معقول ، وإذا عقل ذلك فلم لا يجوز إجراء هذه الكلمة على ظاهرها ، فإنك إذا قلت : السواد ليس بموجود
فإنك ما نفيت الماهية ، وما نفيت الوجود أيضاً ، وإنما نفيت موصوفية الماهية بالوجود ، فتقول : موصوفية الماهية بالوجود ، هل هى أمر مغاير للماهية وللوجود أم لا.
فإن كانت مغايرة لهما كانت تلك المغايرة ماهية ، فكأن قولنا : السواد ليس بموجود نفيا لتلك الاهية المسماة بالموصوفية ،ويعود الكلام المذكور.
وأما إن قلنا : أن موصوفية الماهية بالوجود ليست أمراً مغايراً للماهية وللوجود امتنع توجيه النفى إليها ، وإذا امتنع ذلك بقى النفى متوجهاً
إما إلى أى ماهية ، وإما إلى الوجود ، وحتى يحصل غرضنا من أن الماهية يمكن نفيها ، وإذا كان الأمر كذلك صح قولنا : لا إله إلا الله حقاً وصدقاً من غير إضمار.
* * *
البحث الثانى :
قال النحويون : قولنا لا إله إلا الله ارتفع لأنه بدل من موضع لا مع الاسم.
وبيانه : أنك إذا قلت : ما جاءنى رجل إلا زيد ، فزيد مرفوع بالبدلية ، لأن البدل هو الإعراض عن الأول ، والأخذ بالثانى ، فصار التقدير : (1/105)
ماجاءنى إلا زيد. وهذا معقول ، لأنه يفيد نفى المجئ عن الكل إلا عن زيد ، وأما قوله : جاءنى القوم إلا زيد ، فهاهنا البدلية غير ممكنة ، لأنه يصير التقدير : جاءنى إلا زيد ، وذلك يقتضى أنه جاء كل أحد إلا زيد اً. وذلك محال ، فظهر الفرق ؛
* * *
البحث الثالث : اتفق النحويون على أن محل إلا فى هذه الكلمة محل غير. والتقدير : لا إله غير الله وهو كقول الشاعر :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
والمعنى : كل أخ غير الفرقدين فإنه يفارقه أخوه.
قال الله تعالى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) قالوا : التقدير : لو كان فيهما أله غيرالله لفسدتا. والذى يدل على صحة ما قلناه : أنه لو حملنا إلا على الإستثناء لم يكن لا إله إلا الله توحيداً محضاً ، لأنه يصير تقدير الكلام : لا إله يستثنى عنهم الله.
فيكون هذا نفياً لآلهة يستثنى عنهم الله ، ولا يكون الآلهة [بحيث] يستثنى عنهم الله بل عند من يقول بدليل الخطاب يكون إثباتاً لذلك ، وهو كفر.
فثبت أنه لو كانت كلمة إلا محمولة على الإستثناء لم يكن قولنا : لا إله إلا الله توحيداً محضاً.
ولما اجتمعت العقلاء على أنها تفيد التوحيد المحض وجب حمل إلا على معنى غير حتى يكون معنى الكلام : لا إله غير الله.
* * *
المبحث الرابع :
قال جماعة من الأصولين : الإستثناء من النفى لا يكون إثباتاً.
واحتجوا عليه بوجهين :
الأول : ان الإستثناء مأخوذ من قولك : ثنيت الشئ عن جهته ، إذا صرفته عنها ، فإذا قلت : لا عالم فهاهنا أمران :
أحدهما الحكم بهذا العدم ، والثانى نفى هذا العدم.
ثم إذا قلت عقيبه إلا زيد ، فهذا الاستثناء(1/106)
يحتمل أن يكون عائداً إلى الحكم بذلك العدم ، ويحتمل أن يكون عائداً إلى نفس ذلك العدم.
فإذا كان عائداً إلى الحكم بالعدم ، لم يلزم تحقق الثبوت ، لأن سبب الاستثناء يزول بالحكم بالعدم ، وعند زوال الحكم بالعدم يبقى المستثنى مسكوتاً عنه ، غير محكوم عليه لا بالنفى ولا بالإثبات ، وحينئذا لا يلزم الثبوت.
أما إن كان تأثير الاستثناء فى صرف العدم ومنعه ، فحينئذ يلزم تحقيق الثبوت. لأنه لما أرتفع العدم وجب حصول الوجود ، ضرورة أنه لا واسطة بين النقيضين.
وإذا ثبت هذا فنقول : عود الإستثناء إلى الحكم بالعدم أولى من عوده إلى نفس العدم ، وهذا يدل عليه وجهان :
الأول : أن الألفاظ وضعت داله على الاحكام الذهنية ، لا على الموجودات الخارجيه ، فإنك إذا قلت العالم قديم ، فهذا يدل على كون العالم قديماً فى نفسه ، ولكن إذا قلنا : العالم حادث لزم كون العالم قديماً وحادث ، وذلك محال ، بل هذا الكلام يدل على حكمك بقدم العالم ، وإذا كانت الالفاظ دلة على الاحكام الذهنيه لا على الموجودات الخارجية كان صرف ذلك الاستثناء إلى الحكم بالعدم أولى من صرفه إلى نفس ذلك العدم.
والوجة الثانى فى بيان عود الاستثناء إلى الحكم بالعدم أولى من عوده إلى نفس ذلك العدم ، وذلك لأن عدم الشئ فى نفسه ووجوده لا يقبل تصرف هذا القائل ، بل القابل لتصرفه هو حكمه بذلك الوجود والعدم ، وإذا كان كذلك كان عود الاستثناء إلى الحكم أولى من عوده إلى المحكوم به.
الحجة الثانية : فى بيان كون الاستثناء من النفى ليس بإثبات هو أنه جاء فى الحديث والعرف صور كثيرة للإستثناء مع إنه لا يقتضى الثبوت ؛
قال عليه السلام : "لا نكاح إلى بولى ". و "لا صلاة إلا بطهور ".
ويقال فى العرف : لا عز إلا بمال ، ولا مال إلا بالرجال. ومرادهم من الكل مجرد الإشتراط.
أقصى ما فى الباب أن يقال : قد ورد هذا فى اللفظ فى صورة أخرى ، وكان المراد أن يكون المستثنى من النفى إثباتاً ، لأنا نقول : أنه لا بد وأن يكون مجازاً فى إحدى الصورتين ، إلا أن نقول : إذا قلنا : إنه لايقتضى أن يكون الخارج من النفى إثباتاً ، بحيث أفاد ذلك ، احتمل أن تكون تلك الزيادة مستفادة من دليل آخر ، ولا يكون ذلك تركاً لما دل اللفظ عليه(1/107)
فإن قلنا : إنه يقتضى أن يكون الخارج من النفى إثباتاً بحيث لا يفيد ذلك ، لزمنا ترك العمل بما يكون اللفظ دليلا عليه ، ومعلوم أن الأول أولى ، لأن إثبات الأمر الزائد بدليل زائد ليس فى مخالفة الدليل ، أما ترك ما دليل عليه يكون مخالف لدليل فثبت بما ذكرنا أن الإستثناء من النفى لا يكون إثباتاً. فإذا ثبت هذا كان قولنا لا إله إلا الله تصريحاً بنفى سائر الآلهة ، ولا يكون إعترافاً بوجود الله.
وإذا كان كذلك لم يكن مجرد هذا القول كافياً فى صحة الإيمان.
وهاهنا إشكال آخر ، وهو إننا قد دللنا على أن إلا بمعنى غير فى هذا الموضوع ، وإذا كان كذلك كان قولنا لا إله إلا الله معناه : لا إله غير الله. فيصير المعنى نفى إله يغاير الله ، ولا يلزم من نفى ما يغاير الشئ إثبات هذا. وحينئذ يعود الإشكال.
والجواب من وجهين :
الأول : أن إثبات لا الإله سبحانه كان متفقاً عليه بين سائر العقلاء بدليل قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ).
فكان ذلك مفروغا عنه ، متفقاً عليه ، الإ أنهم كانوا يثبتون الشركاء والأنداد ؛ فكان المقصود من هذه الكلمة نفى الأضرار والأنداد ، فأما القول بإثبات الإله للعالم فذلك من لوازم العقول..
الثانى : إذا سلمنا أن هذه الكلة كما دلت على نفى سائر إلآله دلت على إثبات إلهيه الله تعالى إلا إنا نقول : هذه الدلاله تكون حاصلة بوضع الشرع لا بمفهوم أصل اللغة. فهذا تمام القول فى هذا المقام.
* * *
البحث الخامس :
أعلم أنه يجوز أن يقال : لا رجل فى الدار ، وأن يقال : لا رجل إلا فى الدار. أما على الوجه الأول فإنه يوجب نفى الرجال بالكلية والدليل عليه أن قولنا :
لا رجل يقتضى نفى ماهية الرجل ، ونفى الماهية يقتضى إنتقاء كل أفراد الماهية لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية ضرورة أنه متى ثبت فرد من أفراد الماهية فقد ثبتت الماهية لا محالة .(1/108)
وأما قولنا إلا رجل إلا فى الدار فهو الدار فهو نقيض قولنا لا رجل فى الدار ولكن قولنا : لا رجل إلا فى الدار يفيد ثبوت رجل واحد فقولنا لا رجل فى الدار يفيد ثبوت رجل واحد ، فقولنا لا رجل فى الدار وجب أن يفيد عموم النفى ، حتى يتحقق التناقض يبن القولين والحاصل أن قولنا لا رجل أقوى فى الدلالة على عموم النفى من قولنا لا رجل ، مع أن كل واحد منهما يفيد عموم النفى ، ولأجل أن كل واحد منهما يفيد العموم قرئ ( لا ريب فيه ) بالقراءتين ، وكذا قوله ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ).
ولأجل أن البناء على الفتح أقوى فى الدلالة على العموم أتفقوا عليه فى قولنا لا إله إلا الله.
* * *
البحث السادس :
من الناس من يقول : إن تصور الإثبات مقدم على تصور النفى بدليل أن الواحد منا يمكنه أن يتصور الإثبات وأن لم يخطر بباله معنى النفى والعدم ويمتنع عليه أن يتصور العدم والنفى إلا وقد تصور أولاً الإثبات ، وذلك لأن العدم المطلق غير معقول ، بل العدم لا يعقل إلا إذا أضيف إلى معين ، فيقال : عدم الدار ، وعدم الغلام ، فثبت أن تصور الإثبات أصل ومتقدم ، وتصور النفى متأخر وفرع.
وإذا ثبت هذا فما السبب فى أن جعل النفى الذى هو الفرع متقدماً ، والإثبات الذى هو الأصل مؤخر؟
والجواب :
أن فى تقديم النفى هاهنا على الإثبات أغراضاً :
الأول : أنه نفى الربوبية عن غيره ثم إثبتها له أكد فى الإثبات من إثباتها له من غير نفيها عن غيره ، كما أن قول القائل : ليس فى البلد عالم غير فلان أقوى فى باب المدح من قولنا : فلان عالم البلد.
الثانى : أن لكل إنسان قلباً واحداً ، والقلب الواحد لا يتسع بإشتغال شيئين دفعة واحدة فبقدر ما ينفى مشغولاً بأحد الشيئين يبقى محروماً من الشئ الثانى ، فقولنا لا إله إلا الله ، إخراج لكل ما سوى الله عن القلب ، حتى إذا صار القلب خالياً عن كل ما سو الله ، ثم خطر فيه(1/109)
سلطان الله ، أشرق نوره إشراقاً تاما ً ، وكمل إستيلاؤه كمالاً قويا.
الثالث : أن النفى الحاصل بـ " لا " يجرى مجرى الطهارة ، والإثبات الحاصل بإلا يجرى مجرى الطهارة والصلاة ، فكما أن الطهارة مقدمة على الصلاة ، فكذا وجب تقديم (لا إله ) على قولنا (إلا الله ) ، ويجرى مجرى تقديم الإستعاذة على القراءة ، فكما أن الإستعاذة مقدمة على قراءة القرآن ، فكذا هذا ، وأيضاً أن من أراد أن يحضر الملك فى بيت وجب عليه أن يقدم تطهير ذلك البيت عن الأقذار ، فكذا هنا ، وعن هذا قال المحقيقون ؛ النصف الأول من هذه الكلمة تنظيف الأسرار ، والنصف الثانى جلالة الأنوار عن حضرة الملك الجبار.
والنصف الأول إنفصال ، والنصف الثانى إتصال ..
والنصف الأول إشارة إلى قوله : (ففروا إلى الله ). والنصف الثانى إشارة إلى قوله (قل الله ثم زرهم )
* * *
البحث السابع :
أن للقائل أن يقول : إن من عرف أن للعالم صانعاً قادراً عالماً ، موصوفاً بجميع الصفات المعتبرة فى الألهية ، من الصفات السلبية والثبوتية فقد عرف الله تعالى معرفة تامة ، ثم أن علمه بعدم الإله الثانى لا يزيده علماً بحقيقة ذات الإله وصفاته لأن عدم الإله الثانى ليس عبارة عن وجود الإله الأول ، ولا [وجود] صفات من صفاته ، ثم إنا أجمعنا على أن علمه بذات الإله وصفاته لا يكفى فى تحقيق النجاة ، بل ما لم يعلم عدم الإله الثانى لا يحصل العلم المعتبر فى النجاة ، فما السبب فى أن كانت معرفة ذات الله تعالى وصفاته غير كافية فى تحقيق النجاة ، بل كان العلم بعدم الثانى معتبراً فى تحقيق النجاة ؟(1/110)
والجواب : أنه بتقدير أن يكون للعالم الهان فالعبد لا يعلم أنه عبد لهذا الإله أو عبد لذلك الإله ، أو عبد لهما معاً ، فحينئذ لا يكون جازماً بكونه مشتغلا بشكر مولاه وخالقه ، بل يجوز أن يكون عابداً لغير خالقه ، ومتى كان الأمر كذلك لم يكن حازماً فى تلك العبودية ، وتلك الطاعة ، أما إذا عرف أنه لا إله للعالم إلا إله واحد ، فحينئذ يكون جازماً بكونه مشتغلاً بعبودية مولاه وخالقه ، فلهذا السبب لم تحصل النجاة والفوز بالدرجات إلا بمعرفة التوحيد
* * *
البحث الثامن :
أن المكلف إذا تمم النظر والاستدلال فى معرفة الله تعالى ، ثم مات ولم يجد من الوقت ما أمكنه أن يقول فيه : لا إله إلا الله فهاهنا لا شك فى أنه يموت مؤمناً ، لأنه أدى ما وجب عليه ولم يجد مهلة للتلفظ بهذه الكلمة ، فأما إذا تمم النظر والاستدلال فى معرفة الله ،ووجد فى الوقت ما أمكنه أن يقول فيه لا إله إلا الله ، ثم لم يقل ، ثم مات ، فهذا الشخص هل مات مؤمناً أم لا ؟
من الناس من قال : أنه مات كافراً ، لأن صحة الإيمان متوقفة على التلفظ بهذه الكلمة عند القدرة عليها ، ومن الناس من قال : إنه مؤمن ، لأنه حصل له العرفان التام ، وفاسق لأجل أنه كان مأموراً بذكر هذه الكلمة وما ذكرها. والدليل على أنه مؤمن قوله عليه السلام " يخرج من النار من فى قلبه مثقال ذرة من إيمان ".
فهذا الشخص قلبه مملؤ من الإيمان ، فكيف لا يخرج من النار ؟(1/111)
البحث التاسع :
من الناس من قال. تطويل المدة فى كلمة ( لا ) من قولنا. لا إله إلا الله ، مندوب اليه مستحسن ، لأن المكلف فى زمان التحديد يستحضر فى زهنه جميع الأضداد والأنداد وينفيها ، ثم بعد ذلك يعقب بقوله : إلا الله ، فيكون ذلك أقرب إلى الإخلاص والكمال.
ومنهم من قال بل يترك التحديد أولى ، لأنه ربما مات فى زمان اللفظ بلا ، قبل الإنتقال إلى كلمة (إلا الله ).
والذى عندى : أن المتلفظ بهذه الكلمة إن كان يتلفظ بها لينتقل من الكفر إلى الإيمان فترك التحديد أولى ، حتى يحصل الإنتقال من الكفر إلى الإيمان على أسرع الوجوه.
وإن كان المتلفظ بها مؤمناً ، وإنما يذكرها لتجديد هذه الكلمه ، فالتحديد أولى حتى يحصل فى زمان التحديد صور الأنداد والأضداد وعلى التفصيل فى الخاطر ، ثم ينفيها ويعقبها بقوله "إلا الله ". فيكون الإقرار بالإلهية أصفى وأكمل.
* * *
البحث العاشر :
أن الناس فى هذه الكلمة على مذاهب وطبقات :
فأدناها طبقة من قالها ليحقن دمه ، ويحرز ماله ، على ما إقتضاه موجب قوله عليه السلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ".
وهذه درجة اشترك فيها المخلصون والمنافقون. فكل من تعلق بهذه الكلمة نال من بركتها ، وأحرز حظاً من فوائدها ، فإن طلب بها الدينا(1/112)
نال الأمن فيها ، والسلامة من آفاتها ، وإن قصد بها الآخرة جمع بين الحظين ، وأحرز بها السادة فى الدارين
والطبقه الثانيه : الذين ضموا إلى القول باللسان الإعتقاد بالقلب على سبيل التقليد.
وأعلم أن الإعتقاد لا يكون علماً ، لأن العقد ضد الإنحلال والإنشراح. والعلم عبارة عن إنشراح الصدر : قال تعالى : (أفمن شرح الله صدره للإسلام ) فثبت أن صاحب التقليد لا يكون عالماً ولا عارفاً ، وهل يكون مسلماً ؟
فيه الخلاف المشهور بين الأئمه ، والله أعلم.
الطبقة الثالثة :
الذين ضموا إلى الإعتقاد بالقلب معرفة الدلائل الإقناعية القويه لذلك الإعتقاد إلا أن تلك الدلائل برهانية يقينية ، بل إقناعية ظنية
الطبقة الرابعة :
الذين سلموا وأثبتوا تلك العقائد بالدلائل القطعية ، والبراهين اليقينية ، إلا أنهم لا يكونون من أرباب المشاهدات والمكاشفات ولا من أصحاب مطالعة الآيات
ثم أعلم أن الإقرار باللسان درجة واحدة ،وأما الإعتقاد بالقلب فله درجات مختلفة بحسب قوة الإعتقاد وضعفه ، ودوامه وعدم دوامة ، وكثرة تلك الإعتقادات وقلتها ، فإن المقلد ربما كان مقلداً فى
مجرد أن الله تعالى واحد ، وربما زاد عليه وكان
مقلد فى ذلك وفى أن صانع العالم قادر عالم.
أعلم انه كلما كان وقوف الإنسان على هذه المطالب أكثر ، كان تشويش أمر التقليد عليه أكثر ، وذلك لأن الطالب إذا حصل له شعور بهذه المطالب ، وحصل له وقوف على هذه المباحث مال إلى العلم ، وترك التقليد ، فيعثر عليه التقليد ،
أما المرتبة الثالثه ، وهى مرتبة تقوية الإعتقاد بالدلائل الإقناعية ، فمراتب الخلق فيها متفاوتة غير مضبوطة ، وأما المرتبة الرابعة : وهى الترقى من الدلائل الإقناعية إلى البراهين القطعية فالأشخاص الذين يكونون واصلين إلى هذه الدرجة يكونون فى غاية القلة ، ونهاية الندرة ، لأن ذلك يتوقف على معرفة شرائط البراهين ، واستعمالها فى المطالب(1/113)
وذلك فى غاية العزة ، وأما المرتبة الخامسة ، وهى[مرتبة ] أهل المشاهدات والمكاشفات فنسبتهم إلى أصحاب البراهين القطعية كنسبة أصحاب القطعية إلى عوام الخلق.
وأعلم ان عالم المكاشفات لا نهاية له : لأنه عبارة عن سفر العقل فى مقامات الجلال الإلهى ومدارج عظمته ، ومنازل كبريائه وقدسه ، وإذا كان لا نهاية لهذه المقامات ، فكذلك لا نهاية للسفر فى تلك المقامات.
وأعلم ان الإنسان إذا انكشف له اسرار لا إله إلا الله ، أقبل على الله وأخلص فى عبادته ، ولم يلتفت إلى أحد سواه ، فلا يرجو غيره ، ولا يخاف سواه ، ولا يرى النفع والضرر إلا منه ، فانقطع بالكلية عمن دونه وتبرأ من الشرك الباطن ، كما تبرأ من الشرك الظاهر ، وذلك كله موجب كلمة التوحيد.
ولهذا السبب لما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم
( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) قال بعده " وأستغفر لذنبك " والمعنى والله اعلم : أن أمر الاستغفار لتقصير وقع فى موجب كلمة لا إله إلا الله ؛ إما لغفله تحول دونه : أولعارض شغل عنه ، وهو معنى قوله عليه السلام
(أنه ليغان على قلبى فأستغفر لله فى اليوم سبعين مرة )
وقد روى (مائة مرة )
فى الحديث وجوه :
الأول : أن المراد بالغين : ما يغشى قلبه من غفلة ، أو يعرض من فترة ، بحكم الطبع البشرى فكان عند ذلك يفزع إلى الإستغفار.
الثانى : انه عليه السلام بدأ فى الترقى ، فإذا انتقل إلى درجة(1/114)
أعلى من الدرجة المتنقل عنها كان يستحقرها فى العبودية ، فكان يستغفر الله منها
الثالث : أنه ربما لاح له شئ من تجلى عالم الغيب فيستعظم تلك الدرجة ويستبهج بها ثم يصير تعاظمه
لها وابتهاجه بها ، شاغلاً عن الإستغراك فى المبهج به ، فكان يستغفر الله من ذلك
الرابع : أن كل ما لاح له من عالم الغيب كان يعلم أن الذى لاح له إنما لاح له بقدر قوته وطاقته ، وكان يعلن أن قدر عقله وطاقته بالنسبة إلى جلال الله وعلو كبريائه كالعدم ، فحينئذ يعلم أن الذى لاح له من كمال الغيب بالنسبة إلى مالم يلح له كالعدم بالنسبة إلى الوجود فكان يستغفر الله من أن يصفه بما يصل إليه قلبه وعقله وفكره وذكره وخاطره .(1/115)
الفصل السادس
فى فضل المؤمن
أعلم أن الله سمى المؤمنين ثالث نفسه فى عشرة
مواضع :
فى المراقبة ، والولاية ، والموالاة ، والصلاه ، والعزة ، والطاعة ، والمشاقة ، والأذى ، والالتجاء ، والشهادة
* * *
المقام الأول فى المراقبة :
ويدل عليه قوله تعالى : (قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
هدد المذنبين برؤية المؤمنين أعمالهم ، كما هددهم برؤية نفسه ، [ورؤية رسوله] وفيه لطائف :
الأول : روى أن عمر رضى الله عنه خرج ليلة ، فسمع امرأة تقول لابنتها : يا ابنتاه قومى فامزجى اللبن بالماء. فقالت ابنتها : أوليس قد نهانا عن ذلك أمير المؤمنين ؟ قالت : لا يرانا أمير المؤمين. قالت : أفلا يرانا رب العالمين ؟ فلما سمع عمر ذلك خطبها فى الغد لابنه ، فكان عمر بن عبد العزيز من خير حفدتها.
الثانية : امرأة شاطرة كانت بمكة ، قالت لا أبرح حتى أفتن طاووس اليمانى وكان رجلاً جميلاً فعرضت نفسها عليه مراراً حتى ظنت أنها تعجبه ، فقال طاووس : أحضرى الليلة ، فجاء بها إلى المقام فقال لها : اضطجعى هنا. فقالت : سبحان الله إلا يرانا الناس ؟ فقال طاووس : أليس يرانا الله فى كل مكان فتابت .(1/116)
الثالثة : قال أبو عبد لرحمن العتبى : خرجت ليلة فإذا أنا بجارية جميلة ، فأردتها ، فقالت : ويلك ، أما لك من زاخر من عقل إن لم يكن لك ناه من الدين ؟ فقلت لها لا يرانا إلا الكواكب فقالت : واين مكوكبها ؟
الرابعة : قال حاتم الأصم راع نفسك فى ثلاث
أوقات : إذا عملت بالجوارح فأذكر نظر الله اليك ، وإذا قلت بلسانك فأذكر سمع الله لك وإذا كنت ساكتاً فأذكر علم الله فيك ، لأنه قال : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ).
الخامسة : ثلاثة نفر حضروا عند بعض الزهاد ،
وقالوا : أوصنا فقال لواحد : ألست تقول : إنه
عالم ؟ فقال بلى قال : إياك أن يعلم منك شيئا فيفضحك به غداً وقال الثانى أليس هو بصير ؟ قال بلى قال : إياك أن يراك على عمل تستحيى منه يوم القيامة. وقال الثالث : اليس هو سميع ؟ قال بلى. قال : إحزر أن يسمع منك شيئا يردك عن باب رحمته بسببه.
السادسة : قال سفيان : من وجد من نفسه ثلاثة أشياء فليحكم عليها بالسعادة : إلهية العزيز الجبار ، والحرمة للنبى المختار صلى الله عليه وسلم والحياء من الأبرار والأخيار
* * *
القام الثانى : الولاية :
فإنه تعالى جعل المؤمنين ثالث نفسه فقال :
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا).
قيل : نزلت فى عبد الله بن سلام حين شكى من(1/117)
عداوة اليهود له بعد إسلامه ، فنزلت.
وقال محمد بن إسحاق نزلت فى عبادة بن الصامت ، قال : يا رسول الله تبرأت من حلف اليهود ، وتوليت الله ورسوله والمؤمنين عامة ، وفيه نكت :
الأولى : أن يوسف عليه السلام قال : ( أنت وليى فى الدنيا والآخرة ).
فوجد الملك والعز بسبب ذلك القول الذى هو قائله ، وهاهنا قال الله تعالى للمؤمنين : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ).
فأولى أن يرجوا المؤمنون بذلك الجنة والمغفرة.
الثانية : قوله : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ). يعنى حافظكم وناصركم : ( وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ).
ثم قال عليه الصلاه والسلام
: "المرء مع من أحب ". ثم إن كل مسلم يحب الله فوجب بحكم ذلك الخبر أن يكون المسلم أبداً مع حفظ الله لا يفارقه ، لسبب أنه أحب الله ، فكيف يفارقه حفظ الله مع أن الله وليه وحافظه وناصره ؟
الثالثة : هذه الآية دلت على أن الصحابة يحبوننا ، لأن الله تعالى جعل المؤمنين أولياءنا ، وهو قوله (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ).
ثم أكد ذلك يقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
ثم أمرنا أن نحب الصحابة بدليل قوله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ).
فثبت بمجموع هاتين الآيتين حصول المحبة بيننا وبين الصحابة ، والحبيب لا يرضى بعذاب حبيبه قُبل ذلك على أن جمهور الصحابة والتابعين وسلف المؤمنين يكونون شفعاء ذنوب المؤمنين.
* * *(1/118)
المقام الثالث : الموالا :
قوله تعالى : (عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : وهاهنا نكت :
الأولى : حكم أن مولى المؤمنين هو : الله ، وجبريل ، وصالح المؤمنين.
ثم اسقط شركة جبريل والمؤمنين فقال : (اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ).
وقال فى حق الكافرين : (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ)
ثم قال : (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ).
فمن كان الله مولاه فلا يذل ولايخزى ، ومن كان المؤمنين مولاه فلا يضيع ولايشقى.
قال الكفار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم أحد : لنا عزى ولا عزى لكم فقال عمر رضي الله عنه "لنا مولى ولا مولى لكم " فنزل على وفق قوله :
( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ).
الثانية : أن الله تعالى سمى النار مولى الكافرين فقال :
( مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ). وإنما سمى النار مولاهم لأنها لا تترك إعانتهم.
الثالثة : قال بعضهم : من كان ربه مولاه لا يعذب ومن كان ناصره مولاه لايغلب ، ومن كان هاديه مولاه لا يضل ، ومن كان ربه مغنيه لايشقى ، ومن كان ربه مولاه لا يضيع ولا يحتاج إلى أحد.
المقام الرابع : الصلاة : قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) .(1/119)
فجعل المؤمنين ثالث نفسه فى الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وهاهنا نكت :
الأولى : فى الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام ( هنئونى هنئونى فقالوا : هنيئاً لك يا رسول الله فما حظنا ؟ فنزل قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ).
والإشارة : أنه صلى على الرسول عليه السلام فى الدنيا ، فما ترك المذنبين حتى صلى الله أيضاً عليهم ، فيوم القيامة كيف يترك المذنبين محرومين من المغفرة.
الثانية : الصلاه من الله تعالى على ثلاثة أوجة :
عامه ، وخاصه ، وخاصة الخاصه. فالعامة قوله :
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ). والخاصة قوله : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ).
وخاصة الخاصة قوله : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ).
الثالثة : جعل الله أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم مساوين له فى خمسة أشياء :
فى المحبة ، قال تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).
وقال لأهل بيته : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ).
والثانى : فى تحريم الصدقه.
قال عليه الصلاة والسلام : (حرمت الصدقة على وعلى آل بيتى ).
والثالث فى الطهارة قال الله تعالى : ( مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى). وقال لأهل بيته : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ).
الرابع : السلام قال : (السلام عليك أيها النبى ). وقال فى أهل بيته : ( سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ).
فى الصلاة على الرسول وعلى آله كما فى آخر التشهد ..
* * *(1/120)
المقام الخامس : العزة :
قال الله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). وهاهنا نكت :
الأولى : عزة الله عزة الربوبية ، وعزه الرسول عزة النبوة ، وعزة المؤمنين عزة تلفظ بكلمة لا إله إلا الله ، ثم كما أن عزة الله وعزة رسوله لا يقبلان الذل ، فكذالك عزة المؤمنين لا تقبل الذل.
الثانية : لله عزة الإنشاء والتكوين ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وللرسول عزة الدنيا حين أشار للقمر فانشق ببركة دعائه ، وللمؤمنين عزة الإيمان والشهادة.
ثم إن الأشياء تكونت عند قوله : (كن ) ، والقمر انشق عند دعاء الرسول ، فنرجوا أن يحصل الغفران والرحمة للمؤمنين عند كلمة الشهادة.
الثالثة : عز المؤمن فى أن قيده المعرفة ، وصيده الجنة ، وعبده الرؤية فإذا كان عبد المؤمن رب كاف ، وكتاب شاف ، ورسول واف ، اسمه إسم الله ، ولسانه شاهد الله ونفسه طالبتة مرضات الله ، وقلبه محل نظر الله ، وسراجه معرفة الله وشهادته محبة الله ، وبصيرته مشتاقة إلى رؤية الله فحقيق أن يكون عزه متصلاً بعزة الله.
الرابعة : لله العزة سواء أوجد أو أعدم ، وللرسول بالولاية سواء بلغ أو سكت ، فكذلك المؤمن له العزة سواء أطاع أو عصى.
الخامسة : لله العزة بالولاية ، لقوله : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ).. وللرسول بالولاية أيضاً لقوله : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).
وللمؤمنين العزة أيضاً بالولاية لقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) .(1/121)
السادسة : لله العزة بالعلو والعظمة ، لقوله :
( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ).
وللرسول بالرفعة ، لقوله : ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ). وللمؤمنين بالقبول والرحمة ، لقوله : (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا).
السابعة : لله عزة المعبودية لقوله : ( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).
وللرسول عزة المتبوعية ، لقوله (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
وللمؤمنين عزة العبودية ، لقوله : (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).
الثامنة : لله عز الإستغناء : (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ). ولرسول عز الإغناء : (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى). وللمؤمنين عز الإغناء : ( وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ).
التاسعة : قال على رضى الله عنه من أراد عزاً بدون ذل ، وهيبة بغير سلطان ، وغنى بغير مال ، وحسباً بغير نسب فليُخرج نفسه من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
العاشرة : قال هارون الرشيد لمنصور بن عمار من أعقل الناس ، وأجهلهم ، وأغناهم ، وأعزهم ؟
فقال أعقلهم محسن خائف ، وأجهلهم مسئ آمن ، وأغناهم القانع ، وأعزهم الأتقياء.
* * *
المقام السادس : الطاعة :
قال الله تعالى : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ). وهاهنا نكت : (1/122)
الأولى : فى الخبر : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح )
وقال "لا تجتمع أمتى على ضلالة".
وقال عليه الصلاة والسلام : (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى ، عضوا عليها بالنواجذ).
وقال " اقتدوا بالذين من بعدى أبو بكر وعمر ". وكل ذلك يدل على أنه كما يجب طاعة الله وطاعة الرسول فكذلك يجب طاعة أولى الأمر من المؤمنين.
الثانية : قيل : بقاء الدنيا بسيوف الأمر أو لسان العلماء ، فعليك بطاعتهما إلا فى معصية الله.
* * *
المقام السابع : المشاقة :
قال الله تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ). الآية ،
وهاهنا نكت :
الأولى : بحور عظيمة يهلك العبد فيها أن لم يكن له معتصم يتمسك به فيجعل حبل التوحيد سبباً للنجاة من البدعة لقوله : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ).
وحبل الإجماع سبباً للنجاة من الفتن ، لقوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ). ثم قال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ).
الثانية : قال عليه السلام " سبع من الهدى ، فيهن الجماعة ، من خرج منهن فقد خرج من الجماعة : لاتشهدوا على أهل قبيلتكم بكفر ولا بشرك واتركوا سرائرهم إلى الله ، وصلوا على من مات من أهل
القبلة. وصلوا الصلوات الخمس فى الجماعة خلف كل بر وفاجر : وجاهدوا مع كل خليفة ، ولا تخرجوا على أئمتكم بالسيف ، وادعوا لهم بالصلاح ولا تدعوا عليهم ، وجانبوا الأهواء كلها ، فإن أولها وآخرها باطل " .(1/123)
الثالثة : سئل واحد عن القلب السليم فقال : هوالذى دينه بلا شك ، ومذهبه بلا هوى ، وعمله بلا رياء ، وبدنه بلا خصم.
المقام الثامن : فى الأذى :
يدل عليه قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ).
أعلم أن الله تعالى نهى عن إيذاء المؤمن كما نهى عن إيذاء نفسه وإذاء رسوله ، ثم أكد ذلك فقال : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ).
وقال : (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).
وقال عليه الصلاة والسلام : "المؤمنون قوم بررة ، هم المتحابون المتبازلون. والمنافقون قوم فجرة. هم المتقاطعون المتدابرون ".
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضى الله عنها : "إن الله يبغض الفاحش والمتفحش".
وفيه نكت :
الأولى : قال الله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ). ولم يقل ويلعنونهم ويؤذونهم.
الثانية : قال عليه الصلاة والسلام " إن الله رفيق يحب الرفقاء ".
الثالثة : عاتب الله نوحاً حين دعا على قومه بالهلاك فقال : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ). ولم يقل : أعداء بعض.
وقال ابن عمر رضى الله عنه : " إذا لعن العبد دابة تقول الدابة : لعن الله أعصانا لربه "
الرابعة : قال تعالى لرسوله : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) .(1/124)
وقال : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
ونهى عن الهمز واللمز فقال : ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). وقال : (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ).
وقال لموسى وهارون : (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا).
وقال تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى).
* * *
المقام التاسع : الا لتجاء قال تعالى : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ).
فمدح المؤمنين على الجهاد وعلى التولى فى ذلك للمؤمنين ، لأن المنافقين كانوا يتولون اليهود ، ويتخذونهم وليجة وبطانة ، فعليك أن تتولى الله ورسوله والمؤمنين وليجة وبطانة.
وفيه نكت :
الأولى : أنه مدح إبراهيم حيث تبرأ من أبيه وشكى عن حاطب بن أبى بلتعه حيث كابت الكفار فقال : (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ).
وقال : ( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
فسمى من يتولى الله ورسوله حزب الله ثم قال :
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
الثانية : قال الواسطى : علامة المؤمن أربعة :
لايشكو من(1/125)
المصائب ، ولا يتخذ عمله رياء ويحتمل أذاى خلقه
ولا يكافئهم ، ويدارى عباده على تفاوت أخلاقهم.
* * *
المقام العاشر فى الشهادة على التوحيد :
السؤال الأول :
هو أن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية ، ومن شهد لنفسه فإن تلك الشهادة لا تقبل فى الفقه ؛
والجواب من وجوه :
الأول : أن هذا فى الظاهر شهادة ، وفى المعنى إقرار ، وإقرار المقر على نفسه مقبول. وإنما قلنا : أن هذا إقرار ، لأنه لما أدعى الوحدانية فى الألهية فقد أقر بأن الخلق كلهم عبيده ، ورزق العبيد على المولى لازم ، فكأنه تعالى أقر على نفسه للخلق كلهم بالرزق والحفظ والنصرة. ألا ترى أنه قال : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ).
الثاني : أن الشهادة عبارة عن قول يدل على شئ دلالة ظاهرة ، ثم ذلك القول لايراد لكونه قولاً ، بل لكونه دالا على ذلك المطلوب فلا جرم كل فعل قام مقام القول فى ذلك التعريف كان شهادة.
ثم إن القول الدال لو كانت دلالته قطعية غير محتملة كان أولى بأن يكون شهادة. وإذا ثبت ذلك فجميع المخلوقات دالة على وحدانية الله تعالى وإلهيته دلالة قطعية عقلية ، فكانت أولى بأن تكون شهادة ، فإذاً شهادة الله على التوحيد لأجل أنه خلق الدلائل الدالة على الوحدانية قطعاً ، وأما شهادة الملآئكة وأولو العلم فمعناها شهادة الإقرار والإعتراف ،
فكانت شهادة الله على ذلك أقوى .(1/126)
الثالث : وهو ان كل مسألة يتوقف العلم بصدق الرسول على العلم بصحتها فإنه يمكن إثباتها بالدلائل السمعية.
ومسألة الوحدانية كذلك ، فلا جرم ذكر العلماء أنه يمكن إثبات أن الإله واحد بالدلائل السمعية.
وإذا كان الأمر كذلك ، كان المقصود من هذه الشهادة أن يستدل بها على وحدانية الله تعالى.
السؤال الثانى : أنه تعالى نهى العباد أن يمدحوا أنفسهم ، فقال : (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ).
ثم مدح نفسه ، وأثنى على نفسه ، فما السبب ؟
والجواب من وجوه :
الأول : وهو أنه إذا حصل للواحد منا نوع فضيلة فذلك فضل الله وكرمه ، والمستحق للثناء هو الله ، حيث اعطى تلك الفضيلة ، فلا جرم يقبح من الواحد منا أن يثنى على نفسه. أما الحق سبحانه فإنه قد حصلت له صفات الكمال ، ونعوت الجلال على
وجه يمتنع زواله وتغيره ، فظهر الفرق.
الثانى من الفرق : أن ما فينا من الخصال الممدوحة لا ينفك عن أضدادها فإن علمنا مشوب بالجهل وقدرتنا مشوبة بالضعف ، وملكنا لغرض الهلاك ، وبقاءنا لغرض الفناء ، وحياتنا لغرض الموت ، وأما صفات الله تعالى فإنها خالية عن أضدادها ، فإنه عالم بلا جهل ، وقادر بلا عجز ، وملك بلا زوال ، وبقاء بلا فناء ، وحياة بلا موت ، وعز بلا ذل ، فظهر الفرق.
الثالث : أن الله تعالى إنما نهى عبده عن تزكية نفسه لأن العبد يقدم الدعوى على إظهار المعنى ، فأما الحق سبحانه وتعالى فإنه كان أظهر المعنى قبل الدعوى ، لأنه خلقك وأعطاك الحياة والعقل ، وأنواع المنافع ، فإظهار الدعوى بعد إقامة البرهان على المعنى يكون مستحسناً ، بخلاف حال العبد(1/127)
فإن أكثر أحواله يكون بإظهار الدعوى مقدمة على إظهار المعنى والله أعلم.
الرابع : أن من أوله نطفة مذرة ، وأخره جيفة قذرة ، وفيما بينهما حمال العذرة ، لا يليق به أن يمدح نفسه ، أنما يحق مدح النفس لمن هوالأول والآخر والظاهر والباطن.
الخامس : أن حب الإنسان لنفسه غالب فإذا شرع فى مدح النفس استولى ذلك عليه ، ثم إن ذلك يعميه ويصمه عن التنبه لما فيه من المعايب ويصير ذلك سبباً فى بقائه فى ظلمات الحماقات والجهالات ، بخلاف الحق سبحانه وتعالى ، فإنه منزه عن النقائص والآفات فلا يصير مدحه لنفسه سبباً لشئ من المعايب والنقائص
السؤال الثالث :
لما شهد لنفسه بالوحدانية ، فأى حاجة مع حصول شهادته إلى شهادة الملآئكة وأولى العلم ، وما الحكمة فى أنه تعالى ذكر بعد شهادة نفسه شهادة الملآئكة وأولى العلم ؟
والجواب من وجهين :
الأول : روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يمشى خلف جنازة ، فقال واحد : هذا الميت كان رجلا صالحاً فقال عليه الصلاة والسلام : "واحد. وقال الثانى والثالث كذلك ، فقال إثنان ، ثلاثة. فلما قال الرابع مثل ذلك قال : وجبت فقيل : يا رسول الله
وما التى وجبت ؟ فقال : وجبت مغفرته فى كرم الله تعالى والجنة ".
لأن المؤمنين شهود الله تعالى على وحدانيته ، فلو لم تقبل شهادتهم هنا لصارت شهادتهم بالوحدانية باطلة غير مقبولة(1/128)
وهو حكيم لا يفعل ذلك.
وإذا عرفت هذا فنقول : الله تعالى لما جعل المؤمنين شهود الوحدانية ، فلو أظهر ذنبهم ومعصيتهم يوم القيامة كانت شهادتهم مردودة وذلك لا يليق بحكمة الحكيم. فلما جعلهم فى هذه الآية شهوداً على وحدانيته دل ذلك على أنه تعالى لا يظهر قبح فعلهم يوم القيامة ، اللهم حقق رجاءنا بكرمك.
الثانى : أنه ليس المقصود من ذكر شهادة الملآئكة والمؤمنين توقيف هذا المطلوب على شهادتهم ، بل المقصود شهادة الله لهم بأنهم موافقون الله فى كل ما وصل اليهم من نهيه وأمره وخبره ، والمقصود إظهار شرفهم فى كونهم موافقين لله تعالى فى هذه الشهادة ، لا توقيف المطلوب على شهادتهم.
السؤال الرابع :
ما الحكمة من تكرير لا إله إلا الله فى ( شهد الله ). الآية ؟
والجواب من وجوه :
الأول : أن المقصود من التكرير التنبيه على أن الإنسان يجب أن يكون مواظباً على ذكر هذه الكلمة فى أكثر أوقات عمره.
الثانى : أنه لما حصلت هذه الكلمة أول الآية آخرها صار ذلك تنبيهاً على أنه يجب على العاقل أن يجعل هذه الكلمة مذكورة فى أول عمره آخرة ، حتى يكون فى الدنيا سعيداً ، وفى لآخرة حميداً.
الثالث : أن إحدى هاتين الشهادتين كانت قبل خلق الخلائق ، والثانية بعد خلقهم.
الرابع : أنه ذكر إحدى هاتين الشهادتين عن نفسه ، والأخرى عن خلقه.
* * *(1/129)
الفصل السابع
فى الأحكام الفقهية المتفرعة على قولنا لا إله إلا الله
اعلم أن الإيمان لابد له من أمرين :
أحدهما هو : أن الأصل حصول المعرفة بالقلب ، واليه الإشارة بقوله : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ).
وثانيها : الإقرار باللسان وبالتوحيد ، وإليه الإشارة بقوله : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). وذلك لأن قوله :
(قل ). أمر للمكلف بأن يقول بلسانه ما يدل على التوحيد ، ثم أكد هذه الدلالة بالسنة الغراء ، وهى قوله عليه الصلاة والسلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ".
والسبب فى أنه لابد من هذا القول هو أن للإيمان أحكاماً ، بعضها يتعلق بالباطن ، وبعضها بالظاهر فما يتعلق بالباطل هو أحكام الآخرة ، وذلك متفرع عن العلم الذى هو باطن عن الخلق ، وما يتعلق بالظاهر هو أحكام الدنيا ، ولا يمكن إقامتها إلا بعد معرفتنا أنه مسلم ولا معرفة إلا بالقول باللسان ، فصارت المعرفة ركناً أصلياً فى حق الله تعالى ، والقول ركناً شرعيا فى حق الخلق واليه الإشارة بقوله تعالى : ( وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ).
وقال عليه الصلاة والسلام " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة ".
وقال تعالى : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ).
جنة فى الوقت وجنة فى المعرفة ، وجنة فى العقبى وهى جنة الآخرة .(1/130)
واختلف المحققون ، فقال الأكثرون :
الأول أن يكون للذكر فى الإبتداء قول : لاإله إلا الله. وفى الإنتهاء الإختصار على ذكر كلمة : الله. ومنهم واظب فى الإبتداء والإنتهاء على ذكر لا إله إلا الله.
وحجة هؤلآء : أن عالم القلب مشحون بغير الله ، فلابد من النفى لنفى الأغيار ، فإذا صار خالياً فحينئذ يوضع له منبر التوحيد ، ويجلس على سلطان المعرفة.
وأما الذين أكتفوا فى الإنتهاء بكلمة ( الله ). فلهم فى ذلك وجوه :
الحجة الأولى : أنه نفى الغيب عدم.
الحجة الثانية : من قال : لا إله إلا الله ، فلعله حين ذكركلمة النفى لا يجد من المهلة ما يصل فيه إلى الإثبات ، فحينئذ يبقى فى النفى غير منتقل إلى الإثبات ، وفى الجحود غير منتقل إلى الإقرار.
الحجة الثالثة : أن المواظبة على هذه الكلمة مشعرة بتعظيم الحق ، ينفى الأغيار ، إلا أن نفى الأغيار من باب الإشتغال ، والإشتغال فى الأغيار يرجع فى الحقيقة إلى شغل القلب بالأغيار ، وذلك يمنع من الإستغراق فى نور التوحيد ، فمن قال : لا إله إلا الله فهو مشتغل بغير الحق [ وبالحق ] ومن قال : الله فهو مشتغل بالحق [وحده] فأين أحد المقامين من الآخر.
الحجة الرابعة : أن نفى الشئ إنما يحتاج اليه عند خطور ذلك الشئ بالبال ، وخطور ذلك الشئ بالبال لا يكون إلا عند نقصان الحال ، فأما الكاملون الذين لا يخطر ببالهم وجود الشريك فقد أمتنع أن يكلفوا بنفى الشريك ، بل لا يخطر ببالهم ولا يجرى فى خيالهم إلا ذكر الله ، فلا جرم يكفيهم أن يقولوا : الله.
الحجة الخامسة : قال الله تعالى : (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ).(1/131)
فأمره بذكرالله ، ومنعه من الخوض معهم فى أباطيلهم ولعبهم ، والقول بالشريك من الأباطيل واللعب ، ونفيه خوض فى ذلك الكلام ، فكان الأولى الإقتصار على قولنا ( الله ). فهذا ما فى هذا المقام.
وهاهنا أنواع من التضرعات :
أحدها : أن نقول إلهنا ، إن موسى عليه السلام سأل أجل الأشياء فقال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ). وسأل أقل الأشياء فقال : (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).
فنحن أيضاً نسألك أجل الأشياء وهى خيرات الآخرة ، وأقلها وهى خيرات الدنيا. فنقول : (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ).
وثانيها : يحكى أن رجلاً باع جارية ثم ندم ، واستحيا من المشترى أن يظهر هذه الحالة فكتب فى كفه حاجته ورفعها إلى السماء ، فرأى المشترى فى المنام : أن فلاناً من أحباء الله وقلبه معلق بهذه الجارية فردها عليه ، وأجرك على الله.
فلما أصبح الرجل حمل الجارية اليه ، وردها عليه. فأراد البائع أن يرد الذهب فقال المشترى : أن لهذا الثمن ضامناً وهو خير منك ، إلهنا ، إن كان ذلك البائع ندم على بيع تلك الجارية ، فنحن ندمنا على بيع الآخرة بالدنيا وإذا كان ذلك البائع استحيى من العود ، فنحن من كثرة ذنوبنا نستحيى منك وإذا كان ذلك البائع قد كتب على كفه شيئاً من حاجته ورفعها إلى السماء ، لجميع أعضائنا مكتوب عليها إحتياجنا إلى رحمتك ، وذلنا بين يديك إلهنا كما ضمنت دين الغرماء فاقبل ديننا ، وأسقط عنا تبعات أعمالنا ، وأفعل بنا ما أنت أهله ، يا من لا يشغله شأن عن شأن .(1/132)
ثالثها : يروى أن الصديق رضى الله عنه كان يخافت فى صلاته بالليل ، ولا يرفع صوته بالقراءة ، وكان عمر رضى الله عنه يجهر بها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر عن فعله فقال : من أناجيه يسمع كلامى ، وسأل عمر فقال : أوقظ الأوثنان ، وأطرد الشيطان ، وأرضى الرحمن ، فإمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر برفع صوته قليلاً ، وأمرعمر بخفضه قليلاً ،
إلهنا ، الإيمان فينا كالرسول ، والقلب مثل أبى بكر ، واللسان مثل عمر ، والقلب يخافت بالذكر كأبى بكر ، واللسان يظهر الذكر كعُمر ، والإيمان يأمر القلب بالزيادة فى الذكر ، ويأمر اللسان بإخفاء الذكر فوفقنا لما تحب وترضى بفضلك يا أكرم الأكرمين.
فصل
روى الأمام محمد بن على الحكيم الترمذى عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من نفس تموت فتشهد أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله يرجع ذلك إلى قلب موقن ، إلا غفر الله له ".
قال الشيخ : فهذه شهادة شهد بها عند الموت ،وقد ماتت نفسه من الشهوات ، ولانت نفسه المتمردة من هول الموت وذهب حرصه ، وألقى نفسه بين يدى رب العزة ، وقدرة رب العالمين ، فاستوى منه الظاهر والباطن ، فلقى الله مخلصاً بتلك الشهادة ، فغفر الله له بتلك الشهادة التى وافق ظاهرها باطنها.
وأما الذى يقوله أيام الصحة فقوله مع التخليط ، لأنه يشهد بهذه الشهادة وقلبه مشحون بالشهوات ، ونفسه أشرة بطرة ، فلا يستحق بذلك القول المغفرة. فهذا هو التفاوت بين ذكر الشهادة فى حالة الصحة وذكرها فى آخر زمان الحياة .(1/133)
وتمام القول فيه : أن الإنسان الذى يكون قلبه مفتوناً بدنياه مأسوراً فى الشهوات ، يكون سكران عن الآخرة حيران عن الله لم يحصل فيه اليقين ألبتة ، لأن قلبه مملؤ بالميل إلى غير الله فلا يحصل فيه الميل إلى الله ، أما إذا حصل فى القلب اليقين بأن كان الأمر بخلاف ذلك : وذلك لأن اليقين سمى يقيناً لإستقراره فى القلب ، وهوالنور يقال : يقن الماء فى الحفرة إذا أستقر فيها وإذا أستقر النور دام ، وإذا دام صارت النفس ذات بصيرة ، فاطمأن القلب بجلال الله ، ثم أنقطع عن غير الله ، فوقف هناك عاجزا، فاستغاث بالله صارخاً مضطراً ، فأجابه الحق ، فإنه يحجيب دعوة المضطرين فتفرق ذلك النور المتلألئ فى القلب ، فأنمحقت به ظلمات الأشتغال بغير الله ، فيصير الملكوت مشاهداً له ، وهو قول حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم " كأنى أنظر إلى عرش ربى بارزاً " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " عبد نور الإيمان قلبه ".
ومما يحقق ما قلناه قوله عليه الصلاة والسلام : " من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير ، مخلصاً بهاروحه ، مصدقاً بها قلبه ولسانه ، فتقت له السموات فتقاً حتى يظهر الرب إلى قائلها من أهل الدنيا " .(1/134)
وعن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا اله مخلصاً دخل الجنة قيل : يا رسول الله ، وما إخلاصها ؟ قال : أن تحجزه عن المحارم ".
وقال عليه الصلاة والسلام : ( أخلص يكفيك القليل ).
وعن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الله عهد إلى ألا يأتينى احد من أمتى بلا إله إلا الله لا يخلط بها شيئاً إلا وجبت له الجنة ، قالوا : يا رسول الله ، وما الذى يخلط بها ؟ قال حرصاً على الدنيا ، وجمعاً لها ، ومنعاً لها يقول بقول الأنبياء ، ويعمل عمل الجبابرة ".
فالحاصل : أنه لابد من اليقين عند المتكلم بهذه الكلمة حتى تكون نافعة ولا يحصل اليقين إلا بموت الشهوات ، ولايحصل موت الشهوات إلا بأحد طريقين :
أحدهما : أن يروض نفسه حتى تموت شهواته حال حياته.
والثانى : إن ماتت شهواته عند وفاته ، وعظم رجاؤه وخوفه من ربه انقطع نظره عن غير الله بالكليه إضطراراً ، فإذا تكلم ونطق بهذه الكلمة فى تلك الحالة أستوجب المغفرة .(1/135)
فلهذا السبب استحب السلف أن يلقنوا المحتضر هذه الكلمة. قال عليه السلام : "لقنوا موتاكم ".
فإن الإنسان عند القرب من الموت تموت شهواته ، ويحصل له نور اليقين ، فصارت هذه الكلمة مقبولة منه.
وأما الأول وهو الذى يروض نفسه ، فقد فتح الله له روزنه إلى الغيب ، فركبته أهوال سلطان الجلال ، فينطق بها عن القلب الصافى ، فهو بالمغفرة أولى.
وعن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب السموات ورب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين : قالوا يارسول الله ، فكيف هى للحى قال : هى أجود وأجود ).
وكان أهل البيت يسمون هذه الكلمات : كلمات الفرج. فيتكلمون بها فى النوائب والشدائد فيجيئهم الفرج وفيه زيادة : "لا إله إلا الله العلى العظيم ".
وعن مكحول : أن كلمات الفرج : "لا إله إلا الله العلى العظيم ، لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين ".
وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا أعلمك كلمات إذا قالتها غفرت لك ذنوبك ، وإن كانت مثل عدد الذر من الخطايا : لا إله إلا الله العلى العظيم ، سبحان الله رب السموات ورب العرش العظيم ، الحمد لله رب العلمين).
فصل
قال جعفر بن محمد الصادق : عجبت لمن أبتلى بأربع كيف يغفل عن أربع :
عجبت لمن أعجب بأمر كيف لا يقول : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله ). وإنه تعالى يقول : (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ) .(1/136)
وعجبت لمن خاف قوماً كيف لا يقول : حسبى الله ونعم الوكيل ، والله تعالى يقول : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *انْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ).
وعجبت لمن مكر به كيف لا يقول : وأفوض أمرى إلى الله أن الله بصير بالعباد ، والله تعالى يقول : ( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)
وعجبت لمن أصابه هم أو كرب لا يقول : (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فيقول الله : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وقال سفيان بن عيينة : إن الله لما قال : (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ). فقد وعد كل مؤمن يقول :
(لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
أن ينجيه من الغم. ومعلوم بالضرورة أن الله لا يخلف الميعاد.
فصل
فى أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة الله تعالى
لما كان كل ماتتصور النفس فالله بخلافه ، فلم يتمكن العقل والنفس من الإشارة إلى حقيقة معلومة بأن حقيقة الإله هى هذه الحقيقة ؛
ويروى عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن ذات الله فقال : ذات الله موصوفة بالعلم ، غير مدركة بلإحاطة ، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ، ودلهم عليه بآياته ، والقلوب تعرفه ، والعقول لا تدركه ، ينظر اليه(1/137)
المؤمنون بالإبصار من غير إحاطة ، ولا إدراك نهاية ..
وروى عنه أيضاً أنه قال : غاية المعرفة الدهشة والحيرة
وقال الشبلى : من أشار اليه فهو ثنوى ، ومن كيفه فهو وثنى ، ومن نطق فيه فهو غافل ،ومن سكت عنه فهو جاهل ، ومن وهم أنه واجد فهو فاقد ، وكل ما ميزتموه بأفهامكم ، وأدركتموة بعقولكم فهو مصروف مردود اليكم ، محدث مصنوع مثلكم.
واعلم أن من الناس من احتج فى هذه المسأله بآيات ، منها قوله تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
قال أهل التفسير : وما عرفوه حق معرفته. من قدر الثواب إذا حزره وأراد معرفة مقداره.
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف ، لأن هذه الآية وردت فى كتاب الله تعالى فى ثلاثة مواضع.
أولها فى سورة الأنعام : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).
فهؤلآء الذين قالوا : (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ). كانوا منكرين كل النبوة ، ومن كان كذلك كان كافر ، فقوله تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ). عائد إلى هؤلآء.
وثانيها : قال الله تعالى فى سورة الحج : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ). فلماكان الكلام مع عبدة الأوثان كان هذا الكلام قائداً اليهم.
ثالثها : قال الله تعالى فى سورة الزمر : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ). ثم قال بعد هذا :(1/138)
( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ). فيكون هذا الكلام عائداً إلى الذين أشار اليهم قبل هذه الكلمة بقوله : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ).
وإذا ثبت هذا فقوله : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) عائد فى الأولى إلى منكرى النبوات ، وفى الثانية والثالثة إلى عبدة الأوثان ، فلا يلزم من وصف الكفار بهذا الوصف كون المؤمنين كذلك موصفين به.
ومما أشتهر التمسك به فى هذه المسألة قوله تعالى فى سورة طه : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا). وأجيب عنه بأن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أنه تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون علما بما بين أيديهم وما خلفهم. فالضمير فى قوله تعالى : (به). لا يكون عائداً إلى الله ، بل عائداً إلى ما بين أيديهم وما خلفهم ، لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى.
وأعلم أن العمدة فى هذه المسأله أن الله سبحانه غير متناه فى الذات والصفات ، والعقل متناه فى الذات والصفات ، والمتناهى لا سبيل له إلا إدراك غير المتناهى ، وهذه هى النكتة المستحسنة ، ونحن نشرحها لتظهر قوتها أن شاء الله إن شاء الله فنقول :
الحجة الأولى :
العقل عاجز عن معرفة كونه تعالى قديما أزليا ً ، وذلك لأن كل ما يستحضره العقل استحضاراً على سبيل التفصيل من مقادير الأزمنة فذلك متناه ، مثلا نفرض قبل هذا الوقت ألف ألف سنة ، ونفرض بحسب كل لمحة من هذه المدة ألف ألف سنة ، وهكذا إلى أقصى ما يقدر الوهم والخيال على استحضاره ثم إذا تأمل العقل عرف ان كل ذلك متناه ، والحق سبحانه إنما كان قديما(1/139)
ازليا لأنه كان موجود قبل هذه المدة التى أحاط العقل والخيال بها فثبت أن كل مقدار يصل العقل والخيال اليه فالحق باعتبار أنه كان موجوداً فيما وراء ذلك الوقت ، بل باعتبار أنه كان موجوداً فيما وراء ذلك ، فإذاً لا سبيل للعقل ألبتة إلى معرفة القدم والأزل. وإذا عرفت هذه فى كونه أزلياً قديماً فاعرف مثله فى كونه دائماً أبديا.
فإذاً العقل لا سبيل له ألبتة إلى معرفة كونه دائماً أبدأ على سبيل التفصيل ، فإن كل ما يشير العقل اليه فازليته وأبديته خارجتان عن ذلك المقصود.
وأيضاً إذا قلنا : أنه كوجود ليس بجوهر ولا عرض ولا حال ولا محل ، فهذا ليس يقتضى معرفة ذات الحق سبحانه وتعالى ، لأنا أردنا بقولنا : موجود ، ما يناقض العدم فهذا المفهوم المناقض للعدم أمر يصدق على جميع الموجودات ، وحقيقة الحق سبحانه وتعالى لا توجد فى شئ سواه ، فالعلم بكونه موجوداً ليس علماً بحقيقة المخصوصية.
واما علمنا بكونه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً فهذا علم بعدم هذه الأشياء ، وليس علماً بحقيقته ، لأن حقيقته ثابتة متحققة ، والسلب لا يكون نفس الثبوت ، فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه لا سبيل للعقول إلى معرفة حقيقة الله سبحانه وتعالى.
وما يحقق ما ذكرنا أن العقلاء أتفقوا على أن كل صفة شاهدها الحس ، وأدركها العقل فى المكونات ، فلو وصف أحد بها الحق صار جاهلاً ، فإذاً لا طريق له فى معرفة الحق إلا بنفى كل ما عرفه ، ولهذا أتفقوا على أن أحسن كلمة قيلت فى التوحيد ما قاله على بن أبى طالب رضى الله عنه هى : أن تعرف كل ما يتصور فى ذهنك فالله سبحانه وتعالى بخلافه.
ثم قال المحققون : لما كان كل ما تتصور فى ذهنك فالله بخلافه ، فلو تصور فى ذهنك من ذلك الخلاف شئ فالله تعالى بخلافه ، ثم لو تصور فى هذه المرتبة الثانية أمر آخر لزم نفيه ، فلم يبق للعقل فى طريق معرفة الله سبيل إلا أن ينفى كل ما يقع فى خاطره ، ثم إذا وقع من هذا النفى شئ اشتغل بنفيه أيضاً ، وهكذا فى النفى الثالث ، والنفى الرابع إلى ما لا نهاية.
فلو نفى أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان مشغولاً بهذا النفى. وإذا كان الأمر كذلك بقى الحق منزهاً لواحق الفكر ، وإشارة العقل ، وعلائق الضمير.(1/140)
الحجة الثانية :
وهى أن الإنسان عاجز عن معرفة نفسه. فإن قيل أن نفسه هى هذا الهيكل المشاهد فهو باطل من وجهين :
الأول : أن الإنسان قد يعرف ذاته حال ما يكون غافلاً عن جميع أعضائه الظاهرة والباطنة ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، والثانى أن ذاته من أول عمره إلى آخره شئ واحد ، وأجزاء بدنه من أول عمره إلى آخر عمره غير باقية ، والباقى مغاير لغير الباقى فثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل المحسوس.
ثم بعد هذا يحتمل أن يقال : إنه جسم فى داخل الهيكل ، إما فى القلب فقط ، وإما فى الدماغ فقط ، أو يكون مساوياً فى كل البدن : ثم ذلك الجسم أهو من جنس الأجسام التى تولد البدن عنها ، أهو جسم مخالف لهذه الأجسام فى الماهية والحقيقة.
ويحتمل أيضاً أن يقال : أنه ليس بمتحيز ولا حال فى المتحيز ، بل هو مدبر لهذا البدن على ما يقوله الفلاسفة.
واعلم ان هذه الإحتمالات بقيت من الزمان الأقدم إلى الآن ، وبعد ما زالت الشكوك والشبهات ، ولا شك ان أعرف المعارف فى الشئ المشار اليه بقولى : أنا ، فإذا كان هذا حالى فى معرفة أظهر الأشياء فكيف يكون حالى فى معرفة أبعد الأشياء مناسبة عن علائق العقول وروابط الخيالات.
وتحقيق الكلام فيه : أن العقل كالشمع ولا شك أن كل ما كان أقرب إلى الشمع كان ضره أكثر مما بعد عنه ، وأقرب الأشياء إلى الشخص نفسه ، فإذا كان نور العقل أضعف من أن يبصر ذاته ، فكيف يدرك حضرة الجلال مع بعده عنها بغير نهاية.
واعلم أنه كما وقعت الشبهات المذكورة فى معرفة النفس فقد وقعت أيضاً فى معرفة حقيقة الزمان وحقيقة المكان ، وتحير الخلق أن القوة الباصره كيف تبصر بحصول الشبح أو بخروج الشعاع ، وكذا البحث عن القوة السامعة ، والقوة الزائقة ، وتحيروا أيضاً فى البحث عن كيفية التخيلات ، فإن هذه الصور المتخيلة إن لم يكن لها وجود أصلاً فكيف يكون حصول التمييز والتعيين فيها.
وإن كان لها وجود فهى قائمة بأنفسها ، أو محلها شئ مجرد أو محلها جسم ، والكل محال ممتنع .(1/141)
ولما كانت معرفة الخلق بهذه الأمور الظاهرة الجليلة بلغت حداً من الصعوبة إلى هذا الحد فما ظنك بمعرفتهم بمن تقدس عن مناسبات العقول والأفكار ، وتنزه عن مشابهات الخيلات والأنظار.
* * *
الحجة الثالثة :
العقل لا يتصرف إلا فيما يكون فى زمان أو مكان ، لأن كل ما أدركه فإنه يدركه فى الماضى أو فى المستقبل أو فى الحال ، وكل ذلك تحت الزمان ، وكل ما يتصوره فإنه إنما يتصوره إما هاهنا أو هناك ، وكل ذلك بحسب المكان ، وإذا قلت : الحق سبحانه بخلاف هذه الأشياء فمعرفته هذه المعرفة ليس إلا نفى ما عرفته وتصورته. فالحاصل فيه نفى غير الحق ، ونفى غير الحق لا يكون هو عين وجدان الحق.
" تم الكتاب بحمد الله تعالى "(1/142)