قوله تعالى:? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً *وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً * وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ(2/225)
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً *? (الإسراء : 23 - 39 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا "
لما نهى تعالى عن الشرك به ، أمر بالتوحيد ، فقال : " وقضى ربك " قضاء دينيا ، وأمرا شرعيا ." أن لا تعبدوا "(2/226)
أحدا من أهل الأرض والسموات والأحياء والأموات . " إلا إياه " لأنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي له كل صفة كمال ، وله من كل صفة أعظمها ، على وجه لا يشبهه أحد من خلقه ، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة ، الدافع لجميع النقم ، الخالق ، الرازق ، المدبر لجميع الأمور ، فهو المتفرد بذلك كله ، وغيره ليس له من ذلك شيء . ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال : " وبالوالدين إحسانا " أي : أحسنوا إليهما ، بجميع وجوه الإحسان ، القولي والفعلي ، لأنهما سبب وجود العبد ، ولهما من المحبة للولد ، والإحسان إليه ، والقرب ، ما يقتضي تأكد الحق ، ووجوب البر . " إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما " أي : إذا وصلا إلى هذا السن ، الذي تضعف فيه قواهما ، ويحتاجان من اللطف والإحسان ، ما هو معروف . " فلا تقل لهما أف " وهذا أدنى مراتب الأذى ، نبه به على ما سواه . والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية . " ولا تنهرهما " أي : تزجرهما ، وتتكلم كلاما خشنا . " وقل لهما قولا كريما " بلفظ يحبانه ، وتأدب ، وتلطف معهما ، بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما ، وتطمئن به نفوسهما ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد ، والأزمان . " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " أي : تواضع لهما ، ذلا لهما ، ورحمة ، واحتسابا للأجر ، لا لأجل الخوف منهما ، أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد ، التي لا يؤجر عليها العبد . " وقل رب ارحمهما " أي : ادع لها بالرحمة أحياء ، وأمواتا . جزاء على تربيتهما إياك ، صغيرا . وفهم من هذا ، أنه كلما ازدادت التربية ، ازداد الحق . وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه ، تربية صالحة غير الأبوين ، فإن له على من رباه حق التربية . " ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا " أي : ربكم تعالى مطلع على ما أكنته سرائركم ، من خير وشر ، وهو لا ينظر إلى أعمالكم وأبدانكم ، وإنما ينظر إلى(2/227)
قلوبكم وما فيها من الخير والشر . " إن تكونوا صالحين " بأن تكون إرادتكم ومقاصدكم دائرة على مرضاة الله ورغبتكم فيما يقربكم إليه ، وليس في قلوبكم إرادات مستقرة لغير الله . " فإنه كان للأوابين " أي : الرجاعين إليه في جميع الأوقات " غفورا " . فمن اطلع الله على قلبه ، وعلم أنه ليس فيه إلا الإنابة إليه ومحبته ، ومحبة ما يقرب إليه ، فإنه ، وإن جرى منه في بعض الأوقات ، ما هو مقتضى الطبائع البشرية ، فإن الله يعفو عنه ، ويغفر له الأمور العارضة ، غير المستقرة .
" وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا "
يقول تعالى : " وآت ذا القربى حقه " من البر والإكرام ، الواجب والمسنون ، وذلك الحق ، يتفاوت بتفاوت الأحوال ، والأقارب ، والحاجة وعدمها ، والأزمنة . " والمسكين " آته حقه من الزكاة ومن غيرها ، لتزول مسكنته " وابن السبيل " وهو : الغريب المنقطع به عن بلده . " ولا تبذر تبذيرا " يعطى الجميع من المال ، على وجه لا يضر المعطى ، ولا يكون زائدا على المقدار اللائق ، فإن ذلك تبذير ، وقد نهى الله عنه وأخبر : " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " لأن الشيطان ، لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة ، فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك ، فإذا عصاه ، دعاه إلى الإسراف والتبذير . والله تعالى ، إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها ، ويمدح عليه ، كما في قوله ، عن عباد الرحمن الأبرار
" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " . وقال هنا : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك "(2/228)
كناية عن شدة الإمساك والبخل . " ولا تبسطها كل البسط " فتنفق فيما لا ينبغي ، وزيادة على ما ينبغي . " فتقعد "
إن فعلت ذلك " ملوما " أي : تلام على ما فعلت " محسورا " أي : حاسر اليد فارغها ، فلا بقي ما في يدك من المال ولا خلفه مدح وثناء . وهذا الأمر بإيتاء ذي القربى ، مع القدرة والغنى . فأما مع العدم ، أو تعسر النفقة الحاضرة ، فأمر تعالى أن يردوا ردا جميلا فقال : " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها " أي : تعرضن عن إعطائهم إلى وقت آخر ، ترجو فيه من الله تيسير الأمر . " فقل لهم قولا ميسورا " أي : لطيفا برفق ، ووعد بالجميل ، عند سنوح الفرصة ، واعتذار بعدم الإمكان ، في الوقت الحاضر ، لينقلبوا عنك ، مطمئنة خواطرهم ، كما قال تعالى : " قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى " . وهذا أيضا ، من لطف الله تعالى بالعباد ، أمرهم بانتظار الرحمة والرزق منه ، لأن انتظار ذلك عبادة ، وكذلك وعدهم بالصدقة والمعروف عند التيسر ، عبادة حاضرة ، لأن الهم بفعل الحسنة ، حسنة ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير ، وينوي فعل ما لم يقدر عليه ، ليثاب على ذلك ، ولعل الله ييسر له بسبب رجائه . ثم قال تعالى : " إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء " من عباده " ويقدر " أي : يضيقه على من يشاء ، حكمة منه . " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " فيجزيهم على ما يعلمه صالحا لهم ، ويدبرهم ، بلطفه وكرمه .(2/229)
" ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا " وهذا من رحمته بعباده ، حيث كان أرحم بهم من والديهم ، فنهى الوالدين أن يقتلوا أولادهم ، خوفا من الفقر والإملاق ، وتكفل برزق الجميع . وأخبر أن قتلهم كان خطئا كبيرا ، أي : من أعظم كبائر الذنوب ، لزوال الرحمة من القلب ، والعقوق العظيم ، والتجرؤ على قتل الأطفال ، الذين لم يجر منهم ذنب ولا معصية . " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا " النهي عن قربان الزنى أبلغ من النهي عن مجرد فعله ، لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه ، فإن : " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " ، خصوصا هذا الأمر ، الذي في كثير من النفوس ، أقوى داع إليه . ووصف الله الزنى وقبحه بأنه
" كان فاحشة " أي : إنما يستفحش في الشرع والعقل ، والفطر ، لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله ، وحق المرأة ، وحق أهلها ، أو زوجها ، وإفساد الفراش ، واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد . وقوله : " وساء سبيلا "
أي : بئس السبيل ، سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم .
" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا "
وهذا شامل لكل نفس " حرم الله " قتلها من صغير وكبير ، وذكر وأنثى ، وحر وعبد ، ومسلم وكافر له عهد .
" إلا بالحق " كالنفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه ، المفارق للجماعة ، والباغي في حال بغيه ، إذا لم يندفع إلا بالقتل . " ومن قتل مظلوما " أي : بغير حق " فقد جعلنا لوليه " وهو ، أقرب عصباته وورثته إليه " سلطانا "(2/230)
أي : حجة ظاهرة على القصاص من القاتل وجعلنا له أيضا تسلطا قدريا على ذلك ، وذلك حين تجتمع الشروط الموجبة للقصاص ، كالعمد العدوان ، والمكافأة . " فلا يسرف " الولي " في القتل إنه كان منصورا " . والإسراف ، مجاوزة الحد ، إما أن يمثل بالقاتل ، أو يقتله بغير ما قتل به ، أو يقتل غير القاتل . وفي هذه الآية ، دليل على أن الحق في القتل للولي ، فلا يقتص إلا بإذنه ، وإن عفا سقط القصاص . وإن ولي المقتول ، يعينه الله على القاتل ، ومن أعانه حتى يتمكن من قتله .
" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا "
وهذا من لطفه ورحمته تعالى باليتيم ، الذي فقد والده ، وهو صغير ، غير عارف بمصلحة نفسه ، ولا قائم بها ، أن أمر أولياءه بحفظه ، وحفظ ماله ، وإصلاحه ، وأن لا يقربوه " إلا بالتي هي أحسن " من التجارة فيه ، وعدم تعريضه للأخطار ، والحرص على تنميته ، وذلك ممتد إلى أن " يبلغ " اليتيم " أشده " أي : بلوغه ، وعقله ، ورشده ، فإذا بلغ أشده ، زالت عنه الولاية ، وصار ولي نفسه ، ودفع إليه ماله . كما قال تعالى : " فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم "" وأوفوا بالعهد " الذي عاهدتم الله عليه ، والذي عاهدتم الخلق عليه . " إن العهد كان مسؤولا " أي : مسؤولون عن الوفاء به . فإن وفيتم ، فلكم الثواب الجزيل ، وإن لم تفعلوا ، فعليكم الإثم العظيم .
" وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا "
وهذا أمر بالعدل وإيفاء المكاييل والموازين بالقسط ، من غير بخس ولا نقص . ويؤخذ من عموم المعنى ، النهي عن كل غش ، أو مثمن ، أو معقود عليه ، والأمر بالنصح ، والصدق في المعاملة . " ذلك خير " من عدمه " وأحسن تأويلا "
أي : أحسن عاقبة ، به يسلم العبد من التبعات ، وبه تنزل البركة .
" ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا "(2/231)
أي : ولا تتبع ما ليس لك به علم ، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله ، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك .
" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله ، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته ، أن يعد للسؤال جوابا ، وذلك لا يكون ، إلا باستعمالها ، بعبودية الله ، وإخلاص الدين له ، وكفها عما يكرهه الله تعالى .
" ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا "
يقول تعالى : " ولا تمش في الأرض مرحا " أي : كبرا وتيها وبطرا ، متكبرا على الحق ، ومتعاظما في تكبرك على الخلق . " إنك " في فعلك ذلك " لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ". بل تكون حقيرا عند الله ومحتقرا عند الخلق ، مبغوضا ممقوتا ، قد اكتسبت شر الأخلاق ، واكتسيت بأرذلها ، من غير إدراك لبعض ما تروم . " كل ذلك "
المذكور الذي نهى الله عنه فيما تقدم من قوله : " ولا تجعل مع الله إلها آخر " والنهي عن عقوق الوالدين وما عطف على ذلك " كان سيئه عند ربك مكروها " أي : كل ذلك يسوء العاملين ويضرهم ، والله تعالى يكرهه ويأباه .
" ذلك " الذي بيناه ووضحناه من هذه الأحكام الجليلة ، " مما أوحى إليك ربك من الحكمة " فإن الحكمة ، الأمر بمحاسن الأعمال ، ومكارم الأخلاق ، والنهي عن أراذل الأخلاق ، وأسوإ الأعمال . وهذه الأعمال المذكورة في هذه الآيات ، من الحكمة العالية ، التي أوحاها رب العالمين لسيد المرسلين ، في أشرف الكتب ، ليأمر بها أفضل الأمم ، فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا . ثم ختمها بالنهي عن عبادة غير الله ، كما افتتحها بذلك فقال :(2/232)
" ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم " أي : خالدا مخلدا ، فإنه من يشرك بالله ، فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار . " ملوما مدحورا " أي : قد لحقتك اللائمة ، واللعنة ، والذم من الله ، وملائكته ، والناس أجمعين ...
وقوله تعالى : ? َقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً * وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً * وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً * ? (الإسراء : 78 - 85 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا "(2/233)
يأمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة تامة ، ظاهرا ، وباطنا في أوقاتها " لدلوك الشمس " أي : ميلانها إلى الأفق الغربي بعد الزوال ، فيدخل في ذلك ، صلاة الظهر ، وصلاة العصر . " إلى غسق الليل " أي : ظلمته ، فيدخل في ذلك ، صلاة المغرب ، وصلاة العشاء . " وقرآن الفجر " أي : صلاة الفجر ، وسميت قرآنا ، لمشروعية إطالة القرآن فيها ، أطول من غيرها ، ولفضل القراءة فيها ، حيث شهدها الله ، وملائكة الليل والنهار . ففي هذه الآية ، ذكر الأوقات الخمسة ، للصلوات المكتوبات ، وأن الصلوات الموقعة فيها فرائض ، لتخصيصها بالأمر . ومنها أن الوقت ، شرط لصحة الصلاة ، وأنه سبب لوجوبها لأن الله أمر بإقامتها لهذه الأوقات . وأن الظهر والعصر ، يجمعان ، والمغرب والعشاء كذلك ، للعذر ، لأن الله جمع وقتهما جميعا . وفيه : فضيلة صلاة الفجر ، وفضيلة إطالة القراءة فيها ، وأن القراءة فيها ركن ، لأن العبادة إذا سميت ببعض أجزائها ، دل على فرضية ذلك . وقوله : " ومن الليل فتهجد به " أي : صل به في سائر أوقاته . " نافلة لك " أي : لتكون صلاة الليل ، زيادة لك في علو القدر ، ورفع الدرجات بخلاف غيرك ، فإنها تكون كفارة لسيئاته . ويحتمل أن يكون المعنى : أن الصلوات الخمس فرض عليك ، وعلى المؤمنين ، بخلاف صلاة الليل ، فإنها فرض عليك بالخصوص ، ولكرامتك على الله أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك ، وليكترثوا بك ، وتنال بذلك ، المقام المحمود ، وهو المقام الذي يحمدك فيه ، الأولون والآخرون ، مقام الشفاعة العظمى ، حين يتشفع الخلائق بآدم ، ثم بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى . وكلهم يعتذر ويتأخر عنها ، حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم ، ليرحمهم الله ، من هول الموقف ، وكربه . فيشفع عند ربه ، فيشفعه ، ويقيمه مقاما ، يغطبه به ، الأولون والآخرون . وتكون له المنة على جميع الخلق . وقوله : " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق " أي(2/234)
: اجعل مداخلي ومخارجي كلها في طاعتك ، وعلى مرضاتك ، وذلك لتضمنها الإخلاص ، وموافقتها الأمر ." واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " أي : حجة ظاهرة ، وبرهانا قاطعا على جميع ما آتيه ، وما أذره . وهذا أعلى حالة ، ينزلها الله العبد ، أن تكون أحواله كلها خيرا ، ومقربة له إلى ربه ، وأن يكون له ـ على كل حالة من أحواله ـ دليل ظاهر ، وذلك متضمن للعلم النافع ، والعمل الصالح ، للعلم بالمسائل والدلائل . وقوله : " وقل جاء الحق وزهق الباطل " والحق هو : ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله أن يقول ويعلن ، وقد جاء الحق الذي لا يقوم له شيء ، وزهق الباطل أي : اضمحل وتلاشى . " إن الباطل كان زهوقا " أي : هذا وصف الباطل ، ولكنه قد يكون له صولة ورواج ، إذا لم يقابله الحق ، فعند مجيء الحق ، يضمحل الباطل ، فلا يبقى له حراك . ولهذا لا يروج الباطل ، إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته .
" وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " وقوله :" وننزل من القرآن " إلى " إلا خسارا " . أي : فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة . وليس ذلك لكل أحد ، وإنما ذلك للمؤمنين به ، المصدقين بآياته ، العاملين به . وأما الظالمون بعدم التصديق به ، أو عدم العمل به ، فلا تزيدهم آياته إلا خسارا . إذ به تقوم عليهم الحجة . فالشفاء الذي تضمنه القرآن ، عام لشفاء القلوب ، من الشبه ، والجهالة ، والآراء الفاسدة والانحراف السيىء ، والقصود الرديئة . فإنه مشتمل على العلم اليقين ، الذي تزول به كل شبهة وجهالة ، والوعظ والتذكير ، الذي يزول به كل شهوة ، تخالف أمر الله . ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها . وأما الرحمة ، فإن ما فيه من الأسباب والوسائل التي يحث عليها ، متى فعلها العبد فاز بالرحمة والسعادة الأبدية ، والثواب العاجل والآجل .(2/235)
" وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا " هذه طبيعة الإنسان ، من حيث هو إلا من هداه الله . فإن الإنسان ـ عند إنعام الله عليه ـ يفرح بالنعم ، ويبطر بها ، ويعرض ، وينأى بجانبه عن ربه ، فلا يشكره ، ولا يذكره . " وإذا مسه الشر " كالمرض ونحوه " كان يؤوسا " من الخير ، قد قطع من ربه رجاءه ، وظن أن ما هو فيه ، دائم أبدا . وأما من هداه الله ، فإنه ـ عند النعم ـ يخضع لربه ، ويشكر نعمته ، وعند الضراء ، يتضرع ، ويرجو من الله عافيته ، وإزالة ما يقع فيه ، وبذلك يخف عليه البلاء . " قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " أي : " قل كل " من الناس " يعمل على شاكلته " أي : على ما يليق به من الأحوال . إن كانوا من الصفوة الأبرار ، لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين . ومن كانوا من غيرهم من المخذولين لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين ، ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم . " فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " فيعلم من يصلح للهداية ، فيهديه ، ومن لا يصلح لها فيخذله ولا يهديه .
" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل ، التي يقصد بها التعنت والتعجيز ، ويدع السؤال عن المهم ، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية ، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها ، كل أحد ، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد . ولهذا أمر الله رسوله ، أن يجيب سؤالهم بقوله : " قل الروح من أمر ربي " أي : من جملة مخلوقاته ، التي أمرها أن تكون فكانت . فليس في السؤال عنها ، كبير فائدة ، مع عدم علمكم بغيرها . وفي هذه الآية دليل ، على أن المسؤول إذا سئل عن أمر ، الأولى به أن يعرض عن إجابة السائل عما سأل عنه ، ويدله على ما يحتاج إليه ، ويرشده إلى ما ينفعه .(2/236)
وقوله تعالى : ? قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً * قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * ? (الإسراء : 107 - 110 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" قل " : لمن كذب به ، وأعرض عنه : " آمنوا به أو لا تؤمنوا " . فليس لله حاجة فيكم ، ولستم بضاريه شيئا ، وإنما ضرر ذلك عليكم . فإن لله عبادا غيركم ، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع : " إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا " أي : يتأثرون به غاية التأثر ، ويخضعون له . " ويقولون سبحان ربنا " عما لا يليق بجلاله ، مما نسبه إليه المشركون . " إن كان وعد ربنا " بالبعث والجزاء بالأعمال " لمفعولا " لا خلف فيه ولا شك . " ويخرون للأذقان " أي : على وجوههم " يبكون ويزيدهم " القرآن " خشوعا " . وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ، ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد ذلك
" قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا "(2/237)
يقول تعالى لعباده : " ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " أي : أيهما شئتم . " أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " أي : ليس له اسم غير حسن ، أي : حتى ينهى عن دعائه به ، أي اسم دعوتموه به ، حصل به المقصود ، والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب ، مما يناسب ذلك الاسم . " ولا تجهر بصلاتك " أي : قراءتك " ولا تخافت بها " فإن في كل من الأمرين محذورا . أما الجهر ، فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه ، سبوه ، وسبوا من جاء به . وأما المخافتة ، فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء . " وابتغ بين ذلك " أي : اتخذ بين الجهر والإخفات " سبيلا " أي : تتوسط فيما بينهما . " وقل الحمد لله " الذي له الكمال ، والثناء ، والحمد ، والمجد من جميع الوجوه ، المنزه عن كل آفة ونقص . " الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك " بل الملك كله لله الواحد القهار . فالعالم العلوي والسفلي ، كلهم مملكون لله ، ليس لأحد من الملك شيء . " ولم يكن له ولي من الذل " أي : لا يتولى أحدا من خلقه ، ليتعزز به ويعاونه . فإنه الغني الحميد ، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات ، في الأرض ولا في السموات ، ولكنه يتخذ ـ إحسانا منه إليهم ورحمة بهم " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور "" وكبره تكبيرا " أي : عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة ، وبالثناء عليه ، بأسمائه الحسنى ، وبتحميده بأفعاله المقدسة ، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده ، لا شريك له ، وإخلاص الدين كله له .
ومن سورة الكهف تسع عشرة اية(2/238)
قوله تعالى: ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً * وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ(2/239)
اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً * وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً*? ( الكهف 28 - 46 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا "(2/240)
يأمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وغيره أسوته ، في الأوامر والنواهي ـ أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين " الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " أي : أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله . فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها ، ففيها الأمر ، بصحبة الأخيار ، ومجاهدة النفس على صحبتهم ، ومخالطتهم وإن كانو فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد ، ما لا يحصى . " ولا تعد عيناك عنهم " أي : لا تجاوزهم بصرك ، وترفع عنهم نظرك . " تريد زينة الحياة الدنيا " فإن هذا ضار غير نافع ، وقاطع عن المصالح الدينية . فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا ، فتصير الأفكار والهواجس فيها وتزول من القلب ، الرغبة في الآخرة ، فإن زينة الدنيا ، تروق للناظر ، وتسحر القلب ، فيغفل القلب عن ذكر الله ، ويقبل على اللذات والشهوات فيضيع وقته ، وينفرط أمره ، فيخسر الخسارة الأبدية ، والندامة السرمدية ولهذا قال : " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " غفل عن الله ، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره . " واتبع هواه " أي : صار تبعا لهواه ، حيث ما اشتهت نفسه فعله ، وسعى في إدراكه ، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه ، فهو قد اتخذ إلهه هواه كما قال تعالى : " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم " الآية . " وكان أمره " أي : مصالح دينه ودنياه " فرطا " أي : ضائعة معطلة . فهذا قد نهى الله عن طاعته ، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به ، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به . ودلت الآية ، على أن الذي ينبغي أن يطاع ، ويكون إماما للناس ، من امتلأ قلبه بمحبة الله ، وفاض ذلك على لسانه ، فلهج بذكر الله ، واتبع مراضي ربه ، فقدمها على هواه ، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته ، وصلحت أحواله ، واستقامت أفعاله ، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه . فحقيق بذلك ، أن يتبع ويجعل إماما ، والصبر ، المذكور في هذه الآية ، هو الصبر على طاعة الله ، الذي هو أعلى أنواع الصبر ، وبتمامه(2/241)
يتم باقي الأقسام . وفي الآية ، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار ، لأن الله مدحهم بفعله ، وكل فعل مدح الله فاعله ، دل ذلك على أن الله يحبه ، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به ، ويرغب فيه .
" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا "(2/242)
أي : قل للناس يا محمد : هو الحق من ربكم . أي : قد تبين الهدى من الضلال ، والرشد من الغي ، وصفات أهل السعادة ، وصفات أهل الشقاوة ، وذلك بما بينه الله على لسان رسوله ، فإذا بان واتضح ، ولم يبق فيه شبهة . " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " أي : لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين ، بحسب توفيق العبد ، وعدم توفيقه ، وقد أعطاه الله مشيئة ، بها يقدر على الإيمان والكفر ، والخير والشر فمن آمن ، فقد وفق للصواب ، ومن كفر ، فقد قامت عليه الحجة ، وليس بمكره على الإيمان كما قال تعالى : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " . ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال : " إنا أعتدنا للظالمين " بالكفر والفسوق والعصيان " نارا أحاط بهم سرادقها " أي : سورها المحيط بها . فليس لهم منفذ ، ولا طريق ، ولا مخلص منها ، تصلاهم النار الحامية . " وإن يستغيثوا " أن يطلبوا الشراب ، ليطفىء ما نزل بهم من العطش الشديد . " يغاثوا بماء كالمهل " أي : كالرصاص المذاب ، أو كعكر الزيت ، من شدة حرارته . " يشوي الوجوه " أي : فكيف بالأمعاء والبطون ، كما قال تعالى : " يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد "...." بئس الشراب " الذي يراد ليطفىء العطش ، ويدفع بعض العذاب ، فيكون زيادة في عذابهم ، وشدة عقابهم . " وساءت " النار " مرتفقا " وهذا ذم لحالة النار ، أنها ساءت المحل ، الذي يرتفق به . فإنها ليس فيها ارتفاق ، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق ، الذي لا يفتر عنهم ساعة ، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير ، ونسيهم الرحيم في العذاب ، كما نسوه . ثم ذكر الفريق الثاني فقال : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي : جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر والقدر ، خيره ، وشره ، وعمل الصالحات ، من الواجبات والمستحبات " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " . وإحسان العمل ، أن يريد العبد العمل لوجه الله ، متبعا في(2/243)
ذلك شرع الله . فهذا العمل لا يضيعه الله ، ولا شيئا منه ، بل يحفظه للعاملين ، ويوفيهم من الأجر ، بحسب عملهم وفضله وإحسانه ، وذكر أجرهم بقوله : " أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك " . أي : أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها ، فأجنت من فيها ، وكثرت أنهارها ، فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة ، والمنازل الرفيعة . وحليتهم فيها ، الذهب ، ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس ، وهو الغليظ من الديباج ، والإستبرق ، وهو : ما رق منه . متكئين فيها على الأرائك وهي : السرر المزينة ، المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة ، حتى تكون كذلك . وفي اتكائهم على الأرائك ، ما يدل على كمال الراحة ، وزوال النصب والتعب ، وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون ، وتمام ذلك ، الخلود الدائم والإقامة الأبدية . فهذه الدار الجليلة " نعم الثواب " للعاملين " وحسنت مرتفقا " يرتفقون بها ، ويتمتعون بما فيها ، مما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، من الحبرة والسرور ، والفرح الدائم ، واللذات المتواترة ، والنعم المتوافرة . وأي مرتفق ، أحسن من دار ، أدنى أهلها ، يسير في ملكه ونعيمه ، وقصوره وبساتينه ، ألفي سنة ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم . قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه ، وزيد من المطالب ، ما قصرت عنه الأماني . ومع ذلك ، فنعيهم على الدوام ، متزايد في أوصافه وحسنه . فنسأل الله الكريم ، أن لا يحرمنا خير ما عنده ، من الإحسان ، بشر ما عندنا من التقصير والعصيان . ودلت الآية الكريمة ، وما أشبهها ، على أن الحلية ، عامة للذكور والإناث ، كما ورد في الأخبار الصحيحة لأنه أطلقها في قوله : " يحلون " وكذلك الحرير ونحوه .(2/244)
" واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا "
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : اضرب للناس مثل هذين الرجلين الشاكر لنعمة الله ، والكافر لها ، وما صدر من كل منهما ، من الأقوال والأفعال ، وما حصل بسبب ذلك ، من العقاب العاجل ، والآجل ، والثواب ليعتبروا بحالهما ، ويتعظوا بما حصل عليهما ، وليس معرفة أعيان الرجلين ، وفي أي زمان أو مكان هما ، فيه فائدة أو نتيجة . فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط ، والتعرض لما سوى ذلك ، من التكلف . فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة ، جعل الله له جنتين أي : بساتين حسنين ، من أعناب . " وحففناهما بنخل " أي : في هاتين الجنتين من كل الثمرات ، وخصوصا أشرف الأشجار ، العنب ، والنخل . فالعنب ، وسطها ، والنخل ، قد حف بذلك ، ودار به ، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه ، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح ، التي تكمل لها الثمار ، وتنضج وتتجوهر ، ومع ذلك ، جعل بين تلك الأشجار زرعا . فلم يبق عليهما إلا أن يقال : كيف ثمار هاتين الجنتين ؟ وهل لهما ماء يكفيهما ؟ فأخبر تعالى ، أن كلا من الجنتين آتت أكلها أي : ثمرها وزرعها ضعفين أي : متضاعفا ( و ) أنها " ولم تظلم منه شيئا " أي : لم تنقص من أكلها أدنى شيء . ومع ذلك ، فالأنهار في جوانبهما سارحة ، كثيرة غزيرة . " وكان له " أي : لذلك الرجل " ثمر " أي : عظيم كما يفيده التنكير أي : قد استكملت جنتاه ثمارهما ، وأرجحنت أشجارهما ، ولم تعرض لهما آفة أو نقص ، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث ، ولهذا اغتر هذا الرجل ، وتبجح وافتخر ، ونسي آخرته .(2/245)
" وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا "
أي : فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن ، وهما يتحاوران ، أي : يتراجعان الكلام بينهما في بعض المجريات المعتادة ، مفتخرا عليه . " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " فخر بكثرة ماله ، وعزة أنصاره ، من عبيد ، وخدم ، وأقارب ، وهذا جهل منه . وإلا فأي افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية ، ولا صفة معنوية ، وإنما هو بمنزلة فخر الصبي بالأماني ، التي لا حقائق تحتها . ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه ، حتى حكم ، بجهله وظلمه ، وظن لما دخل جنته . ف ـ
" قال ما أظن أن تبيد " أي : تنقطع وتضمحل " هذه أبدا " ، فاطمأن إلى هذه الدنيا ، ورضي بها ، وأنكر البعث ، فقال : " وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي " على ضرب المثل " لأجدن خيرا منها منقلبا " أي : ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين ، وهذا لا يخلو من أمرين . إما أن يكون عالما بحقيقة الحال ، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره ، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة ، فيكون من أجهل الناس ، وأبخسهم حظا من العقل ، فأي تلازم بين عطاء الدنيا ، وعطاء الآخرة ، حتى يظن بجهله ، أن من أعطي في الدنيا ، أعطي في الآخرة . بل الغالب ، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه ، ويوسعها على أعدائه ، الذين ليس لهم في الآخرة نصيب ، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال ، ولكنه قال هذا الكلام ، على وجه التهكم والاستهزاء ، بدليل قوله : " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه " . فإثبات أن وصفه الظلم ، في حال دخوله ، الذي جرى منه ، من القول ما جرى ، يدل على تمرده وعناده .(2/246)
" قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا "
أي : قال له صاحبه المؤمن ـ ناصحا له ، ومذكرا له حاله الأولى ، التي أوجده الله فيها في الدنيا " من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " ، فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد ، وواصل عليك النعم ، ونقلك من طور إلى طور ، حتى سواك رجلا ، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة ، والمعقولة ، وبذلك يسر لك الأسباب ، وهيأ لك ما هيأ ، من نعم الدنيا ، فلم تحصل لك الدنيا ، بحولك وقوتك ، بل بفضل الله تعالى عليك ، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة ثم سواك رجلا وتجهل نعمته ، وتزعم أنه لا يبعثك ، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك ، هذا مما لا ينبغي ولا يليق . ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن ، حاله واستمراره على كفره وطغيانه ، قال ـ مخبرا عن نفسه ، على وجه الشكر لربه ، والإعلان بدينه ، عند ورود المجادلات والشبه : " لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا " . فأقر بربوبية ربه ، وانفراده فيها ، والتزام طاعته وعبادته ، وأنه لا يشرك له أحدا من المخلوقين . ثم أخبر أن نعمة الله عليه ، بالإيمان والإسلام ، ولو مع قلة ماله وولده ـ أنها ، هي النعمة الحقيقية ، وأن ما عداها ، معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال ، فقال : " إن ترن أنا أقل " إلى " وخير عقبا " . أي : قال للكافر صاحبه المؤمن : أنت ـ وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك ، ورأيتني أقل منك مالا وولدا ـ فإن ما عند الله ، خير وأبقى ، وما يرجى من خيره وإحسانه ، أفضل من جميع الدنيا ، التي يتنافس فيه المتنافسون .(2/247)
" فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا "
" فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها " أي : على جنتك التي طغيت بها وغرتك " حسبانا من السماء "
أي : عذابا ، بمطر عظيم أو غيره . " فتصبح " بسبب ذلك " صعيدا زلقا " أي : قد اقتلعت أشجارها ، وتلفت ثمارها ، وغرق زرعها ، وزال نفعها . " أو يصبح ماؤها " الذي مادتها منه " غورا " أي : غائرا في الأرض " فلن تستطيع له طلبا " أي : غائرا لا يستطاع الوصول إليه ، بالمعاول ولا بغيرها . وإنما دعا على جنته المؤمن ، غضبا لربه ، لكونها غرته وأطغته ، واطمأن إليها ، لعله ينيب ، ويراجع رشده ، ويتبصر في أمره . فاستجاب الله دعاءه " وأحيط بثمره "(2/248)
أي : أصابه عذاب ، أحاط به ، واستهلكه ، فلم يبق منه شيء ، والإحاطة بالثمر ، يستلزم تلف جميع أشجاره ، وثماره ، وزرعه ، فندم كل الندامة ، واشتد لذلك أسفه ، " فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " أي : على كثرة نفقاته الدنيوية عليها ، حيث اضمحلت وتلاشت ، فلم يبق لها عوض ، وندم أيضا على شركه ، وشره ، ولهذا قال : " ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا " . قال الله تعالى : " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا " ، أي : لما نزل العذاب بجنته ، ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه : " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " فلم يدفعوا عنه من العذاب شيئا ، أشد ما كان إليهم حاجة ، وما كان بنفسه منتصرا ، وكيف ينتصر ، أو يكون له انتصارا ، على قضاء الله وقدره ، الذي إذا أمضاه وقدره ، لو اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه ، لم يقدروا ؟ ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه ، أن صاحب هذه الجنة ، التي أحيط بها ، تحسنت حاله ، ورزقه الله الإنابة إليه ، وراجع رشده ، وذهب تمرده وطغيانه ، بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه ، وأن الله أذهب عنه ما يطغيه ، وعاقبه في الدنيا ، وإذا أرادا الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا . وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول ، ولا ينكره إلا ظالم جهول . " هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " أي : في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبة على من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ، والكرامة لمن آمن ، وعمل صالحا ، وشكر الله ، ودعا غيره ، لذلك تبين وتوضح ، أن الولاية الحق ، لله وحده . فمن كان مؤمنا به تقيا ، كان له وليا ، فأكرمه بأنواع الكرامات ، ودفع عنه الشرور والمثلات ، ومن لم يؤمن بربه ، ولم يتولاه ، خسر دينه ودنياه ، فثوابه الدينوي والأخروي ، خير ثواب يرجى ويؤمل . ففي هذه القصة العظيمة ، اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية ، فألهته عن آخرته وأطغته ،(2/249)
وعصى الله فيها ، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال ، وأنه وإن تمتع بها قليلا ، فإنه يحرمها طويلا ، وأن العبد ، ينبغي له ـ إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده ـ أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها ، وأن يقول : " ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله " ليكون شاكرا متسببا لبقاء نعمته عليه ، لقوله : " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " . وفيها ، الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها ، بما عند الله من الخير لقوله : " إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك " ، وفيها أن المال والولد لا ينفعان ، إن لم يعينا على طاعة الله كما قال تعالى : " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا " . وفيه الدعاء بتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه ، خصوصا إن فضل نفسه بسببه ، على المؤمنين ، وفخر عليهم . وفيها ، أن ولاية الله وعدمها ، إنما تتضح نتيجتها ، إذا انجلى الغبار وحق الجزاء ، ووجد العاملون أجرهم ف ـ " هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا "أي : عاقبة ومالا .
" واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا "(2/250)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أصلا ، ولمن قام بوراثته بعده تبعا : اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ، ليتصوروها حق التصور ، ويعرفوا ظاهرها وباطنها ، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية ، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار . وأن مثل هذه الحياة الدنيا ، كمثل المطر ، ينزل على الأرض ، فيختلط نباتها ، أو تنبت من كل زوج بهيج . فبينا زهرتها ، وزخرفها تسر الناظرين ، وتفرح المتفرجين ، وتأخذ بعيون الغافلين ، إذ أصبحت هشيما ، تذروه الرياح ، فذهب ذلك النبات الناضر ، والزهر الزاهر ، والمنظر البهي ، فأصبحت الأرض غبراء ترابا ، قد انحرف عنها النظر ، وصدف عنها البصر ، وأوحشت القلب . كذلك هذه الدنيا ، بينما صاحبها ، قد أعجب بشبابه ، وفاق فيها على أقرانه وأترابه ، وحصل درهمها ودينارها ، واقتطف من لذته أزهارها ، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته ، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه ، إذ أصابه الموت أو التلف لماله . فذهب عنه سروره ، وزالت لذته ، وحبوره ، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته ، وماله وانفرد بصالح ، أو سيىء أعماله . هنالك يعض الظالم على يديه ، حين يعلم حقيقة ما هو عليه ، ويتمنى العود إلى الدنيا ، لا ليستكمل الشهوات ، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات ، بالتوبة والأعمال الصالحات . فالعاقل الجازم الموفق ، يعرض على نفسه هذه الحالة ، ويقول لنفسه : " قدري أنك قد مت ، ولا بد أن تموتي ، فأي الحالتين تختارين ؟ الاغترار بزخرف هذه الدار ، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة أم العمل ، لدار أكلها دائم وظلها ظليل ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ؟ " ، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه ، وربحه من خسرانه . ولهذا أخبر تعالى ، أن المال والبنين ، زينة الحياة الدنيا ، أي : ليس وراء ذلك شيء ، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره ، الباقيات الصالحات . وهذا يشمل جميع الطاعات ، الواجبة ، والمستحبة ، من حقوق الله(2/251)
، وحقوق عباده ، من صلاة ، وزكاة ، وصدقة ، وحج ، وعمرة ، وتسبيح ، وتحميد ، وتهليل ، وقراءة ، وطلب علم نافع ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وصلة رحم ، وبر الوالدين ، وقيام بحق الزوجات ، والمماليك ، والبهائم ، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق ، كل هذا من الباقيات الصالحات ، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا ، فثوابها يبقى ، ويتضاعف على الآباد ، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها ، عند الحاجة ، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون ، ويستبق إليها العاملون ، ويجد في تحصيلها المجتهدون . وتأمل ، كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ، ذكر أن الذي فيها نوعان : نوع من زينتها ، يتمتع به قليلا ، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه ، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون . ونوع يبقى لصاحبه على الدوام ، وهي : الباقيات الصالحات .
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً*خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً * قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً * ? (الكهف : 107 - 110)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا "(2/252)
أي : إن الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم ، وشمل هذا الوصف جميع الدين ، عقائده ، وأعماله ، أصوله ، وفروعه الظاهرة ، والباطنة ، فهؤلاء ـ على اختلاف طبقاتهم من الإيمان ، والعمل الصالح ـ لهم جنات الفردوس . يحتمل أن المراد بجنات الفردوس ، أعلى الجنة ، ووسطها ، وأفضلها ، وأن هذا الثواب ، لمن كمل فيه الإيمان ، والعمل الصالح ، وهم الأنبياء والمقربون . ويحتمل أن يراد بها ، جميع منازل الجنان ، فيشمل هذا الثواب ، جميع طبقات أهل الإيمان ، من المقربين ، والأبرار ، والمقتصدين ، كل بحسب حاله ، وهذا أولى المعنيين ، لعمومه ، ولذكر الجنة ، بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس ، وأن الفردوس يطلق على البستان ، المحتوي على الكرم ، أو الأشجار الملتفة ، وهذا صادق على جميع الجنة . فجنة الفردوس ، نزل ، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح ، وأي ضيافة أجل ، وأكبر ، وأعظم ، من هذه الضيافة ، المحتوية على كل نعيم ، للقلوب ، والأرواح ، والأبدان ، وفيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، من المنازل الأنيقة ، والرياض الناضرة ، والأشجار المثمرة ، والطيور المغردة المشجية ، والمآكل اللذيذة ، والمشارب الشهية ، والنساء الحسان ، والخدم ، والولدان ، والأنهار السارحة ، والمناظر الرائقة ، والجمال الحسي والمعنوي ، والنعمة الدائمة . وأعلى ذلك وأفضله وأجله ، التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه ، الذي هو أكبر نعيم الجنان ، والتمتع برؤية وجهه الكريم ، وسماع كلام الرؤوف الرحيم . فلله تلك الضيافة ، ما أجلها وأجملها ، وأدومها ، وأكملها ، وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق ، أو تخطر على القلوب ، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم ، علما حقيقيا ، يصل إلى قلوبهم ، لطارت إليهم قلوبهم بالأشواق ، ولتقطعت أرواحهم ، من ألم الفراق ، ولساروا إليها زرافات ووحدانا ، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية ، ولذات منغصة متلاشية ، ولم يفوتوا(2/253)
أوقاتا ، تذهب ضائعة خاسرة ، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب ، آلاف مؤلفة ، ولكن الغفلة شملت ، والإيمان ضعف ، والعلم قل ، والإرادة وهت فكان ما كان ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقوله : " خالدين فيها " هذا هو تمام النعيم ، إن فيها ، النعيم الكامل ، ومن تمامه أنه لا ينقطع " لا يبغون عنها حولا " . أي : تحولا ولا انتقالا ، لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم ، ويسرهم ويفرحهم ، ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه .
" قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا " أي : قل لهم ـ مخبرا عن عظمة الباري ، وسعة صفاته ، وأنها لا يحيط العباد بشيء منها : " لو كان البحر " أي : هذه الأبحر الموجودة في العالم ، " مدادا لكلمات ربي "أي : وأشجار الدنيا ، من أولها إلى آخرها ، من أشجار البلدان والبراري ، والبحار ، أقلام ، " لنفد البحر " وتكسرت الأقلام " قبل أن تنفد كلمات ربي " وهذا شيء عظيم ، لا يحيط به أحد . وفي الآية الأخرى " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم " . وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان ، لأن هذه الأشياء مخلوقة ، وجميع المخلوقات ، منقضية منتهية ، وأما كلام الله ، فإنه من جملة صفاته ، وصفاته غير مخلوقة ، ولا لها حد ولا منتهى ، فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب ، فالله فوق ذلك ، وهكذا سائر صفات الله تعالى ، كعلمه ، وحكمته ، وقدرته ، ورحمته ، فلو جمع علم الخلائق ، من الأولين والآخرين ، أهل السموات وأهل الأرض ، لكان بالنسبة إلى علم العظيم ، أقل من نسبة عصفور ، وقع على حافة البحر ، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته ، ذلك بأن الله ، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة ، وأن إلى ربك المنتهى .(2/254)
" قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا "
أي : " قل " يا محمد للكفار وغيرهم : " إنما أنا بشر مثلكم " أي : لست بإله ، ولا لي شركة في الملك ، ولا علم بالغيب ، ولا عندي خزائن الله . " إنما أنا بشر مثلكم " عبد من عبيد ربي ،
" يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " أي : فضلت عليكم بالوحي ، الذي يوحيه إلي ، الذي أجله الإخبار لكم ، أنما إلهكم إله واحد ، أي : لا شريك له ، ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة ، وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه ، وينيلكم ثوابه ، ويدفع عنكم عقابه . ولهذا قال : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا " وهو الموافق لشرع الله ، من واجب ومستحب . " ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " أي : لا يرائي بعمله ، بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى ، فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة ، هو الذي ينال ما يرجو ويطلب ، وأما من عدا ذلك ، فإنه خاسر في دنياه وأخراه ، وقد فاته القرب من مولاه ، ونيل رضاه .
ومن سورة مريم تسع آيات
قوله تعالى : ? وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * ? (مريم : 39 - 40 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/255)
الإنذار هو : الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب ، والإخبار بصفاته ، وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد ، يوم الحسرة حين يقضي الأمر ، فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد ، ويسألون عن أعمالهم ، فمن آمن بالله ، واتبع رسله ، سعد سعادة لا يشقى بعدها ، ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقي شقاء لا يسعد بعدها ، وخسر نفسه وأهله ، فحينئذ يتحسر ويندم ندامة ، تنقطع منها القلوب ، وتتصدع منها الأفئدة ، وأي : حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته ، واستحقاق سخطه والنار ، على وجه لا يتمكن الرجوع ، ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعودة إلى الدنيا ؟ فهذا قدامهم ، والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم ، ولو خطر ، فعلى سبيل الغفلة ، قد عمتهم الغفلة وشملتهم السكرة ، فهم لا يؤمنون بالله ، ولا يتبعون رسله ، قد ألهتهم دنياهم ، وحالت بينهم وبين الإيمان ، شهواتهم المنقضية الفانية ، فالدنيا وما فيها ، من أولها إلى آخرها ، ستذهب عن أهلها ، ويذهبون عنها ، وسيرث الله الأرض ومن عليها ، ويرجعهم إليه ، فيجازيهم بما عملوا فيها ، وما خسروا فيها أو ربحوا ، فمن عمل خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه .
وقوله تعالى :? (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً *فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً *إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً? (مريم : 58 - 60 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/256)
لما ذكر الله تعالى الأنبياء المكرمين ، وخواص المرسلين ، وذكر فضائلهم ومراتبهم قال :" أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين " . أي : أنعم الله عليهم نعمة لا تلحق ، ومنة لا تسبق ، من النبوة والرسالة . وهم الذين أمرنا أن ندعو الله أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم ، وأن من أطاع الله ، كان " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين " الآية . وأن بعضهم " من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح " أي : من ذريته " ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل " ، فهذه خير بيوت العالم ، اصطفاهم الله ، واختارهم ، واجتباهم . وكان حالهم عن تلاوة آيات الرحمن عليهم ، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب ، والإخبار باليوم الآخر ، والوعد والوعيد ." خروا سجدا وبكيا " أي : خضعوا لآيات الله ، وخشعوا لها ، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ، ما أوجب لهم بالبكاء والإنابة ، والسجود لربهم . ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا . وفي إضافة الآيات إلى اسمه " الرحمن " دلالة على أن آياته ، من رحمته بعباده ، وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق ، وبصرهم من العمى ، وأنقذهم من الضلالة ، وعلمهم من الجهالة .
" فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ...(2/257)
لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء وهم المخلصون المتبعون لمراضي ربهم ، المنيبون إليه ، ذكر من أتى بعدهم ، وبدلوا ما أمروا به ، وأنه خلف من بعدهم خلف ، رجعوا إلى الخلف والوراء ، فأضاعوا الصلاة ، التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها ، فتهاونوا بها وضيعوها ، وإذا ضيعوا الصلاة التي هي عماد الدين ، وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين ، التي هي آكد الأعمال ، وأفضل الخصال ، كانوا لما سواها من دينهم ، أضيع ، وله أرفض . والسبب الداعي لذلك ، أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإرادتها فصارت هممهم منصرفة إليها ، مقدمة لها على حقوق الله . فنشأ من ذلك ، التضييع ، لحقوقه ، والإقبال على شهوات أنفسهم ، مهما لاحت لهم ، حصلوها ، وعلى أي وجه اتفقت ، تناولوها . " فسوف يلقون غيا " أي : عذابا مضاعفا شديدا . ثم استثنى تعالى فقال : " إلا من تاب " عن الشرك والبدع والمعاصي ، فأقلع عنها وندم عليها ، وعزم عزما جازما أن لا يعاودها . " وآمن " بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . " وعمل صالحا " وهو العمل الذي شرعه الله على ألسنة رسله ، إذا قصد به وجهه . " فأولئك " الذين جمعوا بين التوبة والإيمان ، والعمل الصالح . " يدخلون الجنة " المشتملة على النعيم المقيم ، والعيش السليم ، وجوار الرب الكريم . " ولا يظلمون شيئا " من أعمالهم ، بل يجدونها كاملة موفرة أجورها ، مضاعفا عددها ...
وقوله تعالى : ? (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً? (مريم : 76 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا "(2/258)
لما ذكر أنه يمد للظالمين في ضلالهم ، ذكر أنه يزيد المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته . والهدى يشمل العلم النافع ، والعمل الصالح . فكل من سلك طريقا في العلم والإيمان ، والعمل الصالح ، زاده الله منه وسهله عليه ويسره له ، ووهب له أمورا أخر ، لا تدخل تحت كسبه ، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه ، كما قاله السلف الصالح . ويدل عليه قوله تعالى : " ويزداد الذين آمنوا إيمانا "...وقوله :" وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " . ويدل عليه أيضا ، الواقع ، فإن الإيمان قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح ، والمؤمنون متفاوتون في هذه الأمور ، أعظم تفاوت . ثم قال : " والباقيات الصالحات " أي : الأعمال الباقية ، التي لا تنقطع إذا انقطع غيرها ، ولا تضمحل ، هي الصالحات منها ، من صلاة وزكاة ، وصوم ، وحج ، وعمرة ، وقراءة ، وتسبيح ، وتكبير ، وتحميد ، وتهليل ، وإحسان إلى المخلوقين ، وأعمال قلبية وبدنية . فهذه الأعمال " خير عند ربك ثوابا وخير مردا " أي : خير عند الله ، ثوابها وأجرها ، وكثير للعاملين نفعها وردها ، وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه ، فإنه ما ثم غير الباقيات الصالحات ، عمل ينفع ولا يبقى لصاحبه ثوابه ، ولا ينجع . ومناسبة ، ذكر الباقيات الصالحات ، والله أعلم ـ أنه لما ذكر أن الظالمين جعلوا أحوال الدنيا من المال والولد ، وحسن المقام ونحو ذلك ، علامة لحسن حال صاحبها ، أخبر هنا أن الأمر ، ليس كما زعموا ، بل العمل الذي هو عنوان السعادة ، ومنشور الفلاح ، بما يحبه الله ويرضاه .(2/259)
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ( * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً *? (مريم : 96 - 98 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " هذا من نعمه على عباده ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، أن يجعل لهم ودا أي : محبة وودادا في قلوب أوليائه ، وأهل السماء والأرض ، وإذا كان لهم من الخيرات ، والدعوات ، والإرشاد ، والقبول ، والإمامة ، ما حصل ، ولهذا ورد في الحديث الصحيح : " إن الله إذا أحب عبدا ، نادى جبريل : إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض " . وإنما جعل الله لهم ودا ، لأنهم ودوه ، فوددهم إلى أوليائه وأحبابه .
" فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا "
يخبر تعالى عن نعمته ، وأنه يسر هذا القرآن الكريم بلسان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم : يسر ألفاظه ومعانيه ، ليحصل المقصود منه ، والانتفاع به . " لتبشر به المتقين " بالترغيب في المبشر به من الثواب العاجل والآجل ، وذكر الأسباب الموجبة للبشارة . " وتنذر به قوما لدا "
أي : شديدين في باطلهم ، أقوياء في كفرهم ، فتنذرهم . فتقوم عليهم الحجة ، وتتبين لهم المحجة ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة . ثم توعدهم بإهلاك المكذبين قبلهم فقال :(2/260)
" وكم أهلكنا قبلهم من قرن " من قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم من المعاندين المكذبين ، لما استمروا في طغيانهم ، أهلكهم الله فليس لهم من باقية . " هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " والركز : الصوت الخفي ، أي : لم يبق منهم عين ولا أثر ، بل بقيت أخبارهم عبرة للمعتبرين ، وأسمارهم ، عظة للمتعظين .
ومن سورة طه تسع عشرة آية
قوله تعالى : ? وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى*فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * ? ( طه 13 - 17 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/261)
" وأنا اخترتك " أي : تخيرتك واصطفيتك من الناس ، وهذه أكبر نعمة ومنة أنعم الله بها عليه ، تقتضي من الشكر ، ما يليق بها ، ولهذا قال : " فاستمع لما يوحى " أي : ألق سمعك للذي أوحى إليك فإنه حقيق بذلك ، لأنه أصل الدين ومبدأه ، وعماد الدعوة الإسلامية . ثم بين الذي يوحيه إليه بقول : " إنني أنا الله لا إله إلا أنا " أي : الله المستحق الألوهية المتصف بها ، لأنه الكامل في أسمائه ، وصفاته ، المنفرد بأفعاله ، الذي لا شريك له ، ولا مثيل ، ولا كفو ولا سمي . " فاعبدني " بجميع أنواع العبادة ، ظاهرها وباطنها ، أصولها وفروعها ، ثم خص الصلاة بالذكر وإن كانت داخلة في العبادة ، لفضلها وشرفها ، وتضمنها عبودية القلب ، واللسان ، والجوارح . وقوله : " لذكري " اللام للتعليل أي : أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي ، لأن ذكره تعالى ، أجل المقاصد ، وبه عبودية القلب ، وبه سعادته ، فالقلب المعطل عن ذكر الله ، معطل عن كل خير ، وقد خرب كل الخراب ، فشرع الله للعباد ، أنواع العبادات ، التي ، المقصود منها ، إقامة ذكره وخصوصا ، الصلاة . قال تعالى : " اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " ، أي : ما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر ، وهذا النوع يقال له توحيد الإلهية ، وتوحيد العبادة ، فالألوهية ، وصفه تعالى ، والعبودية ، وصف عبده . " إن الساعة آتية " أي : لا بد من وقوعها " أكاد أخفيها " ، أي : عن نفسي كما في بعض القراءات ، كقوله تعالى : " يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله " وقال : " وعنده علم الساعة " ، فعلمها ، قد أخفاه عن الخلائق كلهم ، فلا يعلمها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل . والحكمة في إتيان الساعة " لتجزى كل نفس بما تسعى " من الخير والشر ، فهي الباب لدار الجزاء " ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " " فلا يصدنك عنها من(2/262)
لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى " أي : فلا يصدنك ويشغلك عن الإيمان بالساعة ، والجزاء ، والعمل لذلك ، من كان كافرا بها ، غير معتقد لوقوعها . يسعى في الشك فيها ، والتشكيك ، ويجادل فيها ، بالباطل ، ويقيم من الشبه ، ما يقدر عليه ، متبعا في ذلك هواه ، ليس قصده الوصول إلى الحق ، وإنما قصاراه ، اتباع هواه ، فإياك أن تصغي إلى من هذه حاله ، أو تقبل شيئا ، من أقواله وأعماله الصادة عن الإيمان بها والسعي لها سعيها ، وإنما حذر الله تعالى عمن هذه حاله ، لأنه من أخوف ما يكون على المؤمن بوسوسته وتدجيله ، وكون النفوس مجبولة على التشبه ، والاقتداء بأبناء الجنس ، وفي هذا تنبيه وإشارة إلى التحذير ، عن كل داع إلى باطل ، يصد عن الإيمان الواجب ، أو عن كماله ، أو يوقع الشبهة في القلب ، وعن النظر في الكتب ، المشتملة على ذلك ، وذكر في هذا ، الإيمان به ، وعبادته ، والإيمان باليوم الآخر ، لأن هذه الأمور الثلاثة ، أصول الإيمان ، وركن الدين ، وإذا تمت تم أمر الدين ، ونقصه أو فقده بنقصها ، أو نقص شيء منها . وهذه نظير قوله تعالى في الإخبار عن ميزان سعادة الفرق ، الذين أوتوا الكتاب وشقاوتهم " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ". وقوله : " فتردى " أي : تهلك وتشقى ، إن اتبعت طريق من يصد عنها ...(2/263)
وقوله تعالى : ? قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى *? (طه 72 -75 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/264)
لما عرف السحرة الحق ، ورزقهم الله من العقل ما يدركون به الحقائق ، أجابوا فرعون بقولهم : " لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات " الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده ، المعظم المبجل وحده ، وأن ما سواه باطل ، ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا . هذا لا يكون " فاقض ما أنت قاض " مما أوعدتنا به ، من القطع ، والصلب ، والعذاب . " إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " أي : إنما توعدنا به ، غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ، ينقضي ويزول ولا يضرنا ، بخلاف عذاب الله ، لمن استمر على كفره ، فإنه دائم عظيم . وهذا كأنه جواب منهم لقوله : " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " ، وفي هذا الكلام ، من السحرة ، دليل على أنه ينبغي للعاقل ، أن يوازن بين لذات الدنيا ، ولذات الآخرة ، وبين عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة . " إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا " أي : كفرنا ومعاصينا ، فإن الإيمان مكفر للسيئات ، والتوبة تجب ما قبلها . وقولهم : " وما أكرهتنا عليه من السحر " الذي عارضنا به الحق ، هذا دليل على أنهم غير مختارين في عملهم المتقدم ، وإنما أكرههم فرعون إكراها . والظاهر ـ والله أعلم ـ أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله : " ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب " أثر معهم ، ووقع منهم موقعا كبيرا ، ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة ، ثم إن فرعون ألزمهم ذلك ، وأكرمهم على المكر الذي أجروه ، ولهذا تكلموا بكلامه السابق ، قبل إتيانهم ، حيث قالوا : " إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما " فجروا على ما سنه لهم ، وأكرههم عليه . ولعل هذه النكتة ، التي قامت بقلوبهم ، من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل وفعلهم ، ما فعلوا على وجه الإغماض ، هي التي أثرت معهم ، ورحمهم الله بسببها ، ووفقهم للإيمان والتوبة ، والله خير مما أوعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه ، وأبقى ثوابا وإحسانا لا ما يقول فرعون " ولتعلمن أينا أشد(2/265)
عذابا وأبقى " يريد أنه أشد عذابا وأبقى وجميع ما أتى من قصص موسى مع فرعون ، يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة ، أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب ، ولم يذكر أنه فعل ذلك ، ولم يأت في ذلك حديث صحيح ، والجزم بوقوعه ، أو عدمه ، يتوقف على الدليل ، والله أعلم بذلك وغيره .
" إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى "
يخبر تعالى أن من أتاه وقدم عليه مجرما ـ أي : وصفه الجرم من كل وجه ، وذلك يستلزم الكفر ـ واستمر على ذلك حتى مات ، فإن له نار جهنم ، الشديد نكالها ، العظيمة أغلالها ، البعيد قعرها ، الأليم حرها وقرها ، التي فيها من العقاب ، ما يذيب الأكباد والقلوب ، ومن شدة ذلك ، أن المعذب فيها ، لا يموت ولا يحيا ، لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة يتلذذ بها ، وإنما حياته ، محشوة بعذاب القلب ، والروح ، والبدن ، الذي لا يقدر قدره ، ولا يفتر عنه ساعة ، يستغيث فلا يغاث ، ويدعو فلا يستجاب له . نعم إذا استغاث ، أغيث بماء كالمهل ، يشوي الوجوه ، وإذا دعا ، أجيب ب ـ " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " . ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله ، متبعا لكتبه " قد عمل الصالحات " الواجبة والمستحبة ، " فأولئك لهم الدرجات العلى " أي : المنازل العاليات ، في الغرف المزخرفات ، واللذات المتواصلات ، والأنهار السارحات ، والخلود الدائم ، والسرور العظيم ، فيما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . " وذلك " الثواب ، " جزاء من تزكى " أي : تطهر من الشرك ، والكفر ، والفسوق ، والعصيان ، إما أن لا يفعلها بالكلية ، أو يتوب مما فعله منها ، وزكى أيضا نفسه ، ونماها بالإيمان والعمل الصالح ، فإن للتزكية معنيين ، التنقية ، وإزالة الخبث ، والزيادة بحصول الخير ، وسميت الزكاة زكاة ، لهذين الأمرين .(2/266)
وقوله تعالى: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى * أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى * وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى * ? ( طه 124 -132 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ومن أعرض عن ذكري " أي : كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية ، وأن يتركه على وجه الإعراض عنه ، أو ما هو أعظم من ذلك ، بأن يكون على وجه الإنكار له ، والكفر به " فإن له معيشة ضنكا " أي : فإن جزاءه ، أن نجعل معيشته ضيقة مشقة ، ولا يكون ذلك إلا عذابا . وفسرت المعيشة الضنك ، بعذاب القبر ، وأنه يضيق عليه قبره ، ويحصر فيه ، ويعذب ، جزاء لإعراضه عن ذكر ربه ، وهذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر . والثانية قوله تعالى :(2/267)
" ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم " الآية . والثالثة قوله : " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر " . والرابعة قوله عن آل فرعون " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " الآية . والذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف ، وقصرها على ذلك ـ والله أعلم ـ آخر الآية ، وأن الله ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة . وبعض المفسرين ، يرى أن المعيشة الضنك ، عامة في دار الدنيا ، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه ، من الهموم ، والغموم ، والآلام ، التي هي عذاب معجل ، وفي دار البرزخ ، وفي الدار الآخرة ، لإطلاق المعيشة الضنك ، وعدم تقييدها . " ونحشره " أي : هذا المعرض عن ذكر ربه " يوم القيامة أعمى " البصر على الصحيح ، كما قال تعالى : " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما " . قال على وجه الذل ، والمراجعة ، والتألم ، والضجر من هذه الحالة " رب لم حشرتني أعمى وقد كنت " في دار الدنيا " بصيرا " فما الذي صيرني إلى هذه الحالة البشعة .
" قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها " بإعراضك عنها " وكذلك اليوم تنسى " أي : تترك في العذاب . فأجيب ، بأن هذا هو عين عملك ، والجزاء ، من جنس العمل ، فكما عميت عن ذكر ربك ، وغشيت عنه ، ونسيته ، ونسيت حظك منه ، أعمى الله بصرك في الآخرة ، فحشرت إلى النار أعمى ، أصم ، أبكم ، وأعرض عنك ، ونسيك في العذاب . " وكذلك "
أي : هذا الجزاء " نجزي " به" من أسرف " بأن تعدى الحدود ، وارتكب المحارم وجاوز ما أذن له " ولم يؤمن بآيات ربه " الدالة على جميع مطالب الإيمان دلالة واضحة صريحة ، فالله لم يظلمه ولم يضع العقوبة في غير محلها وإنما السبب إسرافه وعدم إيمانه . " ولعذاب الآخرة أشد "
من عذاب الدنيا أضعافا مضاعفة " وأبقى " ، لكونه لا ينقطع ، بخلاف عذاب الدنيا فإنه منقطع ، فالواجب ، الخوف والحذر من عذاب الآخرة .(2/268)
" أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى " أي : أفلم يهد لهؤلاء المكذبين المعرضين ، ويدلهم على سلوك طريق الرشاد ، وتجنب طريق الغي والفساد ، ما أحل الله بالمكذبين قبلهم ، من القرون الخالية ، والأمم المتتابعة ، الذين يعرفون قصصهم ، ويتناقلون أسمارهم ، وينظرون بأعينهم ، مساكنهم من بعدهم ، كقوم هود ، وصالح ، ولوط وغيرهم ، وأنهم لما كذبوا رسلنا ، وأعرضوا عن كتبنا ، أصبناهم بالعذاب الأليم ؟ فما الذي يؤمن هؤلاء ، أن يحل بهم ، ما حل بأولئك ؟ " أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر " ، لا شيء من هذا كله فليس هؤلاء الكفار ، خيرا من أولئك ، حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم ، بل هم شر منهم ، لأنهم كفروا بأشرف الرسل ، وخير الكتب ، وليس لهم براءة مزبورة ، وعهد عند الله ، وليسوا كما يقولون ، أن جمعهم ينفعهم ، ويدفع عنهم ، بل هم أذل وأحقر من ذلك . فإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ، أسباب الهداية ، لكونها من الآيات الدالة على صحة رسالة الرسل ، الذين جاؤوهم ، وبطلان ما هم عليه ، ولكن ما كل أحد ينتفع بالآيات ، إنما ينتفع بها ، أولو النهى ، أي : العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، والألباب التي تزجر أصحابها عما لا ينبغي .
" ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى "(2/269)
هذه تسلية للرسول ، وتصبير له عن المبادرة إلى إهلاك المكذبين ، المعرضين ، وأن كفرهم وتكذيبهم ، سبب صالح ، لحلول العذاب بهم ، ولزومه لهم ، لأن الله جعل العقوبات ، سببا وناشئا عن الذنوب ، ملازما لها . وهؤلاء قد أتوا بالسبب ، ولكن الذي أخره عنهم ، كلمة ربك ، المتضمنة لإمهالهم وتأخيرهم ، وضرب الأجل المسمى ، فالأجل المسمى ونفوذ كلمة الله ، هو الذي أخر عنهم العقوبة إلى إبان وقتها ، ولعلهم يراجعون أمر الله ، فيتوب عليهم ، ويرفع عنهم العقوبة ، إذا لم تحق عليهم الكلمة . ولهذا أمر الله رسوله ، بالصبر على أذيتهم بالقول ، وأمره أن يتعوض عن ذلك ، ويستعين عليه ، بالتسبيح بحمد ربه ، في هذه الأوقات الفاضلة ، قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ، وفي أطراف النهار ، أوله وآخره ، عموم بعد خصوص ، وأوقات الليل وساعاته ، ولعلك إن فعلت ذلك ، ترضى بما يعطيك ربك من الثواب العاجل والآجل ، وليطمئن قلبك ، وتقر عينك بعبادة ربك ، وتتسلى بها عن أذيتهم ، فيخف حينئذ عليك الصبر .
" ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " أي : ولا تمد عينيك معجبا ، ولا تكرر النظر مستحسنا ـ إلى أحوال الدنيا والممتعين بها ، من المآكل والمشارب اللذيذة ، والملابس الفاخرة ، والبيوت المزخرفة ، والنساء المجملة . فإن ذلك كله ، زهرة الحياة الدنيا ، تبتهج بها نفوس المغترين ، وتأخذ إعجابا ، بأبصار المعرضين ، ويتمتع بها ـ بقطع النظر عن الآخرة ـ القوم الظالمون . ثم تذهب سريعا ، وتمضي جميعا ، وتقتل محبيها وعشاقها ، فيندمون حيث لا تنفع الندامة ، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا يوم القيامة ، وإنما جعلها الله فتنة واختبارا ، ليعلم من يقف عندها ، ويغتر بها ، ومن هو أحسن عملا كما قال تعالى : " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا "(2/270)
" ورزق ربك " العاجل من العلم والإيمان ، وحقائق الأعمال الصالحة ، والآجل من النعيم المقيم ، والعيش السليم في جوار الرب الرحيم " خير " مما متعنا به أزواجا ، في ذاته وصفاته " وأبقى "
لكونه لا ينقطع أكلها دائم وظلها كما قال تعالى : " بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى " . وفي هذه الآية ، إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه ، طموحا إلى زينة الدنيا ، وإقبالا عليها ، أن يذكر ما أمامها من رزق ربه ، وأن يوازن بين هذا وهذا . " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى " أي : حث أهلك على الصلاة وأزعجهم إليها من فرض ونفل . والأمر بالشيء ، أمر بجميع ما لا يتم إلا به ، فيكون أمرا بتعليمهم ، ما يصلح الصلاة ، ويفسدها ، ويكملها . " واصطبر عليها " أي : على الصلاة بإقامتها ، بحدودها ، وأركانها ، وخشوعها ، فإن ذلك ، مشق على النفس ، ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك ، والصبر معها دائما ، فإن العبد إذا أقام صلاته على الوجه المأمور به ، كان لما سواها من دينه ، أحفظ وأقوم ، وإذا ضيعها ، كان لما سواها أضيع ، ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق ، وأن لا يشغله الاهتمام به عن إقامة دينه فقال : " نحن نرزقك " أي : رزقك علينا ، قد تكفلنا به ، كما تكفلنا بأرزاق الخلائق ، كلهم ، فكيف بمن قام بأمرنا ، واشتغل بذكرنا ؟ ورزق الله عام للمتقي وغيره . فينبغي الاهتمام ، بما يجلب السعادة الأبدية ، وهو : التقوى ، ولهذا قال : " والعاقبة " في الدنيا والآخرة " للتقوى " التي هي فعل المأمور وترك المنهي . فمن قام بها ، كان له العاقبة ، كما قال تعالى : " والعاقبة للمتقين "
ومن سورة الأنبياء عشر آيات(2/271)
قوله تعالى :?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ? (الأنبياء : 1-2)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم "(2/272)
هذا تعجب من حالة الناس ، وأنهم لا ينجع فيهم تذكير ، ولا يرعون إلى نذير ، وأنهم قد قرب حسابهم ، ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة ، والحال أنهم في غفلة معرضون أي : غفلة عما خلقوا له ، وإعراض عما زجروا به . كأنهم للدنيا خلقوا ، وللتمتع بها ولدوا ، وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ ، ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم ، ولهذا قال : " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " يذكرهم ما ينفعهم ، ويحثهم عليه وما يضرهم ، ويرهبهم منه " إلا استمعوه " سماعا ، تقوم عليهم به الحجة . " وهم يلعبون لاهية قلوبهم " ، أي : قلوبهم غافلة معرضة بمطالبها الدنيوية وأبدانهم لاعبة ، قد اشتغلوا بتناول الشهوات ، والعمل بالباطل ، والأقوال الردية ، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة ، تقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه ، وتستمعه استماعا ، تفقه المراد منه ، وتسعى جوارحهم ، في عبادة ربهم ، التي خلقوا لأجلها ، ويجعلون القيامة والحساب ، والجزاء منهم على بال ، فبذلك يتم لهم أمرهم وتستقيم أحوالهم ، وتزكو أعمالهم . وفي معنى قوله : " اقترب للناس حسابهم " قولان : أحدهما : أن هذه الأمة ، هي آخر الأمم ، ورسولها ، آخر الرسل ، وعلى أمته تقوم الساعة ، فقد قرب الحساب منها ، بالنسبة لما قبلها ، من الأمم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة كهاتين ، وقرن بين إصبعيه ، السبابة والتي تليها " . والقول الثاني : أن المراد بقرب الحساب الموت ، وأن من مات ، قامت قيامته ، ودخل في دار الجزاء على الأعمال ، وأن هذا تعجب من كل غافل معرض ، لا يدري متى يفاجؤه الموت ، صباحا أو مساء ، فهذه حالة الناس كلهم إلا من أدركته العناية الربانية ، فاستعد للموت وما بعده . ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون ، على وجه العناد ، ومقابلة الحق بالباطل ، وأنهم تناجوا ، وتواطؤوا فيما بينهم ، أن يقولوا في الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنه بشر(2/273)
مثلكم ، فما الذي فضله عليكم ، وخصه من بينكم ، فلو ادعى أحد منكم مثل دعواه ، لكان قوله من جنس قوله ، ولكنه يريد أن يتفضل عليكم ، ويرأس فيكم ، فلا تطيعوه ، ولا تصدقوه ، وأنه ساحر ، وما جاء به من شاف القرآن ، سحر ، فانفروا عنه ، ونفروا الناس ، وقولوا : " أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " هذا ، وهم يعلمون أنه رسول الله حقا بما يشاهدون من الآيات الباهرة ، ما لم يشاهده غيرهم ، ولكن حملهم على ذلك ، الشقاء والظلم والعناد . والله تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به ، وسيجازيهم عليه ولهذا قال : " قال ربي يعلم القول " الخفي والجلي " في السماء والأرض " أي : في جميع ما احتوت عليه أقطارهما " وهو السميع " لسائر الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات " العليم " بما في الضمائر ، وأكنته السرائر .
وقوله تعالى: ? وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ * ? (الأنبياء :105 -112 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/274)
" ولقد كتبنا في الزبور " وهو الكتاب المزبور ، والمراد : الكتب المنزلة ، كالتوراة ونحوها " من بعد الذكر " أي : كتبناه في الكتب المنزلة ، بعد ما كتبنا في الكتاب السابق ، الذي هو اللوح المحفوظ ، وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك . " إن الأرض " أي : أرض الجنة " يرثها عبادي الصالحون " الذين قاموا بالمأمورات ، واجتنبوا المنهيات ، فهم الذين يورثهم الله الجنات ، كقول أهل الجنة : " الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء " . ويحتمل أن المراد : الاستخلاف في الأرض ، وأن الصالحين يمكن الله لهم في الأرض ، ويوليهم عليها كقوله تعالى : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم "
" إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون "(2/275)
يثني الله تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء ، وأنه لا يستغنى عنه فقال : " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " أي : يتبلغون به ، في الوصول إلى ربهم ، وإلى دار كرامته ، فيوصلهم إلى أجل المطالب ، وأفضل الرغائب ، وليس للعابدين ، الذين هم أشرف الخلق ، وراءه غاية ، لأنه الكفيل بمعرفة ربهم ، بأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وبالإخبار بالغيوب الصادقة ، وبالدعوة لحقائق الإيمان ، وشواهد الإيقان ، المبين للمأمورات كلها ، والمنهيات جميعا ، المعرف بعيوب النفس والعمل ، والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله ، والتحذير من طرق الشيطان ، وبيان مداخله على الإنسان . فمن لم يغنه القرآن ، فلا أغناه الله ، ومن يكفيه ، فلا كفاه الله . ثم أثنى على رسوله ، الذي جاء بالقرآن فقال : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " ، فهو رحمته المهداة لعباده ، فالمؤمنون به ، قبلوا هذه الرحمة ، وشكروها ، وقاموا بها ، وغيرهم كفروها ، وبدلوا نعمة الله كفرا ، وأبوا رحمة الله ونعمته . " قل " يا محمد " إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " الذي لا يستحق العبادة إلا هو ، ولهذا قال : " فهل أنتم مسلمون " أي : منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته ، فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما من عليهم ، بهذه النعمة ، التي فاقت المنن . " فإن تولوا " عن الانقياد لعبودية ربهم ، فحذرهم حلول المثلات ، ونزول العقوبة . " فقل آذنتكم " أي : أعلمتكم بالعقوبة " على سواء " أي : علمي وعلمكم بذلك مستو فلا تقولوا ـ إذا نزل بكم العذاب ـ " ما جاءنا من بشير ولا نذير " . بل الآن ، استوى علمي وعلمكم ، لما أنذرتكم ، وحذرتكم ، وأعلمتكم بمآل الكفر ، ولم أكتم عنكم شيئا . " وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون " أي : من العذاب لأن علمه عند الله ، وهو بيده ، ليس لي من الأمر شيء . " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " أي : لعل تأخير العذاب(2/276)
الذي استعجلتموه ، شر لكم ، وإن تتمتعوا في الدنيا إلى حين ، ثم يكون أعظم لعقوبتكم . " قال رب احكم بالحق " أي : بيننا وبين القوم الكافرين ، فاستجاب الله هذا الدعاء ، وحكم بينهم في الدنيا قبل الآخرة ، بما عاقب الله به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها ." وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون " أي : نسأل ربنا الرحمن ، ونستعين به على ما تصفون ، من قولكم؛ سنظهر عليكم ، وسيضمحل دينكم ، فنحن في هذا ، لا نعجب بأنفسنا ، ولا نتكل على حولنا وقوتنا ، وإنما نستعين بالرحمن ، الذي ناصية كل مخلوق بيده ، ونرجوه أن يتم ما استعنا به ، من رحمته ، وقد فعل ، ولله الحمد .
ومن سورة الحج خمس عشرة آية
قوله تعالى:? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ*? (الحج : 11 - 14 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير "(2/277)
أي : ومن الناس من هو ضعيف الإيمان ، لم يدخل الإيمان قلبه ، ولم تخالطه بشاشته ، بل دخل فيه ، إما خوفا ، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن . " فإن أصابه خير اطمأن به " أي : إن استمر رزقه رغدا ، ولم يحصل له من المكاره شيء ، اطمأن بذلك الخير ، لا إيمانه . فهذا ، ربما أن الله يعافيه ، ولا يقيض له من الفتن ، ما ينصرف به عن دينه . " وإن أصابته فتنة " من حصول مكروه ، أو زوال محبوب " انقلب على وجهه " أي : ارتد عن دينه . " خسر الدنيا والآخرة " أما في الدنيا ، فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله ، وعوضا عما يظن إدراكه فخاب سعيه ، ولم يحصل له ، إلا ما قسم له . وأما الآخرة ، فظاهر ، حرم الجنة التي عرضها السموات والأرض ، واستحق النار . " ذلك هو الخسران المبين " أي : الواضح البين . " يدعو " هذا الراجع على وجهه " من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه " . وهذا صفة كل مدعو ومعبود ، من دون الله ، فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره ، نفعا ولا ضرا . " ذلك هو الضلال البعيد " الذي بلغ في البعد إلى حد النهاية ، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار ، الغني المغني . وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه ، ليس بيده من الأمر شيء ، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب . ولهذا قال :" يدعو لمن ضره أقرب من نفعه " فإن ضرره في العقل والبدن ، والدنيا والآخرة ، معلوم " لبئس المولى " أي : هذا المعبود " ولبئس العشير " أي : القرين الملازم على صحبته ، فإن المقصود من المولى والعشير ، حصول النفع ، ودفع الضرر ، فإذا لم يحصل شيء من هذا ، فإنه مذموم ملوم " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد " لما ذكر تعالى المجادل بالباطل ، وأنه على قسمين ، مقلد ، وداع ، ذكر أن المتسمي بالإيمان أيضا على قسمين ، قسم لم يدخل الإيمان قلبه كما تقدم . والقسم الثاني : المؤمن حقيقة ، صدق(2/278)
ما معه من الإيمان بالأعمال الصالحة فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار . وسميت الجنة جنة ، لاشتمالها على المنازل والقصور والأشجار والنباتات التي تجن من فيها ، ويستتر بها ، من كثرتها . " إن الله يفعل ما يريد " فمهما أراده تعالى ، فعله من غير ممانع ولا معارض ، ومن ذلك ، إيصال أهل الجنة إليها ، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * ? (الحج : 32 - 35 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق "(2/279)
أي : ذلك الذي ذكرناه لكم ، من تعظيم حرماته وشعائره ، والمراد بالشعائر : أعلام الدين الظاهرة ، ومنها المناسك كلها ، كما قال تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ومنها الهدايا والقربان للبيت . وتقدم أن معنى تعظيمها ، إجلالها ، والقيام بها ، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد ، ومنها الهدايا ، فتعظيمها ، باستحسانها واستسمانها ، وأن تكون مكملة من كل وجه ، فتعظيم شعائر الله ، صادر من تقوى القلوب ، فالمعظم لها ، يبرهن على تقواه ، وصحة إيمانه ، لأن تعظيمها ، تابع لتعظيم الله وإجلاله . " لكم فيها " أي : في الهدايا " منافع إلى أجل مسمى " هذا في الهدايا المسوقة ، من البدن ونحوها ، ينتفع بها أربابها ، بالركوب ، والحلب ونحو ذلك ، مما لا يضرها " إلى أجل مسمى " مقدر ، موقت وهو ذبحها ، إذا وصلت " محلها " وهو " البيت العتيق " أي : الحرم كله " منى " وغيرها ، فإذا ذبحت ، أكلوا منها ، وأهدوا ، وأطعموا البائس الفقير .
" ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون "(2/280)
أي : ولكل أمة من الأمم السالفة ، جعلنا منسكا ، أي : فاستبقوا إلى الخيرات وسارعوا إليها ، ولننظر أيكم أحسن عملا ، والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا ، إقامة ذكره ، والالتفات لشكره . ولهذا قال : " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد "، وإن اختلفت أجناس الشرائع ، فكلها متفقة على هذا الأصل ، وهو : ألوهية الله ، وإفراده بالعبودية ، وترك الشرك به . ولهذا قال : " فله أسلموا " أي : انقادوا واستسلموا له لا لغيره ، فإن الإسلام له ، طريق الوصول إلى دار السلام . " وبشر المخبتين " بخير الدنيا والآخرة ، والمخبت : الخاضع لربه ، المستسلم لأمره ، المتواضع لعباده . ثم ذكر صفات المخبتين فقال : "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " أي : خوفا وتعظيما ، فتركوا لذلك ، المحرمات ، لخوفهم ووجلهم من الله وحده . " والصابرين على ما أصابهم " من البأساء والضراء ، وأنواع الأذى فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك ، بل صبروا ابتغاء وجه ربهم ، محتسبين ثوابه ، مرتقبين أجره . " والمقيمي الصلاة " أي : الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة ، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب ، وعبوديتها الظاهرة والباطنة . " ومما رزقناهم ينفقون " وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة ، كالزكاة ، والكفارة ، والنفقة على الزوجات والمماليك ، والأقارب . والنفقات المستحبة ، كالصدقات بجميع وجوهها . وأتى ب ـ " من " المفيدة للتبعيض ، ليعلم سهولة ما أمر الله به ، ورغب فيه ، وأنه جزء يسير مما رزق الله ، ليس للعبد في تحصيله قدرة ، لولا تيسير الله ، ورزقه إياه . فيا أيها المرزوق من فضل الله ، أنفق مما رزقك الله ينفق الله عليك ، ويزدك من فضله .(2/281)
وقوله تعالى : ? لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * ? (الحج : 37 - 38 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " أي : ليس المقصود منها ، ذبحها فقط . ولا ينال الله من لحومها ، ولا دمائها شيء ، لكونه الغني الحميد ، وإنما يناله الإخلاص فيها ، والاحتساب ، والنية الصالحة ، ولهذا قال : " ولكن يناله التقوى منكم " . ففي هذا ، حث وترغيب على الإخلاص في النحر ، وأن يكون القصد وجه الله وحده ، لا فخرا ، ولا رياء ، ولا سمعة ، ولا مجرد عادة ، وهكذا سائر العبادات ، إن لم يقترن بها الإخلاص ، وتقوى الله ، كان كالقشر الذي لا لب فيه ، والجسد ، الذي لا روح فيه . " كذلك سخرها لكم لتكبروا الله " أي : تعظموه وتجلوه . " على ما هداكم " أي : مقابلة لهدايته إياكم ، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد ، وأعلى التعظيم . " وبشر المحسنين " بعبادة الله بأن يعبدوا الله ، كأنهم يرونه ، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة ، فليعبدوه ، معتقدين وقت عبادتهم ، اطلاعه عليهم ، ورؤيته إياهم . والمحسنين لعباد الله ، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال ، أو علم ، أو جاه ، أو نصح ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو كلمة طيبة ونحو ذلك . فالمحسنون ، لهم البشارة من الله ، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم ، كما أحسنوا في عبادته ولعباده " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان "... " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة "...(2/282)
" إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " هذا إخبار ، ووعد ، وبشارة من الله ، للذين آمنوا ، أن الله يدفع عنهم كل مكروه . ويدفع عنهم ـ بسبب إيمانهم ـ كل شر من شرور الكفار ، وشرور وسوسة الشيطان ، وشرور أنفسهم ، وسيئات أعمالهم ويحمل عنهم عند نزول المكاره ، ما لا يتحملون ، فيخفف عنهم غاية التخفيف . كل مؤمن ، له من هذه المدافعة والفضيلة ، بحسب إيمانه ، فمستقل ، ومستكثر . " إن الله لا يحب كل خوان " أي : خائن في أمانته ، التي حمله الله إياها ، فيبخس حقوق الله عليها ، ويخونها ، ويخون الخلق . " كفور " لنعم الله ، يوالي الله عليه الإحسان ، ويتوالى منه الكفر والعصيان . فهذا لا يحبه الله ، بل يبغضه ويمقته ، وسيجازيه على كفره وخيانته ، ومفهوم الآية ، أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته ، شكور لمولاه .
وقوله تعالى: ? الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? (الحج : 41 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/283)
" الذين إن مكناهم في الأرض " أي : ملكناهم إياها ، وجعلناهم المتسلطين عليها ، من غير منازع ينازعهم ، ولا معارض . " أقاموا الصلاة " في أوقاتها ، وحدودها ، وأركانها ، وشروطها ، في الجمعة والجماعات . " وآتوا الزكاة " التي عليهم ، خصوصا ، وعلى رعيتهم عموما ، آتوها أهلها ، الذين هم أهلها . " وأمروا بالمعروف " وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقلا ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين . " ونهوا عن المنكر " كل منكر شرعا وعقلا ، معروف قبحه ، والأمر بالشيء والنهي عنه ، يدخل فيه ، ما لا يتم إلا به ، فإذا كان المعروف والمنكر ، يتوقف على تعلم وتعليم ، أجبروا الناس على التعلم والتعليم ، وإذا كان يتوقف ، على تأديب مقدر شرعا ، أو غير مقدر ، كأنواع التعزير ، قاموا بذلك ، وإذا كان يتوقف على جعل أناس ، متصدين له ، لزم ذلك ، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، إلا به . " ولله عاقبة الأمور " أي : جميع الأمور ، ترجع إلى الله ، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى . فمن سلطه أي : على العباد ، من الملوك ، وقام بأمر الله ، كانت له العاقبة الحميدة ، والحالة الرشيدة . ومن تسلط عليهم ، بالجبروت ، وأقام فيهم هوى نفسه ، فإنه ، وإن حصل له ملك موقت ، فإن عاقبته غير حميدة ، فولايته مسؤومة ، وعاقبته مذمومة....
وقوله تعالى : ? وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? (الحج : 54 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/284)
" وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك " وأن الله منحهم من العلم ، ما به يعرفون الحق من الباطل ، والرشد من الغي ، فيفرقون بين الأمرين ، الحق المستقر ، الذي يحكمه الله ، والباطل العارض الذي ينسخه الله ، بما على كل منهما من الشواهد ، وليعلموا أن الله حكيم ، يقيض بعض أنواع الابتلاء ، ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة . " فيؤمنوا به " بسبب ذلك ، ويزداد إيمانهم ، عند دفع المعارض والشبهة . " فتخبت له قلوبهم " أي : تخشع وتخضع ، وتسلم لحكمته ، وهذا من هدايته إياهم . " وإن الله لهاد الذين آمنوا " بسبب إيمانهم " إلى صراط مستقيم " علم بالحق ، وعمل بمقتضاه ، فيثبت الله الذين آمنوا ، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وهذا النوع ، من تثبيت الله لعبده .
قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ * ? (الحج : 77-78 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/285)
يأمر تعالى ، عباده المؤمنين بالصلاة ، وخص منها الركوع والسجود ، لفضلهما وركنيتهما ، وعبادته التي هي قرة العيون ، وسلوة القلب المحزون ، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد ، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة ، ويأمرهم بفعل الخير عموما . وعلق تعالى ، الفلاح على هذه الأمور فقال : " لعلكم تفلحون " . أي : تفوزون بالمطلوب المرغوب ، وتنجون من المكروه المرهوب ، فلا طريق للفلاح ، سوى الإخلاص في عبادة الخالق ، والسعي في نفع عبيده ، فمن وفق لذلك ، فله القدح المعلى ، من السعادة ، والنجاح والفلاح . " وجاهدوا في الله حق جهاده " والجهاد بذل الوسع ، في حصول الغرض المطلوب . فالجهاد في الله حق جهاده ، هو القيام التام بأمر الله ، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك ، من نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ، ووعظ ، وغير ذلك . " هو اجتباكم " أي : اختاركم ـ يا معشر المسلمين ـ من بين الناس ، واختار لكم الدين ، ورضيه لكم ، واختار لكم أفضل الكتب ، وأفضل الرسل . فقابلوا هذه المنحة العظيمة ، بالقيام بالجهاد فيه حق القيام . ولما كان قوله : " وجاهدوا في الله حق جهاده "
ربما توهم متوهم أن هذا ، من باب تكليف ما لا يطاق ، أو تكليف ما يشق ، احترز منه بقوله : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " أي : مشقة وعسر ، بل يسره غاية التيسير ، وسهله بغاية السهولة ، فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس ، لا يثقلها ، ولا يؤودها ، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف ، خفف ما أمر به . إما بإسقاطه ، أو إسقاط بعضه . ويؤخذ من هذه الآية ، قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " ، فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية ، شيء كثير معروف في كتب الأحكام .(2/286)
" ملة أبيكم إبراهيم " أي : هذه الملة المذكورة ، والأوامر المزبورة ، ملة أبيكم إبراهيم ، التي ما زال عليها ، فالزموها واستمسكوا بها . " هو سماكم المسلمين من قبل " أي : في الكتب السابقة ، أنتم مذكورون ومشهورون أي : بأن إبراهيم سماكم : مسلمين . " وفي هذا " أي : هذا الكتاب ، وهذا الشرع . أي : ما زال هذا الاسم لكم قديما وحديثا . " ليكون الرسول شهيدا عليكم " بأعمالكم خيرها وشرها " وتكونوا شهداء على الناس " لكونكم خير أمة أخرجت للناس ، أمة وسطا عدلا خيارا . تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم ، وتشهدون على الأمم أن رسلهم بلغتهم بما أخبركم الله به في كتابه . " فأقيموا الصلاة " بأركانها وشروطها ، وحدودها ، وجميع لوازمها . " وآتوا الزكاة " المفروضة لمستحقيها شكرا لله ، على ما أولاكم . " واعتصموا بالله " أي : امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك ، ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم ." هو مولاكم "
الذي يتولى أموركم ، فيدبركم بحسن تدبيره ، ويصرفكم على أحسن تقديره . " فنعم المولى ونعم النصير " أي : نعم المولى لمن تولاه ، فحصل له مطلوبه" ونعم النصير " لمن استنصره فدفع عنه المكروه .
ومن سورة المؤمنون اثنتان وعشرون آية
قوله تعالى :? قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ? (المؤمنون : 1 - 11 )(2/287)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
هذا تنويه من الله ، يذكر عباده المؤمنين ، وذكر فلاحهم وسعادتهم ، وبأي شيء وصلوا إلى ذلك ، وفي ضمن ذلك ، الحث على الاتصاف بصفاتهم ، والترغيب فيها . فليزن العبد نفسه ، وغيره ، على هذه الآيات ، يعرف بذلك ، ما معه ، وما مع غيره ، من الإيمان ، زيادة ونقصا ، كثرة وقلة . فقوله : " قد أفلح المؤمنون " أي : قد فازوا وسعدوا ونجحوا ، وأدركوا كل ما يروم المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين الذين من صفاتهم الكاملة أنهم " في صلاتهم خاشعون " . والخشوع في الصلاة هو : حضور القلب بين يدي الله تعالى ، مستحضرا لقربه ، فيسكن لذلك قلبه ، وتطمئن نفسه ، وتسكن حركاته ويقل التفاته ، متأدبا بين يدي ربه ، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته ، من أول صلاته إلى آخرها ، فتنتفي بذلك ، الوساوس والأفكار الردية . وهذا روح الصلاة ، والمقصود منها ، وهو الذي يكتب للعبد . فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب ، وإن كانت مجزية مثابا عليها ، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها . " والذين هم عن اللغو " وهو الكلام الذي لا خير فيه ، ولا فائدة . " معرضون " رغبة عنه ، وتنزيها لأنفسهم ، وترفعا عنه ، وإذا مروا باللغو ، مروا كراما ، وإذا كانوا معرضين عن اللغو ، فإعراضهم عن المحرم ، من باب أولى ، وأحرى . وإذا ملك العبد لسانه وخزنه ـ إلا في الخير ـ كان مالكا لأمره ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال : " ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسان نفسه وقال : كف عليك هذا " . فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة ، كف ألسنتهم ، عن اللغو والمحرمات . " والذين هم للزكاة فاعلون " أي : مؤدون لزكاة أموالهم ، على اختلاف أجناس الأموال ، مزكين لأنفسهم من أدناس الأخلاق ومساوىء الأعمال التي تزكو النفوس بتركها وتجنبها ، فأحسنوا في عبادة الخالق ، في(2/288)
الخشوع في الصلاة ، وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة . " والذين هم لفروجهم حافظون " عن الزنا ، ومن تمام حفظها تجنب ما يدعو إلى ذلك كالنظر واللمس ونحوهما . فحفظوا فروجهم عن كل أحد " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " من الإماء المملوكات " فإنهم غير ملومين " بقربهما ، لأن الله تعالى أحلهما . " فمن ابتغى وراء ذلك " غير الزوجة والسرية " فأولئك هم العادون " الذين تعدوا ما أحل الله إلى ما حرمه ، المتجرؤون على محارم الله . وعموم هذه الآية ، يدل على تحريم المتعة ، فإنها ليست زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها ، ولا مملوكة ، وتحريم نكاح المحلل لذلك . ويدل قوله : " أو ما ملكت أيمانهم " أنه يشترط في حل المملوكة ، أن تكون كلها في ملكه ، فلو كان له بعضها لم تحل ، لأنها ليست مما ملكت يمينه ، بل هي ملك له ولغيره ، فكما أنه لا يجوز أن يشترك في المرأة الحرة زوجان ، فلا يجوز أن يشترك في الأمة المملوكة سيدان . " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " ، أي : مراعون لها ، ضابطون ، حافظون ، حريصون على القيام بها وتنفيذها . وهذا عام في جميع الأمانات ، التي هي حق لله ، والتي هي حق للعباد . قال تعالى : " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان " ، فجميع ما أوجبه الله على عبده ، أمانة ، على العبد حفظها بالقيام التام بها ، وكذلك يدخل في ذلك ، أمانات الآدميين ، كأمانات الأموال ، والأسرار ، ونحوهما . فعلى العبد ، مراعاة الأمرين ، وأداء الأمانتين " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " ، وكذلك العهد ، يشمل العهد الذي بينهم وبين العباد ، وهي الالتزامات والعقود ، التي يعقدها العبد ، فعليه مراعاتها والوفاء بها ، ويحرم عليه ، التفريط فيها ، وإهمالها . " والذين هم على صلواتهم يحافظون " أي : يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها وأركانها ، فمدحهم بالخشوع في الصلاة(2/289)
، وبالمحافظة عليها ، لأنه لا يتم أمرهم إلا بالأمرين : فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع ، أو على الخشوع من دون محافظة عليها ، فإنه مذموم ناقص . " أولئك " الموصوفون بتلك الصفات " هم الوارثون الذين يرثون الفردوس " الذي هو أعلى الجنة ووسطها وأفضلها ، لأنهم حلوا من صفات الخير أعلاها وذروتها ، أو المراد بذلك ، جميع الجنة ، ليدخل بذلك ، عموم المؤمنين ، على درجاتهم في مراتبهم ، كل بحسب حاله . " هم فيها خالدون " لا يظعنون عنها ، ولا يبغون عنها حولا ، لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله ، وأتمه ، من غير مكدر ولا منغص .
وقوله تعالى : ? وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ *نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ *? (المؤمنون : 52 - 61 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :"يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون "(2/290)
هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات ، التي هي الرزق ، والطيب الحلال ، والشكر لله ، بالعمل الصالح ، الذي به يصلح القلب والبدن ، والدنيا والآخرة . ويخبرهم أنه بما يعملون عليم ، فكل عمل عملوه ، وكل سعي اكتسبوه ، فإن الله يعلمه ، وسيجازيهم عليه ، أتم الجزاء وأفضله . فدل هذا على أن الرسل كلهم ، متفقون على إباحة الطيبات ، من المآكل وتحريم الخبائث منها ، وأنهم متفقون على كل عمل صالح ، وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات ، واختلفت بها الشرائع ، فإنها كلها عمل صالح ولكن تتفاوت بتفاوت الأزمنة . ولهذا ، الأعمال الصالحة ، التي هي صلاح في جميع الأزمنة ، قد اتفقت عليها الأنبياء والشرائع ، كالأمر بتوحيد الله ، وإخلاص الدين له ، ومحبته ، وخوفه ، ورجائه ، والبر ، والصدق ، والوفاء بالعهد ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين والإحسان إلى الضعفاء والمساكين ، واليتامى ، والحنو والإحسان إلى الخلق ، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة ، ولهذا كان أهل العلم ، والكتب السابقة ، والعقل ، حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به ، وينهى عنه . كما جرى لهرقل وغيره ، فإنه إذا أمر بما أمر به الأنبياء ، الذين من قبله ، ونهى عما نهوا عنه ، دل على أنه من جنسهم ، بخلاف الكذاب ، فلا بد أن يأمر بالشر ، وينهى عن الخير . ولهذا قال تعالى للرسل : " وإن هذه أمتكم " أي : جماعتكم ـ يا معشر الرسل ـ " أمة واحدة " متفقة على دين واحد ، وربكم واحد . " فاتقون " بامتثال أوامري ، واجتناب زواجري ، وقد أمر الله المؤمنين ، بما أمر به المرسلين ، لأنهم بهم يقتدون ، وخلفهم يسلكون ، فقال : " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون " فالواجب على كل المنتسبين إلى الأنبياء وغيرهم ، أن يمتثلوا هذا ، ويعملوا به ، ولكن أبى الظالمون الجاحدون ، إلا عصيانا ، ولهذا قال : " فتقطعوا أمرهم(2/291)
بينهم زبرا " أي : تقطع المنتسبون إلى اتباع الأنبياء " أمرهم " أي : دينهم" بينهم زبرا " أي : قطعا " كل حزب بما لديهم " أي : بما عندهم من العلم والدين . " فرحون " يزعمون أنهم المحقون ، وغيرهم على غير الحق ، مع أن المحق منهم ، من كان على طريق الرسل ، من أكل الطيبات ، والعمل الصالح ، وما عداهم ، فإنهم مبطلون . " فذرهم في غمرتهم " أي : في وسط جهلهم بالحق ، ودعواهم : أنهم ، هم المحقون . " حتى حين " أي : إلى أن ينزل العذاب بهم ، فإنهم لا ينفع فيهم وعظ ، ولا يفيدهم زجر ، فكيف يفيد بمن يزعم أنه على الحق ، ويطمع في دعوة غيره إلى ما هو عليه ؟ " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات " ، أي : أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد ، دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة ، وأن لهم خير الدنيا والآخرة ؟ وهذا مقدم لهم ، ليس الأمر كذلك . " بل لا يشعرون " أنما نملي لهم ، ونمهلهم ، ونمدهم بالنعم ، ليزدادوا إثما ، وليتوفر عقابهم في الآخرة ، وليغتبطوا بما أوتوا " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة "
" إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون "(2/292)
لما ذكر تعالى ، الذين جمعوا بين الإساءة والأمن ، الذين يزعمون أن عطاء الله إياهم في الدنيا ، دليل على خيرهم وفضلهم ، ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف فقال : " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " أي : وجلون ، مشفقة قلوبهم كل ذلك ، من خشية ربهم ، خوفا أن يضع عليهم عدله ، فلا يبقي له حسنة ، وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى ، وخوفا على إيمانهم من الزوال ، ومعرفة منهم بربهم ، وما يستحقه من الإجلال والإكرام ، وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب ، والتقصير في الواجبات . " والذين هم بآيات ربهم يؤمنون " أي : إذا تليت عليهم آياته ، زادتهم إيمانا ، ويتفكرون أيضا في الآيات القرآنية ، ويتدبرونها ، فيبين لهم من معاني القرآن وجلالته واتفاقه ، وعدم اختلافه ، وتناقضه ، وما يدعو إليه من معرفة الله ، وخوفه ، ورجائه وأحوال الجزاء ، فيحدث لهم بذلك ، من تفاصيل الإيمان ، ما لا يعبر عنه اللسان . ويتفكرون أيضا في الآيات الأفقية ، كما في قوله : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " إلى آخر الآيات . " والذين هم بربهم لا يشركون " أي : لا شركا جليا ، كاتخاذ غير الله معبودا ، يدعونه ، ويرجونه ، ولا شركا خفيا كالرياء ونحوه ، بل هم مخلصون لله ، في أقوالهم ، وأعمالهم ، وسائر أحوالهم ." والذين يؤتون ما آتوا " أي : يعطون من أنفسهم ، مما أمروا به ، ما آتوا من كل ما يقدرون عليه ، من صلاة ، وزكاة ، وحج ، وصدقة ، وغير ذلك . ( و ) مع هذا " وقلوبهم وجلة " أي : خائفة " أنهم إلى ربهم راجعون " . أي : خائفة عند عرض أعمالها عليه ، والوقوف بين يديه ، أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله ، لعلمهم بربهم ، وما يستحقه من أصناف العبادات . " أولئك يسارعون في الخيرات " أي : في ميدان التسارع في أفعال الخير ، همهم ما يقربهم إلى الله ، وإرادتهم(2/293)
مصروفة فيما ينجي من عذابه ، فكل خير سمعوا به ، أو سنحت لهم الفرصة ، انتهزوه وبادروه . قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه ، أمامهم ، ويمنة ، ويسرة ، يسارعون في كل خير ، وينافسون في الزلفى عند ربهم ، فنافسوهم . ولما كان المسابق لغيره المسارع ، قد يسبق لجده وتشميره ، وقد لا يسبق لتقصيره ، أخبر تعالى أن هؤلاء من اقسم السابقين فقال : " وهم لها " أي : للخيرات " سابقون " قد بلغوا ذروتها ، وتباروا ، هم والرعيل الأول ، ومع هذا ، قد سبقت لهم من الله ، سابقة السعادة ، أنهم سابقون . ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات ، وسبقهم إليها ، ربما وهم واهم ، أن المطلوب منهم ومن غيرهم ، أمر غير مقدور ، أو متعسر ، قال تعالى : " ولا نكلف نفسا إلا وسعها " أي : بقدر ما تسعه ، ويفضل من قوتها عنه ، ليس مما يستوعب قوتها ، رحمة منه وحكمة ، لتيسير طريق الوصول إليه ، ولتعمر جادة السالكين في كل وقت إليه . " ولدينا كتاب ينطق بالحق " وهو الكتاب الأول ، الذي فيه كل شيء ، وهو يطابق كل واقع يكون ، فلذلك كان حقا . " وهم لا يظلمون " أي : لا ينقص من إحسانهم ، ولا يزداد في عقوبتهم وعصيانهم .
ومن سورة النور اثنتا عشرة آية(2/294)
قوله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ *وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ? (النور : 19 - 22)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/295)
" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة " أي : الأمور الشنيعة المستقبحة ، فيحبون أن تشتهر الفاحشة " في الذين آمنوا لهم عذاب أليم " أي : موجع للقلب والبدن ، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين ، ومحبة الشر لهم ، وجراءته على أعراضهم ، فإذا كان هذا الوعيد ، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة ، واستحلاء ذلك بالقلب ، فكيف بما هو أعظم من ذلك ، من إظهاره ، ونقله ؟ وسواء كانت الفاحشة ، صادرة ، أو غير صادرة . وكل هذا ، من رحمة الله لعباده المؤمنين ، وصيانة أعراضهم ، كما صان دماءهم وأموالهم ، وأمرهم بما يقتضي المصافاة ، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ، ويكره له ، ما يكره لنفسه . " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " فلذلك علمكم ، وبين لكم ما تجهلونه . " ولولا فضل الله عليكم " قد أحاط بكم من كل جانب" ورحمته وأن الله رؤوف رحيم " لما بين لكم هذه الأحكام والمواعظ ، والحكم الجليلة ، ولما أمهل من خالف أمره ، ولكن فضله ورحمته ، وأن ذلك وصفه اللازم آثر لكم من الخير الدنيوي والأخروي ، ما لن تحصوه ، أو تعدوه .
ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه ، نهى عن الذنوب عموما فقال : " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان "(2/296)
أي : طرقه ووساوسه . وخطوات الشيطان ، يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب ، واللسان والبدن . ومن حكمته تعالى ، أن بين الحكم ، وهو : النهي عن اتباع خطوات الشيطان . والحكمة وهو بيان ما في المنهي عنه ، من الشر المقتضى ، والداعي لتركه فقال : " ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه " أي : الشيطان " يأمر بالفحشاء " أي : ما تستفحشه العقول والشرائع ، من الذنوب العظيمة ، مع ميل بعض النفوس إليه . " والمنكر " وهو : ما تنكره العقول ولا تعرفه . فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان ، لا تخرج عن ذلك . فنهى الله عنها العباد ، نعمة منه عليهم ، أن يشكروه ويذكروه ، لأن ذلك ، صيانة لهم عن التدنس بالرذائل ، والقبائح . فمن إحسانه عليهم ، أن نهاهم عنها ، كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها . " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا " أي : ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان ، لأن الشيطان يسعى ، هو وجنده ، في الدعوة إليها وتحسينها ، والنفس ميالة إلى السوء ، أمارة به ، والنقص مستول على العبد ، من جميع جهاته ، والإيمان غير قوي . فلو خلي وهذه الدواعي ، ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب ، والسيئات ، والنماء بفعل الحسنات ، فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء . ولكن فضله ورحمته أوجبا ، أن يتزكى منكم ، من تزكى . وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها " ولهذا قال : " ولكن الله يزكي من يشاء " من يعلم منه أن يتزكى بالتزكية ، ولهذا قال : " والله سميع عليم "...(2/297)
" ولا يأتل " أي : لا يحلف " أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا " . كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه . وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله . فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ، لقوله الذي قال . فنزلت هذه الآية ، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه ، ويحثه على العفو والصفح ، ويعده بمغفرة الله ، إن غفره له فقال :
" ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " إذا عاملتم عبيده ، بالعفو والصفح ، عاملكم بذلك ، فقال أبو بكر ـ لما سمع هذه الآية ـ : بلى ، والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع النفقة إلى مسطح . وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب ، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان ، والحث على العفو والصفح ، ولو جرى منه ما جرى من أهل الجرائم(2/298)
وقوله تعالى:? فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ*رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ* أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ*? (النور : 36 - 40 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب "(2/299)
أي : يتعبد لله " في بيوت " عظيمة فاضلة ، هي أحب البقاع إليه ، وهي : المساجد . " أذن الله " أي : أمر ووصى " أن ترفع ويذكر فيها اسمه " هذان مجموع أحكام المساجد . فيدخل في رفعها ، بناؤها ، وكنسها وتنظيفها من النجاسات والأذى وصونها من المجانين والصبيان ، الذين لا يتحرزون عن النجاسات ، وعن الكافر ، وأن تصان عن اللغو فيها ، ورفع الأصوات بغير ذكر الله . " ويذكر فيها اسمه " يدخل في ذلك ، الصلاة كلها ، فرضها ، ونفلها ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، وغيره من أنواع الذكر ، وتعلم العلم وتعليمه ، والمذاكرة فيها ، والاعتكاف ، وغير ذلك من العبادات ، التي تفعل في المساجد ، ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين : عمارة بنيان ، وصيانة لها ، وعمارة بذكر اسم الله ، من الصلاة وغيرها وهذا أشرف القسمين . ولهذا شرعت الصلوات الخمس ، والجمعة ، في المساجد ، وجوبا عند أكثر العلماء ، واستحبابا عند آخرين . ثم مدح تعالى ، عمارها بالعبادة فقال :" يسبح له فيها " إخلاصا " بالغدو " أول النهار " والآصال " آخره " رجال " . خص هذين الوقتين ، لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله ، وسهولته . ويدخل في ذلك ، التسبيح في الصلاة وغيرها ، ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء ، وأورادهما عند الصباح والمساء . أي : يسبح فيها الله ، رجال ، وأي رجال ، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ، ذات لذات ، ولا تجارة ومكاسب ، مشغلة عنه . " لا تلهيهم تجارة " وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض ، فيكون قوله : " ولا بيع " من باب عطف الخاص على العام ، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره ، فهؤلاء الرجال ، وإن اتجروا ، وباعوا ، واشتروا ، فإن ذلك ، لا محذور فيه . لكنه لا تلهيهم تلك ، بأن يقدموها ويؤثروها على " ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " بل جعلوا طاعة الله وعبادته ، غاية مرادهم ، ونهاية مقصدهم ، فما حال بينهم وبينها ، رفضوه . ولما كان ترك الدنيا(2/300)
، شديدا على أكثر النفوس ، وحب المكاسب بأنواع التجارات ، محبوبا لها ، ويشق عليها تركه في الغالب ، وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك ، ذكر ما يدعوها إلى ذلك ، ترغيبا وترهيبا ـ فقال : " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار " من شدة هوله وإزعاجه القلوب والأبدان ، فلذلك خافوا ذلك اليوم ، فسهل عليهم العمل ، وترك ما يشغل عنه . " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا " والمراد بأحسن ما عملوا : أعمالهم الحسنة الصالحة ، لأنه أحسن ما عملوا ، لأنهم يعملون المباحات وغيرها . فالثواب لا يكون إلا على العمل الحسن كقوله تعالى : " ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون "..." ويزيدهم من فضله " زيادة كثيرة عن الجزاء المقابل لأعمالهم . " والله يرزق من يشاء بغير حساب " بل يعطيه ، من الأجر ، ما لا يبلغه عمله ، بل ولا تبلغه أمنيته ، ويعطيه من الأجر بلا عد ، ولا كيل ، وهذا كناية عن كثرته جدا .
" والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور "
هذان مثلان ، ضربهما الله لأعمال الكفار؛ في بطلانها وذهابها سدى؛ وتحسر عامليها منها فقال : " والذين كفروا "
بربهم وكذبوا رسله " أعمالهم كسراب بقيعة " أي : بقاع؛ لا شجر فيه ولا نبات . " يحسبه الظمآن ماء " شديد العطش ، الذي يتوهم ، ما لا يتوهم غيره ، بسبب ما معه من العطش ، وهذا حسبان باطل ، فيقصده ليزيل ظمأه .(2/301)
" حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " فندم ندما شديدا ، وازداد ما به من الظمأ ، بسبب انقطاع رجائه . كذلك أعمال الكفار ، بمنزلة السراب ، ترى ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور ، أعمالا نافعة ، فتغره صورتها ، ويخلبه خيالها ، ويحسبها هو أيضا أعمالا نافعة لهواه ، وهو أيضا محتاج إليها ، كاحتياج الظمآن للماء . حتى إذ قدم على أعماله ، يوم الجزاء ، وجدها ضائعة ، ولم يجدها شيئا ، والحال إنه لم يذهب ، لا له ولا عليه ، بل " ووجد الله عنده فوفاه حسابه " . لم يخف عليه من عمله ، نقير ولا قطمير ولن يعدم منه قليلا ولا كثيرا . " الله سريع الحساب " فلا يستبطىء الجاهلون ذلك الوعد ، فإنه لا بد من إتيانه ، ومثلها الله بالسراب ، الذي بقيعة ، أي : لا شجر فيه ولا نبات ، وهذا مثال لقلوبهم ، لا خير فيها ولا بر ، فتزكو فيها الأعمال وذلك للسبب المانع ، وهو الكفر . والمثل الثاني ، لبطلان أعمال الكفار(2/302)
" كظلمات في بحر لجي " بعيد قعره ، طويل مداه " يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض " ظلمة البحر اللجي ، ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة ، ثم فوق ذلك ، ظلمة السحب المدلهمة ، ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم . فاشتدت الظلمة جدا ، بحيث أن الكائن في تلك الحال " إذا أخرج يده لم يكد يراها " مع قربها إليه ، فكيف بغيرها . كذلك الكفار ، تراكمت على قلوبهم الظلمات ، ظلمة الطبيعة ، التي لا خير فيها ، وفوقها ظلمة الكفر ، وفوق ذلك ، ظلمة الجهل ، وفوق ذلك ، ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر ، فبقوا في الظلمة متحيرين ، وفي غمرتهم يعمهون ، وعن الصراط المستقيم مدبرون ، وفي طرق الغي والضلال ، يترددون ، وهذا لأن الله خذلهم ، فلم يعطهم من نوره . " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " لأن نفسه ظالمة جاهلة ، فليس فيه من الخير والنور ، إلا ما أعطاها مولاها ، ومنحها ربها . يحتمل أن هذين المثالين ، لأعمال جميع الكفار ، كل منهما ، منطبق عليها ، وعددهما لتعدد الأوصاف ، ويحتمل أن كل مثال ، لطائفة وفرقة . فالأول ، للمتبوعين ، والثاني ، للتابعين ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * ? (النور : 51 - 52 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/303)
... لما ذكر الله تعالى حالة المعرضين عن الحكم الشرعي ، ذكر حالة المؤمنين الممدوحين ، فقال : " إنما كان قول المؤمنين "إلى " الفائزون " أي : " إنما كان قول المؤمنين " حقيقة الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم " إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " سواء وافق أهواءهم ، أو خالفها ، " أن يقولوا سمعنا وأطعنا " أي : سمعنا حكم الله ورسوله ، وأجبنا من دعانا إليه وأطعنا طاعة تامة ، سالمة من الحرج . " وأولئك هم المفلحون " ، حصر الفلاح فيهم ، لأن الفلاح : الفوز بالمطلوب ، والنجاة من المكروه ، ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله ، وأطاع الله ورسوله . ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم خصوصا ، ذكر فضلها عموما ، في جميع الأحوال ، فقال : " ومن يطع الله ورسوله " فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما . " ويخش الله " أي : يخافه ، خوفا مقرونا ، بمعرفة ، فيترك ما نهى عنه ، ويكف نفسه عما تهوى . ولهذا قال : " ويتقه " بترك المحظور ، لأن التقوى ـ عند الإطلاق ـ يدخل فيها ، فعل المأمور به ، وترك المنهي عنه ، وعند اقترانها بالبر أو الطاعة ـ كما في هذا الموضع ـ تفسر بتوقي عذاب الله ، بترك معاصيه . " فأولئك " الذين جمعوا ، بين طاعة الله ، وطاعة رسوله ، وخشية الله وتقواه ، " هم الفائزون " بنجاتهم من العذاب ، لتركهم أسبابه ، ووصولهم إلى الثواب ، لفعلهم أسبابه ، فالفوز محصور فيهم ، وأما من لم يتصف بوصفهم ، فإنه يفوته من الفوز ، بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة . واشتملت هذه الآية ، على الحق المشترك ، بين الله وبين رسوله ، وهو : الطاعة المستلزمة للإيمان ، والحق المختص بالله ، وهو : الخشية والتقوى ، وبقي الحق الثالث المختص بالرسول ، وهو التعزير والتوقير . كما جمع بين الحقوق الثلاثة في سورة الفتح في قوله : " لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا "
ومن سورة الفرقان خمس عشرة آية(2/304)
قوله تعالى :? َعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً *وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً * ? (الفرقان : 63 - 77 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/305)
قوله تعالى :" وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة " أي : يذهب أحدهما ، فيخلفه الآخر ، وهكذا أبدا ، لا يجتمعان ، ولا يرتفعان . " لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " أي : لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ، ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية ، ويشكر الله على ذلك ، ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره ، ورد من الليل أو النهار ، فمن فاته ورده من أحدهما ، أدركه في الآخر ، وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل ، في ساعات الليل والنهار ، فيحدث لها النشاط والكسل ، والذكر والغفلة ، والقبض والبسط ، والإقبال والإعراض ، فجعل الله الليل والنهار ، يتوالى كل منهما على العباد ، ويتكرران ، ليحدث لهم الذكر والنشاط ، والشكر لله في وقت آخر ، ولأن أوقات العبادات ، تتكرر بتكرر الليل والنهار ، فكلما تكررت الأوقات ، أحدث للعبد همة غير همته ، التي كسلت عنه ، في الوقت المتقدم ، فزاد في تذكرها وشكرها ، فوظائف الطاعات ، بمنزلة سقي الإيمان ، الذي يمده ، فلولا ذلك ، لذوي غرس الإيمان ويبس . فلله أتم حمد ، وأجمله على ذلك . ثم ذكر من جملة كثرة خيره ، منته على عباده الصالحين ، وتوفيقهم للأعمال الصالحات ، التي أكسبتهم المنازل العاليات ، في غرف الجنات فقال : " وعباد الرحمن " إلى " فسوف يكون لزاما " . العبودية لله نوعان : عبودية لربوبيته ، فهذه يشترك فيها سائر الخلق ، مسلمهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " وعبودية لألوهيته ، وعبادته ، ورحمته ، وهي : عبودية أنبيائه ، وأوليائه ، وهي المراد هنا ، ولهذا أضافها إلى اسمه " الرحمن " إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال ، بسبب رحمته ، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ، ونعوتهم أفضل النعوت ، فوصفهم بأنهم " يمشون على الأرض هونا " أي : ساكنين متواضعين لله ، وللخلق ، فهذا وصف لهم ، بالوقار ، والسكينة ، والتواضع لله ،(2/306)
ولعباده . " وإذا خاطبهم الجاهلون " أي : خطاب جهل ، بدليل إضافة الفعل ، وإسناده لهذا الوصف ، " قالوا سلاما " أي : خاطبوهم خطابا يسلمون فيه ، من الإثم ، ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله . وهذا مدح لهم ، بالحلم الكثير ، ومقابلة المسيء بالإحسان ، والعفو عن الجاهل ، ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال . " والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " أي : يكثرون من صلاة الليل ، مخلصين فيها لربهم ، متذللين له ، كما قال تعالى : " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "..." والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم " أي : ادفعه عنا ، بالعصمة من أسبابه ، ومغفرة ما وقع منا ، مما هو مقتض للعذاب . " إن عذابها كان غراما " أي : ملازما لأهلها ، بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه . " إنها ساءت مستقرا ومقاما " وهذا منهم ، على وجه التضرع لربهم ، وبيان شدة حاجتهم إليه ، وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب ، وليتذكروا منة الله عليهم ، فإن صرف الشدة ، بحسب شدتها وفظاعتها ، يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها . " والذين إذا أنفقوا " النفقات الواجبة والمستحبة " لم يسرفوا " بأن يزيدوا على الحد ، فيدخلوا في قسم التبذير ، وإهمال الحقوق الواجبة ، " ولم يقتروا " فيدخلوا في باب البخل والشح " وكان " إنفاقهم " بين ذلك " بين الإسراف والتقتير " قواما " يبذلون في الواجبات من الزكوات ، والكفارات ، والنفقات الواجبة ، وفيما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي ، من غير ضرر ولا ضرار ، وهذا من عدلهم واقتصادهم . " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " بل يعبدونه وحده ، مخلصين له الدين ، حنفاء ، مقبلين عليه ، معرضين عما سواه . " ولا يقتلون النفس التي حرم الله " وهو نفس المسلم ، الكافر المعاهد ، " إلا بالحق " كقتل النفس بالنفس ، وقتل الزاني المحصن ، والكافر الذي(2/307)
يحل قتله . " ولا يزنون " بل يحفظون فروجهم " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم "..." ومن يفعل ذلك " أي : الشرك بالله ، أو قتل النفس ، التي حرم الله بغير حق ، أو الزنا ، فسوف " يلق أثاما " . ثم فسره بقوله : " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه " أي : في العذاب " مهانا " . فالوعيد بالخلود ، لمن فعلها كلها ، ثابت لا شك فيه ، وكذا لمن أشرك بالله . وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة ، لكونها ، إما شرك ، وإما من أكبر الكبائر . وأما خلود القاتل والزاني في العذاب ، فإنه لا يتناوله الخلود ، لأنه قد دلت النصوص القرآنية ، والسنة النبوية ، أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار ، ولا يخلد فيها مؤمن ، ولو فعل من المعاصي ما فعل . ونص تعالى على هذه الثلاثة ، لأنها أكبر الكبائر : فالشرك ، فيه فساد الأديان ، والقتل ، فيه فساد الأبدان ، والزنا ، فيه فساد الأعراض . " إلا من تاب " عن هذه المعاصي وغيرها ، بأن أقلع عنها في الحال ، وندم على ما مضى له من فعلها ، وعزم عزما جازما أن لا يعود . " وآمن " بالله إيمانا صحيحا ، يقتضي ترك المعاصي ، وفعل الطاعات . " وعمل عملا صالحا " مما أمر به الشارع ، إذا قصد به وجه الله .(2/308)
" فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " أي : تتبدل أفعالهم ، التي كانت مستعدة لعمل السيئات ، تتبدل حسنات . فيتبدل شركهم إيمانا ، ومعصيتهم طاعة ، وتتبدل نفس السيئات ، التي عملوها ، ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة ، وإنابة ، وطاعة ، تبدل حسنات ، كما هو ظاهر الآية . وورد في ذلك ، حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه ، فعددها عليه ، ثم أبدل مكان كل سيئة حسنة فقال : " يا رب إن لي سيئات لا أراها ههنا " والله أعلم . " وكان الله غفورا " لمن تاب ، يغفر الذنوب العظيمة " رحيما " بعباده ، حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم ، ثم وفقهم لها ، ثم قبلها منهم . " ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا " أي : فليعلم أن توبته ، في غاية الكمال ، لأنها رجوع إلى الطريق الموصل إلى الله ، الذي هو عين سعادة العبد وفلاحه ، فليخلص فيها ، وليخلصها من شوائب الأغراض الفاسدة . فالمقصود من هذا ، الحث على تكميل التوبة ، واتباعها على أفضل الوجوه وأجلها ، ليقدم على من تاب إليه ، فيوفيه أجره ، بحسب كمالها . " والذين لا يشهدون الزور " أي : لا يحضرون الزور ، أي : القول والفعل المحرم ، فيجتنبون جميع المجالس ، المشتملة على الأقوال المحرمة ، أو الأفعال المحرمة ، كالخوض في آيات الله ، والجدال الباطل ، والغيبة ، والنميمة ، والسب ، والقذف ، والاستهزاء ، والغناء المحرم ، وشرب الخمر ، وفرش الحرير ، والصور ، ونحو ذلك . وإذا كانوا لا يشهدون الزور ، فمن باب أولى وأحرى ، أن لا يقولوه ويفعلوه . وشهادة الزور داخلة في قول الزور ، تدخل في هذه الآية بالأولوية ، " وإذا مروا باللغو " وهو الكلام الذي لا خير فيه ، ولا فيه فائدة دينية ، ولا دنيوية ، ككلام السفهاء ونحوهم " مروا كراما " أي : نزهوا أنفسهم ، وأكرموها عن الخوض فيه ، ورأوا أن الخوض فيه ، وإن كان لا إثم فيه ، فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة ، فربؤوا بأنفسهم عنه .(2/309)
وفي قوله :
" وإذا مروا باللغو " إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ، ولا سماعه ، ولكن عند المصادفة ، التي من غير قصد ، يكرمون أنفهسم عنه . " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم " التي أمرهم باستماعها ، والاهتداء بها ،" لم يخروا عليها صما وعميانا " أي : لم يقابلوها بالإعراض عنها ، والصمم عن سماعها ، وصرف النظر والقلوب عنها ، كما يفعله ، من لم يؤمن بها ولم يصدق . وإنما حالهم فيها ، وعند سماعها ، كما قال تعالى : " إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون " ، يقابلونها بالقبول والافتقار إليها ، والانقياد ، والتسليم لها . وتجد عندهم آذانا سامعة ، وقلوبا واعية ، فيزداد بها إيمانهم ، ويتم بها ، إيقانهم ، وتحدث لهم نشاطا ، ويفرحون بها سرورا واغتباطا . " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا " أي : قرنائنا من أصحاب وأقران ، وزوجات . " وذرياتنا قرة أعين " أي : تقر بهم أعيننا . وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم ، عرفنا من هممهم ، وعلو مرتبتهم ، أن دعاءهم لذرياتهم ، في صلاحهم ، فإنه دعاء لأنفسهم ، لأن نفعه يعود عليهم ، ولهذا جعلوا ذلك ، هبة لهم فقالوا : " هب لنا "
بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين ، لأن صلاح من ذكر ، يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم ، وينتفع بهم .(2/310)
" واجعلنا للمتقين إماما " أي : أوصلنا يا ربنا ، إلى هذه الدرجة العالية ، درجة الصديقين ، والكمل من عباد الله الصالحين ، وهي درجة الإمامة في الدين ، وأن يكونوا قدوة للمتقين ، في أقوالهم ، وأفعالهم ، يقتدى بأفعالهم ويطمئن لأقوالهم ، ويسير أهل الخير خلفهم ، فيهدون ، ويهتدون . ومن المعلوم ، أن الدعاء ببلوغ شيء ، دعاء بما لا يتم إلا به . وهذه الدرجة ـ درجة الإمامة في الدين ـ لا تتم إلا بالصبر واليقين ، كما قال تعالى : " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " . فهذا الدعاء ، يستلزم من الأعمال ، والصبر على طاعة الله ، وعن معصيته ، وأقداره المؤلمة ، ومن العلم التام ، الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين ـ خيرا كثيرا ، وعطاء جزيلا ، وأن يكونوا في أعلى ، ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل . ولهذا ـ لما كانت هممهم ومطالبهم عالية ـ كان الجزاء من جنس العمل ، فجازاهم بالمنازل العاليات فقال : " أولئك يجزون الغرفة بما صبروا " أي : المنازل الرفيعة ، والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى ، وتلذه الأعين ، وذلك بسبب صبرهم ، نالوا ما نالوا ، كما قال تعالى : " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ـ ولهذا قال هنا : " ويلقون فيها تحية وسلاما " من ربهم ، ومن ملائكته الكرام ، ومن بعض على بعض ، ويسلمون من جميع المنغصات والمكدرات . والحاصل : أن الله وصفهم بالوقار والسكينة ، والتواضع له ولعباده ، وحسن الأدب ، والحلم ، وسعة الخلق ، والعفو عن الجاهلين ، والإعراض عنهم ، ومقابلة إساءتهم بالإحسان ، وقيام الليل ، والإخلاص فيها ، والخوف من النار ، والتضرع لربهم ، أن ينجيهم منها ، وإخراج الواجب والمستحب في النفقات ، والاقتصاد في ذلك . وإذا كانوا مقتصدين في الإنفاق ، الذي جرت العادة ، بالتفريط فيه ، أو الإفراط ، فاقتصادهم ، وتوسطهم في غيره ، من باب أولى .(2/311)
والسلامة من كبائر الذنوب والاتصاف بالإخلاص لله في عبادته ، والعفة عن الدماء والأعراض ، والتوبة عند صدور شيء من ذلك ، وأنهم لا يحضرون مجالس المنكر ، والفسوق القولية والفعلية ، ولا يفعلونها بأنفسهم ، وأنهم يتنزهون من اللغو والأفعال الردية ، التي لا خير فيها ، وذلك يستلزم مروءتهم وإنسانيتهم ، وكمالهم ، ورفعة أنفسهم عن كل خسيس ، قولي وفعلي ، وأنهم يقابلون بآيات الله بالقبول لها ، والتفهم لمعانيها ، والعمل بها ، والاجتهاد في تنفيذ أحكامها ، وأنهم يدعون الله تعالى ، بأكمل الدعاء في الدعاء ، الذي ينتفعون به وينتفع به من يتعلق بهم ، وينتفع به المسلمون ، من صلاح أزواجهم ، وذريتهم . ومن لوازم ذلك ، سعيهم في تعليمهم ، ووعظهم ، ونصحهم ، لأن من حرص على شيء ودعا الله فيه ، لا بد أن يكون متسببا فيه ، وأنهم دعوا الله ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم ، وهي : درجة الإمامة والصديقية . فلله ، ما أعلى هذه الصفات ، وأرفع هذه الهمم ، وأجل هذه المطالب ، وأزكى تلك النفوس ، وأطهر تلك القلوب ، وأصفى هؤلاء الصفوة وأتقى هؤلاء السادة ولله ، فضل الله عليهم ، ونعمته ، ورحمته ، التي جللتهم ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل . ولله ، منة الله على عباده ، أن بين لهم أوصافهم ، ونعت لهم هيئاتهم ، وبين لهم هممهم ، وأوضح لهم أجورهم ، ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم ، ويبذلوا جهدهم في ذلك ، ويسألوا الذي من عليهم ، وأكرمهم ، الذي ، فضله في كل زمان ومكان ، وفي كل وقت وأوان ، أن يهديهم كما هداهم ، ويتولاهم بتربيته الخاصة ، كما تولاهم . فاللهم ، لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان ، وبك المستغاث ، ولا حول ولا قوة ، إلا بك ، لا نملك لأنفسنا ، نفعا ولا ضرا ، ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير ، إن لم تيسر ذلك لنا ، فإنا ضعفاء ، عاجزون من كل وجه . نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وكلتنا إلى ضعف ، وعجز وخطية ، فلا(2/312)
نثق ، يا ربنا ، إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا ، وأنعمت علينا ، بما أنعمت ، من النعم الظاهرة والباطنة ، وصرفت عنا من النقم ، فارحمنا رحمة ، تغنينا بها عن رحمة من سواك ، فلا خاب من سألك ورجاك . ولما كان الله تعالى ، قد أضاف هؤلاء العباد ، إلى رحمته ، واختصهم بعبوديته ، لشرفهم وفضلهم ، ربما توهم متوهم ، أنه ، وأيضا غيرهم ، فلم لا يدخل في العبودية ؟ فأخبر تعالى ، أنه لا يبالي ، ولا يعبأ بغير هؤلاء ، وأنه لولا دعاؤكم إياه ، دعاء العبادة ، ودعاء المسألة ، ما عبأ بكم ولا أحبكم فقال : " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما " أي : عذابا يلزمكم ، لزوم الغريم لغريمه ، وسوف يحكم الله بينكم وبين عباده المؤمنين . ....
ومن سورة الشعراء أربع عشرة آية
قوله تعالى: ? فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ *وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ *إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ * ? (الشعراء : 213 -227)(2/313)
قوله تعالى :" فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون "
ينهى تعالى رسوله أصلا ، وأمته أسوة له في ذلك ، عن دعاء غير الله ، من جميع المخلوقين ، وأن ذلك موجب للعذاب الدائم ، والعقاب السرمدي ، لكونه شركا " من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار "، والنهي عن الشيء ، أمر بضده ، فالنهي عن الشرك ، أمر بإخلاص العبادة وحده لا شريك له ، محبة ، وخوفا ، ورجاء ، وذلا ، وإنابة إليه في جيمع الأوقات . ولما أمره بما فيه كمال نفسه ، أمره بتكميل غيره فقال : وأنذر عشيرتك الأقربين " الذين هم أقرب الناس إليك ، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي ، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس . كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان ، ثم قيل له " أحسن إلى قرابتك " ، فيكون هذا الخصوص ، دالا على التأكيد ، وزيادة الحث . فامتثل صلى الله عليه وسلم ، هذا الأمر الإلهي ، فدعا سائر بطون قريش ، فعمم وخصص ، وذكرهم ووعظهم ، ولم يبق صلى الله عليه وسلم ، من مقدوره شيئا . من نصحهم ، وهدايتهم ، إلا فعله ، فاهتدى من اهتدى ، وأعرض من أعرض . " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " بلين جانبك ، ولطف خطابك لهم ، وتوددك ، وتحببك إليهم ، وحسن خلقك والإحسان التام بهم . وقد فعل صلى الله عليه وسلم ، ذلك كما قال تعالى : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " ، فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، أكمل الأخلاق ، التي يحصل به من المصالح العظيمة ، ودفع المضار ، ما هو مشاهد . فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله ، ويدعي اتباعه والاقتداء به ، أن يكون كلا على المسلمين ، شرس الأخلاق ، شديد الشكيمة ، غليظ القلب ، فظ القول ، فظيعه ؟ . وإن رأى منهم معصية ، أو سوء أدب ، هجرهم ، ومقتهم ، وأبغضهم ،(2/314)
لا لين عنده ، ولا أدب لديه ، ولا توفيق . قد حصل من هذه المعاملة ، من المفاسد ، وتعطيل المصالح ، ما حصل ، ومع ذلك تجده محتقرا ، لمن اتصف بصفات الرسول الكريم ، وقد رماه بالنفاق والمداهنة ، وذكر نفسه ورفعها ، وأعجب بعمله . فهل يعد هذا ، إلا من جهله ، وتزيين الشيطان ، وخدعه له ، ولهذا قال الله لرسوله : " فإن عصوك " في أمر من الأمور ، فلا تتبرأ منهم ، ولا تترك معاملتهم ، بخفض الجناح ، ولين الجانب ، بل تبرأ من عملهم ، فعظهم عليه ، وانصحهم ، وابذل قدرتك في ردهم عنه ، وتوبتهم منه . وهذا الدفع ، احتراز وهم من يتوهم ، أن قوله : " واخفض جناحك " للمؤمنين ، يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم ، ما داموا مؤمنين ، فدفع هذا ، والله أعلم . " وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم " أعظم مساعد للعبد على القيام بما أمر به ، الاعتماد على ربه ، والاستعانة بمولاه ، على توفيقه للقيام بالمأمور ، فلذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال : " وتوكل على العزيز الرحيم " والتوكل هو : اعتماد القلب على الله تعالى ، في جلب المنافع ، ودفع المضار ، مع ثقته به ، وحسن ظنه بحصول مطلوبه ، فإنه عزيز رحيم ، بعزته يقدر على إيصال الخير ، ودفع الشر عن عبده ، وبرحمته به ، يفعل ذلك . ثم نبهه على الاستعانة ، باستحضار قرب الله ، والنزول في منزل الإحسان فقال : " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين " أي : يراك في هذه العبادة العظيمة ، التي هي الصلاة ، وقت قيامك ، وتقلبك راكعا وساجدا . خصها بالذكر ، لفضلها وشرفها ، ولأن من استحضر فيها قرب ربه ، خشع وذل ، وأكملها ، وبتكميلها ، يكمل سائر عمله ، ويستعين بها على جميع أموره . " إنه هو السميع " لسائر الأصوات ، على اختلافها ، وتشتتها ، تنوعها ، " العليم " الذي أحاط بالظواهر والبواطن ، والغيب والشهادة . فاستحضار العبد برؤية الله له في جميع(2/315)
أحواله ، وسمعه لكل ما ينطق به ، وعلمه بما ينطوي عليه قلبه ، من الهم ، والعزم ، والنيات ، يعينه على منزلة الإحسان .
" هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "
هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول : إن محمدا ينزل عليه شيطان . وقول من قال : إنه شاعر فقال : " هل أنبئكم " أي : أخبركم الخبر الحقيقي ، الذي لا شك فيه ، ولا شبهة ، عن من تنزل الشياطين عليه ، أي : بصفة الأشخاص ، الذين تنزل عليهم الشياطين . " تنزل على كل أفاك " أي : كذاب ، كثير القول للزور ، والإفك بالباطل ، " أثيم " في فعله ، كثير المعاصي ، هذا الذي تنزل عليه الشياطين ، وتناسب حاله حالهم ؟ . " ويلقون "عليه " السمع " الذي يسترقونه من السماء ، " وأكثرهم كاذبون " أي : أكثر ما يلقون إليه ، كذب ، فيصدق واحدة ، ويكذب معها مائة ، فيختلط الحق بالباطل ، ويضمحل الحق بسبب قلته ، وعدم علمه . فهذه صفة الأشخاص ، الذين تنزل عليهم الشياطين ، وهذه صفة وحيهم له . وأما محمد صلى الله عليه وسلم ، فحاله مباينة لهذه الأحوال ، أعظم مباينة ، لأنه الصادق الأمين ، البار ، الراشد ، الذي جمع بين بر القلب ، وصدق اللهجة ، ونزاهة الأفعال ، من المحرم . والوحي الذي ينزل عليه من عند الله ، ينزل محروسا محفوظا ، مشتملا على الصدق العظيم ، الذي لا شك فيه ولا ريب . فهل يستوي ـ يا أهل العقول ـ هديه وإفكهم ؟ . وهل يشتبهان ، إلا على مجنون ، لا يميز ، ولا يفرق بين الأشياء ؟ فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه ، برأه أيضا من الشعر فقال : " والشعراء " أي : هل أنبئكم أيضا عن حالة الشعراء ، ووصفهم الثابت ، فإنهم " يتبعهم الغاوون " عن طريق الهدى(2/316)
، المقبلون على طريق الغي والردي . فهم في أنفسهم غاوون ، وتجد أتباعهم كل غاو ، ضال فاسد . " ألم تر " غوايتهم وشدة ضلالهم " أنهم في كل واد " من أودية الشعر ، " يهيمون " فتارة في مدح ، وتارة في قدح ، وتارة يتغزلون ، وأخرى يسخرون ، ومرة يمرحون ، وآونة يحزنون ، فلا يستقر لهم قرار ، ولا يثبتون على حال من الأحوال . " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " أي : هذا وصف الشعراء ، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم . فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق ، قلت هذا أشد الناس غراما ، وقلبه فارغ من ذاك ، وإذا سمعته يمدح أو يذم ، قلت : هذا صدق ، وهو كذب . وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها ، وتروك لم يتركها ، وكرم لم يحم حول ساحته ، وشجاعة يعلو بها على الفرسان ، وتراه أجبن من كل جبان ، هذا وصفهم . فانظر ، هل يطابق حالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، الراشد البار ، الذي يتبعه كل راشد ومهتد ، الذي قد استقام على الهدى ، وجانب الردى ، ولم تتناقض أفعاله ؟ ، فهو لا يأمر إلا بالخير ، ولا ينهي إلا عن الشر ، ولا أخبر بشيء إلا صدق ، ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له ، ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له . فهل تناسب حاله ، حالة الشعراء ، ويقاربهم ؟ أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه ؟ فصلوات الله وسلامه ، على هذا الرسول الأكمل ، والهمام الأفضل ، أبد الآبدين ، ودهر الداهرين ، الذي ليس بشاعر ، ولا ساحر ، ولا مجنون ، لا يليق به إلا كل الكمال . ولما وصف الشعراء بما وصفهم به ، استثنى منهم من آمن بالله ورسوله ، وعمل صالحا ، وأكثر من ذكر الله ، وانتصر من أعدائه المشركين ، من بعد ما ظلموهم . فصار شعرهم ، من أعمالهم الصالحة ، وآثار إيمانهم ، لاشتماله على مدح أهل الإيمان ، والانتصار من أهل الشرك والكفر ، والذب عن دين الله ، وتبيين العلوم النافعة ، والحث على الأخلاق الفاضلة فقال : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله(2/317)
كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " إلى موقف وحساب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها ، ولا حقا إلا استوفاه . والحمد الله رب العالمين .
ومن سورة النمل إحدى عشرة آية
قوله تعالى:? طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ *أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ * وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * ? ( النمل 1 - 6 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/318)
ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن ، ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال : " تلك آيات القرآن وكتاب مبين " أي : هي أعلى الآيات ، وأقوى البينات ، وأوضح الدلالات ، وأبينها على أجل المطالب ، وأفضل المقاصد ، وخير الأعمال ، وأزكى الأخلاق . آيات تدل على الأخبار الصادقة ، والأوامر الحسنة ، والنهي عن كل عمل وخيم ، وخلق ذميم . آيات بلغت في وضوحها وبيانها البصائر النيرة ، مبلغ الشمس للأبصار . آيات دلت على الإيمان ، ودعت للوصول إلى الإيمان ، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة ، طبق ما كان ويكون . آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم ، بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وأفعاله الكاملة . آيات عرفتنا برسله وأوليائه ، ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا . ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين ، ولم يهتد بها جميع المعاندين ، صونا لها ، عن من لا خير فيه ولا صلاح ، ولا زكاء في قلبه . وإنما اهتدى بها ، من خصهم الله بالإيمان ، واستنارت بذلك قلوبهم ، وصفت سرائرهم . فلهذا قال : " هدى وبشرى للمؤمنين " أي : تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم ، وتبين لهم ، ما ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه ، وتبشرهم بثواب الله ، المرتب على الهداية لهذا الطريق . ربما قيل : لعله يكثر مدعو الإيمان فهل يقبل من كل أحد ادعى أنه مؤمن ذلك ؟ أم لا بد لذلك من دليل ؟ وهو الحق ، فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال : " الذين يقيمون الصلاة " فرضها ، ونفلها ، فيأتون بأفعالها الظاهرة ، من أركانها ، وشروطها ، وواجباتها ، ومستحباتها . وأفعالها الباطنة ، وهو : الخشوع الذي روحها ولبها ، باستحضار قرب الله ، وتدبر ما يقول المصلي ويفعله . " ويؤتون الزكاة " المفروضة لمستحقيها " وهم بالآخرة هم يوقنون " أي : قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين ، وهو : العلم التام ، والواصل إلى القلب ، الداعي إلى العمل . ويقينهم بالآخرة ، يقتضي كمال سعيهم(2/319)
لها ، وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب ، وهذا أصل كل خير . " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة " ويكذبون بها ، ويكذبون من جاء بإثباتها . " زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون " حائرين مترددين ، مؤثرين سخط الله على رضاه ، قد انقلبت عليهم الحقائق ، فرأوا الباطل حقا ، والحق باطلا . " أولئك الذين لهم سوء العذاب " أي : أشده ، وأسوأه ، وأعظمه ، " وهم في الآخرة هم الأخسرون " حصر الخسار فيهم ، بكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وخسروا الإيمان الذي دعتهم إليه الرسل . " وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم " أي : وإن هذا القرآن الذي ينزل عليك ، وتتلقنه ، ينزل من عند " حكيم " يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها . " عليم " بأسرار الأحوال ، وبواطنها كظواهرها . وإذا كان من عند " حكيم عليم " علم أنه كله حكمة ومصالح للعباد ، من الذي هو أعلم بمصالحهم منهم ؟
وقوله تعالى :? َمن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * ? ( النمل 89-93 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/320)
" من جاء بالحسنة " يعم جنس الحسنات ، قولية ، أو فعلية ، أو قلبية " فله خير منها " هذا أقل التفضيل . " وهم من فزع يومئذ آمنون " أي : من الأمر الذي فزع الخلق لأجله . آمنون ، وإن كانوا يفزعون معهم . " ومن جاء بالسيئة " اسم جنس ، يشمل كل سيئة " فكبت وجوههم في النار " ، أي : ألقوا في النار على وجوههم ، ويقال لهم : " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون
" إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون "(2/321)
أي : قل لهم يا محمد " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة "أي : مكة المكرمة " الذي حرمها " وأنعم على أهلها ، فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول . " وله كل شيء " من العلويات والسفليات ، أتى به ، لئلا يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده . " وأمرت أن أكون من المسلمين " ، أي : أبادر إلى الإسلام . وقد فعل صلى الله عليه وسلم ، فإنه أول هذه الأمة إسلاما ، وأعظمها استسلاما . ( و ) أمرت أيضا " وأن أتلو " عليكم " القرآن " لتهتدوا به ، وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه ، فهذا الذي علي ، وقد أديته . " فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه " نفعه يعود عليه ، وثمرته عائدة إليه " ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين " ، وليس بيدي من الهداية شيء . " وقل الحمد لله " الذي له الحمد في الأولى والآخرة ، ومن جميع الخلق . خصوصا أهل الاختصاص والصفوة من عباده ، فإن الذي وقع ، والذي ينبغي ، أن يقع منهم ، من الحمد والثناء على ربهم ، أعظم مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم ، وكمال قربهم منه ، وكثرة خيراته عليهم . " سيريكم آياته فتعرفونها " معرفة ، تدلكم على الحق والباطل . فلا بد أن يريكم من آياته ما تستنيرون به في الظلمات . " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة "..." وما ربك بغافل عما تعملون "
قد علم ما أنتم عليه من الأعمال والأحوال وعلم مقدار جزاء تلك الأعمال وسيحكم بينكم حكما تحمدونه عليه ولا يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه .....
ومن سورة القصص خمس آيات
قوله تعالى : ? وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * ? ( القصص 60-61 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/322)
هذا حض منه تعالى لعباده ، على الزهد في الدنيا ، وعدم الاغترار بها ، وعلى الرغبة في الأخرى ، وجعلها مقصود العبد ومطلوبه . ويخبرهم أن جميع ما أوتيه الخلق ، من الذهب ، والفضة ، والحيوانات والأمتعة ، والنساء ، والبنين ، والمآكل ، والمشارب ، واللذات ، كلها متاع الحياة الدنيا وزينتها ، أي : يتمتع به وقتا قصيرا ، متاعا قاصرا ، محشوا بالمنغصات ، ممزوجا بالغصص ، ويتزين به زمانا يسيرا ، للفخر والرياء ، ثم يزول ذلك سريعا ، وينقضي جميعا ، ولم يستفد صاحبه منه إلا الحسرة والندم ، والخيبة والحرمان . " وما عند الله " من النعيم المقيم ، والعيش السليم " خير وأبقى " أي : أفضل في وصفه وكميته ، وهو دائم أبدا ، ومستمر سرمدا . " أفلا تعقلون " أي : أفلا تكون لكم عقول ، بها تزنون أي الأمرين أولى بالإيثار ، وأي الدارين أحق للعمل لها . فدل ذلك أنه بحسب عقل العبد ، يؤثر الأخرى على الدنيا ، وأنه ما آثر أحد الدنيا ، إلا لنقص في عقله . ولهذا نبه العقول على الموازنة ، بين عاقبة مؤثر الدنيا ، ومؤثر الآخرة فقال : " أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه " أي : هل يستوي مؤمن ، ساع للآخرة سعيها قد عمل على وعد ربه له ، بالثواب الحسن ، الذي هو الجنة ، وما فيها من النعيم العظيم ، فهو لاقيه ، من غير شك ، ولا ارتياب لأنه وعد من كريم ، صادق الوعد ، لا يخلف الميعاد ، لعبد قام بمرضاته ، وجانب سخطه . " كمن متعناه متاع الحياة الدنيا " فهو يأخذ فيها ، ويعطي ، ويأكل ويشرب ، ويتمتع كما تتمتع البهائم ، قد اشتغل بدنياه عن آخرته ، ولم يرفع بهدى الله رأسا ، ولم ينقد للمرسلين . فهو لا يزال كذلك ، لا يتزود من دنياه إلا الخسار والهلاك . " ثم هو يوم القيامة من المحضرين " للحساب وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه ، وإنما قدم جميع ما يضره ، وانتقل إلى دار الجزاء على الأعمال . فما ظنكم بما يصير إليه ؟ وما تحسبون ما يصنع به ؟ فليختر العاقل(2/323)
لنفسه ، وما هو أولى بالاختيار ، وأحق الأمرين بالإيثار .
وقوله تعالى : ? وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ *? (القصص : 77 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة " أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ، ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله ، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات ، وتحصيل اللذات . " ولا تنس نصيبك من الدنيا " أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك ، وتبقى ضائعا ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك ، استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك . " وأحسن " إلى عباد الله " كما أحسن الله إليك " بهذه الأموال . " ولا تبغ الفساد في الأرض " بالتكبر ، والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم . " إن الله لا يحب المفسدين " بل يعاقبهم على ذلك ، أشد العقوبة .
وقوله تعالى :? تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ? ( القصص 83-84 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين "
لما ذكر تعالى ، قارون وما أوتيه من الدنيا ، وما صارت إليه عاقبة أمره ، وأن أهل العلم قالوا :(2/324)
" ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا " رغب تعالى في الدار الآخرة ، وأخبر بالسبب الموصل إليها فقال : " تلك الدار الآخرة " التي أخبر الله بها في كتبه وأخبرت بها رسله ، التي جمعت كل نعيم ، واندفع عنها كل مكدر ومنغص . " نجعلها " دارا وقرارا " للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا " أي : ليس لهم إرادة فكيف العمل للعلو في الأرض ، على عباد الله ، والتكبر عليهم وعلى الحق " ولا فسادا " وهذا شامل لجميع المعاصي . فإذا كانوا لا إرادة لهم في العلو في الأرض ، ولا الفساد ، لزم من ذلك ، أن تكون إرادتهم مصروفة إلى الله ، وقصدهم الدار الآخرة ، وحالهم التواضع لعباد الله ، والانقياد للحق والعمل الصالح . وهؤلاء هم المتقون الذين لهم العاقبة الحسنى ، ولهذا قال : " والعاقبة " أي : حالة الفلاح والنجاح ، التي تستقر وتستمر ، لمن اتقى الله تعالى . وغيرهم ـ وإن حصل لهم بعض الظهور والراحة ـ فإنه لا يطول وقته ، ويزول عن قريب . وعلم من هذا الحصر في الآية الكريمة ، أن الذين يريدون العلو في الأرض ، أو الفساد ، ليس لهم في الدار الآخرة ، نصيب ، ولا لهم منها حظ .(2/325)
" من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون " يخبر تعالى عن مضاعفة فضله ، وتمام عدله فقال : " من جاء بالحسنة " شرط فيها أن يأتي بها العامل ، لأنه قد يعملها ، ولكن يقترن بها ما لا تقبل منه ، أو يبطلها ، فهذا لم يجىء بالحسنة . والحسنة ، اسم جنس يشمل جميع ما أمر الله به ورسوله ، من الأقوال والأعمال الظاهرة ، والباطنة ، المتعلقة بحقه تعالى ، وحقوق العباد " فله خير منها " أي : أعظم وأجل ، وفي الآية الأخرى " فله عشر أمثالها " . هذا التضعيف للحسنة ، لا بد منه ، وقد يقترن بذلك من الأسباب ، ما تزيد به المضاعفة كما قال تعالى : " والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " بحسب حال العامل وعمله ، ونفعه ، ومحله ، ومكانه . " ومن جاء بالسيئة " وهي كل ما نهى الشارع عنه ، نهي تحريم . " فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون " كقوله تعالى : " ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون "
ومن سورة العنكبوت سبع آيات
قوله تعالى :? َثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ *خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ* اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ *? (العنكبوت : 41 - 45 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/326)
قوله تعالى :" مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون "
هذا مثل ضربه الله ، لمن عبد معه غيره ، يقصد به التعزز والتقوي ، والنفع ، وأن الأمر بخلاف مقصوده ، فإن مثله كمثل العنكبوت ، اتخذت بيتا يقيها من الحر والبرد والآفات . " وإن أوهن البيوت " أي : أضعفها وأوهاها " لبيت العنكبوت " . فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة ، وبيتها من أضعف البيوت ، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا . كذلك هؤلاء ، الذين يتخذون من دونه أولياء ، فقراء ، عاجزون ، من جميع الوجوه ، وحين اتخذوا الأولياء من دونه ، يتعززون بهم ، ويستنصرونهم ، ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم ، ووهنا إلى وهنهم فإن اتكلوا عليهم ، في كثير من مصالحهم ، وألقوها عليهم ، تخلوا هم عنها . على أن أولئك سيقومون بها . فخذلوهم ، فلم يحصلوا منهم على طائل ، ولا أنالوهم من معونتهم ، أقل نائل . فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم حالهم ، وحال من اتخذوهم ، لم يتخذوهم ، ولتبرؤوا منهم ، ولتولوا الرب القادر الرحيم ، الذي إذا تولاه عبده ، وتوكل عليه ، كفاه مؤونة دينه ودنياه ، وازداد قوة إلى قوته ، في قلبه وبدنه وحاله وأعماله . ولما بين نهاية ضعف آلهة المشركين ارتقى من هذا ، إلى ما هو أبلغ منه ، وأنها ليست بشيء ، بل هي مجرد أسماء سموها ، وظنون اعتقدوها . وعند التحقيق ، يتبين للعاقل بطلانها وعدمها ، ولهذا قال : " إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء " أي : إنه تعالى يعلم ـ وهو عالم الغيب والشهادة ـ أنهم ما يدعون من دون الله شيئا موجودا ، ولا إلها له حقيقة ، كقوله تعالى : " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " . وقوله : " وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا(2/327)
الظن "..." وهو العزيز " الذي له القوة جميعا ، الذي قهر بها جميع الخلق . " الحكيم " الذي يضع الأشياء مواضعها ، الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأتقن ما أمره . " وتلك الأمثال نضربها للناس " أي : لأجلهم ولانتفاعهم وتعليمهم لكونها من الطرق الموضحة للعلوم ، لأنها تقرب الأمور المعقولة ، بالأمور المحسوسة فيتضح المعنى المطلوب بسببها ، فهي مصلحة لعموم الناس . لكن " وما يعقلها " بفهمها وتدبرها ، وتطبيقها على ما ضربت له ، وعقلها في القلب . " إلا العالمون " أي : إلا أهل العلم الحقيقي ، الذين وصل العلم إلى قلوبهم . وهذا مدح للأمثال ، التي يضربها ، وحث على تدبرها وتعقلها ، ومدح لمن يعقلها . وأنه عنوان على أنه من أهل العلم ، فعلم أن من لم يعقلها ، ليس من العالمين . والسبب في ذلك ، أن الأمثال التي يضربها الله في القرآن ، إنما هي للأمور الكبار ، والمطالب العالية ، والمسائل الجليلة . فأهل العلم ، يعرفون أنها أهم من غيرها ، لاعتناء الله بها ، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها . فيبذلون جهدهم في معرفتها . وأما من لم يعقلها ، مع أهميتها ، فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم ، لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة ، فعدم معرفته غيرها ، من باب أولى وأحرى . ولهذا ، أكثر ما يضرب الله الأمثال في أصول الدين ، ونحوها . " خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين " أي : هو تعالى ، المنفرد بخلق السموات ، على علوها وارتفاعها وسعتها وحسنها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب والملائكة . والأرض وما فيها من الجبال والبحار والبراري والقفار ، والأشجاء ونحوها . وكل ذلك خلقه بالحق ، أي لم يخلقها عبثا ، ولا سدى ، ولا لغير فائدة . وإنما خلقها ، ليقوم أمره وشرعه ، ولتتم نعمته على عباده ، وليروا من حكمته ، وفهره وتدبيره ، ما يدلهم على أنه وحده ، معبودهم ، ومحبوبهم ، وإلههم . " إن في ذلك لآية للمؤمنين " على كثير من(2/328)
المطالب الإيمانية ، إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانا .
" اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون "
يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله ، وهو : هذا الكتاب العظيم . ومعنى تلاوته ، اتباعه ، بامتثال ما يأمر به ، واجتناب ما ينهى عنه ، والاهتداء بهداه ، وتصديق أخباره ، وتدبر معانيه ، وتلاوة ألفاظه ، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه . وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب ، علم أن إقامة الدين كلها ، داخلة في تلاوة الكتاب . فيكون قوله : " وأقم الصلاة " من باب عطف الخاص على العام ، لفضل الصلاة وشرفها ، وآثارها الجميلة ، وهي " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " . فالفحشاء ، كل ما استعظم ، واستفحش من المعاصي ، التي تشتهيها النفوس . والمنكر : كل معصية تنكرها العقول والفطر . ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، أن العبد المقيم لها ، المتمم لأركانها وشروطها ، وخشوعها ، يستنير قلبه ، ويتطهر فؤاده ، ويزداد إيمانه ، وتقوى رغبته في الخير ، وتقل أو تنعدم رغبته في الشر . فبالضرورة ، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه ، تنهى عن الفحشاء والمنكر . فهذا من أعظم مقاصد الصلاة وثمراتها . وثم في الصلاة ، مقصود أعظم من هذا وأكبر ، وهو : ما اشتملت عليه من ذكر الله ، بالقلب ، واللسان ، والبدن . فإن الله تعالى ، إنما خلق العباد لعبادته ، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة . وفيها من عبوديات الجوارح كلها ، ما ليس في غيرها ، ولهذا قال : " ولذكر الله أكبر " . ويحتمل أنه لما أمر بالصلاة ومدحها ، أخبر أن ذكره تعالى ، خارج الصلاة ، أكبر من الصلاة كما هو قول جمهور المفسرين . لكن الأول ، أولى ، لأن الصلاة ، أفضل من الذكر خارجها ، ولأنها ـ كما تقدم ـ بنفسها من أكبر الذكر . " والله يعلم ما تصنعون " من خير وشر ، فيجازيكم على ذلك ، أكمل الجزاء ، وأوفاه(2/329)
.
وقوله تعالى : ? يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * ? ( العنكبوت 56 - 57 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى : " يا عبادي الذين آمنوا " وصدقوا رسولي " إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون " فإذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض ، فارتحلوا منها إلى أرض أخرى ، حيث كانت العبادة لله وحده . فأماكن العبادة ، ومواضعها ، واسعة ، والمعبود واحد ، والموت لا بد أن ينزل بكم ثم ترجعون إلى ربكم ، فيجازى من أحسن عبادته وجمع بين الإيمان والعمل الصالح بإنزاله الغرف العالية ، والمنازل الأنيقة الجامعة لما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون
ومن سورة الروم خمس آيات
قوله تعالى : ? فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * ? (الروم 30 - 31 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/330)
يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال ، وإقامة دينه فقال : " فأقم وجهك " أي : انصبه ووجهه " للدين " الذي هو الإسلام والإيمان ، والإحسان ، بأن تتوجه بقلبك ، وقصدك ، وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة ، كالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ونحوها . وشرائعه الباطنة ، كالمحبة ، والخوف ، والرجاء ، والإنابة . والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة ، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك . وخص الله إقامة الوجه ، لأن إقبال الوجه ، تبع لإقبال القلب ، ويترتب على الأمرين ، سعي البدن ، ولهذا قال : " حنيفا " أي : مقبلا على الله في ذلك ، معرضا عما سواه . وهذا الأمر الذي أمرناك به ، هو " فطرة الله التي فطر الناس عليها " ووضع في عقولهم حسنها ، واستقباح غيرها . إن جميع أحكام الشرع ، الظاهرة والباطنة ، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم . الميل إليها . فوضع في قلوبهم ، محبة الحق ، وإيثار الحق ، وهذا حقيقة الفطر . ومن خرج عن هذا الأصل ، فلعارض عرض لفطرته ، أفسدها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " . " لا تبديل لخلق الله " أي : لا أحد يبدل خلق الله ، فيجعل المخلوق على غير الوضع ، الذي وضعه الله . " ذلك " الذي أمرناك به " الدين القيم " أي : الطريق المستقيم الموصل إلى الله ، وإلى دار كرامته ، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم ، في جميع شرائعه وطرقه . " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فلا يتعرفون الدين القيم ، وإن عرفوه لم يسلكوه . " منيبين إليه واتقوه " وهذا تفسير لإقامة الوجه للدين . فإن الإنابة ، إنابة القلب ، وانجذاب دواعيه ، لمراضي الله تعالى . ويلزم من ذلك ، عمل البدن بمقتضى ما في القلب ، فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة ، ولا يتم ذلك إلا بترك المعاصي الظاهرة والباطنة ، فلذلك قال : "(2/331)
واتقوه " فهذا يشمل فعل المأمورات ، وترك المنهيات . وخص من المأمورات الصلاة بقوله : " وأقيموا الصلاة " لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى ، كما قال تعالى في سورة العنكبوت : " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " فهذا إعانتها على التقوى . ثم قال : " ولذكر الله أكبر " فهذا حثها على الإنابة . وخص من المنهيات أصلها ، والذي لا يقبل معه عمل ، وهو الشرك فقال : " ولا تكونوا من المشركين " لكون الشرك مضادا للإنابة ، التي روحها الإخلاص من كل وجه .
وقوله تعالى : ? َإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * ? (الروم : 36 - 38 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :"وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون "(2/332)
يخبر تعالى ، عن طبيعة أكثر الناس ، في حالي الرخاء والشدة ، أنهم إذا أذاقهم الله منه رحمة ، من صحة ، وغنى ، ونصر ونحو ذلك ، فرحوا بذلك ، فرح بطر ، لا فرح شكر وتبجح بنعمة الله . " وإن تصبهم سيئة " أي : حال تسوؤهم وذلك " بما قدمت أيديهم " من المعاصي . " إذا هم يقنطون " ييأسون من زوال ذلك الفقر ، والمرض ، ونحوه . وهذا جهل منهم وعدم معرفة . " أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " . فالقنوط بعدما علم أن الخير والشر من الله ، والرزق ، سعته وضيقه ، من تقديره ، ضائع ، ليس له محل . فلا تنظر أيها العاقل لمجرد الأسباب ، بل اجعل نظرك لمسببها ، ولهذا قال : " إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " فهم الذين يعتبرون ببسط الله الرزق لمن يشاء ، وقبضه . ويعرفون بذلك ، حكمة الله ورحمته ، وجوده ، وجذب القلوب لسؤاله ، في جميع مطالب الرزق .
" فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون "(2/333)
أي : فأعط القريب منك ـ على حسب قربه وحاجته ـ حقه الذي أوجبه الشارع ، أو حض عليه ، من النفقة الواجبة ، والصدقة ، والهداية ، والبر ، والسلام ، والإكرام ، والعفو عن زلته ، والمسامحة عن هفوته . وكذلك ، آت المسكين ، الذي أسكنه الفقر والحاجة ، ما تزيل حاجته ، وتدفع به ضرورته ، من إطعامه ، وسقيه وكسوته . " وابن السبيل " الغريب المنقطع ، في غير بلده ، الذي هو مظنة شدة الحاجة ، وأنه لا مال معه ، ولا كسب يدبر نفسه به في سفره . بخلاف الذي في بلده ، فإنه حتى لو لم يكن له مال ، فإنه لا بد ـ في الغالب ـ أن يكون في حرفة ، أو صناعة ونحوها تسد حاجته . ولهذا جعل الله في الزكاة ، حصة للمسكين ، وابن السبيل . " ذلك " أي : إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل " خير للذين يريدون " بذلك العمل " وجه الله " أي : خير غزير ، وثواب كثير؛ لأنه من أفضل الأعمال الصالحة ، والنفع المتعدي ، الذي وافق محله ، المقرون به الإخلاص . فإن لم يرد به وجه الله ، لم يكن خيرا للمعطي ، وإن كان خيرا ونفعا للمعطى كما قال تعالى : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " . مفهومها ، أن هذه الأمور خير ، لنفعها المتعدي ، ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ، فسوف نؤتيه أجرا عظيما . وقوله : " وأولئك " الذين عملوا هذه الأعمال وغيرها لوجه الله " هم المفلحون " الفائزون بثواب الله ، الناجون من عقابه ...
ومن سورة لقمان تسع آيات(2/334)
قوله تعالى :? يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ*يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ * ? (لقمان : 16 - 19 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير "(2/335)
يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان ، بالحكمة ، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته ، فهي العلم بالأحكام ، ومعرفة ما فيها ، من الأسرار والإحكام . فقد يكون الإنسان عالما ، ولا يكون حكيما . وأما الحكمة ، فهي مستلزمة للعلم ، بل وللعمل ، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع ، والعمل الصالح . ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة ، أمره أن يشكره على ما أعطاه ، ليبارك له فيه ، وليزيده من فضله ، وأخبره أن شكر الشاكرين ، يعود نفعه عليهم ، وأن من كفر فلم يشكر الله ، عاد وبال ذلك عليه ..." والله غني " عنه " حميد " فيما يقدره ويقضيه ، على من خالف أمره . فغناه تعالى ، من لوازم ذاته ، وكونه حميدا في صفات كماله ، حميدا في جميل صنعه ، ن لوازم ذاته ، وكل واحد من الوصفين ، صفة كمال ، واجتماع أحدهما إلى الآخر ، زيادة كمال إلى كمال . واختلف المفسرون ، هل كان لقمان نبيا ، أو عبدا صالحا ؟ والله تعالى لم يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة ، وذكر بعض ما يدل على حكمته ، في وعظه لابنه . فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال : " وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه "(2/336)
. وقال له قولا يعظه به ، والوعظ : الأمر ، والنهي ، المقرون بالترغيب والترهيب . فأمره بالإخلاص ، ونهاه عن الشرك ، وبين له السبب في ذلك فقال : " إن الشرك لظلم عظيم " ووجه كونه ظلما عظيما ، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوى المخلوق من تراب ، بمالك الرقاب . وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئا ، بمالك الأمر كله . وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه ، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه . وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم ، بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ، ودنياهم ، وأخراهم ، وقلوبهم ، وأبدانهم ، إلا منه ، ولا يصرف السوء إلا هو . فهل أعظم من هذا الظلم شيء ؟ وهل أعظم ظلما ، ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده ، فذهب بنفسه الشريفة ، فجعلها في أخس المراتب ؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئا ، فظلم نفسه ظلما كبيرا . ولما أمر بالقيام بحقه ، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد ، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال : " ووصينا الإنسان " أي : عهدنا إليه ، وجعلناه وصية عنده ، سنسأله عن القيام بها ، وهل حفظها أم لا ؟ فوصيناه " بوالديه " وقلنا له " اشكر لي " بالقيام بعبوديتي ، وأدار حقوقي ، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي . " ولوالديك " بالإحسان إليهما بالقول اللين ، والكلام اللطيف ، والفعل الجميل ، والتواضع لهما ، وإكرامهما ، وإجلالهما ، والقيام بمؤونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه ، بالقول والفعل . فوصيناه بهذه الوصية ، وأخبرناه أن " إلي المصير " أي : سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك ، وكلفك بهذه الحقوق ، فيسألك : هل قمت بها ، فيثيبك الثواب الجزيل ؟ أم ضيعتها ، فيعاقبك العقاب الوبيل ؟ وذلك السبب الموجب لبر الوالدين في الأم فقال : " حملته أمه وهنا على وهن "(2/337)
أي : مشقة على مشقة ، فلا تزال تلاقي المشاق ، من حين يكون نطفة ، من الوحم ، والمرض ، والضعف ، والثقل ، وتغير الحال ، وثم وجع الولادة ، ذلك الوجع الشديد . " وفصاله في عامين " وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ، ورضاعها . أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه الشدائد ، مع شدة الحب ، أن يؤكد على ولده ، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه ؟ " وإن جاهداك " أي : اجتهد والداك " على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما " ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما ، لأن حق الله ، مقدم على حق كل أحد ، و " لا طاعة لمخلوق ، في معصية الخالق " . ولم يقل " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما " . بل قال : " فلا تطعهما " أي : في الشرك ، وأما برهما ، فاستمر عليه . ولهذا قال :(2/338)
" وصاحبهما في الدنيا معروفا " أي : صحبة إحسان إليهما بالمعروف . وأما اتباعهما ، وهما بحالة الكفر والمعاصي ، فلا تتبعهما . " واتبع سبيل من أناب إلي " وهم المؤمنون بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، المستسلمون لربهم ، المنيبون إليه . واتباع سبيلهم ، أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله ، التي هي انجذاب دواعي القلب وإرادته ، إلى الله ، ثم يتبعها سعي البدن ، فيما يرضي الله ، ويقرب منه . " ثم إلي مرجعكم " الطائع والعاصي ، والمنيب ، وغيره " فأنبئكم بما كنتم تعملون " ، فأجازيك على إيمانك ، وأجازيهما على كفرهما ، ثم أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر . فلا يخفى على الله من أعمالهم خافية . " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل " التي هي أصغر الأشياء وأحقرها . " فتكن في صخرة " أي : في وسطها " أو في السماوات أو في الأرض " في أي : جهة من جهاتهما " يأت بها الله " سعة علمه ، وتمام خبرته وكمال قدرته . ولهذا قال : " إن الله لطيف خبير " أي : لطف في علمه وخبرته ، حتى اطلع على البواطن والأسرار ، وخفايا القفار والبحار . والمقصود من هذا ، الحث على مراقبة الله ، والعمل بطاعته ، مهما أمكن ، والترهيب من عمل القبيح ، قل أو كثر . " يا بني أقم الصلاة "(2/339)
حثه عليها ، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية . " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر " وذلك يستلزم العلم بالمعروف ، ليأمر به ، والعلم بالمنكر ، لينهى عنه . والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر إلا به ، من الرفق ، والصبر ، وقد صرح به في قوله : " واصبر على ما أصابك " ومن كونه فاعلا لما يأمر به ، كافا لما ينهى عنه ، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر ، وتكميل غيره بذلك ، بأمره ونهيه . ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس ، أمره بالصبر على ذلك فقال " واصبر على ما أصابك إن ذلك " الذي وعظ به لقمان ابنه " من عزم الأمور " أي : من الأمور التي يعزم عليها ، ويهتم بها ، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم . " ولا تصعر خدك للناس " أي : لا تمله وتعبس بوجهك للناس ، تكبرا عليهم ، وتعاظما . " ولا تمش في الأرض مرحا " أي : بطرا ، فخرا بالنعم ، ناسيا المنعم ، معجبا بنفسك . " إن الله لا يحب كل مختال " في نفسه وهيئته وتعاظمه " فخور " بقوله . " واقصد في مشيك " أي : امش متواضعا مستكينا ، لا مشي البطر والتكبر ، ولا مشي التماوت . " واغضض من صوتك " أدبا مع الناس ومع الله . " إن أنكر الأصوات " أي : أفظعها وأبشعها " لصوت الحمير " . فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته . وهذه الوصايا ، التي وصى بها لقمان ابنه ، تجمع أمهات الحكم ، وتستلزم ما لم يذكر منها . وكل وصية يقرن بها ، ما يدعو إلى فعلها ، إن كانت أمرا ، وإلى تركها ، إن كانت نهيا . وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة ، أنها العلم بالأحكام ، وحكمها ومناسباتها . فأمره بأصل الدين ، وهو التوحيد ، ونهاه عن الشرك ، وبين له الموجب لتركه . وأمره ببر الوالدين ، وبين له السبب الموجب لبرهما ، وأمره بشكره وشكرهما ، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما(2/340)
، ما لم يأمرا بمعصية ، ومع ذلك ، فلا يعقهما ، بل يحسن إليهما ، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك . وأمره بمراقبة الله ، وخوفه القدوم عليه . وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر ، إلا أتى بها . ونهاه عن التكبر ، وأمره بالتواضع ، ونهاه عن البطر والأشر ، والمرح ، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات ، ونهاه عن ضد ذلك . وأمره بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر ، كما قال تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة " . فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ، أن يكون مخصوصا بالحكمة ، مشهورا بها . ولهذا من منة الله على عباده ، أن قص عليهم من حكمته ، ما يكون لهم به أسوة حسنة .
وقوله تعالى :? وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? (لقمان : 22 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/341)
" ومن يسلم وجهه إلى الله " أي : يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه . " وهو محسن " في ذلك الإسلام بأن كان عمله مشروعا ، قد اتبع فيه الرسول . أو من يسلم وجهه إلى الله ، بفعل جميع العبادات ، وهو محسن فيها ، بأن يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإنه يراك . أو من يسلم وجهه إلى الله ، بالقيام بحقوقه ، وهو محسن إلى عباد الله ، قائم بحقوقهم . والمعاني متلازمة ، لا فرق بينها إلا من جهة اختلاف مورد اللفظين . وإلا فكلها منفعة على القيام بجميع شرائع الدين ، على وجه تقبل به وتكمل . فمن فعل ذلك ، " فقد استمسك بالعروة الوثقى " أي : بالعروة التي من تمسك بها ، توثق ونجا ، وسلم من الهلاك ، وفاز بكل خير . ومن لم يسلم وجهه لله ، أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى ، وإذا لم يستمسك لم يكن ثم إلا الهلاك والبوار . " وإلى الله عاقبة الأمور " أي : رجوعها ، وموثلها ، ومنتهاها . فيحكم في عباده ، ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم ، ووصلت إليه عواقبهم ، فليستعدوا لذلك الأمر
وقوله تعالى :? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * ? (لقمان : 33 - 34 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور "(2/342)
يأمر تعالى الناس بتقواه ، التي هي : امتثال أوامره ، وترك زواجره . ويستلفتهم لخشية يوم القيامة ، اليوم الشديد ، الذي فيه كل أحد ، لا يهمه إلا نفسه " واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا " يزيد في حسناته ولا ينقص من سيئاته ، قد تم على كل عبد عمله ، وتحقق عليه جزاؤه . فلفت النظر لهذا اليوم المهول ، مما يقوي العبد ، ويسهل عليه تقوى الله . وهذا من رحمة الله بالعباد ، يأمرهم بتقواه التي فيها سعادتهم ، ويعدهم عليها الثواب ، ويحذرهم من العقاب ، ويزجرهم عنه بالمواعظ والمخوفات . فلك الحمد يا رب العالمين .
" إن وعد الله حق " فلا تمتروا فيه ، ولا تعملوا عمل غير المصدق ، فلهذا قال : " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " بزينتها وزخارفها ، وما فيها من الفتن والمحن . " ولا يغرنكم بالله الغرور " الذي هو الشيطان ، ما زال يخدع الإنسان ولا يغفل عنه في جميع الأوقات . فإن لله على عباده حقا ، وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه بأعمالهم ، وهل وفوا حقه ، أم قصروا فيه . وهذا أمر يجب الاهتمام به ، وأن يجعله العبد نصب عينيه ، ورأس مال تجارته التي يسعى إليها . ومن أعظم العوائق عنه والقواطع دونه ، الدنيا الفتانة ، والشيطان الموسوس المسول . فنهى تعالى عباده ، أن تغرهم الدنيا ، أو يغرهم بالله الغرور " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا "...
" إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير "(2/343)
قد تقرر أن الله تعالى ، أحاط علمه بالغيب والشهادة ، والظواهر والبواطن ، وقد يطلع الله عباده على كثير من الأمور الغيبية ، وهذه الأمور الخمسة ، من الأمور التي طوى علمها عن جميع الخلق ، فلا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، فضلا عن غيرهما ، فقال : " إن الله عنده علم الساعة " أي : يعلم متى مرساها ، كما قال تعالى : " يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة " الآية . " وينزل الغيث " أي : هو المنفرد بإنزاله ، وعلم وقت نزوله . " ويعلم ما في الأرحام " فهو الذي أنشأ ما فيها ، وعلم ما هو ، هل هو ذكر أم أنثى . ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه : هل هو ذكر أم أنثى ؟ فيقضي الله ما يشاء . " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا " من كسب دينها ودنياها . " وما تدري نفس بأي أرض تموت " بل الله تعالى هو المختص بعلم ذلك جميعه . ولما خصص هذه الأشياء ، عمم علمه بجميع الأشياء فقال : " إن الله عليم خبير " محيط بالظواهر والبواطن ، والخفايا والخبايا ، والسرائر . ومن حكمته التامة ، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد؛ لأن في ذلك من المصالح ، ما لا يخفى على من تدبر ذلك .
ومن سورة السجدة خمس آيات(2/344)
قوله تعالى :? ِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *(السجدة : 15 - 19)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/345)
، ذكرالله تهالى المؤمنين بها ووصْفهم ، وما أعد لهم من الثواب فقال : " إنما يؤمن بآياتنا " أي : إيمانا حقيقيا ، من يوجد منه شواهد الإيمان . وهم : " الذين إذا ذكروا بها " فتليت عليهم آيات القرآن ، وأتتهم النصائح على أيدي رسل الله ، ودعوا إلى التذكر ، سمعوها فقبلوها ، وانقادوا ، و " خروا سجدا " أي : خاضعين لها ، خضوع ذكر لله ، وفرح بمعرفته . " وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون " لا بقلوبهم ، ولا بأبدانهم ، فيمتنعون من الانقياد لها بل متواضعون لها ، وقد تلقوها بالقبول ، وقابلوها بالانشراح والتسليم ، وتوصلوا ، بها إلى مرضاة الرب الرحيم ، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم . " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " أي : ترتفع جنوبهم ، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة ، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم ، وهو : الصلاة في الليل ، ومناجاة الله تعالى . ولهذا قال : " يدعون ربهم " أي : في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ، ودفع مضارهما . " خوفا وطمعا " أي : جامعين بين الوصفين ، خوفا أن ترد أعمالهم ، وطمعا في قبولها . خوفا من عذاب الله ، وطمعا في ثوابه . " ومما رزقناهم " من الرزق ، قليلا أو كثيرا " ينفقون " ولم يذكر قيد النفقة ، ولا المنفق عليه ، ليدل على العموم . فإنه يدخل فيه ، النفقة الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، ونفقة الزوجات والأقارب ، والنفقة المستحبة في وجوه الخير ، والنفقة والإحسان المالي ، خير مطلقا ، سواء وافق فقيرا أو غنيا ، قريبا أو بعيدا ، ولكن الأجر يتفاوت ، بتفاوت النفع ، فهذا عملهم . وأما جزاؤهم ، فقال : " فلا تعلم نفس " يدخل فيه جميع نفوس الخلق ، لكونه نكرة في سياق النفي . أي : فلا يعلم أحد " ما أخفي لهم من قرة أعين " من الخير الكثير ، والنعيم الغزير ، والفرح والسرور ، واللذة والحبور . كما قال تعالى على لسان رسوله : " أعددت لعبادي الصاحلين ، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر(2/346)
" . فكما صلوا في الليل ، ودعوا ، وأخفوا العمل ، جازاهم من جنس عملهم ، فأخفى أجرهم ، ولهذا قال : " جزاء بما كانوا يعملون "
" أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون "
ينبه تعالى ، العقول على ما تقرر فيها ، من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين ، وأن حكمته تقضي عدم تساويهما فقال : " أفمن كان مؤمنا " قد عمر قلبه الإيمان ، وانقادت جوارحه لشرائعه ، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته ، من ترك مساخط الله ، التي يضر وجودها بالإيمان . " كمن كان فاسقا " قد خرب قلبه ، وتعطل من الإيمان ، فلم يكن فيه وازع ديني ، فأسرعت عنه جوارحه بموجبات الجهل والظلم ، في كل إثم ومعصية ، وخرج بفسقه عن طاعة ربه . أفيستوي هذان الشخصان ؟ " لا يستوون " عقلا وشرعا ، كما لا يستوي الليل والنهار ، والضياء ، والظلمة ، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة . " وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات "من فروض ونوافل " فلهم جنات المأوى " أي : الجنات التي هي مأوى اللذات ، ومعدن الخيرات ، ومحل الأفراح ، ونعيم القلوب ، والنفوس ، والأرواح ، ومحل الخلود ، وجوار الملك المعبود ، والتمتع بقربه ، والنظر إلى وجهه ، وسماع خطابه . " نزلا " لهم أي : ضيافة ، وقرى " بما كانوا يعملون " . فأعمالهم التي تفضل الله بها عليهم ، هي التي أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية ، التي لا يمكن التوصل إليها ببذل الأموال ، ولا بالجنود والخدم ، ولا بالأولاد ، بل ولا بالنفوس والأرواح ، ولا يتقرب إليها بشيء أصلا ، سوى الإيمان والعمل الصالح "(2/347)
وأما الذين فسقوا فمأواهم النار " أي : مقرهم ومحل خلودهم ، النار التي جمعت كل عذاب وشقاء ، ولا يفتر عنهم العقاب ساعة . " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " فكلما حدثتهم إرادتهم بالخروج ، لبلوغ العذاب منهم كل مبلغ ، ردوا إليها ، فذهب عنهم روح ذلك الفرج ، واشتد عليهم الكرب . " وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون " فهذا عذاب النار ، الذي يكون فيه مقرهم ومأواهم . وأما العذاب الذي قبل ذلك ، ومقدمة له وهو عذاب البرزخ ، فقد ذكر بقوله : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )
ومن سورة الأحزاب عشر آيات
قوله تعالى: ? مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * ? (الأحزاب : 23 - 24 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/348)
" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " أي : وفوا به ، وأتموه ، وأكملوه . فبذلوا مهجهم في مرضاته ، وسبلوا نفوسهم في طاعته . " فمنهم من قضى نحبه " أي : إرادته ومطلوبه ، وما عليه من الحق ، فقتل في سبيل الله ، أو مات مؤديا لحقه ، لم ينقصه شيئا . " ومنهم من ينتظر " تكميل ما عليه ، فهو شارع في قضاء ما عليه ، ووفاء نحبه ولما يكمله ، وهو في رجاء تكميله ، ساع في ذلك ، مجد . " وما بدلوا تبديلا " كما بدل غيرهم ، بل لم يزالوا على العهد ، لا يلوون ، ولا يتغيرون . فهؤلاء ، هم الرجال على الحقيقة ، ومن عداهم ، فصورهم صور رجال ، وأما الصفات ، فقد قصرت عن صفات الرجال . " ليجزي الله الصادقين بصدقهم " أي : بسبب صدقهم ، في أقوالهم ، وأحوالهم ، ومعاملتهم مع الله ، واستواء ظاهرهم وباطنهم ، قال الله تعالى : " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا "الآية . أي : قدرنا ما قدرنا ، من هذه الفتن ، والمحن ، والزلازل ، ليتبين الصادق من الكاذب . فيجزي الله الصادقين بصدقهم " ويعذب المنافقين " الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم ، عند حلول الفتن ، ولم يفوا بما عاهدوا الله عليه . " إن شاء " تعذيبهم ، بأن لم يشأ هدايتهم ، بل علم أنهم لا خير فيهم ، فلم يوفقهم . " أو يتوب عليهم " بأن يوفقهم للتوبة والإنابة . وهذا هو الغالب ، على كرم الكريم ، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة ، والفضل ، والإحسان فقال : " إن الله كان غفورا " لذنوب المسرفين على أنفسهم ، ولو أكثروا من العصيان ، إذا أتوا بالمتاب . " رحيما " بهم حيث وفقهم التوبة ، ثم قبلها منهم ، وستر عليهم ما اجترحوه .(2/349)
وقوله تعالى : ? إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً * ? (الأحزاب : 35 - 36 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما "
لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعقابهن لو قدر عدم الامتثال ، وأنه ليس مثلهن أحد من النساء ، وذكر بقية النساء غيرهن . ولما كان حكمهن وحكم الرجال واحد ، جعل الحكم مشتركا فقال : " إن المسلمين والمسلمات " وهذا في الشرائع الظاهرة ، إذا كانوا قائمين بها . " والمؤمنين والمؤمنات " وهذا في الأمور الباطنة ، من عقائد القلب وأعماله . " والقانتين " أي : المطيعين لله ولرسوله " والقانتات والصادقين " في مقالهم وفعالهم " والصادقات(2/350)
" والصابرين " على الشدائد والمصائب " والصابرات والخاشعين " في جميع أحوالهم ، خصوصا في عباداتهم ، ولا سيما في صلواتهم " والخاشعات "..." والمتصدقين " فرضا ونفلا " والمتصدقات والصائمين والصائمات " شمل ذلك ، الفرض والنفل . " والحافظين فروجهم " عن الزنا ومقدماته ، " والحافظات "..." والذاكرين الله كثيرا " أي : في أكثر الأوقات ، خصوصا أوقات الأوراد المقيدة ، كالصباح والمساء ، أو بالصلوات المكتوبات " والذاكرات "..." أعد الله لهم "
أي : لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة ، والمناقب الجليلة ، التي هي ما بين اعتقادات ، وأعمال قلوب ، وأعمال جوارح ، وأقوال لسان ، ونفع متعد وقاصر ، وما بين أفعال الخير ، وترك الشر ، الذي من قام بهن ، فقد قام بالدين كله ، ظاهره وباطنه ، بالإسلام والإيمان والإحسان . فجزاهم على عملهم " مغفرة " لذنوبهم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات . " وأجرا عظيما " لا يقدر قدره ، إلا الذي أعطاه ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، نسأل الله أن يجعلنا منهم .
" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا "(2/351)
" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة " أي : لا ينبغي ولا يليق ، من اتصف بالإيمان ، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله ، والهرب ، من سخط الله ورسوله ، وامتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما . فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة " إذا قضى الله ورسوله أمرا " من الأمور ، وحتما به وألزما به " أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " أي : الخيار ، هل يفعلونه أم لا ؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة ، أن الرسول أولى به من نفسه . فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابا بينه وبين أمر الله ورسوله . " ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " أي : بينا؛ لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة الله ، إلى غيرها ، من الطرق الموصلة للعذاب الأليم . فذكر أولا ، السبب الموجب لعدم معارضة أمر الله ورسوله ، وهو الإيمان . ثم ذكر المانع من ذلك ، وهو التخويف بالضلال ، الدال على العقوبة والنكال .
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً * ? (الأحزاب : 41-44 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/352)
يأمر تعالى المؤمنين ، بذكره ذكرا كثيرا ، من تهليل ، وتحميد ، وتسبيح ، وتكبير وغير ذلك ، من كل قول فيه قربة إلى الله . وأقل ذلك ، أن يلازم الإنسان أوراد الصباح ، والمساء ، وأدبار الصلوات الخمس ، وعند العوارض والأسباب . وينبغي مداومة ذلك ، في جميع الأوقات ، على جميع الأحوال . فإن ذلك ، عبادة يسبق بها العامل ، وهو مستريح ، وداع إلى محبة الله ومعرفته ، وعون على الخير ، وكف اللسان عن الكلام القبيح . " وسبحوه بكرة وأصيلا " أي : أول النهار وآخره ، لفضلهما ، وشرفهما ، وسهولة العمل فيهما . " هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما " أي؛ من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم ، أن جعل من صلاته عليهم ، وثنائه ، وصلاة ملائكته ودعائهم ، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل ، إلى نور الإيمان ، والتوفيق ، والعلم ، والعمل . فهذه أعظم نعمة ، أنعم بها على العباد الطائعين ، تستدعي منهم شكرها ، والإكثار من ذكر الله ، الذي لطف بهم ورحمهم ، وجعل حملة عرشه ، أفضل الملائكة ، ومن حوله ، يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون : " ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم " . فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا . وأما رحمته بهم في الآخرة ، فأجل رحمة ، وأفضل ثواب ، وهو الفوز برضا ربهم ، وتحيته ، واستماع كلامه الجليل ، ورؤية وجهه الجميل ، وحصول الأجر الكبير ، الذي لا يدريه ولا يعرف كنهه ، إلا من أعطاهم إياه ، ولهذا قال : " تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما "(2/353)
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا*? (الأحزاب : 70-72 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما "
يأمر تعالى المؤمنين بتقواه ، في جميع أحوالهم ، في السر والعلانية ، ويخص منها ، ويندب للقول السديد ، وهو القول الموافق للصواب ، أو المقارب له ، عند تعذر اليقين ، من قراءة ، وذكر ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وتعلم علم وتعليمه ، والحرص على إصابة الصواب ، في المسائل العلمية ، وسلوك كل طريق يوصل لذلك ، وكل وسيلة تعين عليه . ومن القول السديد ، لين الكلام ولطفه ، في مخاطبة الأنام ، والقول المتضمن للنصح ، والإشارة بما هو الأصلح . ثم ذكر ما يترتب على تقواه ، وقول القول السديد فقال : " يصلح لكم أعمالكم " أي : يكون ذلك سببا لصلاحها ، وطريقا لقبولها؛ لأن استعمال التقوى ، تتقبل به الأعمال كما قال تعالى : " إنما يتقبل الله من المتقين " . ويوفق فيه الإنسان للعمل الصالح ، ويصلح الله الأعمال أيضا ، بحفظها عما يفسدها ، وحفظ ثوابها ومضاعفته . كما أن الإخلال بالتقوى ، والقول السديد سبب لفساد الأعمال ، وعدم قبولها ، وعدم ترتب آثارها عليها . " ويغفر لكم " أيضا " ذنوبكم " التي هي السبب في هلاككم . فبالتقوى تستقيم الأمور ، ويندفع بها كل محذور ولهذا قال : " ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما "(2/354)
" إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما " يعظم تعالى شأن الأمانة ، التي ائتمن الله عليها المكلفين ، التي هي امتثال الأوامر ، واجتناب المحارم ، في حال السر والخفية ، كحال العلانية . وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة ، والسموات والأرض والجبال ، عرض تخيير لا تحتيم ، وأنك إن قمت بها وأديتها على وجهها ، فلك الثواب ، وإن لم تقومي بها ، ولم تؤديها ، فعليك العقاب . " فأبين أن يحملنها وأشفقن منها " أي خوفا أن لا يقمن بما حملن ، لا عصيانا لربهن ، ولا زهدا في ثوابه . وعرضها الله على الإنسان ، على ذلك الشرط المذكور ، فقبلها ، وحملها مع ظلمه وجهله ، وحمل هذا الحمل الثقيل . فانقسم الناس ـ بحسب قيامهم بها وعدمه ـ إلى ثلاثة أقسام : منافقون : قاموا بها ظاهرا لا باطنا ، ومشركون : تركوها ظاهرا وباطنا ، ومؤمنون : قائمون بها ظاهرا وباطنا . ومؤمنون ، قائمون بها ظاهرا وباطنا . فذكر الله تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة ، وما لهم من الثواب والعقاب فقال : " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما " . فله تعالى الحمد ، حيث ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين ، الدالين على تمام مغفرة الله ، وسعة رحمته ، وعموم جوده . مع أن المحكوم عليهم ، كثير منهم ، لم يستحق المغفرة والرحمة ، لنفاقه وشركه .
ومن سورة سبأ آية
قوله تعالى : ? وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ?(سبأ : 37 )(2/355)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم " إلى الله " زلفى " وتدني إليه . وإنما الذي يقرب منه زلفى ، الإيمان بما جاء به المرسلون ، والعمل الصالح الذي هو من لوازم الإيمان ، فإن أولئك ، لهم الجزاء عند الله تعالى مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، لا يعلمها إلا الله . " وهم في الغرفات آمنون " أي : في المنازل العاليات المرتفعات جدا ، ساكنين فيها ، مطمئنين ، آمنين من المكدرات والمنغصات ، لما فيه من اللذات وأنواع المشتهيات ، وآمنين من الخروج منها ، أو الحزن فيها . " والذين يسعون في آياتنا معاجزين " أي : على وجه التعجيز لنا ، ولرسلنا ، والتكذيب . " أولئك في العذاب محضرون " تحضرهم الزبانية فلا يجديهم ما عولوا عليه نفعا . ثم أعاد تعالى أنه " يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " ليرتب عليه قوله : " وما أنفقتم من شيء " نفقة واجبة ، أو مستحبة ، على قريب ، أو جار ، أو مسكين ، أو يتيم ، أو غير ذلك . " فهو " تعالى " يخلفه " فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق ، بل وعد بالخلف للمنفق ، الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " وهو خير الرازقين " فاطلبوا الرزق منه ، واسعوا في الأسباب التي أمركم بها .
ومن سورة فاطر سبع آيات
قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ *? (فاطر : 5 - 6)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/356)
قوله تعالى :" يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير "
يقول تعالى : " يا أيها الناس إن وعد الله "بالبعث ، والجزاء على الأعمال " حق " أي : لا شك فيه ، ولا مرية ، ولا تردد ، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية ، والبراهين العقلية . فإذا كان وعده حقا ، فتهيئوا له وبادروا أوقاتكم الشريفة . بالأعمال الصالحة ، ولا يقطعكم عن ذلك قاطع . " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " بلذاتها وشهواتها ، ومطالبها النفسية ، فتليهكم عما خلقتم له . " ولا يغرنكم بالله الغرور " الذي هو : " الشيطان " وهو " لكم عدو " في الحقيقة " فاتخذوه عدوا " أي : لتكن منكم عداوته ، ولا تهملوا محاربته كل وقت ، فإنه يراكم ، وأنتم لا ترونه ، وهو دائما لكم بالمرصاد . " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " هذا غايته ومقصود ممن تبعه ، أن يهان غاية الإهانة ، بالعذاب الشديد . ثم ذكر أن الناس ، انقسموا بحسب طاعة الشيطان وعدمها ، إلى قسمين ، وذكر جزاء كل منهما فقال : " الذين كفروا " أي : جحدوا ما جاءت به الرسل ، ودلت عليه الكتب " لهم عذاب شديد " في نار جهنم ، شديد في ذاته ، ووصفه ، وأنهم خالدون فيها أبدا . " والذين آمنوا " بقلوبهم ، بما دعا الله إلى الإيمان به " وعملوا " بمقتضى ذلك الإيمان ، بجوارحهم ، الأعمال " الصالحات لهم مغفرة " لذنوبهم ، ويزول بها عنهم الشر والمكروه " وأجر كبير " يحصل به المطلوب .(2/357)
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * ? (فاطر : 15 -18 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/358)
يخاطب تعالى ، جميع الناس ، ويخبرهم بحالهم ووصفهم ، وأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه : فقراء في إيجادهم ، فلولا إيجاده إياهم ، لم يوجدوا . فقراء في إعدادهم ، بالقوى ، والأعضاء ، والجوارح ، التي لولا إعداده إياهم بها ، لما استعدوا لأي عمل كان . فقراء في إمدادهم ، بالأقوات ، والأرزاق والنعم ، الظاهرة والباطنة . فلولا فضله وإحسانه ، وتيسيره الأمور ، لما حصل لهم من الرزق والنعم ، شيء . فقراء في صرف النقم عنهم ، ودفع المكاره ، وإزالة الكروب والشدائد . فلولا دفعه عنهم ، وتفريجه لكرباتهم ، وإزالته لعسرهم ، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد . فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية ، وأجناس التدبير . فقراء إليه ، في تألههم له وحبهم له ، وتعبدهم ، وإخلاص العبادة له تعالى . فلو لم يوفقهم لذلك ، لهلكوا ، وفسدت أرواحهم ، وقلوبهم ، وأحوالهم . فقراء إليه ، في تعليمهم ما لا يعلمون ، وعملهم بما يصلهم . فلولا تعليمه ، لم يتعلموا ، ولولا توفيقه ، لم يصلحوا . فهم فقراء بالذات إليه ، بكل معنى ، وبكل اعتبار ، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر ، أم لم يشعروا . ولكن الموفق منهم ، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه ، ويتضرع له ، ويسأله أن لا يلكه إلى نفسه طرفة عين ، وأن يعينه على جميع أموره ، ويستصحب هذا المعنى فى كل وقت ، فهذا حري بالإعانة التامة من ربه وإلهه ، الذي هو أرحم به من الوالدة بوالدها . " والله هو الغني الحميد " أي : الذي له الغنى التام ، من جميع الوجوه ، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه ، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق ، وذلك لكمال صفاته ، وكونها كلها صفات كمال ، ونعوت جلال . ومن غناه تعالى ، أن قد أغنى الخلق في الدنيا والآخرة . فهو الحميد في ذاته ، وأسمائه ، لأنها حسنى ، وأوصافه ، لكونها عليا ، وأفعاله ، لأنها فضل وإحسان ، وعدل ، وحكمة ، ورحمة . وفي أوامره ونواهيه ،(2/359)
فهو الحميد على ما فيه من الصفات ، وعلى ما منه من الفضل والإنعام ، وعلى الجزاء بالعدل ، وهو الحميد في غناه ، الغني في حمده . " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " يحتمل أن المراد : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ، ويأت بغيركم من الناس ، أطوع لله منكم . ويكون في هذا ، تهديد لهم بالهلاك والإبادة ، وأن مشيئته غير قاصرة عن ذلك . ويحتمل أن المراد بذلك ، إثبات البعث والنشور ، وأن مشيئة الله تعالى ، نافذة في كل شيء ، وفي إعادتكم بعد موتكم ، خلقا جديدا ، ولكن لذلك الوقت أجل ، قدره الله ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر . " وما ذلك على الله بعزيز " أي : بممتنع ، ولا معجز له . ويدل على المعنى الأخير ، ما ذكره بعده في قوله : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي : في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله ، ولا يحمل أحد ذنب أحد . " وإن تدع مثقلة "أي : نفس مثقلة بالخطايا والذنوب " إلى حملها " أي : تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها " لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى " فإنه لا يحمل قريب عن قريب . فليست حال الآخرة ، بمنزلة حال الدنيا ، يساعد الحميم حميمه ، والصديق صديقه . بل يوم القيامة ، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد ، ولو على والديه وأقاربه . " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة " أي : هؤلاء الذين يقبلون النذارة ، وينتفعون بها ، هم أهل الخشية لله بالغيب ، الذين يخشونه في حال السر والعلانية ، والمشهد والمغيب ، وأهل إقامة الصلاة ، بحدودها ، وشروطها ، وأركانها ، وواجباتها ، وخشوعها . لأن الخشية لله تستدعي من العبد ، العمل بما يخشى من تضييعه العقاب والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب . والصلاة تدعو إلى الخير ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر . " ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه " أي : ومن زكى نفسه بالتنقي من العيوب ، كالرياء والكبر ، والكذب والغش ، والمكر والخداع ، والنفاق ، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة ، وتحلى بالأخلاق(2/360)
الجميلة ، من الصدق ، والإخلاص ، والتواضع ، ولين الجانب ، والنصح للعباد ، وسلامة الصدر ، من الحقد والحسد ، وغيرهما من مساوىء الأخلاق ، فإن تزكيته ، يعود نفعها إليه ، ويصل مقصودها إليه ، ليس يضيع من عمله شيء . " وإلى الله المصير " فيجازي الخلائق على ما أسلفوه ، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها .
وقوله تعالى :? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * ? (فاطر : 29 - 30 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" إن الذين يتلون كتاب الله " أي : يتبعونه في أوامره ، فيمتثلونها ، وفي نواهيه ، فيتركونها ، وفي أخباره ، فيصدقونها ويعتقدونها ، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال . ويتلون أيضا ألفاظه ، بدراسته ، ومعانيه ، بتتبعها واستخراجها . ثم خص من التلاوة بعدما عمم ، الصلاة التي هي عماد الدين ، ونور المسلمين ، وميزان الإيمان ، وعلامة صدق الإسلام ، والنفقة على الأقارب والمساكين ، واليتامى ، وغيرهم ، من الزكاة والكفارات ، والنذور ، والصدقات " سرا وعلانية " في جميع الأوقات . " يرجون " بذلك " تجارة لن تبور " أي : لن تكسد وتفسد . بل تجارة ، هي أجل التجارات ، وأعلاها ، وأفضلها ، ألا وهي رضا ربهم ، والفوز بجزيل ثوابه ، والنجاة من سخطه وعقابه . وهذا فيه الإخلاص بأعمالهم ، وأهم لا يرجون بها ، من المقاصد السيئة ، والنيات الفاسدة شيئا . وذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال : " ليوفيهم أجورهم " أي : أجور أعمالهم ، وعلى حسب قلتها ، وكثرتها ، وحسنها ، وعدمه " ويزيدهم من فضله "
زيادة عن أجورهم . " إنه غفور شكور " غفر لهم السيئات ، وقبل منهم القليل من الحسنات .(2/361)
ومن سورة الصافات ثماني آيات
قوله تعالى: ? وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * ? (الصافات : 99 - 106 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وقال إني ذاهب إلى ربي " أي : مهاجر إليه ، قاصد إلى الأرض المباركة ، أرض الشام . " سيهدين " يدلني على ما فيه الخير لي ، من أمر ديني ودنياي . وقال في الآية الأخرى : " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا " ..." رب هب لي " ولدا يكون " من الصالحين " وذلك ، عندما أيس من قومه ، ولم ير فيهم خيرا ، دعا الله أن يهب له غلاما صالحا ، ينفع الله به في حياته ، وبعد مماته . فاستجاب الله له وقال : " فبشرناه بغلام حليم " وهذا إسماعيل عليه السلام بلا شك ، فإنه ذكر بعده البشارة ، وبإسحاق ، لأن الله تعالى قال في بشراه بإسحاق : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " فدل على أن إسحاق غير الذبيح . ووصف الله إسماعيل عليه السلام بالحلم ، وهو يتضمن الصبر ، وحسن الخلق ، وسعة الصدر ، والعفو عمن جنى . " فلما بلغ " الغلام " معه السعي "(2/362)
أي : أدرك أن يسعى معه ، وبلغ سنا يكون في الغالب ، أحب ما يكون لوالديه ، قد ذهبت مشقته ، وأقبلت منفعته . فقال له إبراهيم عليه السلام : " إني أرى في المنام أني أذبحك " أي : قد رأيت في النوم . والرؤيا ، أن الله يأمرني بذبحك ، ورؤيا الأنبياء وحي " فانظر ماذا ترى " فإن أمر الله تعالى ، لا بد من تنفيذه . ( قال ) إسماعيل صابرا محتسبا ، مرضيا لربه ، وبارا بوالده : " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " . أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر ، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى ، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله . " فلما أسلما " أي : إبراهيم وابنه إسماعيل : إبراهيم جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده ، امتثالا لأمر ربه ، وخوفا من عقابه . والابن قد وطن نفسه على الصبر ، وهانت عليه وفي طاعة ربه ، ورضا والده . " وتله للجبين " أي : تل إبراهيم إسماعيل على جبينه ، ليضجعه فيذبحه ، وقد انكب لوجهه ، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه . " وناديناه " في تلك الحال المزعجة ، والأمر المدهش " أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " أي : قد فعلت ما أمرت به ، فإنك وطنت نفسك على ذلك ، وفعلت كل سبب ولم يبقى إلا إمرار السكين على حلقه " إنا كذلك نجزي المحسنين " في عبادتنا ، المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم . " إن هذا " الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام " لهو البلاء المبين " أي : الواضح ، الذي تبين به صفاء إبراهيم ، وكمال محبته لربه ، وخلته . فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه الله لإبراهيم ، أحبه حبا شديدا ، وهو خليل الرحمن ، والخلة أعلى أنواع المحبة ، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب . فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه ، بابنه إسماعيل ، أراد تعالى أن يصفي وده ويختبر خلته . فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه . فلما قدم حب الله ، وآثره على هواه ، وعزم على ذبحه ، وزال ما في القلب من المزاحمة ، بقي الذبح لا فائدة(2/363)
فيه ، فلهذا قال : " إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم " أي : صار بدله ذبح من الغنم عظيم ، ذبحه إبراهيم . فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل . من جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة . " وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم " أي : وأبقينا علينا ثناء صادقا في الآخرين ، كما كان في الأولين . فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلام ، فإنه فيه محبوب معظم مثني عليه . " سلام على إبراهيم " أي : تحية عليه كقوله : " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى "..." إنا كذلك نجزي المحسنين " في عبادة الله ، ومعاملة خلقه ، أن نفرج عنهم الشدائد ، ونجعل لهم العاقبة ، والثناء الحسن . " إنه من عبادنا المؤمنين " بما أمر الله بالإيمان به ، الذي بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين ...
ومن سورة ص ست آيات
قوله تعالى: ? يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ * ? (صـ : 26 - 29 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/364)
" يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية . " فاحكم بين الناس بالحق " أي : العدل . وهذا لا يتمكن منه ، إلا بعلم بالواجب ، وعلم بالواقع ، وقدرة على تنفيذ الحق . " ولا تتبع الهوى " فتميل مع أحد ، لقرابة ، أو صداقة ، أو محبة ، أو بغض للآخر " فيضلك " الهوى " عن سبيل الله " ويخرجك عن الصراط المستقيم . " إن الذين يضلون عن سبيل الله " خصوصا المتعمدين منهم . " لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " " أي : بغفلتهم عن يوم الجزاء " . فلو ذكروه ، ووقع خوفه في قلوبهم ، لم يميلوا مع الهوى الفاتن .
" وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب "(2/365)
يخبر تعالى عن تمام حكمته ، في خلقه السموات والأرض ، وأنه لم يخلقهما باطلا ، أي : عبثا ولعبا ، من غير فائدة ولا مصلحة . " ذلك ظن الذين كفروا " بربرهم ، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله . " فويل للذين كفروا من النار " فإنها التي تأخذ الحق منهم ، وتبلغ منهم كل مبلغ . وإنما خلق الله السموات والأرض بالحق وللحق ، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته ، وسعة سلطانه ، وأنه تعالى وحده المعبود ، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السموات والأرض ، وأن البعث حق ، وسيفصل الله بين أهل الخير والشر . ولا يظن الجاهل بحكمة الله ، أن يسوي الله بينهما في حكمه ، ولهذا قال : " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " هذا غير لائق بحكمتنا وحكمنا . " كتاب أنزلناه إليك مبارك " فيه خير كثير ، وعلم غزير . فيه كل هدى من ضلالة وشفاء من داء ، ونور يستضاء به في الظلمات . وفيه كل حكم يحتاج إليه المكلفون ، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب ، ما كان به أجل كتاب طرق العالم ، منذ أنشأه الله . " ليدبروا آياته " أي : هذه الحكمة من إنزاله ، ليتدبر الناس آياته ، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها . فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه ، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة ، تدرك بركته وخيره . وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن ، وأنه من أفضل الأعمال ، وأن القراءة المشتملة على التدبر ، أفضل من سرعة التلاوة ، التي لا يحصل بها هذا المقصود . " وليذكر أولوا الألباب " أي : أولوا العقول الصحيحة ، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب . فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله ، يحصل له التذكر والانتفاع ، بهذا الكتاب .(2/366)
وقوله تعالى: ? قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ * ? ( ص 86- 88 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" قل ما أسألكم عليه " أي : على دعائي إياكم " من أجر وما أنا من المتكلفين " أدعي أمرا ، ليس لي ، وأقفوا ما ليس لي به علم ، لا أتبع إلا ما يوحى إلي . " إن هو " أي : ما هذا الوحي والقرآن " إلا ذكر للعالمين " به كل ما ينفعهم ، من مصالح دنياهم ، فيكون شرفا ورفعة للعالمين به ، وإقامة حجة على المعاندين . فهذه السورة العظيمة ، مشتملة على الذكر الحكيم ، والنبأ العظيم ، وإقامة الحجج والبراهين ، على من كذب بالقرآن وعارضه ، وكذب من جاء به ، والإخبار عن عباد الله المخلصين ، وجزاء المتقين والطاغين . فلهاذ أقسم في أولها بأنه ذو الذكر ، ووصفه في آخرها ، بأنه ذكر للعالمين . وأكثر التذكير بها ، فيما بين ذلك كقوله : " واذكر عبدنا "..." واذكر عبادنا "..." رحمة من عندنا وذكرى "..." هذا ذكر " . اللهم علمنا منه ما جهلنا ، وذكرنا منه ما نسينا ، نسيان غفلة ، ونسيان ترك . " ولتعلمن نبأه " أي : خبره " بعد حين " وذلك حين يقع عليهم العذاب وتنقطع عنهم الأسباب .
ومن سورة الزمر سبع آيات(2/367)
قوله تعالى:?أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ * قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ*قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ*وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ*? (الزمر 9 - 12 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى " أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب "
هذه مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره ، وبين العالم والجاهل ، وأن هذا من الأمور التي تقرر في العقول تبيانها ، وعلم علما يقينا تفاوتها . فليس المعرض عن طاعة ربه ، المتبع لهواه ، كمن هو قانت أي : مطيع لله ، بأفضل العبادات ، وهو الصلاة ، وأفضل الأوقات ، وهي أوقات الليل . فوضعه بكثرة العمل وأفضله ، ثم وصفه بالخوف والرجاء . وذكر أن متعلق الخوف ، عذاب الآخرة ، على ما سلف من الذنوب وأن متعلق الرجاء ، رحمة الله ، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن .(2/368)
" قل هل يستوي الذين يعلمون " ربهم ويعلمون دينه الشرعي ، ودينه الجزائي ، وما له في ذلك من الأسرار ، والحكم " والذين لا يعلمون " شيئا من ذلك ؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء ، كما لا يستوي الليل والنهار ، والضياء والظلام ، والماء والنار . " إنما يتذكر " إذا ذكروا " أولوا الألباب " أي : أهل العقول الزكية الذكية . فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى ، فيؤثرون العلم على الجهل ، وطاعة الله على مخالفته؛ لأن لهم عقولا ، ترشدهم للنظر في العواقب . بخلاف من لا لب له ولا عقل ، فإنه يتخذ إلهه هواه .
" قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب "(2/369)
أي : قل منديا لأشرف الخلق ، وهم المؤمنون ، آمرا لهم بأفضل الأوامر ، وهي : التقوى ، ذاكرا لهم السبب الموجب للتقوى ، وهو ربوبية الله لهم وإنعامه عليهم المقتضي ذلك منهم أن يتقوه ، ومن ذلك ما من الله عليهم به من الإيمان فإنه موجب للتقوى . كما يقول : أيها الكريم تصدق ، وأيها الشجاع ، قاتل . وذكر لهم الثواب المنشط في الدنيا فقال : " للذين أحسنوا في هذه الدنيا " بعبادة ربهم " حسنة " ولهم رزق واسع ، ونفس مطمئنة ، وقلب منشرح . كما قال تعالى : " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة "..." وأرض الله واسعة " إذا منعتم من عبادته في أرض ، فهاجروا إلى غيرها ، تعبدون فيها ربكم ، وتتمكنون من إقامة دينكم . ولما قال : " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " كان لبعض النفوس مجال في هذا الموضع ، وهو أن النص عام ، أنه كل من أحسن ، فله في الدنيا حسنة ، فما بال من آمن في أرض يضطهد فيها ويمتهن ، لا يحصل له ذلك؛ فدفع هذا الظن بقوله : " وأرض الله واسعة " وهنا بشارة ، نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " . تشير إليه هذه الآية ، وترمي إليه من قريب ، وهو أنه تعالى ، أخبر أن أرضه واسعة . فمهما منعتم من عبادته في موضع ، فهاجروا إلى غيرها . وهذا عام في كل زمان ومكان ، فلا بد أن يكون لكل مهاجر ، ملجأ من المسلمين يلجأ إليه ، وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه . " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " وهذا عام في جميع أنواع الصبر : الصبر على أقدار الله المؤلمة ، فلا يتسخطها . والصبر عن معاصيه ، فلا يرتكبها ، والصبر على طاعته ، حتى يؤديها . فوعد الله الصابرين أجرهم بغير حساب ، أي : بغير حد ، ولا عد ، ولا مقدار . وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند الله ، وأنه معين على كل الأمور .(2/370)
"قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين" أي : " قل " يا أيها الرسول للناس : " إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين " في قوله في أول السورة : " فاعبد الله مخلصا له الدين "..." وأمرت لأن أكون أول المسلمين "
لأني الداعي الهادي للخلق ، إلى ربهم ، فيقتضي أني أول من ائتمر بما أمر به ، وأول من أسلم ، وهذا الأمر لا بد من إيقاعه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وممن زعم أنه من أتباعه . فلا بد من الإسلام في الأعمال الظاهرة ، والإخلاص لله في الأعمال الظاهرة والباطنة .
وقوله تعالى : ? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? (الزمر : 23 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/371)
يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه " أحسن الحديث " على الإطلاق . فأحسن الحديث كلام الله ، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن . وإذا كان هو الأحسن ، علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ ، وأوضحها ، وأن معانيه ، أجل المعاني؛ لأنه أحسن الحديث ، في لفظه ومعناه ، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف ، بوجه من الوجوه . حتى إنه كلما تدبره المتدبر ، وتفكر فيه المتفكر ، رأى من اتفاقه ، حتى في معانيه الغامضة ، ما يبهر الناظرين ، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم ، هذا هو المراد بالتشابه في هذا الموضع . وأما في قوله تعالى : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " فالمراد بها ، التي تشتبه على فهوم كثير من الناس ، ولا يزول هذا الاشتباه ، إلا بردها إلى المحكم ، ولهذا قال : " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " فجعل التشابه لبعضه . وهنا جعله كله متشابها ، أي : في حسنه ، لأنه قال : " أحسن الحديث " وهو سوَر وآيات ، والجميع يشبه بعضه بعضا ، كما ذكرنا .(2/372)
" مثاني " أي : تثنى في القصص والأحكام ، والوعد والوعيد ، وصفات أهل الخير ، وصفات أهل الشر ، وتثنى فيه أسماء الله وصفاته . وهذا من جلالته ، وحسنه ، فإنه تعالى ، لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب ، المكملة للأخلاق ، وأن تلك المعاني للقلوب ، بمنزلة الماء لسقي الأشجار . فكما أن الأشجاء كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت ، بل ربما تلفت ، وكلما تكرر سقيها حسنت ، وأثمرت أنواع الثمار النافعة . فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلام الله تعالى عليه ، وأنه لو تكرر عليه المعنى مدة واحدة في جميع القرآن ، لم يقع منه موقعا ، ولم تحصل النتيجة منه . ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم ، اقتداء بما هو تفسير له . فلا تجد فيه الحوالة على موضع من المواضع . بل كل موضع تجد تفسيره ، كامل المعنى ، غير مراع لما مضى ، مما يشبهه . وإن كان بعض المواضع ، يكون أبسط من بعض ، وأكثر فائدة ، وهكذا ينبغي لقارىء القرآن ، المتدبر لمعانيه ، أن لا يدع التدبر في جميع المواضع منه . فإنه يحصل له بسبب ذلك ، خير كثير ، ونفع غزير . ولما كان القرآن العظيم بهذه الجلالة والعظمة ، أثر في قلوب أولي الألباب المهتدين فلهذا قال تعالى : " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " لما فيه من التخويف والترهيب المزعج . " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " أي : عند ذكر الرجاء والترغيب . فهو تارة يرغب لعمل الخير ، وتارة يرهبهم من عمل الشر . " ذلك " الذي ذكره الله من تأثير القرآن فيهم . " هدى الله " أي : هداية منه لعباده ، وهو من جملة فضله وإحسانه عليهم . " يهدي به " أي : القرآن الذي وصفناه لكم . " هدى الله " الذي لا طريق يوصل إلى الله إلا منه " يهدي به من يشاء من عباده " ممن حسن قصده ، كما قال تعالى : " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام "" ومن يضلل الله فما له من هاد " لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه(2/373)
والتوفيق بالإقبال على كتابه . فإذا لم يحصل هذا ، فلا سبيل إلى الهدى ، وما هو إلا الضلال المبين والشقاء المهين ...
وقوله تعالى : ? قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ *? (الزمر : 53 - 55 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/374)
يخبر تعالى عباده المسرفين " أي : المكثرين من الذنوب " بسعة كرمه ويحثهم على الإنابة ، قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال : " قل " يا أيها الرسول ومن قام مقامه ، من الدعاة لدين الله ، مخبرا للعباد عن ربهم : " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب ، والسعي في مساخط علام الغيوب . " لا تقنطوا من رحمة الله " أي : لا تيأسوا منها ، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا ، وتراكمت عيوبنا ، فليس لها طريق يزيلها ، ولا سبيل يصرفها ، فتبقون بسبب ذلك ، مصرين على العصيان ، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن ، ولكن اعرفوا ربكم ، بأسمائه الدالة على كرمه وجوده . واعلموا " إن الله يغفر الذنوب جميعا " من الشرك ، والقتل ، والزنا ، والربا ، والظلم ، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار . " إنه هو الغفور الرحيم " أي : وصفه المغفرة والرحمة ، وصفان لازمان ، ذاتيان ، لا تنفك ذاته عنهما ، ولم تزل آثارهما ، سارية في الوجود ، مالئة للموجود . تسح يداه من الخيرات ، آناء الليل والنهار ، ويوالي النعم والفواضل على العباد في السر والجهار ، والعطاء أحب إليه من المنع ، والرحمة سبقت الغضب وغلبته . ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب ، إن لم يأت بها العبد ، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة ، أعظمها وأجلها ، بل لا سبب لها غيره ، الإنابة إلى الله تعالى بالتوبة النصوح ، والدعاء ، والتضرع ، والتأله ، والتعبد . فهلم إلى هذا السبب الأجل ، والطريق الأعظم . ولهذا أمر تعالى بالإنابة إليه ، والمبادرة إليها فقال : " وأنيبوا إلى ربكم " بقلوبكم " وأسلموا له " بجوارحكم . إذا أفردت الإنابة ، دخلت فيها أعمال الجوارح ، وإذا جمع بينهما ، كما في هذا الموضع ، كان المعنى ما ذكرنا . وفي قوله : " إلى ربكم وأسلموا له " دليل على الإخلاص ، وأنه من دون إخلاص ، لا تفيد الأعمال الظاهرة والباطنة ، شيئا . "(2/375)
من قبل أن يأتيكم العذاب " مجيئا لا يدفع " ثم لا تنصرون " . فكأنه قيل : ما هي الإنابة والإسلام ؟ وما جزئياتهما وأعمالهما ؟ فأجاب تعالى بقوله : " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " مما أمركم من الأعمال الباطنة ، كمحبة الله ، وخشيته ، وخوفه ، ورجائه ، والنصح لعباده ، ومحبة الخير لهم ، وترك ما يضاد ذلك . ومن الأعمال الظاهرة ، كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصدقة ، وأنواع الإحسان ، ونحو ذلك ، مما أمر الله به ، وهو : أحسن ما أنزل إلينا من ربنا . فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها ، هو المنيب المسلم . " من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " ، وكل هذا حث على المبادرة ، وانتهاز الفرصة
ومن سورة المؤمن آيتان
قوله تعالى : ? يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * ? (غافر : 39 - 40 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع " يتمتع بها ويتنعم قليلا ، ثم تنقطع وتضمحل . فلا تغرنكم وتخدعنكم عما خلقتم له " وإن الآخرة هي دار القرار " التي هي محل الإقامة ، ومنزل السكون والاستقرار ، فينبغي لكم أن تؤثروها ، وتعملوا لها عملا يسعدكم فيها . " من عمل سيئة " من شرك أو فسوق أو عصيان " فلا يجزى إلا مثلها " أي : لا يجازي إلا بما يسوؤه ويحزنه ، بقدر إساءته ، وما تستحقه؛ لأن جزاء السيئة السوء . " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى " من أعمال القلوب والجوارح ، وأقوال اللسان " وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " أي : يعطون أجرهم بلا حد ولا وعد ، بل يعطيهم الله ما لا تبلغه أعمالهم .(2/376)
ومن سورة حم السجدة أربع آيات
قوله تعالى : ? وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ? (فصلت : 33 - 36 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/377)
" ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي : لا أحد أحسن قولا . أي : كلاما وطريقة ، وحالة " ممن دعا إلى الله " بتعليم الجاهلين ، ووعظ الغافلين والمعرضين ، ومجادلة المبطلين ، بالأمر بعبادة الله ، بجميع أنواعها ، والحث عليها ، وتحسينها مهما أمكن ، والزجر عما نهى الله عنه ، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه . خصوصا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه ، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن ، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . ومن الدعوة إلى الله ، تحبيبه إلى عباده ، بذكر تفاصيل نعمه ، وسعة جوده ، وكمال رحمته ، وذكر أوصاف كماله ، ونعوت جلاله . ومن الدعوة إلى الله ، التغريب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله ، وسنه رسوله ، والحث على ذلك ، الحث على مكارم الأخلاق ، والإحسان إلى عموم الخلق ، ومقابلة المسيء بالإحسان ، والأمر بصلة الأرحام ، وبر الوالدين . ومن ذلك ، الوعظ لعموم الناس ، في أوقات المواسم ، والعوارض ، والمصائب ، بما يناسب ذلك الحال ، إلى غير ذلك ، مما لا تنحصر أفراده ، بما تشمله الدعوة إلى الخير كله ، والترهيب من جميع الشر . ثم قال تعالى : " وعمل صالحا " أي : مع دعوته الخلق إلى الله ، بادر هو بنفسه ، إلى امتثال أمر الله ، بالعمل الصالح ، الذي يرضي ربه . " وقال إنني من المسلمين " أي : المنقادين لأمره ، السالكين في طريقه . وهذه المرتبة ، تمامها للصديقين ، الذين عملوا على تكميل أنفسهم ، وتكميل غيرهم ، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل . كما أن من شر الناس قولا ، من كان من دعاة الضلال السالكين لسبله . وبين هاتين المرتبتين المتباينتين ، اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين ، ونزلت الأخرى ، إلى أسفل سافلين ، مراتب ، لا يعلمها إلا الله ، وكلها معمورة بالخلق " ولكل درجات مما عملوا وما ربك(2/378)
بغافل عما يعملون "
" ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم "
يقول تعالى : " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة " أي : لا يستوي فعل الحسنات والطاعات ، لأجل رضا الله تعالى ، وفعل السيئات والمعاصي ، التي تسخطه ولا ترضيه . ولا يستوي الإحسان إلى الخلق ، ولا الإساءة إليهم ، لا في ذاتها ، ولا في وصفها ، ولا في جزائها " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " . ثم أمر بإحسان خاص ، له موقع كبير ، وهو : الإحسان إلى من أساء إليك فقال " ادفع بالتي هي أحسن " أي : فإذا أساء إليك مسيء من الخلق ، خصوصا من له حق كبير عليك ، كالأقارب ، والأصحاب ، ونحوهم ، إساءة بالقول أو بالفعل ، فقابله بالإحسان إليه . فإن قطعك فصله ، وإن ظلمك فاعف عنه ، وإن تكلم فيك ، غائبا أو حاضرا ، فلا تقابله ، بل اعف عنه ، وعامله بالقول اللين . وإن هجرك ، وترك خطابك ، فطيب له الكلام ، وابذل له السلام . فإذا قابلت الإساءة بالإحسان ، حصل فائدة عظيمة . " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " أي : كأنه قريب شفيق . " وما يلقاها " أي : وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة " إلا الذين صبروا " نفوسهم على ما تكره ، وأجبروها على ما يحبه الله . فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه ، فكيف بالإحسان ؟ فإذا صبر الإنسان نفسه ، وامتثل أمر ربه ، وعرف جزيل الثواب وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله ، لا تفيده شيئا ، ولا تزيد العداوة إلا شدة ، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره ، بل من تواضع لله رفعه ، هان عليه الأمر ، وفعل ذلك متلذذا مستحليا له . " وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " لكونها من خصال خواص الخلق ، التي ينال بها العبد ، الرفعة في الدنيا والآخرة ، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق .(2/379)
" وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم "
لما ذكر تعالى ما يقابل به العدو من الإنس ، وهو مقابلة إساءته بالإحسان ، ذكر ما يدفع به العدو الجني ، وهو الاستعاذة بالله ، والاحتماء من شره فقال : " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ " أي : أي وقت من الأوقات ، أحسست بشيء من نزغات الشيطان ، أي : من وساوسه ، وتزيينه للشر ، وتكسيله عن الخير ، وإصابة ببعض الذنوب ، وإطاعة له ببعض ما يأمر به " فاستعذ بالله " أي : أسأله ، مفتقرا إليه ، أن يعيذك ويعصك منه . " إنه هو السميع العليم " فإنه يسمع قولك وتضرعك ، ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته ...
ومن سورة حمعسق تسع آيات
قوله تعالى: ? مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ? (الشورى : 20 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب "(2/380)
يخبر تعالى أنه " لطيف بعباده " ليعرفوه ويحبوه ، ويتعرضوا للطفه وكرمه . واللطف من أوصافه تعالى ، معناه : الذي يدرك الضمائر والسرائر ، الذي يوصل عباده ـ وخصوصا المؤمنين ـ إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون . فمن لطفه بعبده المؤمن ، أن هداه إلى الخير ، هداية لا تخطر بباله ، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك ، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيعازه تعالى لملائكته الكرام ، أن يثبتوا عباده المؤمنين ، ويحثوهم على الخير ، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ، ما يكون داعيا لاتباعه . ومن لطفه أن أمر المؤمنين ، بالعبادات الاجتماعية ، التي بها تقوى عزائمهم ، وتنبعث هممهم ، ويحصل منهم التنافس على الخير ، والرغبة فيه ، واقتداء بعضهم ببعض . ومن لطفه ، أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي . حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها ، مما يتنافس فيه أهل الدنيا ، تقطع عبده عن طاعته ، أو تحمله على الغفلة عنه ، أو على معصيته ، صرفها عنه ، وقدر عليه رزقه ، ولهذا قال هنا : " يرزق من يشاء " بحسب اقتضاء حكمته ولطفه " وهو القوي العزيز " الذي له القوة كلها ، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين ، إلا به ، الذي دانت له جميع الأشياء . ثم قال تعالى : " من كان يريد حرث الآخرة " أي : أجرها وثوابها ، فآمن بها وصدق ، وسعى لها سعيها " نزد له في حرثه " بأن نضاعف عمله وجزاءه ، أضعافا كثيرة . كما قال تعالى : " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا " ومع ذلك ، فنصيبه من الدنيا ، لا بد أن يأتيه . " ومن كان يريد حرث الدنيا " بأن : كانت الدنيا ، هي مقصوده ، وغاية مطلوبه ، فلم يقدم لآخرته ، ولا رجا ثوابها ، ولم يخش عقابها . " نؤته منها " نصيبه الذي قسم له . " وما له في الآخرة من نصيب " قد حرم الجنة ونعيمها ، واستحق النار وجحيمها . وهذه الآية ،(2/381)
شبيهة بقوله تعالى : " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون "
وقوله تعالى : ? َهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ *? (الشورى : 25 - 27 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد "(2/382)
هذا بيان لكمال كرم الله تعالى ، وسعة جوده ، وتمام لطفه ، إذ " يقبل التوبة " الصادرة " عن عباده " حين يقلعون عن ذنوبهم ، ويندمون عليها ، ويعزمون على أن لا يعاودوها ، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم ، فإن الله يقبلها ، بعدما انعقدت سببا للهلاك ، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية . " ويعفو عن السيئات " ويمحوها ، ويمحو أثرها من العيوب ، وما اقتضته من العقوبات . ويعود التائب عنده كريما ، كأنه ما عمل سوءا قط ، ويحبه ، ويوفقه لما يقربه إليه . ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة ، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها ، وقد تكون ناقصة عند نقصهما ، وقد تكون فاسدة ، إذا كان القصد منها ، بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية ، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله ، ختم هذه الآية بقوله : " ويعلم ما تفعلون " . فالله تعالى ، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه ، والتوبة من التقصير ، فانقسموا ـ بحسب الاستجابة له ـ إلى قسمين : مستجيبين وصفهم بقوله : " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي : يستجيبون لربهم ، لما دعاهم إليه وينقادون له ، ويلبون دعوته ، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح ، يحملهم على ذلك . فإذا استجابوا له ، شكر الله لهم ، وهو الغفور الشكور . " ويزيدهم من فضله " توفيقا ونشاطا على العمل ، وزادهم مضاعفة في الأجر ، زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم . وأما غير المستجيبين لله ( و ) هم المعاندون " الكافرون " به وبرسله ، فإنهم " لهم عذاب شديد " في الدنيا والآخرة . ثم ذكر أن من لطفه بعباده ، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة ، تضر بأديانهم فقال : " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " أي : لغفلوا عن طاعة الله ، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا ، فأوجبت لهم الانكباب على ما تشتهيه نفوسهم ، ولو كان معصية وظلما . " ولكن ينزل بقدر ما يشاء " بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته "(2/383)
إنه بعباده خبير بصير " كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول : " إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أمرضته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني خبير بصير " . " وهو الذي ينزل الغيث " أي : المطر الغزير الذي به يغيث البلاد والعباد . " من بعد ما قنطوا " وانقطع عنهم مدة ، وظنوا أنه لا يأتيهم ، وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعمالا ، فينزل الله الغيث " وينشر " به " رحمته " من إخراج الأقوات للآدميين ، وبهائمهم ، فيقع عندهم موقعا عظيما ، ويستبشرون بذلك ويفرحون . " وهو الولي " الذي يتولى عباده ، بأنواع التدبير ، ويتولي القيام بمصالح دينهم ودنياهم . " الحميد " في ولايته وتدبيره ، الحميد على ما له من الكمال ، وما أوصله إلى خلقه ، من أنواع الأفضال .
وقوله تعالى : ? فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ? (الشورى : 36 - 40 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/384)
قوله تعالى :" فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون "
هذا تزهيد في الدنيا ، وترغيب في الآخرة ، وذكر الأعمال الموصلة إليها فقال : " فما أوتيتم من شيء " من ملك ورياسة ، وأموال ، وبنين ، وصحة ، وعافية بدنية . " فمتاع الحياة الدنيا " لذة منغصة منقطعة . " وما عند الله " من الثواب الجزيل ، والأجر الجليل ، والنعيم المقيم " خير " من لذات الدنيا ، خيرية لا نسبة بينهما " وأبقى " لأنه نعيم لا مغص فيه ولا كدر ، ولا انتقال . ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال : " للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " أي : جمعوا بين الإيمان الصحيح ، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة وبين التوكل ، الذي هو الآلة لكل عمل . فكل عمل لا يصحبه التوكل ، فغير تام ، وهو " أي : التوكل " الاعتماد بالقلب على الله . في جلب ما يحبه العبد ، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى . " والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " والفرق بين الكبائر والفواحش ـ مع أن جميعهما كبائر ـ أن الفواحش هي : الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ، كالزنا ونحوه ، والكبائر ، ما ليس كذلك ، هذا عند الاقتران . وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر يدخل فيه .(2/385)
" وإذا ما غضبوا هم يغفرون " أي : قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، فصار الحلم لهم سجية ، وحسن الخلق لهم ، طبيعة . حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله ، أو فعاله ، كظموا ذلك الغضب ، فلم ينفذوه ، بل غفروه ، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح . فترتب على هذا العفو والصفح ، من المصالح ، ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم ، شيء كثير ، كما قال تعالى : " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم "(2/386)
" والذين استجابوا لربهم " أي : انقادوا لطاعته ، ولبوا دعوته ، وصار قصدهم رضوانه ، وغايتهم الفوز بقربه . ومن الاستجابة لله ، إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . فلذلك عطفها على ذلك ، من باب عطف العام على الخاص ، الدال على شرفه وفضله فقال : " وأقاموا الصلاة " أي : ظاهرها وباطنها ، فرضها ونفلها . " ومما رزقناهم ينفقون " من النفقات الواجبة ، كالزكاة ، والنفقة على الأقارب ونحوهم ، والمستحبة ، كالصدقات على عموم الخلق . " وأمرهم " الديني والدنيوي " شورى بينهم " أي : لا يستبد أحد منهم برأيه ، في أمر من الأمور المشتركة بينهم ، وهذا لا يكون إلا فرعا عن إجتماعهم ، وتوالفهم ، وتواددهم ، وتحاببهم . فمن كمال عقولهم ، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور ، التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ، اجتمعوا لها ، وتشاوروا ، وبحثوا فيها ، حتى إذا تبينت لهم المصلحة ، انتهزوها وبادروها . وذلك كالرأي في الغزو ، والجهاد ، وتولية الموظفين لإمارة ، أو قضاء ، أو غيرهما . وكالبحث في المسائل الدينية عموما ، فإنها من الأمور المشتركة ، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله ، وهو داخل في هذه الآية . " والذين إذا أصابهم البغي " أي : وصل إليهم من أعدائهم " هم ينتصرون " لقوتهم وعزتهم ، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار . فوصفهم بالإيمان ، والتوكل على الله ، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر ، والانقياد التام ، والاستجابة لربهم ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في وجوه الإحسان ، والمشاورة في أمورهم ، والقوة والانتصار على أعدائهم . فهذه خصال الكمال قد جمعوها ، ويلزم من قيامها فيهم ، فعل ما هو دونها ، وانتفاء ضدها .
" وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين "(2/387)
ذكر الله في هذه الآيات ، مراتب العقوبات ، وأنها على ثلاث مراتب : عدل ، وفضل ، وظلم . فمرتبة العدل : جزاء السيئة بسيئة مثلها ، لا زيادة ولا نقص . فالنفس بالنفس ، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها ، والمال يضمن بمثله . ومرتبة الفضل : العفو والإصلاح عن المسيء ، ولهذا قال : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " يجزيه أجرا عظيما ، وثوابا كثيرا . وشرط الله في العفو الإصلاح فيه ، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه ، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته ، فإنه في ـ هذه الحال ـ لا يكون مأمورا به . وفي جعل أجر العافي على الله ، ما يهيج على العفو ، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به . فكما يحب أن يعفو الله عنه ، فليعف عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله ، فليسامحهم ، فإن الجزاء من جنس العمل . وأما مرتبة الظلم : فقد ذكرها بقوله : " إنه لا يحب الظالمين " الذين يجنون على غيرهم ابتداء ، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته ، فالزيادة ظلم .
ومن سورة الزخرف خمس آيات
قوله تعالى: ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * ? (الزخرف : 32-36 )(2/388)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :"وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون "
" وقالوا " مقترحين على الله بعقولهم الفاسدة : " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " أي : معظم عندهم ، مبجل من أهل مكة ، وأهل الطائف ، كالوليد بن المغيرة ، ونحوه ، ممن هو عندهم عظيم . قال الله ردا لاقتراحهم : " أهم يقسمون رحمة ربك " أي : أهم الخزان لرحمة الله ، وبيدهم تدبيرها ، فيعطون النبوة والرسالة من يشاؤون ، ويمنعونها ممن يشاؤون ؟ " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " أي : في الحياة الدنيا ، ( و ) الحال أن " ورحمة ربك خير مما يجمعون " من الدنيا . فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى ، وهو الذي يقسمها بين عباده ، فيبسط الرزق على من يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، بحسب حكمته ، فرحمته الدينية ، التي أعلاها النبوة والرسالة ، وأحرى أن تكون بيد الله تعالى ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته . فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ ، وأن التدبير للأمور كلها ، دينيها ودنيويها ، بيد الله وحده . هذا إقناع لهم ، من جهة غلطهم في الاقتراح ، الذي ليس في أيديهم منه شيء ، إن هو إلا ظلم منهم ، ورد للحق . وقولهم : " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " لولا عرفوا حقائق الرجال ، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل ، وعظم منزلته عند الله وعند خلقه ، لعلموا أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم ، هو أعظم الرجال قدرا ، وأعلاهم فخرا ، وأكملهم عقلا ، وأغزرهم علما ، وأجلهم رأيا ، وغزما ، وحزما وأكملهم خلقا ، وأوسعهم رحمة ، وأشدهم شفقة ، وأهداهم وأتقاهم . وهو قطب دائرة الكمال ، وإليه المنتهى في(2/389)
أوصاف الرجال ، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق . يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه ، إلا من ضل وكابر . فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثال ذرة من كماله ؟ ومن جرمه ومنتهى حمقه ، أن جعل إلهه الذي يعبده ، ويدعوه ، ويتقرب إليه ، صنما ، أو شجرا ، أو حجرا ، لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، وهو كل على مولاه ، يحتاج لمن يقوم بمصالحه . فهل هذا ، إلا من فعل السفهاء والمجانين ؟ فكيف يجعل مثل هذا عظيما ؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ولكن الذي كفروا لا يعقلون . وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى ، في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " أي : ليسخر بعضهم بعضا ، في الأعمال والحرف ، والصنائع . فلو تساوى الناس في الغنى ، ولم يحتج بعضهم إلى بعض ، لتعطل كثير من مصالحهم ومافعهم . وفيها دليل على أن نعمته الدينية ، خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى : " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون "
" ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين "(2/390)
يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوي عنده شيئا ، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده ، التي لا يقدم عليها شيئا ، لوسع الدنيا على الذين كفروا ، توسيعا عظيما ، ولجعل : " لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج " أي : درجا من فضة . " عليها يظهرون " إلى سطوحهم . " ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون " من فضة ، ولجعل لهم زخرفا ، أي : لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف ، وأعطاهم ما يشتهون . ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي ، بسبب حب الدنيا ، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم . وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا ، منغصة ، مكدرة ، فانية ، وأن الآخرة عند الله تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه . لأن نعيمها تام كامل من كل وجه ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون . فما أشد الفرق بين الدارين
" ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون "
يخبر تعالى عن عقوبته البليغة ، لمن أعرض عن ذكره فقال : " ومن يعش " أي : يعرض ويصد " عن ذكر الرحمن "
الذي هو القرآن العظيم ، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده . فمن قبلها ، فقد قبل خير المواهب ، وفاز بأعظم المطالب والرغائب . ومن أعرض عنها وردها ، فقد خاب وخسر خسارة ، لا يسعد بعدها أبدا ، وقيض له الرحمن شيطانا مريدا ، يقارنه ، ويصاحبه ، ويعده ، ويمنيه ، ويؤزه إلى المعاصي أزا . " وإنهم ليصدونهم عن السبيل "(2/391)
أي : الصراط المستقيم ، والدين القويم . " ويحسبون أنهم مهتدون " بسبب تزيين الشيطان للباطل ، وتحسينه له ، وإعراضهم عن الحق ، فاجتمع هذا وهذا . فإن قيل : فهل لهذا من عذر ، من حيث إنه ظن أنه مهتد ، وليس كذلك ؟ قيل : لا عذر لهذا وأمثاله ، الذين مصدر جهلهم ، الإعراض عن ذكر الله ، مع تمكنهم من الاهتداء . فزهدوا في الهدى ، مع القدرة عليه ، ورغبوا في الباطل ، فالذنب ذنبهم ، والجرم جرمهم . فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر الله في الدنيا ، مع قرينه ، وهي الضلال والغي ، وانقلاب الحقائق . وأما حاله ، إذا جاء ربه في الآخرة ، فهو شر الأحوال ، وهو : الندم والتحسر ، والحزن الذي لا يجبر مصابه ، والتبري من قرينه ، ولهذا قال تعالى : " حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " . كما في قوله تعالى : " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا "
. وقوله تعالى : " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون " أي : ولا ينفعكم يوم القيامة ، اشتراككم في العذاب ، أنتم وقرناؤكم ، وأخلاؤكم . وذلك لأنكم اشتركتم في الظلم ، فاشتركتم في عقابه وعذابه . ولن ينفعكم أيضا ، روح التسلي في المصيبة فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا ، واشترك فيها المعاقبون ، هان عليهم بعض الهون ، وتسلى بعضهم ببعض . وأما مصيبة الآخرة ، فإنها جمعت كل عقاب ، ما فيه أدنى راحة ، حتى ولا هذه الراحة . نسألك يا ربنا العافية ، وأن تريحنا برحمتك....
ومن سورة الجاثية ست آيات(2/392)
قوله تعالى : ? أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * ? (الجاثية : 21 - 23 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " أي : أم حسب المسيؤون ، المكثرون من الذنوب ، المقصرون في حقوق ربهم . " أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " بأن قاموا بحقوق ربهم ، واجتنبوا مساخطه ، ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم ؟ أي : أحسبوا أن يكونوا " سواء " في الدنيا والآخرة ؟ ساء ما ظنوا وحسبوا ، وساء ما حكموا به فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين ، وخير العادلين ، ويناقض العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، ويضاد ما نزلت به الكتب ، وأخبرت به الرسل . بل الحكم الواقع القطعي ، أن المؤمنين العاملين الصالحات ، لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب ، في العاجل والآجل ، كل على قدر إحسانه ، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة ، والعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة .
" وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون " أي : خلق الله السماوات والأرض بالحكمة ، وليعبد وحده لا شريك له . ثم يحاسب بعد ذلك من أمرهم بعبادته ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة هل شكروا الله تعالى ، وقاموا بالمأمور ؟ أم كفروا ، فاستحقوا جزاء الكفور ؟(2/393)
" أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون "
يقول تعالى : " أفرأيت " الرجل الضال الذي " اتخذ إلهه هواه " فما هواه سلكه ، سواء كان يرضي الله ، أم يسخطه .
" وأضله الله على علم " من الله ، أنه لا تليق به الهداية ، ولا يزكو عليها . " وختم على سمعه " فلا يسمع ما ينفعه
" وقلبه " فلا يعي الخير " وجعل على بصره غشاوة " تمنعه من نظر الحق " فمن يهديه من بعد الله " ، أي : لا أحد يهديه وقد سد الله عليه أبواب الهداية ، وفتح له أبواب الغواية . وما ظلمه الله ، ولكن هو الذي ظلم نفسه ، وتسبب لمنع رحمة الله عليه " أفلا تذكرون " ما ينفعكم فتسلكوه ، وما يضركم فتجتنبوه .
وقوله تعالى : ? وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ *? (الجاثية : 33 - 35 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وبدا لهم سيئات ما عملوا " ، أي : وظهر لهم يوم القيامة عقوبات أعمالهم . " وحاق بهم " ، أي : نزل " ما كانوا به يستهزؤون " ، أي : نزل بهم العذاب ، الذي كانوا في الدنيا ، يستهزؤون بوقوعه ، وبمن جاء به .(2/394)
" وقيل اليوم ننساكم " ، أي : نترككم في العذاب " كما نسيتم لقاء يومكم هذا " ، فإن الجزاء من جنس العمل " ومأواكم النار " ، أي : هي مقركم ومصيركم . " وما لكم من ناصرين " ينصرونكم من عذاب الله ، ويدفعون عنكم عقابه . " ذلكم " الذي حصل لكم من العذاب ( ب ـ ) سبب " بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا " مع أنها موجبة للجد والاجتهاد ، وتلقيها بالسرور والاستبشار والفرح . " وغرتكم الحياة الدنيا " بزخارفها ولذاتها وشهواتها ، فاطمأنتم إليها ، وعملتم لها ، وتركتم العمل للدار الباقية . " فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون " ، أي : ولا يمهلون ، ولا يردون إلى الدنيا ليعملوا صالحا . " فلله الحمد " كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه " رب السماوات ورب الأرض رب العالمين " ، أي : له الحمد على ربوبيته لسائر الخلق ، حيث خلقهم ورباهم ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة . " وله الكبرياء في السماوات والأرض " ، أي : له الجلال والعظمة والمجد . فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال ، ومحبته تعالى وإكرامه ، والكبرياء فيها عظمته وجلاله ، والعبادة مبنية على ركنين ، محبة الله ، والذل له ، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه . " وهو العزيز " القاهر لكل شيء ، " الحكيم " الذي يضع الأشياء مواضعها ، فلا يشرع ما يشرعه إلا لحكمة ومصلحة ، ولا يخلق ما يخلقه إلا لفائدة ومنفعة .
ومن سورة الأحقاف ثلاث آيات
قوله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ? (الأحقاف : 13 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : إن الذين أقروا بربهم ، وشهدوا له بالوحدانية ، والتزموا طاعته وداموا على ذلك " ثم استقاموا " مدة حياتهم " فلا خوف عليهم " من كل شر أمامهم " ولا هم يحزنون " على ما خلفوا وراءهم .(2/395)
وقوله تعالى : ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ? (الأحقاف : 35 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أمر تعالى رسوله ، أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له ، وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله ، وأن يقتدى بصبر أولي العزم من المرسلين ، سادات الخلق ، أولي العزائم والهمم العالية ، الذي عظم صبرهم ، وتم يقينهم ، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم ، والقفو لآثارهم ، والاهتداء بمنارهم . فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه ، فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله ، حتى رماه المعادون له عن قوس واحدة . قاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى الله ، وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة . وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر الله ، ومقيما على جهاد أعداء الله ، صابرا على ما يناله من الأذى ، حتى مكن الله له في الأرض ، وأظهر دينه على سائر الأديان ، وأمته على سائر الأمم ، فصلى الله عليه وسلم تسليما . وقوله : " ولا تستعجل لهم " ، أي : المكذبين المستعجلين للعذاب ، فإن هذا من جهلهم وحمقهم ، فلا يستخفنك جهلهم ولا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو الله عليهم بذلك ، فإن كل ما هو آت قريب . " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا " في الدنيا " إلا ساعة من نهار " ، فلا يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل . " بلاغ " ، أي : هذه الدنيا ، متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ، ودفع وقت حاضر قليل . وهذا القرآن العظيم ، الذي بينا لكم فيه البيان التام ، بلاغ لكم ، وزاد إلى الدار الآخرة . ونعم الزاد والبلغة ، زاد يوصل إلى دار النعيم ، ويعصم من العذاب الأليم ، فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق ، وأجل نعمة أنعم الله بها عليهم . " فهل يهلك(2/396)
" بالعقوبات " إلا القوم الفاسقون " ، أي : الذين لا خير فيهم ، وقد خرجوا عن طاعة ربهم ، ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل . وأعذر الله لهم ، وأنذرهم ، فاستمروا على تكذيبهم وكفرهم ، نسأل الله العصمة .
ومن سورة محمد ست آيات
قوله تعالى: ? أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( 25 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * ? (محمد : 24 -26 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " أي : فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله ، ويتأملونه حق التأمل ، فإنهم لو تدبروه ، لدلهم على كل خير ، ولحذرهم من كل شر ، ولملأ قلوبهم من الإيمان ، وأفئدتهم من الإيقان . ولأوصلهم إلى المطالب العالية ، والمواهب الغالية ، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله ، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها ، والطريق الموصلة إلى العذاب ، وبأي شيء يحذر . ولعرفهم بربهم ، وأسمائه وصفاته ، وإحسانه ، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل ، ورهبهم من العقاب الوبيل . " أم على قلوب أقفالها " ، أي : قد أغلق على ما فيها من الإعراض والغفلة والاعتراض ، وأقفلت ، فلا يدخلها خير أبدا ؟ هذا هو الواقع .
" إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم "(2/397)
يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان ، على أعقابهم ، إلى الضلال والكفران . ذلك لا عن دليل دلهم ، ولا برهان ، وإنما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم ، وإملاء منه لهم : " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " . و " ذلك بأنهم " قد تبين لهم الهدى ، فزهدوا فيه ، ورفضوه ، و " قالوا للذين كرهوا ما نزل الله " من المبرزين العداوة لله ولرسوله " سنطيعكم في بعض الأمر " ، أي : الذي يوافق أهواءهم ، فلذلك عاقبهم الله بالضلال ، والإقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء الأبدي ، والعذاب السرمدي . " والله يعلم إسرارهم " فلذلك فضحهم ، وبينها لعباده المؤمنين ، لئلا يغتروا بها ...
وقوله تعالى : ? إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ *هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ *? (محمد :36 - 38 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/398)
هذا تزهيد منه تعالى لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها ، بأنها لعب ولهو ، لعب في الأبدان ولهو في القلوب . فلا يزال العبد لاهيا في ماله ، وأولاده ، وزينته ، ولذاته من النساء ، والمآكل والمشارب ، والمساكن والمجالس ، والمناظر والرياسات ، لاعبا في كل عمل لا فائدة فيه ، بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي ، حتى يستكمل دنياه ، ويحضره أجله . فإذا هذه الأمور قد ولت وفارقت ، ولم يحصل العبد منها على طائل ، بل قد تبين له خسرانه وحرمانه وحضر عذابه ، فهذا موجب للعاقل الزهد فيها ، وعدم الرغبة فيها ، والاهتمام بشأنها . وإنما الذي ينبغي أن يهتم به ما ذكره بقوله : " وإن تؤمنوا وتتقوا " بأن تؤمنوا بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتقوموا بتقواه التي هي من لوازم الإيمان ومقتضياته ، وهي العمل بمرضاته على الدوام ، مع ترك معاصيه ، فهذا الذي ينفع العبد ، وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه ، وتبذل الهمم والأعمال في طلبه . وهو مقصود الله من عباده رحمة بهم ، ولطفا ، ليثيبهم الثواب الجزيل ، ولهذا قال : " وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم " ، أي : لا يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم ، ويعنتكم من أخذ أموالكم ، وبقائكم بلا مال ، أو ينقصكم نقصا يضركم ، ولهذا قال : " إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم " ، أي : ما في قلوبكم من الضغن ، إذا طلب منكم ما تكرهون بذله . الدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها ، أنكم تمنعون منها أنكم " تدعون لتنفقوا في سبيل الله " على هذا الوجه ، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية . " فمنكم من يبخل " . أي : فكيف لو سألكم ، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة ؟ أليس من باب أولى وأحرى ، امتناعكم من ذلك . ثم قال : " ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه " لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى ، وفاته خير كثير ، ولن يضر الله(2/399)
بترك الإنفاق شيئا . " والله " هو " الغني وأنتم الفقراء "
تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم ، لجميع أموركم . " وإن تتولوا " عن الإيمان بالله ، وامتثال ما يأمركم به " يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " في التولي " عن أمر الله " . بل يطيعون الله ورسوله ، كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"
ومن سورة الفتح آيتان
قوله تعالى: ? ُهوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً * ? (الفتح : 28 - 29 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" هو الذي أرسل رسوله بالهدى " الذي هو العلم النافع ، الذي يهدي من الضلالة ، ويبين طرق الخير والشر . " ودين الحق " ، أي : الدين الموصوف بالحق ، وهو : العدل ، والإحسان ، والرحمة . وهو : كل عمل مزك للقلوب ، مطهر للنفوس ، مرب للأخلاق ، معل للأقدار . " ليظهره " بما بعثه الله به " على الدين كله " بالحجة والبرهان ، ويكون داعيا لإخضاعهم بالسيف والسنان .(2/400)
" محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما "
يخبر تعالى عن نبيه " محمد رسول الله " صلى الله عليه وسلم " والذين معه " من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، أنهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال . وأنهم " أشداء على الكفار " ، أي : جادون ومجتهدون في نصرتهم ، وساعون في ذلك بغاية جهدهم ، فلم يرى الكفار منهم إلا الغلظة والشدة . فلذلك ذل أعداؤهم لهم ، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون . " رحماء بينهم " ، أي : متحابون ، متراحمون ، متعاطفون ، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ، ما يحب لنفسه ، هذه معاملتهم مع الخلق . وأما معاملتهم مع الخالق فإنك " تراهم ركعا سجدا " ، أي : وصفهم كثرة الصلاة ، التي أجل أركانها : الركوع والسجود . " يبتغون " بتلك العبادة " فضلا من الله ورضوانا " ، أي : هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه . " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ، أي : قد أثرت العبادة ـ من كثرتها وحسنها ـ في وجوههم ، حتى استنارت . لما استنارت بالصلاة بواطنهم ، استنارت بالجلال ، ظواهرهم . " ذلك " المذكور " مثلهم في التوراة " ، أي : هذا وصفهم ، الذي وصفهم الله به ، مذكور بالتوراة هكذا . " ومثلهم في الإنجيل " بوصف آخر ، وأنهم في كمالهم وتعاونهم " كزرع أخرج شطأه فآزره " ، أي : أخرج أفرخه فوازرته فراخه ، في الثبات والاستواء . " فاستغلظ " ذلك الزرع ، أي : قوي وغلظ " فاستوى " ، أي : قوي واستقام " على سوقه " ، جمع ساق ، أي : أصوله ، والمراد أنه قوي وقام على قضبانه . " يعجب الزراع " من كماله واستوائه ، وحسنه واعتداله . كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، هم(2/401)
كالزرع ، في نفعهم للخلق ، واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع ، وسوقه . وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ، ووازره ، وعاونه على ما هو عليه ، من إقامة دين الله والدعوة إليه ، كالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره فاستغلظ . ولهذا قال : " ليغيظ بهم الكفار " حين يرون اجتماعهم ، وشدتهم على أعداء دينهم ، وحين يتصادمون معهم في معارك النزال ، ومعامع القتال . " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما " ، فالصحابة رضي الله عنهم ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، قد جمع الله لهم بين المغفرة ، التي من لوازمها ، وقاية شرور الدنيا والآخرة ، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة . ولنسق قصة الحديبية بطولها ، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في " الهدي النبوي " فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة ، وقد تكلم على معانيها وأسرارها . فصل في قصة الحديبية قال رحمه الله : قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة ، وهذا هو الصحيح ، وهو قول الزهري ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق وغيرهم . وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان ، وكانت في شوال ، وهذا وهم ، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان . وفي الصحيحين ، عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، اعتمر أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، فذكر منهن عمرة الحديبية ، وكان معه ألف وخمسمائة ، وهكذا في الصحيحين ، عن جابر ، وعنه فيهما : كانوا ألفا وأربعمائة . وفيهما ، عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفا وثلاثمائة . قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الجماعة الذي شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة ، قال : قلت : فإن جابر بن عبد الله قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال : يرحمه الله ، وهم ، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قلت : صح عن جابر القولان(2/402)
، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية ، سبعين بدنة ، البدنة عن سبعة ، فقيل له : كم كنتم ؟ قال : ألفا وأربعمائة ، بخيلنا ورجلنا ، يعني : فارسهم وراجلهم . والقلب إلى هذا أميل ، وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع ، في أصح الروايتين ، وقول المسيب بن حزن ، قال شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ، وغلط غلطا بينا من قال : كانوا سبعمائة . وعذرهم أنهم نحروا يومئذ ، سبعين بدنة ، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة ، أو عشرة ، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل ، فإنه قد صرح بأن البدنة ، كانت في هذه الغزوة عن سبعة ، فلو كانت السبعون عن جميعهم ، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا ، وقد قال بتمام الحديث بعينه ، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة . فصل فلما كان بذي الحليفة ، قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كانوا قريبا عن عسفان ، أتاه عينه ، فقال : إني قد تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن نميل إلى ذراري هؤلاء ، الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا ، قعدوا موتورين مخزونين ، وإن نجوا ، يكن عنق قطعه الله ، أم ترون أن نؤم البيت ؟ فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، لم نجىء لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت ، قاتلناه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فروحوا إذا " . فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد بالغميم خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد ، حتى إذا هو بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش . وسار النبي صلى الله(2/403)
عليه وسلم ، حتى إذا كان بالثنية ، التي يهبط عليهم منها ، بركت راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ، ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتمهم إياها " ، ثم زجرها ، فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش . فانتزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه ، قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري ، حتى صدروا عنها . وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ، ليس بمكة من بني كعب ، أحد يغضب لي ، إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش ، وقال : " أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، إنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام " . وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان ، فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله ، وإلى الإسلام ، ويخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمارا ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك . وقام إليه أبان بن سعيد ، فرحب به ، وأسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، فأجاره ، وأردفه أبان ، حتى جاء مكة ، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت ، وطاف به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أظنه طاف بالبيت ونحن(2/404)
محصورون " ، فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال : " ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " ، واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح . فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتضى كل واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة . فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نفسه ، وقال : " هذه عن عثمان " ، ولما تمت البيعة ، رجع عثمان ، فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله ، من الطواف بالبيت ، فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده ، ولو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ، ما طفت بها ، حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ، فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنا . وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس ، وكان معقل بن يسار ، أخذ بغصنها ، يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول من بايعه ، أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ، ثلاث مرات ، في أول الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم . فبينما هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ، في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نجىء لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا(2/405)
بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما الناس ، فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا إلا القتال ، فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا ، حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " ، قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته . فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا من الناس ، خليقا أن يفروا ، ويدعوك ، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال : من ذا ؟ قال : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يد كانت لك عندي ، لم أجزك بها ، لأجبتك . وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف ، وعليه المغفر . فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ، ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غدر ، أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما ، فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال ، فلست منه في شيء " . ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها(2/406)
جلده ووجهه . وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر ، تعظيما له . فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله ، لقد وفدت على الملوك : على كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله ما تنخم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر ، تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بين كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " ، فبعثوها فاستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك ، قال : سبحان الله ، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت ، وأشعرت ، وما أرى يصدون عن البيت . فقام مكرز بن حفص ، وقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر " . فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد سهل لكم من أمركم " ، فقال : هات ، اكتب بيننا وبينك كتابا ، فدعا الكاتب ، فقال : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهيل : أما الرحمن ، فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم " كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم " . ثم قال : " اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " ، فقال سهيل : فوالله لو نعلم أنك رسول الله ، ما صددناك عن البيت(2/407)
، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله ، وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله " ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب ، أنا أخذنا ضغطة ، ولكن مع العام المقبل ، فكتب . فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان في دينك ، إلا رددته علينا . فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلما ؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ، يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه ، أن ترده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نقض الكتاب بعد " ، فقال : فوالله إذا ، لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأجزه لي " ، فقال : ما أنا بمجيزه ، فقال : " بلى فافعل " ، قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : قد أجزناه . فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين ، وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا . قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله ؟ قال : " بلى " ، قال : قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " ، فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : " إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه " ، قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ " قلت : لا ، قال : " فإنك آتيه ومطوف به " . قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه(2/408)
حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالا . فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا وانحروا ، ثم احلقوا " ، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحدا كلمة ، حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك ، فيحلق لك ، فقام فخرج ، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه . فلما رأى الناس ذلك ، قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما . ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الممتحنة : 10 ) " ، فطلق عمر يومئذ امرأتين ، كانتا عنده في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة . وفي مرجعه أنزل الله عليه : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " إلى آخرها ، فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ فقال : " نعم " ، فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله عز وجل : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ(2/409)
عَلِيماً حَكِيماً) (الفتح : 4 ). انتهى
ومن سورة الحجرات ست آيات
قوله تعالى :? َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * ? (الحجرات : 12 - 13 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم "(2/410)
نهى الله عز وجل عن كثير من الظن السيىء بالمؤمنين ، حيث قال : " إن بعض الظن إثم " ، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة ، وكظن السوء ، الذي يقترن به كثير من الأقوال ، والأفعال المحرمة ، فإن بقاء ظن السوء بالقلب ، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك ، بل لا يزال به ، حتى يقول ما لا ينبغي ، ويفعل ما لا ينبغي . وفي ذلك أيضا إساءة الظن بالمسلم ، وبغضه ، وعداوته المأمور بخلافها منه . " ولا تجسسوا " ، أي : لا تفتشوا عن عورات المسلمين ، ولا تتبعوها ، ودعوا المسلم على حاله ، واستعملوا التغافل عن زلاته ، التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي . " ولا يغتب بعضكم بعضا " والغيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه " . ثم ذكر مثلا منفرا عن الغيبة ، فقال : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " ، شبه أكل لحمه ميتا ، المكروه للنفوس غاية الكراهة ، باغتيابه ، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ، خصوصا إذا كان ميتا ، فاقد الروح ، فكذلك ، فلتكرهوا غيبته وأكل لحمه حيا . " واتقوا الله إن الله تواب رحيم " ، والتواب : الذي يأذن بتوبة عبده ، فيوفقه لها ، ثم يتوب عليه ، بقبول توبته ، رحيم بعباده ، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم ، وقبل منهم التوبة ، وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة ، وأنها من الكبائر ، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت ، وذلك من الكبائر .
" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير "(2/411)
يخبر تعالى أنه خلق بني آدم من أصل واحد ، وجنس واحد ، وكلهم من ذكر وأنثى ، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء ، ولكن الله تعالى بث منهما رجالا كثيرا ونساء ، وفرقهم ، وجعلهم شعوبا وقبائل ، أي : قبائل صغارا وكبارا ، وذلك لأجل أن يتعارفوا ، فإنه لو استقل كل واحد منهم بنفسه ، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون والتوارث ، والقيام بحقوق الأقارب ، ولكن الله جعلهم شعوبا وقبائل ، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها مما يتوقف على التعارف ، ولحوق الأنساب ، ولكن الكرم بالتقوى . فأكرمهم عند الله أتقاهم ، وهو أكثرهم طاعة ، وانكفافا عن المعاصي ، لا أكثرهم قرابة وقوما ، ولا أشرفهم نسبا . ولكن الله تعالى عليم خبير ، يعلم منهم من يقوم بتقوى الله ، ظاهرا وباطنا ، فيجازي كلا بما يستحق . وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب مطلوبة مشروعة ، لأن الله جعلهم شعوبا وقبائل لأجل ذلك
وقوله تعالى : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ? (الحجرات : 15 - 18 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/412)
" إنما المؤمنون " ، أي : على الحقيقة " الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " ، أي : من جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد في سبيله . فإن من جاهد الكفار ، دل ذلك على الإيمان التام في قلبه؛ لأن من جاهد غيره على الإسلام ، والإيمان ، والقيام بشرائعه ، فجهاده لنفسه على ذلك ، من باب أولى وأحرى؛ ولأن من لم يقو على الجهاد ، فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه . وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب ، أي : الشك ، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني بما أمر الله بالإيمان به ، الذي لا يعتريه شك بوجه من الوجوه . وقوله : " أولئك هم الصادقون " ، أي : الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة ، فإن الصدق دعوى عظيمة في كل شيء يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان . وأعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة ، والفوز الأبدي ، والفلاح السرمدي ، فمن ادعاه وقام بواجباته ولوازمه ، فهو الصادق المؤمن حقا ، ومن لم يكن كذلك علم أنه ليس بصادق في دعواه ، وليس لدعواه فائدة ، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى . فإثباته ونفيه من باب تعليم الله بما في القلب ، وهو سوء أدب ، وظن بالله ، ولهذا قال : " قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم " وهذا شامل للأشياء كله ، التي من جملتها ما في القلوب من الإيمان والكفران ، والبر والفجور ، فإنه تعالى يعلم ذلك كله ، ويجازي عليه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . هذه حالة من أحوال من ادعى لنفسه الإيمان ، وليس به ، فإنه إما أن يكون ذلك تعليما ، وقد علم أنه عالم بكل شيء ، وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنة على رسوله ، وأنهم قد بذلوا وتبرعوا بما ليس من مصالحهم ، بل هو من حظوظه الدنيوية ، وهذا تجمل بما لا يجمل ، وفخر بما لا ينبغي لهم الفخر به على رسوله ، فإن المنة لله تعالى عليهم . فكما أنه تعالى هو(2/413)
المان عليهم بالخلق والرزق ، والنعم الظاهرة والباطنة ، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام ، ومنته عليهم بالإيمان ، أفضل من كل شيء ، ولهذا قال : " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين "
" إن الله يعلم غيب السماوات والأرض " ، أي : الأمور الخفية فيها ، التي تخفى على الخلق ، كالذي في لجج البحار ، ومهامه القفار ، وما جنه الليل أو واراه النهار ، يعلم قطرات الأمطار ، وحبات الرمال ، ومكنونات الصدور ، وخبايا الأمور . " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين "
" والله بصير بما تعملون " ، يحصي عليكم أعمالكم ، ويوفيكم إياها ، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة ، وحكمته البالغة...
ومن سورة ق آيتان
قوله تعالى: ? َاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * ? (قـ : 39 - 40 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
"فاصبر على ما يقولون " من الذم لك والتكذيب بما جئت به ، واشتغل عنهم بطاعة ربك وتسبيحه ، أول النهار وآخره ، في أوقات الليل ، وأدبار الصلوات . فإن ذكر الله تعالى مسل للنفس ، مؤنس لها ، مهون للصبر .
ومن سورة الذاريات ثلاث آيات
قوله تعالى: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ*إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * ? (الذاريات : 56 - 58)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين "(2/414)
هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها ، وبعث جميع الرسل يدعون إليها ، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته ، والإنابة إليه ، والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه . وذلك متوقف على معرفة الله تعالى ، فإن تمام العبادة ، متوقف على المعرفة بالله ، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه ، كانت عبادته أكمل ، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله ، فما خلقهم لحاجة منه إليهم .
" ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون " تعالى الله الغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه ، وإنما جميع الخلق فقراء إليه ، في جميع حوائجهم ومطالبهم ، الضرورية وغيرها ، ولهذا قال : " إن الله هو الرزاق " ، أي : كثير الرزق ، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها . " ذو القوة المتين " ، أي : الذي له القوة والقدرة كلها ، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة ، السفلية والعلوية ، وبها تصرف في الظواهر والبواطن ونفذت مشيئته في جميع البريات ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا يعجزه هارب ، ولا يخرج على سلطانه أحد ، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم . ومن قدرته وقوته أن يبعث الأموات بعدما مزقهم البلى ، وعصفت بهم الرياح ، وابتلعتهم الطيور والسباع ، وتمزقوا وتفرقوا في مهامه القفار ، ولجج البحار ، فلا يفوته منهم أحد ، ويعلم ما تنقص الأرض منهم ، فسبحان القوي المتين .
ومن سورة الطور آيتان
قوله تعالى : ? وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) *وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ? (الطور : 49 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/415)
... لما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبأ بهم شيئا ، وأن يصبر لحكم ربه القدري ، والشرعي بلزومه ، والاستقامة عليه ، ووعده الله الكفاية بقوله : " فإنك بأعيننا " ، أي : بمرأى منا ، وحفظ ، واعتناء بأمرك . وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر والعبادة ، فقال : " وسبح بحمد ربك حين تقوم " من الليل . ففيه الأمر بقيام الليل ، أو حين تقوم إلى الصلوات الخمس ، بدليل قوله : " ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم " ، أي : آخر الليل ، ويدخل فيه صلاة الفجر ، والله أعلم .
ومن سورة الحديد ثماني آيات
قوله تعالى:?وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ?(الحديد : 10 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/416)
" وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض " ، أي : وما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل الله ، وهي طرق الخير كلها ، ويوجب لكم أن تبخلوا . الحال أنه ليس لكم شيء ، بل " ولله ميراث السماوات والأرض " ، فجميع الأموال ، ستنقل من أيديكم ، أو تنقلون عنها ، ثم يعود الملك إلى مالكه ، تبارك وتعالى . فاغتنموا الإنفاق ، ما دامت الأموال في أيديكم ، وانتهزوا الفرصة . ثم ذكر تعالى ، تفاضل الأعمال بحسب الأحوال والحكمة الإلهية ، فقال : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا " ، المراد بالفتح هنا هو : فتح الحديبية حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات التي حصل فيها نشر الإسلام ، واختلاط المسلمين بالكافرين ، والدعوة إلى الدين من غير معارض ، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين الله أفواجا واعتز الإسلام عزا عظيما . وكان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها ، كالمدينة وتوابعها . وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها ، من ديار المشركين ، يؤذى ويخاف ، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وقاتل ، أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك ، كما هو مقتضى الحكمة ، ولهذا كان السابقون وفضلاء الصحابة ، غالبهم أسلم قبل الفتح . ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول ، احترز تعالى من هذا بقوله : " وكلا وعد الله الحسنى " ، أي : الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده ، كلهم وعده الله الجنة ، وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم ، رضي الله عنهم ، حيث شهد الله لهم بالإيمان ، ووعدهم الجنة . " والله بما تعملون خبير " فيجازى كلا منكم ، على ما يعمله من عمله . ثم حث على النفقة في سبيله ، لأن الجهاد متوقف على النفقة فيه ، وبذل الأموال في التجهز له ...(2/417)
وقوله تعالى : ? إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ *الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * ? (الحديد : 18 - 24 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم "(2/418)
" إن المصدقين والمصدقات " بالتشديد ، أي : الذين أكثروا من الصدقات والنفقات المرضية . " وأقرضوا الله قرضا حسنا " بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات ، ما يكون ذخرا لهم عند ربهم " يضاعف لهم " الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . " ولهم أجر كريم " وهو ما أعده الله لهم في الجنة ، مما لا تعلمه النفوس . " والذين آمنوا بالله ورسله " ، والإيمان عند أهل السنة ما دل عليه الكتاب والسنة ، وهو قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح . فيشمل ذلك جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة . فالذين جمعوا هذه الأمور هم الصديقون ، أي : الذين مرتبتهم فوق مرتبة عموم المؤمنين ، ودون مرتبة الأنبياء . وقوله : " والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم " كما ورد في الحديث الصحيح : " إن في الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله " . وهذا يقتضي شدة علوها ورفعتهم ، وقربهم من الله تعالى . " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " فهذه الآيات جمعت أصناف الخلق : المتصدقين ، والصديقين والشهداء ، وأصحاب الجحيم . فالمتصدقون هم الذين جل عملهم الإحسان إلى الخلق ، وبذل النفع لهم بغاية ما يمكنهم خصوصا بالنفع بالمال في سبيل الله . والصديقون هم الذين كملوا مراتب الإيمان والعمل الصالح ، والعلم النافع ، واليقين الصادق . والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم فقتلوا . وأصحاب الجحيم هو الكفار الذين كذبوا بآيات الله . وبقي قسم ذكرهم الله في سورة فاطر ، وهم المقتصدون الذين أدوا الواجبات ، وتركوا المحرمات ، إلا أنهم حصل منهم بعض التقصير بحقوق الله وحقوق عباده ، فهؤلاء مآلهم الجنة ، وإن حصل لبعضهم عقوبة ببعض ما فعل .(2/419)
" اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم "
يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا ، وما هي عليه ، ويبين غايتها ، وغاية أهلها ، بأنها لعب ولهو تلعب بها الأبدان ، وتلهو بها القلوب ، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا ، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات عمرهم بلهو قلوبهم ، وغفلتهم عن ذكر الله ، وعما أمامهم من الوعد والوعيد ، تراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا . بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة ، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله ، ومعرفته ومحبته ، وقد شغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله ، من النفع القاصر والمتعدي . وقوله : " وزينة " ، أي : تزين في اللباس والطعام ، والشراب والمراكب ، والدور والقصور ، والجاه وغير ذلك . " وتفاخر بينكم " ، أي : كل واحد من أهلها ، يريد مفاخرة الآخر ، وأن يكون هو الغالب في أمورها ، والذي له الشهرة في أحوالها . " وتكاثر في الأموال والأولاد " ، أي : كل يريد أن يكون هو الكاثر لغيره ، في المال والولد ، وهذا مصداقه ، وقوعه من محبي الدنيا ، والمطمئنين إليها . بخلاف من عرف الدنيا وحقيقتها ، فجعلها معبرا ، ولم يجعلها مستقرا ، فنافس فيما يقربه إلى الله ، واتخذ الوسائل التي توصله إلى دار كرامته ، وإذا رأى من يكاثره ، وينافسه في الأموال والأولاد ، نافسه بالأعمال الصالحة . ثم ضرب للدنيا مثلا ، بغيث نزل على الأرض ، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام ، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ، وأعجب نباته الكفار ، الذين قصروا نظرهم وهممهم على الدنيا ، جاءها من أمر الله ،(2/420)
ما أتلفها ، فهاجت ويبست ، وعادت إلى حالها الأولى ، كأنه لم ينبت فيها خضراء ، ولا رؤي لها مرأى أنيق . كذلك الدنيا ، بينما هي زاهية لصاحبها ، زاهرة ، مهما أراد من مطالبها حصل ، ومهما توجه لأمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة ، إذ أصابها القدر فأذهبها من يده ، وأزال تسلطه عليها ، أو ذهب به عنها ، فرحل منها صفر اليدين ، ولم يتزود منها سوى الكفن ، فتبا لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه . وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع ، ويدخر لصاحبه ، ويصحب العبد على الأبد ، ولهذا قال تعالى : " وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان " ، أي : حال الآخرة ، لا يخلو من هذين الأمرين . إما العذاب الشديد في نار جهنم ، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ، ومنتهى مطلبه ، فتجرأ على معاصي الله ، وكذب بآيات الله ، وكفر بأنعم الله . وإما مغفرة من الله للسيئات ، وإزالة العقوبات ، ورضوان من الله ، يحل من أحله عليه دار الرضوان لمن عرف الدنيا ، وسعى للآخرة سعيها . فهذا كله ، مما يدعو إلى الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ولهذا قال : " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " ، أي : إلا متاع يتمتع به ، وينتفع به ، ويستدفع به الحاجات ، لا يغتر به ، ويطمئن إليه ، إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور . ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته ، وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ، من التوبة النصوح ، والاستغفار النافع ، والبعد عن الذنوب ومظانها ، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح ، والحرص على ما يرضي الله على الدوام ، من الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع ، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك ، فقال : " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله " ، والإيمان بالله ورسله ، يدخل فيه أصول الدين وفروعه ، " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ، أي(2/421)
: هذا الذي بيناه لكم ، وذكرنا الطرق الموصلة إلى الجنة ، والطرق الموصلة إلى النار ، وأن ثواب الله بالأجر الجزيل ، والثواب الجميل ، من أعظم منته على عباده وفضله . " والله ذو الفضل العظيم " ، الذي لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه .
" ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد "
ويقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره : " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم "
، وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق ، من خير وشر ، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها . وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول ، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب ، ولكنه على الله يسير . وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر . فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم ، وتشوفوا إليه لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، قلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله ، فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ، ودفع النقم ، ولهذا قال : " والله لا يحب كل مختال فخور " ، أي : متكبر فظ ، معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه وتلهيه كما قال تعالى : " ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة "(2/422)
" الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " ، أي : يجمعون بين الأمرين الذميمين ، الذين كل منهما كاف في الشر : البخل وهو منع الحقوق الواجبة ، ويأمرون الناس بذلك ، فلم يكفهم بخلهم ، حتى أمروا الناس بذلك ، وحثوهم على هذا الخلق الذميم بقولهم وفعلهم ، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها . " ومن يتول " عن طاعة الله ، فلا يضر إلا نفسه ، ولن يضر الله شيئا . " فإن الله هو الغني الحميد " الذي غناه من لوازم ذاته ، الذي له ملك السماوات والأرض ، وهو الذي أغنى عباده وأقناهم . الحميد الذي له كل اسم حسن ، وصف كامل ، وفعل جميل ، يستحق أن يحمد عليه ، وينثى ويعظم عليه .
ومن سورة الحشر آيتان
قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * ? (الحشر :18 - 19 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون "(2/423)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ، ويقتضيه من لزوم تقواه ، سرا وعلانية ، في جميع الأحوال ، وأن يراعوا ما أمرهم الله به ، من أوامره وحدوده ، وينظروا ما لهم وما عليهم ، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة . فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم ، وقبلة قلوبهم ، واهتموا للمقام بها ، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها ، وتصفيتها من القواطع والعوائق ، التي توقفهم عن السير ، أو تعوقهم أو تصرفهم . وإذا علموا أيضا أن الله خبير بما يعملون ، لا تخفى عليه أعمالهم ، ولا تضيع لديه ، ولا يهملها ، أوجب لهم الجد والاجتهاد . وهذه الآية الكريمة ، أصل في محاسبة العبد نفسه ، وأنه ينبغي له أن يتفقدها ، فإن رأى زللا ، تداركه بالإقلاع عنه ، والتوبة النصوح ، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه ، وإن رأى نفسه مقصرا ، في أمر من أوامر الله ، بذل جهده ، واستعان بربه في تتميمه ، وتكميله ، وإتقانه . ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه ، وبين تقصيره ، فإن ذلك يوجب له الحياء لا محالة . والحرمان كل الحرمان ، أن يغفل العبد عن هذا الأمر ، ويشابه قوما نسوا الله ، وغفلوا عن ذكره ، والقيام بحقه ، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها ، فلم ينجحوا ، ولم يحصلوا على طائل . بل أنساهم الله مصالح أنفسهم ، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها ، فصار أمرهم فرطا ، فرجعوا بخسارة الدارين ، وغبنوا غبنا ، لا يمكن تداركه ، ولا يجبر كسره ، لأنهم هم الفاسقون ، الذين خرجوا عن طاعة ربهم ، وأوضعوا في معاصيه . فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ، ونظر لما قدم لغده ، فاستحق جنات النعيم ، والعيش السليم ـ مع الذين أنعم الله عليهم ، من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ـ ومن غفل عن ذكره ، ونسي حقوقه فشقي في الدنيا ، واستحق العذاب في الآخرة . فالأولون هم الفائزون ، والآخرون هم الخاسرون . ولما بين تعالى لعباده(2/424)
ما بين ، وأمر عباده ونهاهم في كتابه العزيز ، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه ، وحثهم عليه ، ولوا كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي . فإن هذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، أي : لكمال تأثيره في القلوب ، فإن مواعظ القرآن ، أعظم المواعظ على الإطلاق . وأوامره ونواهيه ، محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها ، وهي من أسهل شيء على النفوس ، وأيسرها على الأبدان ، خالية من التكلف لا تناقض فيها ، ولا اختلاف ، ولا صعوبة فيها ، ولا اعتساف ، تصلح لكل زمان ومكان ، وتليق لكل أحد . ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال ، ويوضح لعباده الحلال والحرام ، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها ، فإن التفكير فيها يفتح للعبد خزائن العلم ، ويبين له طرق الخير والشر ، ويحثه على مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ويزجره عن مساوىء الأخلاق ، فلا أنفع للعبد من التفكير في القرآن ، والتدبر لمعانيه .
ومن سورة الصف آيتان
قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * ? (الصف : 10 - 11 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/425)
هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين ، لأعظم تجارة ، وأجل مطلوب ، وأعلى مرغوب ، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم ، والفوز بالنعيم المقيم . وأتى بأداة العرض ، الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل معتبر ، ويسمو إليه كل لبيب ، فكأنه قيل : ما هذه التجارة التي هذا قدرها ؟ فقال : " تؤمنون بالله ورسوله " . ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به ، المستلزم لأعمال الجوارح ، التي من أجلها الجهاد في سبيله ، فلهذا قال : " وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم " ، بأن تبذلون نفوسكم ومهجكم ، لمصادمة أعداء الإسلام ، والقصد : دين الله ، وإعلاء كلمته . وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب ، فإن ذلك ، وإن كان كريها للنفوس ، شاقا عليها ، فإنه " خير لكم إن كنتم تعلمون " ، فإنه فيه الخير الدنيوي ، من النصر على الأعداء ، والعز المنافي للذل والرزق الواسع ، وسعة الصدر ، وانشراحه . والخير الأخروي ، بالفوز بثواب الله ، والنجاة من عقابه ، ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة ، فقال : " يغفر لكم ذنوبكم " وهو شامل للصغائر والكبائر فإن الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ، مكفر للذنوب ، ولو كانت كبائر . " ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار " أي : من تحت مساكنها وقصورها ، وغرفها ، وأشجارها ، أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات . " ومساكن طيبة في جنات عدن " ، أي : جمعت كل طيب ، من علو ، وارتفاع ، وحسن بناء وزخرفة . حتى إن أهل الغرف من أهل عليين ، يتراءاهم أهل الجنة ، كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي ، أو الغربي . وحتى إن بناء الجنة بعضه من لبن ذهب ، وبعضه من لبن فضة ، وخيامها من اللؤلؤ والمرجان ، وبعض المنازل من الزمرد ، والجواهر الملونة بأحسن الألوان ، حتى إنها من(2/426)
صفائها يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين ، ولا خطر على قلب أحد من العالمين ، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه ، ويتمتعوا بحسنه وتقر به أعينهم . ففي تلك الحالة ، لولا أن الله خلق أهل الجنة ، وأنشأهم نشأة كاملة ، لا تقبل العدم ، لأوشك أن يموتوا من الفرح ، فسبحان من لا يحصي أحد من خلقه ، ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه . وتبارك الجليل الجميل ، الذي أنشأ دار النعيم ، وجعل فيها من الجلال والجمال ما يبهر عقول الخلق ، ويأخذ بأفئدتهم . وتعالى من له الحكمة التامة ، الذي من جملتها ، أنه لو رأى العباد الجنة ، ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد ، ولما هنأهم العيش في هذه الدار المنغصة المشوب نعيمها بألمها ، وفرحها بترحها . وسميت جنة عدن ، لأن أهلها مقيمون فيها ، لا يخرجون منها أبدا ، ولا يبغون عنها حولا ، ذلك الثواب الجزيل ، والأجر الجميل ، هو الفوز العظيم ، الذي لا فوز مثله ، فهذا الثواب الأخروي . وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة ، فذكره بقوله : " وأخرى تحبونها " ، أي : يحصل لكم خصلة أخرى تحبونها ، وهي : " نصر من الله " لكم على الأعداء ، يحصل به العز والفرح . " وفتح قريب " تتسع به دائرة الإسلام ، ويحصل به الرزق الواسع ، فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين . وأما المؤمنون من غير أهل الجهاد ، إذا قام غيرهم بالجهاد ، فلم يؤيسهم الله تعالى من فضله وإحسانه ، بل قال : " وبشر المؤمنين " ، أي : بالثواب العاجل والآجل كل على حسب إيمانه ، وإن كانوا لا يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، وجبت له الجنة " . فعجب لها أبو سعيد الخدري ، راوي الحديث ، فقال : أعدها يا رسول الله ، فأعادها عليه . ثم قال : " وأخرى يرفع بها(2/427)
العبد مائة درجة في الجنة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " ، فقال : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " رواه مسلم ...
ومن سورة الجمعة أربع آيات
قوله تعالى: ? قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ*? (الجمعة : 8 - 11 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
... لا بد أن يلاقيهم الموت الذي قد حتمه الله على العباد . ثم بعد الموت واستكمال الآجال ، يرد الخلق كلهم يوم القيامة ، إلى عالم الغيب والشهادة ، فينبئهم بما كانوا يعملون ، من خير وشر ، قليل وكثير .
قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين "(2/428)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة ، والمبادرة إليها من حين ينادى إليها والسعي إليها ، والمراد بالسعي هنا : المبادرة والاهتمام ، وجعلها أهل الأشغال : لا البيع الذي قد نهى عنه عند المضي إلى الصلاة . وقوله : " وذروا البيع " ، أي : اتركوا البيع ، إذا نودي للصلاة وامضوا إليها . فإن " ذلكم خير لكم " من اشتغالكم بالبيع ، أو تفويتكم لصلاة الفريضة ، التي هي من آكد الفروض . " إن كنتم تعلمون " ، أي : ما عند الله خير وأبقى ، وأن من آثر الدنيا على الدين ، فقد خسر الخسارة الحقيقية ، من حيث يظن أنه يربح ، وهذا الأمر بترك البيع ، مؤقت مدة الصلاة . " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " لطلب المكاسب والتجارات ، ولما كان الاشتغال بالتجارة ، مظنة الغفلة عن ذكر الله ، أمر الله بالإكثار من ذكره ، لينجبر بهذا ، فقال : " واذكروا الله كثيرا " ، أي : في حال قيامكم وقعودكم ، وعلى جنوبكم . " لعلكم تفلحون " ، فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح . " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " ، أي : خرجوا من المسجد ، حرصا على ذلك اللهو ، وتلك التجارة ، وتركوا الخير " وتركوك قائما " تخطب الناس ، وذلك في يوم الجمعة بينما البني صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، إذ قدم المدينة ، عير تحمل تجارة ، فلما سمع الناس بها ، وهم في المسجد ، انفضوا من المسجد ، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالا لما لا ينبغي أن يستعجل له ، وترك أدب . " قل ما عند الله " من الأجر والثواب ، لمن لازم الخير ، وصبر نفسه على عبادة الله . " خير من اللهو ومن التجارة " التي ، وإن حصل منها بعض المقاصد ، فإن ذلك قليل منقض ، مفوت لخير الآخرة ، وليس الصبر على طاعة الله مفوتا للرزق . " والله خير الرازقين " فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب . وفي هذه الآيات فوائد عديدة : منها : أن الجمعة فريضة على المؤمنين ، يجب عليهم السعي(2/429)
إليها ، والمبادرة والاهتمام بشأنها . ومنها : أن الخطبتين يوم الجمعة ، فريضة يجب حضورهما ، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين ، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له . ومنها : مشروعية النداء للجمعة والأمر به . ومنها : النهي عن البيع والشراء بعد نداء الجمعة ، وتحريم ذلك ، وما ذاك إلا أن يفوت الواجب ويشغل عنه . فدل ذلك على أن كل أمر ، وإن كان مباحا في الأصل ، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب ، فإنه لا يجوز في تلك الحال . ومنها : الأمر بحضور الخطبتين يوم الجمعة ، وذم من لم يحضرهما ، ومن لازم ذلك الإنصات لهما . ومنها : أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله ، وقت دواعي النفس لحضور اللهو والتجارات والشهوات أن يذكرها ، بما عند الله من الخيرات ، وما لمؤثر رضاه على هواه .
ومن سورة المنافقين أربع آيات
قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ*وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ? (المنافقون : 9 - 11 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/430)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره ، فإن في ذلك ، الربح والفلاح ، والخيرات الكثيرة ، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره ، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس ، فتقدمها على محبة الله ، وفي ذلك الخسارة العظيمة ، ولهذا قال تعالى : " ومن يفعل ذلك " ، أي : يلهه ماله وولده ، عن ذكر الله " فأولئك هم الخاسرون " للسعادة الأبدية ، والنعيم المقيم ، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى . قال تعالى : " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " . وقوله : " وأنفقوا من ما رزقناكم " يدخل في هذا ، النفقات الواجبة ، من الزكاة والكفارات ، ونفقة الزوجات ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة كبذل المال في جميع المصالح . وقال : " من ما رزقناكم " ليدل ذلك على أنه تعالى ، لم يكلف العباد من النفقة ما يعنتهم ويشق عليهم ، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم ، ويسره ، ويسر أسبابه . فليشكروا الذي أعطاهم ، بمواساة إخوانهم المحتاجين ، وليبادروا بذلك الموت الذي إذا جاء ، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير ، ولهذا قال : " من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول " متحسرا على ما فرط في وقت الإمكان ، سائلا الرجعة التي هي محال : " رب لولا أخرتني إلى أجل قريب " ، أي : لأتدارك ما فرطت فيه . " فأصدق " من مالي ، ما به أنجو من العذاب ، وأستحق جزيل الثواب . " وأكن من الصالحين " بأداء المأمورات كلها ، واجتناب المنهيات ، ويدخل في هذا ، الحج وغيره . وهذا السؤال والتمني ، قد فات وقته ، ولا يمكن تداركه ، ولهذا قال : " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها " المحتوم لها " والله خبير بما تعملون " من خير وشر ، فيجازيكم على ما علمه ، من النيات والأعمال .
ومن سورة التغابن ثماني آيات(2/431)
قوله تعالى : ? مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ? (التغابن : 11 - 18 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/432)
" ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله " هذا عام لجميع المصائب ، في النفس ، والمال ، والولد ، والأحباب ، ونحوهم . فجميع ما أصاب العباد ، بقضاء الله وقدره ، قد سبق بذلك ، علم الله ، وجرى به قلمه ، ونفذت مشيئته ، واقتضته حكمته ، ولكن الشأن كل الشأن ، هل يقوم العبد بالوظيفة ، التي عليه في هذا المقام ، أم لا يقوم بها ؟ فإن قام بها ، فله الثواب الجزيل ، والأجر الجميل ، في الدنيا والآخرة . فإذا آمن أنها من عند الله ، فرضي بذلك ، وسلم لأمره ، هدى الله قلبه ، فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب ، كما يجري ممن لم يهد الله قلبه ، بل يرزقه الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل ، مع ما يدخر له يوم الجزاء من الأجر العظيم ، كما قال تعالى : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " . وعلم من ذلك ، أن من لم يؤمن بالله عند ورود المصائب ، بأن لم يلحظ قضاء الله وقدره ، بل وقف مع مجرد الأسباب ، أنه يخذل ، ويكله الله إلى نفسه . وإذا وكل العبد إلى نفسه ، فالنفس ليس عندها إلا الهلع والجزع ، الذي هو عقوبة عاجلة على العبد ، قبل عقوبة الآخرة ، على ما فرط في واجب الصبر . هذا ما يتعلق بقوله : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " ، في مقام المصائب الخاص . وأما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي ، فإن الله أخبر أن كل من آمن ، أي : الإيمان المأمور به ، وهو الإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره . وصدق إيمانه ، بما يقتضيه الإيمان من لوازمه وواجباته ، أن هذا السبب الذي قام به العبد ، أكبر سبب لهداية الله له في أقواله وأفعاله ، وجميع أحواله وفي علمه وعمله . وهذا أفضل جزاء ، يعطيه الله لأهل الإيمان ، كما قال تعالى ـ مخبرا ـ أنه يثبت المؤمنين في الحياة الدنيا ، وفي الأخرة . وأصل الثبات : ثبات القلب وصبره ، ويقينه عند ورود كل فتنة ، فقال : " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت(2/433)
في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ، فأهل الإيمان ، أهدى الناس قلوبا ، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات ، وذلك لما معهم من الإيمان . وقوله : " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول "، أي : في امتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما ، فإن طاعة الله ، وطاعة رسوله ، مدار السعادة ، وعنوان الفلاح . " فإن توليتم " ، أي : عن طاعة الله وطاعة رسوله ، " فإنما على رسولنا البلاغ المبين " ، أي : يبلغكم ما أرسل به إليكم ، بلاغا بينا واضحا ، فتقوم عليكم به الحجة ، وليس بيده من هدايتكم ، ولا من حسابكم شيء . وإنما يحاسبكم على القيام بطاعة الله وطاعة رسوله ، أو عدم ذلك ، عالم الغيب والشهادة . " الله لا إله إلا هو " ، أي : هو المستحق للعبادة والألوهية ، فكل معبود سواه باطل . " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، أي : فليعتمدوا عليه في كل أمر نابهم ، وفيما يريدون القيام به . فإنه لا يتيسر أمر من الأمور إلا بالله ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتماد على الله ، ولا يتم الاعتماد على الله ، حتى يحسن العبد ظنه بربه ، ويثق به في كفايته الأمر ، الذي يعتمد عليه به ، وبحسب إيمان العبد يكون توكله ، قوة وضعفا .
" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم "(2/434)
هذا تحذير من الله للمؤمنين ، عن الاغترار بالأزواج والأولاد ، فإن بعضهم عدو لكم ، والعدو هو الذي يريد لك الشر ، فوظيفتك الحذر ممن هذه صفته ، والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد . فنصح تعالى عباده ، أن توجب لهم هذه المحبة ، الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد ، التي فيها محذور شرعي ، ورغبهم في امتثال أوامره ، وتقديم مرضاته بما عنده ، من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية ، والمحاب الغالية ، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية . ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد ، فيما هو ضرر على العبد ، والتحذير من ذلك ، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ، أمر تعالى بالحذر منهم ، والصفح عنهم والعفو ، فإن في ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره ، فقال : " وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم " لأن الجزاء من جنس العمل . فمن عفا ، عفا الله عنه ، ومن صفح ، صفح عنه ، ومن عامل الله فيما يحب ، وعامل عباده بما يحبون ، وينفعهم ، نال محبة الله ، ومحبة عباده ، واستوثق له أمره .
" فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم "(2/435)
يأمر تعالى بتقواه ، التي هي امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، وقيد ذلك بالاستطاعة والقدرة . فهذه الآية تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد ، يسقط عنه ، وأنه إذا قدر على بعض الأمور ، وعجز عن بعضها ، فإنه يأتي بما قدر عليه ، ويسقط عنه ما يعجز عنه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " . ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع ، ما لا يدخل تحت الحصر . وقوله : " واسمعوا " ، أي : اسمعوا ما يعظكم الله به ، وما يشرعه لكم ، من الأحكام واعلموا ذلك ، وانقادوا له " وأطيعوا " الله ورسوله في جميع أموركم . " وأنفقوا " من النفقات الواجبة والمستحبة ، يكن ذلك الفعل منكم(2/436)
" خيرا لأنفسكم " في الدنيا والآخرة ، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله ، وقبول تصائحه ، والانقياد لشرعه ، والشر كله ، في مخالفة ذلك . ولكن ثم آفة تمنع كثيرا من الناس ، من النفقة المأمور بها ، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس ، فإنها تشح بالمال ، وتحب وجوده ، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة . " ومن يوق شح نفسه " بأن تسمح بالإنفاق النافع لها " فأولئك هم المفلحون " لأنهم أدركوا المطلوب ، ونجوا من المرهوب ، بل لعل ذلك شامل لكل ما أمر به العبد ، ونهى عنه . فإنه إن كانت نفسه شحيحة ، لا تنقاد لما أمرت به ، ولا تخرج ما قبلها ، " من النفقات المأمورة بها " لم يفلح ، بل خسر الدنيا والآخرة . وإن كانت نفسه نفسا سمحة ، مطمئنة ، منشرحة لشرع الله ، طالبة لمرضاته ، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به ، ووصول معرفته إليها ، والبصيرة بأنه مرض لله ، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز . ثم رغب تعالى في النفقة ، فقال : " إن تقرضوا الله قرضا حسنا " وهو : كل نفقة كانت في الحلال ، وإذا قصد بها العبد وجه الله تعالى ، ووضعها في موضعها " يضاعفه لكم " ، النفقة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . ( و ) مع المضاعفة أيضا " يغفر لكم " بسبب الإنفاق والصدقة ، ذنوبكم ، فإن الذنوب تكفرها الصدقات والحسنات : " إن الحسنات يذهبن السيئات "..." والله شكور حليم " لا يعاجل من عصاه ، بل يمهله ولا يهمله . " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى "(2/437)
" والله " تعالى " شكور " يقبل من عباده اليسير من العمل ، ويجازيهم عليه الكثير من الأجر . ويشكر تعالى لمن تحمل من أجله المشاق والأثقال ، وأنواع التكاليف الثقال ، ومن ترك شيئا ، عوضه الله خيرا منه . " عالم الغيب والشهادة " ، أي : ما غاب عن العباد من الجنود التي لا يعلمها إلا هو ، وما يشاهدونه من المخلوقات . " العزيز " الذي لا يغالب ، ولا يمانع ، الذي قهر جميع الأشياء . " الحكيم " في خلقه وأمره ، الذي يضع الأشياء مواضع
ومن سورة الطلاق أربع آيات
قوله تعالى :? َمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً *? (الطلاق : 2 - 3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/438)
...والآية ، وإن كانت في سياق الطلاق والرجعة ، فإن العبرة بعموم اللفظ ، فكل من اتقى الله ، ولازم مرضاته في جميع أحواله ، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة . ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجا ومخرجا من كل شدة ومشقة . وكما أن من اتقى الله ، جعل له فرجا ومخرجا ، فمن لم يتق الله ، يقع في الآصار والأغلال ، التي لا يقدرون على التخلص منها ، والخروج من تبعتها . واعتبر ذلك في الطلاق ، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه ، بل أوقعه ، على الوجه المحرم ، كالثلاث ونحوها ، فإنه لا بد أن يندم ندامة ، لا يتمكن من استدراكها ، والخروج منها . وقوله : " ويرزقه من حيث لا يحتسب " ، أي : يسوق الله الرزق للمتقي ، من وجه لا يحتسبه ، ولا يشعر به . " ومن يتوكل على الله " في أمر دينه ودنياه ، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ، ودفع ما يضره ، ويثق به في تسهيل ذلك " فهو حسبه " ، أي : كافيه الأمر الذي توكل عليه فيه . وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي ، العزيز الرحيم ، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء . ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له ، فلهذا قال تعالى : " إن الله بالغ أمره " ، أي : لا بد من نفوذ قضائه وقدره . ولكن " قد جعل الله لكل شيء قدرا " ، أي : وقتا ومقدارا ، لا يتعداه ، ولا يقصر عنه .
وقوله تعالى : ? َومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً * ? (الطلاق : 4 - 5 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/439)
" ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا " أي : من اتقى ، يسر له الأمور ، وسهل عليه كل عسير . " ذلك " ، أي : الحكم الذي بينه الله لكم " أمر الله أنزله إليكم " لتمشوا عليه ، وتأتموا به ، وتعظموه . " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " ، أي : يندفع عنه المحذور ، ويحصل له المطلوب .
ومن سورة التحريم آية
قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? (التحريم : 8 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قد أمر الله بالتوبة النصوح في هذه الآية ، ووعد عليها بتكفير السيئات ، ودخول الجنات ، والفوز والفلاح ، حين يسعى المؤمنون يوم القيامة ، بنور إيمانهم ، ويمشون بضيائه ، ويتمتعون بروحه وراحته ، ويشفقون إذا طفئت الأنوار ، التي تعطى المنافقين ، ويسألون الله ، أن يتم لهم نورهم فيستجيب الله دعوتهم ، ويوصلهم بما معهم من النور واليقين ، إلى جنات النعيم ، وجوار الرب الكريم ، وكل هذا ، من آثار التوبة النصوح . والمراد بها : التوبة العامة الشاملة لجميع الذنوب ، التي عقدها العبد لله ، لا يريد بها إلا وجه الله ، والقرب منه ، ويستمر عليها في جميع أحواله ...
ومن سورة المعارج سبع عشرة آية(2/440)
قوله تعالى: ? إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ *إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ * ? (المعارج : 19 - 35 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/441)
وهذا الوصف للإنسان من حيث هو ، وصف طبيعته ، أنه هلوع . وفسر الهلوع بقوله : " إذا مسه الشر جزوعا " فيجزع إن أصابه فقر أو مرض ، أو ذهاب محبوب له ، من مال أو أهل أو أولد ، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله . " وإذا مسه الخير منوعا " ، فلا ينفق مما آتاه الله ، ولا يشكر الله على نعمه وبره ، فيجزع في الضراء ، ويمنع في السراء . " إلا المصلين " الموصوفين بتلك الأوصاف ، فإنهم إذا مسهم الخير ، شكروا الله وأنفقوا مما خولهم ، وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا . وقوله في وصفهم : " الذين هم على صلاتهم دائمون " ، أي : مداومون عليها في أوقاتها بشروطها ومكملاتها . وليسوا كمن لا يفعلها ، أو يفعلها وقتا دون وقت ، أو يفعلها على وجه ناقص . " والذين في أموالهم حق معلوم " من زكاة وصدقة " للسائل " الذي يتعرض للسؤال ، " والمحروم " وهو : المسكين الذي لا يسأل الناس فيعطوه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه . " والذين يصدقون بيوم الدين " ، أي : يؤمنون بما أخبر به الله ، وأخبرت به الرسل ، من الجزاء والبعث ، ويتيقنون ذلك ، فيستعدون للآخرة ، ويسعون لها سعيها . والتصديق بيوم الدين ، يلزم منه التصديق بالرسل ، وبما جاءوا به من الكتب . " والذين هم من عذاب ربهم مشفقون " ، أي : خائفون وجلون ، فيتركون لذلك تكل ما يقربهم من عذاب الله . " إن عذاب ربهم غير مأمون " ، أي : هو العذاب الذي يخشى ويحذر . " والذين هم لفروجهم حافظون " فلا يطأون بها وطئا محرما ، من زنى ، أو لواط ، أو وطء في دبر ، أو حيض ، ونحو ذلك . ويحفظونها أيضا من النظر إليها ومسها ، ممن لا يجوز له ذلك ، ويتركون أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة . " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " ، أي : سرياتهم " فإنهم غير ملومين " في وطئهن ، في المحل الذي هو محل الحرث . " فمن ابتغى وراء ذلك " ، أي : غير الزوجة ، وملك اليمين ، " فأولئك هم العادون " ، أي :(2/442)
المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم الله . ودلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة ، لكونها غير زوجة مقصودة ، ولا ملك يمين . " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " ، أي : مراعون لها ، حافظون مجتهدون على أدائها ، والوفاء بها . وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربه ، كالتكاليف السرية التي لا يطلع عليها إلا الله ، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق ، في الأموال والأسرار . وكذلك العهد ، شامل للعهد الذي عاهد عليه الله ، والعهد الذي عاهد الخلق عليه ، فإن العهد يسأل عنه العبد ، هل قام به ووفاه ، أم رفضه وخانه ، فلم يقم به ؟ " والذين هم بشهاداتهم قائمون " ، أي : لا يشهدون إلا بما يعلمونه ، من غير زيادة ولا نقص ، ولا كتمان ، ولا يحابي فيها قريبا ولا صديقا ونحوه ، ويكون القصد بإقامتها ، وجه الله . قال تعالى : " وأقيموا الشهادة لله "...." يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين "
" والذين هم على صلاتهم يحافظون " بالمداومة عليها على أكمل الوجوه . " أولئك " ، أي : الموصوفون بتلك الصفات " في جنات مكرمون " ، أي : قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون . وحاصل هذا ، أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة ، والأخلاق المرضية الفاضلة ، من العبادات البدنية ، كالصلاة ، والمداومة عليها ، والأعمال القلبية كخشية الله الداعية لكل خير ، والعبادات المالية ، والعقائد النافعة ، والأخلاق الفاضلة ، ومعاملة الله ، ومعاملة خلقه ، أحسن معاملة : من إنصافهم ، وحفظ حقوقهم وأماناتهم ، والعفة التامة بحفظ الفروج ، عما يكرهه الله تعالى .
ومن سورة الجن ثماني آيات(2/443)
قوله تعالى:? َوأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً * وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً *? (الجن : 16 - 23 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/444)
" وأن لو استقاموا على الطريقة " المثلى " لأسقيناهم ماء غدقا " ، أي : هنيئا مريئا ، ولم يمنعهم من ذلك ، إلا ظلمهم وعدوانهم . " لنفتنهم فيه " ، أي : لنختبرهم ونمتحنهم ليظهر الصادق من الكاذب . " ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا " ، أي : من أعرض عن ذكر الله ، الذي هو كتابه ، فلم يتبعه ، وينقد له ، بل لها عنه وغفل ، يسلكه عذابا صعدا ، أي : بليغا شديدا . " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا " ، أي : لا دعاء عبادة ، ولا دعاء مسألة ، فإن المساجد ، التي هي أعظم محال للعبادة ، مبنية على الإخلاص لله ، والخضوع لعظمته ، والاستكانة لعزته . " وأنه لما قام عبد الله يدعوه " ، أي : يسأله ويتعبد له ، ويقرأ القرآن . " كادوا " ، أي : الجن من تكاثرهم عليه " يكونون عليه لبدا " ، أي : متلبدين متراكمين ، حرصا على ما جاء به من الهدى . " قل " لهم يا أيها الرسول ، مبينا حقيقة ما تدعو إليه : " إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا " ، أي : أوحده ، وحده لا شريك له ، وأخلع ما دونه من الأنداد والأوثان ، وكل ما يتخذه المشركون من دونه . " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " ، فإني عبد ليس لي من الأمر والتصرف شيء . " قل إني لن يجيرني من الله أحد " أي : لا أحد أستجير به ينقذني من عذاب الله . وإذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق ، لا يملك ضرا ولا رشدا ، ولا يمنع نفسه من الله شيئا ، إن أراده بسوء ، فغيره من الخلق ، من باب أولى وأحرى . " ولن أجد من دونه ملتحدا " ، أي : ملجأ ومنتصرا " إلا بلاغا من الله ورسالاته " ، أي : ليس لي مزية على الناس ، إلا أن الله خصني بإبلاغ رسالاته ودعوة خلقه إليه ، وبذلك تقوم الحجة على الناس . " ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا " ، وهذا المراد به المعصية الكفرية ، كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة . وأما مجرد المعصية ، فإنه لا يوجب الخلود في النار ، كما دلت على ذلك آيات(2/445)
القرآن ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة ، وأئمة هذه الآمة
ومن سورة المزمل تسع آيات
قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * ? (المزّمِّل : 1 - 10 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/446)
المزمل : المتغطي بثيابه كالمدثر ، وهذا الوصف ، حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أكرمه الله برسالته ، وابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه ، فرأى أمرا لم ير مثله ، ولا يقدر على الثبات عليه إلا المرسلون ، فاعتراه عند ذلك انزعاج ، حين رأى جبريل عليه السلام ، فأتى إلى أهله فقال : " زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه . ثم جاءه جبريل ، فقال : " اقرأ " ، فقال : " ما أنا بقارىء " ، فغطه حتى بلغ منه الجهد ، وهو يعالجه على القراءة ، فقرأ صلى الله عليه وسلم . ثم ألقى الله عليه الثبات ، وتابع عليه الوحي ، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين . فسبحان الله ، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها ، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف ، الذي وجد منه أول أمره . فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به ، ثم أمره بالصبر على أذية قومه ، ثم أمره بالصدع بأمره ، وإعلان دعوتهم إلى الله . فأمره هنا بأشرف العبادات ، وهي الصلاة ، وبآكد الأوقات وأفضلها ، وهو قيام الليل . ومن رحمته به ، أنه لم يأمره بقيام الليل كله ، بل قال : " قم الليل إلا قليلا ". ثم قدر ذلك ، فقال : " نصفه أو انقص منه " ، أي : من النصف " قليلا " بأن يكون الثلث ونحوه " أو زد عليه " ، أي : على النصف ، فيكون نحو الثلثين . " ورتل القرآن ترتيلا " فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر ، وتحريك القلوب به ، والتعبد بآياته ، والتهيؤ والاستعداد التام له . فإنه قال : " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " ، أي : نوحي إليك هذا القرآن الثقيل ، أي : العظيمة معانيه ، الجليلة أوصافه ، وما كان بهذا الوصف ، حقيق أن يتهيأ له ، ويرتل ، ويتفكر فيما يشتمل عليه . ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل ، فقال : " إن ناشئة الليل " ، أي : الصلاة فيه بعد النوم " هي أشد وطأ وأقوم قيلا " ، أي : أقرب إلى حصول مقصود القرآن ، يتواطأ عليه القلب واللسان ، وتقل الشواغل ، ويفهم ما(2/447)
يقول ، ويستقيم له أمره . وهذا بخلاف النهار ، فإنه لا تحصل به هذه المقاصد ، ولهذا قال : " إن لك في النهار سبحا طويلا " ، أي : ترددا في حوائجك ومعاشك ، يوجب اشتغال القلب ، وعدم تفرغه التفرغ التام . " واذكر اسم ربك " شامل لأنواع الذكر كلها " وتبتل إليه تبتيلا "
، أي : انقطع إليه ، فإن الانقطاع إلى الله ، والإنابة إليه ، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق ، والاتصاف بمحبة الله ، وما يقرب إليه ، ويدني من رضاه . " رب المشرق والمغرب " وهذا اسم جنس ، يشمل المشارق والمغارب كلها ، فهو تعالى رب المشارق والمغارب ، وما يكون فيها من الأنوار ، وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي ، فهو رب كل شيء ، وخالقه ، ومدبره . " لا إله إلا هو " ، أي : لا معبود إلا وجهه الأعلى ، الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم ، والإجلال والتكريم ، ولهذا قال : " فاتخذه وكيلا " ، أي : حافظا ومدبرا لأمورك كلها . فلما أمره الله بالصلاة خصوصا ، وبالذكر عموما ، وبذلك تحصل للعبد ملكة قوية ، في تحمل الأثقال ، وفعل الشاق من الأعمال ، أمره بالصبر ، على ما يقوله المعاندون له ويسبونه ، ويسبون ما جاء به ، وأن يمضي على أمر الله ، لا يصده عنه صاد ، ولا يرده راد ، وأن يهجرهم هجرا جميلا ، وهو الهجر ، حيث اقتضت المصلحة الهجر ، الذي لا أذية فيه ، بل يعاملهم بالهجر والإعراض عن أقوالهم التي تؤذيه ، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن .
ومن سورة المدثر سبع آيات
قوله تعالى :? يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * ? (المدّثر : 1 - 7 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/448)
تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاجتهاد في عبادات الله القاصرة والمتعدية ، فتقدم هناك ، الأمر له بالعبادات الفاضلة والقاصرة ، والصبر على أذى قومه . وأمره هنا بالإعلان بالدعوة ، والصدع بالإنذار ، فقال : " قم " ، أي : بجد ونشاط " فأنذر " الناس ، بالأقوال والأفعال التي يحصل بها المقصود ، وبيان حال المنذر عنه ، ليكون ذلك أدعى لتركه . " وربك فكبر " ، أي : عظمه بالتوحيد ، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله ، وأن يعظمه العباد ويقوموا بعبادته . " وثيابك فطهر " يحتمل أن المراد بالثياب ، أعماله كلها ، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها ، وإيقاعها على أكمل الوجوه ، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات ، والمنقصات من شر ورياء ، ونفاق ، وعجب وتكبر وغفلة ، وغير ذلك ، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته . ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة ، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة ، التي قال كثير من العلماء : إن إزالة النجاسة عنها ، شرط من شروطها : ـ أي : من شروط صحتها ـ . ويحتمل أن المراد بثيابه ، الثياب المعروفة ، وأنه مأمور بتطهيرها عن جميع النجاسات ، في جميع الأوقات ، خصوصا عند الدخول في الصلوات ، وإذا كان مأمورا بطهارة الظاهر ، فإن طهارة الظاهر ، من تمام طهارة الباطن . " والرجز فاهجر " يحتمل أن المراد بالرجز : الأصنام ، والأوثان ، التي عبدت مع الله ، فأمره بتركها والبراءة منها ، ومما نسب إليها ، من قول أو عمل . ويحتمل أن المراد بالرجز : أعمال الشر كلها ، وأقواله ، فيكون أمرا له بترك الذنوب ، صغارها وكبارها ، ظاهرها وباطنها ، فيدخل في هذا الشرك فما دونه . " ولا تمنن تستكثر " ، أي : لا تمنن على الناس ، بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية ، فتستكثر بتلك المنة ، وترى الفضل عليهم . بل أحسن إلى الناس ، مهما أمكنك ، وانس عندهم إحسانك ، واطلب(2/449)
أجرك من الله تعالى ، واجعل من أحسنت إليه وغيره ، على حد سواء . وقد قيل : إن معنى هذا ، ألا تعطي أحدا شيئا ، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه ، فيكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم . " ولربك فاصبر " ، أي : احتسب بصبرك ، واقصد به وجه الله تعالى . فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه ، وبادر فيه ، فأنذر الناس ، وأوضح لهم بالآيات البينات ، جميع المطالب الإلهية . وعظم الله تعالى ، ودعا الخلق إلى تعظيمه ، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء . وهجر كل ما يعبد من دون الله ، وما يعبد معه من الأصنام وأهلها ، والشر وأهله . وله المنة على الناس ـ بعد منة الله ـ من غير أن يطلب عليهم بذلك جزاء ولا شكورا . وصبر لربه أكمل صبر ، فصبر على طاعة الله ، وعن معاصيه ، وصبر على أقداره المؤلمة ، حتى فاق أولي العزم من المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
ومن سورة الإنسان سبع آيات
قوله تعالى: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً * نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً *? (الإنسان : 23 - 30 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/450)
" إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا " ، وفيه الوعد والوعيد ، وبيان كل ما يحتاجه العباد . وفيه الأمر بالقيام بأوامره وشرائعه أتم القيام ، والسعي في تنفيذها ، والصبر على ذلك . ولهذا قال : " فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا " ، أي : اصبر لحكمه القدري ، فلا تسخطه ، ولحكمه الديني ، فامض عليه ، ولا يعوقنك عنه عائق . " ولا تطع " من المعاندين ، الذين يريدون أن يصدوك " إثما " ، أي : فاعلا إثما ومعصية " أو كفورا " ، فإن طاعة الكفار والفجار والفساق ، لا بد أن تكون معصية لله ، فإنهم لا يأمرون إلا بما تهواه أنفسهم . ولما كان الصبر يستمد من القيام بطاعة الله ، والإكثار من ذكره ، أمر الله بذلك ، فقال : "واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا " ، أي : أول النهار وآخره ، فدخل في ذلك الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل ، والذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، والتكبير في هذه الأوقات . " ومن الليل فاسجد له " ، أي : أكثر له من السجود ، وذلك متضمن لكثرة الصلاة . " وسبحه ليلا طويلا " ، وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله : " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه "
. وقوله : " إن هؤلاء " ، أي : المكذبين لك أيها الرسول ، بعد ما بينت لهم الآيات ، ورغبوا ورهبوا ، ومع ذلك ، لم يفد فيهم ذلك شيئا بل لا يزالون " يحبون العاجلة " ويطمئنون إليها . " ويذرون " ، أي : يتركون العمل ، ويهملون
" وراءهم " أي : أمامهم " يوما ثقيلا " وهو يوم القيامة ، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون . وقال تعالى :(2/451)
" يقول الكافرون هذا يوم عسر " . فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا ، والإقامة فيها . ثم استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي ، وهو دليل الابتداء ، فقال : " نحن خلقناهم " ، أي : أوجدناهم من العدم " وشددنا أسرهم " ، أي : أحكمنا خلقتهم بالأعصاب ، والعروق ، والأوتار ، والقوى الظاهرة والباطنة ، حتى تم الجسم واستكمل ، وتمكن من كل ما يريده . فالذي أوجدهم على هذه الحالة ، قادر على أن يعيدهم بعد موتهم ، لجزائهم ، والذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الأطوار ، لا يليق به أن يتركهم سدى ، لا يؤمرون ، ولا ينهون ، ولا يثابون ، ولا يعاقبون ، ولهذا قال : " وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا " ، أي : أنشأناهم للبعث نشأة أخرى ، وأعدناهم بأعيانهم ، وهم بأنفسهم أمثالهم .
" إن هذه تذكرة " ، أي : يتذكر بها المؤمن ، فينتفع بما فيها ، من التخويف والترغيب . " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا "
، أي : طريقا موصلا إليه . فالله ، يبين الحق والهدى ، ثم يخير الناس بين الاهتداء بها ، والنفور عنها ، إقامة للحجة
" ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة "...
" وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " فإن مشيئة الله نافذة . " إن الله كان عليما حكيما " فله الحكمة في هداية المهتدي ، وإضلال الضال . " يدخل من يشاء في رحمته " فيختصه بعنايته ، ويوفقه لأسباب السعادة ويهديه لطرقها .
" والظالمين " الذين اختاروا الشقاء على الهدى " أعد لهم عذابا أليما " بظلمهم وعدوانهم
ومن سورة النازعات سبع آيات
قوله تعالى :? يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * ? (النازعات : 35 - 41 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/452)
قوله تعالى :" فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى "
أي : إذا جاءت القيامة الكبرى ، والشدة العظمى ، التي يهون عندها كل شدة ، فحينئذ يذهل الوالد عن ولده ، والصاحب عن صاحبه ، وكل محب عن حبيبه . و " يتذكر الإنسان ما سعى " في الدنيا ، من خير وشر ، فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته ، ويغم ويحزن لزيادة مثقال ذرة في سيئاته . ويعلم إذا ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا ، وينقطع كل سبب وصلة كانت له في الدنيا ، سوى الأعمال . " وبرزت الجحيم لمن يرى " ، أي : جعلت في البراز ، ظاهرة لكل أحد قد هيئت لأهلها ، واستعدت لأخذهم ، منتظرة لأمر ربها . " فأما من طغى " ، أي : جاوز الحد ، بأن تجرأ على المعاصي الكبار ، ثم يقتصر على ما حده الله . " وآثر الحياة الدنيا " على الآخرة ، فصار سعيه لها ، ووقته مستغرقا في حظوظها وشهواتها ، ونسي الأخرة والعمل لها . " فإن الجحيم هي المأوى " له ، أي : المقر والمسكن لمن هذه حاله . " وأما من خاف مقام ربه " أي : خاف القيام عليه ، ومجازاته بالعدل فأثر هذا الخوف في قلبه ، " ونهى النفس عن الهوى " الذي يصدها عن طاعة الله ، وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول ، وجاهد الهوى والشهوة ، الصادين عن الخير . " فإن الجنة " المشتملة على كل خير وسرور ونعيم " هي المأوى " لمن هذا وصفه .
ومن سورة الإنشقاق ثلاث آيات
قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ*فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً *وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً *? (الانشقاق : 6 - 9 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/453)
" يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " أي : إنك ساع إلى الله ، وعامل بأوامره ونواهيه ، ومتقرب إليه إما بالخير ، وإما بالشر ، ثم تلاقي الله يوم القيامة فلا تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل ، بالفضل إن كنت سعيدا ، وبالعقوبة العادلة إن كنت شقيا . ولهذا ذكر تفضيل الجزاء ، فقال : " فأما من أوتي كتابه بيمينه " ، وهم أهل السعادة . " فسوف يحاسب حسابا يسيرا " وهو العرض اليسير على الله ، فيقرره الله بذنوبه ، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك ، قال الله تعالى : ( إني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أسترها لك اليوم ) . " وينقلب إلى أهله " في الجنة . " مسرورا " لأنه قد نجا من العذاب وفاز بالثواب .
ومن سورة الأعلى ست آيات
قوله تعالى: ? قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى*?(الأعلى : 14 - 19 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/454)
" قد أفلح من تزكى " ، أي : قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والظلم ومساوىء الأخلاق . " وذكر اسم ربه فصلى " ، أي : اتصف بذكر الله ، وانصبغ به قلبه ، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله ، خصوصا الصلاة ، التي هي ميزان الإيمان ، هذا معنى الآية . وأما من فسر قوله : " تزكى " يعني أخرج زكاة الفطر ، وذكر اسم ربه فصلى ، أنه صلاة العيد ، فإنه وإن كان داخلا في اللفظ ، وبعض جزئياته ، فليس هو المعنى وحده . بل تؤثرون الحياة الدنيا " ، أي : تقدمونها على الآخرة ، وتختارون نعيمها المنغص المدكر الزائل ، على الآخرة . " والآخرة خير وأبقى " : خير من الدنيا في كل وصف مطلوب ، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء ، والدنيا دار فناء . فالمؤمن العاقل ، لا يختار الأردأ على الأجود ، ولا يبيع لذة ساعة ، بترحة الأبد . فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة . " إن هذا " المذكور لكم في هذه السورة المباركة ، من الأوامر الحسنة ، والأخبار المستحسنة " لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى " اللذين هما أشرف المرسلين ، بعد محمد صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين . فهذه أوامر في كل شريعة ، لكونها عائدة إلى مصالح الدارين ، وهي مصالح في كل زمان ومكان ، ولله الحمد .
ومن سورة الفجر ست آيات
قوله تعالى: ? فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً * ? ( الفجر 15 - 20 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/455)
يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو ، وأنه جاهل ظالم ، لا علم له بالعواقب ، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول ، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه ، يدل على كرامته وقربه منه . وإنه إذا " قدر عليه رزقه " أي : ضيقه ، فصار يقدر قوته لا يفضل عنه ، أن هذا إهانة من الله له ، فرد الله عليه هذا الحسبان ، فقال : " كلا " ، أي : ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي ، ولا كل من قدرت عليه رزقه ، فهو مهان لدي . وإنما الغنى والفقر ، والسعة والضيق ، ابتلاء من الله ، وامتحان يمتحن به العباد ، ليرى من يقوم بالشكر والصبر فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل ، ومن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل . وأيضا ، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط ، من ضعف الهمة ، ولهذا لامهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين ، فقال : " كلا بل لا تكرمون اليتيم " الذي فقد أباه وكاسبه ، واحتاج إلى جبر خاطره والإحسان إليه . فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه ، وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم ، وعدم الرغبة في الخير . " ولا تحاضون على طعام المسكين " ، أي : لا يحض بعضكم بعضا ، على إطعام المحاويج من الفقراء والمساكين ، وذلك لأجل الشح على الدنيا ، ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب ، ولهذا قال : " وتأكلون التراث " ، أي : المال المخلف " أكلا لما " ، أي : ذريعا ، لا تبقون على شيء منه . " وتحبون المال حبا جما " أي : شديدا ، وهذا كقوله : " بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى " ؛ وقوله : " كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة "
ومن سورة البلد سبع آيات(2/456)
قوله تعالى: ? فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ * ? ( البلد 11 - 20 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/457)
" فلا اقتحم العقبة " ، أي : لم يقتحمها ويعبر عليها ، لأنه متبع لهواه . وهذه العقبة شديدة عليه ، ثم فسر هذه العقبة بقوله : " وما أدراك ما العقبة فك رقبة " ، أي : فكها من الرق ، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها ، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار . " أو إطعام في يوم ذي مسغبة " ، أي : مجاعة شديدة ، بأن يطعم وقت الحاجة ، أشد الناس حاجة . " يتيما ذا مقربة " جامعا بين كونه يتيما ، وفقيرا ذا قرابة . " أو مسكينا ذا متربة " ، أي : قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة . " ثم كان من الذين آمنوا " وعملوا الصالحات ، أي : آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به ، وعملوا الصالحات بجوارحهم . فدخل في هذا كل قول وفعل واجب أو مستحب . " وتواصوا بالصبر " على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضا ، على الانقياد لذلك ، والإتيان به ، كاملا منشرحا به الصدر ، مطمئنة به النفس . " وتواصوا بالمرحمة " للخلق ، من إعطاء محتاجهم ، وتعليم جاهلهم ، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه ، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه . أولئك قاموا بهذه الأوصاف ، والذين وفقهم الله لاقتحام العقبة " أولئك أصحاب الميمنة " لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده ، وتركوا ما نهوا عنه ، وهذا عنوان السعادة وعلامتها . " والذين كفروا بآياتنا " بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم ، فلم يصدقوا بالله ، ولا آمنوا به ، ولا عملوا صالحا ، ولا رحموا عباد الله . " هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة " ، أي : مغلقة ، في عمد ممددة ، قد مدت من ورائها ، لئلا تنفتح أبوابها ، حتى يكونوا في ضيق ، وهم وشدة .
ومن سورة الشمس أربع آيات(2/458)
قوله تعالى : ? وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا * ? ( الشمس 7 - 10 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ونفس وما سواها " يحتمل أن المراد ، ونفس سائر المخلوقات الحيوانية ، كما يؤيد هذا العموم . ويحتمل أن الإقسام بنفس الإنسان المكلف ، بدليل ما يأتي بعده . وعلى كل ، فالنفس آية كبيرة من آياته التي يحق الإقسام بها ، فإنها في غاية اللطف والخفة ، سريعة التنقل والحركة والتغير ، والتأثر والانفعالات النفسية ، من الهم ، والإرادة ، والقصد ، والحب ، والبغض . وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه . وتسويتها على ما هي عليه ، آية من آيات الله العظيمة . وقوله : " قد أفلح من زكاها " ، أي : طهر نفسه من الذنوب ، ونقاها من العيوب ، ورقاها بطاعة الله ، وعلاها بالعلم النافع ، والعمل الصالح . " وقد خاب من دساها " ، أي : أخفى نفسه الكريمة ، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها ، بالتدنس بالرذائل ، والدنو من العيوب والذنوب ، وترك ما يكملها وينميها ، واستعمال ما يشينها ويدسيها...
ومن سورة الليل عشر آيات
قوله تعالى : ? إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * ? (الليل : 4 - 14 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/459)
" إن سعيكم لشتى " هذا هو المقسم عليه ، أي : إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتا كثيرا ، وذلك بحسب تفاوت نفس الأعمال ومقدارها ، والنشاط فيها ، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال ، هل هو وجه الله الأعلى الباقي ؟ فيبقى العمل له ببقائه ، وينتفع به صاحبه ، أم هي غاية مضمحلة فانية ، فيبطل السعي ببطلانها ويضمحل باضمحلالها ؟ وهذا كل عمل يقصد به غير وجه الله ، بهذا الوصف . ولهذا فضل الله العاملين ، ووصف أعمالهم ، فقال : " فأما من أعطى " ، أي : ما أمر به من العبادات المالية : كالزكوات ، والنفقات ، والكفارات ، والصدقات ، والإنفاق في وجوه الخير . والعبادات البدنية : كالصلاة ، والصوم غيرهما . والمركبة من ذلك : كالحج والعمرة ونحوهما . " واتقى " ما نهى عنه ، من الحرمات والمعاصي ، على اختلاف أجناسها . " وصدق بالحسنى " ، أي : صدق ب ـ " لا إله إلا الله " وما دلت عليه ، من العقائد الدينية ، وما ترتب عليها من الجزاء . " فسنيسره لليسرى " ، أي : نيسر له أمره ، ونجعله مسهلا عليه كل خير ، ميسرا له ترك كل شر ، لأنه أتى بأسباب التيسير ، فيسر الله له ذلك . " وأما من بخل " بما أمر به ، فترك الإنفاق الواجب والمستحب ، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله . " واستغنى " عن الله ، فترك عبوديته جانبا ، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها ، الذي لا نجاة لها ، ولا فوز ، ولا فلاح ، إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها ، الذي تقصده وتتوجه إليه . " وكذب بالحسنى " ، أي : بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة . " فسنيسره للعسرى " ، أي : للحالة العسرة ، والخصال الذميمة ، بأن يكون ميسرا للشر ، أينما كان ، ومقيضا له أفعال المعاصي ، نسأل الله العافية . " وما يغني عنه ماله " الذي أطغاه ، واستغنى به ، وبخل به . " إذا تردى " ، أي : هلك ومات ، فإنه لا يصحب الإنسان إلا عمله الصالح . وأما ماله الذي لم يخرج(2/460)
منه الواجب ، فإنه يكون وبالا عليه ، إذا لم يقدم منه لآخرته شيئا . " إن علينا للهدى " ، أي : إن الهدى المستقيم طريقه يوصل إلى الله ، ويدني من رضاه . وأما الضلال ، فطرفة مسدودة عن الله ، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد . " وإن لنا للآخرة والأولى " ملكا وتصرفا ، ليس له فيهما مشارك ، فليرغب الراغبون إليه في الطلب ، ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين . " فأنذرتكم نارا تلظى " ، أي : تستعر وتتوقد .
ومن سورة الضحى ثلاث آيات
قوله تعالى:? َأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ*وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ*وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ * ? ( الضحى 9 - 11 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" فأما اليتيم فلا تقهر " ، أي : لا تسيء معامل اليتيم ، ولا يضق صدرك عليه ، ولا تنهره ، بل أكرمه ، وأعطه ما تيسر ، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك . " وأما السائل فلا تنهر " ، أي : لا يصدر منك كلام للسائل ، يقتضي رده عن مطلوبه ، بنهر وشراسة خلق ، بل أعطه ما تيسر عندك أو رده بمعروف وإحسان . ويدخل في هذا : السائل للمال ، والسائل للعلم ، ولهذا كان المعلم مأمورا بحسن الخلق مع المتعلم ، ومباشرته بالإكرام ، والتحنن عليه ، فإنه في ذلك معونة له على مقصده ، وإكراما لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد . " وأما بنعمة ربك فحدث " وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية ، أي : أثن على الله بها ، وخصها بالذكر ، إن كان هناك مصلحة . وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق ، فإن التحدث بنعمة الله ، داع لشكرها ، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها ، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن
ومن سورة العلق سبع آيات(2/461)
قوله تعالى: ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * ? ( الغلق 1 - 7 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
هذه السورة أول السور القرآنية نزولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإنها نزلت في مبادىء النبوة ، إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان . فجاءه جبريل عليه السلام بالرسالة ، وأمره أن يقرأ ، فاعتذر ، وقال : " ما أنا بقارىء " فلم يزل به حتى قرأ . فأنزل الله : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " عموم الخلق . ثم خص الإنسان ، وذكر ابتداء خلقه " من علق " . فالذي خلق الإنسان ، واعتنى بتدبيره ، لا بد أن يدبر بالأمر والنهي ، وذلك بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب . ولهذا أتى بعد الأمر بالقراءة ، بخلقه للإنسان . ثم قال : " اقرأ وربك الأكرم " ، أي : كثير الصفات واسعها ، كثير الكرم والإحسان ، واسع الجود ، الذي من كرمه أن علم أنواع العلوم . و " علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه ، لا يعلم شيئا ، وجعل له السمع والبصر والفؤاد ، ويسر له أسباب العلم . فعلمه القرآن ، وعلمه الحكمة ، وعلمه بالقلم ، الذي به تحفظ العلوم ، وتضبط الحقوق ، وتكون رسلا للناس ، تنوب مناب خطابهم . فلله الحمد والمنة ، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها ، على جزاء ولا شكور . ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق . ولكن الإنسان ـ لجهله وظلمه ـ إذا رأى نفسه غنيا ، طغى وبغى ، وتجبر عن الهدى ، ونسي أن لربه الرجعى ، ولم يخف الجزاء ، بل ربما وصلت به الحال إلى أنه يترك الهدى بنفسه ، ويدعو غيره إلى تركه ...
? قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى(2/462)
بسم الله الرحمن الرحيم سورة اقرأ وهي مكية وهي أول شيء نزل من القرآن قال الإمام أحمد 6232 حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فاجأه الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال اقرأ قال رسول الله فقلت ما أنا بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) حتى بلغ ( مالم يعلم ) قال فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال ياخديجة مالي وأخبرها الخبر وقال قد خشيت على نفسي فقالت له كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو بن عم خديجة أخي أبيها وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت خديجة أي بن عم اسمع من بن أخيك فقال ورقة أبن أخي ما ترى فأخبره رسول الله بما رأى فقال ورقة هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك فقال رسول الله أو مخرجي هم فقال ورقة نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا(2/463)
مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى فمن أراده فهو هناك محرر ولله الحمد والمنة فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهن أول رحمة رحم الله بها العباد وأول نعمة أنعم الله بها عليهم وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة والعلم تارة يكون في الأذهان وتارة يكون في اللسان وتارة يكون في الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي والرسمي يستلزمهما من غير عكس فلهذا قال ( إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) وفي الأثر قيدوا العلم بالكتابة وفيه أيضا من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم ....
ومن سورة الزلزلة آيتان
قوله تعالى:? فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ *? (الزلزلة : 7 - 8 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
وهذا شامل عام للخير والشر كله ، لأنه إذا رأى مثقال الذرة ، التي هي أحقر الأشياء ، وجوزي عليها ، فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى ، كما قال تعالى : " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا "؛ وقال : " ووجدوا ما عملوا حاضرا " . وهذا ، فيه الترغيب في فعل الخير ولو قليلا ، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرا .(2/464)
ومن سورة العاديات ست آيات
قوله تعالى: ? إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ * ? (العاديات : 6 - 11 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" إن الإنسان لربه لكنود " ، أي : منوع للخير ، الذي لله عليه . فطبيعة الإنسان وجبلته ، أن نفسه ، لا تسمح بما عليه من الحقوق ، فتؤديها كاملة موفرة ، بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليها من الحقوق المالية والبدنية ، إلا من هداه الله وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق . " وإنه على ذلك لشهيد " ، أي : إن الإنسان ، على ما يعرف من نفسه من المنع والكند ، لشاهد بذلك ، لا يجحده ولا ينكره ، لأن ذلك ، بين واضح . ويحتمل أن الضمير عائد إلى الله ، أي : إن العبد لربه لكنود ، والله شهيد على ذلك ، ففيه الوعيد ، والتهديد الشديد ، لمن هو عليه كنود ، بأن الله عليه شهيد . " وإنه " ، أي : الإنسان " لحب الخير " ، أي : المال " لشديد " ، أي : كثير الحب للمال . وحبه لذلك ، هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه ، قدم شهوة نفسه على رضا ربه ، وكل هذا لأنه قصر نظره على هذه الدار ، وغفل عن الآخرة . ولهذا قال ـ حاثا له على خوف يوم الوعيد ـ : " أفلا يعلم " ، أي : هلا يعلم هذا المعتز " إذا بعثر ما في القبور " ، أي : أخرج الله الأموات من قبورهم ، لحشرهم ونشرهم . " وحصل ما في الصدور " ، أي : ظهر وبان ما فيها ، وما استتر في الصدور من كمائن الخير والشر ، فصار السر علانية ، والباطن ظاهرا ، وبان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم . " إن ربهم بهم يومئذ لخبير " بأعمالهم الظاهرة والباطنة ، الخفية والجلية ، ومجازيهم عليها . وخص خبرهم بذلك اليوم ، مع أنه خبير بهم في كل وقت ،(2/465)
لأن المراد بهذا ، الجزاء على الأعمال ، الناشىء عن علم الله ، واطلاعه .
وسورة التكاثر كلها ثماني آيات
قوله تعالى: ? أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ * ? ( سورة التكاثر )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى موبخا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده لا شريك له ، ومعرفته ، والإنابة إليه ، وتقديم محبته على كل شيء . " ألهاكم " عن ذلك المذكور " التكاثر " ، ولم يذكر المتكاثر به ، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون ، ويفتخر به المفتخرون ، من الأموال ، والأولاد ، والأنصار ، والجنود ، والخدم ، والجاه ، وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد للآخر ، وليس المقصود منه وجه الله . فاستمرت غفلتكم ، ولهوتكم ، وتشاغلكم " حتى زرتم المقابر " ، فانكشف حينئذ لكم الغطاء ، ولكن بعدما تعذر عليكم استئنافه . ودل قوله : " حتى زرتم المقابر " أن البرزخ دار ، المقصود منها ، النفوذ إلى الدار الآخرة ، لأن الله سماهم زائرين ، ولم يسمهم مقيمين . فدل ذلك على البعث ، والجزاء على الأعمال ، في دار باقية غير فانية ، ولهذا توعدهم بقوله : " كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين "(2/466)
، أي : لو تعلمون ما أمامكم ، علما يصل إلى القلوب ، لما ألهاكم التكاثر ، ولبادرتهم إلى الأعمال الصالحة . ولكن عدم العلم الحقيقي ، صيركم إلى ما ترون . " لترون الجحيم " ، أي : لترون القيامة ، فلترون الجحيم ، التي أعدها الله للكافرين . " ثم لترونها عين اليقين " ، أي : رؤية بصرية ، كما قال تعالى : " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا "..." ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " الذي تنعمتم به في دار الدنيا ، هل قمتم بشكره ، وأديتم حق الله فيه ، ولم تستعينوا به على معاصيه ، فينعمكم نعيما أعلى منه وأفضل . أم اغتررتم به ، ولم تقوموا بشكره ؟ بل ربما استعنتم به على المعاصي ، فيعاقبكم على ذلك ، قال تعالى : " (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف : 20 )
وسورة العصر كلها ثلاث آيات
قوله تعالى: ? وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ * ? ( سورة العصر )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/467)
أقسم تعالى بالعصر ، الذي هو الليل والنهار ، محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر ، والخاسر ضد الرابح . والخسار مراتب متعددة متفاوته : قد يكون خسارا مطلقا ، كحال من خسر الدنيا ، والآخرة ، وفاته النعيم ، واستحق الجحيم . وقد يكون خاسرا من بعض الوجوه ، دون بعض ، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان ، إلا من اتصف بأربع صفات : الإيمان بما أمر الله بالإيمان به ، ولا يكون الإيمان بدون العلم ، فهو فرع عنه ، لا يتم إلا به . والعمل الصالح ، وهذا شامل لأفعال الخير كلها ، الظاهرة ، والباطنة ، المتعلقة بحقوق الله ، وحقوق عباده ، الواجبة والمستحبة . والتواصي بالحق ، الذي هو الإيمان والعمل الصالح ، أي : يوصي بعضهم بعضا بذلك ، ويحثه عليه ، ويرغبه فيه . والتواصي بالصبر على طاعة الله ، وعن معصية الله ، وعلى أقدار الله المؤلمة . فبالأمرين الأولين يكمل العبد نفسه ، وبالأمرين الأخيرين ، يكمل غيره . وبتكميل الأمور الأربعة ، يكون العبد ، قد سلم من الخسار ، وفاز بالربح العظيم .
ومن سورة الهمزة ثلاث آيات
قوله تعالى :? وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * ? (الهُمَزَة : 1 - 3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ويل " ، أي : وعيد ، ووبال ، وشدة عذاب " لكل همزة لمزة " ، أي : الذي يهمز الناس بفعله ، ويلمزهم بقوله . فالهماز : الذي يعيب الناس ، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل ، واللماز : الذي يعيبهم بقوله . ومن صفة هذا الغماز ، أنه لا هم له سوى جمع المال وتعديده ، والغبطة به ، وليس له رغبة في إنفاقه ، في طرق الخيرات ، وصلة الأرحام ، ونحو ذلك ." يحسب " بجهله(2/468)
" أن ماله أخلده " في الدنيا ، فلذلك كان كده وسعيه ، في تنمية ماله ، الذي يظن أنه ينمي عمره . " كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ *
وسورة الماعون كلها سبع آيات
قوله تعالى : ? أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ( 5 ) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ * ? ( سورة الماعون )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/469)
" أرأيت الذي يكذب بالدين " ، أي : بالبعث والجزاء ، فلا يؤمن بما جاءت به الرسل . " فذلك الذي يدع اليتيم " ، أي : يدفعه بعنف وشدة ، ولا يرحمه لقساوة قلبه؛ ولأنه لا يرجو ثوابا ، ولا يخاف عقابا . " ولا يحض " غيره " على طعام المسكين " ، ومن باب أولى أنه بنفسه لا يطعم المسكين . " فويل للمصلين " ، أي : الملتزمين لإقامة الصلاة ، ولكنهم " عن صلاتهم ساهون " ، أي : مضيعون لها ، تاركون لوقتها ، ومخلون بأركانها . وهذا لعدم اهتمامهم بأمر الله حيث ضيعوا الصلاة ، التي هي أهم الطاعات . والسهو عن الصلاة ، هو الذي يستحق صاحبه الذم واللوم . وأما السهو في الصلاة ، فهذا يقع من كل أحد ، حتى من النبي صلى الله عليه وسلم . ولهذا وصف الله هؤلاء بالرياء والقسوة ، وعدم الرحمة ، فقال : " الذين هم يراؤون " ، أي : يعملون الأعمال ، لأجل رئاء الناس . " ويمنعون الماعون " ، أي : يمنعون إعطاء الشيء ، الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية ، أو الهبة ، كالإناء ، والدلو ، والفأس ، ونحو ذلك ، مما جرت العادة ببذله ، والسماح به . فهؤلاء ـ لشدة حرصهم ـ يمنعون الماعون ، فكيف بما هو أكثر منه . وفي هذه السورة ، الحث على إطعام اليتيم ، والمساكين ، والتحضيض على ذلك ، ومراعاة الصلاة ، والمحافظة عليها ، وعلى الإخلاص فيها ، وفي سائر الأعمال . والحث على فعل المعروف ، وبذل الأموال الخفيفة ، كعارية الإناء ، والدلو ، والكتاب ، ونحو ذلك ، لأن الله ، ذم من لم يفعل ذلك ، والله سبحانه أعلم .
وسورة النصر ثلاث آيات جملتها
قوله تعالى : ? إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً *? ( سورة النصر )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/470)
في هذه السورة الكريمة ، بشارة وأمر لرسوله عند حصولها ، وإشارة وتنبيه على ما يترتب على ذلك . فالبشارة هي : البشارة بنصر الله لرسوله ، وفتحه مكة ، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، بحيث يكون كثير منهم من أهله وأنصاره ، بعد أن كانوا من أعدائه ، وقد وقع هذا المبشر به . وأما الأمر بعد حصول النصر والفتح ، فأمر رسوله أن يشكره على ذلك ، ويسبح بحمده ويستغفره . وأما الإشارة ، فإن في ذلك إشارتين : إشارة أن النصر يستمر للدين ، ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره ، من رسوله ، فإن هذا من الشكر ، والله يقول : " لئن شكرتم لأزيدنكم " . وقد وجد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في هذه الأمة . لم يزل نصر الله مستمرا ، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان ، ودخل فيه من لم يدخل في غيره ، حتى حدث من الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث ، فابتلوا بتفرق الكلمة ، وتشتت الأمر ، فحصل ما حصل . ومع هذا ، فلهذه الأمة ، وهذا الدين ، من رحمة الله ولطفه ، ما لا يخطر بالبال ، ويدور في الخيال . وأما الإشارة الثانية ، فهي إلى أن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب ودنا ، ووجه ذلك أن عمره ، عمر فاضل ، أقسم الله به . وقد عهد أن الأمور الفاضلة ، تختم بالاستغفار ، كالصلاة ، والحج ، وغير ذلك . فأمر الله لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال ، إشارة إلى أن أجله قد انتهى ، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه ، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه . فكان يتأول القرآن ، ويقول ذلك في صلاته يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " .
و سورة الفلق كلها خمس آيات
قوله تعالى : ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ *وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ * ? ( سورة الفلق )(2/471)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : " قل " متعوذا " أعوذ " ، أي : ألجأ ، وألوذ ، وأعتصم " برب الفلق " ، أي : فالق الحب والنوى ، وفالق الإصباح . " من شر ما خلق " وهذا يشمل جميع ما خلق الله ، من إنس ، وجن ، وحيوانات ، فيستعاذ بخالقها من الشر الذي فيها . ثم خص بعدما عم ، فقال : " ومن شر غاسق إذا وقب " ، أي : من شر ما يكون في الليل ، حين يغشى النعاس ، وينتشر فيه كثير من الأرواح الشريرة ، والحيوانات المؤذية . " ومن شر النفاثات في العقد " ، أي : ومن شر السواحر ، اللاتي يستعن على سحرهن بالنفث في العقد ، التي يعقدنها على السحر . " ومن شر حاسد إذا حسد " ، والحاسد : هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في زوالها ، بما يقدر عليه من الأسباب . فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره ، وإبطال كيده . ويدخل في الحاسد ، العاين؛ لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع ، خبيث النفس . فهذه السورة تضمنت الاستعاذة ، من جميع أنواع الشرور ، عموما وخصوصا . ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره ، ويستعاذ بالله منه ، ومن أهله .
وسورة الناس كلها ست آيات
قوله تعالى : ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ * ?(2/472)
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة برب الناس ومالكهم وإلههم من الشيطان ، الذي هو أصل الشرور كلها ومادتها ، الذي من فتنته وشره أنه يوسوس في صدور الناس ، فيحسن لهم الشر ، ويريهم إياه في صورة حسنة ، وينشط إرادتهم لفعله . ويثبطهم عن الخير ، ويريهم إياه في صورة غير صورته . وهو دائما بهذه الحال ، يوسوس ثم يخنس ، أي : يتأخر عن الوسوسة ، إذا ذكر العبد ربه ، واستعان على دفعه . فينبغي له أن يستعين ويستعيذ ، ويعتصم بربوبية الله للناس كلهم . وأن الخلق كلهم ، داخلون تحت الربوبية والملك ، فكل دابة هو آخذ بناصيتها . وبألوهيته التي خلقهم لأجلها ، فلا تتم لهم إلا بدفع شر عدوهم ، الذي يريد أن يقتطعهم عنها ، ويحول بينهم وبينها ، ويريد أن يجعلهم من حزبه ، ليكونوا من أصحاب السعير . والوسواس كما يكون من الجن ، يكون من الإنس .
*************************************
تم والحمد لله رب العالمين
وكان الفراغ منه يوم 14-5-1427
أبو يوسف محمد زايد(2/473)