بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن أشرف العلوم علم كتاب الله عزّ وجلّ، فقد أنزله على خير خلقه، بلسان عربي مبين، هدىً للمتقين، ورحمةً وشفاءً للمؤمنين. وحثّ النبي صلى الله عليه وسلّم على تعلّمه وتعليمه، فقال فيما روى عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه: "خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه"(1). والذين يعكفون عليه تلاوةً وحفظاً وتدبراً، ويتدارسونه، ويمتثلون أوامره ونواهيه، سمّاهم النبي صلى الله عليه وسلّم (أهل القرآن) وبشّرهم بأنهم أهل الله وخاصته. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عزّ وجلّ أهلين" قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: " أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته"(2).
وأول ما يحتاج إليه لفهم القرآن معرفة معاني ألفاظه ومن ثم كان علم غريب القرآن من أول العلوم التي نشأت ودوّنت في التاريخ الإسلامي.
وقد عني به علماء اللغة وغيرهم عناية عظيمة، فكثر التأليف فيه كثرة لا يأتي عليها الحصر، ولكن الكتب الأصيلة منها – في ضوء ما وصل إلينا من مصنفات هذا العلم – قليلة معدودة.
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه. انظر ط. دار السلام ص 1093 .
(2) مسند أحمد 19: 305، وحسّنه محققه.(1/1)
وسيتناول هذا البحث كتاباً ألّف في هذا العلم في النصف الأول من القرن الماضي، وكان مؤلّفه العلامة عبدالحميد الفراهي أحد أفذاذ العلماء المتأخرين، "نادراً في علماء العرب فضلاً عن علماء الهند" كما يقول الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله.(1) وأجمع معاصروه من شيوخه وأقرانه على نبوغه في علم القرآن وتبحره في علوم العربية. والناظر في مؤلفاته لا يسعه إلا أن يصدق قول القائل: "كم ترك الأول للآخر".
وقد ألّف ما يربو على عشرين كتاباً في اللغة العربية، معظمها في علوم القرآن، ومنها هذا الكتاب الذي طبع قبل (45) سنة ونفد قبل أن يصل إلى العالم العربي، واقتضت أهمية الكتاب أن يعرّف به في هذه الندوة الكريمة. فكسر البحث على تمهيد وفصلين: التمهيد في نشأة علم غريب القرآن وتطوره وتعريف موجز بأشهر الكتب المصنفة فيه. ولما كان مؤلف الكتاب غير معروف عند كثير من الباحثين، ويدل على ذلك أنه لم يترجم في كتاب الأعلام للزركلي رحمه الله، خصص الفصل الأول لترجمته، ثم يتناول الفصل الثاني التعريف بكتاب مفردات القرآن وبيان منهجه وميزته وقيمته العلمية.
تمهيد
قد عُني المسلمون بتفسير ألفاظ القرآن في وقت مبكر، وتفننوا فيه. فصنّفوا كتباً في تفسير مشكل القرآن وغريبه، وأفردوا كتباً في لغات القرآن، وأخرى في الوجوه والنظائر. وأقدم الرسائل في كل نوع من الأنواع المذكورة تنسب إلى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما (ت 68هـ). ولا غرو في ذلك فهو ترجمان القرآن وحبر الأمة، فكثرت مروياته في التفسير كثرة ظاهرة، كما كثر الحمل عليه أيضاً في هذا الباب.
__________
(1) مجلة الضياء 2 : 7 ص 260.(1/2)
وقد صرّح بعض المتقدمين بتأليف ابن عباس رضي الله عنهما في فن الوجوه والنظائر، فقال أبو عبد الرحمن إسماعيل بن أحمد الضرير النيسابوري الحيري (ت 430هـ) في مقدمة كتابه (وجوه القرآن): "والسابق بهذا التصنيف عبد الله بن عباس ثم مقاتل ثم الكلبي"(1). وقد أشار ابن الجوزي (ت 597 هـ) إلى أنه "قد نسب كتاب في الوجوه والنظائر إلى عكرمة عن ابن عباس، وكتاب آخر إلى علي بن أبي طلحة عن ابن العباس"(2).
أما فن لغات القرآن فقد وصلتنا رسالة رواها إسماعيل بن عمرو بن راشد الحداد (ت 429هـ) بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح (ت 114هـ) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهي مطبوعة(3).
__________
(1) التصاريف، مقدمة المحققة: 28.
(2) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر: 82.
(3) نشرها صلاح الدين المنجد سنة 1946 عن نسخة محفوظة في دار الكتب الظاهرية.(1/3)
أما تفسير غريب القرآن بوجه عام، فذكر فؤاد سزكين أن كتاباً لابن عباس رضي الله عنهما بتهذيب عطاء بن أبي رباح يوجد مخطوطاً في مكتبة عاطف أفندي بعنوان "غريب القرآن"(1). ومما روي عنه مسائل نافع بن الأزرق (ت 65هـ) المشهورة، سأله عنها ابن الأزرق طالباً الاستشهاد على كل مسألة منها بشاهد من كلام العرب. وقد وردت جملة من تلك المسائل في كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد (224هـ) (2) والكامل للمبرد (ت285هـ) – وقد نقلها من بعض كتب أبي عبيدة (ت210هـ) وغيره (3) - والوقف والابتداء لابن الأنباري (ت328 هـ)(4) والمعجم الكبير للطبراني (360هـ)(5). وساقها السيوطي بتمامها إلا بضعة عشر سؤالاً -حسب قوله- في كتاب الإتقان(6)
__________
(1) تاريخ التراث العربي 1/67 ولكن في موضع آخر من الكتاب (ص90) نسب سزكين النسخة نفسها إلى أبي جعفر بن أيوب المقرئ الذي كان تلميذاً لعبد الملك بن جريج (ت 150هـ). وينسب إلى علي بن عبد الله بن عباس – وكان أصغر أبنائه – (ت 117هـ) كتاب بعنوان "معاني ألفاظ القرآن" في مخطوطة قم. انظر تاريخ التراث العربي 8: 36.
(2) الإتقان في علوم القرآن 2 : 56.
(3) الكامل 3/1144-1155.
(4) إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل: 76 - 98.
(5) المعجم الكبير 10 : 248 – 256.
(6) الإتقان في علوم القرآن 2/56-88. وانظر لنسخ من هذه المسائل: تاريخ التراث العربي 1/67، وقد نشرها محمد فؤاد عبد الباقي سنة 1950م ملحقة بكتابه معجم غريب القرآن مستخرجاً من صحيح البخاري 234-281 بعد ما رتب الألفاظ على حروف المعجم. ثم نشرتها بنت الشاطئ سنة 1971م مع دراستها في كتابها الإعجاز البياني في القرآن 269-509 وهناك نشرة مستقلة بعنوان "سؤالات نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن عباس" أخرجها إبراهيم السامرائي في بغداد سنة 1968م، ولم أطلع عليها. وقد وقفت بأخرة على نشرة أخرى لها بتحقيق محمد عبدالرحيم وأحمد نعامة، صدرت من مؤسسة الكتب الثقافية في القاهرة 1413هـ، بلغ عدد المسائل فيها إلى 250 مسألة بينما هي في الإتقان 189 مسألة حسب ترقيم بنت الشاطئ في كتابها المذكور.(1/4)
.
ويرى بعض الباحثين أن الكتب المنسوبة إلى ابن عباس رضي الله عنهما كان بعضها - على الأقل - من تأليفه هو(1)، بينما يرجح آخرون أنها من تدوين الرواة(2)، على غرار ما صنعه السيوطي، إذ استخرج أقوال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير مفردات القرآن مما روي عن طريق علي بن أبي طلحة (120هـ) فجمعها في فصل مفرد (3). وأياً كان الأمر، فلا شك أن مرويات ابن عباس رضي الله عنهما هي التي مهدت للتدوين في علم غريب القرآن، في وقت مبكر، وهيأت المادة الأولى لكل من ألّف فيه.
وإذا رجعنا إلى المصادر للبحث عن أول من ألف في غريب القرآن طالعنا بعضها بثلاثة أسماء من طبقة واحدة، وهي:
أبو سعيد أبان بن تغلب البكري (ت 141 هـ).
محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ).
أبو روق عطية بن الحارث الهمداني.
وقد جاء ذكرهم في ترجمة أبان عند ياقوت إذ قال: "صنف كتاب الغريب في القرآن، وذكر شواهده من الشعر. فجاء فيما بعد عبدالرحمن بن محمد الأزدي الكوفي، فجمع من كتاب أبان ومحمد بن السائب وأبي روق عطية بن الحارث، فجعله كتاباً فيما اختلفوا فيه وما اتفقوا عليه، فتارة يجيء كتاب أبان مفرداً، وتارة يجيء مشتركاً على ما عمله عبدالرحمن"(4).
__________
(1) تاريخ التراث العربي 8/24.
(2) المعجم العربي 1/3.
(3) الإتقان في علوم القرآن 2/6-54.
(4) معجم الأدباء 1: 38(1/5)
وبناءً على هذا النص يعد معظم الباحثين المعاصرين أبان بن تغلب أول من صنف في غريب القرآن (1)، ولكن ليس فيه ما يقطع بذلك، فإن الثلاثة من طبقة واحدة، وهي الطبقة الخامسة من الكوفيين من طبقات ابن سعد(2)، وترتيبهم في الذكر عند ياقوت لا يستلزم تقديم أحدهم على الآخر في التأليف أيضاً. ولكن يعارض أولية هؤلاء ماجاء في غير واحد من المصادر أن أول من ألف في غريب القرآن هو أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 هـ)، منها كتاب الأوائل لأبي هلال العسكري (ت بعد 400 هـ) الذي يقول: "أول من صنف في غريب القرآن أبو عبيدة معمر بن المثنى. صنف كتاب المجاز، وأخذ ذلك من ابن عباس حين سأله نافع بن الأزرق …" (3) ونقل ابن خير الإشبيلي (ت 575 هـ) قول أبي بكر الأدفوي (388 هـ) إن: "أول كتاب جمع في غريب القرآن ومعانيه كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى، وهو كتاب المجاز"(4).
ولعل الذي يرفع الخلاف بين القولين أن أبا هلال وغيره يقصدون أول من ألف من أهل اللغة، فإن الثلاثة الأولين يعدون من أهل التفسير، ويشهد بذلك قول ابن درستويه (ت347هـ): "وذلك أن أول من صنف في ذلك من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنى، ثم قطرب بن المستنير، ثم الأخفش، وصنف من الكوفيين الكسائي ثم الفراء"(5). وقد شهد القرنان الثاني والثالث إقبالاً عظيماً على التأليف في غريب القرآن، وعلماء اللغة هم الذين كانوا فرسان هذا الميدان، فقلما نجد منهم من لم يذكر له كتاب في هذا الفن، حتى الأصمعي الذي روي أنه كان يتحرج من تفسير ألفاظ القرآن نسب إليه كتاب في غريب القرآن(6).
__________
(1) انظر المعجم العربي: 33 ومقدمات كتب غريب القرآن.
(2) طبقات ابن سعد 6/358، 359، 369.
(3) الأوائل 2/130.
(4) فهرست ابن خير 134 وانظر ص 60 وانظر الوسائل في مسامرة الأوائل للسيوطي: 112.
(5) تاريخ بغداد 12: 405.
(6) هدية العارفين : 623 . وفي الفهرست للنديم: "كتاب لغات القرآن للأصمعي" (ص38).(1/6)
وتسمى كتبهم في المصادر بأسماء مختلفة من (غريب القرآن)، و (معاني القرآن)، و (مجاز القرآن)، و (ما يستعجم الناس فيه من القرآن) و (غرائب القرآن). وهي عناوين كانت متقاربة في مدلولها في ذلك العصر، فكان الكتاب الواحد يطلق عليه أحياناً (مجاز القرآن) و (معاني القرآن)، و(غريب القرآن) و(إعراب القرآن) أيضاً، ومثال ذلك كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى. ولعل سبب ذلك أن الكتب الأولى التي ألّفت في هذا المجال لم تكن مقصورة على تفسير ألفاظ القرآن فحسب، بل كانت تضم بالإضافة إلى ذلك - مباحث النحو والصرف والقراءات، وتفسير ما أشكل من معاني الآيات، ومذاهب العرب في القول؛ على اختلافها في التوسع في إيراد تلك المباحث بحسب اهتمام مؤلفيها وثقافتهم. ويتضح ذلك جلياً من دراسة الكتب الثلاثة التي وصلت إلينا من كتب الأوائل، وهي:
مجاز القرآن لأبي عبيدة (ت 210 هـ).
معاني القرآن للفراء (ت 207 هـ).
معاني القرآن للأخفش الأوسط (ت 215 هـ).
ثم تتابعت الكتب في القرون التالية وبلغت كثرة لا يأتي عليها الحصر فقال السيوطي في الإتقان: "أفرده بالتصنيف خلائق لايحصون"، وسنقف هنا وقفة قصيرة عند بعض الكتب المشهورة في هذا الفن:
ومنها كتاب تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ت 276 هـ). وقد جعله مقصوراً على الغريب، غير خالط إياه بمسائل العربية التي ضمّن بعضها كتابه السابق (تأويل مشكل القرآن).
ورتّبه على ثلاثة أقسام: الأول في ذكر أسماء الله الحسنى وصفاته وفسر فيه ستة وعشرون حرفاً، والثاني في ألفاظ كثر تردادها في القرآن فلم ير بعض السور أولى بها من بعض وفسر فيه أربعين حرفاً. والثالث سائر الكتاب الذي رتبه على ترتيب السور في المصحف.
وقد ذكر ابن قتيبة أن كتابه "هذا مستنبط من كتب المفسرين، وكتب أصحاب اللغة العالمين "، واختار في كل حرف "أولى الأقاويل في اللغة وأشبهها بقصة الآية" نابذاً منكر التأويل ومنحول التفسير.(1/7)
وكان غرضه في الكتاب الاختصار والإكمال فلم يحش كتابه بالنحو وبالحديث والأسانيد حتى لا يطول الكتاب فيقطع منه طمع المتحفظ وبغية المتأدب (1).
ومن كتب الغريب التي عدها الزركشي "من أشهرها" كتاب نزهة القلوب لابن عزيز السجستاني (ت 330 هـ) وكتاب الغريبين لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي (ت 401 هـ) (2). أما كتاب ابن عزيز فيقال إنه صنفه في خمس عشرة سنة، وكان يقرؤه على شيخه أبي بكر بن الأنباري، فكان يصلح له فيه مواضع (3).
ولعل سبب إعجاب العلماء بهذا الكتاب يرجع إلى أمرين أولهما تحرير المعنى باختصار، والثاني ترتيبه البديع، فقد رتبت فيه الألفاظ على حروف المعجم، ولم ينظر فيها إلى أصلها واشتقاقها، غير أنه اتبع في ذلك منهجا غريباً، وهو أنه يقسم الحرف الواحد إلى ثلاثة أبواب، المفتوح ثم المضموم ثم المكسور، ثم يرتب الألفاظ في كل باب على السور، ولا ينظر إلى الحرف الثاني ومابعده. ولكن لم يسلم له هذا الترتيب العجيب، فاضطرب في مواضع كثيرة، وصعب البحث عن الكلمات فيه.
أما الهروي فهو أول من جمع بين غريب القرآن وغريب الحديث، وسمى كتابه (كتاب الغريبين) "ورتبه مقفىً على حروف المعجم على وضع لم يسبق في غريب القرآن والحديث إليه" كما يقول ابن الأثير في مقدمة النهاية (4)، واشترط في كتابه الاختصار، فقلل الشواهد، وحذف الأسانيد. واستدرك على كتاب الهروي الحافظ أبو موسى المديني (ت 581 هـ) في كتابه (المجموع المغيث في غريب القرآن والحديث ورتبه حسب ترتيب كتاب الهروي (5).
__________
(1) تفسير غريب القرآن، مقدمة المؤلف، ص 3.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 291.
(3) نزهة الألباء: 232 .
الإتقان 2 / 3.
(4) النهاية في غريب الحديث 1 / 8.
(5) صدر بتحقيق عبد الكريم العزباوي من جامعة أم القرى سنة 1406 هـ(1/8)
وقد بلغ التأليف في غريب القرآن إلى قمته في كتاب المفردات للراغب الأصفهاني (ت نحو 412 هـ) وقد عده الزركشي من أحسن كتب الغريب (1)، وقال فيه الفيروز آبادي: "لا نظير له في معناه" (2). وكتاب الراغب – كما يقول الدكتور حسن نصار – " أشبه مايكون بمعجم كامل للالفاظ القرآنية " (3)، وقد رتبه على حروف المعجم معتبراً فيه أوائل الحروف الأصلية دون الزوائد، ولكن لم يراع ترتيب الحرف الثاني والحرف الثالث من الكلمة. ومنهجه فيه أنه يذكر أولاً المعنى الحقيقي للمادة ثم يتتبع دورانها في القرآن الكريم فيورد مشتقاتها ويبين مناسبتها بالمعنى الأصلي. وعلى الرغم من أن الراغب ذكر في المقدمة أنه استخار الله تعالى "في إملاء كتاب مستوفىً فيه مفردات ألفاظ القرآن على حروف التهجي"، أغفل ألفاظاً كثيرة لم يفسرها، نحو (زبن) أو أخل في تفسيرها، كما ذكر مواد لم ترد في القرآن الكريم نحو مادة (زعق).فألف شهاب الدين أحمد بن يوسف الشهير بالسمين الحلبي (ت 756 هـ) كتاب (عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ) وبناه على كتاب الراغب، ثم زاد عليه زيادات كثيرة حسنة، مع إتقان الترتيب وإيراد الشواهد وجمع الأقوال (4).
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 12 / 291
(2) البلغة: 91.
(3) المعجم العربي 1 / 44
(4) صدرت للكتاب ثلاث طبعات أولاها في إستانبول من دار السيد للنشر سنة 1407 هـ بعناية محمود محمد السيد الدغيم، وهي طبعة مصورة من نسخة الكتاب المحفوظة في مكتبة نور عثمانية (إستانبول).(1/9)
ولا يفوتني في هذا التمهيد المختصر أن أشير إلى (معجم ألفاظ القرآن الكريم) الذي وضعه مجمع اللغة العربية في القاهرة، وصدر عام 1390 هـ وهو مرجع جيد في هذا الباب. ولكن لم يتحقق به الهدف الذي ذكره الأستاذ محمد حسين هيكل الذي اقترح وضعه على مجمع اللغة، وقد أشار إليه في تقديمه لكتاب (معجم غريب القرآن مستخرجاً من صحيح البخاري) للأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي، فقال: "فالفكرة التي قصدت أنا إليها يوم اقترحت وضع هذا المعجم هي أن يقف من يدرس القرآن على معاني ألفاظه عند العرب حين أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فكثيراً ما تتغير قيم الألفاظ وإن لم تتغير معانيها تغيراً أساسياً.." (1).
وقد ألف في الهند في النصف الأول من القرن الماضي كتاب في تفسير ألفاظ القرآن سماه مؤلفه (مفردات القرآن)، وكان مختلفاً عن كثير من الكتب المؤلفة في هذا الفن، فلم يكن الغرض من تأليفه الاختصار أو التسهيل أو الحفظ، وكان من مقاصده ما أشار إليه الأستاذ محمد حسين هيكل، ومع أن الكتاب لم يكمل ونشر عن مسودة، وإنه لجدير بما تضمنه من تحقيقات ونظرات جديدة وفوائد قيمة أن يعرّف به في هذه الندوة الكريمة.
وقد ألّفه مؤلفه مثل سائر كتبه في علوم القرآن باللغة العربية، ليطلع عليها علماء العالم الإسلامي، ولم يعبأ بإلحاح أستاذه شبلي النعماني وأصدقائه على التأليف بلغة قومه (الأردية) ولكن المؤسف أنه لم يتحقق غرضه، ومما يدل على ذلك أنه لاتوجد ترجمة له في المراجع التي ترجمت للأعلام مثل كتاب الزركلي. ومن هنا رأى الباحث أن يعرّف بالمؤلف قبل التعريف بكتابه المذكور.
الفصل الأول
ترجمة المؤلف
(1) اسمه ونسبه ونشأته العلمية:
…هو عبد الحميد بن عبدالكريم بن قربان قنبر بن تاج علي، حميد الدين، أبو أحمد الأنصاري، الفراهي.
__________
(1) معجم غريب القرآن.(1/10)
نسبة (الفراهي) إلى قريته التي ولد فيها واسمها (فريها) فعربّها، ويرى بعض الباحثين أن أسرته هاجرت من المدينة المنورة إلى أفغانستان، وأقاموا زمناً في (فراه)، فلما نزحوا إلى الهند ونزلوا في هذه القرية سمّوها باسم موطنهم، وتحرفت على ألسنة الناس إلى (فريها) (1).
ولد الفراهي صباح يوم الأربعاء في السادس من جمادى الآخرة سنة 1280هـ في القرية المذكورة من قرى مديرية (أعظم جره) في ولاية (أترابراديش) الحالية.
وكانت أسرته من الأسر الأنصارية الكريمة، ويعد أهلها من أعيان المنطقة ووجهائها. وكانت معروفة بنسبها وعلمها ومكانتها الاجتماعية. فنشأ الفراهي وترعرع في رخاء ونعمة. بدأ تحصيله العلمي في منزله - كدأب أبناء البيوتات الشريفة في عهده - بقراءة القرآن الكريم على مؤدبه الأول الشيخ أحمد علي(2)، وحفظ القرآن وهو ابن عشر سنين أو نحو ذلك.(3)
__________
(1) مقال (ترجمان القرآن مولانا حميد الدين فراهي رحمه الله) للدكتور شرف الدين الإصلاحي. مجلة معارف، عدد رجب 1411 هـ، ص 88.
(2) المرجع السابق، ص 89.
(3) الترجمة الذاتية للفراهي ضمن مقال (الإمام حميدالدين الفراهي رحمه الله) للأستاذ شير محمد في مجلة الضياء 2 / 7 ص 260.(1/11)
ثم تعلم اللغة الفارسية في منزله أيضاً في مدة تسعة أشهر (1)، أخذها عن مؤدبه الثاني الشيخ محمد مهدي، وكان من علماء الفارسية وشعرائها (2). وسرعان ما حصلت له بذكائه وتوقد ذهنه ملكة قوية في اللغة الفارسية، وامتلك ناصية البيان، فبدأ يقرض الشعر، ولم تمض مدة قليلة حتى أخذ يجاري فحول شعراء الفارسية. فقال قصيدة صعبة الرديف - وهو ابن ست عشرة سنة - عارض بها قصيدة خاقاني الشرواني الملقب بحسان العجم (ت 595 هـ) (3)، فلما عرضها ابن عمته العلامة شبلي النعماني (ت 1332 هـ) (4) على أستاذه الشيخ فاروق العباسي -من كبار أدباء الفارسية- وسأله عن قائلها، قال: لا أدري ولكن الظاهر أنها لبعض الشعراء المتقدمين.(5)
بدأ الفراهي تعلم اللغة العربية، وهو ابن أربع عشرة سنة، فانتقل من قريته إلى مدينة (أعظم جره) وقرأ فيها أكثر كتب الدرس النظامي على العلامة شبلي الذي كان أكبر منه بست سنين. ثم توجه معه إلى مدينة (لكناؤ) وحضر هناك مدة يسيرة في دروس العلامة الفقيه الشهير عبدالحي الأنصاري اللكنوي (ت 1304 هـ) (6)، كما أخذ عن الشيخ فضل الله بن نعمة الله الأنصاري (ت 1312 هـ) أحد الفضلاء البارعين في المعقولات (7).
__________
(1) المرجع السابق ص 260.
(2) نزهة الخواطر 8: 248 وقد اطلعت على نسخة خطية من ديوانه الفارسي عند الشيخ بدر الدين الإصلاحي رحمه الله.
(3) انظر ترجمته في لباب الألباب: 405 .
(4) انظر في سيرته كتاب (حيات شبلي) للسيد سليمان الندوي والأعلام للزركلي 3 : 355.
(5) حيات حميد: 28.
(6) انظر ترجمته في نزهة الخواطر 8:250 .
(7) نزهة الخواطر 8: ص 248 وانظر ترجمته في 8: 387.(1/12)
ثم حداه حادي الشوق إلى التتلمذ على أديب العربية وشاعرها المفلق العلامة فيض الحسن السهارنفوري (ت 1304 هـ) (1) الذي كان مدرساً في الكلية الشرقية بمدينة (لاهور) فسافر إلى (لاهور) وقرأ عليه –بصفة شخصية- كتب الأدب العربي. وقد أحب الشيخ تلميذه لفرط ذكائه وحسن أدبه، فأهدى إليه نسخة كتبها وصححها بخط يده من كتابه (رياض الفيض) وهو شرح للمعلقات السبع في ثلاث لغات: العربية والفارسية والأردية (2). وكان من حب الفراهي لشيخه أنه نشر ديوانه العربي سنة 1334هـ على نفقته، وهو أول مطبوعات دار المصنفين بمدينة (أعظم جره).
وبعدما ما تخرج في العلوم المتداولة من المنقول والمعقول وعلوم العربية، أقبل سنة 1300 هـ – وهو ابن عشرين سنة – على اللغة الإنجليزية والعلوم الحديثة، فالتحق بثانوية (كرنل غنج) بمدينة (الله باد) ثم بكلية (علي جره) التي تطورت فيما بعد إلى (جامعة عليجره). وكانت العربية والفارسية مواد لازمة لطلاب الكلية، ولكن الفراهي أعفي عنهما، بل كلّف من قبل المسؤولين ترجمة كتابين إلى اللغة الفارسية لإدخالهما في المقررات الدراسية في الكلية التي كان هو أحد طلابها (3).
__________
(1) انظر ترجمته في نزهة الخواطر 8: 389.
(2) هذه النسخة النادرة محفوظة في مكتبة مدرسة الإصلاح، والكتاب مطبوع.
(3) أحدهما جزء من طبقات ابن سعد ونشر ترجمته الفارسية سنة 1891 م والآخر رسالة بدء الإسلام من تأليف العلامة شبلي النعماني باللغة العربية .(1/13)
وقد عني الفراهي في دراسته في الكلية بالفلسفة الحديثة ونال فيها درجة الامتياز مع اهتمامه بالإنجليزية والعلوم العصرية الأخرى. وقد أخذ الفلسفة من المستشرق الإنجليزي الشهير (توماس أرنولد) الذي كان من أساتذة الكلية، و عمل فيها مدرساً عشر سنوات (1). ومن مؤلفاته كتاب (الدعوة إلى الإسلام) الذي نال قبولاً عظيماً عند الباحثين المسلمين، ولكن الفراهي كان ينتقد هذا الكتاب انتقاداً شديداً ويرى أن الغرض من تأليفه تجريد المسلمين من روح الجهاد (2).
وفي أثناء طلبه في كلية علي جره، طلب إليه ترجمة تفسير سيد أحمد (مؤسس الكلية) إلى اللغة العربية، فرفضها قائلاً: "لن أشارك في نشر هذا الإثم" (3).
ثم درس سنتين علم القوانين الجارية (الحقوق)، ولكنه كان يكره الاشتغال به، فنبذه ولم يكمل تحصيله. (4)
(2) مناصبه وأعماله التعليمية والإدارية:
تولى الفراهي بعد إكمال دراسته مناصب عدة تعليمية، وإدارية. فعين سنة 1314هـ مدرساً للعربية والفارسية بمدرسة الإسلام في مدينة (كراتشي)، ودرس فيها أكثر من تسع سنوات.
ثم عيّن عام 1324هـ أستاذاً مساعداً للعربية في كلية عليجره، وكان أستاذ العربية فيها حينذاك المستشرق اليهودي الألماني (جوزف هوروفيتس) ناشر الجزأين الأولين من طبقات ابن سعد وصاحب كتاب (المغازي الأولى ومؤلفوها) (5)، ولعل تعيينهما كان في وقت واحد. وقد أخذ عنه الفراهي اللغة العبرانية، كما استكمل المستشرق عليه العربية. وفي أثناء إقامته في عليجره ألف الفراهي كتابه (إمعان في أقسام القرآن) ونشر تفسير سورتي القيامة واللهب.
__________
(1) انظر ترجمته في كتاب المستشرقون 2 / 84
(2) حيات حميد: 34
(3) المرجع السابق: 36، وقد ذكره من وقائع أيام تدريسه في عليجره، بينما يرى الدكتور شرف الدين أنه وقع أيام طلبه في الكلية. انظر مقاله السابق الذكر ص 92.
(4) مجلة الضياء 2/ 7 ص 260.
(5) انظر ترجمته في كتاب المستشرقون 2 / 433(1/14)
وبعد سنتين عيّن عام 1326هـ أستاذاً للعربية بجامعة (الله آباد) وقضى هناك نحو ست سنوات، أصدر خلالها تفسير سورة التحريم. واختير عضواً في اللجنة العربية للعلوم الشرقية. ولما اقترح سنة 1331هـ تأسيس جامعة عالمية في المدينة المنورة كان هو والعلامة شبلي النعماني من بين العلماء الذين اقترحت أسماؤهم للتدريس فيها (1).
ثم اختارته حكومة (حيدر آباد) عميداً لدار العلوم وكانت كلية شرقية فغادر إليها سنة 1332هـ منتدباً من قبل حكومة محافظته، وكان –بالإضافة إلى مسؤوليته الإدارية- يدرّس الصفوف العليا في الكلية.
وكان الفراهي أحد المؤسسين للجامعة العثمانية بحيدر آباد، وهو الذي اقترح أن يكون تدريس العلوم الشرعية في اللغة العربية، والعلوم العصرية باللغة الأردية، فوافقوا على الجزء الثاني ولكن لم يوافقوا على الجزء الأول من اقتراحه(2). وفي أثناء إقامته بحيدرآباد ألّف كتابه (الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح) ومقدمات من تفسيره (نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان). وكانت له حلقة أسبوعية لتفسير القرآن الكريم يحضرها العلماء والباحثون وطلبة علم القرآن، ويعرضون عليه أسئلتهم فيجيب عنها.
__________
(1) مجلة معارف، عدد رجب 1411هـ، ص 96 .
(2) حيات حميد: ص 17.(1/15)
مكث الفراهي بحيدر آباد إلى سنة 1337هـ، ثم استقال من منصبه مع رغبة المسؤولين في بقائه بـ(حيدرآباد)، وعاد إلى وطنه. وقد أشار إلى ذلك في ترجمته الذاتية الموجزة التي كتبها للدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله، حينما زاره في قريته في 17 رمضان سنة 1342هـ قائلاً: "ولما كانت هذه المشاغل تمنعني عن التجرد لمطالعة القرآن المجيد، ولا يعجبني غيره من الكتب التي مللت النظر في أباطيلها، غير متون الحديث وما يعين على فهم القرآن، تركت الخدمة، ورجعت إلى وطني، وأنا بين خمسين وستين من عمري. فيا أسفا على عمر ضيعته في أشغال ضرها أكبر من نفعها ! ونسأل الله الخاتمة على الإيمان". (1)
بعد عودته من حيدر آباد تولى الفراهي إدارة مدرسة إصلاح المسلمين التي أنشأتها جمعية إصلاح المسلمين في بلدة (سراي مير)، وقد قامت هذه الجمعية في منطقة (أعظم جره) لإصلاح عقائد المسلمين وإزالة البدع المنتشرة وفض المنازعات والخصومات بين المسلمين، ثم أسست الجمعية مدرسة إصلاح المسلمين - التي سميت فيما بعد بمدرسة الإصلاح اختصاراً - لتخريج علماء ودعاة يحملون رسالتها، فيستمر عمل الدعوة والإصلاح. وقد أسند الإشراف على المدرسة إلى الفراهي وهو في حيدر آباد، فلما رجع إلى وطنه باشر إدارة المدرسة، ووضع فكرتها التعليمية، ورسم لها منهاجاً دراسياً فريداً يختلف عن مناهج المدارس الدينية الأخرى في نظامها، ومقرراتها الدراسية، وطريقة التدريس فيها. وفي السنوات الخمس الأخيرة من عمره قد وقف جزءاًكبيراً من وقته وجهده على خدمة هذه المدرسة فكان يقيم ثلاثة أيام من كل أسبوع في المدرسة، ويلقي دروساً لتفسير القرآن الكريم على أساتذتها وطلابها الكبار(2).
__________
(1) مجلة الضياء 2/7 ص 260.
(2) حياة حميد: ص 38.(1/16)
ولما توفي العلامة شبلي النعماني سنة 1332هـ واجتمع تلامذته لتنفيذ فكرة أستاذهم لإنشاء مؤسسة دار المصنفين، اختاروا العلامة الفراهي رحمه الله رئيساً لها والعلامة سليمان الندوي مديراً.
(3) صفاته وأخلاقه:
كان الفراهي رحمه الله معروفاً بفرط الذكاء وثقوب النظر وسرعة الإدراك. وكان ورعه وزهده في الدنيا، وقصده في العيش، وعزوفه عن السمعة، وحسن تعبده، مع جود وغنى نفس وتواضع، موضع إجماع من معاصريه.
كان يقول شيخه شبلي النعماني رحمه الله: "من جلس إلى عبدالحميد انصرف قلبه عن الدنيا " (1). ويقول السيد سليمان الندوي رحمه الله: "كان رحمه الله آية من آيات الله في حدة الذهن وكثرة الفضل وسعة العلم ودماثة الخلق وسداد الرأي والزهد في الدنيا والرغبة في مرضاة الله" (2). ويقول الأستاذ عبد الماجد الدريابادي: "لم تر عيني مثله في الصبر والشكر والقناعة والتوكل وغنى النفس". وقال في موضع آخر: "كانت شخصية الفراهي قوية جذابة، قلما رأينا مؤمناً قانتاً مثله، قيل في وصف أولياء الله إن الجلوس معهم يذكّر الإنسان بالله سبحانه، وكان يصدق هذا الوصف على الفراهي صدقاً تاماً. أما الصلاة فكأن قلبه معلق بأوقاتها. أقام في حيدر آباد سنوات عميداً لدار العلوم، يتقاضى مرتباً عالياً، وكانت صلته بطبيعة الحال بعلية القوم، لكن لم يتغير شيء مما كان عليه من القناعة والاقتصاد في المطعم والملبس والديانة والصدق والإخلاص. أما مجالسه فلا مجال فيها للغيبة ولغو القول والهزل. وبالجملة فلم يكن له نظير لا في العلم والفضل ولا في الديانة والتقوى" (3).
وكان يصرف جزءاً من راتبه في شراء الكتب وتجليدها، والجزء الأكبر منه ينفقه على الفقراء واليتامى والأرامل (4).
__________
(1) حيات حميد: 55.
(2) انظر ترجمة الفراهي في أول من كتاب إمعان في أقسام القرآن للفراهي: 15.
(3) مقال الدريابادي في صحيفته (صدق) عدد 19/6/1945م.
(4) حيات حميد: 350.(1/17)
وقد أقبلت الدنيا على الفراهي، فتهيأت له فرص لو اغتنمها وسعى إلى ما يسعى إليه أهل الدنيا لنال أجل الرتب وأعلى المناصب، وحاز كل ما تطمع فيه النفوس من الأموال والألقاب وحسن الصيت، ولكنه كان زاهداً في كل ذلك، مقبلاً على الله، قائلاً للدنيا ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يادنيا غرّي غيري"(1). وكان من تيقظه وحذره في ذلك أنه قال في أثناء تلك الفرص التي يتمنى الناس حصولها في حياتهم مقطوعة رباعية في الفارسية يخاطب نفسه محذراً لها، ترجمتها: "الجاهل مشغول بالبحث عن لذيذ المآكل، والعاقل مصروف همه إلى نيل الصيت والسمعة. أما أنت أيها الفراهي فاجتنب الاثنين، فيوشك أن ترى كليهما قد نشبت حلوقهما في الحبالة"(2).
وكان من ورعه وعدله أنه حكم في قضية - جعله الخصم حكماً فيها - على والده، وكان من أبرّ الناس به، وخرج بذلك جزء كبير من ضياعه إلى ملك الخصم(3).
(4) ثقافته وعلومه :
كان الفراهي عالماً متفنناً، ذا ثقافة واسعة متنوعة، فقد برع في العلوم النقلية والعقلية، ومهر في اللغات العربية والفارسية والإنجليزية، وتعلّم اللغة العبرانية. وتميّز من بين معاصريه في الهند بأنه درس مع ذلك علوم الغرب وآدابه في اللغة الإنجليزية دراسة الناقد البصير، ثم لم يزده ذلك إلا قوة في الدين واستقامةً عليه علماً وعملاً.
لكن العلم الذي غلب عليه هو علم القرآن الذي بلغ فيه إلى منزلة تتقاصر دونها الهمم. ونكتفي هنا بلمحة موجزة عن ثقافته الواسعة التي امتازت في كل جوانبها بالكيف أكثر من الكم.
__________
(1) الرقة والبكاء: 198.
(2) نواي فهلوي: 40.
(3) حيات حميد: ص53.(1/18)
قد اعترف أقرانه وشيوخه بعلو منزلة الفراهي في معرفة اللغتين الفارسية والعربية فيقول الأستاذ عبد الماجد الدريابادي: "قد بذّ العلامة الفراهي في الآداب الفارسية والعربية أقرانه بل شيخه شبلي النعماني أيضاً"(1) وقد ذكرنا فيما سبق معارضته -وهو ابن ستة عشر عاماً- للشاعر الفارسي الشهير (خاقاني) بقصيدة صعبة الرديف بهرت أحد كبار علماء الفارسية وخيّل إليه أنها لبعض الشعراء المتقدمين.
وقد طبع ديوان شعره الفارسي عام 1903م فأرسل العلامة شبلي النعماني نسخة منه إلى الشيخ حبيب الرحمن الشيرواني وكتب إليه: " طبع شيء من شعر حميد الدين، نرسل إليكم نسخة منه، ولعلكم تنظرون في القصيدتين اللتين في آخر الكتاب لتتذوقوا اللسان الفارسي الأصيل "(2). وقد طبع الديوان مرة أخرى في طبعة أوفى بعنوان (نواي فهلوي) سنة 1967م.
للفراهي ديوان آخر ترجم فيه صحيفة أمثال سليمان إلى الفارسية القحة التي لايشوبها شيء من ألفاظ العربية وقد طبع في حياته في حيدرآباد بعنوان (خردنامه).
ومما يدل على تمكنه من الآداب الفارسية رسائل العلامة شبلي النعماني إليه في أثناء تأليفه كتاب (شعر العجم)، يقول في بعضها: " الأبيات التي سترسلها إلي من شاهنامه الفردوسي، ينبغي أن تفسر الغريب من ألفاظها في مواقعها، فإن أكثر ألفاظها غير مألوفة الآن"(3). وكتب في رسالة أخرى: "أرسل إلي أمثلة من التخييل في الشعر الفارسي حسب آراء النقاد الغربيين"(4).
__________
(1) مقاله (مولانا حميدالدين الفراهي) في صحيفة الداعي، عدد 3 ديسمبر 1976م.
(2) مكاتيب شبلي 1/124.
(3) المرجع السابق 2/28، وكتاب شعر العجم في تاريخ الشعر الفارسي في خمسة مجلدات.
(4) المرجع السابق 2/18.(1/19)
أما الإنجليزية فقد أتقن دراستها، وألّف فيها وحاضر، وقد اطلع بواسطتها على كتابات المستشرقين عن القرآن وتاريخ العرب، وعلى الأدب الإنجليزي شعراً ونثراً وبلاغةً، وعلى كتب الفلسفة الحديثة وما ترجم إليها من كتب الفلسفة والآداب اليونانية. ومن مؤلفاته بالإنجليزية رسالة في عقيدة الشفاعة والكفارة، ردّ بها على بعض علماء النصارى.(1)
وقد أقرت ندوة العلماء في اجتماعها السنوي الذي عقد في دلهي عام 1328هـ قرار إعداد ترجمة إنجليزية لمعاني القرآن الكريم، نظراً لأن التراجم الأخرى الموجودة في ذلك الحين تمت على أيدي النصارى. فشكّلت لجنة مؤلفة من العلامة الفراهي والنواب عماد الملك البلجرامي والشيخ محمد صالح، على أن يقوم عماد الملك بالترجمة ويراجعها الفراهي والشيخ محمد صالح.(2)
وقد درس الفراهي -رحمه الله- اللغة العبرانية، كما سبق، والذي دعاه إلى ذلك انتشار جمعيات التنصير في عهده في الهند، والرد عليهم من كتبهم يقتضي الاطلاع المباشر على كتب اليهود والنصارى، فاستفاد الفراهي بمعرفته للغة العبرانية ووقوفه على الدراسات المتعلقة بصحف أهل الكتاب في اللغة الإنجليزية، في كشف كثير من تحريفاتهم بنصوص كتبهم، كما نرى في كتابه (الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح) فقد جاء بثلاثة عشر دليلاً من التوراة نفسها للرد على زعمهم بأن الذبيح إسحاق عليه السلام، وناقش علماء أهل الكتاب، وفسّر ما أشكل عليهم من كتبهم. ومن مؤلفاته التي لم يكملها (الطريف في التحريف) الذي كان يريد أن يجمع فيه جملة من تحريفاتهم.
__________
(1) ذكرها السيد سليمان الندوي في ترجمة الفراهي الملحقة بكتابه (إمعان في أقسام القرآن). انظر طبعة دار القلم من كتاب الإمعان: 19.
(2) حيات شبلي : 582.(1/20)
ومن ثم لما جاءت فكرة الرد على شبهات المستشرقين وأقوالهم على القرآن الكريم وكتب بعض المسؤولين في حكومة (بهوبال) إلى العلامة شبلي النعماني رد عليه بأنه لا يوجد في الهند كلها من يستطيع أن يقوم بهذا العمل مثل حميد الدين الفراهي(1). وكتب في رسالة أخرى: " يندر في المسلمين من يجيد الكتابة في اللغة الإنجليزية (مع تبحره في القرآن) ولذلك فإن حميد الدين هو الذي يستطيع أن يقوم بهذا العمل خير قيام"(2).
أما العلوم العقلية فدرسها الفراهي أيام طلبه إذ كانت جزءاً لازماً من نظام الدرس في عصره، ثم اهتم بالفلسفة الحديثة حينما دخل كلية عليجره، ونال فيها درجة الامتياز، وقد واصل اطلاعه على ما كتبه فلاسفة الغرب. يقول الأستاذ عبد الماجد وكان من المختصين في الفلسفة الحديثة: "إن الفراهي قد درس الفلسفة دراسة واسعة وعميقة جداً، وكان يقرأ أحدث كتب الفلسفة والمنطق، ولم يكن يكتفي بالاطلاع عليها، بل يقرؤها قراءة بحث ونقد ومقارنة"(3). ومن هنا كان أعرف بخطرها وضررها وضلالها. وقد نبّه على ذلك في كتبه(4)، ثم لما قرر المنهج الدراسي لمدرسة الإصلاح حذف منه كتب المنطق والفلسفة، ولم يترك إلا مبادئهما ليعرف الطالب المصطلحات المستعملة في الفنين فيتمكن من الاستفادة من كتب علماء الإسلام في أصول الفقه والكلام. وكان من أعظم كتبه التي لم يكملها كتاب حجج القرآن، والأبواب الثلاثة الأولى منه في نقد الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، والعلماء والباحثون الذين حضروا مجالسه ومحاضراته في نقد هذه العلوم وبيان زيفها، كانوا يشبهونه بشيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك وفي تبحره في علوم القرآن.
__________
(1) مكاتيب شبلي، 1: 25.
(2) المرجع السابق 1 : 254 .
(3) مقالته في صحيفة الداعي، عدد 3 ديسمبر 1976م.
(4) منها كتاب المفردات قال فيه: "ومضرة كتب الفلسفة أضلّ وأوغل" (ص5).(1/21)
أما العربية فكان فيها إماماً لا يشق له غبار، وكان له في كل علم منها علومها من لغة، ونحو، وبلاغة، وعروض، تحقيقات واجتهادات واستدراكات على الأئمة. ونكتفي هنا بالإشارة إلى كتابه (جمهرة البلاغة)، الذي نقض فيه الأساس الذي يقوم عليه فن البلاغة عند أرسطاطاليس، وهو نظرية المحاكاة، ويرى الفراهي أن فن البلاغة العربية تأثر بهذه النظرية، فجار عن قصد السبيل. وانتقد في ذلك الإمام عبد القاهر الجرجاني مع اعترافه بجلالته، ودعا إلى تأسيس فن البلاغة على أسس منبثقة من القرآن الكريم وكلام العرب الأقحاح.
ولما أرسل الفراهي فصولاً من جمهرة البلاغة إلى العلامة شبلي النعماني أعجب به إعجاباً جعله يلخص مباحثه المهمة وبخاصة نقده لنظرية المحاكاة في مجلة الندوة التي كان يصدرها باللغة الأردية، مع أن النعماني نفسه يعدّ من أشهر النقّاد والكتّاب ومن الأركان الخمسة للأدب الأردي. وقد نشر الكتاب بعد وفاة المؤلف، ونفد قبل أن يصل إلى البلاد العربية ليأخذ مكانه من البحث والنقاش، فهو كتاب فريد في تاريخ البلاغة العربية.
وللفراهي ديوان شعر لطيف في العربية، طبع سنة 1387هـ، وقد ذكره الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله فقال في مذكراته: "وللشيخ المذكور ديوان شعر، سمعته منه، بليغ مؤثر في استنهاض همم المسلمين وبث الحياة في قلوبهم، وذكر عداء الإفرنج لهم، وذكر حرب طرابلس والحرب الكبرى، والرجل فصيح في التكلم لغاية…"(1). أما أسلوبه في الكتابة فيشبه أسلوب الأقدمين في الجزالة والرصانة والإيجاز والإشراق.
__________
(1) مجلة الضياء، عدد رجب 1352هـ.(1/22)
أما العلوم الشرعية فتشهد بطول باعه فيها الفصول التي سوّدها من كتبه: الرائع في أصول الشرائع، وإحكام الأصول بأحكام الرسول، وفقه القرآن، وكان ينوي تدوين فن أصول الفقه على نحو جديد بعد تخليصه مما اختلط به من مباحث الفنون الأخرى. وله تعليقات على كتب الحديث والفقه والأصول وغير ذلك، ولكن العلم الذي استحوذ على عقله وقلبه، فأقبل عليه إقبالاً منقطع النظير هو علم القرآن. وكل ما درسه من علوم المنقول والمعقول وآداب الأمم وفلسفتها سخره لخدمة القرآن الكريم والمنافحة عنه. وقد شرع في تدبر القرآن الكريم أيام طلبه في كلية عليجره، كما ذكر في فاتحة نظام القرآن، وكان كتاب الله أحب الكتب إليه، والنظر فيه ألذ من كل مافي الدنيا(1).
وكان يعكف كل يوم بعد قيام الليل على تدبر القرآن الكريم، ويستمر على ذلك بعد صلاة الفجر إلى الساعة التاسعة صباحاً، وظل ذلك دأبه أكثر من ثلاثين سنة. ولما استقال من عمادة دار العلوم بحيدرآباد صار يقضي معظم وقته في تدبر القرآن والتأليف فيه.
فحاز السبق في علم القرآن وفتح الله عليه من علومه ماشاء، وبلغ في ذلك شأواً لم يبلغه إلا قليل من أهل العلم، فلقبه معاصروه بترجمان القرآن. وقد ألف في تفسير القرآن وعلومه بضعة عشر كتاباً أجّلها تفسيره (نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان) الذي صدر منه أحد عشر جزءاً في حياته وجزءان بعد وفاته. ولعله لم يشرع في التفسير من أوله إلا في آخر حياته فوافاه الأجل وهو في تفسير الآيات (47-62) من سورة البقرة.
وله منهج فريد في التفسير أفاض القول في بيان أصوله في مقدمة التفسير (فاتحة نظام القرآن) وكتابه دلائل النظام، وأبانت عنه أجزاء التفسير المذكورة.
__________
(1) فاتحة نظام القرآن: 2 .(1/23)
وقد تكلم على كثير من الموضوعات القرآنية في المقدمة، أما المسائل التي كانت بحاجة إلى بسط القول فيها، فأفرد لها كتباً مستقلة. منها كتابه في تعيين الذبيح (الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح) الذي سبق ذكره، و (إمعان في أقسام القرآن) الذي تناول فيه قضية القسم على وجه العموم، وذكر أصله وأنواعه وأدواته وبلاغته، وانتهى إلى أن الأقسام الواردة في القرآن الكريم إنما هي للاستدلال والاستشهاد.
وقد خطّط الفراهي لتأليف اثني عشر كتاباً في علوم القرآن غير ماسبق، وكتب جملة من فصول بعضها. من أهمها كتاب حكمة القرآن، وكتاب حجج القرآن، وكتاب دلائل النظام، وكتاب مفردات القرآن.
(5) مصنفاته:
قبل أن نسرد أسماء مؤلفات الفراهي، يحسن أن نشير إلى منهجه في التأليف، فإنه يختلف عن منهج عامة المؤلفين الذين إذا عزموا على تأليف كتاب جمعوا مادته ثم رتبوها في صورة كتاب. أما الفراهي فإن الموضوعات التي رأى ضرورة الكتابة فيها وحلّ مشكلاتها كانت ماثلة بين عينيه، يديم النظر والبحث فيها، فإذا حقّق مسألة أو حلّ معضلة أو توصّل إلى رأي مقنع قيد ذلك وكتب عليه: "من كتاب … " حتى إذا اكتملت جوانب البحث أقبل على تأليفها وتنسيقها. ولذلك كان يؤلف كتباً عديدة في وقت واحد، ومن ثم بقي أكثر مؤلفاته ناقصاً، وآخر منها لم يتخط حدود ذهنه، ولا جرى به قلمه، مع أنه يحيل عليه في مؤلفاته، لأن كل بحث له مكان معين عنده. ونكتفي فيما يلي بإيراد أسماء مؤلفاته العربية المطبوعة:
أساليب القرآن، الدائرة الحميدية، الهند، سنة 1389هـ.
إمعان في أقسام القرآن، الطبعة الثالثة، دار القلم بدمشق، سنة 1415هـ.
التكميل في أصول التأويل، الدائرة الحميدية، الهند، سنة 1388هـ.
جمهرة البلاغة، الدائرة الحميدية، الهند، سنة 1360هـ.
دلائل النظام، الدائرة الحميدية، الهند، 1388هـ.
ديوانه العربي، الدائرة الحميدية، الهند، 1387هـ.(1/24)
الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، الطبعة الثالثة، دار القلم بدمشق، سنة 1420هـ.
فاتحة نظام القرآن، الدائرة الحميدية، الهند، 1357هـ.
في ملكوت الله، الدائرة الحميدية، سنة 1391هـ.
القائد إلى عيون العقائد، الدائرة الحميدية، سنة 1395هـ.
مفردات القرآن، الدائرة الحميدية، سنة 1358هـ.
نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، وهو تفسيره الكبير الذي صدرت منه الأجزاء الآتية:
تفسير سورة الفاتحة والبسملة. نشر مع فاتحة نظام القرآن سنة 1357هـ.
تفسير سورة الذاريات، مطبعة معارف بأعظم جره، دون تاريخ.
تفسير سورة التحريم، مطبعة فيض عام، عليجره، سنة 1326هـ.
تفسير سورة القيامة، الطبعة الثانية، الدائرة الحميدية، سنة 1403هـ.
تفسير سورة المرسلات، مطبعة معارف، دون تاريخ.
تفسير سورة عبس، مطبعة معارف، دون تاريخ.
تفسير سورة الشمس، مطبعة فيض عام، سنة 1326هـ.
تفسير سورة التين، مطبعة معارف، دون تاريخ.
تفسير سورة العصر، مطبعة فيض عام، سنة 1326هـ.
تفسير سورة الفيل، مطبعة معارف، سنة 1354هـ.
تفسير سورة الكوثر، مطبعة معارف، دون تاريخ.
تفسير سورة الكافرون، مطبعة فيض عام، سنة 1326هـ.
تفسير سورة اللهب، مطبعة معارف، دون تاريخ.
(6) وفاته وثناء العلماء عليه:
توفي رحمه الله - وهو يتلو القرآن الكريم - في 19 جمادى الآخرة عام 1349هـ على إثر عملية جراحية أجراها طبيبه الخاص في مدينة (مثورا) ودفن بها.
وقد رثاه عدد من أصحابه وأصدقائه بقصائد عربية وفارسية وأردية. وقد نقلنا فيما سبق أقوال بعض معاصريه عن علمه وخلقه، ونضيف هنا مقتطفات من ثلاث كلمات: أولها للعلامة السيد سليمان الندوي، وهي أقوى ما كتبه في وفيات الأعلام. وقد كتبها في مجلة (معارف) الصادرة من دار المصنفين بأعظم جره بعنوان (الصلاة على ترجمان القرآن) بدأها بقوله:(1/25)
"(الصلاة على ترجمان القرآن) نودي بذلك قبل نحو ستة قرون من مصر والشام إلى حدود الصين، للصلاة على الإمام ابن تيمية رحمه الله، وحقّ أن ينادى بذلك مرة أخرى من ربوع الهند إلى بلاد مصر والشام على الأقل، فإن ابن تيمية هذا العصر قد توفي في التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة 1349هـ (الموافق 11 نوفمبر سنة 1930م). ذلك الإمام الجليل الذي كانت شخصيته الجامعة بين علوم الشرق والغرب نادرة العصر، شخص واحد اجتمع فيه عالَم من العلم والمعرفة، ماهر في العلوم الدينية، ناقد للعلوم العقلية، وحيد عصره في علوم العربية، نسيج وحده في علم القرآن، عارف بحكمته ودقائقه، كنيف ملئ علماً، ولكن لم ينقل من علمه – مع الأسف – إلى الدفاتر والأوراق إلا قليل … "(1).
والكلمة الثانية للعلامة أبي الكلام آزاد رحمه الله قال فيها: " كان حميدالدين الفراهي رحمه الله من العلماء الربانيين الذين لا تكون بضاعتهم العلم فحسب، بل يجمعون بين العلم والعمل. ويندر وجود أمثال هؤلاء الحائزين للشرفين، كما لا يخفى على أهل النظر. وإني كلما قابلته تأثرت بعمله أكثر من علمه، فإنه كان رجلاً تقياً بكل معنى الكلمة … "(2).
__________
(1) مجلة معارف المجلد 26 العدد السادس ص 322.
(2) انظر مجلة الإصلاح المجلد الأول العدد الثامن ص56-61.(1/26)
وقد نقلنا من قبل بعض ما كتبه الدكتور تقي الدين الهلالي في مذكراته، حينما زار الفراهي رحمه الله قبل وفاته بسبع سنين، ومما جاء فيها أيضاً: " … والرجل فصيح في التكلم لغاية، نادر في علماء العرب فضلاً عن علماء الهند.. سمعت منه خطبة تفسيره للقرآن اغرورقت منها عيناي لفصاحتها وحقّيّتها. وهو عارف بمسألة الخلافة محقق لها، لا يلتبس عليه شيء من أمرها خلافاً لأهل الهند، مجتهد في العقائد والعمليات، لا ينتمي لمذهب لكنه يتعبد على مذهب الحنفية لأنه نشأ عليه ويعتقد أن الأمر في مثل ذلك سهل. ماهر في الإنجليزية والعربية والفارسية والأردية. وبالجملة فهو أعلم من لقيته قبل هذا الحين، وهو 17 رمضان 1342هـ " (1).
الفصل الثاني
كتاب مفردات القرآن
سبق في تمهيد هذا البحث أن علم غريب القرآن حظي بكثرة المؤلفات فيه كثرة لا يأتي عليها الحصر، وقد تناولته كتب التفسير والمعجمات العربية أيضاً، فما الذي دفع العلامة الفراهي إلى تأليف كتاب جديد في هذا العلم وجعله جزءاً من مشروعه القرآني العظيم؟ وهل أنجز هذا الكتاب؟ وما منهجه فيه ؟ وهل له ميزة على سائر الكتب المصنفة في هذا الفن ؟ سنجيب عن هذه الأسئلة في هذا الفصل.
(1) أسباب تأليف الكتاب:
يتضح من دراسة كتاب المفردات أن أهم الأسباب التي دعت الفراهي إلى تأليفه ثلاثة:
1- أهمية المعرفة الدقيقة لمعاني المفردات وقصور كتب اللغة والغريب:
__________
(1) مجلة الضياء المجلد الثاني العدد السابع ص 260.(1/27)
تحدث الفراهي في المقدمة الأولى لكتاب المفردات عن أهمية الموضوع وشدة الحاجة إليه، فقال: "لا يخفى أن المعرفة بالألفاظ المفردة هي الخطوة الأولى في فهم الكلام. وبعض الجهل بالجزء يفضي إلى زيادة جهل بالمجموع. وإنما يسلم المرء عن الخطأ إذا سدّ جميع أبوابه، فمن لم يتبين معنى الألفاظ المفردة من القرآن، (1) أغلق عليه باب التدبر و (2) أشكل عليه فهم الجملة، و (3) خفي عنه نظم الآيات والسورة … ثم سوء فهم الكلمة ليس بأمر هين، فإنه يتجاوز إلى إساءة فهم الكلام وكل ما يدل عليه من العلوم والحكم، فإن أجزاء الكلام يبين بعضها بعضاً للزوم التوافق بينها …". ثم أشار إلى "أن كتب اللغة والغريب لا تعطيك حدود الكلمات حداً تاماً".(1)
وهكذا لما ذكر المصادر اللسانية لتفسيره في المقدمة الثالثة من كتابه فاتحة نظام القرآن صرّح أولاً بأن المعاني الشرعية نحو الصلاة والزكاة والصوم وغيرها محفوظة لا خلاف فيها، وأنها لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة(2). أما سائر الألفاظ فيرجع فيها إلى استعمالاتها في القرآن الكريم وكلام العرب القديم. وهو لا ينكر أهمية كتب اللغة، ولكنه يرى أن مفسّر القرآن ينبغي أن لا يكتفي بالمعجمات بل يطلع على كلام العرب ويدارسه ويتذوقه، فإن كتب اللغة "كثيراً ما لا تأتي بحد تام، ولا تميز بين العربي القح والمولد، ولا تهديك إلى جرثومة المعنى. فمن لم يمارس كلام العرب واقتصر على كتب اللغة ربما لم يهتد لفهم بعض المعاني من كتاب الله".
تبين من ذلك أن أهمية المعرفة الدقيقة لمعاني المفردات في فهم الكلام، وقصور كتب اللغة والغريب في إعطاء هذه المعرفة هو السبب الأساس الذي دفع العلامة الفراهي إلى إفراد كتاب في هذا الموضوع.
2- الرد على الطاعنين من المستشرقين.
__________
(1) مفردات القرآن : 4-5.
(2) فاتحة نظام القرآن: 12-13.(1/28)
كتب المستشرقون كثيراً في ألفاظ القرآن، وزعموا أن عدداً كبيراً منها أخذه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وأن بعضها لم يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخطأ في استعماله في القرآن { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } (الكهف : 5).، وكان العلامة الفراهي رحمه الله مطلعاً على كتابات هؤلاء، فردّ عليهم في هذا الكتاب، وقد بيّن في تفسير بعض الكلمات خطأ علماء اليهود أنفسهم في فهم صحفهم، فيقول في كلمة (هادوا): "زعم الطاعنون في القرآن أن هذه الكلمة خطأ فإن اسم اليهود ليس مأخوذاً من مادة هود، بل هو للنسبة إلى يهودا فنبين اشتقاق هذا الاسم لتعلم أن طعنهم من سوء فهمهم القرآن وصحفهم.."(1)، وكذلك يقول في كلمة (النصارى): "زعم الطاعنون أن القرآن لم يعرف هذه التسمية وجعلها من النصرة لما جاء فيه { كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله } (االصف : 14). وهذا الطعن منشؤه الجهل بمعنى الآية، فإنها إنما ذكرت أمراً حقاً، ولم تذكر وجه التسمية. نعم، فيها إشارة إلى أن المسمّين بالنصارى يجب عليهم نصر الحق، لما في اسمهم تذكار لذلك، وأمثال هذه الإشارات توجد في كلام الأنبياء". ثم ذكر مثالاً لذلك من إنجيل متّى(2).
3- الإحالة في التفسير على كتاب المفردات تجنباً للتكرار:
__________
(1) مفردات القرآن : 70.
(2) مفردات القرآن: 69.(1/29)
طريقته في تفسير (نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان) أنه يتناول مجموعة آيات من السورة، ويفسّر أولاً مفرداتها، فالألفاظ التي كان يراها بحاجة إلى تفصيل القول فيها وتكثير الشواهد عليها، أراد أن يجمعها في كتاب المفردات ليجمل الكلام عليها في التفسير ويحيل الراغب في التفصيل على كتاب المفردات، وقد أشار إلى ذلك في خطبة كتاب المفردات قائلاً: "أما بعد، فهذا كتاب في مفردات القرآن، جعلته مما نحول إليه في كتاب نظام القرآن، لكيلا نحتاج إلى تكرار بحث المفردات، إلا في مواضع يسيرة يكون فيها الصحيح غير المشهور، فنذكر بقدر ما تطمئن به القلوب السليمة".(1)
(2) بناء الكتاب:
مما يبعث على الأسف أن كتاب المفردات من الكتب التي لم يقدّر للفراهي أن يكملها. والدلائل على ذلك كثيرة منها:
أنه يحيل في تفسير بعض الألفاظ عليه، وهو غير موجود فيه، نحو كلمة (المثاني) إذ قال في بعض تعليقاته على نسخته من لسان العرب: "الشواهد على ما قلنا ذكرناها في كتابنا في مفردات القرآن" (2). ولما تكلّم في تفسير سورة البقرة على اسم الإشارة (ذلك) في قوله تعالى: { ذلك الكتاب لا ريب فيه } أحال على المفردات (3)، والكلمتان غير واردتين في مسودته التي وصلتنا.
ما ورد في الكتاب في الصفحتين 9 - 10 بعنوان "في ألفاظ القرآن" و "العام والخاص" و"الحروف المقطعات" ليس إلا تذكرة كتبها المؤلّف لنفسه، حتى يفصلها في فصول كاملة. ومما يدل على ذلك أنه في "العام والخاص" أشار إلى أن في سورة الأعراف مثالاً للعطف ولم يذكر ذلك المثال. وقال في "الحروف المقطعات": "وإنا نورد كل ما علمنا من أقوالهم". ولكن لم يورد شيئاً منها هنا، ولا أتمّ كلامه على الحروف المقطعات.
__________
(1) المرجع السابق: 3.
(2) لسان العرب (ثنى) نسخة الفراهي المحفوظة في مكتبة مدرسة الإصلاح.
(3) تفسير سورة البقرة، مخطوط .(1/30)
في الكلام على كلمة (الرحمن) ذكر أن أكثر الناس يزعمون أن العرب في الجاهلية لم تعرف هذه الكلمة، وأن متمسكهم قوله تعالى { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } (الفرقان الآية 60)، ثم قال: "والتأويل عندي غير ما فهموه، كما سنذكره بعد إثبات أن العرب عرفت هذا الاسم للرب تعالى" (1)، ولكن لم يذكر تأويل الآية.
ومما استدل به على قوله: أن العرب "كانوا يسمّون بعبدالرحمن في الجاهلية مثل …" (2)، وترك البياض.
في الكلام على كلمة (لعل) قال: "تأتي للعلة كثيراً"(3)، ولم يزد على ذلك، وأجّل ذكر الأمثلة من القرآن وكلام العرب لوقت التبييض.
وبقي الكتاب مسودة إلى أن أسّس تلامذة المؤلف بعد وفاته بست سنوات مؤسسة سموها (الدائرة الحميدية)، فصدر الكتاب منها سنة 1358 هـ، بعدما أضيف إليه بضع وعشرون كلمة من تفسير نظام القرآن وغيره من كتب المؤلف. ونلقي نظرة هنا على بناء الكتاب في صورته المطبوعة.
الكتاب في (74) صفحة، وطبع طبعة حجرية بالخط الفارسي. ويمكن أن يقسم محتواه إلى أربعة أقسام:
أ - روابط الكتب الخمسة ص 1-2
ب - خطبة الكتاب ص 3
ج - المقدمات ص 4-10
د - الألفاظ القرآنية ص 11- 74
__________
(1) مفردات القرآن ص 40 .
(2) المرجع السابق .
(3) المرجع السابق ص 63.(1/31)
أما العنوان الأول (روابط الكتب الخمسة) فليس من أصل الكتاب، ولكن لما كان هذا الكتاب أول "الكتب المتعلقة بلسان القرآن من حيث دلالته على معانيه"، وهي ثلاثة: مفردات القرآن، و أساليب القرآن، وأصول التأويل ؛ كتب عنها المؤلف هذا الفصل على غلاف مسودة المفردات، وأشار فيه إلى موضوعات هذه الكتب وعلاقة بعضها ببعض. ثم ذكر أنه وضع كتابين: تاريخ القرآن، ودلائل النظام "لدفع الظنون التي بنيت على الأوهام الناشئة عن قلة النظر والتأمل في روايات جمع القرآن ومواقع تنزيلها. فهي خمسة كتب في فهم ظاهر القرآن وتليها سبعة كتب في علوم القرآن وأولها كتاب الحكمة". وقد تكلم على الكتب السبعة في أول كتاب الحكمة، كما تكلم على الكتب الخمسة في أول كتاب المفردات.
في خطبة الكتاب ذكر المؤلف سبب تأليفه ونوع الألفاظ التي سيفسرها فيه، فصرح بأنه لن يفسر "في هذا الكتاب من الألفاظ إلا ما يقتضي بياناً وإيضاحاً … وأما عامة الكلمات فلم نتعرض لها وكتب اللغة والأدب كافلة به".
تلي خطبة الكتاب ثلاث مقدمات: الأولى في مقصد الكتاب والحاجة إليه، والثانية "في الأصول اللسانية"، ذكر فيها مواضع الوهم من الكلمة، وقسمها إلى أربعة أقسام: المشكلة، والمشتركة، والجامعة، والمرادفة. ثم شرح كل قسم بذكر أمثلته مع الدلالة على ما يعين على فهم معناها. ومن ذلك قوله في المرادفة: "ثم المرادفة بغيرها، وهي قسمان: المطابق لمرادفه من جميع الوجوه، وهذا قليل جداً. والثاني ما يوافقه من بعض الوجوه، وهذا كثير جداً، وفيه معظم الوهم. فربما يظنونهما متحدتين، وكثيراً مايكون بينهما فرق لطيف لا يفطن له غير الممارس باللسان. ومن أنفع شيء في هذا الباب معرفة تفسير الصحابة والتابعين، فإنهم كثيراً ما فسّروا كلمة بمرادفها حسبما أريد في موضع خاص، وظن المتأخرون أنهما متحدتان ومتطابقتان من جميع الوجوه، فأخطأوا صحيح معنى الكلمة ".(1/32)
أما المقدمة الثالثة فهي "في كون القرآن خالياً عن الغريب"، أثبت فيه المؤلف أن القرآن ليس فيه ألفاظ حوشية غريبة، وبين أن العلماء الذين صنفوا في غريب القرآن قصدوا غرابة بعض ألفاظه بالنسبة للأعاجم ومن قلّ علمه بالعربية، ثم ذكر أسباباً أخرى لاعتقاد الناس بوجود الغريب في القرآن وردّ عليها.
بعد هذه المقدمات وما ألحق بها من الفصول الناقصة التي أشرنا إليها من قبل، شرع المؤلف في تفسير الألفاظ وهي 78 كلمة أولها لفظ (الآلاء) وآخرها لفظ (يثرب). وقد رتبت الألفاظ على حروف الهجاء دون النظر إلى أصولها.
(3) منهج المؤلف في تفسير الألفاظ :
قد يكون من التجوز أن نتحدث عن منهج المؤلف في تفسير المفردات القرآنية، فإن الكتاب لم يكمل، ولم يتمكن المؤلف من تحرير المادة التي قيدها في أوقات مختلفة لإعداد كتابه، ولا أعاد النظر فيها، فلا يمكننا أن نجزم مثلاً بأن هذه الكلمة أو تلك قد ظفرت من جهد المؤلف في البحث فيها والاستدلال على ما ذهب إليه واستيعاب وجوه الكلام فيها بما كان يتوخاه ويتطلع إليه، فنخشى - إن فعلنا ذلك - أن نكون قد ظلمنا الكتاب ومؤلفه. ومع ذلك لا بأس بالتنويه بالسمات البارزة لمنهجه في معالجة المفردات القرآنية في ضوء ما فسّره في هذا الكتاب، وبعض الأصول التي ذكرها في كتبه الأخرى.
1- أبرز سمات الكتاب أصالته، وتلك سمة عامة لمؤلفات العلامة الفراهي. فهو لا يقتصر في تحقيق الألفاظ القرآنية على ما ورد في كتب التفسير واللغة، بل يرجع بالكلمة إلى المصادر الأولى. وقد صرح بذلك في مقدمة تفسيره عندما ذكر مصادره فقال: " فأما في سائر الألفاظ فالمأخذ فيه كلام العرب القديم والقرآن نفسه (1).
__________
(1) فاتحة نظام القرآن ص 12.(1/33)
والمؤلف ينوّه بأهمية الشعر الجاهلي وممارسته وللوقوف على دلالة الكلمة إبان نزول القرآن الكريم، ولم يذهب عليه أن جزءاً من هذا الشعر منحول، ولكن لا يصعب التمييز عنده " بين المنحول والصحيح على الماهر الناقد، فينبغي لنا ألا نأخذ معنى القرآن إلا مما ثبت ".(1)
وقد حرص المؤلف على اقتناء كل ما صدر في عهده من دواوين الشعر الجاهلي، ودارسها مدارسة دقيقة، وقيد على طررها إشاراته وتعليقاته. وبتدبره المتصل في القرآن الكريم وممارسته الطويلة للشعر الجاهلي توصل في تحقيق بعض الألفاظ إلى نتائج تختلف شيئاًما عما ورد في كتب اللغة والتفسير. انظر مثلاً تفسيره للألفاظ الآتية: الآلاء، الحرد، الأحوى، العصر.
وقد كثرت الشواهد الشعرية في كتاب المفردات وزاد عددها على مائة شاهد. وميزة هذه الشواهد أنها جميعاً منسوبة إلاّ ما ندر، وأن معظمها للشعراء الجاهليين أو المخضرمين، وأن عدداً كبيراً منها شواهد جديدة لم ترد في مظانها من كتب التفسير والغريب.
ولكن لا يعني ذلك أن المؤلف يتبع في تفسير كل كلمة منهجاً واحداً، وهو أن ينظر أولاً في استعمالاته في القرآن، ثم يستشهد بكلام العرب لا محالة. فإن نوع الإشكال في الكلمة هو الذي يحدّد طريقة معالجتها.
وقد استشهد المؤلف في عدة مواضع بالأحاديث أيضاً منها:
- اتّقوا النار ولو بشق تمرة (الاتقاء، ص19).
- لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داوود (الآل، ص13).
- إن رأسه حبك حبك (حبك، ص33).
- ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً (الصغو، ص51).
2- أشار في تذكرة له في مفردات القرآن إلى بعض أصول منهجه فقال: "إذا اشتبه المعنى فطريق التوضيح تتبع استعمال لفظه، كما فعلنا بلفظ (عصر) و (آلاء)، والنظر في أصله واستعماله في أخوات العربية كالعبرانية والسريانية" (2).
__________
(1) المرجع السابق.
(2) مفردات القرآن: ص 9.(1/34)
وقد استفاد المؤلف بمعرفته للغة العبرانية في تحقيق بعض الألفاظ التي هي من المواد المشتركة بين العربية وأخواتها، وردّ على المستشرقين الذين زعموا أنها ألفاظ غير عربية أخذها القرآن من اليهود والنصارى. انظر مثلاً تحقيقه لكلمة (الأبّ) و (السفرة) و (الدرس) و (الصلاة).
3- من أصوله أيضاً عدم الالتفات إلى المعنى الشاذ. يقول في ذلك: "يجب أن نترك المعنى الشاذ الذي لم يثبت في اللغة"(1)، ومن أمثلة ذلك تفسير كلمة (العجَل) في قوله تعالى: { خلق الإنسان من عجل } (الأنبياء : 37) بالطين والحمأة، فإنه لم يثبت هذا المعنى في اللغة.(2)
وهذا هو الأصل الثاني من الأصول الأولية للتأويل عند المؤلف.
4- وقد ذكر المؤلف من الأصول المرجحة للتأويل "الأخذ بأثبت الوجوه لغة"، فقال في كتاب التكميل: "المعنى الذي كثر في كلام العرب لا ينبغي تركه إلاّ لصارف قوي، فإذا تساوى الوجوه الأخر وهي النظم والموافقة بباقي القرآن وصريح العقائد فلا بد أن نأخذ المعنى الشائع … ومن أمثلته (وانحر) في قوله تعالى: (فصل لربك وانحر)، فقالوا: أمر بوضع اليد على النحر... ومناسبة ذلك بالصلاة لا يغرّنّ أحداً، فإن الأمر بالأضحية أحسن مناسبة وأوسع...".(3)
5- يلحظ المتدبر في القرآن الكريم أن بعض المعاني يرد فيه في مواضع مختلفة مقروناً بمعانٍ مختلفة، نحو (الصلاة)، فإنها تقترن كثيراً بالزكاة، وأحياناً بالصبر، وتارةً بالإيمان، وأخرى بالنحر وهكذا. ويدلّ ذلك على أن الصلاة ذات جهات، فهي ترتبط بالزكاة من جهة، وبالصبر من جهة، وبالإيمان من جهة.
__________
(1) انظر فاتحة نظام القرآن: 13.
(2) انظر مفردات الراغب: 548، والتكميل في أصول التأويل: 52.
(3) المرجع السابق: 62. وانظر في وجوه المناسبة بين الصلاة والنحر تفسير سورة الكوثر للمؤلف: 16-30.(1/35)
وكذلك (الصبر) قرِن في كتاب الله بالصلاة، والشكر، والمرحمة، والحق، والصدق، فالصبر له صلة بكل من هذه الأمور باعتبارات مختلفة. وكان من منهج الفراهي في كتاب المفردات ذكر جهات اللفظ هذه بالنظر في سياقاته في القرآن الكريم، حتى لا يتعرض لها في تفسيره إلاّ بقدر الحاجة، كما فعل في تفسير سورة الكوثر، فإنه لما تكلّم على المناسبة بين الصلاة والنحر قال: "اعلم أن للصلاة والنحر وجوهاً كثيرة دلّنا القرآن عليها، ولاحاجة إلى استقصاء الوجوه ههنا، وتجدها في كتاب المفردات، وإنما نذكر الآن ههنا ما يدل على المناسبة بينهما"(1).
لا توجد كلمة النحر في المفردات، أما الصلاة، فقد ذكر فيه بعد تأصيلها لغوياً اثني عشر وجهاً من وجوهها بعنوان "جهات الصلاة"، منها أن الصلاة إقرار بالتوحيد، وأنها ذكر لعهدنا بالعبودية الخالصة لله، وأنها شكر لربنا، وأنها رجوع إلى الرب، وأنها تقرّب وحضور. وقد شرح كل هذه الجهات مستدلاً بالآيات الكريمة.(2)
ومن الألفاظ التي ذكر المؤلف وجوهها في المفردات كلمة (الإسلام)، فقال: "معناه ظاهر وبيّن، وهو الطاعة والخضوع، ولكن القرآن رفع هذه الكلمة، فخصّها بطاعة الله مثل كلمة (الدين)، فإنه الطاعة في أصل اللغة، وقد استعمله العرب لطاعة الله. ثم لهذا المعنى البيّن وجوه ونتائج وتاريخ. والقرآن دلّ على كل ذلك، فنذكر ما يتعلق بهذه الكلمة من وجوهها…."(3). وكذلك ذكر بعض جهات الزكاة(4).
(4) القيمة العلمية للكتاب :
__________
(1) تفسير سورة الكوثر: 16.
(2) المفردات: 52-54 .
(3) مفردات القرآن: 22.
(4) مفردات القرآن: 41,(1/36)
على الرغم من أن العلامة الفراهي رحمه الله لم يتيسر له تأليف كتاب المفردات على الوجه الذي أراده، لا من ناحية عدد الألفاظ ولا من ناحية استقصاء القول في الكلمات التي تضمها المسودة، على الرغم من ذلك لا يخفى على من نظر في الكتاب قيمته العلمية ومكانته الجليلة بين كتب غريب القرآن، فإنه ليس من نوع التأليف المكرر بالشرح أو التلخيص أو التيسير، وإنما يتسم بالأصالة والجدة، ويحفل بتحقيقات بارعة وفوائد نفيسة تخلو منها الكتب الأخرى، فهو -على صغر حجمه وقلة مادته- جدير بأن يرجع إليه ويستفاد منه.
ولكي تتضح القيمة العلمية لكتاب المفردات، ويتبين ما يضيفه إلى المعجم العربي من نظرات جديدة في تحقيق بعض المفردات القرآنية، ومالها من أثر في الكشف عن بلاغة الكلام في الآيات التي جاءت فيها تلك المفردات، نورد ثلاثة نماذج من الكتاب:
المثال الأول: كلمة الآلاء (ص 11 - 12)
قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم 34 مرة: مرتين في سورة الأعراف (69، 74) ومرة واحدة في سورة النجم (55) والمواضع الباقية في سورة الرحمن. وأجمع أهل اللغة وعامة المفسرين على أن معناها: النعم، ولكن العلامة الفراهي رحمه الله يقول إن القرآن وكلام العرب كلاهما يأبى هذا المعنى. والظاهر عنده أن معناه: "الفعال العجيبة، ولما كان غالب فعال الله تعالى الرحمة ظنوا أن الآلاء هي النعم، والرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما حملتهم على هذا، ولكن السلف إذا سئلوا أجابوا حسب السؤال والمراد المخصوص في موضع مسؤول عنه". وقال في موضع آخر: "… ولما كانت الرحمة من أغلب شؤون الرب عز وجل غلب استعمال هذا اللفظ في معنى النعم، ولكن العربي القح هو الأول، وبه نزل القرآن" (1).
__________
(1) تعليقاته التفسيرية : 434 .(1/37)
فكلمة الآلاء عند الفراهي تشمل في أصلها عجائب لطف الله تعالى وبطشه وقدرته، وليست النعمة إلا وجهاً واحداً من وجوه معناها، وقد غلب هذا الوجه على الكلمة فيما بعد لأن غالب أفعال الله تعالى من الرحمة والنعمة.
وقد استدل المؤلف على ما ذهب إليه بالقرآن الكريم وكلام العرب، فقال: "أما القرآن فقوله تعالى { فبأي آلاء ربك تتمارى*هذا نذير من النذر الأولى } (النجم 55 – 56) بعد ذكر إهلاك الأقوام، وهكذا في سورة الرحمن ". الآية المذكورة من سورة النجم، وسبقها ذكر إهلاك الأمم في خمس آيات وهي قوله تعالى: { وأنه أهلك عاداً الأولى*وثمود فما أبقى* وقوم نوحٍ من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى* والمؤتفكة أهوى*فغشّاها ماغشّى } (النجم 50 - 54) ووجه الاستدلال بها واضح لا غموض فيه. فإن قيل إن كلمة الآلاء في الآية المذكورة تشير إلى ماقبل الآيات السابقة أيضاً، وهو قوله تعالى: { وأنه هو أضحك وأبكى* وأنه هو أمات وأحيا*وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى*من نطفة إذا تمنى*وأن عليه النشأة الأخرى*وأنه هو أغنى وأقنى
{ وأنه هو ربُّ الشّعرى } (النجم43-49) فذلك وجه، وهذه الآيات أيضاً تؤيد قول المؤلف رحمه الله.
أما في سورة الرحمن فجاءت كلمة الآلاء في خلال ذكر يوم القيامة وعذاب جهنم في الآيات (33 - 45) آخرها قوله تعالى: { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون … تكذبان } . ولما أشكل مجيء الآية في هذا الموضع أوّلوها بأنه "لما كان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك قال ممتناً بذلك على بريته".(1)
__________
(1) تفسير ابن كثير 4: 278 .(1/38)
وقد فطن بعض أهل التفسير قديماً بأن هذه الكلمة ليست في الأصل بمعنى النعمة، فروى الإمام الطبري عن ابن زيد أنه قال: "الآلاء: القدرة"(1). والغريب أن الطبري رحمه الله أورد هذا القول ضمن الروايات التي احتج بها على معنى النعم، ثم التزم تفسيرها بالنعم في جميع المواضع إلا واحداً، وهو بعد قوله تعالى في سورة الرحمن: { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } (الرحمن: 37.)، فقال في تفسيرها: "يقول تعالى ذكره: فبأي قدرة ربكما معشر الجن والإنس على ما أخبركم بأنه فاعل بكم تكذبان؟" وواضح هنا أن الطبري رحمه الله لاحظ أن معنى النعم لا يستقيم في هذه الآية، ففسّرها بالقدرة.
وقد تساءل العلامة فخر الدين الرازي مرة بعد أخرى في تفسير الآية إذا جاءت بعد ذكر عجائب خلق الله وقدرته ثم أجاب من وجوه منها: "أن الآية مذكورة لبيان القدرة لا لبيان النعمة"(2). وقال في موضع آخر: "وفي الجواب قولان … الثاني أن نقول: هذه بيان عجائب الله تعالى لا بيان النعم"(3).
أما كلام العرب فاستدل المؤلف بثمانية شواهد منها قول طرفة بن العبد يمدح الحارث بن همام بن مرة رئيس بني بكر:
كاملٍ يحمل آلاء الفتى ... نبَهٍ سيد سادات خِضَم(4)
…
ومنها قول الأجدع الهمداني يصف فرسه:
ورضيتُ آلاء الكميت فمن يُبِع ... فرساً فليس جوادنا بمباع(5)
__________
(1) تفسير الطبري 124:27 .
(2) مفاتيح الغيب 99:29 .
(3) مفاتيح الغيب 103:29 .
(4) ديوانه: 110 .
(5) الأصمعيات: 69 .(1/39)
وعلّق عليه الفراهي بقوله: "قال الجوهري في هذا الشعر: آلاؤه: خصاله الجميلة، ولكنه لم يثبت على هذا المعنى الذي هو أصله، فقال في مادة (ألا): والآلاء النعم، فاتبع ما فهم المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنه". يقول الباحث: وقد فسر بذلك قبل الجوهري الأخفش الأصغر (ت 315هـ) في الاختيارين فقال: "آلاؤه: خصاله الصالحة التي فيه"(1). وبه فسره الجواليقي في شرحه لأدب الكاتب(2).
ومن شواهد المؤلف قول فضالة بن زيد العدواني وهو من المعمرين:
وفي الفقر ذل للرقاب وقلما
يلام وإن كان الصواب بكفه ... رأيت فقيراً غير نِكس مذمم
ويُحمد آلاء البخيل المدرهم(3)
……
يقول المؤلف: أي يحمدون صفات البخيل وفعاله. وهذا البيت أوضح دلالة مما ذكرنا قبله على معنى الآلاء.
ومنها قول الخنساء:
فبكّي أخاك لآلائه ... إذا المجد ضيّعه السائسونا
يقول شارح الديوان - وهو ثعلب في ما زعمه محقق الديوان - في تفسير البيت: "لآلائه أي لغنائه وبلائه ومجده"(4) .
ومنها قول الحماسي:
إذا ما امرؤ أثنى بآلاء ميت
فما كان مفراحاً إذا الخير مسه ... فلا يبعد الله الوليد بن أدهما
ولا كان مناناً إذا هو أنعما(5)
… …
يقول الفراهي: ففسر ما أراد من الآلاء بذكر أنه لم يكن مفراحاً إذا مسه الخير، ولا مناناً إذا أنعم.
وعند كاتب البحث شواهد أخرى تؤيد قول المؤلف، يصرف النظر عنها خشية الإطالة.
المثال الثاني: كلمة العصر (ص 56 - 57)
__________
(1) الاختيارين: 469 .
(2) شرح أدب الكاتب : 227.
(3) الحماسة البصرية 2: 82 .
(4) ديوانها: 353، ويرى الدكتور محمد جبار المعيبد أن الشرح ليس لثعلب (ت 291هـ)، وإنما هو لمؤلف عاش في النصف الأول من القرن الثالث الهجري في بلاد فارس أو تردد عليها، وقد يكون لأبي سعيد الضرير. انظر مقاله في مجلة المجمع العلمي الأردني، السنة 20 العدد 50.
(5) حماسة أبي تمام 1: 452 وقد سمي الشاعر في إحدى نسخها: تميم بن بدر .(1/40)
أطبقت كتب اللغة والغريب على أن العصر هو الدهر، لا فرق بينهما(1). أما العلامة الفراهي فقد هداه تذوقه لمواقع استعمال كلمة العصر في كلام العرب والنظر في مشتقات مادته إلى أن العصر له معنيان: "الزمان الماضي، وآخر النهار". وقد اكتفى بذلك في كتاب المفردات ثم أورد الشواهد على قوله، ولكنه فصل القول في تفسير سورة العصر في فصل عقده بعنوان "دلالة كلمة العصر"، ومما قال فيه:
"اعلم أن كلمة العصر اسم للزمان من جهة ذهابه ومروره، كما أن الدهر اسمه من حيث مجموعه. ولذلك يستعمل العصر كثيراً للأيام الخالية" وساق بعد ذلك خمسة أبيات من الشواهد المذكورة في كتاب المفردات ثم قال: "ومن هنا (الإعصار) للريح السريعة من جهة المرور والذهاب، و (عصر المائع): إمراره، و(العصر) لآخر النهار من جهة ذهاب النهار (والعصارة)، ومنه (عنصر) الشيء. فكلمة العصر تذكرهم الأيام الخالية وتوجههم من صفات الزمان إلى زواله وسرعة ذهابه. والأولى عبرة لهم بما جلب على الإنسان من حكم الله فيهم حسب أعمالهم، والثانية تحرّضهم على التشمير لكسب ما ينفعه من زمان أجلى صفته سرعة الزوال" (2).
ومن الشواهد التي أوردها في كتاب المفردات قول رُبَيع بن ضبع:
أصبح مني الشباب قد حسرا ... إن ينأ عني فقد ثوى عُصُرا(3)
وقول أبي حُزابة:
وكنا حسبناهم فوارسَ كَهمسٍ ... حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا(4)
وقول مسعود بن مَصاد الكلبي:
قد كنتُ في عُصُرٍ لا شيء يعدله ... فبان مني وهذا بعده عُصُرُ(5)
__________
(1) أما الفرق الذي ذكره أبو هلال في كتاب الفروق (ص 265) وهو أن الدهر جمع أوقات متوالية مختلفة كانت أو غير مختلفة، والعصر لكل مختلفين معناهما واحد مثل الشتاء والصيف والليلة واليوم والغداة والسحر، فهو كما ترى.
(2) تفسير سورة العصر ص 3-4 .
(3) حماسة البحتري 201.
(4) اللسان (كهمس) .
(5) كتاب المعمرين رقم 49 .(1/41)
وفسّره الفراهي بقوله: "أي هذا الزمان بعد ذلك أيضاً ماض ومارّ" ومن الشواهد التي علق عليها الفراهي خلال قراءته لدواوين الشعر الجاهلي قول عبدالله بن سلمة الغامدي من قصيدة له:
فإن تشب القرون فذاك عصر ... وعاقبةُ الأصاغر أن يشيبوا (1)
علق عليه بقوله: "فذاك عصر، أي فذاك الدهر شأنه أن يمر".
ومن أوضح الشواهد التي وقعت عليها قول لبيد بن النِّمس الغساني:
نحن كنا الملوك في عُصُر الدهر ... وكنتم - فيم الأناة - عبيدا (2)
والشواهد على ما ذكره المؤلف كثيرة جداً. ومن دقة تعبير المؤلف أنه قيد استعمالها للزمن الماضي بالكثرة. وقد تتبع الباحث قديماً استعمالها في كثير من دواوين شعراء الجاهلية، فلا يتذكر أنها جاءت للدلالة على الزمن الحاضر إلا في قول علقمة بن عبدة:
طحابك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب (3)
ثم كلام المؤلف على مشتقات مادة (عصر) يبين أن العصر بمعنى الزمن و (عصر المائع) و (العنصر) كل ذلك من أصل واحد، بينما جعله ابن فارس أصولاً ثلاثة: الأول دهر وحين، والثاني ضغط شيء حتى يتحلب، والثالث تعلق شيء وامتساك به، ومنه العصرة بمعنى الملجأ، وجعل العنصر من الأصل الثالث (4).
المثال الثالث: كلمة درس (ص 38 - 39)
جاءت مادة (درس) في القرآن الكريم ست مرات وكلها بمعنى القراءة، أما في اللغة فمن معانيها غير القراءة: البلى، والجرب، والدياس، والأكل الشديد. وقد زعم بعض المستشرقين أن الدرس بمعنى القراءة أخذه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود(5)، فرد عليه الفراهي في كتاب المفردات بأن " النبي كيف يتكلم قوماً بلسانهم ثم يزيد فيه ما ليس منه، والقرآن يصرح بأنه عربي مبين، فلا يكون فيه إلا ما عرفته العرب ".
__________
(1) المفضليات: 104 .
(2) الأنوار ومحاسن الأشعار 1 / 198 .
(3) المفضليات 391 .
(4) مقاييس اللغة 4: 340 .
(5) انظر جيفري: 283 .(1/42)
ثم بيّن أصل المادة ومشتقاتها في العربية فقال: " أصله الحك والمشق، ومنه للخط، قال أبو دواد:
ونؤي أضرَّ به السافياءُ ... كدرس من النون حين امحى(1)
أي كخط النون. ومنه كثرة الاشتغال بالقراءة. وهذا يتضح من استعمال الكلمة في كلتا اللغتين: العربي والعبرانية. ومن أصل المعنى: الدرس للجرب والحكة. والمدروس: الفراش الموطأ، والدرس للأكل الشديد. ومنه درس الطعام: داسه … ودرس الصعب حتى راضه. ودرست الكتاب بكثرة القراءة حتى خف حفظه. فالدرس: كثرة القراءة … كما قال تعالى: { وليقولوا درست } (الأنعام: 105.) أي بالغت في قراءتك عليهم. وأما أنها لا توجد في هذا المعنى في أشعار العرب، فذلك لأن للشعر مجاري محدودة ومعاني خاصة، فقلما يذكرون القراءة فضلاً عن إكثارها".
وقد ذهب الراغب إلى أن الأصل في مادة درس قولهم (درس الدار) بمعنى بقي أثرها، ولما كان بقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه فسر الدروس بالانمحاء ثم قال: "وكذا درس الكتاب ودرست العلم: تناولت أثره بالحفظ. ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس … ودرس البعير: صار فيه أثر جرب"(2). فكأن أصل المعنى لهذا اللفظ عند الراغب: بقاء الأثر، ومنه تفرعت المعاني الأخرى، ولا يخفى مافيه من التكلف والبعد. أما ابن فارس فجعل أصل المعنى الخفاء والخفض والعفاء، وقال: "ومن الباب درست القرآن وغيره، وذلك أنّ الدارس يتتبع ما كان قرأ، كالسالك للطريق يتتبعه"(3).
وفي الكتاب أمثلة أخرى لتأصيل الكلمات التي زعم المستشرقون أنها مأخوذة من أهل الكتاب نحو سفرة، وسبح، والصلاة، والركوع.
(5) مآخذ على الكتاب :
__________
(1) انظر لسان العرب (سفا) .
(2) مفردات الراغب، ص 311.
(3) مقاييس اللغة 2 : 267.(1/43)
لا يخلو كتاب –مهما أحكم صنعه وأتقن تأليفه- من خطأ أو سهو أو خلل، فكلّما نظر فيه مؤلّفه بدا له الحذف والزيادة، والتغيير والتبديل، والتقديم والتأخير. وربّما رأى عند تأليف كتابه رأياً كان يزعم أنه هو الرأي المبرم، فإذا به عندما يعيد النظر فيه ينقضه نقضاً. فكيف بكتاب لم يكتب له التأليف أصلاً، وإنما هي فصول متفرقة، وكلمات مقتضبة، قيّدت في أزمنة مختلفة، ليعاد إليها، فيؤلّف منها كتاب. وأشير هنا إلى بعض ما وقع في هذا الكتاب من ضروب الوهم والسهو:
قال المؤلف في تفسير كلمة (الضريع)(1): "يا بس العِشرِق" واستشهد بقول قيس بن عَيزارة الهذلي:
وحُبِسن في هزم االضريع فكلُّها ... حدباءُ باديةُ الضلوع حَرودُ
والصواب أن الضريع: يابس الشبرق، والظاهر أن المؤلف اعتمد في ما قال على شرح أشعار الهذليين للسكري، الذي ورد فيه في شرح البيت المذكور: "الضريع: يابس العشرق، وقالوا: الشبرق"(2). ولاشك أن الذي قالوه هو الصواب(3). أما كونه يابس العشرق فلم أجد ما يؤيده، وأراه وهماً محضاً.
قال في تفسير كلمة (الصلاة) –وهو يذكر معناها في أخوات العربية– إنها "في العبرانية بمعنى الصلاة والركوع"(4). وذلك تجوّز، فإن الصلاة بهذا المعنى من الألفاظ الآرامية التي وردت في العهد القديم(5). أما العبرانية فالكلمة الشائعة فيها بمعنى الصلاة والدعاء والتضرع هي (تِفِلاَّ) . انظر مثلاً: الملوك الأول 33:8، الثاني 17:6، عزرا 1:10.
استشهد المؤلف في تفسير كلمة (العصر) بقول عَبِيد بن الأبرص:(6)
فذاك عصرٌ وقد أراني يحملني بازلٌ شبوبُ
كذا أورد البيت، والصواب في رواية الشطر الثاني:
__________
(1) مفردات القرآن.
(2) شرح أشعار الهذليين: 598 .
(3) انظر تفسير الطبري 161:30 و لسان العرب (ضرع-شبرق)، وكتاب الصيدنة في الطب للبيروني:251.
(4) مفردات القرآن: 52 .
(5) انظر جزينيوس: 1109 .
(6) مفردات القرآن: 56 .(1/44)
تحملني نَهدةٌ سُرحوبُ (1)
4- أورد في كلمة (يثرب) قول سلامة بن جندل السعدي:
ألا هل أتى أفناء خِندف كلّها وعَيلان إذ ضمّ الحنين بيثرب(2)
ولعله نقله من كتاب شعراء النصرانية(3). فالشطر الثاني فيه هكذا محرّف، والصواب:
وعيلانَ إذ ضمّ الخميسَين يتربُ(4)
5- قال في الكلام على (التين): "وكما أخطأ الدينورى في بيت النابغة فكذلك أخطأ صاحب معجم البلدان في بيت أبي صعترة، فقال: إنه أراد بالجودي موضعاً في اليمن..."(5).
وذلك سهو من المؤلّف رحمه الله، فإن قول ياقوت في معجم البلدان نصه: "والجوديّ أيضاً: جبل بأجأ أحد جبلي طيّء، وإياه أراد أبو صعترة البولاني بقوله..."(6).
الخاتمة
في خاتمة هذا البحث يمكن تلخيص ما تضمنته الصفحات السابقة، في النقاط الآتية:
علم غريب القرآن من أول العلوم التي اشتغل بها المسلمون ودوّنوا فيه الكتب وكثر التأليف فيه كثرة لا تحصى.
ممن ألّف في هذا العلم في القرن الماضي: العلامة عبد الحميد الفراهي رحمه الله، من كبار علماء الهند، وأفذاذ الرجال علماً وفضلاً وديانةً. اشتهر بنبوغه في علم القرآن، وانقطاعه إليه، واسم كتابه: مفردات القرآن.
توفى الفراهي قبل إكمال الكتاب، فنشر بعد وفاته عن مسودته بعد ما أضيف إليه كلمات فسّرها في مصنفاته الأخرى.
كان من مقاصد تأليف الكتاب: تحقيق معاني الألفاظ التي كانت تستعمل فيها عند نزول القرآن، وتأصيل الألفاظ التي زعم المستشرقون أنها أعجمية وأن القرآن أخذها من أهل الكتاب.
__________
(1) انظر ديوان عبيد بن الأبرص: 17 وجمهرة أشعار العرب:466 .
(2) مفردات القرآن: 73 .
(3) شعراء النصرانية: 491 .
(4) ديوان سلامة بن جندل: 214 .
(5) مفردات القرآن: 32 .
(6) معجم البلدان 2: 180 .(1/45)
يعتمد المؤلف في تفسير الألفاظ على تتبع استعمالاتها في القرآن وكلام العرب، ويستشهد أحياناً بالحديث، كما يرجع في تأصيل الألفاظ المشتركة بين العربية وأخواتها إلى العبرانية والسريانية.
الكتاب –مع كونه ناقصاً- من الكتب الأصيلة في بابه، فإنه حافل بتحقيقات جديدة ونظرات دقيقة في اللغة والتفسير.
مراجع البحث
أ- المراجع العربية:
الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1408هـ.
الاختيارين، الأخفش الأوسط، تحقيق فخر الدين قباوه، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ.
الأصمعيات، تحقيق أحمد شاكر و عبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، 1979م.
الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، عائشة بنت الشاطئ، دار المعارف بمصر، 1971م.
الأعلام للزركلي، دار الملايين، بيروت، 1984م.
إمعان في أقسام القرآن، الفراهي، دار القلم بدمشق، 1415هـ.
الأنوار ومحاسن الأشعار، الشمشاطي، تحقيق السيد محمد يوسف، الكويت، 1397هـ.
الأوائل، أبو هلال العسكري، تحقيق وليد قصاب ومحمد المصري، دار العلوم، الرياض، 1400هـ.
إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عزّ وجلّ، أبوبكر ابن الأنباري، تحقيق محيي الدين رمضان، مجمع اللغة العربية بدمشق 1971م.
البرهان في علوم القرآن للزركشي، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت.
البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، الفيروزابادي، تحقيق محمد المصري، الكويت، 1407هـ.
تاريخ التراث العربي، فؤاد سزكين (الترجمة العربية) جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض: المجلد الأول 1403، المجلد الثامن 1408هـ.
تاريخ بغداد، الخطيب، دار الكتب العلمية، بيروت.
التصاريف، يحيى بن سلام، تحقيق هند شلبي، الشركة التونسية، 1979م.
التعليقات التفسيرية، الفراهي، نسخة مصورة في مكتبتي.
تفسير ابن كثير، دار عالم الكتب، الرياض، 1416هـ.
تفسير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1408هـ.(1/46)
تفسير سورة البقرة، الفراهي، المخطوطة المحفوظة في الدائرة الحميدية، سراي مير.
تفسير سورة العصر، الفراهي، مطبعة فيض عام، 1326هـ.
تفسير سورة الكوثر، الفراهي، مطبعة معارف، أعظم جره.
التكميل في أصول التأويل، الفراهي، الدائرة الحميدية، 1388هـ.
جمهرة أشعار العرب، أبو زيد القرشي، تحقيق محمد علي الهاشمي، دار القلم بدمشق، 1406هـ.
حماسة أبي تمام، تحقيق عبد الله عسيلان، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1401هـ.
حماسة البحتري، دار الكتاب الغربي، بيروت، 1387هـ.
الحماسة البصرية، تحقيق مختار الدين أحمد، عالم الكتب بيروت، 1403هـ.
ديوان الخنساء، تحقيق أنور أبو سويلم، دار عمار، الأردن، 1988م.
ديوان سلامة بن جندل، تحقيق فخر الدين قباوه، المكتبة العربية بحلب 1387هـ.
ديوان طرفة بن العبد، تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال، مجمع اللغة العربي بدمشق، 1975م.
ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق حسين نصار، الحلبي، القاهرة، 1377هـ.
الرقة والبكاء، ابن قدامة المقدسي، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، دار القلم بدمشق، 1415هـ.
سؤالات نافع بن الأزرق إلى عبدالله بن عباس، تحقيق محمد عبدالرحيم وأحمد نعامة، مؤسسة الكتب الثقافية، القاهرة سنة 1413هـ.
شرح أدب الكاتب، الجواليقي، دار الكتاب العربي، بيروت.
شرح أشعار الهذليين، السكري، تحقيق عبد الستار فراج، دار العروبة، القاهرة، 1384هـ.
شرح ديوان الحماسة، المرزوقي، تحقيق أحمد أمين و عبد السلام هارون، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1387هـ.
شعراء النصرانية، لويس شيخو، بيروت، 1890م.
صحيح البخاري، طبعة دار السلام، الرياض، 1417هـ.
طبقات ابن سعد، دار صادر، بيروت.
فاتحة نظام القرآن، الفراهي، الدائرة الحميدية، سراي مير، 1357هـ.
الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1403هـ.
فهرست ابن خير، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1399هـ.(1/47)
الفهرست للنديم، تحقيق رضا تجدد، مكتبة الأسدي، طهران، 1971م.
الكامل، المبرد، تحقيق محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406هـ.
كتاب الصيدنة في الطب، البيروني، تحقيق الحكيم محمد سعيد ورانا إحسان إلهي، مؤسسة همدرد، كراتشي، 1973م.
لسان العرب، ابن منظور، ط. دار صادر، بيروت.
اللغات في القرآن، لابن عباس، تحقيق صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت 1398هـ.
مجلة المجمع العلمي الأردني، السنة 20 العدد 50.
المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف بمصر، 1980م.
مسند أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وأصحابه، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420هـ.
معجم الأدباء، ياقوت الحموي، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1993م.
معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
المعجم العربي، حسين نصار، دار مصر للطباعة، 1988م.
المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق حمدي السلفي، الموصل، 1404هـ.
معجم غريب القرآن مستخرجاً من صحيح البخاري، محمد فؤاد عبدالباقي الحلبي، القاهرة، 1950م.
المعمرون، السجستاني، تحقيق عبدالمنعم عامر، الحلبي، القاهرة، 1961م.
مفاتيح الغيب، الرازي، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
مفردات ألفاظ القرآن، الراغب، تحقيق صفوان داوودي، دار القلم بدمشق، 1418هـ.
المفضليات، تحقيق أحمد شاكر و عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1979م.
مقال "الإمام حميد الدين الفراهي رحمه الله" للأستاذ شير محمد، مجلة الضياء الصادرة من ندوة العلماء، لكناؤ، عدد رجب 1352هـ.
مقاييس اللغة، ابن فارس، عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية، قم، إيران.
نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، ابن الجوزي، تحقيق محمد عبد الكريم كاظم الراضي مؤسسة الرسالة، بيروت 1404هـ.
نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي البركات ابن الأنباري، تحقيق إبراهيم السامرائي، مكتبة المنار، الأردن، 1405هـ.(1/48)
نزهة الخواطر، (الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام)، عبدالحي الحسني، دار عرفات، الهند، 1412هـ.
النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، تحقيق الزاوي والطناحي، المكتبة العلمية، بيروت.
هدية العارفين، البغدادي، مكتبة المثنى، بيروت.
الوسائل في مسامرة الأوائل، السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406هـ.
ب- المراجع الأجنبية:
مقال (ترجمان القرآن مولانا حميدالدين فراهي رحمه الله) للدكتور شرف الدين الإصلاحي، مجلة معارف، دار المصنفين، أعظم جره، عدد رجب 1411هـ،
لباب الألباب، محمد عوفي، تصحيح وتعليقات سعيد نفيسي، طهران، 1355م.
حيات شبلي، السيد سليمان الندوي، دار المصنفين، أعظم جره، 1983م.
حيات حميد، الدائرة الحميدية، سراي مير، 1973م.
مكتوبات سليماني، إعداد عبدالماجد الدريابادي، لكناؤ، 1963م.
صحيفة الداعي، بومباي، عدد 3 ديسمبر 1976م.
صحيفة صدق، لكناؤ، عدد 19/6/1945م.
نواي بهلوي، حميدالدين فراهي، الدائرة الحميدية، سراي مير، 1967م.
مكاتيب شبلي، إعداد السيد سليمان الندوي، دار المصنفين، أعظم جره، 1966م.
مجلة الإصلاح، المجلد الأول، العدد الثامن، 1936م.
"الصلاة على ترجمان القرآن"، افتتاحية مجلة معارف، العدد الثامن من المجلد السادس والعشرين.
جيفري = The Foreign vocabulary of the Quran, by Arthur Jeffery. Baroda,
جزينيوس = A Hebrew and English Lexicon of the Old Testament, by William Gesenius, Oxford Press.
فهرس الموضوعات
بسم الله الرحمن الرحيم…1
المقدمة…1
تمهيد…3
الفصل الأول: ترجمة المؤلف…13
(1) اسمه ونسبه ونشأته العلمية:…13
(2) مناصبه وأعماله التعليمية والإدارية:…17
(3) صفاته وأخلاقه:…20
(4) ثقافته وعلومه :…22
(5) مصنفاته:…29
(6) وفاته وثناء العلماء عليه:…31
الفصل الثاني: كتاب مفردات القرآن…33
(1) أسباب تأليف الكتاب:…33
1- أهمية المعرفة الدقيقة لمعاني المفردات وقصور كتب اللغة والغريب:…33(1/49)
2- الرد على الطاعنين من المستشرقين.…35
3- الإحالة في التفسير على كتاب المفردات تجنباً للتكرار:…36
(2) بناء الكتاب:…36
(3) منهج المؤلف في تفسير الألفاظ :…40
(4) القيمة العلمية للكتاب :…46
(5) مآخذ على الكتاب :…56
الخاتمة…59
مراجع البحث…60
أ- المراجع العربية:…60
ب- المراجع الأجنبية:…65
فهرس الموضوعات…66(1/50)