فيض الرحمن
تفسير جواهر القرآن
أبو يوسف محمد زايد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الذي أنزل الكتاب المبين على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين صلى الله عليه في الأولين والآخرين وعلى آله المطهرين وصحبه الطيبين وعلى كل من به اقتدى إلى اليوم الذي يفصل فيه الواحد القهار ملك يوم الدين بين عباده أجمعين ...
أما بعد ، فهذا كتاب جواهر القرآن لشيخ الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي ( 555هـ) رحمه الله ... أتبعت كل جوهرة منه بتفسير آياتها من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ( 1376هـ ) رحمه الله ...مع زيادات من تفسير القرآن العظيم لابن كثير رحمه الله تعالى...
أسأل الله العليم الحكيم أن ينفع به وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ... كما أسأله حسن ثواب الآخرة للغزالي والسعدي وابن كثير وجميع الأئمة الأعلام ......
? رَبنَّا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ? ..
الفصل الأول : في أن القرآن هو البحر المحيط وينطوي على أصناف الجواهر والنفائس .....(1/1)
أما بعد حمد الله الذي هو فاتحة كل كتاب والصلاة على رسله التي هي خاتمة كل خطاب فاني أنبهك على رقدتك أيها المسترسل في تلاوتك المتخذ دراسة القرآن عملا المتلقف من معانيه ظواهر وجملا الى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها وتسافر الى جزائرها لاجتناء أطايبها وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بادمان النظر الى سواحلها وظواهرها أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا بالكبريت الأحمر وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر والدر الأزهر والزبرجد الأخضر وساحوا في سواحلها فالتقطوا العنبر الأشهب والعود الرطب الأنضر وتعلقوا الى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق الأكبر والمسك الأذفر وها أنا أرشدك قاضيا حق إخائك ومرتجيا بركة دعائك الى كيفية سياحتهم وغوصهم وسباحتهم
الفصل الثاني : في حصر مقاصد القرآن ونفائسه(1/2)
سر القرآن ولبابه الأصفى ومقصده الأقصى دعوة العباد الى الجبار الأعلى رب الآخرة والأولى خالق السماوات العلى والأرضين السفلى وما بينهما وما تحت الثرى فلذلك انحصرت سور القرآن وآياته في ستة أنواع - ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة - وثلاثة هي الروادف والتوابع المغنية المتمة أما الثلاثة المهمة فهي: 1- تعريف المدعو اليه ؛ 2 -تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك اليه ؛ 3 - تعريف الحال عند الوصول اليه... وأما الثلاثة المغنية المتمة - فأحدها تعريف أحوال المجيبين للدعوة ولطائف صنع الله فيهم وسره ومقصوده التشويق والترغيب وتعريف أحوال الناكبين والناكلين عن الاجابة وكيفية قمع الله لهم وتنكيله لهم وسره ومقصوده الاعتبار والترهيب ؛ وثانيها حكاية أحوال الجاحدين وكشف فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمحاجة على الحق وسره ومقصوده في جنب الباطل الافضاح والتنفير وفي جنب الحق الايضاح والتثبيت والتقهير ؛ وثالثها تعريف عمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد ...فهذه ستة أقسام
الفصل الثالث : في شرح مقاصد القرآن
القسم الأول : في تعريف المدعو اليه
وهو شرح معرفة الله تعالى وذلك هو الكبريت الأحمر وتشتمل هذه المعرفة على: 1- معرفة ذات الحق تبارك وتعالى ؛ 2 - ومعرفة الصفات ؛ 3 - ومعرفة الأفعال... وهذه الثلاثة هي الياقوت الأحمر فانها أخص فوائد الكبريت الأحمر وكما أن لليواقيت درجات فمنها الأحمر والأكهب والأصفر وبعضها أنفس من بعض فكذلك هذه المعارف الثلاثة ليست على رتبة واحدة بل أنفسها :(1/3)
1 - معرفة الذات فهو الياقوت الأحمر ثم يليه معرفة الصفات وهو الياقوت الأكهب ويليه معرفة الأفعال وهو الياقوت الأصفر وكما أن أنفس هذه اليواقيت أجل وأعز وجودا ولا تظفر منه الملوك لعزته الا باليسير وقد تظفر مما دونه بالكثير فكذلك معرفة الذات أضيقها مجالا وأعسرها منالا وأعصاها على الفكر وأبعدها عن قبول الذكر ولذلك لا يشتمل القرآن منها الا على تلويحات واشارات ويرجع ذكرها الى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى:? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? (الشورى 11) وسورة الإخلاص ؛ وإلى التعظيم المطلق كقوله : ?سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? (الأنعام : 100-101)
-2 وأما الصفات فالمجال فيها أفسح ونطاق النطق فيها أوسع ولذلك كثرت الآيات المشتملة على ذكر العلم والقدرة والحياة والكلام والحكمة والسمع والبصر وغيرها(1/4)
-3 وأما الأفعال فبحر متسعة أكنافه ولا تنال بالاستقصاء أطرافه بل ليس في الوجود الا الله وأفعاله وكل ما سواه فعله لكن القرآن يشتمل على الجلي منها الواقع في عالم الشهادة كذكر السموات والكواكب والأرض والجبال والشجر والحيوان والبحار والنبات وانزال الماء الفرات وسائر أسباب النبات والحياة وهي التي ظهرت للحس وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها ما لم يظهر للحس بل هو من عالم الملكوت وهي الملائكة والروحانيات والروح والقلب أعني العارف بالله تعالى من جملة أجزاء الآدمي فانهما أيضا من جملة عالم الغيب والملكوت وخارج عن عالم الملك والشهادة ومنها الملائكة الأرضية الموكلة بجنس الانس وهي التي سجدت لآدم عليه السلام ومنها الشياطين المسلطة على جنس الإنس وهي التي امتنعت عن السجود له ومنها الملائكة السماوية وأعلاهم الكروبيون وهم العاكفون في حظيرة القدس لا التفات لهم الى الآدميين بل لا التفات لهم الى غير الله تعالى لاستغراقهم بجمال الحضرة الربوبية وجلالها فهم قاصرون عليه لحاظهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا تستبعد أن يكون في عباد الله من يشغله جلال الله عن الالتفات الى آدم وذريته ولا يستعظم الآدمي الى هذا الحد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان لله أرضا بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوما مثل أيام الدنيا ثلاثين مرة مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله تعالى يُعصى في الأرض ولا يعلمون أن الله تعالى خلق آدم وإبليس" رواه ابن عباس رضي الله عنه.. واستوسع مملكة الله تعالى ...(1/5)
واعلم أن اكثر أفعال الله وأشرفها لا يعرفها أكثر الخلق بل إدراكهم مقصور على عالم الحس والتخييل وأنهما النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت وهو القشر الأقصى عن اللب الأصفى ومن لم يجاوز هذه الدرجة فكأنه لم يشاهد من الرمان الا قشرته ومن عجائب الانسان الا بشرته فهذه جملة القسم الأول وفيها أصناف اليواقيت وسنتلو عليك الآيات الواردة فيها على الخصوص جملة واحدة فإنها زبدة القرآن وقلبه ولبابه وسره ...
القسم الثاني: في تعريف طريق السلوك الى الله تعالى
وذلك بالتبتل كما قال الله تعالى : ? وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ?(المزّمِّل : 8 ) ؛ أي انقطع إليه، والانقطاع إليه يكون بالاقبال عليه والإعراض عن غيره؛ وترجمته قوله: ? لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) ? (المزّمِّل : 9 ) والإقبال عليه إنما يكون بملازمة الذكر، والإعراض عن غيره يكون بمخالفة الهوى والتنقي عن كدورات الدنيا وتزكية القلب عنها ، والفلاح نتيجتها ، كما قال الله تعالى: ? قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ? (الأعلى : 15 )(1/6)
فعمدة الطريق أمران : الملازمة والمخالفة ... الملازمة لذكر الله تعالى، والمخالفة لما يشغل عن الله .. وهذا هو السفر الى الله وليس في هذا السفر حركة لا من جانب المسافر ولا من جانب المسافر اليه فانهما معا.. أوَما سمعت قوله تعالى وهو أصدق القائلين : ? وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? (قـ : 16 ) ؟ بل مثل الطالب والمطلوب مثل صورة حاضرة مع مرآة ولكن ليست تتجلى في المرآة لصدأ في وجه المرآة فمتى صقلْتها تجلت فيه الصورة ، لا بارتحال الصورة الى المرآة ولا بحركة المرآة الى الصورة ولكن بزوال الحجاب... فان الله تعالى متجل بذاته لا يختفي إذ يستحيل اختفاء النور وبالنور يظهر كل خفاء والله نور السموات والأرض وانما خفاء النور عن الحدقة لأحد أمرين إما لكدورة في الحدقة وإما لضعف فيها ، اذ لا تطيق احتمال النور العظيم الباهر كما لا يطيق نور الشمس أبصار الخفافيش... فما عليك إلا أن تنقي عن عين القلب كدورته ، وتقوي حدقته ، فاذا هو فيه كالصورة في المرآة حتى إذا غافصك في تجليه فيها بادرت وقلت إنه فيه ..وقد تدرع باللاهوت ناسوتي إلى أن يثبتك الله بالقول الثابت فتعرف أن الصورة ليست في المرآة بل تجلت لها ولو حلت فيها لما تصور أن تتجلى صورة واحدة بمرايا كثيرة في حالة واحدة بل كانت اذا حلت في مرآة ارتحلت عن غيرها وهيهات فانه يتجلى لجملة من العارفين دفعة واحدة .. نعم يتجلى في بعض المرايا أصح وأظهر وأقوم وأوضح وفي بعضها أخفى وأميل الى الاعوجاج عن الاستقامة وذلك بحسب صفاء المرآة وصقالتها وصحة استدارتها واستقامة بسط وجهها .. فلذلك قال : إن الله تعالى يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة ...
ومعرفة السلوك والوصول أيضا بحر عميق من بحار القرآن وسنجمع لك الآيات المرشدة الى طريق السلوك لتتفكر فيها جملة فعساك ينفتح لك ما ينبغي أن ينفتح فهذا القسم هو الدر الأزهر ...(1/7)
القسم الثالث : في تعريف الحال عند ميعاد الوصال
وهو يشتمل على ذكر الروح والنعيم الذي يلقاه الواصلون والعبارة الجامعة لأنواع روحها الجنة وأعلاها لذة النظر الى الله تعالى ويشتمل أيضا على ذكر الخزي والعذاب الذي يلقاه المحجوبون عنه باهمال السلوك والعبارة الجامعة لأصناف آلامها الجحيم وأشدها ألما ألم الحجاب والإبعاد أعاذنا الله منه ، ولذلك قدمه في قوله تعالى : ?كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ? (المطففين : 16 ) .. ويشتمل أيضا على ذكر مقدمات أحوال الفريقين وعنها يعبر بالحشر والنشر والحساب والميزان والصراط ولها ظواهر جلية تجري مجرى الغذاء لعموم الخلق ولها أسرار غامضة تجري مجرى الحياة لخصوص الخلق ... وثلث آيات القرآن وسوره يرجع إلى تفصيل ذلك ولسنا نهم بجمعها فهي أكثر من أن تلتقط وتحصى ولكن للفكر فيها مجال وبحث وهذا القسم هو الزمرد الأخضر ...
القسم الرابع : في أحوال السالكين والناكبين
أما أحوال السالكين فهي قصص الأنبياء والأولياء كقصة آدم ونوح وابراهيم وموسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى ومريم وداود وسليمان ويونس ولوط وادريس والخضر وشعيب والياس ومحمد وجبريل وميكائيل والملائكة وغيرهم ...
وأما أحوال الجاحدين والناكبين فهي كقصص نمرود وفرعون وعاد وقوم لوط وقوم تبع وأصحاب الأيكة وكفار مكة وعبدة الأوثان وابليس والشياطين وغيرهم ...
وفائدة هذا القسم الترهيب والتنبيه والاعتبار ويشتمل أيضا على اسرار ورموز واشارات محوجة الى التفكر الطويل وفيها يوجد العنبر الأشهب والعود الرطب الأنضر والآيات الواردة فيهما كثيرة لا يحتاج الى طلبها وجمعها ...
القسم الخامس : في محاجة الكفار ومجادلتهم وايضاح مخازيهم بالبرهان الواضح وكشف تخاييلهم وأباطيلهم(1/8)
وذلك ثلاثة أنواع : أحدها ذكر الله تعالى بما لا يليق به من أن الملائكة بناته وأن له ولدا وشريكا وأنه ثالث ثلاثة ... والثاني ذكر رسول الله بأنه ساحر وكاهن وكذاب وانكار نبوته وأنه بشر كسائر الخلق فلا يستحق أن يتبع .. وثالثها انكار اليوم الآخر وجحد البعث والنشور والجنة والنار وانكار عاقبة الطاعة والمعصية ... وفي محاجة الله تعالى اياهم بالحجج لطائف وحقائق ويوجد فيها الترياق الأكبر وآياته أيضا كثيرة ظاهرة ...
القسم السادس : في تعريف عمارة منازل الطريق وكيفية التأهب للزاد والاستعداد باعداد السلاح الذي يدفع سراق المنازل وقطاعها
وبيانه أن الدنيا منزل من منازل السائرين الى الله تعالى، والبدن مركب... فمن ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتم سفره ،وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتم أمر التبتل والانقطاع الى الله تعالى الذي هو السلوك، ولا يتم ذلك حتى يبقى بدنه سالما ونسله دائما ويتم كلاهما بأسباب الحفظ لوجودهما وأسباب الدفع لمفسداتهما ومهلكاتهما ...(1/9)
وأما أسباب الحفظ لوجودهما فالأكل والشرب وذلك لبقاء البدن والمناكحة وذلك لبقاء النسل.. فقد خلق الغذاء سببا للحياة وخلق الإناث محلا للحراثة ، إلا أنه ليس يختص المأكول والمنكوح ببعض الآكلين بحكم الفطرة ؛ ولو ترك الأمر فيه مهملا من غير تعريف قانون في الاختصاصات لتهاونوا وتقاتلوا وشغلهم ذلك عن سلوك الطريق، بل أفضى بهم الى الهلاك .. فشرح القرآن قانون الاختصاص بالأموال في آيات المبايعات والربويات والمداينات وقسم المواريث ومواجب النفقات وقسمة الغنائم والصدقات والمناكحات والعتق والكتابة والاسترقاق والسبي ، وعرف كيفية ذلك التخصيص عند الاتهام بالاقراريات وبالإيمان والشهادات ... وأما الاختصاص بالاناث فقد بينته آيات النكاح والطلاق والرجعة والعدة والخلع والصداق والايلاء والظهار واللعان وآيات محرمات النسب والرضاع والمصاهرات ... وأما أسباب الدفع لمفسداتهما فهي العقوبات الزاجرة عنها كقتال الكفار وأهل البغي والحث عليه والحدود والغرامات والتعزيرات والكفارات والديات والقصاص ...أما القصاص والديات فدفعا للسعي في اهلاك الأنفس والأطراف، وأما حد السرقة وقطع الطريق فدفعا لما يستهلك الأموال التي هي أسباب المعاش، وأما حد الزنا واللواط والقذف فدفعا لما يشوش أمر النسل والأنساب ويفسد طريق التحارث والتناسل ، وأما جهاد الكفار وقتالهم فدفعا لما يعرض من الجاحدين للحق من تشويش أسباب المعيشة والديانة اللتين بهما الوصول الى الله تعالى ، وأما قتال أهل البغي فدفعا لما يظهر من الاضطراب بسبب انسلال المارقين عن ضبط السياسات الدينية التي يتولاها حارس السالكين وكافل المحقين نائبا عن رسول رب العالمين... ولا يخفى عليك الآيات الواردة في هذا الجنس وتحته أساسيات ومصالح وحكم وفوائد يدركها المتأمل في محاسن الشريعة المبينة لحدود الأحكام الدنيوية ويشتمل هذا القسم على ما يسمى الحلال والحرام وحدود الله وفيها يوجد المسلك الأذفر(1/10)
فهذه مجامع ما تنطوي عليه سور القرآن وآياتها ...
وان جمعت الأقسام الستة المذكورة مع شعبها المقصودة في سلك واحد ألفيتها عشرة أنواع : ذكر الذات ، وذكر الصفات، وذكر الأفعال، وذكر المعاد ، وذكر الصراط المستقيم أعني جانبي التزكية والتحلية ؛ وذكر أحوال الأولياء، وذكر أحوال الأعداء ، وذكر محاجة الكفار ، وذكر حدود الأحكام
الفصل الرابع : في كيفية انشعاب العلوم الدينية كلها عن الأقسام العشرة المذكورة
وأظنك الآن تشتهي أن تعرف كيفية انشعاب هذه العلوم كلها عن هذه الأقسام العشرة ومراتب هذه العلوم في القرب والبعد من المقصود ..ويتم لك ذلك اذا عرفت انقسامها الى علوم الصدف وعلوم الجوهر واللباب
المبحث الأول : علوم الصدف
اعلم أن لهذه الحقائق التي أشرنا إليها أسرارا وجواهر ولها أصدافا.. والصدف أول ما يظهر ثم يقف بعض الواصلين إلى الصدف على الصدف وبعضهم يفتق الصدف ويطالع الدر فكذلك صدف جواهر القرآن وكسوته اللغة العربية فانشعبت منه خمس علوم وهي علم القشر والصدف والكسوة : 1 - اذ انشعب من ألفاظه علم اللغة ، 2 - ومن اعراب الفاظه علم النحو، 3 - ومن وجوه اعرابه علم القراءات، 4 - ومن كيفية التصويت بحروفه علم مخارج الحروف اذ أول أجزاء المعاني التي منها يلتئم النطق هو الصوت ثم الصوت بالتقطيع يصير حرفا ثم عند جمع الحروف يصير كلمة ثم عند تعين بعض الحروف المجتمعة يصير لغة عربية ثم بكيفية تقطيع الحروف يصير معربا ثم بتعين بعض وجوه الاعراب يصير قراءة منسوبة الى القراءات السبع، 5- ثم اذا صار كلمة عربية صحيحة معربة صارت دالة على معنى من المعاني فتتقاضى للتفسير الظاهر وهو العلم الخامس...(1/11)
فهذه علوم الصدف والقشر ولكن ليست على مرتبة واحدة بل للصدف وجه الى الباطن ملاق للدر قريب الشبه به لقرب الجوار ودوام المماسة ، ووجه الى الظاهر الخارج قريب الشبه بسائر الأحجار لبعد الجوار وعدم المماسة.. فكذلك صدف القرآن ووجهه البراني الخارج هو الصوت والذي يتولى علم تصحيح مخارجه في الأداء والتصويت صاحب علم الحروف؛ فصاحبه صاحب علم القشر البراني البعيد عن باطن الصدف فضلا عن نفس الدرة.. وقد انتهى الجهل بطائفة الى أن ظنوا أن القرآن هو الحروف والأصوات وبنوا عليها أنه مخلوق لأن الحروف والأصوات مخلوقة ، وما أجدر هؤلاء بأن يرجموا أو ترجم عقولهم فاما أن يعنفوا أو يشدد عليهم فلا يكفيهم مصيبة أنه لم يلح من عوالم القرآن وطبقات سمواته الا القشر الأقصى وهذا يعرفك منزلة علم المقرىء اذ لا يعلم الا بصحة المخارج ؛ ثم يليه في الرتبة علم لغة القرآن وهو الذي يشتمل عليه مثلا ترجمان القرآن وما يقاربه من علم غريب ألفاظ القرآن ؛ ثم يليه في الرتبة الى القرب علم اعراب اللغة وهو النحو فهو من وجه يقع بعده لأن الاعراب بعد المعرب ولكنه في الرتبة دونه بالاضافة اليه لأنه كالتابع للغة ؛ ثم يليه علم القراءات وهو ما يعرف به وجوه الاعراب وأصناف هيئات التصويت وهو أخص بالقرآن من اللغة والنحو ولكنه من الزوائد المستغنى عنها دون اللغة والنحو فانهما لا يستغني عنهما فصاحب علم اللغة والنحو أرفع قدرا ممن لا يعرف الا علم القراءات وكلهم يدورون على الصدف والقشر وان اختلفت طبقاتهم ؛ ويليه علم التفسير الظاهر وهو الطبقة الأخيرة من الصدفة القريبة من مماسة الدر ولذلك يشتد به شبهه حتى يظن الظانون أنه الدر وليس وراءه أنفس منه وبه قنع أكثر الخلق وما أعظم غبنهم وحرمانهم اذ ظنوا أنه لا رتبة وراء رتبتهم ولكنهم بالاضافة الى من سواهم من أصحاب علوم الصدف على رتبة عالية شريفة اذ علم التفسير عزيز بالنسبة الى تلك العلوم فانه لا يراد لها بل(1/12)
تلك العلوم تراد للتفسير؛ وكل هؤلاء الطبقات اذا قاموا بشرط علومهم فحفظوها وأدوها على وجهها فيشكر الله سعيهم وينقي وجوههم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه الى غير فقيه ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه ... وهؤلاء سمعوا وأدوا فلهم أجر الحمل والأداء أدوها الى من هو أفقه منهم أو الى غير فقيه ؛ والمفسر المقتصر في علم التفسير على حكاية المنقول سامع ومؤد ،كما أن حافظ القرآن والأخبار حامل ومؤد ، وكذلك علم الحديث يتشعب الى هذه الأقسام سوى القراءة وتصحيح المخارج فدرجة الحافظ الناقل كدرجة معلم القرآن الحافظ له ودرجة من يعرف ظاهر معانيه كدرجة المفسر ودرجة من يعتني بعلم أسامي الرجال كدرجة أهل النحو واللغة لأن السند والرواية آلة النقل وأحوالهم في العدالة شرط لصلاح الآلة للنقل فمعرفتهم ومعرفة أحوالهم ترجع الى معرفة الآلة وشرط الآلة فهذه علوم الصدف ...
المبحث الثاني : علوم اللباب ؛ وهي على طبقتين
أ - الطبقة السفلى من علوم اللباب وهي علوم الأقسام الثلاثة التي سميناها التوابع المتمة ؛
فالقسم الأول : معرفة قصص القرآن وما يتعلق بالأنبياء وما يتعلق بالجاحدين والأعداء ويتكفل بهذا العلم القصاص والوعاظ(1/13)
وبعض المحدثين ، وهذا علم لا تعم اليه الحاجة... والقسم الثاني هو محاجة الكفار ومجادلتهم ومنه يتشعب علم الكلام المقصود لرد الضلالات والبدع وازالة الشبهات ويتكفل به المتكلمون ، وهذا العلم قد شرحناه على طبقتين سمينا الطبقة القريبة منهما الرسالة القدسية والطبقة التي فوقها الاقتصاد في الاعتقاد ، ومقصود هذا العلم حراسة عقيدة العوام عن تشويش المبتدعة ، ولا يكون هذا العلم مليا بكشف الحقائق وبجنسه يتعلق الكتاب الذي صنفناه في تهافت الفلاسفة والذي أوردناه في الرد على الباطنية في الكتاب الملقب المستظهري وفي كتاب حجة الحق وقواصم الباطنية وكتاب مفصل الخلاف في أصول الدين، ولهذا العلم آلة يعرف بها طريق المجادلة بل طرق المحاجة بالبرهان الحقيقي وقد أودعناه كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم على وجه لا يلفى مثله للفقهاء والمتكلمين ولا يثق بحقيقة الحجة والشبهة من لم يحط بهما علما ... والقسم الثالث علم الحدود الموضوعة للاختصاص بالأموال والنساء للاستعانة على البقاء في النفس والنسل، وهذا العلم يتولاه الفقهاء ويشرح الاختصاصات المالية ربع المعاملات من الفقه ، ويشرح الاختصاصات بمحل الحراثة أعني النساء ربع النكاح ، ويشرح الزجر عن مفسدات هذه الاختصاصات ربع الجنايات.. وهذا علم تعم اليه الحاجة لتعلقه بصلاح الدنيا أولا ثم بصلاح الآخرة ؛ ولذلك تميز صاحب هذا العلم بمزيد الاشتهار والتوقير وتقديمه على غيره من الوعاظ والقصاص ومن المتكلمين ، ولذلك رُزق هذا العلمُ مزيدَ بحثٍ واطنابٍ على قدر الحاجة فيه حتى كثرت فيه التصانيف لا سيما في الخلافيات منه مع أن الخلاف فيه قريب والخطأ فيه غير بعيد عن الصواب اذ يقرب كل مجتهد من أن يقال له مصيب أو يقال ان له أجرا واحدا ان أخطأ ولصاحبه أجران ، ولكن لما عظم فيه الجاه والحشمة توفرت الدواعي على الافراط في تفريعه وتشعيبه وقد ضيعنا شطرا صالحا من العمر في تصنيف الخلاف منه وصرفنا(1/14)
قدرا صالحا منه الى تصانيف المذهب وترتيبه الى بسيط ووسيط ووجيز مع ايغال وافراط في التشعيب والتفريع وفي القدر الذي أودعناه كتاب خلاصة المختصر كفاية وهو تصنيف رابع وهو أصغر التصانيف ، ولقد كان الأولون يفتون في المسائل وما على حفظهم أكثر منه ، وكانوا يوفقون للاصابة أو يتوقفون ويقولون : لا ندري... ولا يستغرقون جملة العمر فيه بل يشتغلون بالمهم ويحيلون ذلك على غيرهم ؛ فهذا وجه انشعاب الفقه من القرآن ويتولد من بين الفقه والقرآن والحديث علم يسمى أصول الفقه ، ويرجع الى ضبط قوانين الاستدلال بالآيات والأخبار على أحكام الشريعة ...
ثم لا يخفى عليك أن رتبة القصاص والوعاظ دون رتبة الفقهاء والمتكلمين ما داموا يقتصرون على مجرد القصص وما يقرب منها ودرجة الفقيه والمتكلم متقاربة لكن الحاجة الى الفقيه أعم والى المتكلم أشد وأشد ويحتاج الى كليهما لمصالح الدنيا أما الفقيه فلحفظ أحكام الاختصاصات بالمآكل والمناكح وأما المتكلم فلدفع ضرر المبتدعة بالمحاجة والمجادلة كيلا يستطير شررهم ولا يعم ضررهم ... أما نسبتهم الى الطريق والمقصد فنسبة الفقهاء كنسبة عمار الرباطات والمصالح في طريق مكة الى الحج ونسبة المتكلمين كنسبة بدرقة طريق الحج وحارسه الى الحجاج ؛ فهؤلاء ان أضافوا الى صناعتهم سلوك الطريق الى الله تعالى بقطع عقبات النفس والنزوع عن الدنيا والاقبال على الله تعالى ففضلهم على غيرهم كفضل الشمس على القمر وان اقتصروا فدرجتهم نازلة جدا ..
ب - الطبقة العليا من علوم اللباب(1/15)
وأما الطبقة العليا من نمط اللباب فهي السوابق والأصول من العلوم المهمة ، وأشرفها العلم بالله واليوم الآخر لأنه علم المقصد ، ودونه العلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك وهو معرفة تزكية النفس وقطع عقبات الصفات المهلكات وتحليتها بالصفات المنجيات... وقد أودعنا هذه العلوم بكتب احياء علوم الدين.. ففي ربع المهلكات ما تجب تزكية النفس منه من الشره والغضب والكبر والرياء والعجب والحسد وحب الجاه وحب المال وغيرها ، وفي ربع المنجيات يظهر ما يتحلى به القلب من الصفات المحمودة كالزهد والتوكل والرضا والمحبة والصدق والإخلاص وغيرها .. وبالجملة يشتمل كتاب الاحياء على أربعين كتابا يرشدك كل كتاب الى عقبة من عقبات النفس وأنها كيف تقطع ،وإلى حجاب من حجبها وأنه كيف يرفع ...وهذا العلم فوق علم الفقه والكلام وما قبله لأنه علم طريق السلوك، وذلك علم آلة السلوك واصلاح منازله ودفع مفسداته كما يظهر.. والعلم الأعلى الأشرف علم معرفة الله تعالى فإن سائر العلوم تراد له ومن أجله ، وهو لا يراد لغيره ، وطريق التدريج فيه الترقي من الأفعال الى الصفات ثم من الصفات الى الذات فهي ثلاث طبقات ، أعلاها علم الذات ولا يحتملها أكثر الأفهام ولذلك قيل لهم : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله... وإلى هذا التدريج يشير تدرج رسول الله في ملاحظته ونظره حيث قال: أعوذ بعفوك من عقابك... فهذه ملاحظة الفعل، ثم قال: وأعوذ برضاك من سخطك ...وهذه ملاحظة الصفات، ثم قال: وأعوذ بك منك... وهذه ملاحظة الذات.. فلم يزل يترقى الى القرب درجة درجة ثم عند النهاية اعترف بالعجز فقال: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك... فهذا اشرف العلوم .. ويتلوه في الشرف علم الآخرة وهو علم المعاد كما ذكرناه في الأقسام الثلاثة وهو متصل بعلم المعرفة وحقيقته معرفة نسبة العبد الى الله تعالى عند تحققه بالمعرفة أو مصيره محجوبا بالجهل وهذه العلوم الأربعة أعني 1(1/16)
علم الذات 2 والصفات 3 والأفعال 4 وعلم المعاد ... أودعنا من أوائله ومجامعه القدر الذي رزقنا منه مع قصر العمر وكثرة الشواغل والآفات وقلة الأعوان والرفقاء بعض التصانيف ، لكنا لم نظهره .. فانه يكَل عنه أكثر الأفهام ويستضِر به الضعفاء وهم أكثر المترسمين بالعلم ، بل لا يصلح إظهاره إلا على من أتقن علم الظاهر وسلك في قمع الصفات المذمومة من النفس وطرق المجاهدة حتى ارتاضت نفسه واستقامت على سواء السبيل فلم يبق له حظٌّ في الدنيا ولم يبق له طلب الا الحق ، ورزق مع ذلك فطنة ، وقادة وقريحة منقادة، وذكاء بليغا ، وفهما صافيا ... وحرام على من يقع ذلك الكتاب بيده أن يظهره إلا على من استجمع هذه الصفات... فهذه هي مجامع العلم التي تتشعب من القرآن ومراتبها ...
الفصل الخامس : في انشعاب سائر العلوم من القرآن(1/17)
ولعلك تقول إن العلوم وراء هذه كثيرة كعلم الطب والنجوم وهيئة العالم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه وعلم السحر والطلسمات وغير ذلك فاعلم أنا انما أشرنا الى العلوم الدينية التي لا بد من وجود أصلها في العالم حتى يتيسر سلوك طريق الله تعالى والسفر اليه ، أما هذه العلوم التي أشرت اليها فهي علوم ولكن لا يتوقف على معرفتها صلاح المعاش والمعاد فلذلك لم نذكرها ووراء ما عددته علوم أخر يعلم تراجمها ولا يخلو العالمَ عمّن يعرفها ولا حاجة إلى ذكرها ، بل أقول ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يتمارى فيها أن في الامكان والقوة أصنافا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود وإن كان في قوة الآدمي الوصول اليها وعلوم كانت قد خرجت الى الوجود واندرست الآن فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها ، وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلا ادراكها والإحاطة بها ويحظى بها بعض الملائكة المقربين.. فإن الإمكان في حق الآدمي محدود والإمكان في حق الملك محدود الى غاية في الكمال بالإضافة ،كما أنه في حق البهيمة محدود الى غاية في النقصان ..وإنما الله سبحانه هو الذي لا يتناهى العلم في حقه ؛ ويفارق علمنا علم الحق تبارك وتعالى في شيئين: أحدهما انتفاء النهاية عنه، والآخر أن العلوم ليست في حقه بالقوة والإمكان الذي ينتظر خروجه بالوجود بل هو بالوجود والحضور ..فكل ممكن في حقه من الكمال فهو حاضر موجود...(1/18)
ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن ، فان جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى ، وهو بحر الأفعال .. وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال ، مثلا الشفاء والمرض ، كما قال الله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام : ? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?(الشعراء : 80 ) وهذا الفعل الواحد لا يعرفه الا من عرف الطب بكماله ، إذ لا معنى للطب الا معرفة المرض بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه ؛ ومن أفعاله تبارك وتعالى تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان وقد قال الله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ?(الرحمن : 5 ) .. وقال : ? هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ? (يونس : 5 ).. وقال: ? وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ?(القيامة : 9 ) وقال :? (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ?(الحديد : 6 ) وقال : ? (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ? (يس : 38 )... ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار وكيفية تكور أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض ، وهو علم برأسه ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى : ? َيا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ? (الإنفطار : 6 - 8 ) إلا من عرف تشريح الأعضاء من الانسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها وقد أشار في(1/19)
القرآن في مواضع اليها وهي من علوم الأولين والآخرين... وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين ..وكذلك لا يعرف كمال معنى قوله تعالى : ? سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ?(صـ : 72 ) من لم يعلم التسوية والنفخ والروح ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق وربما لا يفهمونها ان سمعوها من العالم بها ... ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال.. ولا تُمكن الاشارةُ إلا الى مجامعها.. وقد أشرنا اليه حيث ذكرنا أن من جملة معرفة الله تعالى معرفة أفعاله فتلك الجملة تشتمل على هذه التفاصيل وكذلك كل قسم أجملناه لو شُعِّب لانشعب الى تفاصيل كثيرة .. فتفكر في القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين وجملة أوائله، وانما التفكر فيه للتوصل من جملته الى تفصيله وهو البحر الذي لا شاطىء له
الفصل السادس : في وجه التسمية بالألقاب التي لقب بها أقسام القرآن
ولعلك تقول أشرت في بعض أقسام العلوم الى أنه يوجد فيها الترياق الأكبر وفي بعضها المسك الأذفر وفي بعضها الكبريت الأحمر الى غير ذلك من النفائس فهذه استعارات رسمية تحتها رموز وإشارات خفية ...(1/20)
فاعلم أن التكلف والترسم ممقوت عند ذوي الجد فما كلمة طمس الا وتحتها رموز واشارات الى معنى خفي يدركها من يدرك الموازنة والمناسبة بين عالم الملك وعالم الشهادة وبين عالم الغيب والملكوت ، إذ ما من شيء في عالم الملك والشهادة الا وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنه هو في روحه ومعناه ، وليس هو هو في صورته وقالبه .. والمثال الجسماني من عالم الشهادة مندرج الى المعنى الروحاني من ذلك العالم ؛ ولذلك كانت الدنيا منزلا من منازل الطريق الى الله ضروريا في حق الانس اذ كما يستحيل الوصول الى اللب الا من طريق القشر فيستحيل الترقي الى عالم الأرواح الا بمثال عالم الأجسام ، ولا تعرف هذه الموازنة الا بمثال فانظروا الى ما ينكشف للنائم في نومه من الرؤيا الصحيحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وكيف ينكشف بأمثلة خيالية ، فمن يعلم الحكمة غير أهلها يرى في المنام أنه يعلق الدر على الخنازير ورأى بعضهم أنه كان في يده خاتم يختم به فروج النساء وأفواه الرجال فقال له ابن سيرين أنت رجل تؤذن في رمضان قبل الصبح فقال نعم ، ورأى آخر كأنه يصب الزيت في الزيتون فقال له ان كان تحتك جارية فهي أمك قد سبيت وبيعت واشتريتها أنت ولا تعرف فكان كذلك ؛ فانظر ختم الأفواه والفروج بالخاتم مشاركا للأذان قبل الصبح في روح الخاتم وهو المنع وان كان مخالفا في صورته وقس على ما ذكرته ما لم أذكره ، واعلم أن القرآن والأخبار تشتمل على كثير من هذا الجنس فانظر الى قوله صلى الله عليه وسلم : قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ؛ فان روح الأصبع القدرة على سرعة التقليب ، وانما قلب المؤمن بين لمة الملك وبين لمة الشيطان ، هذا يغويه وهذا يهديه؛ والله تعالى بهما يقلب قلوب العباد كما تقلب الأشياء أنت بأصبعيك ، فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخرين الى الله تعالى أصبعيك في روح أصبعيه وخالفا في الصورة(1/21)
واستخرج من هذا قوله : ان الله تعالى خلق آدم على صورته ... وسائر الآيات والأحاديث الموهمة عند الجهلة للتشبيه .. والذكي يكفيه مثال واحد ، والبليد لا يزيده التكثير الا تحيرا ... ومتى عرفت معنى الأصبع أمكنك الترقي الى القلم واليد واليمين والوجه والصورة وأخذت جميعها معنى روحانيا لا جسمانيا فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بد من تحقيقها اذا ذكرت حد القلم هو الذي يكتب به فان كان في الوجود شيء يتسطر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم فان الله تعالى ? عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ?(العلق : 5 ) وهذا القلم روحاني اذ وجد فيه روح القلم وحقيقته ولم يعوزه الا قالبه وصورته ، وكون القلم من خشب أو قصب ليس من حقيقة القلم ولذلك لا يوجد في حده الحقيقي، ولكل شيء حد وحقيقة هي روحه ، فاذا اهتديت الى الأرواح صرت روحانيا وفتحت لك أبواب الملكوت وأهلت لمرافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا .. ولا يستبعد أن يكون في القرآن اشارات من هذا الجنس وان كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم تسند التفسير الى الصحابة فان كان التقليد غالبا عليك فانظر الى تفسير قوله تعالى كما قاله المفسرون ? أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ?(الرعد : 17 ) ..وأنه كيف مثل العلم بالماء والقلوب بالأودية والينابيع والضلال بالزبد ثم نبهك على آخرها فقال ? كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ?ويكفيك هذا القدر من هذا الفن فلا تطيق أكثر(1/22)
منه ..
وبالجملة فاعلم ان كل ما يحتمله فهمك فان القرآن يلقيه اليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل ذلك لك بمثال مناسب يحتاج الى التعبير ، واعلم أن التأويل يجري مجرى التعبير.. فلذلك قلنا يدور المفسر على القشر اذ ليس من يترجم معنى الخاتم والفروج والأفواه كمن يدرك أنه أذان قبل الصبح
الفصل السابع : في سبب التعبير عن معاني عالم الملكوت في القرآن بأمثلة من عالم الشهادة
ولعلك تقول لم َأبرزت هذه الحقائق في هذه الأمثلة ولم تكشف صريحا حتى ارتبَك الناس في جهالة التشبيه وضلالة التخييل ؟ فاعلم أن هذا تعرفه اذا عرفت أن النائم لم ينكشف له الغيب من اللوح المحفوظ الا بالمثال دون الكشف الصريح كما حكيت لك المثل وذلك يعرفه من يعرف العلاقة الخفية التي بين عالم الملك والملكوت ثم اذا عرفت ذلك عرفت أنك في هذا العالم نائم وان كنت مستيقظا فالناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا فينكشف لهم عند الانتباه بالموت حقائق ما سمعوه بالمثال وأرواحها ويعلمون أن تلك الأمثلة كانت قشورا وأصدافا لتلك الأرواح ويتيقنون صدق آيات القرآن وقول رسول الله ، كما تيقن ذلك المؤذن صدق قول ابن سيرين وصحة تعبيره للرؤيا ، وكل ذلك ينكشف عند اتصال الموت، وربما ينكشف بعضه في سكرات الموت، وعند ذلك يقول الجاحد والغافل ? يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ? (الأحزاب : 66 ) وقوله ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ?(الأعراف : 53 ) ويقول :? يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً ? (الفرقان : 28 )...? يَا(1/23)
لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ?(النبأ : 40 )... ? َيا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ?(الزمر : 56 )...? يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ? (الأنعام : 31 ) ... ? رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ? (السجدة : 12 )... والى هذا يشير أكثر آيات القرآن المتعلقة بشرح المعاد والآخرة التي أضفنا اليها الزبرجد الأخضر فافْهم من هذا أنك ما دمت في هذه الحياة الدنيا فأنت نائم وإنما يقظتك بعد الموت وعند ذلك تصير أهلا لمشاهدة صريح الحق كفاحا ؛ وقبل ذلك لا تحتمل الحقائق الا مصبوبة في قالب الأمثال الخيالية ، ثم لجمود نظرك علىالحس تظن أنه لا معنى له الا المتخيل وتغفل عن الروح كما تغفل عن روح نفسك ولا تدرك الا قالبك ...
الفصل الثامن : في الطريق الذي ينكشف به للإنسان وجه العلاقة بين العالمين
لعلك تقول فاكشف عن وجه العلاقة بين العالمين وأن الرؤيا لم َكانت بالمثال دون الصريح وأن رسول الله لم َكان يرى جبريل كثيرا في غير صورته وما رآه في صورته الا مرتين .. فاعلم أنك إن ظننت أن هذا يلقى اليك دفعة من غير أن تقدم الاستعداد لقبوله بالرياضة والمجاهدة واطراح الدنيا بالكلية والانحياز عن غمار الخلق والاستغراق في محبة الخالق وطلب الحق فقد استكبرت وعلوت علوا كبيرا وعلى مثلك يبخل بمثله ويقال :
جئتماني لتعلما سر سعدي *** تجداني بسر سعدي شحيحا(1/24)
فاقطع طمعك عن هذا بالمكاتبة والمراسلة ولا تطلبه الا من باب المجاهدة والتقوى فالهداية تتلوها وتثبتها كما قال الله تعالى : ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ? (العنكبوت : 69 ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم... واعلم يقينا أن أسرار الملكوت محجوبة عن القلوب الدنسة بحب الدنيا التي استغرق أكثر هممها طلب العاجلة وانما ذكرنا هذا القدر تشويقا وترغيبا ولننبه به على سر من أسرار القرآن من غفل عنه لم تفتح له أصداف القرآن عن جواهره البتة ... ثم ان صدقت رغبتك شمرت للطلب واستعنت فيه بأهل البصيرة واستمددت منهم فما أراك تفلح لو استبددت فيه برأيك وعقلك وكيف تفهم هذا وأنت لا تفهم لسان الأحوال بل تظن أنه لا نطق في العالم الا بالمقال فلم تفهم معنى قوله تعالى : ? وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ?(الإسراء : 44 ) .. ولا قوله تعالى : ? قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ?(فصلت : 11 ) .. ما لم تقدر للأرض لسانا وحياة ولا تفهم أن قول القائل قال الجدار للوتد لم تنقبني قال سل من يدقني فلم يتركني ورأى الحجر الذي يدقني ولا تدري أن هذا القول صدق وأصح من نطق المقال فكيف تفهم ما وراء هذا من الأسرار ؟
الفصل التاسع : في التنبيه على الرموز والاشارات التي يشتمل عليها القرآن(1/25)
لعلك تطمع في أن تنبه على الرموز والاشارات المودعة تحت الجواهر التي ذكرنا اشتمال القرآن عليها ؛ فاعلم أن الكبريت الأحمر عند الخلق في عالم الشهادة عبارة عن الكيمياء التي يتوصل بها الى قلب الأعيان من الصفات الخسيسة الى الصفات النفيسة حتى ينقلب به الحجر ياقوتا والنحاس ذهبا إبريزا ليتوصل به الى اللذات في الدنيا مكدرة منغصة في الحال منصرمة على قرب الاستقبال ، أفترى أن ما يقلب جواهر القلب من رذالة البهيمة وضلالة الجهل الى صفاء الملائكة وروحانيتها ليترقى القلب من أسفل سافلين الى أعلى عليين وينال به القرب من رب العالمين والنظر الى وجهه الكريم أبدا دائما سرمدا ، هل هو أولى باسم الكبريت الأحمر أم لا... ؟ فلهذا سميناه الكبريت الأحمر فتأمل وراجع نفسك وأنصف لتعلم أن هذا الاسم بهذا المعنى أحق وعليه أصدق ثم أنفس النفائس التي تستفاد من الكيمياء اليواقيت وأعلاها الياقوت الأحمر فلذلك سميناه معرفة الذات ...وأما الترياق الأكبر فهو عند الخلق عبارة عما يشفى به من السموم المهلكة الواقعة في المعدة مع أن الهلاك الحاصل بها ليس الا هلاكا في حق الدنيا الفانية ، فانظر ان كانت سموم البدع والأهواء والضلالات الواقعة في القلب مهلكة هلاكا يحول بين السموم وبين عالم القدس ومعدن الروح والراحة حيلولة دائمة أبدية سرمدية وكانت المحاجة البرهانية تشفى عن تلك السموم وتدفع ضررها هل هي أولى بأن تسمى الترياق الأكبر أم لا...؟ وأما المسك الأذفر فهو عبارة في عالم الشهادة عن شيء يستصحبه الانسان فيثور منه رائحة طيبة تشهره وتظهره حتى لو أراد خفاءه لم يختف لكن يستطير وينتشر فانظر ان كان في المقتنيات العلمية ما ينشر منه الاسم الطيب في العالم ويشتهر صاحبه به اشتهارا حتى لو أراد الاختفاء وإيثار الخمول بل تشهره وتظهره فاسم المسك الأذفر عليه أحق وأصدق أم لا...؟ وأنت تعلم أن علم الفقه ومعرفة أحكام الشريعة يطيب الاسم وينشر الذكر(1/26)
ويعظم الجاه وما ينال القلب من روح طيب الاسم وانتشار الجاه أعظم كثيرا مما ينال المشام من روح أطيب رائحة من المسك... وأما العود فهو عبارة عند الخلق عن جسم في الأجسام لا ينتفع به ولكن اذا أُلقي على النار حتى احترق في نفسه تصاعد منه دخان منتشر فينتهي الى المشام فيعظم نفعه وجدواه ويطيب مورده وملقاه ، فان كان في المنافقين وأعداء الله أظلال كالخشب المسندة لا منفعة لها ولكن اذا نزل بها عقاب الله ونكاله من صاعقة وخسف وزلزلة حتى يحترق ويتصاعد منه دخان فينتهي الى مشام القلوب فيعظم نفعه في الحث على طلب الفردوس الأعلى وجوار الحق سبحانه وتعالى والصرف عن الضلالة والغفلة واتباع الهوى فاسم العود به أحق وأصدق أم لا...؟ فاكتف من شرح هذه الرموز بهذا القدر واستنبط الباقي من نفسك وحل الرمز فيه إن أطقت وكنت من أهله
فقد اسمعت لو ناديت حيا *** ولكن لا حياة لمن أنادي
الفصل العاشر : في فائدة هذه الرموز وبيان سبب جحود الملحدين بالأصول الدينية(1/27)
لعلك تقول قد ظهر لي أن هذه الرموز صحيحة صادقة فهل فيها فائدة أخرى تعرف سواها ؟ فاعلم أن الفائدة كلها وراءها فان هذه أنموذج لتعرف بها تعريف طريق المعاني الروحانية الملكوتية بالألفاظ المألوفة الرسمية لينفتح لك باب الكشف في معاني القرآن والغوص في بحارها ، فكثيرا ما رأينا من طوائف من المتكابسين تشوشت عليهم الظواهر وانقدحت عندهم اعتراضات عليها ، وتخايل لهم ما يناقضها ، فبطل أصل اعتقادهم في الدين وأورثهم ذلك جحودا باطنا في الحشر والنشر والجنة والنار والرجوع الى الله تعالى بعد الموت، وأظهروها في سرائرهم وانحل عنهم لجام التقوى ورابطة الورع ، واسترسلوا في طلب الحطام وأكل الحرام واتباع الشهوات وقصروا الهمم على طلب الجاه والمال والحظوظ العاجلة ، ونظروا الى أهل الورع بعين الاستخفاف والاستجهال ، وان شاهدوا الورع ممن لا يقدرون على الانكار عليه لغزارة علمه وكمال عقله وثقابة ذهنه حملوه على أن غرضه التلبيس والتلبس واستمالة القلوب وصرف الوجوه الى نفسه، فما زادهم مشاهدة الورع من أهله الا تماديا وضلالا مع أن مشاهدة ورع أهل الدين من أعظم المؤكدات لعقائد المؤمنين ... وهذا كله لأن نظر عقلهم مقصور على صور الأشياء وقوالبها الخيالية ولم يمتد نظرهم الى أرواحها وحقائقها، ولم يدركوا الموازنة بين عالم الشهادة وعالم الملكوت ، فلما لم يدركوا ذلك وتناقضت عندهم ظواهر الأسئلة ضلوا وأضلوا فلا هم أدركوا شيئا من عالم الأرواح بالذوق ادراك الخواص ولا هم آمنوا بالغيب ايمان العوام ، فأهلكتهم كياستهم والجهل أدنى الى الخلاص من فطانة بتراء وكياسة ناقصة .. ولسنا نستبعد ذلك فلقد تعثرنا في أذيال هذه الضلالات مدة لشؤم أقران السوء وصحبتهم حتى أبعدنا الله عن هفواتها ووقانا من ورطاتها فله الحمد والمنة والفضل على ما أرشد وهدى وأنعم وأسدى وعصم من ورطات الردى... فليس ذلك مما يمكن أن ينال بالجهد والمنى ? مَا يَفْتَحِ اللَّهُ(1/28)
لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?(فاطر : 2 )
الفصل الحادي عشر : في كيف يفضل بعض آيات القرآن على بعض مع أن الكل كلام الله تعالى
لعلك تقول قد توجه قصدك في هذه التنبيهات الى تفضيل بعض القرآن على بعض، والكل قول الله تعالى، فكيف يفارق بعضها بعضا ؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟ فاعلم أن نور البصيرة ان كان لا يرشدك الى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة تبت ، وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الجوارة المستغرقة بالتقليد فقلد صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه فهو الذي أنزل عليه القرآن ، وقد دلت الأخبار على شرف بعض الآيات وعلى تضعيف الأجر في بعض السور المنزلة .. فقد قال صلى الله عليه وسلم :فاتحة الكتاب أفضل القرآن..وقال : آية الكرسي سيدة آي القرآن .. وقال: يس قلب القرآن ...وقل هو الله احد تعدل ثلث القرآن... والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن بتخصيص بعض الآيات والسور بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى فاطلبه من كتب الحديث ان أردته وننبهك الآن على معنى هذه الأخبار الأربعة في تفضيل هذه السور وان كان ما مهدناه من ترتيب أقسام القرآن وشعبه ومراتبه يرشدك الله ان راجعته وفكرت فيه فانا حصرنا أقسام القرآن وشعبه في عشرة أنواع ...
الفصل الثاني عشر: في أسرار الفاتحة وبيان جملة من حكم الله في خلقه(1/29)
واذا تفكرت وجدت الفاتحة على ايجازها مشتملة على ثمانية مناهج : 1 فقوله تعالى: ?بسم الله الرحمن الرحيم ? نبأ عن الذات ... 2 وقوله ?الرحمن الرحيم ?نبأ عن صفة من صفات خاصة وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما ثم تتعلق بالخلق وهم المرحومون تعلقا يؤنسهم به ويشوقهم اليه ويرغبهم في طاعته لا كوصف الغضب لو ذكره بدلا عن الرحمة فإن ذلك يحزن ويخوف ويقبض القلب ولا يشرحه ...3 وقوله ?الحمد لله رب العالمين? يشتمل على شيئين أحدهما أصل الحمد وهو الشكر وذلك أول الصراط المستقيم وكأنه شطره فان الايمان العملي نصفان نصف صبر ونصف شكر كما تعرف حقيقة ذلك ان أردت معرفة ذلك باليقين من كتاب احياء علوم الدين لا سيما في كتاب الشكر والصبر منه وفضل الشكر على الصبر كفضل الرحمة على الغضب فان هذا يصدر عن الارتياح وهزة الشوق وروح المحبة وأما الصبر على قضاء الله فيصدر عن الخوف والرهبة ولا يخلو عن الكرب والضيق وسلوك الصراط المستقيم الى الله تعالى بطريق المحبة وأعمالها أفضل كثيرا من سلوك طريق الخوف وانما يعرف سر ذلك من كتاب المحبة والشوق من جملة كتاب الإحياء ولذلك قال رسول الله أول ما يدعى الى الجنة الحمادون لله على كل حال والثاني قوله تعالى رب العالمين اشارة الى الأفعال كلها واضافتها اليه بأوجز لفظ وأتمه احاطة بأصناف الأفعال لفظ رب العالمين وأفضل النسبة من الفعل اليه نسبة الربوبية فان ذلك أتم وأكمل في التعظيم من قولك أعلى العالمين وخالق العالمين... 4 وقوله ثانيا ?الرحمن الرحيم? اشارة الى الصفة مرة أخرى ولا تظن أنه مكرر فلا تكرر في القرآن اذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة وذكر الرحمة بعد ذكر العالمين وقبل ذكر? مالك يوم الدين? ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفضيل مجاري الرحمة احداهما تلتفت الى خلق رب العالمين فانه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها وآتاه كل ما يحتاج اليه فأحد العوالم(1/30)
التي خلقها عالم البهائم وأصغرها البعوض والذباب والعنكبوت والنحل فانظر الى البعوض كيف خلق أعضاءها فقد خلق عليها كل عضو خلقه على الفيل حتى خلق له خرطوما مستطيلا حاد الرأس ثم هداه الى غذائه الى أن يمص دم الآدمي فتراه يغرز فيه خرطومه ويمص من ذلك التجويف غذاء وخلق له جناحين ليكونا له آلة الهرب اذا قصد دفعه وانظر الى الذباب كيف خلق أعضاءه وخلق حدقتيه مكشوفتين بلا أجفان اذ لا يحتمل رأسه الصغير الأجفان والأجفان يحتاج اليها لتصقيل الحدقة مما يلحقها من الأقذاء والغبار وانظر كيف خلق له بدلا عن الأجفان يدين زائدتين فله سوى الأرجل الأربع يدان زائدتان تراه اذا وقع على الأرض لا يزال يمسح حدقتيه بيديه يصقلهما عن الغبار وانظر الى العنكبوت كيف خلق أطرافها وعلمها حيلة النسج وكيف علمها حيلة الصيد بغير جناحين اذ خلق لها لعابا لزجا تعلق نفسها به في زاوية وتترصد طيران الذباب بالقرب منها فترمي اليه نفسها فتأخذه وتقيده بخيطها الممدود من لعابها فتعجزه عن الإفلات حتى تأكله أو تدخره وانظر الى نسج العنكبوت لبيتها كيف هداها الله لنسجه على التناسب الهندسي في ترتيب السدى واللحمة وانظر الى النحل وعجائبها التي لا تحصى في جمع الشهد والشمع وننبهك على هندستها في بناء بيتها فانها تبني على شكل المسدس كيلا يضيق المكان على رفقائها لأنها تزدحم في موضع واحد على كثرتها ولو بنت البيوت مستديرة لبقي خارج المستديرات فرج ضائعة فان الدوائر لا تراص وكذلك سائر الأشكال وأما المربعات فتراص ولكن شكل النحل يميل الى الاستدارة فيبقى داخل البيت زوايا ضائعة كما يبقى في المستدير خارج البيت فرج ضائعة فلا شكل من الأشكال يقرب من المستدير في التراص غير المسدس وذلك يعرف بالبرهان الهندسي فانظر كيف هداه الله خاصية هذا الشكل وهذا أنموذج من عجائب صنع الله ولطفه ورحمته بخلقه فان الأدنى بينة على الأعلى وهذه الغرائب لا يمكن أن تستقصى في أعمار(1/31)
طويلة أعني ما انكشف للآدميين منها وأنه ليسير بالاضافة الى ما لا ينكشف واستأثر هو والملائكة بعلمه وربما تجد تلويحات من هذا الجنس في كتاب الشكر وكتاب المحبة فاطلبه ان كنت له أهلا والا فغض بصرك عن آثار رحمة الله ولا تنظر اليها ولا تسرح في ميدان معرفة الصنع ولا تتفرج فيه واشتغل بأشعار المتنبي وغرائب النحو لسيبويه وفروع ابن الحداد في نوادر الطلاق وحيل المجادلة في الكلام فذلك اليق بك فان قيمتك على قدر همتك ?وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? (هود : 34 ) .. ? مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? (فاطر : 2 ) ولنرجع الى الغرض والمقصود التنبيه على أنموذج من رحمة في خلق العالمين وثانيها تعلقها بقوله مالك يوم الدين فيشير الى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الانعام بالملك المؤبد في مقابلة كلمة وعبادة وشرح ذلك يطول والمقصود أنه لا مكرر في القرآن فان رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر فانظر في سوابقه ولواحقه لنكشف لك مزيد الفائدة في اعادته.. -5 وأما قوله ?مالك يوم الدين? فإشارة الى الآخرة في المعاد وهو أحد الأقسام من الأصول مع الاشارة الى معنى الملك والملك وذلك من صفات الجلال ...6 - وقوله ?اياك نعبد واياك نستعين? يشتمل على ركنين عظيمين أحدهما العبادة مع الإخلاص بالاضافة اليه خاصة وذلك هو روح الصراط المستقيم كما تعرفة من كتاب الصدق والإخلاص وكتاب ذم الجاه والرياء من كتاب الإحياء ، والثاني اعتقاد أنه لا يستحق العبادة سواه وهو لباب عقيدة التوحيد وذلك بالتبري عن الحول والقوة ومعرفة أن الله منفرد بالأفعال كلها وأن العبد لا يستقل بنفسه دون معونته فقوله? اياك نعبد? اشارة الى تحلية النفس(1/32)
بالعبادة والاخلاص وقوله? وإياك نستعين? اشارة الى تزكيتها عن الشرك والالتفات الى الحول والقوة وقد ذكرنا أن مدار سلوك الصراط المستقيم على قسمين أحدهما التزكية بنفي ما لا ينبغي والثاني التحلية بتحصيل ما ينبغي وقد اشتمل عليهما كلمتان من جملة الفاتحة 7.. وقوله: ? إهدنا الصراط المستقيم ? سؤال ودعاء وهو مخ العبادة كما تعرفه الأذكار من الأذكار والدعوات من كتب الإحياء وهو تنبيه على حاجة الانسان الى التضرع والابتهال الى الله تعالى وهو روح العبودية وتنبيه على أن أهم حاجاته الهداية الى الصراط المستقيم اذ به السلوك الى الله تعالى كما سبق ذكره.. 8 - وأما قوله ? صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين? فهو تذكير بنعمته على أوليائه ونقمته وغضبه على أعدائه لتستثير الرغبة والرهبة من صميم الفؤاد وقد ذكرنا أن ذكر قصص الأنبياء والأعداء قسمان من أقسام القرآن عظيمان وقد اشتملت الفاتحة من الأقسام العشرة على ثمانية أقسام -1 الذات 2-والصفات - 3 والأفعال 4 -وذكر المعاد 5 - والصراط المستقيم بجميع طرفيه أعني التزكية والتحلية 6 - وذكر نعمة الأولياء 7 - وغضب الأعداء 8 - وذكر المعاد ولم يخرج منه الا قسمان أ محاجة الكفار ب وأحكام الفقهاء ، وهما الفنان اللذان يتشعب منهما علم الكلام وعلم الفقه وبهذا يتبين أنهما واقعان في الصنف الأخير من مراتب علوم الدين وانما قدمهما حب المال والجاه فقط ...
الفصل الثالث عشر: في كون الفاتحة مفتاحا لأبواب الجنة الثمانية(1/33)
وعند هذا ننبهك على دقيقة فنقول ان هذه السورة فاتحة الكتاب ومفتاح الجنة وانما كانت مفتاحا لأن أبواب الجنة ثمانية ومعاني الفاتحة ترجع الى ثمانية فاعلم قطعا أن كل قسم منها مفتاح باب من أبواب الجنة تشهد به الأخبار فان كنت لا تصادف من قلبك الايمان والتصديق به وطلبت فيه المناسبة فدع عنك ما فهمته من ظاهر الجنة فلا يخفى عليك أن كل قسم يفتح باب بستان من بساتين المعرفة كما أشرنا اليها في آثار رحمة الله تعالى وعجائب صنعه وغيرها ، ولا تظن أن روح العارف من الانشراح في رياض المعرفة وبساتينها أقل من روح من يدخل الجنة التي يعرفها ويقضي فيها شهوة البطن والفرج وأنى يتساويان ؟ بل لا ينكر أن يكون في العارفين من رغبته في فتح أبواب المعارف لينظر الى ملكوت السماء والأرض وجلال خالقها ومدبرها أكثر من رغبته في المنكوح والمأكول والملبوس وكيف لا تكون هذه الرغبة أكثر وأغلب على العارف البصير وهي مشاركة للملائكة في الفردوس الأعلى اذ لا حظ للملائكة في المطعم والمشرب والمنكح والملبس ولعل تمتع البهائم بالمطعم والمشرب والمنكح يزيد على تمتع الانسان فان كنت ترى مشاركة البهائم ولذاتهم أحق بالطلب من مساهمة الملائكة في فرحهم وسرورهم بمطالعة جمال حضرة الربوبية فما أشد غيك وجهلك وغباوتك وما أخس همتك، وقيمتك على قدر همتك ؛ وأما العارف اذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف واعتكف فيها ولم يلتفت أصلا الى جنة البله فان أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب كما ورد في الخبر وأنت أيضا أيها القاصر همتك على اللذات قبقبة وذبذبة كالبهيمة ولا تنكر أن درجات الجنان انما تنال بفنون المعارف فان كانت رياض المعارف لا تستحق في أن تسمى نفسها جنة فتستحق أن يستحق بها الجنة فتكون مفاتيح الجنة فلا تنكر في الفاتحة مفاتيح جميع أبواب الجنة ...
الفصل الرابع عشر : في كون آية الكرسي سيدة آي القرآن وبيان الاسم الأعظم(1/34)
فأقول هل لك أن تتفكر في آية الكرسي أنها لمَ تُسمّى سيدة الآيات ؟ فان كنت تعجز عن استنباطه بتفكرك فارجع الى الأقسام التي ذكرناها والمراتب التي رتبناها وقد ذكرنا لك أن معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته هي المقصد الأقصى من علوم القرآن وأن سائر الأقسام مرادة له وهو مراد لنفسه لا لغيره فهو المتبوع وما عداه التابع وهي سيدة الاسم المقدم الذي يتوجه اليه وجوه الأتباع وقلوبهم فيحذون حذوه وينحون نحوه ومقصده ، وآية الكرسي تشتمل على ذكر الذات والصفات والأفعال فقط ليس فيها غيرها...فقوله ? الله ?اشارة الى الذات .. وقوله ? لا اله الا هو ? اشارة الى توحيد الذات وقوله ? الحي القيوم ? اشارة الى صفة الذات وجلاله فان معنى القيوم هو الذي يقوم بنفسه ويقوم به غيره فلا يتعلق قوامه بشيء ويتعلق به قوام كل شيء وذلك غاية الجلال والعظمة .. وقوله ? لا تأخذه سنة ولا نوم ?تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من أوصاف الحوادث والتقديس عما يستحيل أحد أقسام المعرفة بل هو أوضح أقسامها ...وقوله ? له ما في السموات وما في الأرض? اشارة الى كلها وأن جميعها منه مصدرها واليه مرجعها ...وقوله? من ذا الذي يشفع عنده الا بإذنه ? اشارة الى انفراده بالملك والحكم والأمر وأن من يملك الشفاعة فانما يملك بتشريفه اياه والاذن فيه وهذا نفي للشركة عنه في الملك والأمر.. وقوله? يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء ? اشارة الى صفة العلم وتفضيل بعض المعلومات والانفراد بالعلم حتى لا علم لغيره من ذاته وإن كان لغيره علم فهو من عطائه وهبته وعلى قدر ارادته ومشيئته(1/35)
وقوله ? وسع كرسيه السموات والأرض? اشارة الى عظمة ملكه وكمال قدرته وفيه سر لا يحتمل الحال كشفه فان معرفة الكرسي ومعرفة صفاته واتساع السموات والأرض معرفة شريفة غامضة ويرتبط بها علوم كثيرة ... وقوله ? ولا يؤوده حفظهما ? اشارة الى صفات القدرة وكمالها وتنزيهها عن الضعف والنقصان ...وقوله ? وهو العلي العظيم ? اشارة الى أصلين عظيمين في الصفات وشرح هذين الوصفين يطول وقد شرحنا منهما ما يحتمل الشرح في كتاب المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى فاطلبه منه ...(1/36)
والآن اذا تأملت جملة هذه المعاني ثم تلوت جميع آيات القرآن لم تجد جملة هذه المعاني من التوحيد والتقديس وشرح الصفات العلى مجموعة في آية واحدة منها فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : سيدة آي القرآن ... فإن ? شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?(آل عمران : 18 ) ليس فيه الا التوحيد، و? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ * ? (الإخلاص : 1 - 4 ) ليس فيه الا التوحيد والتقديس، و ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? (آل عمران : 26 ) ليس فيه الا الأفعال وكمال القدرة ،والفاتحة فيها رموز الى هذه الصفات من غير شرح وهي مشروحة في آية الكرسي، والذي يقرب منها في جميع المعاني آخر الحشر? هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ? وأول الحديد ? سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ(1/37)
وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ( 5 ) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور*? اذ اشتملا على أسماء وصفات كثيرة ولكنها آيات لا آية واحدة ، وهذه آية الكرسي آية واحدة اذا قابلتها باحدى تلك الآيات وجدتها أجمع المقاصد فلذلك تستحق السيادة على الآي وقال هي سيدة الآيات ،كيف لا وفيها الحي القيوم وهو الاسم الأعظم وتحته سر ويشهد له ورود الخبر بأن الاسم الأعظم في آية الكرسي وأول آل عمران وقوله وعنت الوجوه للحي القيوم ..
الفصل الخامس عشر : في علة كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن(1/38)
وأما قوله عليه السلام : قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ..فما أراك أن تفهم وجه ذلك.. فتارة تقول هذا ذكره للترغيب في التلاوة وليس المعنى به التقدير وحاشا منصب النبوة عن ذلك ، وتارة تقول هذا بعيد عن الفهم والتأويل وأن آيات القرآن تزيد على ستة آلاف آية فهذا القدر كيف يكون ثلثها ؟ وهذا لقلة معرفتك بحقائق القرآن ونظرك الى ظاهر ألفاظه فتظن أنها تكثر وتعظم بطول الألفاظ وتقصر بقصرها وذلك كظن من يؤثر الدراهم الكثيرة على الجوهر الواحد نظرا الى كثرتها ... فاعلم أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن قطعا وارجع الى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في مهمات القرآن اذ هي معرفة الله تعالى ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة والباقي توابع وسورة الإخلاص تشتمل على واحد من الثلاث وهو معرفة الله وتوحيده وتقديسه عن مشارك في الجنس والنوع وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ ووصفه بالصمد يشعر بأنه الصمد الذي لا مقصد في الوجود للحوائج سواه... نعم ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم ، وقد ذكرنا أن أصول مهمات القرآن معرفة الله تعالى ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم فلذلك تعدل ثلث القرآن، أي ثلث الأصول من القرآن كما قال عليه السلام :الحج عرفة .. أي هو الأصل والباقي توابع...
الفصل السادس عشر: في تنبيه الطالب أن يستنبط بفكره معنى قوله يس قلب القرآن(1/39)
لعلك تشتهي الآن أن تعرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم : يس قلب القرآن... وأنا أرى أن أكِل هذا فهمك لتستنبطه بنفسك على قياس ما نبهت عليه في أمثاله فعساك تقف على وجهه ، فالنشاط والتنبيه من نفسك أعظم من الفرح بالتنبيه من غيرك ، والتنبُّه يزيد في النشاط أكثر من التنبيه ؛ وأرجو أنك اذا تنبهت لسر واحد من نفسك توفرت داعيتك وانبعث نشاطك لادمان الفكر طمعا في الاستبصار والوقوف على الأسرار ، وبه ينفتح لك حقائق الآيات التي هي قوارع القرآن على ما سنجمعه لك ليسهل عليك النظر فيها واستنباط الأسرار منها ...
الفصل السابع عشر : في تخصيص النبي آية الكرسي بأنها سيدة آي القرآن والفاتحة بأنها الأفضل(1/40)
لعلك تقول لمَ خصصت آية الكرسي بأنها السيدة ،والفاتحة بأنها الأفضل ؟ أفيه سر أم هو بحكم الاتفاق كما يسبق اللسان في الثناء على شخص الى لفظ وفي الثناء على مثله الى لفظ آخر ؟ فأقول: هيهات ... فان ذلك يليق بي وبك وبمن ينطق عن الهوى لا بمن ينطق عن وحي يوحى فلا تظنن أن كلمة واحدة تصدر عنه في أحواله المختلفة من الغضب والرضا الا بالحق والصدق، والسر في هذا التخصيص أن الجامع بين فنون الفضل وأنواعها الكثيرة يسمى فاضلا فالذي يجمع أنواعا أكثر يسمى أفضل، فان الفضل هو الزيادة ، فالأفضل هو الأزيد ... وأما السؤدد فهو عبارة عن رسوخ معنى الشرف الذي يقتضي الاستتباع ويأبى التبعية ، واذا راجعت المعاني التي ذكرناها في السورتين علمت أن الفاتحة تتضمن التنبيه على معان كثيرة ومعان مختلفة فكانت أفضل وآية الكرسي تشتمل على المعرفة العظمى التي هي المتبوعة والمقصودة التي يتبعها سائر المعارف فكان اسم السيدة بها أليق ، فتنبه لهذا النمط من التصرف في قوارع القرآن وما يتلوه عليك ليغزر علمك وينفتح فكرك فترى العجائب والآيات وتنشرح في جنة المعارف وهي الجنة التي لا نهاية لأطرافها اذ معرفة جلال الله وأفعاله لا نهاية لها فالجنة التي تعرفها خلقت من أجسام فهي وان اتسعَت أكنافها فمتناهية اذ ليس في الامكان خلق جسم بلا نهاية فانه محال وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فتكون من جملة البله وان كنت من أهل الجنة قال أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب ...
الفصل الثامن عشر : في حال العارفين ونسبة لذتهم الى لذة الغافلين(1/41)
واعلم أنه لو خُلق فيك شوقٌ الى لقاء الله وشهوة ٌالى معرفة جلاله أصدق وأقوى من شهوتك للأكل والنكاح لكنت تؤثر جنة المعارف ورياضها وبساتينها على الجنة التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة ... واعلم أن هذه الشهوة خُلقت للعارفين ولم تُخلق لك كما خُلقت لك شهوة الجاه ولم تخلق للصبيان وانما للصبيان شهوة اللعب فقط.. فأنت تتعجب من الصبيان في عكوفهم على لذة اللعب وخلوهم عن لذة الرئاسة ، والعارف يتعجب منك في عكوفك على لذة الجاه والرئاسة فان الدنيا بحذافيرها عند العارف لهو ولعب ... ولما خُلقت هذه الشهوة للعارفين كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم ولا نسبة لتلك اللذة الى لذة الشهوات الحسية ، فانها لذة لا يعتريها الزوال ولا يغيرها الملال بل لا تزال تتضاعف وتترادف وتزداد بزيادة المعرفة والأشواق فيها بخلاف سائر الشهوات إلا أن هذه الشهوة لا تُخلق في الانسان الا بعد البلوغ ، أعني البلوغ الى حد الرجال ومن لم تُخلق فيه فهو إما صبي لم تكمل فطرته لقبول هذه الشهوات أو عنين أفسدت كدورات الدنيا وشهواتها فطرته الأصلية .. فالعارفون لما رُزقوا شهوةَ المعرفة ولذةَ النظر الى جلال الله فهم في مطالعتهم جمال الحضرة الربوبية في جنة عرضها السموات والأرض بل أكثر وهي جنة عالية قطوفها دانية فان فواكهها صفة ذاتهم وليست مقطوعة ولا ممنوعة اذ لا مضايقة للمعارف ...
الفصل التاسع عشر : في تقسيم لباب القرآن الى نمط الجواهر ونمط الدرر(1/42)
والعارفون ينظرون الى العاكفين في حضيض الشهوات نظر العقلاء الى الصبيان عند عكوفهم على لذات اللعب، ولذلك تراهم مستوحشين من الخلق ويؤثرون العزلة والخلوة ، فهي أحب الأشياء اليهم ، ويهربون من الجاه والمال فإنه يشغلهم عن لذة المناجاة ، ويعرضون عن الأهل والولد ترفعا عن الاشتغال بهم عن الله تعالى فترى الناس يضحكون منهم فيقولون في حق من يرونه منهم أنه موسوس بل مدبر ظهر عليه مبادىء الجنون ، وهم يضحكون على الناس لقناعتهم بمتاع الدنيا ويقولون :? إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ?...( هود 38-39 ) ...والعارف مشغول بتهيئة سفينة النجاة لغيره ولنفسه لعلمه بخطر المعاد فيضحك على أهل الغفلة ضحك العاقل على الصبيان اذا اشتغلوا باللعب والصولجان وقد أضل على البلد سلطان قاهر يريد أن يغير على البلد فيقتل بعضهم ويخلع بعضهم والعجب منك أيها المسكين المشغول بجاهك الخطير المنغص ومالك اليسير المشوش قانعا به عن النظر الى جمال الحضرة الربوبية وجلالها مع اشراقه وظهوره ، فإنه أظهر من أن يطلب وأوضح من أن يعقل ، ولم يمنع القلوب من الاشتغال بذلك الجمال بعد تزكيتها عن شهوات الدنيا الا شدة الاشراق مع ضعف الأحداق... فسبحان من اختفى عن بصائر الخلق بنوره واحتجب عنهم لشدة ظهوره ونحن الآن ننظم جواهر القرآن في سلك واحد ودرره في سلك آخر وقد يصادف كلاهما منظوما في آية واحدة فلا يمكن تقطيعها فننظر الى الأغلب من معانيها والشطر الأول من الفاتحة من الجواهر والشطر الثاني من الدرر ولذلك قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد { الحمد لله رب العالمين } قال الله حمدني عبدي فإذا قال { الرحمن الرحيم } قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال { مالك يوم الدين } قال مجدني عبدي فإذا(1/43)
قال { إياك نعبد وإياك نستعين } قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.. . وننبهك أن المقصود من سلك الجواهر اقتباس أنوار المعرفة فقط والمقصود من الدرر هو الاستقامة على سواء الطريق بالعمل فالأول علمي والثاني عملي وأصل الايمان العلم والعمل ...
النمط الأول
في جواهر القرآن
وهي سبعمائة وثلاث وستون آية
أولها فاتحة الكتاب
? بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ * ?
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : أبتدئ بكل اسم لله تعالى لأن لفظ اسم مفرد مضاف فيعم جميع الأسماء [ الحسنى ] .. " الله " : هو المألوه المعبود المستحق لإفراده بالعبادة لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال .. " الرحمن الرحيم " : اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمت كل حي وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة ومن عداهم فلهم نصيب منها ... واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها الإيمان بأسماء الله وصفاته وأحكام الصفات فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم ذو الرحمة التي اتصف بها المتعلقة بالمرحوم فالنعم كلها أثر من آثار رحمته وهكذا في سائر الأسماء .. يقال في العليم : إنه عليم ذو علم يعلم [ به ] كل شيء ، قدير ذو قدرة يقدر على كل شيء .. " الحمد لله " : [ هو ] الثناء على الله بصفات الكمال وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل فله الحمد الكامل بجميع الوجوه .. " رب العالمين "(1/44)
الرب : هو المربي جميع العالمين - وهم من سوى الله - بخلقه لهم وإعداده لهم الآلات وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء فما بهم من نعمة فمنه تعالى .. وتربيته تعالى لخلقه نوعان : عامة وخاصة ؛ فالعامة : هي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا ، والخاصة : تربيته لأوليائه فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكمله لهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير والعصمة عن كل شر ولعل هذا [ المعنى ] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة فدل قوله :
" رب العالمين " على انفراده بالخلق والتدبير والنعم وكمال غناه وتمام فقر العالمين إليه بكل وجه واعتبار ..." مالك يوم الدين "(1/45)
المالك : هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين وهو يوم القيامة يوم يدان الناس فيه بأعمالهم خيرها وشرها لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته وانقطاع أملاك الخلائق حتى [ إنه ] يستوي في ذلك اليوم الملوك والرعايا والعبيد والأحرار كلهم مذعنون لعظمته خاضعون لعزته منتظرون لمجازاته راجون ثوابه خائفون من عقابه ؛ فلذلك خصه بالذكر وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام ... وقوله : " إياك نعبد وإياك نستعين " أي : نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة ، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه فكأنه يقول : نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك .. وتقديم العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده ، والعبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة ، والاستعانة : هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به في تحصيل ذلك ، والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية والنجاة من جميع الشرور ؛ فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما.. وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله فبهذين الأمرين تكون عبادة وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي .. ثم قال تعالى : " اهدنا الصراط المستقيم "(1/46)
أي : دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم ، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به.. فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط فالهداية إلى الصراط : لزوم دين الإسلام وترك ما سواه من الأديان والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا .. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته لضرورته إلى ذلك ، وهذا الصراط المستقيم هو : " صراط الذين أنعمت عليهم " من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ... " غير " صراط " المغضوب عليهم " الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم وغير صراط " الضالين " الذين تركوا الحق على جهل وضلال كالنصارى ونحوهم ..
فهذه السورة على إيجازها قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : " رب العالمين " .. وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة يؤخذ من لفظ : " الله " ومن قوله : " إياك نعبد " .. وتوحيد الأسماء والصفات وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه وقد دل على ذلك لفظ " الحمد " كما تقدم ... وتضمنت إثبات النبوة في قوله : " اهدنا الصراط المستقيم " لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة ، وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله : " مالك يوم الدين " وأن الجزاء يكون بالعدل لأن الدين معناه الجزاء بالعدل... وتضمنت إثبات القدر وأن العبد فاعل حقيقة خلافا للقدرية والجبرية ، بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله : " اهدنا الصراط المستقيم " لأنه معرفة الحق والعمل به وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك ... وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى عبادة واستعانة في قوله : " إياك نعبد وإياك نستعين " فالحمد لله رب العالمين .(1/47)
? قلت : ورد في أسماء هذه السورة المباكة وفضائلها الكثير ، فعند تفسيرها قال الحافظ أبو الفدا إسماعيل بن كثيلر رحمه الله تعالى :
يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطاً وبها تفتتح القراءة في الصلوات, ويقال لها أيضاً أم الكتاب عند الجمهور, ذكره أنس .., والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك, قال الحسن وابن سيرين إنما ذلك اللوح المحفوظ, وقال الحسن الاَيات المحكمات هن أم الكتاب ولذا كرها أيضاً أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم" ويقال لها (الحمد) ويقال لها (الصلاة) لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي" الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها (الشفاء) لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً "فاتحة الكتاب شفاء من كل سم" ويقال لها (الرقية) لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما يدريك أنها رقية" ؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أن سماها (أساس القرآن) قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها سفيان بن عيينه (بالواقية) وسماها يحيى بن أبي كثير (الكافية) لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة "أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها" ويقال لها سورة الصلاة والكنز, ذكرهما الزمخشري في كشافه....(1/48)
وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية, وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة, والأول أشبه لقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} والله تعالى أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الاَخر نزل بالمدينة وهو غريب جداً, نقله القرطبي عنه ...وهي سبع آيات بلا خلاف, وقال عمرو بن عبيد ثمان, وقال حسين الجعفي ستة, وهذان القولان شاذان وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة, وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع: أمّاً, فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّاً, واستشهد بقول ذي الرمة.: على رأسه أم لنا نقتدي بها جماع أمور ليس نعصي لها أمراً ... ـ يعني الرمح ـ قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها وقيل لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضاً: الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.(1/49)
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: "هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم" ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني" وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث, حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي, حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن, وهي السبع المثاني والقرآن العظيم, وهي أم الكتاب, وفاتحة الكتاب" وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى {سبعاً من المثاني} بالفاتحة وأن البسملة هي الاَية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لمَ لم تكتب الفاتحة في مصحفك ؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة, قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة, قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل: {ياأيها المدثر} كما في حديث جابر في الصحيح وقيل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وهذ هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.
ذكر ما ورد في فضل الفاتحة(1/50)
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت, قال: فأتيته فقال: "مامنعك أن تأتيني" ؟ قال قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ثم قال: "لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قيل أن تخرج من المسجد" قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: "نعم {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني, كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به, ورواه في موضع آخر من التفسير, وأبو داوود والنسائي وابن ماجه من طرق عن شعبة به, ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها" قال أبي رضي الله عنه, فجعلت أبطى في المشي رجاء ذلك ثم قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال: "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال فقرأت عليه {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت على آخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هي هذه(1/51)
السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت" فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري وهذا تابعي من موالي خزاعة وذاك الحديث متصل صحيح, وهذا ظاهره منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم. على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب, وهو يصلي قال: يا أبيّ, فالتفت ثم لم يجبه, ثم قال: أبيّ, فخفف أبي ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك أي رسول الله قال: وعليك السلام ما منعك أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني, قال أي رسول الله إني كنت في الصلاة قال: أولست تجد فيما أوحى الله تعالى إلي {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} قال بلى يا رسول الله لا أعود... قال : أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ؟ قلت: نعم أي رسول الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن لا أخرج هذا الباب حتى تعلمها, قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث, فلما دنونا من الباب قلت: أي رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال ما تقرأ في الصلاة ؟ قال فقرأت عليه أم القرآن قال: والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني. ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلائي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره وعنده أنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ثم قال: هذا حديث حسن صحيح, وفي الباب عن أنس بن(1/52)
مالك, ورواه عبد الله بن الإمام أحمد عن إسماعيل بن أبي معمر عن أبى أسامة عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب, فذكره مطولاً بنحوه أو قريباً منه. وقد رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن أبي عمار حسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن, وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي. هذا لفظ النسائي... وقال الترمذي حديث حسن غريب. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا هاشم يعني ابن البريد, حدثنا عبد الله بن عقيل عن جابر قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء فقلت: السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي, قال فقلت: السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي, قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي, قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا خلفه حتى دخل رحله ودخلت أنا المسجد فجلست كئيباً حزيناً فخرج عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر فقال: عليك السلام ورحمة الله وعليك السلام ورحمة الله وعليك السلام ورحمة الله ثم قال: "ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخْيَر سورة في القرآن" قلت: بلى يا رسول الله, قال "اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها" هذا إسناد جيد, وابن عقيل هذا يحتج به الأئمة الكبار وعبد الله بن جابر هذا الصحابي ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي والله أعلم, ويقال إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي فيما ذكره الحافظ ابن عساكر واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الأيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء, منهم إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحفار من المالكية, وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك لأن الجميع كلام الله, ولئلا يوهم التفضيل(1/53)
المفضل عليه, وإن كان الجميع فاضلاً, نقله القرطبي عن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي حاتم بن حيان البستي ويحيى بن يحيى ورواية عن الإمام مالك أيضاً حديث آخر, قال البخاري في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن المثنى, وحدثنا وهب حدثنا هشام عن محمد عن معبد عن أبي سعيد الخدري, قال: كنا في مسير لنا, فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم وإن نفرنا غيب فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقيه فرقاه فبرأ, فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبناً. فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي ؟ فقال: لا ما رقيت إلا بأم الكتاب قلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم" وقال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث, حدثنا هشام, حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا, وهكذا رواه مسلم وأبو داود من رواية هشام وهو ابن حسان عن ابن سيرين به وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم يعني اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلاً.
(حديث آخر): روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبرائيل, إذ سمع نقيضاً فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط, قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك, فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته, وهذا لفظ النسائي.(1/54)
ولمسلم نحوه: حديث آخر, قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هو ابن راهويه حدثنا سفيان بن عيينة عن العلاء, يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الخرقي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام" فقيل لأبي هريرة إنا نكون خلف الإمام, فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله حمدني عبدي, وإذا قال {الرحمن الرحيم} قال الله أثنىَ عليّ عبدي, فإذا قال {مالك يوم الدين} قال الله: مجدني عبدي, وقال مرة: فوض إلي عبدي, فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل, فإذا قال {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". هكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه وقد روياه أيضاً عن قتيبة عن مالك عن العلاء, عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة به, وفي هذا السياق "فنصفها لي ونصفها لعبدي, ولعبدي ما سأل" وهكذا. رواه ابن إسحاق عن العلاء وقد رواه مسلم من حديث ابن جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا ورواه أيضاً من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه وأبي السائب, كلاهما عن أبي هريرة. وقال الترمذي هذا حديث حسن. وسألت أبا زرعة عنه فقال كلا الحديثين صحيح من قال عن العلاء عن أبيه وعن العلاء عن أبي السائب. روى هذ الحديث عبد الله بن الإمام أحمد من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب مطولاً وقال ابن جرير حدثنا صالح بن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعد بن إسحاق عن كعب بن عجرة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله(1/55)
تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قال: حمدني عبدي وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى عليّ عبدي, ثم قال: هذا لي وله ما بقي, ..وهذا غريب من هذا الوجه....
الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث
مما يختص بالفاتحة من وجوه :
(أحدها) أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة, والمراد القراءة كقوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} أي بقراءتك كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس, وهكذا قال في هذا الحديث "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" ثم بين تفضيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظمة القراءة في الصلاة, وأنها من أكبر أركانها إذا أطلقت العبادة أريد بها جزء واحد منها. هو القراءة كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: {وقرآن الفجر, إن قرآن الفجر كان مشهوداً} والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحاً به في الصحيحين: "أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار" فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في الصلاة وهو اتفاق من العلماء, ولكن اختلفوا في مسأله نذكرها في الوجه الثاني, وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب أم تجزىء هي أو غيرها ؟ على قولين مشهورين فعند أبي حنيفه ومن وافقه من أصحابه وغيرهم, أنها لا تتعين بل مهما قرأ من القرآن أجزأه في الصلاة واحتجوا بعموم قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} وبما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن" قالوا فأمره بقراءة ما تيسر ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها فدل على ما قلنا.(1/56)
(والقول الثاني) أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ولا تجزىء الصلاة بدونها, وهو قول بقية الأئمة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء, واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث "غير تمام" واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وفي صحيحه ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزيء صلاة لا يقرأ فيها فيها بأم القرآن" والأحاديث في هذا الباب كثيرة ووجه المناظرة ههنا يطول ذكره وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله.
ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات. وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذاً بمطلق الحديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها بل لو قرأ بغيرها أجزأه لقوله تعالى {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} والله أعلم. وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها" وفي صحة هذا نظر وموضع تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير والله أعلم.(1/57)
(والوجه الثالث) هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء (أحدها) أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه لعموم الأحاديث المتقدمة (والثاني) لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها ولا في صلاة الجهرية ولا في صلاة السرية, لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" ولكن في إسناده ضعف. ورواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر من كلامه, وقد روي هذا الحديث من طرق ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم (والقول الثالث) أنه تجب القراءة على المأموم في السرية لما تقدم, ولا يجب ذلك في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا, وإذا قرأ فأنصتوا" وذكر بقية الحديث, وهكذا رواه أهل السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا قرأ فأنصتوا" وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضاً, فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي رحمه الله: والله أعلم. ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ـ والغرض من ذكر هذه المسائل ههنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذ وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت".
وأما من سورة البقرة فأربع عشر آية(1/58)
قوله تعالى: ? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ?( البقرة 22 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *? "
هذا أمر لكل الناس بأمر عام وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره فأمرهم تعالى بما خلقهم له قال تعالى :(1/59)
" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " ثم استدل على وجوب عبادته وحده بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم فخلقكم بعد العدم وخلق الذين من قبلكم وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والسلوك من محل إلى محل وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها وجعل السماء بناء لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم كالشمس والقمر والنجوم " وأنزل من السماء ماء " والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا السحاب فأنزل منه تعالى ماء " فأخرج به من الثمرات " كالحبوب والثمار من نخيل وفواكه [ وزروع ] وغيرها " رزقا لكم " به ترتزقون وتقوتون وتعيشون وتفكهون " فلا تجعلوا لله أندادا " أي : نظراء وأشباها من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله وتحبونهم كما تحبونه وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا ينفعونكم ولا يضرون " وأنتم تعلمون " أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة من سواه وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك فكذلك فليكن الإقرار بأن [ الله ] ليس له شريك في العبادة وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري وبطلان الشرك وقوله تعالى : " لعلكم تتقون "(1/60)
يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده اتقيتم بذلك سخطه وعذابه لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى وكلا المعنيين صحيح وهما متلازمان فمن أتى بالعبادة كاملة كان من المتقين ومن كان من المتقين حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه ...
وقوله تعالى: ? هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?(البقرة : 29 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/61)
" هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " أي : خلق لكم برّاً بكم ورحمة جميع ما على الأرض للانتفاع والاستمتاع والاعتبار وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة لأنها سيقت في معرض الامتنان يخرج بذلك الخبائث فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ومعرفة المقصود منها وأنه خلقها لنفعنا فما فيه ضرر فهو خارج من ذلك ومن تمام نعمته منعنا من الخبائث تنزيها لنا وقوله : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم " ..." استوى " : ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف فيكون معناها الكمال والتمام كما في قوله عن موسى : " ولما بلغ أشده واستوى " ، وتارة تكون بمعنى علا وارتفع وذلك إذا عديت ب على كما في قوله تعالى : " ثم استوى على العرش " ..." لتستووا على ظهوره " ، وتارة تكون بمعنى قصد كما إذا عديت ب إلى كما في هذه الآية أي : لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات " فسواهن سبع سماوات " فخلقها وأحكمها وأتقنها " وهو بكل شيء عليم " ..." يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها "... و " يعلم ما تسرون وما تعلنون " ..و" يعلم السر وأخفى" وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " لأن خلقه للمخلوقات أدل دليل على علمه وحكمته وقدرته ...
وقوله تعالى: ? قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ?(البقرة : 32 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/62)
قوله تعالى ? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ*وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ *وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ* فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ? ...(1/63)
هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك وأن الله مستخلفه في الأرض فقالت الملائكة عليهم السلام " أتجعل فيها من يفسد فيها " بالمعاصي " ويسفك الدماء " [ وهذا تخصيص بعد تعميم لبيان [ شدة ] مفسدة القتل وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك فنزهوا الباري عن ذلك وعظموه وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا : " ونحن نسبح بحمدك " أي : ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك " ونقدس لك " يحتمل أن معناها : ونقدسك فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص ويحتمل أن يكون : ونقدس لك أنفسنا أي : نطهرها بالأخلاق الجميلة كمحبة الله وخشيته وتعظيمه ونطهرها من الأخلاق الرذيلة ... قال الله تعالى للملائكة : " إني أعلم " من هذا الخليفة " ما لا تعلمون " ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم وأنا عالم بالظواهر والسرائر وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ولتظهر آياته لخلقه ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة كالجهاد وغيره وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان وليتبين عدوه من وليه وحزبه من حربه وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه واتصف به فهذه حكم عظيمة يكفي بعضها في ذلك ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض أراد الله تعالى أن يبين لهم من فضل آدم ما يعرفون به فضله وكمال حكمة الله وعلمه ف " وعلم آدم الأسماء كلها " أي : أسماء الأشياء ومن هو مسمى بها فعلمه الاسم والمسمى أي : الألفاظ والمعاني حتى المكبر من الأسماء كالقصعة والمصغر كالقصيعة " ثم عرضهم " أي : عرض المسميات " على الملائكة " امتحانا لهم هل(1/64)
يعرفونها أم لا ؟ " فقال " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " في قولكم وظنك أنكم أفضل من هذا الخليفة " قالوا سبحانك " أي : ننزهك عن الاعتراض منا عليك ومخالفة أمرك " لا علم لنا " بوجه من الوجوه " إلا ما علمتنا " إياه فضلا منك وجودا " إنك أنت العليم الحكيم " العليم الذي أحاط علما بكل شيء فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ؛ الحكيم : من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق ولا يشذ عنها مأمور فما خلق شيئا إلا لحكمة ولا أمر بشيء إلا لحكمة والحكمة وضع الشيء في موضعه اللائق به فأقروا واعترفوا بعلم الله وحكمته وقصورهم عن معرفة أدنى شيء واعترافهم بفضل الله عليهم وتعليمه إياهم ما لا يعلمون فحينئذ قال الله : " يا آدم أنبئهم بأسمائهم " أي : أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة فعجزوا عنها " فلما أنبأهم بأسمائهم " تبين للملائكة فضل آدم عليهم وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة " قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض " وهو ما غاب عنا فلم نشاهده فإذا كان عالما بالغيب فالشهادة من باب أولى " وأعلم ما تبدون " أي : تظهرون " وما كنتم تكتمون " ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم إكراما له وتعظيما وعبودية لله تعالى فامتثلوا أمر الله وبادروا كلهم بالسجود " إلا إبليس أبى " امتنع عن السجود " واستكبر " عن أمر الله وعلى آدم قال : " أأسجد لمن خلقت طينا " ؟ وهذا الإباء منه والاستكبار نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره وفي هذه الآيات من العبر والآيات إثبات الكلام لله تعالى وأنه لم يزل متكلما يقول ما شاء ويتكلم بما شاء وأنه عليم حكيم وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم واتهام عقله والإقرار لله بالحكمة وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة وإحسانه بهم بتعليمهم ما(1/65)
جهلوا وتنبيههم على ما لم يعلموه وفيه فضيلة العلم من وجوه : منها : أن الله تعرف لملائكته بعلمه وحكمته ومنها : أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم وأنه أفضل صفة تكون في العبد ومنها : أن الله أمرهم بالسجود لآدم إكراما له لما بان فضل علمه ومنها : أن الامتحان للغير إذا عجزوا عما امتحنوا به ثم عرفه صاحب الفضيلة فهو أكمل مما عرفه ابتداء ومنها : الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن وبيان فضل آدم وإفضال الله عليه وعداوة إبليس له إلى غير ذلك من العبر ...(1/66)
وقوله تعالى :" وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " لما خلق الله آدم وفضله أتم نعمته عليه بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها ويستأنس بها وأمرهما بسكنى الجنة والأكل منها " رغدا " أي : واسعا هنيئا " حيث شئتما " أي : من أي أصناف الثمار والفواكه وقال الله له : " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " ..." ولا تقربا هذه الشجرة " نوع من أنواع شجر الجنة الله أعلم بها وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء [ أو لحكمة غير معلومة لنا ) " فتكونا من الظالمين " دل على أن النهي للتحريم لأنه رتب عليه الظلم ؛ فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه حتى أزلهما أي : حملهما على الزلل بتزيينه " وقاسمهما " بالله " إني لكما لمن الناصحين " فاغترا به وأطاعاه فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة " بعضكم لبعض عدو " أي : آدم وذريته أعداء لإبليس وذريته ومن المعلوم أن العدو يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق وحرمانه الخير بكل طريق ففي ضمن هذا تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " وقال :" أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا "... ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض فقال : " ولكم في الأرض مستقر " أي : مسكن وقرار " ومتاع إلى حين " انقضاء آجالكم ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها وخلقت لكم ففيها إن مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة ليست مسكنا حقيقيا وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار ولا تعمر للاستقرار " فتلقى آدم " أي : تلقف وتلقن وألهمه الله " من ربه كلمات " وهي قوله(1/67)
:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف : 23 ) فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته " فتاب " الله " عليه " ورحمه " إنه هو التواب " لمن تاب إليه وأناب وتوبته نوعان : توفيقه أولا ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا ... " الرحيم " بعباده ومن رحمته بهم أن وفقهم للتوبة وعفا عنهم وصفح . ." قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " كرر الإهباط ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله : " فإما يأتينكم مني هدى " أي : أي وقت وزمان جاءكم مني - يا معشر الثقلين - هدى أي : رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني ويدنيكم من رضائي " فمن تبع هداي " منكم بأن آمن برسلي وكتبي واهتدى بهم وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب والامتثال للأمر والاجتناب للنهى " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وفي الآية الأخرى : " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء : نفي الخوف والحزن والفرق بينهما أن المكروه إن كان قد مضى أحدث الحزن وإن كان منتظرا أحدث الخوف فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا حصل ضدهما وهو الأمن التام وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما وهو الهدى والسعادة فمن اتبع هداه حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى وانتفى عنه كل مكروه من الخوف والحزن والضلال والشقاء فحصل له المرغوب واندفع عنه المرهوب... وهذا عكس من لم يتبع هداه فكفر به وكذب بآياته " أولئك أصحاب النار " أي : الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه والغريم لغريمه " هم فيها خالدون " لا يخرجون منها ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون وفي هذه الآيات وما أشبهها انقسام الخلق من الجن والإنس إلى أهل السعادة وأهل الشقاوة وفيها صفات الفريقين(1/68)
والأعمال الموجبة لذلك وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب كما أنهم مثلهم في الأمر والنهي ....
وقوله تعالى: ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ? البقرة : 107 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * ) - البقرة 106-107 -(1/69)
النسخ : هو النقل فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز وهو مذكور عندهم في التوراة فإنكارهم له كفر وهوى محض فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال: " ما ننسخ من آية أو ننسها " أي : ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم " نأت بخير منها " وأنفع لكم " أو مثلها " فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال : " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض " فإذا كان مالكا لكم متصرفا فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض ؟ وهو أيضا ولي عباده ونصيرهم فيتولاهم في تحصيل منافعهم وينصرهم في دفع مضارهم فمن ولايته لهم أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم .. ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه...
وقوله تعالى : ? وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * ?
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/70)
( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) أي : " ولله المشرق والمغرب " خصهما بالذكر لأنهما محل الآيات العظيمة فهما مطالع الأنوار ومغاربها فإذا كان مالكا لها كان مالكا لكل الجهات " فأينما تولوا " وجوهكم من الجهات إذا كان توليكم إياها بأمره إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة فيتحرى الصلاة إليها ثم يتبين له الخطأ أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك فهذه الأمور إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا وبكل حال فما استقبل جهة من الجهات خارجة عن ملك ربه " فثم وجه الله إن الله واسع عليم " فيه إثبات الوجه لله تعالى على الوجه اللائق به تعالى وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه وهو - تعالى - واسع الفضل والصفات عظيمها عليم بسرائركم ونياتكم فمن سعته وعلمه وسع لكم الأمر وقبل منكم المأمور فله الحمد والشكر ...(1/71)
" وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " " وقالوا " أي : اليهود والنصارى والمشركون وكل من قال ذلك : " اتخذ الله ولدا " فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله وأساؤوا كل الإساءة وظلموا أنفسهم وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم قد حلم عليهم وعافاهم ورزقهم مع تنقصهم إياه " سبحانه " أي : تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله فسبحان من له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه ومع رده لقولهم أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال : " بل له ما في السماوات والأرض " أي : جميعهم ملكه وعبيده يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره فإذا كانوا كلهم عبيده مفتقرين إليه وهو غني عنهم فكيف يكون منهم أحد يكون له ولدا والولد لا بد أن يكون من جنس والده لأنه جزء منه ، والله تعالى المالك القاهر وأنتم المملوكون المقهورون ، وهو الغني وأنتم الفقراء ، فكيف مع هذا يكون له ولد ؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه والقنوت نوعان : قنوت عام : وهو قنوت الخلق كلهم تحت تدبير الخالق وخاص : وهو قنوت العبادة فالنوع الأول كما في هذه الآية والنوع الثاني : كما في قوله تعالى : " وقوموا لله قانتين " ثم قال : " بديع السماوات والأرض " أي : خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " فلا يستعصى عليه ولا يمتنع منه ...
وقوله تعالى ? فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?(البقرة : 137 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/72)
قوله تعالى :( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ* أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * )
" وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " أي : دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال قل له مجيبا جوابا شافيا : " بل " نتبع " ملة إبراهيم حنيفا " أي : مقبلا على الله معرضا عما سواه قائما بالتوحيد تاركا للشرك والتنديد فهذا الذي في اتباعه الهداية وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية ...(1/73)
" قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " هذه الآية الكريمة قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام بهذه الأصول وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها فهي من الإيمان وأثر من آثاره فحيث أطلق الإيمان دخل فيه ما ذكر وكذلك الإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان فإذا قرن بينهما كان الإيمان اسما لما في القلب من الإقرار والتصديق والإسلام اسما للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة فقوله تعالى : " قولوا " أي : بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم وهذا هو القول التام المترتب عليه الثواب والجزاء فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر فالقول الخالي من العمل عمل القلب عديم التأثير قليل الفائدة وإن كان العبد يؤجر عليه إذا كان خيرا ومعه أصل الإيمان لكن فرق بين القول المجرد والمقترن به عمل القلب وفي قوله : " قولوا " إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها إذ هي أصل الدين وأساسه وفي قوله : " آمنا " ونحوه مما فيه صدور الفعل منسوبا إلى جميع الأمة إشارة إلى أنه يجب على الأمة الاعتصام بحبل الله جميعا والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدا وعملهم متحدا وفي ضمنه النهي عن الافتراق وفيه أن المؤمنين كالجسد الواحد وفي قوله : " قولوا آمنا بالله " الخ دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان على وجه التقييد بل على وجوب ذلك بخلاف قوله : أنا مؤمن ونحوه فإنه لا يقال إلا مقرونا بالاستثناء بالمشيئة لما فيه من تزكيه النفس والشهادة على نفسه بالإيمان فقوله : " آمنا بالله " أي : بأنه موجود واحد أحد متصف بكل صفة كمال منزه عن كل نقص وعيب مستحق(1/74)
لإفراده بالعبادة كلها وعدم الإشراك به في شيء منها بوجه من الوجوه " وما أنزل إلينا " يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله من صفات الباري وصفات رسله واليوم الآخر والغيوب الماضية والمستقبلة والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية وأحكام الجزاء وغير ذلك " وما أنزل إلى إبراهيم " إلى آخر الآية فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا ما نص عليه في الآية لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول ثم ما عرف منهم بالتفصيل وجب الإيمان به مفصلا ..وقوله : " لا نفرق بين أحد منهم " أي : بل نؤمن بهم كلهم هذه خاصية المسلمين التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين ، فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره فيفرقون بين الرسل والكتب بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به وينقض تكذيبهم تصديقهم فإن الرسول الذي زعموا أنهم قد آمنوا به قد صدق سائر الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم فإذا كذبوا محمدا فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به فيكون كفرا برسولهم وفي قوله : " وما أوتي النبيون من ربهم " دلالة على أن عطية الدين هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه وليس لهم من الأمر شيء وفي قوله : " من ربهم " إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده أن ينزل عليهم الكتب ويرسل إليهم الرسل فلا تقتضي ربوبيته تركهم سدى ولا هملا وإذا كان ما أوتي النبيون إنما هو من ربهم ففيه(1/75)
الفرق بين الأنبياء وبين من يدعي النبوة وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه فالرسل لا يدعون إلا لخير ولا ينهون إلا عن كل شر وكل واحد منهم يصدق الآخر ويشهد له بالحق من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " وهذا بخلاف من ادعى النبوة فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع وعرف ما يدعون إليه فلما بين تعالى جميع ما يؤمن به عموما وخصوصا وكان القول لا يغني عن العمل قال : " ونحن له مسلمون " أي : خاضعون لعظمته منقادون لعبادته بباطننا وظاهرنا مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول وهو " له " على العامل وهو " مسلمون " فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات واشتملت على الإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك وعلى الفرق بين الرسل الصادقين ومن ادعى النبوة من الكاذبين وعلى تعليم الباري عباده كيف يقولون ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ...(1/76)
" فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " أي : فإن آمن أهل الكتاب " بمثل ما آمنتم به " - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل وجميع الكتب الذين أول من دخل فيهم وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأسلموا لله وحده ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله " فقد اهتدوا " للصراط المستقيم الموصل لجنات النعيم أي : فلا سبيل لهم إلى الهداية إلا بهذا الإيمان لا كما زعموا بقولهم : كونوا هودا أو نصارى تهتدوا فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه والهدى هو العلم بالحق والعمل به وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم وهو الشقاق الذي كانوا عليه لما تولوا وأعرضوا فالمشاق : هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق ويلزم من المشاقة المحادة والعداوة البليغة التي من لوازمها بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول فلهذا وعد الله رسوله أن يكفيه إياهم لأنه السميع لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات العليم بما بين أيديهم وما خلفهم بالغيب والشهادة بالظواهر والبواطن فإذا كان كذلك كفاك الله شرهم وقد أنجز الله لرسوله وعده وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم وسبى بعضهم وأجلى بعضهم وشردهم كل مشرد ففيه معجزة من معجزات القرآن وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه فوقع طبق ما أخبر ...(1/77)
" صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " أي : الزموا صبغة الله وهو دينه وقوموا به قياما تاما بجميع أعماله الظاهرة والباطنة وجميع عقائده في جميع الأوقات حتى يكون لكم صبغة وصفة من صفاتكم فإذا كان صفة من صفاتكم أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره طوعا واختيارا ومحبة وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية لحث الدين على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ومعالي الأمور فلهذا قال - على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية - : " ومن أحسن من الله صبغة " أي : لا أحسن صبغة من صبغته وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ فقس الشيء بضده فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن وفعل جميل وخلق كامل ونعت جليل ويتخلى من كل وصف قبيح ورذيلة وعيب فوصفه : الصدق في قوله وفعله والصبر والحلم والعفة والشجاعة والإحسان القولي والفعلي ومحبة الله وخشيته وخوفه ورجاؤه فحاله الإخلاص للمعبود والإحسان لعبيده فقسه بعبد كفر بربه وشرد عنه وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة من الكفر والشرك والكذب والخيانة والمكر والخداع وعدم العفة والإساءة إلى الخلق في أقواله وأفعاله فلا إخلاص للمعبود ولا إحسان إلى عبيده فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه ... وفي قوله : " ونحن له عابدون " بيان لهذه الصبغة وهي القيام بهذين الأصلين : الإخلاص والمتابعة لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة ولا تكون كذلك حتى يشرعها الله على لسان رسوله والإخلاص : أن يقصد العبد وجه الله وحده في تلك الأعمال فتقديم المعمول يؤذن بالحصر .. وقال : " ونحن له عابدون "(1/78)
فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازما ...
( " قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون " المحاجة : هي المجادلة بين اثنين فأكثر تتعلق بالمسائل الخلافية حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله وإبطال قول خصمه فكل واحد منهما يجتهد في إقامة الحجة على ذلك والمطلوب منها أن تكون بالتي هي أحسن بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق ويقيم الحجة على المعاند ويوضح الحق ويبين الباطل فإن خرجت عن هذه الأمور كانت مماراة ومخاصمة لا خير فيها وأحدثت من الشر ما أحدثت فكان أهل الكتاب يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين وهذا مجرد دعوى تفتقر إلى برهان ودليل فإذا كان رب الجميع واحدا ليس ربا لكم دوننا وكل منا ومنكم له عمله فاستوينا نحن وإياكم بذلك فهذا لا يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره ؛ لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء من غير فرق مؤثر دعوى باطلة وتفريق بين متماثلين ومكابرة ظاهرة وإنما يحصل التفضيل بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده وهذه الحالة وصف المؤمنين وحدهم فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم ؛ لأن الإخلاص هو الطريق إلى الخلاص فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بالأوصاف الحقيقية التي يسلمها أهل العقول ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول ففي الآية إرشاد لطيف لطريق المحاجة وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ...(1/79)
" أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون " وهذه دعوى أخرى منهم ومحاجة في رسل الله زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين فرد الله عليهم بقوله : " أأنتم أعلم أم الله " فالله يقول : " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " وهم يقولون : بل كان يهوديا أو نصرانيا فإما أن يكونوا هم الصادقين العالمين أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك فأحد الأمرين متعين لا محالة وصورة الجواب مبهم وهو في غاية الوضوح والبيان حتى إنه من وضوحه لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق ونحو ذلك لانجلائه لكل أحد كما إذا قيل : الليل أنور أم النهار ؟ والنار أحر أم الماء ؟ والشرك أحسن أم التوحيد ؟ ونحو ذلك وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء لم يكونوا هودا ولا نصارى فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم ولهذا قال تعالى : " ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " فهي شهادة عندهم مودعة من الله لا من الخلق فيقتضي الاهتمام بإقامتها فكتموها وأظهروا ضدها جمعوا بين كتم الحق وعدم النطق به وإظهار الباطل والدعوة إليه أليس هذا أعظم الظلم ؟ بلى والله وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة فلهذا قال : " وما الله بغافل عما تعملون " بل قد أحصى أعمالهم وعدها وادخر لهم جزاءها فبئس الجزاء جزاؤهم وبئست النار مثوى للظالمين وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة عقب الآيات المتضمنة للأعمال التي يجازى عليها فيفيد ذلك الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ويفيد أيضا ذكر الأسماء الحسنى بعد الأحكام أن الأمر الديني والجزائي أثر من آثارها وموجب من موجباتها وهي مقتضية له ...(1/80)
ثم قال تعالى : " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " تقدم تفسيرها، أي : كل له عمله وكل سيجازى بما فعله لا يؤخذ أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم أنكم على ملتهم والرضا بمجرد القول أمر فارغ لا حقيقة له بل الواجب عليكم أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها هل تصلح للنجاة أم لا ؟ وكررها لقطع التعلق بالمخلوقين وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان لا عمل أسلافه وآبائه فالنفع الحقيقي بالأعمال لا بالانتساب المجرد للرجال
وقوله تعالى :? (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ? (البقرة : 164 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/81)
أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات أي : أدلة على وحدانية الباري وإلهيته وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته ولكنها " لقوم يعقلون " أي : لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ، فعلى حسب ما منَّ الله على عبده من العقل ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبره ففي " خلق السماوات " في ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها وما جعل الله فيها من الشمس والقمر والنجوم وتنظيمها لمصالح العباد وفي خلق " الأرض " مهادا للخلق يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها والاعتبار ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم وحاجاتهم وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله واستحقاقه أن يفرد بالعبادة لانفراده بالخلق والتدبير والقيام بشؤون عباده ، و في " اختلاف الليل والنهار " وهو تعاقبهما على الدوام إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر وفي اختلافهما في الحر والبرد والتوسط وفي الطول والقصر والتوسط وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم وجميع ما على وجه الأرض من أشجار ونوابت كل ذلك بانتظام وتدبير وتسخير تنبهر له العقول وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول ما يدل ذلك على قدرة مصرفها وعلمه وحكمته ورحمته الواسعة ولطفه الشامل وتصريفه وتدبيره الذي تفرد به وعظمته وعظمة ملكه وسلطانه مما يوجب أن يؤله ويعبد ويفرد بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء وبذل الجهد في محابه ومراضيه ،وفي " والفلك التي تجري في البحر " وهي السفن والمراكب ونحوها مما ألهم الله عباده صنعتها وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال والبضائع التي هي من منافع الناس وبما تقوم مصالحهم وتنتظم معايشهم فمن الذي(1/82)
ألهمهم صنعتها وأقدرهم عليها وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها ؟ أم من الذي سخر لها البحر تجري فيه بإذنه وتسخيره والرياح ؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية النار والمعادن المعينة على حملها وحمل ما فيها من الأموال ؟ فهل هذه الأمور حصلت اتفاقا أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز الذي خرج من بطن أمه لا علم له ولا قدرة ثم خلق له ربه القدرة وعلمه ما يشاء تعليمه أم المسخر لذلك رب واحد حكيم عليم لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء ؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته واستكانت لعظمته وخضعت لجبروته وغاية العبد الضعيف أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب التي بها وجدت هذه الأمور العظام فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له والخوف والرجاء وجميع الطاعة والذل والتعظيم ، " وما أنزل الله من السماء من ماء " وهو المطر النازل من السحاب " فأحيا به الأرض بعد موتها " فأظهرت من أنواع الأقوات وأصناف النبات ما هو من ضرورات الخلائق التي لا يعيشون بدونها أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله وأخرج به ما أخرج ورحمته ولطفه بعباده وقيامه بمصالحهم وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه ؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم ؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم ؟ " وبث فيها " أي : في الأرض " من كل دابة " أي : نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة ما هو دليل على قدرته وعظمته ووحدانيته وسلطانه العظيم وسخرها للناس ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع فمنها : ما يأكلون من لحمه ويشربون من دره ومنها : ما يركبون ومنها : ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم ومنها : ما يعتبر به ومع أنه بث فيها من كل دابة فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم المتكفل بأقواتهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها وفي " وتصريف الرياح " باردة وحارة وجنوبا وشمالا وشرقا ودبورا وبين ذلك(1/83)
وتارة تثير السحاب وتارة تؤلف بينه وتارة تلقحه وتارة تدره وتارة تمزقه وتزيل ضرره وتارة تكون رحمة وتارة ترسل بالعذاب ، فمن الذي صرفها هذا التصريف وأودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنه ؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات وتصلح الأبدان والأشجار والحبوب والنوابت إلا العزيز الحكيم الرحيم اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع ومحبة وإنابة وعبادة ؟ وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير فيسوقه الله إلى حيث شاء فيحيي به البلاد والعباد ويروي التلول والوهاد وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه فإذا كان يضرهم كثرته أمسكه عنهم فينزله رحمة ولطفا ويصرفه عناية وعطفا فما أعظم سلطانه وأغزر إحسانه وألطف امتنانه ! ! أليس من القبيح بالعباد أن يتمتعوا برزقه ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه ؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره وعفوه وصفحه وعميم لطفه ؟ فله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والحاصل أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صامدون وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات فلا إله إلا الله ولا رب سواه ...
وقوله تعالى? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ?(البقرة : 186 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/84)
هذا جواب سؤال، سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعضُ أصحابه فقالوا : يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فنزل : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب " لأنه تعالى الرقيب الشهيد المطلع على السر وأخفى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فهو قريب أيضا من داعيه بالإجابة ولهذا قال : " أجيب دعوة الداع إذا دعان " والدعاء نوعان : دعاء عبادة ودعاء مسألة ، والقرب نوعان : قرب بعلمه من كل خلقه وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق ... فمن دعا ربه بقلب حاضر ودعاء مشروع ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء كأكل الحرام ونحوه فإن الله قد وعده بالإجابة وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية والإيمان به الموجب للاستجابة فلهذا قال : " فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " أي : يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره سبب لحصول العلم كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " ...(1/85)
وقوله تعالى :? (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? (البقرة : 255 -256 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/86)
هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأنه " لا إله إلا هو " أي : لا معبود بحق سواه فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه وكل ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبَّرا فقيرا من جميع الوجوه فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة وقوله : " الحي القيوم " هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات كالسمع والبصر والعلم والقدرة ونحو ذلك والقيوم : هو الذي قام بنفسه وقام بغيره وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء وسائر أنواع التدبير كل ذلك داخل في قيومية الباري ولهذا قال بعض المحققين : إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب وإذا سئل به أعطى ومن تمام حياته وقيوميته أنه " لا تأخذه سنة ولا نوم " والسنة النعاس " له ما في السماوات وما في الأرض " أي : هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبِّر وغيره مخلوق مرزوق مدبَّر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " أي : لا أحد يشفع عنده بدون إذنه فالشفاعة كلها لله تعالى ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ولا يبتدئ الشافع قبل الإذن ثم قال " يعلم ما بين أيديهم " أي : ما مضى من جميع الأمور " وما خلفهم "(1/87)
أي : ما يستقبل منها فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور متقدمها ومتأخرها بالظواهر والبواطن بالغيب والشهادة والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى ولهذا قال : " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض " وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتها وعظمة من فيها والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى بل هناك ما هو أعظم منه وهو العرش وما لا يعلمه إلا هو وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال فكيف بعظمة خالقها ومبدعها والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب فلهذا قال :" ولا يؤوده " أي : يثقله " حفظهما وهو العلي " بذاته فوق عرشه العلي بقهره لجميع المخلوقات العلي بقدره لكمال صفاته " العظيم " الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته فهذه الآية بمفردها عقيدة في جانب عظمة العلي العظيم فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ويحق لمن قرأها متدبرا متفهما أن يمتلىء قلبه من اليقين والعرفان والإيمان وأن يكون محفوظا بذلك من شرور الشيطان(1/88)
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي وأنه لكمال براهينه واتضاح آياته وكونه هو دين العقل والعلم ودين الفطرة والحكمة ودين الصلاح والإصلاح ودين الحق والرشد فلكماله وقبول الفطرة له لا يحتاج إلى الإكراه عليه لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب ويتنافى مع الحقيقة والحق أو لما تخفى براهينه وآياته وإلا فمن جاءه هذا الدين ورده ولم يقبله فإنه لعناده فإنه قد تبين الرشد من الغي فلم يبق لأحد عذر ولا حجة إذا رده ولم يقبله ولا منافاة بين هذا المعنى وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله ولدفع اعتداء المعتدين على الدين وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر وأنه من الفروض المستمرة الجهاد القولي الفعلي فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف لفظا ومعنى كما هو واضح بين لمن تدبر الآية الكريمة كما نبهنا عليه ثم ذكر الله انقسام الناس إلى قسمين قسم آمن بالله وحده لا شريك له وكفر بالطاغوت وهو كل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره فهذا قد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها بل هو مستقيم على الدين الصحيح حتى يصل به إلى الله وإلى دار كرامته ويؤخذ القسم الثاني من مفهوم الآية أن من لم يؤمن بالله بل كفر به وآمن بالطاغوت فإنه هالك هلاكا أبديا ومعذب عذابا سرمديا وقوله "والله سميع" أي لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات وسميع لدعاء الداعين وخضوع المتضرعين عليم بما أكنته الصدور وما خفي من خفايا الأمور فيجازى كل أحد بحسب ما يعلمه من نياته وعمله ...
? قال الإمام ابن كثير رحمه الله(1/89)
هذه آية الكرسي, ولها شأن عظيم, وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله.... قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا سفيان, عن سعيد الجريري, عن أبي السليل, عن عبد الله بن رباح, عن أبي هو ابن كعب, أن النبي صلى الله عليه وسلم, سأله "أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال الله ورسوله أعلم, فرددها مراراً, ثم قال: آية الكرسي, قال "ليهنك العلم أبا المنذر, والذي نفسي بيده, إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش" وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى, عن الجريري به, وليس عنده زيادة: والذي نفسي بيده الخ.
(حديث آخر) عن أبي أيضاً في فضل آية الكرسي, قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي, حدثنا مبشر عن الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير, عن عبدة بن أبي لبابة, عن عبد الله بن أبي بن كعب, أن أباه أخبره أنه كان له جرن فيه تمر, قال: فكان أبي يتعاهده, فوجده ينقص, قال: فحرسه ذات ليلة, فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم, قال: فسلمت عليه, فرد السلام, قال: فقلت: ما أنت ؟ جني أم أنسي ؟ قال: جني. قال: ناولني يدك, قال فناولني يده, فإذا يد كلب وشعر كلب, فقلت: هكذا خلق الجن . قال: لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني. قلت: فما حملك على ما صنعت ؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة, فأحببنا أن نصيب من طعامك. قال: فقال له أبي: فما الذي يجيرنا منكم ؟ قال: هذه الاَية, آية الكرسي, ثم غدا إلى النبي فأخبره, فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" صدق الخبيث" وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي, عن حرب بن شداد, عن يحيى بن أبي كثير, عن الحضرمي بن لاحق, عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب, عن جده به, وقال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه.(1/90)
(طريق آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عثمان بن غياث, قال: سمعت أبا السليل, قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه, فيصعد على سطح بيت, فيحدث الناس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله: "أي آية في القرآن أعظم ؟" فقال رجل {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} قال: فوضع يده بين كتفي, فوجدت بردها بين ثديي, أو قال: فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي, وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر.
(حديث آخر) عن الأسقع البقري. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو زيد القرطيسي, حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي, حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج, أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسقع رجل صدق, أخبره عن الأسقع البكري, أنه سمعه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين, فسأله إنسان: أي آية في القرآن أعظم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الله لا إله هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} حتى انقضت الاَية.
(حديث آخر) ـ عن أنس ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الحارث, حدثني سلمة بن وردان, أن أنس بن مالك, حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلاً من صحابته, فقال "أي فلان هل تزوجت ؟ قال: لا , وليس عندي ما أتزوج به, قال "أوليس معك قل هو الله أحد ؟" قال: بلى, قال "ربع القرآن". قال "أليس معك قل يا أيها الكافرون ؟" قال: بلى. قال: "ربع القرآن". أليس معك إذا زلزلت ؟" قال: بلى. قال "ربع القرآن" قال "أليس معك إذا جاء نصر الله ؟ قال: بلى. قال "ربع القرآن". قال "أليس معك آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قال بلى. قال "ربع القرآن".(1/91)
(حديث آخر) عن أبي ذر جندب بن جنادة. قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع بن الجراح, حدثنا المسعودي, أنبأني أبو عمر الدمشقي, عن عبيد الخشخاش, عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست, فقال "يا أبا ذر, هل صليت ؟" قلت: لا . قال "قم فصل". قال: فقمت فصليت, ثم جلست, فقال "يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن". قال: قلت: يا رسول الله, أوَ للإنس شياطين ؟ قال: نعم , قال قلت: يا رسول الله الصلاة ؟ قال "خير موضوع, من شاء أقل, ومن شاء أكثر" قال: قلت: يا رسول الله فالصوم ؟ قال "فرض مجزي وعند الله مزيد" قلت: يا رسول الله فالصدقة ؟ قال "أضعاف مضاعفة". قلت: يا رسول الله, فأيها أفضل ؟ قال: "جهد من مقل, أو سر إلى فقير" قلت: يا رسول الله, أي الأنبياء كان أول ؟ قال: "آدم" قلت: يا رسول الله, ونبي كان ؟ قال: نعم نبي مكلم" قلت: يا رسول الله, كم المرسلون ؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً", وقال مرة "وخمسة عشر" قلت: يا رسول الله, أي ما أنزل عليك أعظم ؟ قال: "آية الكرسي { الله لا إله إلا هوالحي القيوم} ورواه النسائي.(1/92)
(حديث آخر) عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه. قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى, عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن أبي أيوب, أنه كان في سهوة له, وكانت الغول تجيء فتأخذ, فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال "فإذا رأيتها فقل باسم الله, أجيبي رسول الله". قال: فجاءت, فقال لها, فأخذها, فقالت: إني لا أعود, فأرسلها ، فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما فعل أسيرك" ؟ قال: أخذتها, فقالت: إني لا أعود, فأرسلتها, فقال: إنها عائدة, فأخذتها مرتين أو ثلاثاً كل ذلك تقول: لا أعود, فيقول "إنها عائدة", فأخذتها, فقالت: أرسلني, وأعلمك شيئاً تقوله فلا يقربك شيء, آية الكرسي, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم. فأخبره, فقال "صدقت وهي كذوب". ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بندار عن أبي أحمد الزبيري به, وقال حسن غريب. والغول في لغة العرب: الجان إذا تبدى في الليل.(1/93)
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة, فقال في كتاب فضائل القرآن, وفي كتاب الوكالة, وفي صفة إبليس من صحيحه, قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة, قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان, فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام, أخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة, قال: فخليت عنه فأصبحت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قال: قلت يا رسول الله, شكا حاجة شديدة وعيالاً, فرحمته وخليت سبيله, قال "أما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه سيعود" فرصدته, فجاء يحثو الطعام, فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فأنا محتاج وعليّ عيال, لا أعود. فرحمته وخليت سبيله, فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت: يا رسول الله, شكا حاجة وعيالاً, فرحمته وخليت سبيله. قال "أما أنه قد كذبك وسيعود", فرصدته الثالثة, فجاء يحثو من الطعام, فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود, فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها, قلت: وما هي ؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الاَية, فإنك لن يزال عليك من الله حافظ, ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله, فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت: يا رسول الله, زعم أنه يعلمني كلمات ينفعي الله بها, فخليت سبيله. قال "وما هي ؟" قال لي: إذا أويت إلى فراشك, فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الاَية { الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان(1/94)
حتى تصبح, وكانوا أحرص شيء على الخير, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما صدقك وهو كذوب, تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟" قلت: لا . قال "ذاك شيطان". كذا رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم, وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب, عن عثمان بن الهيثم, فذكره وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا, فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار, حدثنا أحمد بن زهير بن حرب, أنبأنا مسلم بن إبراهيم, أنبأنا إسماعيل بن مسلم العبدي, أنبأنا أبو المتوكل الناجي, أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة, وكان فيه تمر, فذهب يوماً ففتح الباب, فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف, ودخل يوماً آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف, ثم دخل يوماً آخر ثالثاً, فإذا قد أخذ منه مثل ذلك, فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تحب أن تأخذ صاحبك هذا ؟" قال: نعم. قال "فإذا فتحت الباب فقل سبحان من سخرك محمد. فذهب ففتح الباب فقال سبحان من سخرك محمد فإذا هو قائم بين يديه, قال: يا عدو الله, أنت صاحب هذا. قال: نعم, دعني فإني لا أعود, ما كنت آخذاً إلا لأهل بيت من الجن فقراء, فخلى عنه, ثم عاد الثانية, ثم الثالثة, فقلت: أليس قد عاهدتني ألا تعود ؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم, قال لا تفعل, فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها, لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير, ذكر ولا أنثى, قال له: لتفعلن ؟ قال: نعم. قال: ما هن ؟ قال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم} قرأ آية الكرسي حتى ختمها, فتركه فذهب فلم يعد, فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أماعلمت أن ذلك كذلك" وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله, عن شعيب بن حرب, عن إسماعيل بن مسلم, عن أبي(1/95)
المتوكل, عن أبي هريرة به, وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضاً, فهذه ثلاث وقائع.
(قصة أخرى) قال أبو عبيد في كتاب الغريب: حدثنا أبو معاوية, عن أبي عاصم الثقفي, عن الشعبي, عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رجل من الإنس, فلقيه رجل من الجن فقال: هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان, فصارعه فصرعه, فقال: إني أراك ضئيلاً شخيتاً, كأن ذراعيك ذراعا كلب, أفهكذا أنتم أيهاالجن كلكم, أم أنت من بينهم ؟ فقال: إني بينهم لضليع, فعاودني، فصارعه فصرعه الأنسي فقال: تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خبخ كخبخ الحمار, فقيل لابن مسعود: أهو عمر ؟ فقال من عسى أن يكون إلا عمر, قال أبو عبيد: الضئيل النحيف الجسم, والخيخ بالخاء المعجمة, ويقال بالحاء المهملة الضراط.
(حديث آخر) عن أبي هريرة. قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه: حدثنا علي بن حمشان, حدثنا سفيان حدثنا بشر بن موسى, حدثنا الحميدي, حدثنا حكيم بن جبير الأسدي, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن, لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي", وكذا رواه من طريق آخر عن زائدة, عن حكيم بن جبير, ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, كذا قال, وقد رواه الترمذي من حديث زائدة, ولفظه "لكل شيء سنام, وسنام القرآن سورة البقرة, وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي" ثم قال: غريب, لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير, وقد تكلم فيه شعبة وضعفه. (قلت) وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين, وغير واحد من الأئمة, وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي.(1/96)
(حديث آخر) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن نافع, أخبرنا عيسى بن محمد المروزي, أخبرنا عمر بن محمد البخاري, أخبرنا عيسى بن غنجار, عن عبد الله بن كيسان, حدثنا يحيى, أخبرنا بن عقيل, عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر, عن عمر بن الخطاب: أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن. فقال ابن مسعود على الخبير سقطت, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أعظم آية في القرآن {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
(حديث آخر) في اشتمالها على اسم الله الأعظم قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر, أنبأنا عبد الله بن زياد, حدثنا شهر بن حوشب, عن أسماء بنت يزيد بن السكن, قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في هاتين الاَيتين {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} و {ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} "إن فيهما اسم الله الأعظم" وكذا رواه أبو داود, عن مسدد والترمذي, عن علي بن خشرم وابن ماجه, عن أبي بكر بن أبي شيبة, ثلاثتهم عن عيسى بن يونس, عن عبيد الله بن أبي زياد به, وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) في معنى هذا, عن أمامة رضي الله عنه, قال ابن مردويه: أخبرنا عبد الله بن نمير, أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل, أخبرنا هشام بن عمار, أنبأنا الوليد بن مسلم, أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد, أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه, قال "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة, وآل عمران وطه" وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق أما البقرة و {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وفي آل عمران {ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وفي طه {وعنت الوجوه للحي القيوم}.(1/97)
(حديث آخر) عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة, قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي, أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن, أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس, أخبرنا محمد بن حمير, أخبرنا محمد بن زياد, عن أبي أمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي, لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة, عن الحسين بن بشر به, وأخرجه ابن حبان في صحيحه, من حديث محمد بن حمير وهو الحمصي, من رجال البخاري أيضاً, فهو إسناد على شرط البخاري, وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي, أنه حديث موضوع, والله أعلم. وقد روى ابن مردويه من حديث علي والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله, نحو هذا الحديث, ولكن في إسناد كل منهما ضعف. وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري, أخبرنا يحيى بن درستويه المروزي, أخبرنا زياد بن إبراهيم, أخبرنا أبو حمزة السكري, عن المثنى, عن قتادة, عن الحسن, عن أبي موسى الأشعري, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة, فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة, أجعل له قلب الشاكرين, ولسان الذاكرين, وثواب النبيين, وأعمال الصديقين, ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنت قلبه للإيمان, أو أريد قتله في سبيل الله" وهذا حديث منكر جداً.(1/98)
(حديث آخر) في أنها تحفظ من قرأها في أول النهار وأول الليل. قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني, أخبرنا ابن أبي فديك. عن عبد الرحمن المليكي, عن زرارة بن مصعب, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ: {حم} المؤمن إلى {إليه المصير} وآية الكرسي, حين يصبح, حفظ بهما حتى يمسي, ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ثم قال: هذا حديث غريب, وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي, من قبل حفظه.
وقد ورد في فضلها أحاديث أخر, تركناها اختصاراً لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث علي في قراءتها عند الحجامة, إنها تقوم مقام حجامتين. وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات, وتلحس للحفظ وعدم النسيان, أوردهما ابن مردويه, وغير ذلك.
وهذه الاَية مشتملة على عشر جمل مستقلة(1/99)
فقوله {الله لا إله إلا هو} إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق {الحي القيوم} أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً, القيم لغيره. وكان عمر يقرأ القيام, فجميع الموجودات مفتقرة إليه, وهو غني عنها, لا قوام لها بدون أمره, كقوله {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} وقوله {لا تأخذه سنة ولا نوم} أي لايعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه, بل هو قائم على كل نفس بما كسبت, شهيد على كل شيء, لا يغيب عنه شيء, ولا يخفى عليه خافية, ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم, فقوله {لا تأخذه} أي لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس, ولهذا قال: ولا نوم لأنه أقوى من السنة. وفي الصحيح عن أبي موسىَ, قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات, فقال "إن الله لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل, وعمل الليل قبل عمل النهار, حجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, أخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله {لا تأخذه سنة ولا نوم} أن موسى عليه السلام سأل الملائكة: هل ينام الله عز وجل ؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثاً, فلا يتركوه ينام, ففعلوا, ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما, ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما, قال: فجعل ينعس وهما في يده, وفي كل يد واحدة, قال: فجعل ينعس وينبه, وينعس وينبه, حتى نعس نعسة, فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما, قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله عز وجل, يقول فكذلك السموات والأرض في يده, وهكذا رواه ابن جرير, عن الحسن بن يحيى, عن عبد الرزاق فذكره, وهو من أخبار بني إسرائيل, وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل, وأنه منزه عنه, وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل. حدثنا هشام(1/100)
بن يوسف, عن أمية بن شبل, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن أبي عكرمة عن أبي هريرة, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر, قال "وقع في نفس موسى: هل ينام الله ؟ فأرسل إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً, ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة, وأمره أن يحتفظ بهما قال: فجعل ينام, وكادت يداه تلتقيان, فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى, حتى نام نومة, فاصطفقت يداه, فانكسرت القارورتان, ـ قال ـ ضرب الله عز وجل مثلاً, أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض" وهذا حديث غريب جداً, والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع, والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي, حدثني أبي عن أبيه, حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى, هل ينام ربك ؟ قال: اتقوا الله, فناداه ربه عز وجل يا موسى, سألوك هل ينام ربك, فخذ زجاجتين في يديك, فقم الليلة, ففعل موسى, فلما ذهب من الليل ثلث نعس, فوقع لركبتيه, ثم انتعش فضبطهما, حتى إذا كان آخر الليل نعس, فسقطت الزجاجتان فانكسرتا, فقال: يا موسى, لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي.
وقوله {له ما في السموات وما في الأرض} إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه, وتحت قهره وسلطانه, كقوله {إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً}.(1/101)
وقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} كقوله {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وكقوله {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل, أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة, كما في حديث الشفاعة: "آتي تحت العرش فأخر ساجداً, فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع ـ قال ـ فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة".
وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات, ماضيها وحاضرها ومستقبلها, كقوله إخباراً عن الملائكة {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا, وما بين ذلك, وما كان ربك نسيا}.
وقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته, إلا بما أطلعهم الله عليه, كقوله: {ولا يحيطون به علماً}.(1/102)
وقوله: {وسع كرسيه السموات والأرض}, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: {وسع كرسيه السموات والأرض} قال: علمه, وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم, كلاهما عن مطرف بن طريف به, قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله, ثم قال ابن جرير: وقال آخرون الكرسي موضع القدمين, ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين. وقال شجاع بن مخلد في تفسيره: أخبرنا أبو عاصم, عن سفيان, عن عمار الذهبي, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل {وسع كرسيه السموات والأرض} ؟ قال "كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل" كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس, فذكره وهو غلط, وقد رواه وكيع في تفسيره, حدثنا سفيان عن عمار الذهبي, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: الكرسي موضع القدمين, والعرش لا يقدر أحد قدره. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي, عن محمد بن معاذ, عن أبي عاصم, عن سفيان, وهو الثوري بإسناده عن ابن عباس موقوفاً مثله, وقال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظهير الغزاري الكوفي, وهو متروك عن السدي, عن أبيه, عن أبي هريرة, مرفوعاً ولا يصح أيضاً. وقال السدي, عن أبي مالك: الكرسي تحت العرش: وقال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي, والكرسي بين يدي العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع, بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض, ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة, ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال(1/103)
رسول الله "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس" قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض".
وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا سليمان بن أحمد, أخبرنا عبد الله بن وهيب المقري, أخبرنا محمد بن أبي السري العسقلاني, أخبرنا محمد بن عبد الله التميمي, عن القاسم بن محمد الثقفي, عن أبي إدريس الخولاني, عن أبي ذر الغفاري, أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي, إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة, وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة", وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده. حدثنا زهير, حدثنا ابن أبي بكر, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن خليفة, عن عمر رضي الله عنه, قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة, قال: فعظم الرب تبارك وتعالى, وقال: "إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله" وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما, والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما, والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحاق السبيعي, عن عبد الله بن خليفة, وليس بذاك المشهور, وفي سماعه من عمر نظر. ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفاً, ومنهم من يرويه عنه مرسلاً, ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة, ومنهم من يحذفها. وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه,والله أعلم. وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء, والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الاَية, وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من(1/104)
الإسلاميين, إن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن, وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع, وهو الفلك الأثير ويقال له الأطلس, وقد رد ذلك عليهم آخرون وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش, والصحيح أن الكرسي غير العرش, والعرش أكبر منه, كما دلت على ذلك الاَثار والأخبار, وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر في ذلك, وعندي في صحته نظر, والله أعلم.
وقوله: {ولا يؤده حفظهما} أي لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض, ومن فيهما, ومن بينهما, بل ذلك سهل عليه, يسير لديه, وهو القائم على كل نفس بما كسبت, الرقيب على جميع الأشياء, فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء, والأشياء كلها حقيرة بين يديه, الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون, وهو القاهر لكل شيء, الحسيب على كل شيء, الرقيب العلي العظيم, لا إله غيره, ولا رب سواه, فقوله: {وهو العلي العظيم} كقوله: {وهو الكبير المتعال} وهذه الاَيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح, أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.
** لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1/105)
يقول تعالى: {لا إكراه في الدين} أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام, فإنه بيّن واضح, جلي دلائله وبراهينه, لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه, بل من هداه الله للإسلام, وشرح صدره, ونور بصيرته, دخل فيه علي بينة, ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره, فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً, وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الاَية في قوم من الأنصار, وإن كان حكمها عاماً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كانت المرأة تكون مقلاة, فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده, فلما أجليت بنو النضير, كان فيهم من أبناء الأنصار, فقالوا: لا ندع أبناءنا, فأنزل الله عز وجل {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}, وقد رواه أبو داود والنسائي جميعاً عن بندار به, ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به, وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم, أنها نزلت في ذلك. وقال محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة أو عن سعيد, عن ابن عباس قوله: {لا إكراه في الدين} قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف, يقال له الحصيني, كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلاً مسلماً, فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا استكرههما, فإنهما قد أبيا إلا النصرانية, فأنزل الله فيه ذلك, رواه ابن جرير. وروى السدي نحو ذلك, وزاد: وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتاً, فلما عزما على الذهاب معهم, أراد أبوهما أن يستكرههما, وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما, فنزلت هذه الاَية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن عوف, أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسق, قال: كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب, فكان يعرض(1/106)
علي الإسلام, فآبى, فيقول {لا إكراه في الدين} ويقول: يا أسق, لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين, وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء, أن هذه محمولة على أهل الكتاب, ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية, وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال, وإنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف, دين الإسلام, فإن أبى أحد منهم الدخول فيه, ولم ينقد له أو يبذل الجزية, قوتل حتى يقتل, وهذامعنى الإكراه, قال الله تعالى {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} وقال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين} وفي الصحيح "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال, ثم بعد ذلك يسلمون, وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حميد عن أنس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل "أسلم", قال: إني أجدني كارهاً, قال: "وإن كنت كارهاً" فإنه ثلاثي صحيح, ولكن ليس من هذا القبيل, فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام, بل دعاه إليه, فأخبره أن نفسه ليست قابلة له, بل هي كارهة, فقال له: أسلم وإن كنت كارهاً, فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص.(1/107)
وقوله: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} أي من خلع الأنداد والأوثان, وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله, ووحد الله فعبده وحده, وشهد أنه لا إله إلا هو {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي فقد ثبت في أمره, واستقام على الطريق المثلى, والصراط المستقيم, قال أبو قاسم البغوي: حدثنا أبو روح البلدي, حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم, عن أبي إسحاق عن حسان, هو ابن قائد العبسي قال: قال عمر رضي الله عنه: إن الجبت السحر, والطاغوت الشيطان, وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال, يقاتل الشجاع عمن لا يعرف, ويفر الجبان من أمه, وإن كرم الرجل دينه, وحسبه خلقه, وإن كان فارسياً أو نبطياً. وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري, عن أبي إسحاق عن حسان بن قائد العبسي عن عمر, فذكره, ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان, قوي جداً, فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها, والاستنصار بها.(1/108)
وقوله: {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب, وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم, هي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد, ولهذا قال {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} الاَية, قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان, وقال السدي: هو الإسلام, وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله, وعن أنس بن مالك: العروة الوثقى القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال: هو الحب في الله, والبغض في الله, وكل هذه الأقوال صحيحة, ولا تنافي بينها. وقال معاذ بن جبل في قوله: {لا انفصام لها} دون دخول الجنة, وقال مجاهد وسعيد بن جبير {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} ثم قرأ {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف, حدثنا ابن عوف عن محمد بن قيس بن عباد, قال: كنت في المسجد, فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع, فصلى ركعتين أوجز فيهما, فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة, فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله, فدخلت معه فحدثته, فلما استأنس, قلت له: إن القوم لما دخلت المسجد, قالوا: كذا وكذا, قال: سبحان الله, ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم, وسأحدثك لم, إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, قصصتها عليه, رأيت كأني في روضة خضراء. قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها ـ وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء, في أعلى عروة, فقيل لي اصعد عليه, فقلت: لا أستطيع, فجاءني منصف ـ قال ابن عون هو الوصيف ـ فرفع ثيابي من خلفي, فقال: اصعد, فصعدت حتى أخذت بالعروة, فقال: استمسك بالعروة, فاستيقظت وإنها لفي يدي, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقصصتها عليه فقال "أما الروضة, فروضة الإسلام, وأما العمود فعمود الإسلام, وأما العروة فهي العروة الوثقى, أنت على الإسلام حتى تموت" قال: وهو عبد الله بن سلام. أخرجاه في(1/109)
الصحيحين من حديث عبد الله بن عون, فقمت إليه. وأخرجه البخاري من وجه آخر, عن محمد بن سيرين به.
(طريق أخرى وسياق آخر) قال الإمام أحمد: أنبأنا حسن بن موسى وعثمان, قالا: أنبأنا حماد بن سلمة, عن عاصم بن بهدلة, عن المسيب بن رافع, عن خرشة بن الحر, قال قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, فجاء شيخ يتوكأ على عصاً له, فقال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة, فلينظر إلى هذا. فقام خلف سارية فصلى ركعتين, فقلت له: قال بعض القوم: كذا وكذا, فقال: الجنة لله, يدخلها من يشاء, وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا: كأن رجلاً أتاني فقال: انطلق, فذهبت معه فسلك بي منهجاً عظيماً, فعرضت لي طريق عن يساري, فأردت أن أسلكها, فقال: إنك لست من أهلها, ثم عرضت لي طريق عن يميني, فسلكتها حتى انتهيت إلى جبل زلق, فأخذ بيدي فزجل بي حتى أخذت بالعروة, فقال: استمسك, فقلت: نعم, فضرب العمود برجله, فاستمسك بالعروة, فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "رأيت خيراً, أما المنهج العظيم فالمحشر, وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار, ولست من أهلها, وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة, وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء, وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام, فاستمسك بها حتى تموت" قال: فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة, قال: وإذا هو عبد الله بن سلام, وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان, وابن ماجه عن أبي شيبة عن الحسن بن موسى الأشيب, كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه, وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش, عن سليمان بن مسهر, عن خرشة بن الحر الفزاري به.
ومن سورة آل عمران ثلاث عشرة آية(1/110)
قوله تعالى : ? الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ *هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? (آل عمران 1- 6 )(1/111)
" الم " من الحروف التي لا يعلم معناها إلا الله فأخبر تعالى أنه " الحي " كامل الحياة " القيوم " القائم بنفسه المقيم لأحوال خلقه وقد أقام أحوالهم الدينية وأحوالهم الدنيوية والقدرية فأنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب بالحق الذي لا ريب فيه وهو مشتمل على الحق " مصدقا لما بين يديه " من الكتب أي شهد بما شهدت به ووافقها وصدق من جاء بها من المرسلين وكذلك" وأنزل التوراة والإنجيل " هذا الكتاب " هدى للناس " وأكمل الرسالة وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه العظيم الذي هدى الله به الخلق من الضلالات واستنقذهم به من الجهالات وفرق به بين الحق والباطل والسعادة والشقاوة والصراط المستقيم وطرق الجحيم فالذين آمنوا به واهتدوا حصل لهم به الخير الكثير والثواب العاجل والآجل و " إن الذين كفروا بآيات الله " التي بينها في كتابه وعلى لسان رسوله" لهم عذاب شديد " " والله عزيز ذو انتقام " ممن عصاه ومن تمام قيوميته تعالى إن علمه محيط بالخلائق ( لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) حتى ما في بطون الحوامل فهو " الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء " من ذكر وأنثى وكامل الخلق وناقصه متنقلين في أطوار خلقته وبديع حكمته فمن هذا شأنه مع عباده واعتناؤه العظيم بأحوالهم من حين أنشأهم إلى منتهى أمورهم لا مشارك له في ذلك فيتعين أنه لا يستحق العبادة إلا هو "لا إله إلا هو العزيز " الذي قهر الخلائق بقوته واعتز عن أن يوصف بنقص أو ينعت بذم ..." الحكيم " في خلقه وشرعه .(1/112)
" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " يخبر تعالى عن عظمته وكمال قيوميته أنه هو الذي تفرد بإنزال هذا الكتاب العظيم الذي لم يوجد ولن يوجد له نظير أو مقارب في هدايته وبلاغته وإعجازه وإصلاحه للخلق وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين الذي لا يشتبه بغيره ومنه آيات متشابهات تحتمل بعض المعاني ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها حتى تضم إلى المحكم فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف لسوء قصدهم يتبعون المتشابه منه فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة وآرائهم الزائفة طلبا للفتنة وتحريفا لكتابه وتأويلا له على مشاربهم ومذاهبهم ليضلوا ويضلوا ، وأما أهل العلم الراسخون فيه الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم فأثمر لهم العمل والمعارف فيعلمون أن القرآن كله من عند الله وأنه كله حق محكمه ومتشابهه وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان يردون إليها المشتبه الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم وناقص المعرفة فيردون المتشابه إلى المحكم فيعود كله محكما ويقولون آمنا به كل من عند ربنا " وما يذكر " للأمور النافعة والعلوم الصائبة إلا " أولوا الألباب " أي : أهل العقول الرزينة ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب وأن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة والعقول الواهية والقصود السيئة وقوله "وما يعلم تأويله إلا الله" إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور وما تنتهي إليه وتؤول تعين الوقوف على " إلا الله " حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى وإن أريد بالتأويل(1/113)
معنى التفسير ومعرفة معنى الكلام كان العطف أولى فيكون هذا مدحا للراسخين في العلم أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة محكمها ومتشابهها ، ولما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين ومستقيمين دعوا الله تعالى أن يثبتهم على الإيمان فقالوا " ربنا لا تزغ قلوبنا " أي : لا تملها عن الحق إلى الباطل بعد إذ هديتنا " وهب لنا من لدنك رحمة " تصلح بها أحوالنا " إنك أنت الوهاب " أي : كثير الفضل والهبات وهذه الآية تصلح مثالا للطريقة التي يتعين سلوكها في المتشابهات وذلك أن الله تعالى ذكر عن الراسخين أنهم يسألونه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم وقد أخبر في آيات أخر عن الأسباب التي بها تزيغ قلوب أهل الانحراف وأن ذلك بسبب كسبهم كقوله :( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ..( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) ... (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة )
فالعبد إذا تولى عن ربه ووالى عدوه ورأى الحق فصدف عنه ورأى الباطل فاختاره ولاه الله ما تولى لنفسه وأزاغ قبله عقوبة له على زيغه وما ظلمه الله ولكنه ظلم نفسه فلا يلم إلا نفسه الأمارة بالسوء والله أعلم..." ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد" هذا من تتمة كلام الراسخين في العلم وهو يتضمن الإقرار بالبعث والجزاء واليقين التام وأن الله لا بد أن يوقع ما وعد به وذلك يستلزم موجبه ومقتضاه من العمل والاستعداد لذلك اليوم فإن الإيمان بالبعث والجزاء أصل صلاح القلوب وأصل الرغبة في الخير والرهبة من الشر اللذين هما أساس الخيرات(1/114)
وقوله تعالى: ? شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * ? (آل عمران : 18 - 20 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/115)
هذه أجل الشهادات الصادرة من الملك العظيم ومن الملائكة وأهل العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيد الله وقيامه بالقسط وذلك يتضمن الشهادة على جميع الشرع وجميع أحكام الجزاء فإن الشرع والدين أصله وقاعدته توحيد الله وإفراده بالعبودية والاعتراف بانفراده بصفات العظمة والكبرياء والمجد والعز والقدرة والجلال ونعوت الجود والبر والرحمة والإحسان والجمال وبكماله المطلق الذي لا يحصي أحد من الخلق أن يحيطوا بشيء منه أو يبلغوه أو يصلوا إلى الثناء عليه والعبادات الشرعية والمعاملات وتوابعها والأمر والنهي كله عدل وقسط لا ظلم فيه ولا جور بوجه من الوجوه بل هو في غاية الحكمة والإحكام والجزاء على الأعمال الصالحة والسيئة كله قسط وعدل، ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) ، فتوحيد الله ودينه وجزاؤه قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه وهو أعظم الحقائق وأوضحها وقد أقام الله على ذلك من البراهين والأدلة ما لا يمكن إحصاؤه وعده وفي هذه الآية فضيلة العلم والعلماء لأن الله خصهم بالذكر من دون البشر وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه وجزائه وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة وفي ضمن ذلك تعديلهم وأن الخلق تبع لهم وأنهم هم الأئمة المتبوعون وفي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما لا يقادر قدره ...(1/116)
(إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) يخبر تعالى إن الدين عند الله أي الدين الذي لا دين له سواه ولا مقبول غيره هو الإسلام وهو الانقياد لله وحده ظاهرا وباطنا بما شرعه على ألسنة رسله قال تعالى :(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) فمن دان بغير دين الإسلام فهو لم يدن لله حقيقة لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه على ألسنة رسله ، ثم أخبر تعالى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك وإنما اختلفوا فانحرفوا عنه عنادا وبغيا وإلا فقد جاءهم العلم المقتضي لعدم الاختلاف الموجب للزوم الدين الحقيقي، ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عرفوه حق المعرفة ولكن الحسد والبغي والكفر بآيات الله هي التي صدتهم عن اتباع الحق...( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) أي فلينتظروا ذلك فإنه آت وسيجزيهم الله بما كانوا يعملون...
(فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) لما بين أن الدين الحقيقي عنده الإسلام وكان أهل الكتاب قد شافهوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمجادلة وقامت عليهم الحجة فعاندوها أمره الله تعالى عند ذلك أن يقول ويعلن أنه أسلم وجهه أي ظاهره وباطنه لله وأن من اتبعه كذلك قد وافقوه على هذا الإذعان الخالص وأن يقول للناس كلهم من أهل الكتاب والأميين أي الذين ليس لهم كتاب من العرب وغيرهم إن أسلمتم فأنتم على الطريق المستقيم والهدى والحق وإن توليتم فحسابكم على الله وأنا ليس علي إلا البلاغ وقد أبلغتكم وأقمت عليكم الحجة ...(1/117)
وقوله تعالى : ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ? (آل عمران : 26 -27 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أصلا وغيره تبعا أن يقول عن ربه معلنا بتفرده بتصريف الأمور وتدبير العالم العلوي والسفلي واستحقاقه باختصاصه بالملك المطلق والتصريف المحكم وأنه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء فليس الأمر بأماني أهل الكتاب ولا غيرهم بل الأمر أمر الله والتدبير له فليس له معارض في تدبيره ولا معاون في تقديره وأنه كما أنه المتصرف بمداولة الأيام بين الناس فهو المتصرف بنفس الزمان وقوله: ( بيدك الخير ) أي الخير كله منك ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله ، وأما الشر فإنه لا يضاف إلى الله تعالى لا وصفا ولا اسما ولا فعلا ولكنه يدخل في مفعولاته ويندرج في قضائه وقدره فالخير والشر كله داخل في القضاء والقدر فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه ولكن الشر لا يضاف إلى الله فلا يقال بيدك الخير والشر بل يقال بيدك الخير كما قاله الله وقاله رسوله أما استدراك بعض المفسرين حيث قال وكذلك الشر بيد الله فإنه وهم محض ملحظهم حيث ظنوا أن تخصيص الخير بالذكر ينافي قضاءه وقدره العام وجوابه ما فصلنا ....(1/118)
" يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " أي : يدخل هذا على هذا ويحل هذا محل هذا ويزيد في هذا ما ينقص من هذا ليقيم بذلك مصالح خلقه " ويخرج الميت من الحي " كما يخرج الزروع والأشجار المتنوعة من بذورها والمؤمن من الكافر " ويخرج الميت من الحي " كما يخرج الحبوب والنوى والزروع من الأشجار والبيضة من الطائر فهو الذي يخرج المتضادات بعضها من بعض وقد انقادت له جميع العناصر وقوله " وترزق من تشاء بغير حساب " قد ذكر الله في غير هذه الآية الأسباب التي ينال بها رزقه كقوله : (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) .. وقوله :( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ... فعلى العباد أن لا يطلبوا الرزق إلا من الله ويسعوا فيه بالأسباب التي يسرها الله وأباحه ها ....
وقوله تعالى : ? ُقلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * ?(آل عمران : 73 - 74)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/119)
قوله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ*وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *") ... هذا من منة الله على هذه الأمة حيث أخبرهم بمكر أعدائهم من أهل الكتاب وأنهم من حرصهم على إضلال المؤمنين ينوعون المنكرات الخبيثة فقالت طائفة منهم " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار " أي : أوله وارجعوا عن دينهم آخر النهار فإنهم إذا رأوكم راجعين وهم يعتقدون فيكم العلم استرابوا بدينهم وقالوا لولا أنهم رأوا فيه ما لا يعجبهم ولا يوافق الكتب السابقة لم يرجعوا هذا مكرهم ؛ والله تعالى هو الذي " يهدي من يشاء " وهو الذي بيده" الفضل " ( يختص به من يشاء ) فخصكم يا هذه الأمة بما لم يخص به غيركم ولم يدر هؤلاء الماكرون أن دين الله حق إذا وصلت حقيقته إلى القلوب لم يزد صاحبه على طول المدى إلا إيمانا ويقينا ولم تزده الشبه إلا تمسكا بدينه وحمدا لله وثناء عليه حيث من به عليه وقوله " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم " يعني أن الذي حملهم على هذه الأعمال المنكرة الحسد والبغي وخشية الاحتجاج عليهم كما قال تعالى :( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق )(1/120)
وقوله تعالى : ? وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ*رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * ? ( آل عمران 189-192 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/121)
قوله تعالى : ( وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * )
أي : هو المالك للسماوات والأرض وما فيهما من سائر أصناف الخلق المتصرف فيهم بكمال القدرة وبديع الصنعة فلا يمتنع عليه منهم أحد ولا يعجزه أحد ...(1/122)
يخبر تعالى : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " وفي ضمن ذلك حث العباد على التفكر فيها والتبصر بآياتها وتدبر خلفها وأبهم قوله : " آيات " ولم يقل : على المطلب الفاني إشارة لكثرتها وعمومها وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة ما يبهر الناظرين ويقنع المتفكرين ويجذب أفئدة الصادقين وينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية فأما تفصيل ما اشتملت عليه فلا يمكن مخلوقا أن يحصره ويحيط ببعضه وفي الجملة فما فيها من العظمة والسعة وانتظام السير والحركة يدل على عظمة خالقها وعظمة سلطانه وشمول قدرته وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع الصنع ولطائف الفعل يدل على حكمة الله ووضعه الأشياء مواضعها وسعة علمه وما فيها من المنافع للخلق يدل على سعة رحمة الله وعموم فضله وشمول بره ووجوب شكره وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها ومبدعها وبذل الجهد في مرضاته وأن لا يشرك به سواه ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وخص الله بالآيات أولي الألباب وهم أهل العقول ؛ لأنهم هم المنتفعون بها الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم ثم وصف أولي الألباب بأنهم " يذكرون الله " في جميع أحوالهم : " قياما وقعودا وعلى جنوبهم " وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب ويدخل في ذلك الصلاة قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنْب وأنهم " ويتفكرون في خلق السماوات والأرض " أي : ليستدلوا بها على المقصود منها ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين فإذا تفكروا بها عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا فيقولون : " ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك " عن كل ما لا يليق بجلالك بالحق وللحق بل خلقتها مشتملة على الحق " فقنا عذاب النار " بأن تعصمنا من السيئات وتوفقنا للأعمال الصالحات لننال بذلك النجاة من النار ويتضمن ذلك سؤال الجنة لأنهم إذا وقاهم الله عذاب النار حصلت لهم(1/123)
الجنة ولكن لما قام الخوف بقلوبهم دعوا الله بأهم الأمور عندهم " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " أي : لحصوله على السخط من الله ومن ملائكته وأوليائه ووقوع الفضيحة التي لا نجاة منها ولا منقذ منها ولهذا قال : " وما للظالمين من أنصار " ينقذونهم من عذابه وفيه دلالة على أنهم دخلوها بظلمهم " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " وهو محمد صلى الله عليه وسلم : يدعو الناس إليه ويرغبهم فيه في أصوله وفروعه " فآمنا " أي : أجبناه مبادرة وسارعنا إليه وفي هذا إخبار منهم بمنة الله عليهم وتبجح بنعمته وتوسل إليه بذلك أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم لأن الحسنات يذهبن السيئات والذي من عليهم بالإيمان يمن عليهم بالأمان التام " وتوفنا مع الأبرار " يتضمن هذا الدعاء التوفيق لفعل الخير وترك الشر الذي به يكون العبد من الأبرار والاستمرار عليه والثبات إلى الممات ولما ذكروا توفيق الله إياهم للإيمان وتوسلهم به إلى تمام النعمة سألوه الثواب على ذلك وأن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر والظهور في الدنيا ومن الفوز برضوان الله وجنته في الآخرة فإنه تعالى لا يخلف الميعاد فأجاب الله دعاءهم وقبل تضرعهم
ومن سورة النساء آيتان(1/124)
قوله تعالى: ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً * لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ? ( النساء : 171-172 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/125)
ينهى تعالى ، أهل الكتاب عن الغلو في الدين ، وهو : مجاوزة الحد ، والقدر المشروع ، إلى ما ليس بمشروع . وذلك كقول النصارى ، في غلوهم بعيسى عليه السلام ، ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير الله . فكما أن التقصير والتفريط ، من المنهيات ، فالغلو كذلك . ولهذا قال : ( ولا تقولوا على الله إلا الحق ) " وهذا الكلام ، يتضمن ثلاثة أشياء : أمران منهي عنهما ، وهما قول الكذب على الله ، والقول بلا علم ، في أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وشرعه ، ورسله . والثالث : مأمور وهو : قول الحق في هذه الأمور . ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية ، وكان السياق في شأن عيسى عليه السلام ، نصا على قول الحق فيه ، المخالف للطريقة اليهودية والنصرانية قال : " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله " أي : غاية المسيح عليه السلام ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال ، أعلى حالة تكون للمخلوقين ، وهي درجة الرسالة ، التي هي أعلى الدرجات ، وأجل المثوبات . وأنه " وكلمته ألقاها إلى مريم " أي : كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى ، ولم يكن تلك الكلمة ، وإنما كان بها ، وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم . وكذلك قوله : " وروح منه " أي : من الأرواح التي خلقها ، وكملها بالصفات الفاضلة ، والأخلاق الكاملة . أرسل الله روحه ، جبريل عليه السلام ، فنفخ في فرج مريم عليها السلام . فحملت بإذن الله ، بعيسى عليه السلام . فلما بين حقيقة عيسى عليه السلام ، أمر أهل الكتاب بالإيمان به ، وبرسله ، ونهاهم أن يجعلوا الله ، ثالث ثلاثة ، أحدهم عيسى ، والثاني مريم فهذه مقالة النصارى ، قبحهم الله . فأمرهم أن ينتهوا ، وأخبر أن ذلك ، خير لهم ، لأنه الذي يتعين ، أنه سبيل النجاة ، وما سواه ، فهو طرق الهلاك . ثم نزه نفسه عن الشريك والولد فقال : " إنما الله إله واحد " أي : هو المنفرد بالألوهية ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له . " سبحانه "(1/126)
أي : تنزه وتقدس " أن يكون له ولد " لأن : " له ما في السماوات وما في الأرض " فالكل مملوكون له ، مفتقرون إليه ، فمحال أن يكون له شريك منهم ، أو ولد . " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " ولما أخبر أن المالك للعالم العلوي والسفلي ، أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية والأخروية وحافظها ، ومجازيها فقال تعالى : " لن يستنكف المسيح " إلى قوله : " وليا ولا نصيرا " . لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام ، وذكر أنه عبده ورسوله ، ذكر هنا ، أنه لا يستنكف عن عبادة ربه ، أي : لا يمتنع عنها رغبة عنها لا هو " ولا الملائكة المقربون " . فنزههم عن الاستنكاف ، وتنزيههم عن الاستكبار ، من باب أولى . ونفي الشيء فيه إثبات ضده . أي : فعيسى والملائكة المقربون ، قد رغبوا في عبادة ربهم ، وأحبوها وسعوا فيها ، بما يليق بأحوالهم ، فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم ، والفوز العظيم . فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ، ولا لإلهيته ، بل يرون افتقارهم لذلك ، فوق كل افتقار . ولا يظن أن رفع عيسى ، أو غيره من الخلق ، فوق مرتبته ، التي أنزله الله فيها ، وترفعه عن العبادة كمالا ، بل هو النقص بعينه ، وهو محل الذم والعقاب ، ولهذا قال : " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " أي : فسيحشر الخلق كلهم إليه ، المستنكفين ، والمستكبرين وعباده المؤمنين ، فيحكم بينهم ، بحكمه العدل ، وجزائه الفصل . ثم فصل حكمه فيهم فقال : " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي : جمعوا بين الإيمان المأمور به ، وعمل الصالحات ، من واجبات ، ومستحبات ، في حقوق الله ، وحقوق عباده . " فيوفيهم أجورهم " أي :(1/127)
الأجور التي رتبها على الأعمال ، كل بحسب إيمانه وعمله . " ويزيدهم من فضله " من الثواب ، الذي لم تنله أعمالهم ، ولم تصل إليه أفعالهم ، ولم يخطر على قلوبهم . ودخل في ذلك ، كل ما في الجنة ، من المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، والمناظر ، والسرور ، ونعيم القلب والروح ، ونعيم البدن . بل يدخل في ذلك ، كل خير ، ديني ، ودنيوي ، رتب على الإيمان ، والعمل الصالح . " وأما الذين استنكفوا واستكبروا " أي : عن عبادة الله تعالى " فيعذبهم عذابا أليما " وهو سخط الله وغضبه ، والنار الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة . " ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " أي : لا يجدون أحدا من الخلق ، يتولاهم ، فيحصل لهم المطلوب ، ولا من ينصرهم ، فيدفع عنهم المرهوب . بل قد تخلى عنهم ، أرحم الراحمين ، وتركهم في عذابهم خالدين . وما حكم به تعالى ، فلا راد لحكمه ، ولا مغير لقضائه
ومن سورة المائدة عشر آيات
قوله تعالى :? لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?(المائدة : 17 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/128)
لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين ، وأنهم لم يقوموا به بل نقضوه ـ ذكر أقوالهم الشنيعة . فذكر قول النصارى ، القول الذي ما قاله أحد غيرهم ، بأن الله هو المسيح ابن مريم .ووجه شبهتهم ، أنه ولد من غير أب ، فاعتقدوا فيه هذا الاعتقاد الباطل . مع أن حواء نظيره ، خلقت بلا أم . وآدم أولى منه ، خلق بلا أب ولا أم . فهلا ادعوا فيهما الإلهية ، كما ادعوها في المسيح ؟ فدل على أن قولهم ، اتباع هوى من غير برهان ولا شبهة . فرد الله عليهم ، بأدلة عقلية واضحة فقال : " قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا " . فإذا كان المذكورون ، لا امتناع عندهم ، يمنعهم لو أراد الله أن يهلكهم ، ولا قدرة لهم على ذلك ـ دل على بطلان إلهية من لا يمتنع من الإهلاك ، ولا في قوته شيء من الفكاك . ومن الأدلة " ولله " وحده " ملك السماوات والأرض وما بينهما " يتصرف فيهم بحكمه الكوني والشرعي والجزائي ، وهم مملوكون مدبَّرون . فهل يليق أن يكون المملوك العبد الفقير ، إلها معبودا ، غنيا من كل وجه ؟ هذا من أعظم المحال . ولا وجه لاستغرابهم ، لخلق المسيح عيسى بن مريم ، من غير أب فإن الله " يخلق ما يشاء " إن شاء من أب وأم ، كسائر بني آدم ، وإن شاء من أب بلا أم ، كحواء . وإن شاء من أم بلا أب ، كعيسى . وإن شاء من غير أب ولا أم ، كآدم . فنوع خليقته تعالى ، بمشيئته النافذة ، التي لا يستعصي عليها شيء ولهذا قال : " والله على كل شيء قدير "
وقوله تعالى :? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? (المائدة : 40 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/129)
قوله تعالى :" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير "
السارق : هو من أخذ مال غيره المحترم خفية ، بغير رضاه . وهو من كبائر الذنوب الموجبة ، لترتب العقوبة الشنيعة ، وهو قطع اليد اليمنى ، كما هو في قراءة بعض الصحابة . وحد اليد عند الإطلاق من الكوع . فإذا سرق ، قطعت يده من الكوع ، وحسمت في زيت ، لتنسد العروق فيقف الدم . ولكن السنة قيدت عموم هذه الآية ، من عدة أوجه : منها : الحرز ، فإنه لا بد أن تكون السرقة من حرز ، وحرز كل مال : ما يحفظ به عادة . فلو سرق من غير حرز ، فلا قطع عليه . ومنها : أنه لا بد أن يكون المسروق نصابا ، وهو : ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو ما يساوي أحدهما . فلو سرق دون ذلك ، فلا قطع عليه . ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها . فإن لفظ " السرقة " أخذ الشيء ، على وجه ، لا يمكن الاحتراز منه . وذلك أن يكون المال محرزا . فلو كان غير محرز ، لم يكن ذلك سرقة شرعية . ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد ، في الشيء النزر التافه . فلما كان لا بد من التقدير ، كان التقدير الشرعي ، مخصصا للكتاب . والحكمة في قطع اليد في السرقة ، أن ذلك حفظ للأموال ، واحتياط لها ، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية . فإن عاد السارق ، قطعت رجله اليسرى . فإن عاد ، فقيل : تقطع يده اليسرى ، ثم رجله اليمنى ، وقيل : يحبس حتى يموت . وقوله : " جزاء بما كسبا " أي : ذلك القطع ، جزاء للسارق بما سرقه ، من أموال الناس . " نكالا من الله " أي : تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره ، ليرتدع السارق ـ إذا علموا ـ أنهم سيقطعون إذا سرقوا . " والله عزيز حكيم " أي : عز وحكم ، فقطع السارق ." فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه(1/130)
إن الله غفور رحيم " . فيغفر لمن تاب ، فترك الذنوب ، وأصلح الأعمال والعيوب . وذلك أن الله له ملك السموات والأرض ، يتصرف فيهما بما شاء ، من التصاريف القدرية والشرعية ، والمغفرة ، والعقوبة ، بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته .
وقوله تعالى :? ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ *? ( المائدة 98-99 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/131)
قوله تعالى :" جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " يخبر تعالى ، أنه جعل " الكعبة البيت الحرام قياما للناس " . يقوم ، بالقيام بتعظيمه ، دينهم ودنياهم ، فبذلك يتم إسلامهم ، وبه تحط أوزارهم ، وتحصل لهم ـ بقصده ـ العطايا الجزيلة ، والإحسان الكثير . وبسببه تنفق الأموال ، وتقتحم ـ من أجله ـ الأهوال . ويجتمع فيه ، من كل فج عميق ، جميع أجناس المسلمين ، فيتعارفون ، ويستعين بعضهم ببعض ، ويتشاورون على المصالح العامة ، وتنعقد بينهم الروابط ، في مصالحهم الدينية والدنيوية . قال تعالى : " ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " . ومن أجل كون البيت قياما للناس قال : من قال من العلماء : إن حج بيت الله ، فرض كفاية في كل سنة . فلو ترك الناس حجه ، لأثم كل قادر ، بل لو ترك الناس حجه ، لزال ما به قوامهم ، وقامت القيامة . وقوله : " والهدي والقلائد " أي : وكذلك جعل الهدي والقلائد ـ التي هي أشرف أنواع الهدي ـ قياما للناس ، ينتفعون بهما ، ويثابون عليهما . " ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم " . فمن علمه ، أن جعل لكم هذا البيت الحرام ، لما يعلمه من مصالحكم الدينية والدنيوية . " اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم " أي : ليكن هذان العلمان ، موجودين في قلوبكم ، على وجه الجزم واليقين ، تعلمون أن الله شديد العقاب ـ العاجل والآجل ـ على من عصاه ، وأنه غفور رحيم ، لمن تاب إليه وأطاعه . فيثمر لكم هذا العلم ، الخوف من عقابه ، والرجاء لمغفرته وثوابه . وتعلمون على ما يقتضيه الخوف والرجاء . ثم قال تعالى : " ما(1/132)
على الرسول إلا البلاغ " وقد بلغ كما أمر ، وقام بوظيفته ، ما سوى ذلك ، فليس له من الأمر شيء . " والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " فيجازيكم بما يعلمه ـ تعالى ـ منكم
وقوله تعالى :? وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ? ( المائدة 116-120 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/133)
قوله تعالى :( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ... هذا توبيخ النصارى ، الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، فيقول الله هذا الكلام لعيسى ... فيتبرأ منه عيسى ويقول : " سبحانك " عن هذا الكلام القبيح ، وعما لا يليق بك . " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " أي : ما ينبغي لي ، ولا يليق أن أقول شيئا ، ليس من أوصافي ، ولا من حقوقي . فإنه ليس أحد من المخلوقين ، لا الملائكة المقربون ، ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم ، له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية . وإنما الجميع عباد ، مدبَّرون ، وخلق مسخَّرون ، وفقراء عاجزون . " إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " فأنت أعلم بما صدر مني . " إنك أنت علام الغيوب " وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام ، في خطابه لربه . فلم يقل عليه السلام : " لم أقل شيئا من ذلك " . وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف ، وأن هذا من الأمور المحالة . ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه ، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة . ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل فقال : " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " فأنا عبد متبع لأمرك ، لا متجرىء على عظمتك . " أن اعبدوا الله ربي وربكم " أي : ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، المتضمن للنهي ، عن اتخاذي وأمي إلهين ، من دون الله ، وبيان أني عبد مربوب ، فكما أنه ربكم فهو ربي . " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم " أشهد على من قام بهذا الأمر ، ممن لم يقم به . " فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " أي : المطلع على سرائرهم وضمائرهم . " وأنت على كل شيء شهيد " علما وسمعا وبصرا . فعلمك قد أحاط بالمعلومات ، وسمعك بالمسموعات ، وبصرك بالمبصرات ، فأنت الذي تجازي عبادك ، بما تعلمه فيهم من خير وشر . " إن تعذبهم فإنهم عبادك " وأنت أرحم بهم من أنفسهم ،(1/134)
وأعلم بأحوالهم ، فلولا أنهم عباد متمردون ، لم تعذبهم . " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " أي : فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة ،لا كمن يغفر ويعفو ،عن عجز وعدم قدرة .الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك ، أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة . " قال الله " مبينا لحال عباده يوم القيامة ، ومَن الفائز منهم ، ومَن الهالك ، مَن الشقي ، ومَن السعيد . " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط المستقيم والهدى القويم . فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق ، إذا أحلهم الله في مقعد صدق ، عند مليك مقتدر . ولهذا قال : " لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم " . والكاذبون بضدهم ، سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم ، وثمرة أعمالهم الفاسدة . " لله ملك السماوات والأرض وما فيهن " لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه القدري ، وحكمه الشرعي ، وحكمه الجزائي ، ولهذا قال : " وهو على كل شيء قدير " فلا يعجزه شيء ، بل جميع الأشياء منقادة لمشيئته ، ومسخرة بأمره .
ومن سورة الأنعام خمس وأربعون آية
قوله تعالى :? الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ *? ( الأنعام 1-3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/135)
قوله تعالى : " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون " هذا إخبار عن حمده والثناء عليه ، بصفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال عموما ، وعلى هذه المذكورات خصوصا . فحمد نفسه على خلقه السموات والأرض ، الدالة على كمال قدرته ، وسعة علمه ورحمته ، وعموم حكمته ، وانفراده بالخلق والتدبير ، وعلى جعله الظلمات والنور . وذلك شامل للحسي من ذلك ، كالليل والنهار ، والشمس والقمر . والمعنوي ، كظلمات الجهل ، والشك ، والشرك ، والمعصية ، والغفلة ، ونور العلم والإيمان ، واليقين ، والطاعة . وهذا كله ، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى ، هو المستحق للعبادة ، وإخلاص الدين له . ومع هذا الدليل ووضوح البرهان " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " به سواه . يسوُّونهم به في العبادة والتعظيم ، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال ، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه . " هو الذي خلقكم من طين " وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلام . " ثم قضى أجلا " أي : ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا ، فتمتعون به وتمتحنون ، وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله . " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " ويعمركم " ما يتذكر فيه من تذكر ".... " وأجل مسمى عنده " وهي : الدار الآخرة ، التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار ، فيجازيهم بأعمالهم من خير وشر ." ثم " مع هذا البيان التام وقطع الحجة " أنتم تمترون " أي : تشكون في وعد الله ووعيده ، ووقوع الجزاء يوم القيامة . وذكر الله الظلمات بالجمع ، لكثرة موادها ، وتنوع طرقها . ووحد النور ، لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة ، لا تعدد فيها ، وهي : الصراط المتضمنة للعلم بالحق ، والعمل به كما قال تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ..." وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم(1/136)
سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون " أي : وهو المألوه المعبود ، في السموات والأرض ، فأهل السماء والأرض ، متعبدون لربهم ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزه وجلاله ، الملائكة المقربون ، والأنبياء ، والمرسلون ، والصديقون ، والشهداء ، والصالحون . وهو تعالى ، يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ، فاحذروا معاصيه وارغبوا في الأعمال ، التي تقربكم منه ، وتدنيكم من رحمته ، واحذروا من كل عمل يبعدكم عنه ، ومن رحمته .
وقوله تعالى :? وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ *? ( الأنعام 13-18 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/137)
اعلم أن هذه السورة الكريمة ، قد اشتملت على تقرير التوحيد ، بكل دليل عقلي ، ونقلي . بل كادت أن تكون كلها ، في شأن التوحيد ، ومجادلة المشركين بالله ، المكذبين لرسوله . فهذه الآيات ، ذكر الله فيها ، مايتبين به الهدى ، وينقمع به الشرك . فذكر أن " له "تعالى " ما سكن في الليل والنهار " . وذلك هو المخلوقات كلها ، من آدميها ، وجنها ، وملائكتها ، وحيواناتها وجماداتها . فالكل خلق مدبَّرون ، وعبيد مسخَّرون لربهم العظيم ، القاهر المالك . فهل يصح في عقل ونقل ، أن يعبد من هؤلاء المماليك ، الذي لا نفع عنده ولا ضر ؟ ويترك الإخلاص للخالق ، المدبر المالك ، الضار النافع ؟ أم العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، تدعو إلى إخلاص العبادة ، والحب ، والخوف ، والرجاء لله رب العالمين ؟ " السميع " لجميع الأصوات ، على اختلاف اللغات ، بتفنن الحاجات . " العليم " بما كان ، وما يكون ، وما لم يكن ، لو كان كيف كان يكون ، المطلع على الظواهر والبواطن ؟ " قل " لهؤلاء المشركين بالله : " أغير الله أتخذ وليا " من هؤلاء المخلوقات العاجزة ، يتولاني ، وينصرني ؟ فلا أتخذ من دونه تعالى وليا لأنه فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما ومدبرهما . " وهو يطعم ولا يطعم " أي : وهو الرازاق لجميع الخلق ، عن غير حاجة منه تعالى إليهم . فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرازق ، الغني ، الحميد ؟ " قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم " لله بالتوحيد ، وانقاد له بالطاعة . لأني أولى من غيري ، بامتثال أوامر ربي . " ولا تكونن من المشركين " أي : ونهيت أيضا ، عن أن أكون من المشركين ، لا في اعتقادهم ، ولا في مجالستهم ، ولا في الاجتماع بهم ، فهذا أفرض الفروض علي ، وأوجب الواجبات . " قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " فإن المعصية في الشرك ، توجب الخلود في النار ، وسخط الجبار . وذلك اليوم ، هو اليوم الذي يخاف عذابه ، ويحذر عقابه؛ لأنه من صرف(1/138)
عنه العذاب يومئذ ، فهو المرحوم ، ومن نجا فيه ، فهو الفائز حقا . كما أن من لم ينج منه ، فهو الهالك الشقي . ومن أدلة توحيده ، أنه تعالى ، المنفرد بكشف الضراء ، وجلب الخير والسراء . ولهذا قال : " وإن يمسسك الله بضر " من فقر ، أو مرض ، أو عسر ، أو غم ، أو هم أو نحوه . " فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير " . فإذا كان وحده النافع الضار ، فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية . " وهو القاهر فوق عباده " فلا يتصرف منهم متصرف ، ولا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ، إلا بمشيئته . وليس للملوك وغيرهم ، الخروج عن ملكه وسلطانه ، بل هم مدبَّرون مقهورون . فإذا كان هو القاهر ، وغيره مقهور ، كان هو المستحق للعبادة . " وهو الحكيم " فيما أمر به ونهى ، وأثاب ، وعاقب ، وفيما خلق وقدر . " الخبير " المطلع على السرائر والضمائر ، وخفايا الأمور ، وهذا كله من أدلة التوحيد .
وقوله تعالى :? وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ? (الأنعام : 38 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/139)
أي : جميع الحيوانات ، الأرضية والهوائية ، من البهائم والوحوش ، والطيور ، كلها أمم أمثالكم خلقناها كما خلقناكم ، ورزقناها كما رزقناكم ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا ، كما كانت نافذة فيكم . " ما فرطنا في الكتاب من شيء " أي : ما أهملنا ولا أغفلنا ، في اللوح المحفوظ ، شيئا من الأشياء . بل جميع الأشياء ، صغيرها ، وكبيرها ، مثبتة في اللوح المحفوظ ، على ما هي عليه . فتقع جميع الحوادث ، طبق ما جرى به القلم . وفي هذه الآية ، دليل على أن الكتاب الأول ، قد حوى جميع الكائنات . وهذا أحد مراتب القضاء والقدر ، فإنها أربع مراتب : علم الله الشامل لجميع الأشياء ، وكتابه المحيط بجميع الموجودات ، ومشيئته وقدرته العامة النافذة في كل شيء ، وخلقه لجميع المخلوقات ، حتى أفعال العباد .... ويحتمل أن المراد بالكتاب ، هذا القرآن ، وأن المعنى كالمعنى في قوله تعالى : " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء " . وقوله : " ثم إلى ربهم يحشرون " أي : جميع الأمم تجمع وتحشر إلى الله في موقف القيامة ، في ذلك الموقف العظيم الهائل . فيجازيهم بعدله وإحسانه ، ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الأولون والآخرون ، أهل السماء وأهل الأرض .
وقوله تعالى: ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ * ? ( الأنعام 46-47 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/140)
يخبر تعالى ، أنه كما هو المتفرد بخلق الأشياء وتدبيرها ، فإنه المنفرد بالوحدانية والإلهية فقال : " قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم " فبقيتم بلا سمع ولا بصر ولا عقل " من إله غير الله يأتيكم به " . فإذا لم يكن غير الله ، يأتي بذلك ، فلم عبدتم معه من لا قدرة له على شيء إلا إذا شاءه الله . وهذا من أدلة التوحيد وبطلان الشرك ، ولهذا قال : " انظر كيف نصرف الآيات "أي : ننوعها ، ونأتي بها في كل فن ، ولتنير الحق ، وتستبين سبيل المجرمين . " ثم هم " مع هذا البيان التام " يصدفون " عن آيات الله ، ويعرضون عنها . " قل أرأيتكم " أي : أخبروني " إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة " أي : مفاجأة أو قد تقدم أمامه مقدمات ، تعلمون بها وقوعه . " هل يهلك إلا القوم الظالمون " الذين صاروا سببا لوقوع العذاب بهم ، بظلمهم وعنادهم . فاحذروا أن تقيموا على الظلم ، فإنه الهلاك الأبدي ، والشقاء السرمدي .(1/141)
وقوله تعالى : ? وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ*ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * ? (الأنعام 59- 65)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/142)
قوله تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) هذه الآية العظيمة ، من أعظم الآيات تفصيلا ، لعلمه المحيط ، وأنه شامل للغيوب كلها ، التي يطلع منها ما شاء من خلقه . وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين ، والأنبياء المرسلين ، فضلا عن غيرهم من العالمين . وأنه يعلم ما في البراري والقفار ، من الحيوانات ، والأشجار ، والرمال والحصى ، والتراب . وما في البحار ، من حيوانات ، ومعادنها ، وصيدها ، وغير ذلك ، مما تحتويه أرجاؤها ، ويشتمل عليه ماؤها . " وما تسقط من ورقة " من أشجار البر والبحر ، والبلدان والقفر ، والدنيا والآخرة ، إلا يعلمها . " ولا حبة في ظلمات الأرض " من حبوب الثمار والزروع ، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذرو النباتات البرية التي ينشىء منها أصناف النباتات . " ولا رطب ولا يابس " هذا عموم بعد خصوص " إلا في كتاب مبين " وهو اللوح المحفوظ ، قد حواها ، واشتمل عليها . وبعض هذا المذكور ، يبهر عقول العقلاء ، ويذهل أفئدة النبلاء . فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته ، في أوصافه كلها . وأن الخلق ـ من أولهم إلى آخرهم ـ لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته ، لم يكن لهم قدرة ، ولا وسع في ذلك . فتبارك الرب العظيم ، الواسع العليم ، الحميد المجيد ، الشهيد المحيط . وجل من إله ، لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده . فهذه الآية ، دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء ، وكتابه المحيط ، بجميع الحوادث .(1/143)
" وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين "
هذا كله ، تقرير لإلهيته ، واحتجاج على المشركين به ، وبيان أنه تعالى المستحق للحب والتعظيم ، والإجلال والإكرام . فأخبر أنه وحده ، المتفرد بتدبير عباده ، في يقظتهم ومنامهم ، وأنه يتوفاهم بالليل ، وفاة النوم ، فتهدأ حركاتهم ، وتستريح أبدانهم . ويبعثهم في اليقظة من نومهم ، ليتصرفوا في مصالحهم الدينية والدنيوية . وهو ـ تعالى ـ يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك الأعمال . ثم لا يزال تعالى هكذا ، يتصرف فيهم ، حتى يستوفوا آجالهم . فيقضي بهذا التدبير ، أجل مسمى ، وهو : أجل الحياة ، وأجل آخر فيما بعد ذلك ، وهو البعث بعد الموت ، ولهذا قال : " ثم إليه مرجعكم " لا إلى غيره " ثم ينبئكم بما كنتم تعملون " من خير وشر . " وهو " تعالى " القاهر فوق عباده " ينفذ فيهم إرادته الشاملة ، ومشيئته العامة .فليسوا يملكون من الأمر شيئا ،ولا يتحركون ، ولا يسكنون إلا بإذنه . ومع ذلك ، فقد وكل بالعباد ، حفظة من الملائكة ، يحفظون عليه ما عمل كما قال تعالى : " وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون "..." عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " . فهذا حفظه لهم في حال الحياة . " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " أي : الملائكة الموكلون بقبض الأرواح ." وهم لا يفرطون " في ذلك ، فلا يزيدون ساعة مما قدره الله وقضاه ، ولا ينقصون ، ولا ينفذون من ذلك ، إلا بحسب المراسيم الإلهية ، والتقادير الربانية ." ثم " بعد الموت والحياة البرزخية ،(1/144)
وما فيها من الخير والشر " ردوا إلى الله مولاهم الحق " أي : الذي تولاهم بحكمه القدري ، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير . ثم تولاهم بأمره ونهيه ، وأرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتب . ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء ، ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات ، ويعاقبهم على الشرور والسيئات ، ولهذا قال : " ألا له الحكم ".. وحده لا شريك له.. " وهو أسرع الحاسبين " لكمال علمه وحفظه لأعمالهم ، بما أثبته في اللوح المحفوظ ، ثم أثبته ملائكته في الكتاب ، الذي بأيديهم . فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، وهو القاهر فوق عباده ، وقد اعتنى بهم كل الاعتناء ، في جميع أحوالهم وهو الذي له الحكم القدري ، والحكم الشرعي ، والحكم الجزائي ، فأين للمشركين ، العدول عن من هذا وصفه ونعته ، إلى عبادة من ليس له من الأمر شيء ، ولا عنده مثقال ذرة من النفع ، ولا له قدرة وإرادة ؟ أما والله لو علموا حلم الله عليهم ، وعفوه ورحمته بهم ، وهم يبارزونه بالشرك والكفران ، ويتجرأون على عظمته بالإفك والبهتان ، وهو يعافيهم ويرزقهم لانجذبت دواعيهم إلى معرفته ، وذهلت عقولهم في حبه . ولمقتوا أنفسهم أشد المقت ، حيث انقادوا لداعي الشيطان ، الموجب للخزي والخسران ، ولكنهم قوم لا يعقلون . " قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون " أي : " قل " للمشركين بالله ، الداعين معه آلهة أخرى ، ملزما لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية ، على ما أنكروه من توحيد الإلهية . " من ينجيكم من ظلمات البر والبحر " أي : شدائدهما ومشقاتهما ، وحين يتعذر أو يتعسر عليكم ، وجه الحيلة ، فتدعون ربكم تضرعا ، بقلب خاضع ، ولسان لا يزال يلهج بحاجته في الدعاء ، وتقولون ـ وأنتم في تلك الحال : " لئن أنجانا من هذه " الشدة التي وقعنا فيها " لنكونن من الشاكرين " لله أي المعترفين بنعمته ، الواضعين لها في طاعة ربهم ، الذين حفظوها عن أن يبذلوها في(1/145)
معصيته . " قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب " أي : من هذه الشدة الخاصة ، ومن جميع الكروب العامة . " ثم أنتم تشركون " لا تَفون لله بما قلتم ، وتنسون نعمه عليكم . فأي برهان أوضح من هذا؛ على بطلان الشرك ، وصحة التوحيد ؟ " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون " أي : هو تعالى؛ قادر على إرسال العذاب إليكم من كل جهة . " من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم " أي : يخلطكم " شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض " أي : في الفتنة ، وقتل بعضكم بعضا . فهو قادر على ذلك كله ، فاحذروا من الإقامة على معاصيه ، فيصيبكم من العذاب ، ما يتلفكم ويمحقكم ، ومع هذا فقد أخبر أنه قادر على ذلك . ولكن من رحمته ، أن رفع عن هذه الأمة العذاب من فوقهم بالرجم ، والحصب ، ونحوه ، ومن تحت أرجلهم؛ بالخسف . ولكن عاقب من عاقب منهم ، بأن أذاق بعضهم بأس بعض ، وسلط بعضهم على بعض هذه العقوبات المذكورة ، عقوبة عاجلة يراها المعتبرون ، ويشعر بها العاملون . " انظر كيف نصرف الآيات " أي : ننوعها ، ونأتي بها على أوجه كثيرة وكلها دالة على الحق . " لعلهم يفقهون " أي : يفهمون ما خلقوا من أجله ، ويفقهون الحقائق الشرعية ، والمطالب الإلهية .... " وكذب به " أي : بالقرآن " قومك وهو الحق " الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه . " قل لست عليكم بوكيل " أحفظ أعمالكم ، وأجازيكم عليها ، وإنما أنا منذر ومبلغ . " لكل نبإ مستقر "أي : وقت يستقر فيه ، وزمان لا يتقدم عنه ولا يتأخر . " وسوف تعلمون " ما توعدون به من العذاب ...(1/146)
وقوله تعالى : ? وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * ? ( الأنعام 73-79 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق " ليأمر العباد وينهاهم ، ويثيبهم ويعاقبهم . " ويوم يقول كن فيكون قوله الحق " الذي لا مرية فيه ولا مثنوية ، ولا يقول شيئا عبثا . " وله الملك يوم ينفخ في الصور " أي : يوم القيامة خصه بالذكر ـ مع أنه مالك كل شيء ـ لأنه تنقطع فيه الأملاك ، فلا يبقى ملك إلا الله الواحد القهار . " عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير " الذي له الحكمة التامة ، والنعمة السابغة ، والإحسان العظيم ، والعلم المحيط بالسرائر والبواطن والخفايا ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .(1/147)
" وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم "(1/148)
يقول تعالى : واذكر قصة إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد ، ونهيه عن الشرك . " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة " أي : لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء ." إني أراك وقومك في ضلال مبين " حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا ، وتركتم عبادة خالقكم ، ورازقكم ، ومدبركم . " وكذلك " حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه " نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض" أي : ليرى ببصيرته ، ما اشتملت عليه ، من الأدلة القاطعة ،والبراهين الساطعة " وليكون من الموقنين " . فإنه بحسب قيام الأدلة ، يحصل له الإيقان ، والعلم التام ، بجميع المطالب . " فلما جن عليه الليل " أي : أظلم " رأى كوكبا " لعله من الكواكب المضيئة ، لأن تخصيصه بالذكر ، يدل على زيادته عن غيره . ولهذا ـ والله أعلم ـ قال من قال : إنه الزهرة . " قال هذا ربي " أي : على وجه التنزل مع الخصم أي : هذا ربي ، فهلم ننظر ، هل يستحق الربوبية ؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك ؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه بغير حجة ولا برهان . " فلما أفل " أي : غاب ذلك الكوكب " قال لا أحب الآفلين " أي : الذي يغيب ويختفي عمن عبده . فإن المعبود ،لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده ، ومدبرا له في جميع شؤونه .فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب ، فمن أين يستحق العبادة ؟ وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه ، وأبطل الباطل ؟ " فلما رأى القمر بازغا " أي : طالعا ، رأى زيادته على نور الكواكب ومخالفته لها " قال هذا ربي " تنزلا . " فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فافتقر غاية الافتقار إلى هداية ربه ، وعلم أنه إن لم يهده الله ، فلا هادي له ، وإن لم يعنه على طاعته ، فلا معين له . " فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر " من الكوكب ومن القمر . " فلما أفلت " تقرر حينئذ الهدى ، واضمحل الردى " قال يا قوم إني(1/149)
بريء مما تشركون " حيث قام البرهان الصادق الواضح ، على بطلانه ." إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا " أي : لله وحده ، مقبلا عليه ، معرضا عن من سواه . " وما أنا من المشركين "
فتبرأ من الشرك ، وأذعن بالتوحيد ، وأقام على ذلك البرهان . وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات هو الصواب . وهو أن المقام مقام مناظرة ، من إبراهيم لقومه ، وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية وغيرها .وأما من قال : إنه مقام نظر في حال طفوليته ، فليس عليه دليل. " وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان " أي : أي فائدة لمحاجة من لم يتبين له الهدى ؟ فأما من هداه الله ، ووصل إلى أعلى درجات اليقين ، فإنه ـ هو بنفسه ـ يدعو الناس إلى ما هو عليه . " ولا أخاف ما تشركون به " فإنها لن تضرني ، ولن تمنع عني من النفع شيئا .
" إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون " فتعلمون أنه ـ وحده ـ المعبود المستحق للعبودية . " وكيف أخاف ما أشركتم " وحالها حال العجز ، وعدم النفع ، " ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا "أي : إلا بمجرد اتباع الهوى .
" فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون " . قال الله تعالى فاصلا بين الفريقين : " الذين آمنوا ولم يلبسوا " أي : يخلطوا " إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " الأمن من المخاوف ، والعذاب والشقاء ، والهداية إلى الصراط المستقيم . فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا ، لا بشرك ، ولا بمعاصي ، حصل لهم الأمن التام ، والهداية التامة . وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده ، ولكنهم يعملون السيئات ، حصل لهم أصل الهداية ، وأصل الأمن ، وإن لم يحصل لهم كمالها . ومفهوم الآية الكريمة ، أن الذين لم يحصل لهم الأمران ، لم يحصل لهم هداية ، ولا أمن ، بل حظهم الضلال والشقاء .(1/150)
وقوله تعالى: ? إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ * ? (الأنعام 95-104 )(1/151)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون "
يخبر تعالى ، عن كماله ، وعظمة سلطانه ، وقوة اقتداره ، وسعة رحمته ، وعموم كرمه ، وشدة عنايته بخلقه ، فقال : " إن الله فالق الحب " شامل لكل الحبوب ، التي يباشر الناس زرعها ، والتي لا يباشرونها ، كالحبوب التي يبثها الله في البراري والقفار . فيفلق الحبوب عن الزروع والنباتات ، على اختلاف أنواعها ، وأشكالها ، ومنافعها . ويفلق النوى عن الأشجار ، من النخيل ، والفواكه ، وغير ذلك . فينتفع بها الخلق ، من الآدميين والأنعام ، والدواب . ويرتعون فيما فلق الله ، من الحب ، والنوى . ويقتاتون ، وينتفعون بجميع أنواع المنافع ، التي جعلها الله في ذلك . ويريهم الله من بره وإحسانه ما يبهر العقول ، ويذهل الفحول . ويريهم من بدائع صنعته ، وكمال حكمته ، ما به يعرفونه ويوحدونه ، ويعلمون أنه هو الحق ، وأن عبادة ما سواه ، باطلة . " يخرج الحي من الميت " كما يخرج من المني حيوانا ، ومن البيضة فرخا ، ومن الحب والنوى ، زرعا وشجرا . " ومخرج الميت " وهو الذي لا نمو فيه ، أو لا روح " من الحي " . كما يخرج من الأشجار والزروع ، النوى ، والحب ، ويخرج من الطائر بيضا ونحو ذلك ...." ذلكم " الذي فعل ما فعل ، وانفرد بخلق هذه الأشياء وتدبيرها " الله ربكم " أي : الذي له الألوهية والعبادة على خلقه أجمعين . وهو الذي ربى جميع العالمين بنعمه ، وغذاهم بكرمه . " فأنى تؤفكون " أي : فأنى تصرفون ، وتصدون عن عبادة من هذا شأنه ، إلى عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا(1/152)
،ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ؟ ولما ذكر تعالى ، مادة خلق الأقوات ، ذكر منته بتهيئة المساكن ، وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد ، من الضياء ، والظلمة ، وما يترتب على ذلك ، من أنواع المنافع والمصالح فقال : " فالق الإصباح " أي : كما أنه فالق الحب والنوى ، كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي ، الشامل لما على وجه الأرض ، بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا ، حتى تذهب ظلمة الليل كلها ، ويخلفها الضياء والنور العام ، الذي يتصرف به الخلق ، في مصالحهم ، ومعايشهم ، ومنافع دينهم ودنياهم . ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة ، التي لا تتم إلا بوجود النهار والنور " جعل " الله " الليل سكنا " يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم ، والأنعام إلى مأواها ، والطيور إلى أوكارها ، فتأخذ نصيبها من الراحة . م يزيل الله ذلك ، بالضياء ، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة . و جعل تعالى " والشمس والقمر حسبانا " بهما تعرف الأزمنة والأوقات ، فتنضبط بذلك أوقات العبادات ، وآجال المعاملات ، ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر ، وتناوبهما ، واختلافهما ـ لما عرف ذلك ، عامة الناس ، واشتركوا في علمه . بل كان لا يعرفه ، إلا أفراد من الناس ، بعد الاجتهاد ، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ، ما يفوت . " ذلك " التقدير المذكور " تقدير العزيز العليم " الذي ـ من عزته ـ انقادت له هذه المخلوقات العظيمة ، فجرت مذللة مسخرة بأمره ، بحيث لا تتعدى ما حده الله لها ، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر . " العليم " الذي أحاط علمه ، بالظواهر والبواطن ، والأوائل والأواخر . ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه ، تسخير هذه المخلوقات العظيمة ، على تقدير ، ونظام بديع ، تحيرت العقول ، في حسنه ، وكماله ، وموافقته للمصالح والحكم . " وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر " حين تشتبه عليكم المسالك ، ويتحير في(1/153)
سيره السالك . فجعل الله النجوم ، هداية للخلق إلى السبيل ، التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم ، وتجاراتهم ، وأسفارهم . منها : نجوم لا تزال ترى ، ولا تسير عن محلها . ومنها : ما هو مستمر السير ، يعرف سيره أهل المعرفة بذلك ، ويعرفون به الجهات والأوقات . ودلت هذه الآية ونحوها ، على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحالها الذي يسمى علم التسيير ، فإنه لا تتم الهداية ولا تمكن إلا بذلك . " قد فصلنا الآيات " أي : بيناها ، ووضحناها ، وميزنا كل جنس ونوع منها عن الآخر ، بحيث صارت آيات الله ، بادية ظاهرة . " لقوم يعلمون " أي : لأهل العلم والمعرفة ، فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب ، ويطلب منهم الجواب . بخلاف أهل الجهل والجفاء ، المعرضين عن آيات الله ، وعن العلم الذي جاءت به الرسل ، فإن البيان لا يفيدهم شيئا ، والتفصيل ، لا يزيل عنهم ملتبسا ، والإيضاح لا يكشف لهم مشكلا . " وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة " وهو : آدم عليه السلام . أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي؛ الذي قد ملأ الأرض . ولم يزل في زيادة ونمو ، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه ، وأوصافه ، تفاوتا لا يمكن ضبطه ، ولا يدرك وصفه . وجعل الله لهم مستقرا ، أي منتهى ينتهون إليه ، وغاية يساقون إليها وهي : دار القرار ، التي لا مستقر وراءها ، ولا نهاية فوقها . فهذه الدار ، هي التي خلق الخلق لسكناها ، وأوجدوا في الدنيا ، ليسعوا في أسبابها ، التي تنشأ عليها وتعمر بها . وأودعهم الله في أصلاب آبائهم ، وأرحام أمهاتهم ، ثم في دار الدنيا ، ثم في البرزخ . كل ذلك ، على وجه الوديعة ، التي لا تستقر ولا تثبت ، بل ينتقل منها ، حتى يوصل إلى الدار ، التي هي المستقر . وأما هذه الدار ، فإنها مستودع وممر . " قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون " عن الله آياته ، ويفهمون عنه حججه ، وبيناته(1/154)
. " وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون "
وهذا : من أعظم مننه العظيمة ، التي يضطر إليها الخلق ،من الآدميين وغيرهم .وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا ، وقت حاجة الناس إليه ، فأنبت الله به كل شيء ،مما يأكل الناس والأنعام . فرتع الخلق ، بفضل الله ،وانبسطوا برزقه ،وفرحوا بإحسانه ، وزال عنهم الجدب والقحط . ففرحت القلوب ، وأسفرت الوجوه ، وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم ، ما به يتمتعون ، وبه يرتعون ، مما يوجب لهم ، أن يبذلوا جهدهم ، في شكر من أسدى النعيم ، وعبادته والإنابة إليه ، والمحبة له . ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء ، من أنواع الأشجار ، والنبات ، ذكر الزرع والنخل ، لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لأكثر الناس فقال : " فأخرجنا منه خضرا نخرج منه " أي : من ذلك النبات الخضر . " حبا متراكبا " بعضه فوق بعض ، من بر ، وشعير ، وذرة ، وأرز ، وغير ذلك ، من أصناف الزروع . وفي وصفه بأنه متراكب ، إشارة إلى أن حبوبه متعددة ، وجميعها تستمد من مادة واحدة ، وهي لا تختلط ، بل هي متفرقة الحبوب ، مجتمعة الأصول . وإشارة أيضا ، إلى كثرتها ، وشمول ريعها وغلتها ، ليبقى أصل البذر ، ويبقى بقية كثيرة للأكل والادخار . " ومن النخل " أخرج الله " من طلعها " وهو الكفرى ، والوعاء ، قبل ظهور القنو منه ، فيخرج من ذلك الوعاء " قنوان دانية " أي : قريبة سهلة التناول ، متدلية على من أرادها ، بحيث لا يعسر التناول من النخل وإن طالت ، فإنه يوجد فيها كرب ومراقي ، يسهل صعودها . " و " أخرج تعالى بالماء " جنات من أعناب والزيتون والرمان " . فهذه من الأشجار الكثيرة النفع ، العظيمة الوقع ، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع الأشجار(1/155)
والنباتات . وقوله : " مشتبها وغير متشابه " يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون ، أي : مشتبها في شجره وورقه ، غير متشابه في ثمره . ويحتمل أن يرجع ذلك ، إلى سائر الأشجار والفواكه ، وأن بعضها مشتبه ، يشبه بعضه بعضا ، ويتقارب في بعض أوصافه ، وبعضها لا مشابهة بينه وبين غيره . والكل ينتفع به العباد ، ويتفكهون ،ويقتاتون ،ويعتبرون ، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به ، فقال : " انظروا " نظر فكر واعتبار " إلى ثمره " أي : الأشجار كلها ، خصوصا : النخل ، إذا أثمر . " وينعه " أي : انظروا إليه ، وقت إطلاعه ، ووقت نضجه وإيناعه . فإن في ذلك عبرا ، وآيات ، يستدل بها على رحمة الله ، وسعة إحسانه وجوده وكمال اقتداره وعنايته بعباده . ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر ، وليس كل من تفكر ، أدرك المعنى المقصود . ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات ، بالمؤمنين فقال : " إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان ، على العمل بمقتضياته ولوازمه ، التي منها : التفكر في آيات الله ، والاستنتاج منها ، ما يراد منها ، وما تدل عليه ، عقلا ، وفطرة ، وشرعا .
" وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ "(1/156)
يخبر تعالى : أنه ـ مع إحسانه لعباده ، وتعرفه إليهم ، بآياته البينات ، وحججه الواضحات ـ أن المشركين به ، من قريش وغيرهم ، جعلوا له شركاء ، يدعونهم ، ويعبدونهم ، من الجن ، والملائكة ، الذين هم خلق من خلق الله ، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء . فجعلوها شركاء ، لمن له الخلق والأمر ، وهو المنعم بسائر أصناف النعم ، الدافع لجميع النقم . وكذلك " خرق المشركون " أي : ائتفكوا ، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله ، بنين وبنات ، بغير علم منهم . ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم ، وافترى عليه أشنع النقص ، الذي يجب تنزيه الله عنه ؟ ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال : " سبحانه وتعالى عما يصفون " فإنه تعالى ، الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وآفة ، وعيب . " بديع السماوات والأرض " أي : خالقهما ، ومتقن صنعتهما ، على غير مثال سبق ، بأحسن خلق ، ونظام ، وبهاء .لا تقترح عقول أولي الألباب مثله ، وليس له في خلقهما مشارك . " أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة " أي : كيف يكون لله الولد ، وهو الإله السيد الصمد ، الذي لا صاحبة له ، أي : لا زوجة له ، وهو الغني عن مخلوقاته ، وكلها فقيرة إليه ، مضطرة في جميع أحوالها إليه . والولد لا بد أن يكون من جنس والده . والله خالق كل شيء وليس شيء من المخلوقات مشابها لله بوجه من الوجوه . ولما ذكر عموم خلقه للأشياء ، ذكر إحاطة علمه بها فقال : " وهو بكل شيء عليم " وفي ذكر العلم بعد الخلق ، إشارة إلى الدليل العقلي ، على ثبوت علمه ، وهو هذه المخلوقات ، وما اشتملت عليه ، من النظام التام ، والخلق الباهر . فإن في ذلك ، دلالة على سعة علم الخالق ، وكمال حكمته ، كما قال تعالى : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " وكما قال تعالى : " وهو الخلاق العليم " ذلكم الذي ، خلق ما خلق ، وقدر ما قدر(1/157)
وقوله تعالى : ? وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? (الأنعام : 115 ) .
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم "
أي : قل يا أيها الرسول " أفغير الله أبتغي حكما " أحاكم إليه ، وأتقيد بأوامره ونواهيه . فإن غير الله محكوم عليه ، لا حاكم . وكل تدبير وحكم للمخلوق فإنه مشتمل على النقص ، والعيب ، والجور . وإنما الذي يجب أن يتخذ حاكما ، هو الله وحده لا شريك له ، الذي له الخلق والأمر . " وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا " أي : موضحا فيه الحلال والحرام ، والأحكام الشرعية ، وأصول الدين وفروعه ، الذي لا بيان فوق بيانه ، ولا برهان أجلى من برهانه ، ولا أحسن منه حكما ، ولا أقوم قيلا ، لأن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة . وأهل الكتب السابقة ، من اليهود ، والنصارى ، يعترفون بذلك " يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " ولهذا ، تواطأت الأخبار " فلا " تشكن في ذلك ولا " تكونن من الممترين " . ثم وصف تفصيلها فقال : " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " أي : صدقا في الإخبار ، وعدلا ، في الأمر والنهي . فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز ، ولا أعدل من أوامره ونواهيه و " لا مبدل لكلماته " حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق ، وبغاية الحق . فلا يمكن تغييرها ، ولا اقتراح أحسن منها . " وهو السميع " لسائر الأصوات ، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات . " العليم " الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والماضي والمستقبل .(1/158)
" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين "
يقول تعالى ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، محذرا عن طاعة أكثر الناس : " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم ، وأعمالهم ، وعلومهم . فأديانهم فاسدة ، وأعمالهم تبع لأهوائهم ، وعلومهم ليس فيها تحقيق ، ولا إيصال لسواء الطريق . بل غايتهم أنهم يتبعون الظن ، الذي لا يغني من الحق شيئا ويتخرصون في القول على الله ، ما لا يعلمون . ومن كان بهذه المثابة ، فحري أن يحذِّر اللهُ منه عبادَه ، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا ـ وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ـ فإن أمته تبع له ، في سائر الأحكام ، التي ليست من خصائصه . والله تعالى أصدق قيلا ، وأصدق حديثا ، و " هو أعلم من يضل عن سبيله " وأعلم بمن يهتدي ويهدي . فيجب عليكم ـ أيها المؤمنون ـ أن تتبعوا نصائحه وأوامره ونواهيه لأنه أعلم بمصالحكم ، وأرحم بكم من أنفسكم . ودلت هذه الآية ، على أنه لا يستدل على الحق ، بكثرة أهله ، ولا تدل قلة السالكين لأمر من الأمور ، أن يكون غير حق . بل الواقع بخلاف ذلك ، فإن أهل الحق ، هم الأقلون عددا ، الأعظمون ـ عند الله ـ قدرا وأجرا . بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل ، بالطرق الموصلة إليه .
وقوله تعالى : ? وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ?(الأنعام : 133 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/159)
قوله تعالى :( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ *ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ *قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )(1/160)
" يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي " الواضحات البينات ، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي ، والخير والشر ، والوعد والوعيد . وينذرونكم لقاء يومكم هذا " ويعلمونكم أن النجاة فيه ، والفوز إنما هو بامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك . فأقروا بذلك واعترفوا ، فـ" قالوا " بلى " شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا " بزينتها ، وزخرفها ، ونعيمها فاطمأنوا بها ، ورضوا بها ، وألهتهم عن الآخرة . " وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " فقامت عليهم حجة الله ، وعلم حينئذ ، كل أحد ، حتى هم بأنفسهم ، عدل الله فيهم . " ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون " ولكنهم ، وإن اشتركوا في الخسران ، فإنهم يتفاوتون في مقداره ، تفاوتا عظيما . " ولكل " منهم " درجات مما عملوا " بحسب أعمالهم ، لا يجعل قليل الشر منهم ، ككثيره ، ولا التابع كالمتبوع ، ولا المرؤوس كالرئيس . كما أن أهل الثواب والجنة ، وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة ، فإن بينهم من الفرق ، ما لا يعلمه إلا الله ، مع أنهم كلهم ، رضوا بما آتاهم مولاهم ، وقنعوا بما حباهم . فنسأله تعالى ، أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى ، التي أعدها الله للمقربين من عباده ،والمصطفين من خلقه ،وأهل الصفوة ، أهل وداده ." وما ربك بغافل عما يعملون " فيجازي كلا بحسب عمله ، وبما يعلمه من مقصده . وإنما أمر الله العباد بالأعمال الصالحة ، ونهاهم عن الأعمال السيئة ، رحمة بهم ، وقصدا لمصالحهم . وإلا ، فهو الغني بذاته ، عن جميع مخلوقاته ، فلا تنفعه طاعة الطائعين ، كما لا تضره معصية العاصين . " إن يشأ يذهبكم " بالإهلاك " ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " . فإذا عرفتم بأنكم ، لا بد أن تنتقلوا من هذه الدار ، كما انتقل غيركم ، وترحلون منها ، وتخلونها لمن بعدكم ،كما رحل عنها من قبلكم ،(1/161)
وخلوها لكم .فلم اتخذتموها قرارا ؟ وتوطنتم بها ، ونسيتم أنها دار ممر لا دار مقر . وأن أمامكم دارا ، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص ؟ وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون ، ويرتحل نحوها ، السابقون واللاحقون . التي إذا وصلوها ، فثم الخلود الدائم ، والإقامة اللازمة ، والغاية التي لا غاية وراءها ، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب ، والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب . هنالك ، والله ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، ويتنافس فيه المتنافسون ، من لذة الأرواح ، وكثرة الأفراح ، ونعيم الأبدان والقلوب ، والقرب من علام الغيوب .... فلله همة تعلقت بتلك الكرامات ، وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات ... وما أبخس حظ من رضي بالدون ، وأدنى همة من اختار صفقة المغبون ولا يستبعد المعرض الغافل ، سرعة الوصول إلى هذه الدار . " إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين " لله ، فارين من عقابه ، فإن نواصيكم تحت قبضته ، وأنتم تحت تدبيره وتصرفه ." قل " يا أيها الرسول لقومك : إذا دعوتهم إلى الله ، وبينت لهم مآلهم وما عليهم من حقوقه ، فامتنعوا من الانقياد لأمره ، واتبعوا أهواءهم ، واستمروا على شركهم : " يا قوم اعملوا على مكانتكم " أي : على حالتكم التي أنتم عليها ، ورضيتموها لأنفسكم . " إني عامل " على أمر الله ، ومتبع لمراضي الله . " فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار " أنا أو أنتم . وهذا من الإنصاف ، بموضع عظيم حيث بين الأعمال وعامليها ، وجعل الجزاء مقرونا بنظر البصير ، ضاربا فيه صفحا ، عن التصريح الذي يغني عنه التلويح . وقد علم أن العاقبة الحسنة ، في الدنيا والآخرة ، للمتقين . وأن المؤمنين لهم عقبى الدار ، وأن كل معرض عن ما جاءت به الرسل ، عاقبته سوء وشر ، ولهذا قال : " إنه لا يفلح الظالمون " فكل ظالم ، وإن تمتع في الدنيا بما تمتع به ، فنهايته فيه ، الاضمحلال والتلف... " إن الله ليملي للظالم ،(1/162)
حتى إذا أخذه لم يفلته " .
وقوله تعالى : ? وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ? (الأنعام : 141-142)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين "(1/163)
لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم ، من الحروث والأنعام ، ذكر تبارك وتعالى ، نعمته عليهم بذلك ، ووظيفتهم اللازمة عليهم ، في الحروث والأنعام فقال : " وهو الذي أنشأ جنات " أي : بساتين ، فيها أنواع الأشجار المتنوعة ، والنباتات المختلفة . " معروشات وغير معروشات " أي : بعض تلك الجنات ، مجعول لها عرش ، تنتشر عليه الأشجار ، ويعاونها في النهوض عن الأرض . وبعضها خال من العروش ، تنبت على ساق ، أو تنفرش في الأرض . وفي هذا تنبيه على كثرة منافعها ، وخيراتها ، وأنه تعالى ، علم العباد كيف يعرشونها ، وينمونها . " و " أنشأ تعالى " النخل والزرع مختلفا أكله " أي : كله في محل واحد ، ويشرب من ماء واحد ، ويفضل الله بعضه على بعض في الأكل . وخص تعالى ، النخل ، والزرع على اختلاف أنواعه ، لكثرة منافعها ، ولكونها هي القوت لأكثر الخلق . " و " أنشأ تعالى " الزيتون والرمان متشابها " في شجره " وغير متشابه " في ثمره وطعمه . كأنه قيل : لأي شيء أنشأ الله هذه الجنات ، وما عطف عليها ؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد ، فقال : " كلوا من ثمره " أي : النخل والزرع " إذا أثمر " ..." وآتوا حقه يوم حصاده " أي : أعطوا حق الزرع ، وهو الزكاة ذات الأنصباء المقدرة في الشرع . أمرهم أن يعطوها يوم حصادها ، وذلك لأن حصاد الزرع ، بمنزلة حولان الحول . لأنه الوقت ، الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء ، ويسهل حينئذ إخراجه على أهل الزرع ، ويكون الأمر فيها ظاهرا ، لمن أخرجها ، حتى يتميز المخرج ممن لا يخرج . وقوله : " ولا تسرفوا " يعم النهي عن الإسراف في الأكل ، وهو : مجاوزة الحد والعادة ، وأن يأكل صاحب الزرع أكلا يضر بالزكاة ، والإسراف في إخراج حق الزرع ، بحيث يخرج فوق الواجب عليه ، أو يضر نفسه أو عائلته أو غرماءه . فكل هذا ، من الإسراف الذي نهى الله عنه ، الذي لا يحبه الله ، بل يبغضه ويمقت عليه . وفي هذه الآية ، دليل(1/164)
على وجوب الزكاة في الثمار ، وأنه لا حول لها ، بل حولها ، حصادها في الزروع ، وجذاذ النخيل . وأنه لا تتكرر فيها الزكاة ، لو مكثت عند العبد أحوالا كثيرة ، إذا كانت لغير التجارة ، لأن الله لم يأمر بالإخراج منه ، إلا وقت حصاده . وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر ، أنه لا يضمنها ، وأنه يجوز الأكل من النخل والزرع ، قبل إخراج الزكاة منه ، وأنه لا يحسب ذلك من الزكاة ، بل يزكى المال الذي يبقى بعده . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يبعث خارصا ، يخرص للناس ثمارهم ، ويأمره أن يدع لأهلها الثلث ، أو الربع ، بحسب ما يعتريها من الأكل وغيره ، من أهلها ، وغيرهم .
وقوله تعالى : ? قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * ? (الأنعام 162-165)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/165)
قوله تعالى :" قل إن صلاتي ونسكي " أي : ذبحي ، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما ، ودلالتهما على محبة الله تعالى ، وإخلاص الدين له ، والتقرب إليه بالقلب واللسان ، والجوارح ، وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس ، من المال ، لما هو أحب إليها ، وهو الله تعالى . ومن أخلص في صلاته ونسكه ، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله وأقواله . " ومحياي ومماتي " أي : ما آتيه في حياتي ، وما يجريه الله علي ، وما يقدر علي في مماتي . الجميع " لله رب العالمين " .." لا شريك له " في العبادة ، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير . ليس هذا الإخلاص لله ، ابتداعا مني ، وبدعا أتيته من تلقاء نفسي . بل " وبذلك أمرت " أمرا حتما ، لا أخرج من التبعة ، إلا بامتثاله " وأنا أول المسلمين " من هذه الأمة .... " قل أغير الله " من المخلوقين " أبغي ربا " أي : يحسن ذلك ويليق بي ، أن أتخذ غيره ، مربيا ومدبرا والله رب كل شيء ، فالخلق كلهم داخلون تحت ربوبيته ، منقادون لأمره ؟ فتعين علي وعلى غيري ، أن يُتخذ اللهُ ربا ، ويُرضى به ، ولا يتعلق بأحد من المربوبين الفقراء العاجزين . ثم رغب ورهب بذلك الجزاء فقال : " ولا تكسب كل نفس " من خير وشر " إلا عليها " كما قال تعالى : " من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها "..." ولا تزر وازرة وزر أخرى " بل كل عليه وزر نفسه . وإن كان أحد قد تسبب في ضلال غيره ووزره ، فإنه عليه وزر التسبب من غير أن ينقص من وزر المباشر شيء . " ثم إلى ربكم مرجعكم " يوم القيامة " فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " من خير وشر ، ويجازيكم على ذلك ، أوفى الجزاء ." وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " أي : يخلف بعضكم بعضا ، واستخلفكم الله في الأرض ، وسخر لكم جميع ما فيها ، وابتلاكم ، لينظر كيف تعملون . " ورفع بعضكم فوق بعض درجات " في القوة والعافية ، والرزق ، والخلق والخلق . " ليبلوكم في ما آتاكم " فتفاوتت أعمالكم . " إن ربك(1/166)
سريع العقاب " لمن عصاه وكذب بآياته . " وإنه لغفور رحيم " لمن آمن به ، وعمل صالحا ، وتاب من الموبقات ....
ومن سورة الأعراف عشر آيات
قوله تعالى ? وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ *? (الأعراف : 10 11)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : "ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون " يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة : " ولقد مكناكم في الأرض " أي : هيأناها لكم ، بحيث تتمكنون من البناء عليها وحرثها ، ووجوه الانتفاع بها . " وجعلنا لكم فيها معايش " مما يخرج من الأشجار والنبات ، ومعادن الأرض ، وأنواع الصنائع والتجارات ، فإنه هو الذي هيأها ، وسخر أسبابها . " قليلا ما تشكرون " الله ، الذي أنعم عليكم بأصناف النعم ، وصرف عنكم النقم(1/167)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ *قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ *قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ(1/168)
اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ *يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ*يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *) ( الأعراف 11-27 )(1/169)
يقول تعالى ، مخاطبا بني آدم : " ولقد خلقناكم " بخلق أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم ، من أبيكم آدم عليه السلام " ثم صورناكم " في أحسن صورة ، وأحسن تقويم ، وعلمه تعالى ما به تكمل صورته الباطنة ، أسماء كل شيء . ثم أمر الملائكة الكرام ، أن يسجدوا لآدم ، إكراما واحتراما ، وإظهارا لفضله ، فامتثلوا أمر ربهم ، " فسجدوا " كلهم أجمعون ، " إلا إبليس " أبى أن يسجد له ، تكبرا عليه ، وإعجابا بنفسه ، فوبخه الله على ذلك وقال : " ما منعك ألا تسجد " لما خلقت بيدي ، أي : شرفته ، وفضلته بهذه الفضيلة ، التي لم تكن لغيره ، فعصيت أمري ، وتهاونت بي؟" قال " إبليس معارضا لربه : " أنا خير منه "، ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله له :" خلقتني من نار وخلقته من طين " ، وموجب هذا ، أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين ، وصعودها . وهذا القياس من أفسد الأقيسة ، فإنه باطل من عدة أوجه : منها : أنه في مقابلة أمر الله له بالسجود ، والقياس إذا عارض النص ، فإنه قياس باطل ، لأن المقصود بالقياس ، أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص يقارب الأمور المنصوص عليها ، ويكون تابعا لها . فأما قياس يعارضها ، ويلزم من اعتباره إلغاء النصوص ، فهذا القياس من أشنع الأقيسة . ومنها : أن قوله : " أنا خير منه " بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث . فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه ، وتكبره ، والقول على الله بلا علم . وأي نقص أعظم من هذا ؟ ومنها : أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب ، فإن مادة الطين ، فيها الخشوع ، والسكون ، والرزانة ، ومنها تظهر بركات الأرض ، من الأشجار ، وأنواع النبات ، على اختلاف أجناسه وأنواعه . وأما النار ، ففيها الخفة ، والطيش ، والإحراق . ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى ، انحط من مرتبته العالية إلى أسفل السافلين ، فقال الله له : " فاهبط منها " أي من الجنة " فما يكون لك أن تتكبر(1/170)
فيها " لأنها دار الطيبين الطاهرين ، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرهم . " فاخرج إنك من الصاغرين " أي : المهانين الأذلين ، جزاء على كبره وعجبه ، بالإهانة والذل . فلما أعلن عدو الله بعداوة الله ، وعداوة آدم وذريته ، سأل الله النظرة والإمهال إلى يوم البعث ، ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه من بني آدم . ولما كانت حكمة الله مقتضية لابتلاء العباد واختبارهم ، ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن يطيعه ، ومن يطيع عدوه ، أجابه لما سأل فقال : " إنك من المنظرين " ..." قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " أي : قال إبليس ـ لما أبلس ، وأيس من رحمة الله ـ " فبما أغويتني لأقعدن لهم " أي : للخلق " صراطك المستقيم " أي : لألزمن الصراط ولأسعى غاية جهدي ، على صد الناس عنه ، وعدم سلوكهم إياه . " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم " أي : من جميع الجهات والجوانب ، ومن كل طريق يتمكن فيه ، من إدراك بعض مقصوده فيهم . ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم ، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم ، ظن وصدق ظنه فقال : " ولا تجد أكثرهم شاكرين " فإن القيام بالشكر ، من سلوك الصراط المستقيم ، وهو يريد صدهم عنه ، وعدم قيامهم به ، قال تعالى : " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " . وإنما نبهنا الله على ما قال وعزم على فعله ، لنأخذ حذرنا ونستعد لعدونا ، ونحترز منه بعلمنا ، بالطريق التي يأتي منها ، ومداخله التي ينفذ منها ، فله تعالى علينا بذلك ، أكمل نعمة . "قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين " أي : قال الله لإبليس لما قال ما قال : " اخرج منها "خروج صغار واحتقار ، لا خروج إكرام بل " مذؤوما " أي : مذموما " مدحورا " مبعدا عن الله ، وعن رحمته ، وعن كل خير . " لأملأن(1/171)
جهنم منكم " أي : منك وممن تبعك منهم " أجمعين " وهذا قسم من الله تعالى ، أن النار دار العصاة ، لا بد أن يملأها من إبليس وأتباعه من الجن والإنس . " ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " ثم حذر آدم شره وفتنته فقال : " ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " إلى قوله : " من الخاسرين " . أي أمر الله تعالى ، آدم وزوجته حواء ، التي أنعم الله بها عليه ، ليسكن إليها ، أن يأكلا من الجنة حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا ، إلا أنه عين لهما شجرة ، ونهاهما عن أكلها ، والله أعلم ، ما هي ، وليس في تعيينها فائدة لنا . وحرم عليهما أكلها ، بدليل قوله : " فتكونا من الظالمين " فلم يزالا ممتثلين لأمر الله ، حتى تغلغل إليهما ، عدوهما إبليس بمكره ، فوسوس لهما وسوسة ، خدعهما بها ، وموه عليهما وقال : " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين " أي : من جنس الملائكة " أو تكونا من الخالدين " كما قال في الآية الأخرى : " هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " . ومع قوله هذا ، أقسم لهما بالله : " إني لكما لمن الناصحين " أي : من جملة الناصحين ، حيث قلت لكما ، ما قلت . فاغترا بذلك ، وغلبت الشهوة في تلك الحال على العقل . " فدلاهما " أي : أنزلهما عن رتبتهما العالية ، التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى التلوث بأوضارها ، فأقدما على أكلها . " فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما " أي :(1/172)
ظهرت عورة كل منهما بعدما كانت مستورة ، فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال ، أثر في اللباس الظاهر ، حتى انخلع ، فظهرت عوراتهما ، ولما ظهرت عوراتهما ، خجلا ، وجعلا يخصفان على عوراتهما ، من أوراق شجر الجنة ، ليستترا بذلك . " وناداهما ربهما " وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا : " ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين " فلم اقترفتما المنهي ، وأطعتما عدوكما ؟ فحينئذ ، من الله عليهما بالتوبة وقبولها ، فاعترفا بالذنب ، وسألا الله مغفرته فقالا : " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " ، أي : قد فعلنا الذنب ، الذي نهيتنا عنه ، وأضررنا بأنفسنا ، باقتراف الذنب ، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا ، بمحو أثر الذنب وعقوبته ، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا . فغفر الله لهما ذلك " وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " . هذا ، وإبليس مستمر على طغيانه ، غير مقلع عن عصيانه ، فمن أشبه آدم بالاعتراف ، وسؤال المغفرة والندم ، والإقلاع ـ إذا صدرت منه الذنوب ـ اجتباه ربه وهداه . ومن أشبه إبليس ـ إذا صدر منه الذنب ، لا يزال يزداد من المعاصي ـ فإنه لا يزداد من الله إلا بعدا .(1/173)
" قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين "..." قال اهبطوا " أي : قال الله ، مخاطبا لآدم وحواء بلفظ الجمع لأن إبليس هبط من قبل إلى السماء ، ثم هبطوا جميعا إلى الأرض . وكرر الأمر لإبليس ، تبعا لهما ، ليعلم أنهم قرناء أبدا ، لأن إبليس ، لا يفارق الإنسان ، بل يلازمه كل الملازمة ، ويبذل كل جهده ، في إضلال بني آدم . وجملة " بعضكم لبعض عدو " في موضع نصب على الحال ، من الضمير الذي هو الواو ، في " اهبطوا " . وخلاصة المعنى أن الله قال لهما وللشيطان : اهبطوا جميعا من الجنة إلى الأرض متعادين ، ولكم في الأرض ، استقرار ، وموضع استقرار ، تتمتعون وتنتفعون ، إلى حين انقضاء آجالكم ." قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " أي : لما أهبط الله آدم وزوجته وذريتهما إلى الأرض ، أخبرهما بحال إقامتهم فيها ، وأنه جعل لهم فيها حياة ، يتلوها الموت ، مشحونة بالامتحان والابتلاء ، وأنهم لا يزالون فيها ، يرسل إليهم رسله ، وينزل عليهم كتبه ، حتى يأتيهم الموت ، فيدفنون فيها . ثم إذا استكملوا ، بعثهم الله ، وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة ، التي هي دار المقامة . ثم امتن عليهم بما يسر لهم ، من اللباس الضروري ، واللباس الذي المقصود منه ، الجمال ، وهكذا سائر الأشياء ، كالطعام ، والشراب ، والمراكب ، والمناكح ونحوها . قد يسر الله للعباد ضروريها ، ومكمل ذلك ، وبين لهما أن هذا ، ليس مقصودا بالذات ، وإنما أنزله الله ، ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته ، ولهذا قال : " ولباس التقوى ذلك خير " من اللباس الحسي ، فإن لباس التقوى ، يستمر مع العبد ، ولا يبلى ولا يبيد ، وهو جمال القلب والروح . وأما اللباس الظاهري ، فغايته أن يستر العورة الظاهرة ، في وقت من الأوقات . أو يكون جمالا للإنسان(1/174)
، وليس وراء ذلك منه نفع . وأيضا ، فبتقدير عدم هذا اللباس ، تنكشف عورته الظاهرة ، التي لا يضره كشفها ، مع الضرورة ، وأما بتقدير عدم لباس التقوى ، فإنها تنكشف عورته الباطنة ، وينال الخزي والفضيحة . وقوله : " ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " أي : ذلك المذكور لكم من اللباس ، مما تذكرون به ، ما ينفعكم ويضركم ، وتستعينون باللباس الظاهر على الباطن . " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " يقول تعالى ، محذرا لبني آدم ، أن يفعل بهم الشيطان ، كما فعل بأبيهم : " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " بأن يزين لكم العصيان ، ويدعوكم إليه ، ويرغبكم فيه ، فتنقادون له " كما أخرج أبويكم من الجنة " وأنزلهما من المحل العالي ، إلى أنزل منه . فإياكم يريد أن يفعل بكم كذلك ، ولا يألو جهده عنكم ، حتى يفتنكم ، إن استطاع . فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم ، وأن تلبسوا لأمة الحرب بينكم وبينه ، وأن لا تغفلوا عن المواضع التي يدخل منها إليكم . " أنه " يراقبكم على الدوام ، و " يراكم هو وقبيله " من شياطين الجن " من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " . فعدم الإيمان ، هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشطان ..... " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون "
وقوله تعالى: ? وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ?(الأعراف : 43 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/175)
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * )(1/176)
لما ذكر الله تعالى عقاب العاصين الظالمين ، ذكر ثواب المطيعين فقال : " والذين آمنوا " بقلوبهم " وعملوا الصالحات " بجوارحهم ، فجمعوا بين الإيمان والعمل ، بين الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة ، بين فعل الواجبات وترك المحرمات ، ولما كان قوله : " وعملوا الصالحات " لفظا عاما يشمل جميع الصالحات ، الواجبة والمستحبة ، وقد يكون بعضها غير مقدور للعبد ، قال تعالى : " لا تكلف نفس إلا وسعها " أي : بمقدار ما تسعه طاقتها ، ولا يعسر على قدرتها ، فعليها في هذه الحال ، أن تتقي الله ، بحسب استطاعتها ، وإذا عجزت عن بعض الواجبات ، التي يقدر عليها غيرها ، سقطت عنها ، كما قال تعالى : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها "..." لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها "..." وما جعل عليكم في الدين من حرج "..." فاتقوا الله ما استطعتم " ، فلا واجب مع العجز ، ولا محرم مع الضرورة . " أولئك " أي : المتصفون بالإيمان والعمل الصالح ، " أصحاب الجنة هم فيها خالدون " أي : لا يحولون عنها ، ولا يبغون بها بدلا ، لأنهم يرون فيها من أنواع اللذات ، وأصناف المشتهيات ، ما تقف عنده الغايات ، ولا يطلب أعلى منه . " ونزعنا ما في صدورهم من غل " وهذا من كرمه وإحسانه ، على أهل الجنة ، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم ، والتنافس الذي كان بينهم ، أن الله يقلعه ويزيله ، حتى يكونوا إخوانا متحابين ، وأخلاء متصافين . قال تعالى : " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " ويخلق الله لهم من الكرامة ، ما به يحصل لكل واحد منهم ، الغبطة والسرور ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم ، نعيم ، فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض ، لأنه فقدت أسبابه . قوله : " تجري من تحتهم الأنهار " أي يفجرونها تفجيرا ، حيث شاؤوا ، وأين أرادوا ، إن شاءوا في خلال القصور ، أو في تلك الغرف العاليات ، أو في رياض الجنات ، من تحت تلك الحدائق الزاهرات ، أنهار تجري في غير(1/177)
أخدود ، وخيرات ، ليس لها حد محدود . " و " لهذا لما رأوا ما أنعم الله عليهم وأكرمهم به " قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا " بأن من علينا ، وأوحى إلى قلوبنا ، فآمنت به ، وانقادت للأعمال الموصلة إلى هذه الدار ، وحفظ الله علينا إيماننا وأعمالنا ، حتى أوصلنا بها إلى هذه الدار ، فنعم الرب الكريم ، الذي ابتدأنا بالنعم ، وأسدى من النعم الظاهرة والباطنة ، ما لا يحصيه المحصون ، ولا يعده العادون . " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " أي : ليس في نفوسنا قابلية للهدى ، لولا أنه تعالى من علينا بهدايته واتباع رسله . " لقد جاءت رسل ربنا بالحق " أي : حين كانوا يتمتعون بالنعيم ، الذي أخبرت به الرسل ، وصار حق يقين لهم ، بعد أن كان علم يقين لهم ، قالوا لقد تحققنا ، ورأينا ما وعدتنا به الرسل ، وأن جميع ما جاؤوا به حق اليقين ، لا مرية فيه ولا إشكال ، " ونودوا " تهنئة لهم ، وإكراما ، وتحية ، واحتراما . " أن تلكم الجنة أورثتموها " أي كنتم الوارثين لها ، وصارت إقطاعا لكم ، إذ كان إقطاع الكفار النار ،..." أورثتموها بما كنتم تعملون " . قال بعض السلف : أهل الجنة نجوا من النار بعفو الله ، وأدخلوا الجنة برحمة الله ، واقتسموا المنازل ، وورثوها ، بالأعمال الصالحة ، وهي من رحمته ، بل من أعلى أنواع رحمته .(1/178)
وقوله تعالى:?إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ *وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ *? (الأعراف 54-58 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/179)
قوله تعالى : " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " يقول تعالى ، مبينا أنه الرب المعبود وحده لا شريك له " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض " وما فيهما ، على عظمهما وسعتهما ، وإحكامهما ، وإتقانهما ، وبديع خلقهما . " في ستة أيام " أولها : يوم الأحد ، وآخرها ، يوم الجمعة ، فلما قضاهما ، وأودع فيهما من أمره ما أودع " استوى " تبارك وتعالى " على العرش " العظيم ، الذي يسع السموات والأرض ، وما فيهما ، ما بينهما ، استوى ، استواء يليق بجلاله ، وعظمته ، وسلطانه ، فاستوى على العرش ، واحتوى على الممالك ، وأجرى عليهم أحكامه الكونية ، وأحكامه الدينية ، ولهذا قال : " يغشي الليل " المظلم " النهار " المضيء ، فيظلم ما على وجه الأرض ، ويسكن الآدميون ،وتأوي المخلوقات إلى مساكنها ،ويستريحون من التعب،والذهاب والإياب ،الذي حصل لهم في النهار ." يطلبه حثيثا " كلما جاء الليل ، ذهب النهار ، وكلما جاء النهار ، ذهب الليل ، وهكذا أبدا ، على الدوام ، حتى يطوي الله هذا العالم ، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار . " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " أي بتسخيره وتدبيره ، الدال على ما له من أوصاف الكمال ، فخلقها وعظمها ، دال على كمال قدرته ، وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان ، دال على كمال حكمته ، وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها ، دال على سعة رحمته وعلمه ، وأنه الإله الحق ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له . " ألا له الخلق والأمر " أي : له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها ، وسفليها ، أعيانها ، وأوصافها ، وأفعالها ، والأمر المتضمن للشرائع والنبوات . فالخلق : يتضمن أحكامه الكونية القدرية ، والأمر : يتضمن أحكامه الدينية الشرعية ، وثم(1/180)
أحكام الجزاء ، وذلك يكون في دار البقاء . " تبارك الله " أي : عظم وتعالى ، وكثر خيره وإحسانه ، فتبارك في نفسه ، لعظمة أوصافه وكمالها ، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل ، والبر الكثير ، فكل بركة في الكون ، فمن آثار رحمته ، ولهذا قال : " تبارك الله رب العالمين "...
" ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين " ولما ذكر من عظمته وجلاله ، ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده ، المعبود المقصود في الحوائج كلها ، أمر بما يترتب على ذلك فقال : " ادعوا ربكم تضرعا " إلى " من المحسنين " . الدعاء : يدخل فيه ، دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، فأمر بدعائه " تضرعا " أي : إلحاحا في المسألة ، ودؤوبا في العبادة ، " وخفية " أي : لا جهر أو علانية ، يخاف منه الرياء ، بل خفية ، وإخلاصا لله تعالى . " إنه لا يحب المعتدين " أي : المتجاوزين للحد في كل الأمور ، ومن الاعتداء : كون العبد يسأل الله مسائل ، لا تصلح له ، أو ينقطع في السؤال ، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء ، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه . " ولا تفسدوا في الأرض " بعمل المعاصي " بعد إصلاحها " بالطاعات ، فإن المعاصي ، تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق ، كما قال تعالى : " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس " كما أن الطاعات ، تصلح بها الأخلاق ، والأعمال ، والأرزاق ، وأحوال الدنيا والآخرة . " وادعوه خوفا وطمعا " أي : خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه ، طمعا في قبولها ، وخوفا من ردها ، لا دعاء عبد مدل على ربه ، قد أعجبته نفسه ، ونزل نفسه فوق منزلته ، أو دعاء من هو غافل لاه . وحاصل ما ذكر الله من آداب الدعاء : الإخلاص فيه لله وحده ، لأن ذلك يتضمنه الخفية . وإخفاؤه وإسراره ، أن يكون القلب خائفا طامعا ، لا غافلا ، ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة ، وهذا من إحسان الدعاء(1/181)
، فإن الإحسان في كل عبادة ، بذل الجهد فيها ، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، ولهذا قال : " إن رحمة الله قريب من المحسنين " في عبادة الله ، المحسنين إلى عباد الله ، فكلما كان العبد أكثر إحسانا ، كان أقرب إلى رحمة ربه ، وكان ربه قريبا منه برحمته ، وفي هذا من الحث على الإحسان ، ما لا يخفى .
" وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " بين تعالى ، أثرا من آثار قدرته ، ونفحة من نفحات رحمته فقال : " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " أي : الرياح المبشرات بالغيث ، التي تثيره بإذن االله ، من الأرض ، فيستبشر الخلق برحمة الله ، وترتاح لها قلوبهم قبل نزوله . " حتى إذا أقلت " الرياح " سحابا ثقالا " قد أثاره بعضها ، وألفته ريح أخرى ، وألقحته ريح أخرى " سقناه لبلد ميت " قد كادت تهلك حيواناته ، وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة الله . " فأنزلنا به " أي : ذلك البلد الميت " الماء " الغزير من ذلك السحاب وسخر الله له ريحا تدره ، وريحا تفرقه بإذن الله . " فأخرجنا به من كل الثمرات " فأصبحوا مستبشرين برحمة الله ، راتعين بخير الله . وقوله : " كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون " أي : كما أحيينا الأرض بعد موتها بالنبات ، كذلك نخرج الموتى من قبورهم ، بعدما كانوا رفاتا متمزقين ، وهذا استدلال واضح ، فإنه لا فرق بين الأمرين . فمنكر البعث ، استبعادا له ـ مع أنه يرى ما هو نظيره ـ من باب العناد ، وإنكار المحسوسات . وفي هذا ، الحث على التذكر والتفكر في آلاء الله ، والنظر إليها بعين الاعتبار والاستدلال ، لا بعين الغفلة والإهمال . ثم ذكر تفاوت الأراضي ، التي ينزل عليها المطر فقال : " والبلد الطيب " أي :(1/182)
طيب التربة والمادة ، إذا نزل عليه مطر " يخرج نباته " الذي هو مستعد له " بإذن ربه " أي : بإرادة الله ومشيئته ، فليست الأسباب مستقلة بوجود الأشياء ، حتى يأذن الله بذلك . " والذي خبث " من الأراضي " لا يخرج إلا نكدا " أي : إلا نباتا خاسا لا نفع فيه ولا بركة . " كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " أي : ننوعها ونبينها ونضرب فيها الأمثال ونسوقها لقوم يشكرون الله بالاعتراف بنعمه ، والإقرار بها ، وصرفها في مرضاة الله . فهم الذين ينتفعون بما فصل الله في كتابه ، من الأحكام ، والمطالب الإلهية لأنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من ربهم ، فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين بها ، فيتدبرونها ، ويتأملونها ، فيبين لهم من معانيها ، بحسب استعدادهم . وهذا مثال للقلوب ، حين ينزل عليها الوحي الذي هو مادة الحياة ، كما أن الغيث ، مادة الحيا ، فإن القلوب الطيبة ، حين يجيئها الوحي ، تقبله وتعلمه ، وتنبت بحسب ، طيب أصلها ، وحسن عنصرها . وأما القلوب الخبيثة ، التي لا خير فيها ، فإذا جاءها الوحي ، لم يجد محلا قابلا ، بل يجدها غافلة معرضة ، أو معارضة ، فيكون كالمطر الذي يمر على السباخ والرمال والصخور ، فلا يؤثر فيها شيئا ، وهذا كقوله تعالى : " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا "....
وقوله تعالى : ? وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ? (الأعراف : 143 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/183)
" ولما جاء موسى لميقاتنا " الذي وقتناه له لإنزال الكتاب " وكلمه ربه " بما كلمه ، من وحيه ، وأمره ، ونهيه ، تشوق إلى رؤية الله ، ونزعت نفسه لذلك ، حبا لربه واشتياقا لرؤيته . " قال رب أرني أنظر إليك قال " الله " لن تراني " أي : لن تقدر الآن على رؤيتي ، فإن الله تبارك وتعالى ، أنشأ الخلق في هذه الدار ، على نشأة لا يقدرون بها ، ولا يثبتون لرؤية الله ، وليس في هذا ، دليل على أنهم لا يرونه في الجنة . فإنه قد دلت النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وأنه ينشئهم نشأة كاملة ، يقدرون معها على رؤية الله تعالى . ولهذا رتب الله الرؤية في هذه الآية ، على ثبوت الجبل ، فقال ـ مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية ـ " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه " إذا تجلى الله له " فسوف تراني "(1/184)
" فلما تجلى ربه للجبل " الأصم الغليظ " جعله دكا " أي : انهال مثل الرمل ، انزعاجا من رؤية الله وعدم ثبوته لها ، " وخر موسى " حين رأى ما رأى " صعقا " أي : مغشيا عليه . " فلما أفاق " تبين له حينئذ ، أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية الله ، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك ، واستغفر ربه ، لما صدر منه من السؤال ، الذي لم يوافق موضعا ولذلك : " قال سبحانك " أي : تنزيها لك ، وتعظيما عما لا يليق بجلالك . " تبت إليك " من جميع الذنوب ، وسوء الأدب معك ، " وأنا أول المؤمنين " أي : جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه ، بما كمل الله له ، مما كان يجهله قبل ذلك ، فلما منعه الله من رؤيته ـ بعدما كان متشوقا إليها ـ أعطاه خيرا كثيرا فقال : " يا موسى إني اصطفيتك على الناس " أي : اخترتك واجتبيتك ، وفضلك ، وخصصتك بفضائل عظيمة ، ومناقب جليلة ، " برسالاتي " التي لا أجعلها ، ولا أخص بها ، إلا أفضل الخلق . " وبكلامي " إياك من غير واسطة ، وهذه فضيلة ، اختص بها موسى الكليم ، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين ، " فخذ ما آتيتك " من النعم ، وخذ ما آتيتك ، من الأمر والنهي ، بانشراح صدر ، وتلقه بالقبول والانقياد ، " وكن من الشاكرين" لله ،على ما خصك وفضلك..
وقوله تعالى :? أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ? (الأعراف : 185 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/185)
"أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض " فإنهم إذا نظروا إليها ، وجدوها أدلة على توحيد ربها ، وعلى ما له من صفات الكمال . ( و ) كذلك لينظروا إلى جميع " ما خلق الله من شيء " فإن جميع أجزاء العالم ، تدل أعظم دلالة ، على الله وقدرته ، وحكمته ، وسعة رحمته ، وإحسانه ، ونفوذ مشيئته ، وغير ذلك من صفاته العظيمة ، الدالة على تفرده بالخلق ، والتدبير ، الموجبة لأن يكون هو المعبود المحمود ، المسبح الموحد المحبوب . وقوله : " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " أي : لينظروا في خصوص حالهم ، ولينظروا لأنفسهم قبل أن يقترب أجلهم ، ويفاجأهم الموت ، وهم في غفلة معرضون ، فلا يتمكنون حينئذ من استدراك الفارط . " فبأي حديث بعده يؤمنون " أي : إذا لم يؤمنوا بهذا الكتاب الجليل ، فأي حديث يؤمنون به ؟ أبكتب الكذب والضلال ؟ أم بحديث كل مفتر دجال ؟ . ولكن الضال لا حيلة فيه ، ولا سبيل إلى هدايته ، ولهذا قال تعالى : " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون " أي : يتحيرون ويترددون ، فلا يخرجون من طغيانهم ، ولا يهتدون إلى حق ...
ومن سورة التوبة أربع آيات
قوله تعالى? وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ? ( التوبة 31-32 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/186)
قوله تعالى : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *"
لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب ، ذكر من أقوالهم الخبيثة ، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينهم ، على قتالهم ، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال : " وقالت اليهود عزير ابن الله " وهذه المقالة ، وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم ، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ، ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة ، التي تجرأوا فيها على الله ، وتنقصوا عظمته وجلاله . وقد قيل : إن سبب ادعائهم في " عزير " أنه ابن الله ، أنه لما تسلط الملوك على بني إسرائيل ، ومزقوهم كل ممزق ، وقتلوا حملة التوراة ، وجدوا عزيرا بعد ذلك ، حافظا لها أو أكثرها ، فأملاها عليهم من حفظه ، واستنسخوها ، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة . " وقالت النصارى المسيح "(1/187)
عيسى ابن مريم " ابن الله " ، قال الله تعالى : " ذلك " القول الذي قالوه " قولهم بأفواههم " لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا . ومن كان لا يبالي بما يقول ، لا يستغرب عليه أي قول يقوله ، فإنه لا دين ولا عقل يحجزه عما يريد من الكلام . ولهذا قال : " يضاهئون " أي : يشابهون في قولهم هذا " قول الذين كفروا من قبل " أي : قول المشركين الذين يقولون : " الملائكة بنات الله " تشابهت أقوالهم في البطلان . " قاتلهم الله أنى يؤفكون " أي : كيف يصرفون عن الحق ، الصرف الواضح المبين ، إلى القول الباطل المبين . وهذا ـ وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة ، أن تتفق على قول ـ يدل على بطلانه ، أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه ـ فإن لذلك سببا وهو أنهم : " اتخذوا أحبارهم " وهم علماؤهم " ورهبانهم " أي : العباد المتجردين للعباده . " أربابا من دون الله " يحلون لهم ما حرم الله ، فيحلونه ، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه ، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها . وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ، ويعظمونهم ، ويتخذون قبورهم أوثانا ، تعبد من دون الله ، وتقصد بالذبائح ، والدعاء والاستغاثة . " والمسيح ابن مريم " اتخذوه إلها من دون الله ، والحال أنهم خالفوا في ذلك ، أمر الله لهم على ألسنة رسله ، قال تعالى : " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو " فيخلصون له العبادة والطاعة ، ويخصونه بالمحبة والدعاء ، فنبذوا أمر الله ، وأشركوا به ، ما لم ينزل به سلطانا .(1/188)
" سبحانه " وتعالى " عما يشركون " أي : تنزه وتقدس ، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم ، فإنهم ينتقصونه في ذلك ، ويصفونه بما لا يليق بجلاله ، والله تعالى العالي في أوصافه وأفعاله ، عن كل ما نسب إليه ، مما ينافي كماله المقدس . فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه ، ولا برهان لما أصلوه ، وإنما هو مجرد قول قالوه ، وافتراء افتروه أخبر أنهم " يريدون " بهذا " أن يطفئوا نور الله بأفواههم " . ونور الله : دينه ، الذي أرسل به الرسل ، وأنزل به الكتب . وسماه الله نورا ، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل ، والأديان الباطلة . فإنه علم بالحق ، وعمل بالحق ، وما عداه ، فإنه بضده . فهؤلاء اليهود والنصارى ، ومن ضاهاهم من المشركين ، يريدون أن يطفئوا نور الله ، بمجرد أقوالهم ، التي ليس عليها دليل أصلا . " ويأبى الله إلا أن يتم نوره " لأنه النور الباهر ، الذي لا يمكن لجميع الخلق ، لو اجتمعوا على إطفائه ، أن يطفئوه ، والذي أنزله ، جميع نواصي العباد بيده . وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء ، ولهذا قال : " ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله ، فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا . ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال : " هو الذي أرسل رسوله بالهدى " الذي هو العلم النافع " ودين الحق " الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم مشتملا على بيان الحق من الباطل ، في أسماء الله ،وأوصافه ، وأفعاله ، وفي أحكامه وأخباره ، والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب ، والأرواح ، والأبدان ، من إخلاص الدين لله وحده ، ومحبة الله وعبادته ، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، والأعمال الصالحة ، والآداب النافعة ، والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة ، المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة . فأرسله الله بالهدى ودين الحق(1/189)
" ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " أي : ليعليه على سائر الأديان ، بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان ، وإن كره المشركون ذلك ، وبغوا له الغوائل ، ومكروا مكرهم ، فإن المكر السيىء لا يضر إلا صاحبه ، فوعد الله لا بد أن ينجزه ، وما ضمنه لا بد أن يقوم به .
وقوله تعالى: ? إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ?(التوبة : 116 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت " أي : هو المالك لذلك ، المدبر لعباده بالإحياء والإماتة ، وأنواع التدابير الإلهية ، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني ، المتعلق بإلهيته ، ويترك عباده سدى مهملين ، أو يدعهم ضالين جاهلين ، وهو أعظم تولية لعباده ؟ فلهذا قال : " وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " أي : ولي يتولاكم ، بجلب المنافع لكم ، أو " نصير " يدفع عنكم المضار .
ومن سورة يونس ثماني عشرة آية(1/190)
قوله تعالى : ? إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ * ? ( يونس 3-6 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/191)
يقول تعالى ـ مبينا لربوبيته ، وإلهيته ، وعظمته ـ : " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام " مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة . ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية ، ولأنه رفيق في أفعاله . ومن جملة حكمته فيها ، أنه خلقها بالحق وللحق ، ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة . " ثم " بعد خلق السموات والأرض " استوى على العرش " استواء يليق بعظمته . " يدبر الأمر " في العالم العلوي ، والسفلي ، من الإماتة والإحياء ، وإنزل الأرزاق ، ومداولة الأيام بين الناس ، وكشف الضر عن المضرورين ، وإجابة سؤال السائلين . فأنواع التدابير ، نازلة منه ، وصاعدة إليه ، وجميع الخلق ، مذعنون لعزته ، خاضعون لعظمته وسلطانه . " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة ، ولو كان أفضل الخلق ، حتى يأذن الله ، ولا يأذن ، إلا لمن ارتضى ، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له .(1/192)
" ذلكم " الذي هذا شأنه " الله ربكم " أي : هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال ، ووصف الربوبية الجامعة لصفات الأفعال . " فاعبدوه " أي : أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية . " أفلا تذكرون " الأدلة الدالة ، على أنه وحده ، المعبود المحمود ، ذو الجلال والإكرام . فلما ذكر حكمه القدري ، وهو التدبير العام ، وحكمه الديني ، وهو شرعه ، الذي مضمونه ومقصوده ، عبادته وحده لا شريك له ، ذكر الحكم الجزائي ، وهم : مجازاته على الأعمال بعد الموت ، فقال : " إليه مرجعكم جميعا " أي : سيجمعكم بعد موتكم ، لميقات يوم معلوم . " وعد الله حقا " أي : وعده صادق ، لا بد من إتمامه " إنه يبدأ الخلق ثم يعيده " ، فالقادر على ابتداء الخلق ، قادر على إعادته . والذي يرى ابتداءه بالخلق ، ثم ينكر إعادته للخلق ، فهو فاقد العقل ، منكر لأحد المثلين ، مع إثبات ما هو أولى منه ، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد . ثم ذكر الدليل النقلي فقال : " ليجزي الذين آمنوا " بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به ." وعملوا الصالحات "
بجوارحهم ، من واجبات ، ومستحبات ، " بالقسط " أي : بإيمانهم وأعمالهم ، جزاء قد بينه لعباده ، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، " والذين كفروا " بآيات الله ، وكذبوا رسل الله . " لهم شراب من حميم " أي : ماء حار ، يشوي الوجوه ، ويقطع الأمعاء .
" وعذاب أليم " من سائر أصناف العذاب " بما كانوا يكفرون " ، أي : بسبب كرههم وظلمهم ، وما ظلمهم الله ، ولكن أنفسهم يظلمون .
" هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون "(1/193)
لما قرر ربوبيته ، وإلهيته ، ذكر الأدلة العقلية الأفقية ، الدالة على ذلك وعلى كماله ، في أسمائه وصفاته ، من الشمس والقمر ، والسموات والأرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات ، وأخبر أنها آيات " لقوم يعلمون " و " لقوم يتقون " . فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها ، وكيفية استنباط الدلائل على أقرب وجه ، والتقوى تُحدث في القلب الرغبةَ في الخير ، والرهبة من الشر ، الناشئين عن الأدلة والبراهين ، وعن العلم واليقين . وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة ، دال على كمال قدرة الله تعالى ، وعلمه ، وحياته ، وقيوميته ، وما فيها من الأحكام ، والإتقان ، والإبداع والحسن ، دال على كمال حكمة الله ، وحسن خلقه وسعة علمه . وما فيها من أنواع المنافع والمصالح ـ كجعل الشمس ضياء ، والقمر نورا ، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره مما يحصل ـ يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه ، وما فيها من التخصيصات ، دال على مشيئة الله ، وإرادته النافذة . وذلك دال على أنه وحده المعبود ، والمحبوب المحمود ، ذو الجلال والإكرام ، والأوصاف العظام ، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة ، إلا إليه ، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له ، لا لغيره ، من المخلوقات المربوبات ، المفتقرات إلى الله ، في جميع شؤونها . وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكير في مخلوقات الله ، والنظر فيها ، بعين الاعتبار . فإن بذلك تنفسح البصيرة ، ويزداد الإيمان والعقل ، وتقوى القريحة . وفي إهمال ذلك ، تهاون بما أمر الله به ، وإغلاق لزيادة الإيمان ، وجمود للذهن والقريحة .(1/194)
وقوله تعالى: ? قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * ? ( يونس 31-32 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/195)
" قل من يرزقكم من السماء والأرض " بإنزال الأرزاق من السماء ، وإخراج أنواعها من الأرض ، وتيسير أسبابها فيها ؟ " أم من يملك السمع والأبصار " أي : من هو الذي خلقهما وهو مالكهما ؟ وخصهما بالذكر ، من باب التنبيه على المفضول بالفاضل ، ولكمال شرفهما ونفعهما . " ومن يخرج الحي من الميت " كإخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى ، وإخراج المؤمن من الكافر ، والطائر من البيضة ، ونحو ذلك . " ويخرج الميت من الحي " عكس هذه المذكورات . " ومن يدبر الأمر " في العالم العلوي والسفلي ، وهذا شامل لجميع أنواع التدابير الإلهية ، فإنك إذا سألتهم عن ذلك " فسيقولون الله " لأنهم يعترفون بجميع ذلك ، وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات . " فقل " لهم إلزاما بالحجة " أفلا تتقون " الله فتخلصون له العبادة ، وحده لا شريك له ، وتخلعون ما تعبدونه من دونه من الأنداد والأوثان . " فذلكم " الذي وصف نفسه بما وصفها به " الله ربكم " أي : المألوه المعبود المحمود ، المربي جميع الخلق بالنعم وهو : " الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال " . فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء ، الذي ما بالعباد من نعمة ، إلا منه ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يدفع اليسئات إلا هو ، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام . " فأنى تصرفون " عن عبادة من هذا وصفه ، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم ، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ولا نشورا . فليس له من الملك مثقال ذرة ، ولا شركة له بوجه من الوجوه ، ولا يشفع عند الله إلا بإذنه . فتبا لمن أشرك به ، وويحا لمن كفر به ، لقد عدموا عقولهم بعد أن عدموا أديانهم ، بل فقدوا دنياهم وأخراهم . ولهذا قال تعالى عنهم : " كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " بعد أن أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات ما فيه عبرة لأولي(1/196)
الألباب ، وموعظة للمتقين وهدى للعالمين .
وقوله تعالى : ? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?(يونس : 61 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى عن عموم مشاهدته ،واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم وسكناتهم ، وفي ضمن هذا ، الدعوة لمراقبته على الدوام فقال : " وما تكون في شأن " أي : حال من أحوالك الدينية والدنيوية " وما تتلو منه من قرآن " أي : وما تتلو من القرآن ، الذي أوحاه الله إليك . " ولا تعملون من عمل " صغير أو كبير " إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه " أي : وقت شروعكم فيه ، واستمراركم على العمل به . فراقبوا الله في أعمالكم ، وأدوها على وجه النصيحة والاجتهاد فيها ، وإياكم وما يكره الله تعالى ، فإنه مطلع عليكم ، عالم بظواهركم وبواطنكم . " وما يعزب عن ربك " أي : ما يغيب عن علمه وسمعه وبصره ومشاهدته " من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " أي : قد أحاط به علمه ، وجرى به قلمه . وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر ، كثيرا ما يقرن الله بينهما ، وهما : العلم المحيط بجميع الأشياء ، وكتابته المحيطة بجميع الحوادث ، وكقوله تعالى : " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير "...(1/197)
وقوله تعالى :? هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * ? ( يونس 67-68 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه " في النوم والراحة بسبب الظلمة ، التي تغشى وجه الأرض ، فلو استمر الضياء ، لما قروا ، ولما سكنوا . " والنهار مبصرا " أي جعل الله النهار مضيئا ، يبصر به الخلق ، فينصرفون في معايشهم ، ومصالح دينهم ودنياهم ." إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون" عن الله ، سمع فهم ، وقبول ، واسترشاد ، لا سمع تعنت وعناد ، فإن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ، ويستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق ، وأن إلهية ما سواه باطلة ، وأنه الرؤوف الرحيم العليم الحكيم . " قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " يقول تعالى ـ مخبرا عن بهت المشركين لرب العالمين ـ " قالوا اتخذ الله ولدا " ، فنزه نفسه عن ذلك بقوله : " سبحانه " أي : تنزه عما يقول الظالمون ،في نسبة النقائص إليه علوا كبيرا ،ثم برهن عن ذلك ، بعدة براهين : أحدها : قوله : " هو الغني " أي : الغنى منحصر فيه ، وأنواع الغنى مستغرقة فيه ، فهو الغني ، الذي له الغنى التام ، بكل وجه واعتبار ، من جميع الوجوه ، فإذا كان غنيا من كل وجه ، فلأي شيء يتخذ الولد ؟ ألحاجة منه إلى الولد ، فهذا مناف لغناه ، فلا يتخذ أحد ولدا إلا لنقص في غناه . البرهان الثاني ،(1/198)
قوله : " له ما في السماوات وما في الأرض " وهذه كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السموات والأرض ، الجميع مخلوقون عبيد مماليك . ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ، ينافي أن يكون له ولد ، فإن الولد من جنس والده ، لا يكون مخلوقا ولا مملوكا . فملكيته لما في السموات والأرض عموما ، تنافي الولادة . البرهان الثالث ، قوله : " إن عندكم من سلطان بهذا " أي : هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدا ، فلو كان لهم دليل ، لأبدوه . فلما تحداهم وعجزهم على إقامة الدليل ، علم بطلان ما قالوه . وأن ذلك قول بلا علم ، ولهذا قال : " أتقولون على الله ما لا تعلمون " فإن هذا من أعظم المحرمات ." قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " أي : لا ينالون مطلوبهم ، ولا يحصل لهم مقصودهم ، وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم في الدنيا ، قليلا ، ثم ينتقلون إلى الله ، ويرجعون إليه ، فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرن ، " وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون "...
وقوله تعالى: ? وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ * ? ( يونس 99-101 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/199)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا " بأن يلهمهم الإيمان ، ويوزع قلوبهم للتقوى ، فقدرته صالحة لذلك ، ولكنه اقتضت حكمته ، أن كان بعضهم مؤمنين ، وبعضهم كافرين . " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " أي : لا تقدر على ذلك ، وليس في إمكانك ، ولا قدرة لغير الله على شيء من ذلك . " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " بإرادته ومشيئته ، وإذنه القدري الشرعي ، فمن كان من الخلق قابلا لذلك ، ويزكو عنده الإيمان ، وفقه وهداه . " ويجعل الرجس " أي : الشر والضلال " على الذين لا يعقلون " عن الله أوامره ونواهيه ، ولا يلقوا بالا لنصائحه ومواعظه . " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين "يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السموات والأرض . والمراد بذلك : نظر الفكر والاعتبار والتأمل ، لما فيها وما تحتوي عليه والاستبصار ، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ، وعبرا لقوم يوقنون ، تدل على أن الله وحده المعبود المحمود ، ذو الجلال والإكرام ، والأسماء والصفات العظام . " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " فإنهم لا ينتفعون بالآيات لإعراضهم وعنادهم .(1/200)
وقوله تعالى: ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ? ( يونس 104-109 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/201)
" قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني " أي : في ريب واشتباه ، فإني لست في شك منه ، بل لدي العلم اليقين أنه الحق ، وأن ما تدعون من دون الله باطل ، ولي على ذلك الأدلة الواضحة ، والبراهين الساطعة . ولهذا قال تعالى : " فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله " من الأنداد ، والأصنام وغيرهما ، لأنها لا تخلق ولا ترزق ، ولا تدبر شيئا من الأمور ، وإنما هي مخلوقة مسخرة ، ليس فيها ما يقتضي عبادتها . " ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم " أي : هو الله الذي خلقكم ، وهو الذي يميتكم ، ثم يبعثكم ، ليجازيكم بأعمالكم ، فهو الذي يستحق أن يعبد ويُصلّى له ويسجَد . " وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا " أي : أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله ، وأقم جميع شرائع الدين حنيفا ، أي : مقبلا على الله ، معرضا عما سواه ، " ولا تكونن من المشركين " لا في حالهم ، ولا تكن معهم . " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " وهذا وصف لكل مخلوق ، أنه لا ينفع ولا يضر ، وإنما النافع الضار ، هو الله تعالى . " فإن فعلت " أي : دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " فإنك إذا من الظالمين " أي : الضارين أنفسهم بإهلاكها . وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى : " إن الشرك لظلم عظيم " ، فإذا كان خير الخلق ، لو دعا مع الله غيره ، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره ؟(1/202)
" وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم " هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة ، فإنه النافع الضار ، المعطي ، المانع ، الذي إذا مس بضر ، كفقر ومرض ، ونحوها " فلا كاشف له إلا هو " لأن الخلق ، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء ، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله ، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا ، لم يقدروا على شيء من ضرره ، إذا لم يرده . ولهذا قال : " وإن يردك بخير فلا راد لفضله " أي : لا يقدر أحد من الخلق ، أن يرد فضله وإحسانه ، كما قال تعالى : " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده "...." يصيب به من يشاء من عباده " أي : يختص برحمته من شاء من خلقه ، والله ذو الفضل العظيم ، " وهو الغفور " لجميع الزلات ، الذي يوفق عبده ، لأسباب مغفرته ، ثم إذا فعلها العبد ، غفر الله ذنوبه ، كبارها ، وصغارها . " الرحيم " الذي وسعت رحمته كل شيء ووصل جوده إلى جميع الموجودات ، بحيث لا تستغني عن إحسانه طرفة عين . فإذا عرف العبد بالدليل القاطع أن الله هو المفرد بالنعم ، وكشف النقم ، وإعطاء الحسنات ، وكشف السيئات والكربات ، وأن أحدا من الخلق ، ليس بيده من هذا شيء ، إلا ما أجراه الله على يده ، جزم بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل . ولهذا ، لما بين الدليل الواضح قال بعده : " قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين " أي : " قل " يا أيها الرسول ، لما تبين البرهان " يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم "أي : الخبر الصادق المؤيد بالبراهين ، الذي لا شك فيه ، بوجه من الوجوه ، وهو واصل إليكم من ربكم الذي من أعظم تربيته لكم ، أن أنزل إليكم هذا القرآن ، الذي فيه(1/203)
تبيان لكل شيء ، وفيه من أنواع الأحكام والمطالب الإلهية ، والأخلاق المرضية ، ما فيه أعظم تربية لكم ، وإحسان منه إليكم ، فقد تبين الرشد من الغي ، ولم يبق لأحد شبهة . " فمن اهتدى " بهدي الله بأن علم الحق وتفهمه ، وآثره على غيره " فإنما يهتدي لنفسه " والله تعالى غني عن عباده ، وإنما ثمرة أعمالهم ، راجعة إليهم . " ومن ضل " عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق ، أو عن العمل به ، " فإنما يضل عليها " ولا يضر الله شيئا ، فلا يضر إلا نفسه . " وما أنا عليكم بوكيل " فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها ، وإنما أنا لكم نذير مبين ، والله عليكم وكيل . فانظروا لأنفسكم ما دمتم في مدة الإمهال . " واتبع " أيها الرسول " ما يوحى إليك " علما ، وعملا ، وحالا ، ودعوة إليه ، " واصبر " على ذلك ، فإن هذا أعلى أنواع الصبر ، وإن عاقبته حميدة ، فلا تكسل ، ولا تضجر ، بل دم على ذلك واثبت ، " حتى يحكم الله " بينك وبين من كذبك " وهو خير الحاكمين " فإن حكمه مشتمل عل العدل التام ، والقسط الذي يحمد عليه . وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه ، وثبت على الصراط المستقيم ، حتى أظهر الله دينه على سائر الأديان ، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان بعدما نصره الله عليهم ، بالحجة والبرهان . فلله الحمد ، والثناء الحسن ، كما ينبغي لجلاله ، وعظمته ، وكماله ، وسعة إحسانه ....
ومن سورة هود احدى عشرة آية
قوله تعالى: ? أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?(هود : 5-6 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/204)
يخبر تعالى عن جهل المشركين ، وشدة ضلالهم أنهم " يثنون صدورهم " أي : يميلونها " ليستخفوا منه " أي : من الله ، فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله ، بأحوالهم ، وبصره لهيئاتهم . قال تعالى ـ مبينا خطأهم في هذا الظن ـ " ألا حين يستغشون ثيابهم " أي يتغطون بها ، يعلمهم في تلك الحال ، التي هي من أخفى الأشياء . بل " يعلم ما يسرون " من الأقوال والأفعال " وما يعلنون " منها ، بل ما هو أبلغ من ذلك وهو " إنه عليم بذات الصدور " أي : بما فيها من الإرادات ، والوساوس ، والأفكار ، التي لم ينطقوا بها ، لا سرا ولا جهرا ، فكيف تخفى عليه حالكم ، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه . ويحتمل أن المعنى في هذا ، أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول ، الغافلين عن دعوته ، أنهم ـ من شدة إعراضهم ـ يثنون صدورهم ، أي : يحدودبون ، حين يرون الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يراهم ، ويسمعهم دعوته ، ويعظهم بما ينفعهم ، فهل فوق هذا الإعراض شيء ؟ ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم ، وأنهم لا يخفون عليه ، وسيجازيهم بصنيعهم .
" وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " أي : جميع ما دب على وجه الأرض ، من آدمي ، وحيوان ، بري أو بحري ، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم ، فرزقهم على الله . " ويعلم مستقرها ومستودعها " أي : يعلم مستقر هذه الدواب ، وهو : المكان الذي تقيم فيه ، وتستقر فيه ، وتأوي إليه ، ومستودعها : المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها ، وعوارض أحوالها . " كل " من تفاصيل أحوالها " في كتاب مبين " أي : في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة ، والتي تقع في السموات والأرض . الجميع قد أحاط بها علم الله ، وجرى بها قلمه ، ونفذت فيها مشيئته ، ووسعها رزقه . فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها ، وأحاط علما بذواتها ، وصفاتها .(1/205)
وقوله تعالى: ? وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?(هود : 44 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وقيل يا أرض ابلعي ماءك " الذي خرج منك ، والذي نزل إليك ، ابلعي الماء ، الذي على وجهك " ويا سماء أقلعي " فامتثلتا لأمر الله ، فابتلعت الأرض ماءها ، وأقلعت السماء ، " وغيض الماء " أي : نضب من الأرض ، " وقضي الأمر " بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين . " واستوت " السفينة " على الجودي " أي : أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل . " وقيل بعدا للقوم الظالمين " أي : أتبعوا بهلاكهم لعنة وبعدا ، وسحقا ، لا يزال معهم ....
وقوله تعالى : ? إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * ? (هود : - 56-57 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/206)
" إني توكلت على الله " أي : اعتمدت في أمري كله على الله " ربي وربكم " أي : هو خالق الجميع ، ومدبرنا وإياكم ، وهو الذي ربانا . " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها " فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه ، فلو اجتمعتم جميعا على الإيقاع بي ، والله لم يسلطكم علي ، لم تقدروا على ذلك ، فإن سلطكم ، فلحكمة أرادها . " إن ربي على صراط مستقيم " أي : على عدل ، وقسط ، وحكمة ، وحمد في قضائه وقدره ، وشرعه وأمره ، وفي جزائه وثوابه ، وعقابه ، لا تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم ، التي يحمد ، ويثنى عليه بها . " فإن تولوا " عما دعوتكم إليه " فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم " فلم يبق علي تبعة من شأنكم . " ويستخلف ربي قوما غيركم " يقومون بعبادته ، ولا يشركون به شيئا . " ولا تضرونه شيئا " فإن ضرركم ، إنما يعود إليكم ، فالله لا تضره معصية العاصين ، ولا تنفعه طاعة الطائعين " من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها "..." إن ربي على كل شيء حفيظ "
وقوله تعالى:? وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ*وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ*وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * ? ( هود 118- 123 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/207)
قوله تعالى :" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي ، فإن مشيئته غير قاصرة ، ولا يمتنع عليه شيء ، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين ، مخالفين للصراط المستقيم ، متبعين للسبل الموصلة إلى النار ، كل يرى الحق فيما قاله ، والضلال في قول غيره . " إلا من رحم ربك " فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به ، والاتفاق عليه ، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة ، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي . وأما من عداهم فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم . وقوله : " ولذلك خلقهم " أي : اقتضت حكمته ، أنه خلقهم ، ليكون منهم السعداء والأشقياء ، والمتفقون والمختلفون ، والفريق الذي هدى الله ، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة ، ليتبين للعباد عدله ، وحكمته ، وليظهر ما كمن من الطباع البشرية من الخير والشر ، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء . ( و ) لأنه " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " فلا بد أن ييسر للنار أهلا ، يعملون بأعمالها الموصلة إليها . " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون " لما ذكر في هذه السورة من أخبار الأنبياء ، ما ذكر ، ذكر الحكمة في ذكر ذلك فقال : " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك " أي ، قلبك ليطمئن ، ويثبت ، وتصبر ، كما صبر أولو العزم من الرسل . فإن النفوس تأنس بالاقتداء ، وتنشط على الأعمال ، وتريد المنافسة لغيرها ، ويتأيد الحق بذكر شواهده ، وكثرة من قام به .(1/208)
" وجاءك في هذه " السورة " الحق " اليقين ، فلا شك فيه بوجه من الوجوه ، فالعلم بذلك من العلم بالحق الذي هو أكبر فضائل النفوس . " وموعظة وذكرى للمؤمنين " أي : يتعظون به ، فيرتدعون عن الأمور المكروهة ، ويتذكرون الأمور المحبوبة لله ، فيفعلونها . وأما من ليس من أهل الإيمان ، فلا تنفعهم المواعظ ، وأنواع التذكير ، ولهذا قال : " وقل للذين لا يؤمنون " بعدما قامت عليهم الآيات ، " اعملوا على مكانتكم " أي : حالتكم التي أنتم عليها " إنا عاملون " على ما كنا عليه " وانتظروا " ما يحل بنا " إنا منتظرون " ما يحل بكم . وقد فصل الله بين الفريقين ، وأرى عباده نصره لعباده المؤمنين ، وقمعه لأعداء الله المكذبين . " ولله غيب السماوات والأرض " أي : ما غاب فيهما من الخفايا ، والأمور الغيبية ." وإليه يرجع الأمر كله " من الأعمال والعمال ، فيميز الخبيث من الطيب . " فاعبده وتوكل عليه " أي : قم بعبادته ، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه ، وتوكل على الله في ذلك . " وما ربك بغافل عما تعملون " من الخير والشر ، بل قد أحاط علمه بذلك ، وجرى به قلمه ، وسيجري عليه حكمه ، وجزاؤه .
ومن سورة الرعد تسع عشرة آية(1/209)
قوله تعالى ? المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ * اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * ? ( الرعد 1- 4 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " يخبر تعالى : أن هذا القرآن ، هو آيات الكتاب الدالة على كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه ، وأن الذي أنزل إلى الرسول من ربه ، هو الحق المبين ، لأن إخباره صدق ، وأوامره ونواهيه عدل ، مؤيدة بالأدلة والبراهين القاطعة ، فمن أقبل عليه وعلى علمه كان من أهل العلم بالحق ، الذي يوجب لهم علمهم به ، العمل بما أوجب الله . " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " بهذا القرآن ، إما جهلا ، وإعراضا عنه ، وعدم اهتمام به ، وإما عنادا وظلما ، فلذلك أكثر الناس ، غير منتفعين به ، لعدم السبب الموجب للانتفاع .(1/210)
" الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير ، والعظمة والسلطان ، الدال على أنه وحده المعبود ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال : " الله الذي رفع السماوات " على عظمها واتساعها ، بقدرته العظيمة ، " بغير عمد ترونها " أي : ليس لها عمد من تحتها ، فإنه لو كان لها عمد ، لرأيتموها ، " ثم " بعد ما خلق السموات والأرض " استوى على العرش " العظيم الذي هو أعلى المخلوقات ، استواء يليق بجلاله ، ويناسب كماله . " وسخر الشمس والقمر " لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم ، " كل " من الشمس والقمر " يجري " بتدبير العزيز العليم ، " إلى أجل مسمى " بسير منتظم ، لا يفتران ، ولا ينيان ، حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم ، ونقلهم إلى الدار الآخرة ، التي هي دار القرار ، فعند ذلك يطوي الله السموات ، ويبدلها ، ويغير الأرض ويبدلها . فتكور الشمس والقمر ، ويجمع بينهما ، فيلقيان في النار ، ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة؛ فيتحسر بذلك أشد الحسرة ، وليعلم الذين كفروا ، أنهم كانوا كاذبين . وقوله : " يدبر الأمر يفصل الآيات " هذا جمع بين الخلق والأمر ، أي : قد استوى الله العظيم على سرير الملك ، يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي ، فيخلق ويرزق ، ويغني ، ويفقر ، ويرفع أقواما ، ويضع آخرين ، ويعز ويذل ، ويخفض ويرفع ، ويقيل العثرات ، ويفرج الكربات ، وينفذ الأقدار في أوقاتها ، التي سبق بها علمه ، وجرى بها(1/211)
قلمه ، ويرسل ملائكته الكرام ، لتدبير ما جعلهم على تدبيره . وينزل الكتب الإلهية على رسله ، ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع ، والأوامر والنواهي ، ويفصلها غاية التفصيل ، ببيانها ، وإيضاحها وتمييزها ، " لعلكم " بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية ، والآيات القرآنية ، " بلقاء ربكم توقنون " فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها ، من أسباب حصول اليقين ، في جميع الأمور الإلهية ، خصوصا في العقائد الكبار ، كالبعث والنشور والإخراج من القبور . وأيضا ، فقد علم أن الله تعالى ، حكيم لا يخلق الخلق سدى ، ولا يتركهم عبثا ، فكما أنه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، لأمر العباد ونهيهم ، فلا بد أن ينقلهم إلى دار ، يحل فيها جزاؤه ، فيجازي المحسنين بأحسن الجزاء ، ويجازي المسيئين بإساءتهم . " وهو الذي مد الأرض " أي : خلقها للعباد ، ووسعها ، وبارك فيها ، ومدها للعباد ، وأودع فيها من مصالحهم ما أودع ، " وجعل فيها رواسي " أي : جبالا عظاما ، لئلا تميد بالخلق ، فإنه لولا الجبال ، لمادت بأهلها ، لأنها على تيار ماء ، لا ثبوت لها ، ولا استقرار ، إلا بالجبال الرواسي ، التي جعلها الله أوتادا لها . ( و ) جعل فيها " أنهارا " تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم ، فأخرج بها من الأشجار والزروع والثمار ، خيرا كثيرا ولهذا قال : " ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين " أي : صنفين ، مما يحتاج إليه العباد . " يغشي الليل النهار " فتظلم الآفاق ، فيسكن كل حيوان إلى مأواه ، ويستريحون من التعب والنصب في النهار ، ثم إذا قضوا مأربهم من النوم ، غشي النهار الليل ، فإذا هم مصبحون ينتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار . " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون "..." إن في ذلك لآيات " على المطالب الإلهية " لقوم يتفكرون " فيها ، وينظرون فيها نظرة اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها ، وصرفها ، هو الله الذي(1/212)
لا إله إلا هو ، ولا معبود سواه ، وأنه عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، وأنه القادر على كل شيء ، الحكيم في كل شيء ، المحمود على ما خلقه وأمر به ، تبارك وتعالى . ( و ) من الآيات على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، " وفي الأرض قطع متجاورات وجنات " فيها أنواع الأشجار " من أعناب وزرع ونخيل " وغير ذلك ، والنخيل التي بعضها " صنوان " أي : عدة أشجار في أصل واحد ، " وغير صنوان " بأن كان كل شجرة على حدتها ، والجميع " يسقى بماء واحد " وأرضه واحدة " ونفضل بعضها على بعض في الأكل " لونا ، وطعما ، ونفعا ، ولذة؛ فهذه أرض طيبة ، تنبت الكلأ والعشب الكثير ، والأشجار والزروع ، وهذه أرض تلاصقها ، لا تنبت كلأ ، ولا تمسك ماء . وهذه تمسك الماء ، ولا تنبت الكلأ ، وهذه تنبت الزرع والأشجار ، ولا تنبت الكلأ ، وهذه الثمرة حلوة ، وهذه مرة ، وهذه بين ذلك . فهل هذا التنوع ، في ذاتها ، وطبيعتها ؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم ؟ " إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " أي : لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم ، وتقودهم إلى ما يرشدون به ويعقلون عن الله ، وصاياه وأوامره ونواهيه ، وأما أهل الإعراض ، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون ، وفي غيهم يترددون ، لا يهتدون إلى ربهم سبيلا ، ولا يعون له قيلا .
وقوله تعالى :? اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ* عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ* سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) ?(الرعد : 8 - 10 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/213)
يخبر تعالى ، بعموم علمه ، وسعة اطلاعه ، وإحاطته بكل شيء فقال : الله يعلم ما تحمل كل أنثى " من بني آدم وغيرهم ، " وما تغيض الأرحام " أي : تنقص مما فيها ، إما أن يهلك الحمل ، أو يتضاءل أو يضمحل ، " وما تزداد " الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها ، " وكل شيء عنده بمقدار " لا يتقدم عليه ولا يتأخر ، ولا يزيد ، ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه . فإنه " عالم الغيب والشهادة الكبير " في ذاته ، وأسمائه ، وصفاته " المتعال " على جميع خلقه ، بذاته وقدرته ، وقهره ... " سواء منكم " في علمه وسمعه ، وبصره . " من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل " أي : مستقر بمكان خفي فيه ، " وسارب بالنهار " أي : داخل سربه في النهار ، والسرب هو : ما يستخفي فيه الإنسان ، إما جوف بيته ، أو غار ، أو مغارة ، أو نحو ذلك(1/214)
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ*لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ * وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ * لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ(1/215)
يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * ? ( هود 11- 18 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ " ..." له " أي : للإنسان " معقبات " من الملائكة ، يتعاقبون في الليل والنهار . " من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " أي : يحفظون بدنه وروحه ، من كل من يريده بسوء ، ويحفظون عليه أعماله ، وهم ملازمون له دائما . فكما أن علم الله محيط به ، فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد ، بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم ، ولا ينسى منها شيء ، " إن الله لا يغير ما بقوم " من النعمة والإحسان ، ورغد العيش " حتى يغيروا ما بأنفسهم " بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ، ومن الطاعة إلى المعصية ، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها ، فيسلبهم الله إياها عند ذلك . وكذلك إذا غير العباد ، ما بأنفسهم من المعصية ، فانتقلوا إلى طاعة الله ، غير الله عليهم ، ما كانوا فيه من الشقاء ، إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة ، " وإذا أراد الله بقوم سوءا " أي : عذابا وشدة ، وأمرا يكرهونه ،فإن إرادته ، لا بد أن تنفذ فيهم . " فلا مرد له " ولا أحد يمنعهم منه ، " وما لهم من دونه من وال " يتولى أمورهم ، فيجلب لهم المحبوب ، ويدفع عنهم المكروه ، فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله ، خشية أن يحل بهم من العقاب ما لا يرد عن القوم المجرمين . "هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " يقول تعالى : " هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا " أي : يخاف منه الصواعق والهدم ، وأنواع الضرر ،(1/216)
على بعض الثمار ونحوها ، ويطمع في خيره ونفعه ، " وينشئ السحاب الثقال " بالمطر الغزير ، الذي به نفع العباد والبلاد . " ويسبح الرعد بحمده " وهو الصوت ، الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد ، فهو خاضع لربه ، مسبح بحمده ، ( و ) تسبح " والملائكة من خيفته " أي : خشعا لربهم ، خائفين من سطوته ، " ويرسل الصواعق " وهي هذه النار ، التي تخرج من السحاب ، " فيصيب بها من يشاء " من عباده ، بحسب ما شاءه وأراده " وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " أي : شديد الحول والقوة ، فلا يريد شيئا إلا فعله ، ولا يتعاصى عليه شيء ، ولا يفوته هارب . " له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " فإذا كان هو وحده ، الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب ، التي فيها مادة أرزاقهم ، وهو الذي يدبر الأمور ، وتخضع له المخلوقات العظام ، التي يخاف منها ، وتزعج العباد ، وهو شديد القوة ـ فهو الذي يستحق أن يعبد وحده ولا شريك له ، ولهذا قال : " له دعوة الحق " إلى " إلا في ضلال "..." له " أي : لله وحده " دعوة الحق " وهي : عبادته وحده لا شريك له وإخلاص دعاء العبادة ، ودعاء المسألة له تعالى . أي : هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء ، والخوف والرجاء ، والحب ، والرغبة ، والرهبة ، والإنابة ، لأن ألوهيته ، هي الحق ، وألوهية غيره باطلة ، " والذين يدعون من دونه " من الأوثان ، والأنداد ، التي جعلوها شركاء لله . " لا يستجيبون لهم " أي : لمن يدعوها ويعبدها ، بشيء قليل ولا كثير ، لا من أمور الدنيا ، ولا من أمور الآخرة ، " إلا كباسط كفيه إلى الماء " الذي لا تناله كفاه لبعده ، " ليبلغ " ببسط كفيه إلى الماء " فاه " ، فإنه عطشان ، ومن شدة عطشه ، يتناول بيده ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه ، فلا يصل إليه . كذلك الكفار ، الذين يدعون مع الله آلهة ، لا(1/217)
يستجيبون لهم بشيء ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة ، لأنهم فقراء ، كما أن من دعوهم فقراء ، لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وما لهم فيهما من شرك ، وما له منهم من ظهير . " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " لبطلان ما يدعون من دون الله ، فبطلت عبادتهم ودعاؤهم ، لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها ، ولما كان الله تعالى ، هو الملك الحق المبين ، كانت عبادته حقا ، متصلة النفع بصاحبها في الدنيا والآخرة . وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله ، بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة؛ فإن ذلك تشبيه بأمر محال ، فكما أن هذا محال ، فالمشبه به محال ، والتعليق على المحال ، من أبلغ ما يكون في نفي الشيء كما قال تعالى : " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط "...
" ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال " أي جميع ما احتوت عليه السموات والأرض كلها ، خاضعة لربها ، تسجد له " طوعا وكرها " . فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع ، اختيارا ، كالمؤمنين ، والكره ، لمن يستكبر عن عبادة ربه ، وحاله وفطرته ، تكذبه في ذلك . " وظلالهم بالغدو والآصال " أي : وتسجد له ظلال المخلوقات ، أول النهار وآخره ، وسجود كل شيء ، بحسب حاله كما قال تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " . فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها ، كان هو الإله حقا ، المعبود المحمود حقا ، وإلاهية غيره باطلة ، ولهذا ذكر بطلانها وبرهن عليه بقوله : " قل من رب السماوات " إلى " الواحد القهار "...(1/218)
" قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار " أي : قل لهؤلاء المشركين به ، أوثانا وأندادا ، يحبونها كما يحبون الله ، ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات : أفتاهت عقولكم ، حتى اتخذتم من دونه أولياء ، تتولونهم بالعبادة ، وليسوا بأهل لذلك ؟ فإنهم " لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا " ، وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء والصفات ، المالك للأحياء والأموات ، الذي بيده الخلق والتدبير ، والنفع والضر ؟ فما تستوي عبادة الله وحده ، وعبادة المشركين به ، " قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور " ؟ فإن كان عندهم شك واشتباه ، وجعلوا له شركاء ، زعموا أنهم خلقوا كخلقه ، وفعلوا كفعله ، فأزل عنهم هذا الاشتباه واللبس ، بالبرهان الدال على تفرد الإله بالوحدانية ، فقل لهم : " الله خالق كل شيء " فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه . ومن المحال أيضا ، أن يوجد من دون خالق ، فتعين أن لها إلها خالقا ، لا شريك له في خلقه ، لأنه الواحد القهار ، فإنه لا توجد الوحدة والقهر ، إلا لله وحده ، فالمخلوقات وكل مخلوق ، فوقه مخلوق يقهره ثم فوق ذلك القاهر ، قاهر أعلى منه ، حتى ينتهي القهر للواحد القهار . فالقهر والتوحيد ، متلازمان ، متعينان لله وحده ، فتبين بالدليل العقلي القاهر ، أن ما يدعى من دون الله ، ليس له شيء من خلق المخلوقات ، وبذلك كانت عبادته باطلة . " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " شبه تعالى الهدى ، الذي(1/219)
أنزل على رسوله لحياة القلوب والأرواح ، بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح . وشبه ما في الهدى من النفع العام الكثير ، الذي يضطر إليه العباد ، بما في المطر من النفع العام الضروري ، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها ، بالأودية التي تسيل فيها السيول ، فواد كبير ، يسع ماء كثيرا ، كقلب كبير ، يسع علما كثيرا ، وواد صغير ، يأخذ ماء قليلا ، كقلب صغير ، يسع علما قليلا ، وهكذا . وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات ، عند وصول الحق إليها ، بالزبد الذي يعلو الماء ، ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها ، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له ، حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي ، والحلية الخالصة . كذلك الشبهات والشهوات ، لا يزال القلب يكرهها ، ويجاهدها بالبراهين الصادقة ، والإرادات الجازمة ، حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى القلب خالصا صافيا ، ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق ، وإيثاره ، والرغبة فيه ، فالباطل يذهب ويمحقه الحق " إن الباطل كان زهوقا " ، وقال هنا : " كذلك يضرب الله الأمثال " ليتضح الحق من الباطل والهدى من الضلال .(1/220)
" للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد " لما بين تعالى ، الحق من الباطل ، ذكر أن الناس على قسمين : مستجيب لربه ، فذكر ثوابه ، وغير مستجيب ، فذكر عقابه فقال :" للذين استجابوا لربهم " أي : انقادت قلوبهم للعلم والإيمان ، وجوارحهم للأمر والنهي ، وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم ، فلهم " الحسنى " أي : الحالة الحسنة ، والثواب الحسن . فلهم من الصفات أجلها ، ومن المناقب أفضلها . ومن الثواب العاجل والآجل ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . " والذين لم يستجيبوا له " بعد ما ضرب لهم الأمثال ، وبين لهم الحق ، لهم الحالة غير الحسنة ، و " لو أن لهم ما في الأرض جميعا " من ذهب وفضة وغيرها ، " ومثله معه لافتدوا به " من عذاب يوم القيامة ، ما تقبل منهم ، وأنى لهم ذلك ؟ " أولئك لهم سوء الحساب " ، وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه ، من عمل سيىء ، وما ضيعوه من حقوق عباده قد كتب ذلك ، وسطر عليهم ، وقالوا : " يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " . بعد هذا الحساب السيىء " مأواهم جهنم " الجامعة لكل عذاب ، من الجوع الشديد ، والعطش الوجيع ، والنار الحامية ، والزقوم ، والزمهرير ، والضريع ، وجميع ما ذكره الله من أصناف العذاب ، " وبئس المهاد " أي : المقر ، والمسكن ، مسكنهم .
ومن سورة ابراهيم تسع آيات
قوله تعالى :? الَركِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * ? (إبراهيم : 1 - 2 )(1/221)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد " يخبر تعالى ، أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، لنفع الخلق ، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة ، وأنواع المعاصي ، إلى نور العلم والإيمان ، والأخلاق الحسنة ، وقوله : " بإذن ربهم " أي : لا يحصل منهم المراد المحبوب لله ، إلا بإرادة من الله ومعونة ، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم . ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب ، فقال : " إلى صراط العزيز الحميد " أي : الموصل إليه وإلى دار كرامته ، المشتمل على العلم بالحق والعمل به ، وفي ذكر " العزيز الحميد " بعد ذكر الصراط الموصل إليه ، إشارة إلى أن من سلكه ، فهو عزيز بعزة الله ، قوي ، ولو لم يكن له أنصار إلا الله ، محمود في أموره ، حسن العاقبة . وليدل ذلك على أن صراط الله ، من أكبر الأدلة على ما لله ، من صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، وأن الذي نصبه لعباده ، عزيز السلطان ، حميد ، في أقواله ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأنه مألوه معبود بالعبادات ، التي هي منازل الصراط المستقيم ، وأنه كما أن له ملك السموات والأرض ، خلقا ورزقا ، وتدبيرا ، فله الحكم على عباده بأحكامه الدينية ، لأنهم ملكه ، ولا يليق به أن يتركهم سدى ، فلما بين الدليل والبرهان ، توعد من لم ينقد لذلك فقال : " وويل للكافرين من عذاب شديد " لا يقدر قدره ، ولا يوصف أمره ثم وصفهم بأنهم . " الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة " فرضوا بها ، واطمأنوا ، وغفلوا عن الدار الآخرة . " ويصدون " الناس " عن سبيل الله " التي نصبها لعباده ، وبينها في كتبه ، وعلى ألسنة(1/222)
رسله ، فهؤلاء قد نابذوا مولاهم بالمعاداة والمحاربة ، " ويبغونها " أي : سبيل الله " عوجا " أي : يحرصون على تهجينها وتقبيحها ، للتنفير منها ، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . " أولئك " الذين ذكر وصفهم " في ضلال بعيد " لأنهم ضلوا ، وأضلوا وشاقوا الله ورسوله ، وحاربوهم . فأي ضلال أبعد من هذا ؟ ، وأما أهل الإيمان ، فعكس هؤلاء ، يؤمنون بالله وآياته ، ويستحبون الآخرة على الدنيا ، ويدعون إلى سبيل الله ويحسنونها ، مهما أمكنهم ، ويبغون استقامتها .
وقوله تعالى : ? اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ? (إبراهيم : 32 - 33 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/223)
يخبر تعالى : أنه وحده " الذي خلق السماوات والأرض " على اتساعهما وعظمهما ، " وأنزل من السماء ماء " وهو : المطر الذي ينزله الله من السحاب ، " فأخرج به " أي : بذلك الماء " من الثمرات " المختلفة الأنواع . " رزقا لكم " ورزقا لأنعامكم . " وسخر لكم الفلك " أي : السفن والمراكب ، " لتجري في البحر بأمره " فهو الذي يسر لكم صنعتها ، وأقدركم عليها ، وحفظها على تيار الماء ، لتحملكم ، وتحمل تجاراتكم وأمتعتكم ، إلى بلد تقصدونه . " وسخر لكم الأنهار " لتسقي حروثكم وأشجاركم ، وتشربوا منها . " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " لا يفتران ، ولا ينيان ، يسعيان لمصالحكم ، من حساب أزمنتكم ومصالح أبدانكم ، وحيواناتكم ، وزروعكم ، وثماركم ، " وسخر لكم الليل " لتسكنوا فيه " والنهار " مبصرا ، لتبتغوا من فضله . " وآتاكم من كل ما سألتموه " أي : أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم ، مما تسألونه إياه . بلسان الحال ، أو بلسان المقال ، من أنعام ، وآلات ، وصناعات وغير ذلك . " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فضلا عن قيامكم بشكرها " إن الإنسان لظلوم كفار " أي : هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرىء على المعاصي ، مقصر في حقوق ربه ، كفار لنعم الله ، لا يشكرها ولا يعترف بها ، إلا من هداه الله ، فشكر نعمه ، وعرف حق ربه ، وقام به . ففي هذه الآيات ، من أصناف نعم الله على العباد ، شيء عظيم ، مجمل ، ومفصل ، يدعو الله به العباد إلى القيام بشكره وذكره ، ويحثهم على ذلك ، ويرغبهم في سؤاله ودعائه ، آناء الليل والنهار ، كما أن نعمته ، تتكرر عليهم ، في جميع الأوقات .(1/224)
وقوله تعالى :? يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ* هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * ? (إبراهيم : 48 - 52 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/225)
" يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " تبدل غير السموات ، وهذا التبديل ، تبديل صفات ، لا تبديل ذات ، فإن الأرض يوم القيامة تسوى وتمد كمد الأديم ، ويلقى ما على ظهرها من جبل ومعلم ، فتصير قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وتكون السماء ، كالمهل ، من شدة أهوال ذلك اليوم ، ثم يطويها الله تعالى بيمينه . " وبرزوا " أي : الخلائق من قبورهم إلى يوم بعثهم ، ونشورهم في محل لا يخفى منهم على الله شيء ، " لله الواحد القهار " أي : المتفرد بعظمته وأسمائه وصفاته ، وأفعاله العظيمة ، وقهره لكل العوالم فكلها تحت تصرفه وتدبيره ، فلا يتحرك منها متحرك ، ولا يسكن ساكن إلا بإذنه . " وترى المجرمين " أي : الذين وصفهم الإجرام ، وكثرة الذنوب ، " يومئذ " في ذلك اليوم " مقرنين في الأصفاد " أي : يسلسل كل أهل عمل من المجرمين ، بسلاسل من نار ، فيقادون إلى العذاب ، في أذل صورة وأشنعها ، وأبشعها . " سرابيلهم " أي : ثيابهم " من قطران " وذلك لشدة اشتعال النار فيهم وحرارتها ، ونتن ريحها ، " وتغشى وجوههم " التي هي أشرف ما في أبدانهم " النار " أي : تحيط بها ، وتصلاها من كل جانب ، وغير الوجوه من باب أولى وأحرى ، وليس هذا ظلما من الله ، وإنما هو جزاء لما قدموا وكسبوا ، ولهذا قال تعالى : " ليجزي الله كل نفس ما كسبت " من خير وشر ، بالعدل والقسط ، الذي لا جور فيه بوجه من الوجوه . " إن الله سريع الحساب " كقوله تعالى : " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " ، ويحتمل أن معناه : سريع المحاسبة ، فيحاسب الخلق في ساعة واحدة ما يرزقهم ويدبرهم بأنواع التدابير ، في لحظة واحدة ، لا يشغله شأن عن شأن ، وليس ذلك بعسير عليه سبحانه . فلما بين البيان المبين في هذا القرآن ، قال في مدحه : " هذا بلاغ للناس " أي : يتبلغون به ، ويتزودون إلى الوصول إلى أعلى المقامات وأفضل الكرامات ، لما اشتمل عليه من الأصول والفروع ، وجميع العلوم(1/226)
التي يحتاجها العباد . " ولينذروا به " لما فيه من الترهيب من أعمال الشر ، وما أعد الله لأهلها من العقاب ، " وليعلموا أنما هو إله واحد " حيث صرف فيه من الأدلة والبراهين ، على ألوهيته ووحدانيته ، ما صار ذلك حق اليقين . " وليذكر أولوا الألباب " أي : العقول الكاملة ، ما ينفعهم ، فيفعلونه وما يضرهم ، فيتركونه ، وبذلك صاروا أولي الألباب والبصائر . إذ بالقرآن ، ازدادت معارفهم وآراؤهم ، وتنورت أفكارهم ، لما أخذوه غضا طريا ، فإنه لا يدعو إلا إلى أعلى الأخلاق والأعمال وأفضلها ، ولا يستدل على ذلك إلا بأقوى الأدلة وأبينها . وهذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي ، لم يزل في صعود ورقي على الدوام في كل خصلة حميدة ...
ومن سورة الحجر تسع آيات
قوله تعالى :? وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ*وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ *وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ * ? ( الحجر 19-27 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/227)
" والأرض مددناها " أي : وسعناها سعة ، يتمكن الآدميون والحيوانات كلها ، من الامتداد بأرجائها ، والتناول من أرزاقها ، والسكون في نواحيها . " وألقينا فيها رواسي " أي : جبالا عظاما ، تحفظ الأرض بإذن الله ، أن تميد ، وتثبتها أن تزول ، " وأنبتنا فيها من كل شيء موزون " أي : نافع متقوم ، يضطر إليه العباد والبلاد ، ما بين نخيل ، وأعناب ، وأصناف الأشجار ، وأنواع النبات ، والمعادن . " وجعلنا لكم فيها معايش " من الحرث ، ومن الماشية ، ومن أنواع المكاسب والحرف . " ومن لستم له برازقين " أي : أنعمنا عليكم بعبيد وإماء ، وأنعام ، لنفعكم ، ومصالحكم ، وليس عليكم رزقها ، بل خولكم الله إياها ، وتكفل بأرزاقها . " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين " أي : جميع الأرزاق وأصناف الأقدار ، لا يملكها أحد إلا الله ، فخزائنها بيده ، يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، بحسب حكمته ورحمته الواسعة ، " وما ننزله " أي : المقدر من كل شيء ، من مطر وغيره ، " إلا بقدر معلوم " فلا يزيد على ما قدره الله ، ولا ينقص منه . أي : وسخرنا الرياح ، رياح الرحمة ، تلقح السحاب ، كما يلقح الذكر الأنثى ، فينشأ عن ذلك ، الماء ، بإذن الله ، فيسقيه الله العباد ، ومواشيهم ، وأرضهم ، ويبقى في الأرض مدخرا لحاجاتهم وضروراتهم ، ما هو مقتضى قدرته ورحمته ، " وما أنتم له بخازنين " أي : لا قدرة لكم على خزنه وادخاره ، ولكن الله يخزنه لكم ، ويسلكه ينابيع في الأرض ، رحمة بكم ، وإحسانا إليكم . " وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم " أي : هو وحده ، لا شريك له ، الذي يحيي الخلق من العدم ، بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ويميتهم لآجالهم ، التي قدرها " ونحن الوارثون " كقوله : " إنا نحن(1/228)
نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون " ، وليس ذلك بعزيز ، ولا ممتنع على الله ، فإنه تعالى يعلم المستقدمين من الخلق والمستأخرين منهم ، ويعلم ما تنقص الأرض منهم ، وما تفرق من أجزائهم ، وهو الذي ، قدرته لا يعجزها معجز ، فيعيد عباده خلقا جديدا ، ويحشرهم إليه . " إنه حكيم عليم " يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها ، ويجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) يذكر تعالى نعمته وإحسانه على أبينا آدم عليه السلام ، وما جرى من عدوه إبليس ، وفي ضمن ذلك ، التحذير لنا من شره وفتنته ، فقال تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان " أي آدم عليه السلام " من صلصال من حمإ مسنون " أي : من طين قد يبس ، بعدما خمر حتى صار له صلصلة وصوت ، كصوت الفخار . والحمأ المسنون ، الطين المتغير لونه وريحه ، من طول مكثه . " والجان " وهو : أبو الجن أي : إبليس " خلقناه من قبل " خلق آدم " من نار السموم " أي : من النار الشديدة الحرارة ....
ومن سورة النحل تسع وأربعون آية(1/229)
قوله تعالى ? أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ *خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ *وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ*يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ*وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ(1/230)
بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ *أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * ? (النحل 1-19 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون " يقول تعالى ـ مقربا لما وعد به محققا لوقوعه ـ : " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " ، فإنه آت ، وما هو آت فإنه قريب ، " سبحانه وتعالى عما يشركون " من نسبة الشريك ، والولد والصاحبة ، والكفء ، وغير ذلك ، مما نسبه إليه المشركون ، مما لا يليق بجلاله ، أو ينافي كماله ، ولما نزه نفسه عما وصفه به أعداؤه ، ذكر الوحي الذي ينزله على أنبيائه ، مما يجب اتباعه ، في ذكر ما ينسب لله ، من صفات الكمال فقال : " ينزل الملائكة بالروح من أمره " أي : بالوحي الذي به حياة الأرواح " على من يشاء من عباده " ممن يعلمه صالحا ، لتحمل رسالته . وزبدة دعوة الرسل كلهم ومدارها ، على قوله : " أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا " ، أي : على معرفة الله تعالى وتوحده ، في صفات العظمة ، التي هي صفات الألوهية ، وعبادته وحده لا شريك له ، فهي التي أنزل بها كتبه ، وأرسل بها رسله ، وجعل الشرائع كلها تدعو إليها ، وتحث وتجاهد من حاربها ، وقام بضدها ، ثم ذكر الأدلة والبراهين على ذلك . " خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها(1/231)
وزينة ويخلق ما لا تعلمون وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين " فقال : " خلق السماوات " إلى " لهداكم أجمعين "
، هذه السورة ، تسمى سورة النعم ، فإن الله ذكر في أولها ، أصول النعم وقواعدها ، وفي آخرها ، متمماتها ومكملاتها ، فأخبر أنه خلق السموات والأرض بالحق ، ليستدل بهما العباد على عظمة خالقهما ، وما له من نعوت الكمال ، ويعلموا أنه خلقهما سكنا لعباده الذين يعبدونه ، بما يأمرهم به ، في الشرائع التي أنزلها على ألسنة رسله ، ولهذا نزه نفسه عن شرك المشركين به فقال : " تعالى عما يشركون " أي : تنزه وتعاظم عن شركهم ، فإنه الإله حقا ، الذي لا تنبغي العبادة ، والحب ، والذل ، إلا له تعالى ، ولما ذكر خلق السموات والأرض ، ذكر خلق ما فيهما . وبدأ بأشرف ذلك وهو الإنسان فقال : " خلق الإنسان من نطفة " لم يزل يدبرها ، ويربيها ، وينميها ، حتى صارت بشرا تاما ، كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة ، قد غمره بنعمه الغزيرة ، حتى إذا استتم ، فخر بنفسه وأعجب بها " فإذا هو خصيم مبين " ، يحتمل أن المراد : فإذا هو خصيم لربه ، يكفر به ، ويجادل رسله ، ويكذب بآياته . ونسي خلقه الأول ، وما أنعم الله عليه به ، من النعم ، فاستعان بها على معاصيه ، ويحتمل أن المعنى : أن الله أنشأ الآدمي من نطفة ، ثم لم يزل ينقله من طور إلى طور ، حتى صار عاقلا متكلما ، ذا ذهن ورأي ، يخاصم ويجادل ، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال ، التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها . " والأنعام خلقها لكم " أي : لأجلكم ، ولأجل منافعكم ومصالحكم ، ومن جملة منافعها العظيمة " لكم فيها دفء " مما تتخذون من أصوافها وأوبارها ، وأشعارها ، وجلودها ، من الثياب ، والفرش ، والبيوت.( و ) لكم فيها " منافع " غير ذلك " ومنها تأكلون "." ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون " أي : في وقت رواحها وسكونها ، ووقت حركتها وسرحها ، وذلك أن(1/232)
جمالها ، لا يعود إليها منه شيء ، فإنكم أنتم الذين تتجملون بها ، بثيابكم ، وأولادكم ، وأموالكم ، وتعجبون بذلك ، " وتحمل أثقالكم " من الأحمال الثقيلة ، بل وتحملكم أنتم " إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس " ولكن الله ذللها لكم . فمنها ما تركبونه ، ومنها ما تحملون عليه ما تشاؤون ، من الأثقال ، إلى البلدان البعيدة ، والأقطار الشاسعة ، " إن ربكم لرؤوف رحيم " إنه سخر لكم ما تضطرون إليه وتحتاجونه ، فله الحمد ، كما ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم سلطانه ، وسعة جوده وبره . " والخيل والبغال والحمير " سخرناها لكم " لتركبوها وزينة " ، أي : تارة تستعملونها للضرورة في الركوب ، وتارة لأجل الجمال والزينة ، ولم يذكر الأكل ، لأن البغال والحمير ، محرم أكلها ، والخيل لا تستعمل ـ في الغالب ـ للأكل ، بل ينهى عن ذبحها لأجل الأكل ، خوفا من انقطاعها ، وإلا فقد ثبت في الصحيحين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أذن في لحوم الخيل . " ويخلق ما لا تعلمون " مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء ، التي يركبها الخلق في البر ، والبحر ، والجو ، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم فإنه لم يذكرها بأعيانها ، لأن الله تعالى لم يذكر في كتابه ، إلا ما يعرفه العباد ، أو يعرفون نظيره . وأما ما ليس له نظير في زمانهم ، فإنه لو ذكر لم يعرفوه ، ولم يفهموا المراد به . فيذكر أصلا جامعا ، يدخل فيه ما يعلمون ، وما لا يعلمون . كما ذكر نعيم الجنة ، سمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره ، كالنخل والأعناب والرمان ، وأجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله : " فيهما من كل فاكهة زوجان " . فكذلك هنا ، ذكر ما نعرفه ، من المراكب ، كالخيل ، والبغال ، والحمير ، والإبل ، والسفن ، وأجمل الباقي في قوله : " ويخلق ما لا تعلمون " ، ولما ذكر تعالى ، الطريق الحسنى ، وأن الله قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل وغيرها ، ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال : " وعلى(1/233)
الله قصد السبيل " أي : الصراط المستقيم ، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها ، موصل إلى الله ، وإلى كرامته . وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله ، وهو : كل ما خالف الصراط المستقيم ، فهو قاطع عن الله ، موصل إلى دار الشقاء ، فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم ، وضل الغاوون عنه ، وسلكوا الطرق الجائرة ، " ولو شاء لهداكم أجمعين " ولكنه هدى بعضا ، كرما وفضلا ، ولم يهد آخرين ، حكمة منه وعدلا .
" هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " ينبه الله تعالى بهذه الآية الإنسان على عظمة قدرته وحثهم على التفكير حيث ختمها بقوله : " لقوم يتفكرون " على كمال قدرة الله ، الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف ، ورحمته ، حيث جعل فيه ماء غزيرا منه يشربون ، وتشرب مواشيهم ، ويسقون منه حروثهم ، فتخرج لهم الثمرات الكثيرة ، والنعم الغزيرة . " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " أي : سخر لكم هذه الأشياء لمنافعكم ، وأنواع مصالحكم ، بحيث لا تستغنون عنها أبدا ، فبالليل تسكنون وتنامون ، وتستريحون ، وبالنهار تنتشرون في معايشكم ومنافع دينكم ودنياكم ، وبالشمس والقمر ، من الضياء ، والنور ، والإشراق ، وإصلاح الأشجار والثمار ، والنبات ، وتجفيف الرطوبات ، وإزالة البرودة الضارة للأرض ، وللأبدان ، وغير ذلك من الضروريات والحاجيات ، التابعة لوجود الشمس والقمر . وفيهما ، وفي النجوم ، من الزينة للسماء والهداية ، في ظلمات البر والبحر ، ومعرفة الأوقات ، وحساب الأزمنة ، ما تتنوع دلالاتها ، وتتصرف آياتها ، ولهذا جمعها في قوله : " إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " أي : لمن لهم عقول يستعملونها في التدبر والتفكر ، فيما هي مهيأة له ، مستعدة ، تعقل ما تراه ، وتسمعه ، لا(1/234)
كنظر الغافلين الذين حظهم من النظرة ، حظ البهائم ، التي لا عقل لها . " وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون " أي : فيما ذرأ الله ونشر للعباد ، من كل ما على وجه الأرض ، من حيوان ، وأشجار ، ونبات ، وغير ذلك ، مما تختلف ألوانه ، وتختلف منافعه آية على كمال قدرة الله ، وعميم إحسانه ، وسعة بره ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وحده لا شريك له ، " لقوم يذكرون " أي : يستحضرون في ذاكرتهم ، ما ينفعهم من العلم النافع ، ويتأملون ما دعاهم الله إلى التأمل فيه ، حتى يتذكروا بذلك ما هو دليل عليه . " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " أي : هو وحده لا شريك له " الذي سخر البحر " وهيأه لمنافعكم المتنوعة ، " لتأكلوا منه لحما طريا " هو ، السمك ، والحوت ، الذي تصطادونه منه ، " وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " فتزيدكم جمالا وحسنا إلى حسنكم ، " وترى الفلك " أي : السفن والمراكب " مواخر فيه " أي : تمخر في البحر العجاج الهائل ، بمقدمها ، حتى تسلك فيه من قطر إلى آخر ، تحمل المسافرين وأرزاقهم ، وأمتعتهم ، وتجاراتهم ، التي يطلبون بها الأرزاق وفضل الله عليهم . " ولعلكم تشكرون " الذي يسر لكم هذه الأشياء وهيأها ، وتثنون على الله الذي من بها ، فلله تعالى الحمد والشكر ، والثناء ، حيث أعطى العباد من مصالحهم ومنافعهم ، فوق ما يطلبون ، وأعلى ما يتمنون ، وآتاهم من كل ما سألوه ، لا نحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه . " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون " أي : " وألقي " الله تعالى لأجل عباده " في الأرض رواسي " وهي : الجبال العظام لئلا تميد بهم وتضطرب بالخلق ، فيتمكنون من حرث الأرض والبناء ، والسير عليها ، ومن رحمته تعالى أن جعل فيها أنهارا ،(1/235)
يسوقها من أرض بعيدة ، إلى أرض مضطرة إليها لسقيهم وسقي مواشيهم وحروثهم ، أنهارا على وجه الأرض ، وأنهارا في بطنها يستخرجونها بحفرها ، حتى يصلوا إليها فيستخرجونها بما سخر الله لهم من الدوالي والآلات ونحوها ، ومن رحمته أن جعل في الأرض سبلا أي : طرقا توصل إلى الديار المتنائية ، " لعلكم تهتدون " السبيل إليها حتى إنك تجد أرضا مشتبكة بالجبال ، مسلسلة فيها ، وقد جعل الله فيما بينها منافذ ومسالك للسالكين . " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين " لما ذكر تعالى ما خلقه من المخلوقات العظيمة ، وما أنعم به من النعم العميمة ، ذكر أنه لا يشبهه أحد ولا كفء له ، ولا ند له ، فقال : " أفمن يخلق " جميع المخلوقات ، وهو الفعال لما يريد " كمن لا يخلق " شيئا ، لا قليلا ، ولا كثيرا ، " أفلا تذكرون " فتعرفون أن المنفرد بالخلق ، أحق بالعبادة كلها ، فكما أنه واحد في خلقه وتدبيره ، فإنه واحد في إلهيته وتوحيده ، وعبادته . وكما أنه ليس له مشارك ، إذ أنشأكم وأنشأ غيركم ، فلا تجعلوا له أندادا في عبادته ، بل أخلصوا له الدين ،" وإن تعدوا نعمة الله " عددا مجردا عن الشكر " لا تحصوها " فضلا عن كونكم تشكرونها ، فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد ، بعدد الأنفاس واللحظات ، من جميع أصناف النعم ، مما يعرف العباد ، ومما لا يعرفون ، وما يدفع عنهم من النقم ، فأكثر من أن تحصى ، " إن الله لغفور رحيم " يرضى منكم باليسير من الشكر ، مع إنعامه الكثير . وكما أن رحمته واسعة ، وجوده عميم ، ومغفرته شاملة للعباد ، فعلمه محيط بهم ، " يعلم(1/236)
ما تسرون وما تعلنون " بخلاف من عبد من دونه ، فإنهم " لا يخلقون شيئا " قليلا ولا كثيرا " وهم يخلقون " ، فكيف يخلقون شيئا مع افتقارهم في إيجادهم إلى الله تعالى ؟ ومع هذا ، ليس فيهم من أوصاف الكمال شيء ، لا علم ، ولا غيره ، " أموات غير أحياء " فلا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تعقل شيئا ، أفنتخذ هذه آلهة من دون رب العالمين ؟ فتبا لعقول المشركين ، ما أضلها ، وأفسدها ، حيث ضلت في أظهر الأشياء فسادا ، وسووا بين الناقص من جميع الوجوه فلا أوصاف كمال ، ولا شيء من الأفعال ، وبين الكامل من جميع الوجوه الذي له كل صفة كمال ، وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها ، فله العلم المحيط بكل الأشياء ، والقدرة العامة ، والرحمة الواسعة ، التي ملأت جميع العوالم ، والحمد والمجد والكبرياء والعظمة ، التي لا يقدر أحد من الخلق ، أن يحيط ببعض أوصافه ولهذا قال : " إلهكم إله واحد "
وهو : الله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . فأهل الإيمان والعقول ، أحلته قلوبهم وعظمته ، وأحبته حبا عظيما ، وصرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية والمالية ، وأعمال القلوب وأعمال الجوارح ، وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى ، وصفاته ، وأفعاله المقدسة ، " فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة " لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق ، جهلا وعنادا ، وهو : توحيد الله " وهم مستكبرون " عن عبادته . " لا جرم "
أي : حقا لا بد " أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " من الأعمال القبيحة " إنه لا يحب المستكبرين " بل يبغضهم أشد البغض ، وسيجازيهم من جنس عملهم " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين "(1/237)
وقوله تعالى : ? أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ *وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ*وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ*لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * ? (النحل 48-55 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون "(1/238)
يقول تعالى : " أولم يروا " أي : الشاكون في توحيد ربهم وعظمته وكماله ، " إلى ما خلق الله من شيء " أي : إلى جميع مخلوقاته ، وكيف تتفيأ أظلتها ، " عن اليمين والشمائل سجدا لله " أي : كلها ساجدة لربها ، خاضعة لعظمته وجلاله ، " وهم داخرون " أي : ذليلون تحت التسخير والتدبير ، والقهر ، ما منهم أحد ، إلا وناصيته بيد الله ، وتدبيره عنده . " ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة " من الحيوانات الناطقة والصامتة ، " والملائكة " الكرام ، خصهم بعد العموم ، لفضلهم ، وشرفهم ، وكثرة عبادتهم ، ولهذا قال : " وهم لا يستكبرون " أي : عن عبادته ، على كثرتهم ، وعظمة أخلاقهم وقوتهم ، كما قال تعالى : " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون "..." يخافون ربهم من فوقهم " لما مدحهم بكثرة الطاعة ، والخضوع لله ، مدحهم بالخوف من الله الذي هو فوقهم بالذات والقهر ، وكمال الأوصاف ، فهم أذلاء تحت قهره . " ويفعلون ما يؤمرون " أي : مهما أمرهم الله تعالى ، امتثلوا لأمره ، طوعا واختيارا ، وسجود المخلوقات لله تعالى قسمان : سجود اضطرار ، ودلالة على ما له من صفات الكمال ، وهذا عام لكل مخلوق ، من مؤمن وكافر ، وبر وفاجر ، وحيوان ناطق وغيره ، وسجود اختيار ، يختص بأوليائه وعباده المؤمنين ، الملائكة ، وغيرهم من المخلوقات .(1/239)
" وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون " يأمر تعالى ، بعبادته وحده لا شريك له ، ويستدل على ذلك بانفراده بالنعم فقال : " لا تتخذوا إلهين اثنين " أي : تجعلون له شريكا في إلهيته ، وهو " إنما هو إله واحد " متوحد في الأوصاف العظيمة ، متفرد بالأفعال كلها . فكما أنه الواحد في ذاته ، وأسمائه ، ونعوته ، وأفعاله ، فلتوحدوه في عبادته ، ولهذا قال : " فإياي فارهبون " أي : خافوني ، وامتثلوا أمري ، واجتنبوا نهيي ، من غير أن تشركوا بي شيئا من المخلوقات ، فإنها كلها لله تعالى مملوكة . " وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا " أي : الدين ، والعبادة ، والذل في جميع الأوقات ، لله وحده ، على الخلق أن يخلصوه لله ، وينصبغوا بعبوديته . " أفغير الله تتقون " من أهل الأرض أو أهل السموات ، فإنهم لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا ، والله المنفرد ، بالعطاء والإحسان ، " وما بكم من نعمة " ظاهرة وباطنة " فمن الله " لا أحد يشركه فيها ، " ثم إذا مسكم الضر " من فقر ، ومرض ، وشدة " فإليه تجأرون " أي : تضجون بالدعاء والتضرع ، لعلمكم أنه لا يدفع الضر والشدة إلا هو ، فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون ، وصرف ما تكرهون ، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده . ولكن كثيرا من الناس ، يظلمون أنفسهم ، ويحمدون نعمة الله عليهم إذا نجاهم من الشدة ، فإذا صاروا في حال الرخاء ، أشركوا به بعض مخلوقاته الفقيرة ، ولهذا قال : " ليكفروا بما آتيناهم " أي : أعطيناهم ، حيث نجيناهم من الشدة ، وخلصناهم ، من المشقة ، " فتمتعوا " في دنياكم قليلا " فسوف تعلمون " عاقبة كفركم .(1/240)
وقوله تعالى :? وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ * وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * ? (النحل 65- 72 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/241)
قوله تعالى :" والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون " يذكر الله تعالى في هذه الآية نعمة من أعظم النعم ليعقلوا عن الله مواعظه وتذكيره ، فيستدلوا بذلك على أنه وحده المعبود ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، لأنه المنعم بإنزال المطر ، وإنبات جميع أصناف النبات ، وعلى أنه على كل شيء قدير ، وأن الذي أحيا الأرض بعد موتها ، قادر على إحياء الأموات ، وأن الذي نشر هذا الإحسان ، لذو رحمة واسعة ، وجود عظيم . " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون "أي : " وإن لكم في الأنعام " التي سخرها الله لمنافعكم " لعبرة " تستدلون بها على كمال قدرة الله ، وسعة إحسانه ، حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم ، فأخرج من بين ذلك ، لبنا خالصا من الكدر سائغا للشاربين ، للذته ، ولأنه يسقي ويغذي ، فهل هذه إلا قدرة ، إلهية ، لا أمور طبيعية . فأي شيء في الطبيعة ، يقلب العلف الذي تأكله البهيمة ، والشراب الذي تشربه من الماء العذب والملح ، لبنا خالصا سائغا للشاربين ؟ وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والأعناب ، منافع للعباد ، ومصالح ، من أنواع الرزق الحسن ، الذي يأكله العباد ، طريا ونضيجا ، وحاضرا ، ومدخرا ، وطعاما وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها ، ومن السكر الذي كان حلالا قبل ذلك ، ثم إن الله نسخ حل المسكرات ، وأعاض عنها بالطيبات من الأنبذة ، وأنوع الأشربة اللذيذة المباحة ولهذا قال من قال : " إن المراد بالسكر هنا : الطعام والشراب اللذيذ " وهو أولى من القول الأول . " إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " عن الله كمال اقتداره ، حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب ، فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة ، وعلى شمول رحمته ، حيث عم بها عباده ويسرها لهم ، وأنه(1/242)
الإله المعبود وحده ، حيث إنه المنفرد بذلك .
" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها ، التي أصلحتها ، بتعليم الله لها وهدايته لها ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان ، بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة . فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لطفه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعى سواه .
" والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير " يخبر تعالى ، أنه الذي خلق العباد ، ونقلهم في الخلقية ، طورا بعد طور ، ثم بعد أن يستكملوا آجالهم ، يتوفاهم ، ومنهم من يعمره حتى " يرد إلى أرذل العمر " أي : أخسه الذي يبلغ به الإنسان إلى ضعف القوى الظاهرة والباطنة ، حتى العقل ، الذي هو جوهر الإنسان ، يزيد ضعفه حتى إنه ينسى ما كان يعلمه ، ويصير عقله كعقل الطفل ولهذا قال : " لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير " أي : قد أحاط علمه وقدرته بجميع الأشياء ، ومن ذلك ، ما ينقل به الآدمي من أطوار الخلقة ، خلقا بعد خلق ، كما قال تعالى : " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير "...
" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون " هذا من أدلة توحيده ، وقبح الشرك به ، يقول تعالى : كما أنكم مشتركون بأنكم مخلوقون مرزوقون ، إلا أنه تعالى " فضل بعضكم على بعض في الرزق "(1/243)
فجعل منكم أحرارا ، لهم مال وثروة ، ومنكم أرقاء لهم ، لا يملكون شيئا من الدنيا ، فكما أن سادتهم الذين فضلهم الله عليهم بالرزق ليسوا " برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء " ويرون هذا من الأمور الممتنعة ، فكذلك من أشركتم بها مع الله ، فإنها عبيد ، ليس لها من الملك ، مثقال ذرة ، فكيف تجعلونها شركاء لله تعالى ؟ هل هذا ، إلا من أعظم الظلم ، والجحود لنعم الله ؟ !! ولهذا قال : " أفبنعمة الله يجحدون " فلو أقروا بالنعمة ونسبوها إلى من أولاها ، لما أشركوا به أحدا . " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون " يخبر تعالى ، عن منته العظيمة على عباده ، حيث جعل لهم أزواجا ، ليسكنوا إليها ، وجعل لهم من أزواجهم ، أولادا تقر بهم أعينهم ويخدمونهم ، ويقضون حوائجهم ، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة ، ورزقهم من الطيبات ، من المآكل ، والمشارب ، والنعم الظاهرة ، التي لا يقدر العباد أن يحصوها . " أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون " أي : أيؤمنون بالباطل ، الذي لم يكن شيئا مذكورا ، ثم أوجده الله ، وليس له من وجوده سوى العدم ، فلا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تدبر من الأمور شيئا ، وهذا عام لكل ما عبد من دون الله ، فإنها باطلة ، فكيف يتخذها المشركون من دون الله ؟ " وبنعمة الله هم يكفرون " يجحدونها ، ويستعينون بها على معاصي الله والكفر به ، هل هذا إلا من أظلم الظلم ، وأفجر الفجور ، وأسفه السفه ؟ !!(1/244)
وقوله تعالى :? وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * ? ( النحل 77- 81 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/245)
قوله تعالى : " ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير " أي : هو تعالى المنفرد بغيب السموات والأرض ، فلا يعلم الخفايا والبواطن ، والأسرار إلا هو ، ومن ذلك ، علم الساعة ، فلا يدري أحد متى تأتي ، إلا الله ، فإذا جاءت وتجلت ، لم تكن " إلا كلمح البصر أو هو أقرب " من ذلك فيقوم الناس من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم ، وتفوت الفرص لمن يريد الإمهال ، " إن الله على كل شيء قدير " فلا يستغرب على قدرته الشاملة ، إحياؤه للموتى . " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " أي : هو المنفرد بهذه النعم حيث " أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " ولا تقدورن على شيء ثم إنه " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " ، خص هذه الأعضاء الثلاثة ، لشرفها ، وفضلها ، ولأنها مفتاح لكل علم ، فلا يصل للعبد علم ، إلا من أحد هذه الأبواب الثلاثة ، وإلا فسائر الأعضاء ، والقوى الظاهرة والباطنة ، هو الذي أعطاهم إياها ، وجعل ينميها فيهم ، شيئا فشيئا إلى أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به ، وذلك لأجل أن يشكروا الله ، باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح ، في طاعة الله ، فمن استعملها في غير ذلك ، كانت حجة عليه ، وقابل النعمة بأقبح المعاملة . " ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " أي : لأنهم المنتفعون بآيات الله ، المتفكرون فيما جعلت آية عليه ، وأما غيرهم ، فإن نظرهم نظر لهو ، وغفلة . ووجه الآية فيها ، أن الله تعالى خلقها بخلقة تصلح للطيران ، ثم سخر لها هذا الهواء اللطيف ثم أودع فيها من قوة الحركة وما قدرت به على ذلك ، وذلك دليل على حكمته ، وعلمه الواسع ، وعنايته الربانية بجميع مخلوقاته وكمال اقتداره ، تبارك الله رب العالمين .(1/246)
" والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون "
" والله جعل لكم من بيوتكم سكنا " في الدور والقصور ونحوها ، تكنكم من الحر والبرد ، وتستركم ، أنتم وأولادكم ، وأمتعتكم ، وتتخذون فيه الغرف والبيوت ، التي هي لأنواع ، منافعكم ومصالحكم ، وفيها حفظ لأموالكم وحرمكم ، وغير ذلك من الفوائد المشاهدة . " وجعل لكم من جلود الأنعام "إما من الجلد نفسه ، أو مما نبت عليه ، من صوف وشعر ووبر . " بيوتا تستخفونها " أي : تجدونها خفيفة الحمل ، تكون لكم " يوم ظعنكم ويوم إقامتكم " أي : في السفر والمنازل ، التي لا قصد لكم في استيطانها فتقيكم من الحر ، والبرد ، والمطر ، وتقي متاعكم من المطر ، ( و ) جعل لكم " ومن أصوافها " أي : الأنعام " وأوبارها وأشعارها أثاثا " وهذا شامل لكل ما يتخذ منها ، من الآنية ، والأوعية ، والفرش ، والألبسة ، والأجلة ، وغير ذلك . " ومتاعا إلى حين " أي : تتمتعون بذلك في هذه الدنيا ، وتنتفعون بها ، فهذا مما سخر الله العباد لصنعته وعمله . " والله جعل لكم مما خلق " أي : من مخلوقاته التي لا صنعة لكم فيها " ظلالا " وذلك ، كأظلة الأشجار ، والجبال ، والآكام ونحوها ، " وجعل لكم من الجبال أكنانا " أي : مغارات ، تكنكم من الحر والبرد ، والأمطار ، والأعداء ." وجعل لكم سرابيل " أي : ألبسة وثيابا " تقيكم الحر " ، ولم يذكر الله البرد ، لأنه قد تقدم أن هذه السورة ، أولها في أصول النعم ، وآخرها في مكملاتها ومتمماتها ، وقاية البرد ، من أصول النعم ، فإنه من الضرورة ، وقد ذكره في أولها في(1/247)
قوله : " لكم فيها دفء ومنافع ".." وسرابيل تقيكم بأسكم " أي : وثيابا تقيكم وقت البأس والحرب ، من السلاح ، وذلك ، كالدروع ، والزرود ، ونحوها ، " كذلك يتم نعمته عليكم " حيث أسبغ عليكم من نعمه ما لا يدخل تحت الحصر " لعلكم " إذا ذكرتم نعمة الله ، ورأيتموها غامرة لكم من كل وجه " تسلمون " لعظمته ، وتنقادون لأمره ، وتصرفونها في طاعة موليها ومسديها ، فكثرة النعم ، من الأسباب الجالبة من العباد ، مزيد الشكر ، والثناء بها على الله تعالى ، ولكن أبى الظالمون ، إلا تمردا وعنادا . ولهذا قال الله عنهم : " فإن تولوا " عن الله ، وعن طاعته ، بعد ما ذكروا بنعمه وآياته ، " فإنما عليك البلاغ المبين " ليس عليك من هدايتهم وتوفيقهم شيء بل أنت مطالب بالوعظ والتذكير ، والإنذار والتحذير ، فإذا أديت ما عليك ، فحسابهم على الله ، فإنهم يرون الإحسان ، ويعرفون نعمة الله ، ولكنهم ينكرونها ويجحدونها ، " وأكثرهم الكافرون " لا خير فيهم ، وما ينفعهم توالي الآيات ، لفساد مشاعرهم ، وسوء قصودهم ، سيرون جزاء الله لكل جبار عنيد ، كفور للنعم ، متمرد على الله ، وعلى رسله
وقوله تعالى: ? (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? (النحل : 93 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون " أي : " لو شاء الله " لجمع الناس على الهدى ، و " لجعلكم أمة واحدة " . ولكنه تعالى المنفرد بالهداية والإضلال ، وهدايته وإضلاله ، من أفعاله التابعة لعلمه وحكمته . يعطي الهداية من يستحقها فضلا ، ويمنعها من لا يستحقها ، عدلا . " ولتسألن عما كنتم تعملون " من خير وشر ، فيجازيكم عليها ، أتم الجزاء ، وأعدله .
ومن سورة بني اسرائيل تسع آيات(1/248)
قوله تعالى ? وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً * وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * ? (الإسراء : 12-15 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا "
يقول تعالى : " وجعلنا الليل والنهار آيتين " أي : دالتين على كمال قدرة الله وسعة رحمته ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له . " فمحونا آية الليل " أي : جعلناه مظلما ، للسكون فيه ، والراحة ، " وجعلنا آية النهار مبصرة " أي : مضيئة " لتبتغوا فضلا من ربكم " في معايشكم ، وصنائعكم ، وتجاراتكم ، وأسفاركم . " ولتعلموا " بتوالي الليل والنهار واختلاف القمر " عدد السنين والحساب " فتبنون عليها ما تشاؤون ، من مصالحكم . " وكل شيء فصلناه تفصيلا " أي :بينا الآيات ،وصرفناه ، لتتميز الأشياء ،ويتبين الحق من الباطل ،كما قال تعالى :" ما فرطنا في الكتاب من شيء..(1/249)
" وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " وهذا إخبار عن كمال عدله ، أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه ، أي : ما عمل من خير وشر ، يجعله الله ملازما له ، لا يتعداه إلى غيره ، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله . " ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " فيه عمله ، من الخير والشر ، حاضرا ، صغيره وكبيره ، ويقال له : " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " . وهذا من أعظم العدل والإنصاف ، أن يقال للعبد : حاسب نفسك ، ليعرف ما عليه من الحق الموجب للعقاب .
" من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " أي : هداية كل أحد وضلاله لنفسه ، ولا يحمل أحد ذنب أحد ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر . والله تعالى أعدل العادلين . لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ، ثم يعاند الحجة . وأما من انقاد للحجة ، أو لم تبلغه حجة الله تعالى ، فإن الله تعالى لا يعذبه . استدل بهذه الآية على أن أهل الفترات ، وأطفال المشركين ، لا يعذبهم الله ، حتى يبعث إليهم رسولا ، لأنه منزه عن الظلم .
وقوله تعالى ? قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً * ? (الإسراء : 42-44 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/250)
" قل " للمشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر : " لو كان معه آلهة كما يقولون " أي : على موجب زعمهم وافترائهم " إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " أي : لاتخذوا سبيلا إلى الله بعبادته ، والإنابة إليه والتقرب وابتغاء الوسيلة . فكيف يجعل العبد الفقير الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه ، إلها مع الله ؟ هل هذا إلا من أظلم الظلم وأسفه السفه ؟ فعلى هذا المعنى ، تكون هذه الآية كقوله تعالى : " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " . وكقوله تعالى : "ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " . ويحتمل أن المعنى في قوله : "قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " أي : وسعوا في مغالبة الله تعالى . فإما أن يعلوا عليه فيكون من علا وقهر ، هو الرب الإله . فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم ، التي يدعون من دون الله مقهورة مغلوبة ، ليس لها من الأمر شيء ، فلم اتخذوها وهي بهذه الحال ؟ فيكون هذا كقوله تعالى : " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض "..." سبحانه وتعالى " أي : تقدس وتنزه وعلت أوصافه " عما يقولون " من الشرك به ، واتخاذ الأنداد معه " علوا كبيرا " فعلا قدره ، وعظم ، وجلت كبرياؤه ، التي لا تقادر أن يكون معه آلهة ، فقد ضل من قال ذلك ، ضلالا مبينا ، وظلم ظلما كبيرا . لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة ، وصغرت لدى كبريائه ، السموات السبع ، ومن فيهن ، والأرضون السبع ، ومن فيهن " والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه " . وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي ، فقرا ذاتيا ، لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات . هذا الفقر بجميع وجوهه ، فقر من جهة الخلق ، والرزق ، والتدبير . وفقر من جهة الاضطرار ، إلى(1/251)
أن يكون معبوده ومحبوبه ، الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون . ولهذا قال : " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء " من حيوان ناطق ، وغير ناطق ، ومن أشجار ، ونبات ، وجامد ، وحي وميت " إلا يسبح بحمده " بلسان الحال ، ولسان المقال ." ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أي : تسبيح باقي المخلوقات ، التي على غير لغتكم . بل يحيط بها علام الغيوب . " إنه كان حليما غفورا " حيث لم يعاجل بالعقوبة ، من قال فيه قولا تكاد السموات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال . ولكنه أمهلهم ، وأنعم عليهم ، وعفاهم ، ورزقهم ، ودعاهم إلى بابه ، ليتوبوا من هذا الذنب العظيم ، ليعطيهم الثواب الجزيل ، ويغفر لهم ذنبهم . فلولا حلمه ومغفرته ، لسقطت السموات على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً? (الإسراء : 70 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/252)
وهذا من كرمه عليهم وإحسانه ، الذي لا يقادر قدره ، حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام ، فكرمهم بالعلم والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وجعل منهم الأولياء والأصفياء ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة . " وحملناهم في البر " على الركاب ، من الإبل ، والبغال ، والحمير ، والمراكب البرية . " والبحر " في السفن والمراكب " ورزقناهم من الطيبات " من المآكل والمشارب ، والملابس ، والمناكح . فما من طيب تتعلق به حوائجهم ، إلا وقد أكرمهم الله به ، ويسره لهم غاية التيسير . " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " بما خصهم به من المناقب ، وفضلهم به من الفضائل ، التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات . أفلا يقومون بشكر من أولى النعم ، ودفع النقم ، ولا تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم ، بل ربما استعانوا بها على معاصيه .
وقوله تعالى : ? وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ? (الإسراء : 111 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وقل الحمد لله " الذي له الكمال ، والثناء ، والحمد ، والمجد من جميع الوجوه ، المنزه عن كل آفة ونقص . " الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك " بل الملك كله لله الواحد القهار . فالعالم العلوي والسفلي ، كلهم مملكون لله ، ليس لأحد من الملك شيء ." ولم يكن له ولي من الذل " أي : لا يتولى أحدا من خلقه ، ليتعزز به ويعاونه . فإنه الغني الحميد ، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات ، في الأرض ولا في السموات ، ولكنه يتخذ ـ إحسانا منه إليهم ورحمة بهم " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور "" وكبره تكبيرا " أي : عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة ، وبالثناء عليه ، بأسمائه الحسنى ، وبتحميده بأفعاله المقدسة ، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده ، لا شريك له ، وإخلاص الدين كله له .(1/253)
ومن سورة مريم ثلاث آيات
قوله تعالى ? ِإن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً * ? ( مريم 93- 95 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " أي : ذليلا منقادا ، غير متعاص ولا ممتنع ، الملائكة ، والإنس ، والجن وغيرهم . الجميع مماليك ، متصرف فيهم ليس لهم من الملك شيء ، ولا من التدبير شيء ، فكيف يكون له ولد ، وهذا شأنه وعظمة ملكه ؟ " لقد أحصاهم وعدهم عدا " أي : لقد أحاط علمه بالخلائق كلهم ، أهل السموات والأرض ، وأحصاهم ، وأحصى أعمالهم ، فلا يضل ولا ينسى ، ولا تخفى عليه خافية . " وكلهم آتيه يوم القيامة فردا "
أي : لا أولاد ، ولا مال ، ولا أنصار ، ليس معه ، إلا عمله ، فيجازيه الله ، ويوفيه حسابه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر كما قال تعالى : " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة "
ومن سورة طه تسع عشرة آيات
قوله تعالى : ? طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى *الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى *? ( طه 1 - 8 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/254)
" طه " من جملة الحروف المقطعة ، المفتتح بها كثير من السور ، وليست اسما للنبي صلى الله عليه وسلم . " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " أي : ليس المقصود بالوحي ، وإنزال القرآن عليك ، وشرع الشريعة ، لتشقى بذلك ، ويكون في الشريعة تكليف يشق على المكلفين وتعجز عنه قوى العاملين . وإنما الوحي ، والقرآن والشرع ، شرعه الرحيم الرحمن ، وجعله موصلا للسعادة ، والفلاح ، والفوز ، وسهله غاية التسهيل ، ويسر كل طرقه وأبوابه ، وجعله غذاء للقلوب والأرواح ، وراحة للأبدان ، فتلقته الفطر السليمة والعقول المستقيمة ، بالقبول ، والإذعان ، لعلمها بما احتوى عليه ، من الخير في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال : " إلا تذكرة لمن يخشى " أي : إلا ليتذكر به من يخشى الله تعالى ، فيتذكر ما فيه من الترغيب ، لأجل المطالب ، فيعمل بذلك ، ومن الترهيب عن الشقاء والخسران ، فيرهب منه ، ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعية المفصلة ، التي كانت مستقرا في عقله حسنها مجملا ، فوافق التفصيل ما يجده في فطرته وعقله ، ولهذا سماه الله " تذكرة " . والتذكرة لشيء كان موجودا ، إلا أن صاحبه غافل عنه ، أو غير مستحضر لتفصيله . وخص بالتذكرة " من يخشى " لأن غيره لا ينتفع به ، وكيف ينتفع به من لم يؤمن بجنة ولا نار ، ولا في قلبه من خشية الله مثقال ذرة ؟ هذا ما لا يكون . " سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى " . ثم ذكر جلالة هذا القرآن العظيم ، وأنه تنزيل خالق الأرض والسموات ، المدبر لجميع المخلوقات ، أي : فاقبلوا تنزيله ، بغاية الإذعان ، والمحبة ، والتسليم ، وعظموه نهاية التعظيم . وكثيرا ما يقرن بين الخلق ، والأمر ، كما في هذه الآية ، وكما في قوله : " ألا له الخلق والأمر " وفي قوله : " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن " وذلك أنه الخالق الآمر الناهي ، فكما أنه لا خالق سواه ، فليس على الخلق إلزام ، ولا أمر ، ولا(1/255)
نهي إلا من خالقهم ، وأيضا ، فإن خلقه للخلق ، فيه من التدبير القدري الكوني ، وأمره ، فيه التدبير الشرعي الديني ، فكما أن الخلق لا يخرج عن الحكمة ، فلم يخلق شيئا عبثا ، فكذلك لا يأمر ولا ينهى ، إلا بما هو عدل ، وحكمة ، وإحسان . فلما بين أنه الخالق المدبر ، الآمر الناهي ، أخبر عن عظمته وكبريائه ، فقال : " الرحمن على العرش "
الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها ، وأوسعها . " استوى " استواء يليق بجلاله ، ويناسب عظمته وجماله ، فاستوى على العرش ، واحتوى على الملك . " له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما " من ملك وإنسي وجني ، وحيوان ، وجماد ، ونبات . " وما تحت الثرى " أي : الأرض ، فالجميع ملك لله ، تعالى عبيد مدبرون مسخرون ، تحت قضائه وتدبيره ليس لهم من الملك شيء ، ولا يملكون لأنفسهم ، نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا . " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر " الكلام الخفي " وأخفى " من السر ، الذي في القلب ، ولم ينطق به ، أو السر : ما خطر على القلب " وأخفى " : ما لم يخطر ، يعلم تعالى أنه يخطرفي وقته ، وعلى صفته . المعنى : أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، دقيقها ، وجليها ، خفيها ، وظاهرها ، فسواء جهرت بقولك أو أسررته ، فالكل سواء ، بالنسبة لعلمه تعالى . فلما قرر كماله المطلق ، بعموم خلقه ، وعموم أمره ونهيه ، وعموم رحمته ، وسعة عظمته ، وعلوه على عرشه ، وعموم ملكه ، وعموم علمه ، نتج من ذلك ، أنه المستحق للعبادة ، وأن عبادته هي الحق التي يوجبها الشرع ، والعقل ، والفطرة . وعبادة غيره باطلة ، فقال : " الله لا إله إلا هو "(1/256)
أي : لا معبود بحق ، ولا مألوه بالحب والذل ، والخوف والرجاء ، والمحبة والإنابة والدعاء ، إلا هو . " له الأسماء الحسنى " أي : له الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى ، من حسنها ، أنها كلها ، أسماء دالة على المدح ، فليس فيها ، اسم لا يدل على المدح والحمد ، ومن حسنها ، أنها ليست أعلاما محضة ، وإنما هي أسماء وأوصاف . ومن حسنها ، أنها دالة على الصفات الكاملة ، وأن له من كل صفة ، أكملها ، وأعمها ، وأجلها ، ومن حسنها ، أنه أمر العباد أن يدعوه بها ، لأنها وسيلة مقربة إليه ، يحبها ، ويحب من يحبها ، ويحب من يحفظها ، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها ، قال تعالى : " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها "
وقوله تعالى :? قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى *وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى*? ( طه 49-56 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/257)
أي : قال فرعون لموسى على وجه الإنكار : " فمن ربكما يا موسى " ، فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح فقال : " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " أي : ربنا الذي خلق جميع المخلوقات ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ، على حسن صنعه من خلقه ، من كبر الجسم وصغره ، وتوسطه ، وجميع صفاته ، " ثم هدى " كل مخلوق إلى ما خلقه له ، وهذه ، الهداية الكاملة المشاهدة في جميع المخلوقات . فكل مخلوق ، تجده يسعى لما خلق له من المنافع ، وفي دفع المضار عنه ، حتى إن الله أعطى الحيوان البهيم ، من العقل ، ما يتمكن به من ذلك . وهذا كقوله تعالى : " الذي أحسن كل شيء خلقه " ، فالذي خلق المخلوقات ، وأعطاها خلقها الحسن ، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه ، وهداها لمصالحها ، هو الرب على الحقيقة ، فإنكاره ، إنكار لأعظم الأشياء وجودا ، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب ، فلو قدر أن الإنسان ، أنكر من الأمور المعلومة ، ما أنكر ، كان إنكاره لرب العالمين ، أكبر من ذلك . ولهذا لما لم يمكن فرعون ، أن يعاند هذا الدليل القاطع ، عدل إلى المشاغبة ، وحاد عن المقصود فقال لموسى : " فما بال القرون الأولى " ، أي : ما شأنهم ، وما خبرهم ؟ وكيف وصلت بهم الحال ، وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر ، والظلم ، والعناد ، ولنا فيهم أسوة ؟ فقال موسى : " علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " أي : قد أحصى أعمالهم من خير وشر ، وكتبه في كتابه ، وهو اللوح المحفوظ ، وأحاط به علما وخبرا فلا يضل عن شيء منها ، ولا ينسى ما علمه منها . ومضمون ذلك ، أنهم قدموا إلى ما قدموه ، ولاقوا أعمالهم ، وسيجازون عليها ، فلا معنى لسؤالك واستفهامك ، يا فرعون ، عنهم ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، فإن كان الدليل الذي أوردناه ، عليك ، والآيات التي أريناكها ، قد تحققت صدقها ويقينها ، وهو الواقع ، فانقد إلى الحق ، ودع عنك الكفر والظلم ، وكثرة الجدال بالباطل ، وإن كنت(1/258)
قد شككت فيها أو رأيتها غير مستيقنة ، فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق فرد الدليل بالدليل ، والبرهان بالبرهان ، ولن تجد لذلك سبيلا ، ما دام الملوان . كيف وقد أخبر الله عنه ، أنه جحدها مع استيقانها ، كما قال تعالى : " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " ، وقال موسى : " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر " ، فعلم أنه ظالم في جداله ، قصده ، العلو في الأرض . ثم استطرد في هذا الدليل القاطع ، بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري ، فقال : " الذي جعل لكم الأرض مهدا " أي : فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها ، والقرار ، والبناء ، والغراس ، وإثارتها للأزدراع وغيره ، وذللها لذلك ، ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم . " وسلك لكم فيها سبلا " أي : نفذ لكم الطرق الموصلة . من أرض ، إلى أرض ، ومن قطر إلى قطر ، حتى كان الآدميون ، يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون ، وينتفعون بأسفارهم ، أكثر مما ينتفعون بإقامتهم . " وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى " أي : أنزل المطر " فأحيا به الأرض بعد موتها " وأثبت بذلك جميع أصناف النباتات على اختلاف أنواعها ، وتشتت أشكالها ، وتباين أحوالها ، فساقه ، وقدره ، ويسره ، ورزقا لنا ولأنعامنا ، ولولا ذلك ، لهلك من عليها من آدمي وحيوان . ولهذا قال : " كلوا وارعوا أنعامكم " وساقها على وجه الامتنان ، ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النباتات الإباحة ، فلا يحرم منهم ، إلا ما كان مضرا ، كالسموم ونحوه . " إن في ذلك لآيات لأولي النهى " أي : لذوي العقول الرزينة ، والأفكار المستقيمة على فضل الله ، وإحسانه ، ورحمته ، وسعة جوده ، وتمام عنايته ، وعلى أنه الرب المعبود ، المالك المحمود ، الذي لا يستحق العبادة سواه ، ولا الحمد والمدح والثناء ، إلا من امتن بهذه النعم ، وعلى أنه على كل شيء قدير ، فكما أحيا الأرض بعد موتها ، إن ذلك(1/259)
لمحيي الموتى . وخص الله أولي النهى بذلك ، لأنهم المنتفعون بها ، الناظرون إليها نظر اعتبار . وأما من عداهم ، فإنهم بمنزلة البهائم السارحة ، والأنعام السائمة ، لا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها ، بل حظهم ، حظ البهائم ، يأكلون ويشربون ، وقلوبهم لاهية ، وأجسادهم معرضة . " وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " . ولما ذكر كرم الأرض ، وحسن شكرها لما ينزله الله عليها من المطر ، وأنها بإذن ربها ، تخرج النبات المختلف الأنواع ـ أخبر أنه خلقنا منها ، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها ، ومنها يخرجنا تارة أخرى . فكما أوجدنا منها من العدم ، وقد علمنا ذلك ، وتحققناه ، فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا ، ليجازينا بأعمالنا ، التي عملناها عليها . وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان : إخراج النبات من الأرض بعد موتها ، وإخراج المكلفين منها في إيجادهم .
" ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ..." يخبر تعالى ، أنه أرى فرعون من الآيات والعبر والقواطع ، جميع أنواعها العيانية ، والأفقية والنفسية ، فما استقام ولا ارعوى ، وإنما كذب وتولى . كذب الخبر ، وتولى عن الأمر والنهي ، وجعل الحق باطلا ، والباطل حقا ، وجادل بالباطل ، ليضل الناس ...
وقوله تعالى :? يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً*يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * ? (طه
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/260)
" يومئذ يتبعون الداعي " وذلك حين يبعثون من قبورهم ، ويقومون منها ، يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف ، فيتبعون مهطعين إليه ، لا يلتفتون عنه ، ولا يعرجون يمنة ولا يسرة . وقوله : " لا عوج له " أي : لا عوج لدعوة الداعي بل تكون دعوته حقا وصدقا ، لجميع الخلق ، يسمعهم جميعهم ، ويصيح لهم أجمعين ، فيحضرون لموقف القيامة ، خاشعة أصواتهم للرحمن . " فلا تسمع إلا همسا " أي : إلا وطء الأقدام ، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط ، يملكهم الخشوع والسكوت ، والإنصات ، انتظارا لحكم الرحمن فيهم ، وتعنو وجوههم أي : تذل وتخضع ، فترى في ذلك الموقف العظيم ، الأغنياء والفقراء ، والرجال والنساء ، والأحرار والأرقاء ، والملوك والسوقة ، ساكتين منصتين ، خاشعة أبصارهم ، خاضعة رقابهم ، جاثين على ركبهم ، عانية وجوههم ، لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به ، ولا ماذا يفعل به ، قد اشتغل كل بنفسه وشأنه ، عن أبيه وأخيه ، وصديقه وحبيبه " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " ، يحكم فيه الحاكم العدل الديان ، ويجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بالحرمان . والأمل بالرب الكريم ، الرحمن الرحيم ، أن يرى الخلائق منه ، من الفضل والإحسان ، والعفو والصفح والغفران ، ما لا تعبر عنه الألسنة ، ولا تتصوره الأفكار . ويتطلع لرحمته إذ ذاك ، جميع الخلق لما يشاهدونه فيختص المؤمنون به وبرسله ، بالرحمة ، فإن قيل : من أين لكم هذا الأمل ؟ وإن شئت قلت : من أين لكم هذا العلم بما ذكر ؟ قلنا : لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه ، ومن سعة جوده ، الذي عم جميع البرايا ، ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا ، من النعم المتواترة في هذه الدار ، وخصوصا في فضل القيامة ، فإن قوله : " وخشعت الأصوات للرحمن " " إلا من أذن له الرحمن " مع قوله : " الملك يومئذ الحق للرحمن " مع قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة ، بها يتراحمون ويتعاطفون ، حتى(1/261)
إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها ، خشية أن تطأه ، من الرحمة المودعة في قلبها ، فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة ، فرحم بها العباد " . مع قوله صلى الله عليه وسلم : " لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها " ، فقل ما شئت عن رحمته ، فإنها فوق ما تقول ، وتصور فوق ما شئت ، فإنها فوق ذلك ، فسبحان من رحم في عدله وعقوبته ، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته . وتعالى من وسعت رحمته كل شيء ، وعم كرمه كل حي وجل من غني عن عباده ، رحيم بهم ، وهم مفتقرون إليه على الدوام ، في جميع أحوالهم ، فلا غنى لهم عنه ، طرفة عين . وقوله : " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا "أي : لا يشفع أحد عنده من الخلق ، إلا من أذن له في الشفاعة ، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله ، أي : شفاعته ، من الأنبياء والمرسلين ، وعبادة المقربين ، فيمن ارتضى قوله ، وهو المؤمن المخلص ، فإذا اختل واحد من هذه الأمور ، فلا سبيل لأحد إلى شفاعة من أحد . وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين : ظالمين بكفرهم فهؤلاء ، لا ينالهم إلا الخيبة والحرمان ، والعذاب الأليم في جهنم ، وسخط الديان . والقسم الثاني : من آمن الإيمان المأمور به ، وعمل صالحا ، من واجب ومسنون " فلا يخاف ظلما " أي : زيادة في سيئاته " ولا هضما " أي : نقصا من حسناته ، بل تغفر ذنوبه ، وتطهر عيوبه ، وتضاعف حسناته ، " وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ".." وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " أي : وكذلك أنزلنا هذا الكتاب ، باللسان الفاضل العربي ، الذي تفهمونه وتفقهونه ، ولا يخفى عليكم لفظه ، ولا معناه . " وصرفنا فيه من الوعيد " أي : نوعناها أنواعا كثيرة ، تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل والانتقام ، وتارة بذكر المثلات التي أحلها بالأمم السابقة ، وأمر أن تعتبر بها الأمم اللاحقة ، وتارة بذكر آثار(1/262)
الذنوب ، وما تكسبه من العيوب ، وتارة بذكر أهوال القيامة ، وما فيها من المزعجات ، والمقلقات ، وتارة ، بذكر جهنم ، وما فيها من أنواع العذاب ، وأصناف العذاب ، كل هذا ، رحمة بالعباد ، لعلهم يتقون الله فيتركون من الشر والمعاصي ، ما يضرهم . " أو يحدث لهم ذكرا " فيعملون من الطاعات والخير ، ما ينفعهم ، فكونه عربيا ، وكونه مصرفا فيه من الوعيد ، أكبر سبب ، وأعظم داع للتقوى ، والعمل الصالح ، فلو كان غير عربي أو غير مصرف فيه ، لم يكن له هذا الأثر .
ومن سورة الأنبياء إحدى وعشرون آية(1/263)
قوله تعالى: ? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ( 20 ) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ*لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ*يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً(1/264)
سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ*وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ *وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * ? (الأنبياء 16- 35)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
فوله تعالى :" وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين " يخبر تعالى أنه ما خلق السموات والأرض عبثا ، ولا لعبا من غير فائدة بل خلقها بالحق وللحق ، ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم ، المدبر الحكيم ، الرحمن الرحيم ، الذي له الكمال كله ، والحمد كله ، والعزة كلها ، الصادق في قيله ، الصادقة رسله ، فيما تخبر عنه ، وأن القادر على خلقهما مع سعتهما وعظمهما ، قادر على إعادة الأجساد بعد موتها ، ليجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . " لو أردنا أن نتخذ لهوا " على الفرض والتقدير المحال " لاتخذناه من لدنا " أي : من عندنا " إن كنا فاعلين " ولم نطلعكم على ما فيه عبث ولهو ، لأن ذلك نقص ومثل سوء ، لا نحب أن نريه إياكم . فالسموات والأرض اللذان بمرأى منكم على الدوام ، لا يمكن أن يكون القصد منهما العبث واللهو . كل هذا تنزل مع العقول الصغيرة وإقناعها بجميع الوجوه المقنعة ، فسبحان الحليم الرحيم ، الحكيم ، في تنزيله الأشياء منازلها ." بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون "(1/265)
يخبر تعالى ، أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإن كان باطل قيل وجودل به ، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان ، ما يدمغه فيضمحل ، ويتبين لكل أحد بطلانه " فإذا هو زاهق " ، أي : مضمحل ، فان ، وهذا عام في جميع المسائل الدينية ، لا يورد مبطل ، شبهة ، عقلية ولا نقلية ، في إحقاق باطل ، أو رد حق ، إلا وفي أدلة الله ، من القواطع العقلية والنقلية ، ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد . وهذا يتبين باستقراء المسائل ، مسألة مسألة ، فإنك تجدها كذلك . ثم قال : " ولكم " أيها الواصفون الله ، بم لا يليق به ، من اتخاذ الولد والصاحبة ، ومن الأنداد والشركاء ، حظكم من ذلك ، ونصيبكم الذي تدركون به " الويل " والندامة والخسران . ليس لكم مما قلتم فائدة ، ولا يرجع عليكم بعائدة تؤملونها ، وتعملون لأجلها ، وتسعون في الوصول إليها ، إلا عكس مقصودكم ، وهو : الخيبة والحرمان . ثم أخبر أنه له ملك السموات والأرض وما بينهما ، فالكل عبيده ومماليكه ، فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك ، ولا معاونة عليه ، ولا يشفع إلا بإذن الله ، فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة وكيف يجعل لله منها ولد ؟ فتعالى وتقدس ، المالك العظيم ، الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الصعاب ، وخشعت له الملائكة المقربون ، وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة ، أجمعون . ولهذا قال : " ومن عنده " أي : الملائكة " لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون " أي : لا يملون ولا يسأمون ، لشدة رغبتهم ، وكمال محبتهم ، وقوة أبدانهم . " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " أي : مستغرقون في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم فليس في أوقاتهم وقت فارغ ولا خال منها وهم على كثرتهم بهذه الصفة ، وفي هذا من بيان عظمته وجلالة سلطانه وكمال علمه وحكمته ، ما يوجب أن لا يعبد إلا هو ، ولا تصرف العبادة لغيره .(1/266)
" أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون "
لما بين تعالى كمال اقتداره وعظمته ، وخضوع كل شيء له ، أنكر على المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض ، في غاية العجز وعدم القدرة " هم ينشرون " . استفهام بمعنى النفي ، أي : لا يقدرون على نشرهم وحشرهم ، يفسرها قوله تعالى : " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون "..." ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا "..." واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون " . فالمشرك يعبد المخلوق ، الذي لا ينفع ولا يضر ، ويدع الإخلاص لله ، الذي له الكمال كله وبيده الأمر والنفعر والضر . وهذا من عدم توفيقه ، وسوء حظه ، وتوفر جهله ، وشدة ظلمه ، فإنه لا يصلح الوجود ، إلا على إله واحد ، كما أنه لم يوجد ، إلا برب واحد . ولهذا قال : " لو كان فيهما " أي : في السموات والأرض " آلهة إلا الله لفسدتا " في ذاتهما ، وفسد من فيهما ، من المخلوقات . وبيان ذلك : أن العالم العلوي والسفلي ، على ما يرى ، في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام ، الذي ما فيه خلل ولا عيب ، ولا ممانعة ، ولا معارضة ، فدل ذلك على أن مدبره واحد ، وربه واحد ، وإلهه واحد ، فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك ، لاختل نظامه ، وتقوضت أركانه ، فإنهما يتمانعان ويتعارضان ، وإذا أراد أحدهما تدبير شيء ، وأراد الآخر عدمه ، فإنه محال وجود مرادهما معا . ووجود مراد أحدهما دون الآخر ، يدل على عجز الآخر ، وعدم اقتداره واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور ، غير ممكن . فإذا ،(1/267)
يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده ، من غير ممانع ولا مدافع ، هو الله الواحد القهار ، ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله : " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون " . ومنه ـ على أحد التأويلين ـ قوله تعالى : " قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا " . ولهذا قال هنا : " فسبحان الله " أي : تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده . " رب العرش " الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها ، وأعظمها ، فربوبية ما دونه من باب أولى . " عما يصفون " أي : الجاحدون الكافرون ، من اتخاذ الولد والصاحبة ، وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه . " لا يسأل عما يفعل " لعظمته وعزته ، وكمال قدرته ، لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه ، لا بقول ، ولا بفعل . ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها وإتقانها ، أحسن كل شيء يقدره العقل ، فلا يتوجه إليه سؤال ، لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال . " وهم " أي : المخلوقون كلهم " يسألون " عن أفعالهم وأقوالهم ، لعجزهم وفقرهم ، ولكونهم عبيدا ، قد استحقت أفعالهم وحركاتهم فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم ، ولا في غيرهم ، مثقال ذرة . ثم رجع إلى تهجين حال المشركين ، وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقل لهم موبخا ومقرعا " أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم " أي : حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه ، ولن يجدوا لذلك سبيلا بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه ، ولهذا قال : " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي " أي : قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم ، من إبطال الشرك ، فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء ، بأدلته العقلية والنقلية ، وهذه الكتب السابقة كلها ، براهين وأدلة لما قلت . ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا ليه ، علم أنه لا برهان لهم ، لأن(1/268)
البرهان القاطع ، يجزم أنه لا معارض له ، وإلا لم يكن قطعيا ، وإن وجد معارضات ، فإنه شبه لا تغني من الحق شيئا . وقوله : " بل أكثرهم لا يعلمون الحق " أي : وإنما أقاموا على ما هم عليه ، تقليدا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى ، وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه ، وإنما ذلك ، لإعراضهم عنه ، وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات ، لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا ، ولهذا قال : " فهم معرضون " . ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين ، وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة ، بينها أتم تبيين في قوله : " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " . فكل الرسل ، الذين من قبلك مع كتبهم ، زبدة رسالتهم وأصلها ، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، وبيان أنه الإله الحق المعبود ، وأن عبادة ما سواه ، باطلة .(1/269)
" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين "يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول ، وأنهم زعموا ـ قبحهم الله ـ أن الله اتخذ ولدا فقالوا : الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم . وأخبر عن وصف الملائكة ، بأنهم عبيد مربوبون مدبرون ، ليس لهم من الأمر شيء ، وإنما هم مكرمون عند الله ، قد ألزمهم الله ، وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته ، وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل ، وأنهم في غاية الأدب مع الله ، والامتثال لأوامره . " لا يسبقونه بالقول " أي : لا يقولون قولا مما يتعلق بتدبير المملكة ، حتى يقول الله ، لكمال أدبهم ، وعلمهم بكمال حكمته وعلمه . " وهم بأمره يعملون " أي : مهما أمرهم ، امتثلوا لأمره ، ومهما دبرهم عليه ، فعلوه . فلا يعصونه طرفة عين ، ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله ، ومع هذا ، فالله قد أحاط بهم علمه . " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " أي : أمورهم الماضية والمستقبلة ، فلا خروج لهم عن علمه ، كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره . ومن جزئيات وصفهم بأنهم لا يسبقونه بالقول ، وأنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ، ورضاه ، فإذا أذن لهم ، وارتضى من يشفعون فيه ، شفعوا فيه ، ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل ، إلا ما كان خالصا لوجهه ، متبعا فيه الرسول . وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة ، وأن الملائكة يشفعون . " وهم من خشيته مشفقون " أي : خائفون وجلون ، قد خضعوا لجلاله ، وعنت وجوههم لعزه وجماله . فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية ، ولا يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك ـ ذكر أيضا أنه لا حظ لهم ، من الألوهية ، ولا بمجرد الدعوى ، وأن من قال منهم : "(1/270)
إني إله من دونه " على سبيل الفرض والتنزل " فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " . وأي : ظلم أعظم من ادعاء المخلوق الناقص ، الفقير إلى الله من جميع الوجوه ، مشاركته الله في خصائص الإلهية والربوبية ؟ !! " أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون " أي : أو لم ينظر هؤلاء الذين كفروا بربهم ، وجحدوا الإخلاص له في العبودية ، ما يدلهم دلالة مشاهدة ، على أنه الرب المحمود الكريم المعبود ، فيشاهدون السماء والأرض ، فيجدونهما رتقا : هذه ليس فيها سحاب ولا مطر . وهذه هامدة ميتة ، لا نبات فيها ، ففتقناهما : السماء بالمطر ، والأرض بالنبات ، أليس الذي أوجد في السماء السحاب ، بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه ، وأودع فيه الماء الغزير ، ثم ساقه إلى بلد ميت؛ قد اغبرت أرجاؤه ، وقحط عنه ماؤه ، فأمطره فيها ، فاهتزت ، وتحركت ، وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، مختلف الأنواع ، متعدد المنافع ، أليس ذلك دليلا على أنه الحق ، وما سواه باطل ، وأنه محيي الموتى ، وأنه الرحمن الرحيم ؟ ولهذا قال : " أفلا يؤمنون " أي : إيمانا صحيحا ، ما فيه شك ولا شرك . " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون " ثم عدد تعالى الأدلة الأفقية فقال : " وجعلنا في الأرض " إلى " في فلك يسبحون " . أي : ومن الأدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ، ورحمته ، أنه لما كانت الأرض لا تستقر إلا بالجبال ، أرساها بها وأوتدها ، لئلا تميد بالعباد ، أي : لئلا تضطرب ، فلا يتمكن العباد من السكون فيها ، ولا حرثها ، ولا الاستقرار بها . فأرساها بالجبال ، فحصل بسبب ذلك ، من المصالح والمنافع ، ما حصل ، ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض ، قد اتصلت اتصالا كثيرا جدا ، فلو(1/271)
بقيت بحالها ، جبالا شامخات ، وقللا باذخات ، لتعطل الاتصال بين كثير من البلدان . فمن حكمة الله ورحمته ، أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبلا . أي : طرقا سهلة لا حزنة ، لعلم يهتدون إلى الوصول ، إلى مطالبهم من البلدان ، ولعلهم يهتدون بالاستدلال بذلك على وحدانية المنان .
" وجعلنا السماء سقفا " للأرض التي أنتم عليهم " محفوظا " من السقوط " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا " محفوظا أيضا من استراق الشياطين للسمع . " وهم عن آياتها معرضون " أي : غافلون لاهون ، وهذا عام في جميع آيات السماء ، من علوها ، وسعتها ، وعظمتها ، ولونها الحسن ، وإتقانها العجيب ، وغير ذلك من المشاهد فيها ، من الكواكب الثوابت ، والسيارات ، وشمسها ، وقمرها النيرات ، المتولد عنهما ، الليل والنهار ، وكونهما دائما في فلكهما سابحين ، وكذلك النجوم . فتقوم بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد ، والفصول ، ويعرفون حساب عباداتهم ومعاملاتهم ، ويستريحون في ليلهم ، ويهدؤون ويسكنون وينتشرون في نهارهم ، ويسعون في معايشهم . كل هذه الأمور إذا تدبرها اللبيب ، وأمعن فيها النظر ، جزم جزما لا شك فيه ، أن الله جعلها مؤقتة في وقت معلوم ، إلى أجل محتوم ، يقضي العباد منها مآربهم ، وتقوم بها منافعهم ، وليستمتعوا وينتفعوا . ثم بعد هذا ، ستزول وتضمحل ، ويفنيها الذي أوجدها ، ويسكنها الذي حركها . وينتقل المكلفون إلى دار غير هذه الدار ، يجدون فيها جزاء أعمالهم ، كاملا موفرا ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار ، وأنها منزل سفر ، لا محل إقامة .(1/272)
" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " لما كان أعداء الرسول يقولون : " نتربص به ريب المنون " قال الله تعالى : هذا طريق مسلوك ومعبد منهوك ، فلم نجعل لبشر " من قبلك "يا محمد " الخلد " في الدنيا ، فإذا مت ، فسبيل أمثالك ، من الرسل والأنبياء ، والأولياء . " أفإن مت فهم الخالدون " أي : فهل إذا مت خلدوا بعدك ، فليهنهم الخلود ، إذا ، إن كان ، وليس الأمر كذلك ، بل كل من عليها فان ، ولهذا قال : " كل نفس ذائقة الموت " ، وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق ، وإن هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى ، وعمر سنين . ولكن الله تعالى ، أوجد عباده في الدنيا ، وأمرهم ، ونهاهم ، وابتلاهم بالخير والشر ، وبالغنى والفقر ، والعز والذل ، والحياة والموت ، فتنة منه تعالى " لنبلوهم أيهم أحسن عملا " ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو . " وإلينا ترجعون " فنجازيكم بأعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر " وما ربك بظلام للعبيد " . وهذه الآية ، تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر ، وأنه مخلد في الدنيا ، فهو قول ، لا دليل عليه ، ومناقض للأدلة الشرعية .
ومن سورة الحج ست عشرة آية(1/273)
قوله تعالى ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ * ? ( الحج 5-7 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى : " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث " أي : شك واشتباه ، وعدم علم بوقوعه ، مع أن الواجب عليكم ، أن تصدقوا ربكم ، وتصدقوا رسله في ذلك ، ولكن إذا أبيتم إلا الريب ، فهاكم دليلين عقليين ، تشاهدونهما ، كل واحد منهما ، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه ، ويزيل عن قلوبكم الريب . أحدهما : الاستدلال بابتداء خلق الإنسان ، وأن الذي ابتدأه ، سيعيده فقال فيه : " فإنا خلقناكم من تراب " وذلك بخلق أبي البشر ، آدم عليه السلام . " ثم من نطفة " أي : مني ، وهذا ابتداء أول التخليق . " ثم من علقة " أي : تنقلب تلك النطفة ، بإذن الله ، دما أحمر . " ثم من مضغة " أي : ينتقل الدم مضغة ، أي : قطعة لحم ، بقدر ما يمضغ . وتلك المضغة تارة تكون " مخلقة " أي : مصور منها خلق الآدمي ." وغير مخلقة "(1/274)
تارة ، بأن تقذفها الأرحام ، قبل تخليقها . " لنبين لكم " أصل نشأتكم ، مع قدرته تعالى ، على تكميل خلقه في لحظة واحدة ، ولكن ليبين لنا ، كمال حكمته ، وعظيم قدرته ، وسعة رحمته .
" ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى " ، ونقر . أي : نبقي في الأرحام من الحمل ، الذي لم تقذفه الأرحام ، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى وهو مدة الحمل . " ثم نخرجكم " من بطون أمهاتكم " طفلا " لا تعلمون شيئا ، وليس لكم قدرة . وسخرنا لكم الأمهات ، وأجرينا لكم في ثديها ، الرزق ، ثم تنقلون ، طورا بعد طور ، حتى تبلغوا أشدكم ، وهو كمال القوة والعقل . " ومنكم من يتوفى " من قبل أن يبلغ سن الرشد ، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر ، أي : أخسه وأرذله ، وهو : سن الهرم والتخريف ، الذي به يزول العقل ، ويضمحل ، كما زالت باقي القوة ، وضعفت . " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " أي : لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا ، مما كان يعلمه قبل ذلك ، وذلك لضعف عقله . فقوة الآدمي محفوفة بضعفين ، ضعف الطفولية ونقصها ، وضعف الهرم ونقصه ، كما قال تعالى : " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير " . والدليل الثاني ، إحياء الأرض بعد موتها ، فقال الله فيه : " وترى الأرض هامدة " أي : خاشعة مغبرة لا نبات فيها ، ولا خضرة . " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت " أي : تحركت بالنبات " وربت " أي : ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها . " وأنبتت من كل زوج " أي : صنف من أصناف النبات " بهيج " أي : يبهج الناظرين ، ويسر المتأملين ، فهذان الدليلان القاطعان ، يدلان على هذه المطالب الخمسة ، وهي هذه ....(1/275)
" ذلك " الذي أنشأ الآدمي من ما وصف لكم ، وأحيا الأرض بعد موتها . " بأن الله هو الحق " أي : الرب المعبود ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وعبادته هي الحق ، وعبادة غيره باطلة . " وأنه يحيي الموتى " كما ابتدأ الخلق ، وكما أحيا الأرض بعد موتها . " وأنه على كل شيء قدير " كما أشهدكم من بديع قدرته ، وعظيم صنعته ، ما أشهدكم .
" وأن الساعة آتية لا ريب فيها " فلا وجه لاستبعادها . " وأن الله يبعث من في القبور " فيجازيكم بأعمالكم حسنها وسيئها ...
وقوله تعالى : ? (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ? (الحج : 18 )
? ? لم يتعرض لتفسيرها فيها الإمام السعدي رحمه الله تعالى ،
? قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى(1/276)
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له, فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً, وسجود كل شيء مما يختص به, كما قال تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون} وقال ههنا: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض} أي من الملائكة في أقطار السموات, والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} وقوله: {والشمس والقمر والنجوم} إنما ذكر هذه على التنصيص, لأنها قد عبدت من دون الله فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة {لاتسجدوا للشمس ولاللقمر واسجدوالله الذي خلقهن} الاَية, وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب فتسجد تحت العرش, ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت" وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه في حديث الكسوف "إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله, وإنما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته, ولكن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له".
وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجداً حين يغيب, ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه, وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل, وعن ابن عباس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت, فسجدت الشجرة لسجودي, فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً, وضع عني بها وزراً, واجعلها لي عندك ذخراً, وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود, قال ابن عباس: فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: سجدة ثم سجد, فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة, رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.(1/277)
وقوله: {والدواب} أي الحيوانات كلها, وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر, فرب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها. وقوله: {وكثير من الناس} أي يسجد لله طوعاً مختاراً متعبداً بذلك {وكثير حق عليه العذاب} أي ممن امتنع وأبى واستكبر {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي, حدثنا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: قيل لعلي: إن ههنا رجلاً يتكلم في المشيئة, فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله كما يشاء أو كما شئت ؟ قال: بل كما شاء. قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء ؟ قال: بل حيث يشاء. قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي, يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة, وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" رواه مسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرىء قالا: حدثنا ابن لهيعة, قال: حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال: سمعت عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال "نعم فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما" ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به. وقال الترمذي: ليس بقوي, وفي هذا نظر, فإن ابن لهيعة قد صرح فيه بالسماع, وأكثر ما نقموا عليه تدليسه.(1/278)
وقد قال أبو داود في المراسيل: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح, أنبأنا ابن وهب, أخبرني معاوية بن صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين" ثم قال أبو داود: وقد أسند هذا, يعني من غير هذا الوجه ولا يصح. وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثني ابن أبي داود, حدثنا يزيد بن عبد الله, حدثنا الوليد, حدثنا أبو عمرو, حدثنا حفص بن عنان, حدثني نافع قال: حدثني أبو الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية, وقال: إن هذه فضلت بسجدتين. وروى أبو داود وابن ماجه من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن, منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان, فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً.
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ * ? ( الحج 61-66 )...
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/279)
" ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير " ذلك الذي شرع لكم تلك الأحكام الحسنة العادلة ، هو حسن التصرف ، في تقديره ، وتدبيره ، الذي " يولج الليل في النهار " أي : يدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا . فيأتي بالليل بعد النهار ، وبالنهار بعد الليل ، ويزيد في أحدهما ، ما ينقصه ، من الآخر ، ثم بالعكس ، فيترتب على ذلك ، قيام الفصول ، ومصالح الليل والنهار ، والشمس والقمر ، التي هي من أجل نعمه على العباد ، وهي من الضروريات لهم . " وأن الله سميع " يسمع ضجيج الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات . " بصير " يرى دبيب النملة السوداء ، تحت الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار "...(1/280)
" ذلك " صاحب الحكم والأحكام ، " بأن الله هو الحق " أي : الثابت ، الذي لا يزال ولا يزول ، الأول ، الذي ليس قبله شيء ، الآخر ، الذي ليس بعده شيء ، كامل الأسماء والصفات ، صادق الوعد ، الذي وعده حق ولقاؤه حق ، ودينه حق ، وعبادته هي الحق النافعة الباقية على الدوام . " وأن ما يدعون من دونه " من الأصنام والأنداد ، من الحيوانات والجمادات . " هو الباطل " الذي ، هو باطل في نفسه ، وعبادته باطلة ، لأنها متعلقة بمضمحل فان ، فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها . " وأن الله هو العلي الكبير " العلي في ذاته ، فهو عال على جميع المخلوقات وفي قدره ، فهو كامل الصفات ، وفي قهره لجميع المخلوقات ، الكبير في ذاته ، وفي أسمائه ، وفي صفاته ، الذي من عظمته وكبريائه ، أن الأرض قبضته يوم القيامة ، والسموات مطويات بيمينه . ومن كبريائه ، أن كرسيه ، وسع السموات والأرض ، ومن عظمته وكبريائه ، أن نواصي العباد بيده ، فلا يتصرفون إلا بمشيئته ، ولا يتحركون ويسكنون ، إلا بإرادته . وحقيقة الكبرياء ، التي لا يعلمها إلا هو ، لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، أنها كل صفة كمال وجلال ، وكبرياء ، وعظمة ، فهي ثابتة له ، وله من تلك الصفة ، أجلها وأكملها ، ومن كبريائه ، أن العبادات كلها ، الصادرة من أهل السموات والأرض ، كلها المقصود منها ، تكبيره وتعظيمه ، وإجلاله وإكرامه . ولهذا كان التكبير ، شعارا للعبادات الكبار ، كالصلاة وغيرها . " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد " هذا ، حث منه تعالى ، وترغيب في النظر بآياته الدالة على وحدانيته ، وكماله فقال : " ألم تر " أي : ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك " أن الله أنزل من السماء ماء " وهو : المطر ، فينزل على أرض خاشعة مجدبة ، قد اغبرت أرجاؤها ، ويبس ما فيها ، من شجر ، ونبات . " فتصبح الأرض مخضرة " قد اكتست من(1/281)
كل زوج كريم ، وصار لها بذلك ، منظر بهيج ، إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها ، لمحيي الموتى ، بعد أن كانوا رميما . " إن الله لطيف خبير " اللطيف الذي يدرك بواطن الأشياء ، وخفياتها ، وسرائرها ، الذي يسوق إلى عباده الخير ، ويدفع عنهم الشر ، بطرق لطيفة تخفى على العباد ، ومن لطفه ، أنه يرى عبده ، عزته في انتقامه وكمال اقتداره ، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك . ومن لطفه ، أنه يعلم مواقع القطر من الأرض ، وبذور الأرض في بواطنها ، فيسوق ذلك الماء ، إلى ذلك البذر ، الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات . " خبير " بسرائر الأمور ، وخبايا الصدور ، وخفايا الأمور . " له ما في السماوات وما في الأرض " خلقا وعبيدا ، يتصرف فيهم بملكه وحكمته ، وكمال اقتداره ، ليس لأحد غيره من الأمر شيء . " وإن الله لهو الغني " بذاته الذي له الغنى المطلق التام ، من جميع الوجوه . ومن غناه ، أنه لا يحتاج إلى أحد من خلقه ، ولا يواليهم من ذلة ، و يتكثر بهم من قلة . ومن غناه ، أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، ومن غناه ، أنه صمد ، لا يأكل ولا يشرب ، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق ، بوجه من الوجوه ، فهو يطعم ولا يطعم ، ومن غناه ، أن الخلق كلهم ، مفتقرون إليه ، في إيجادهم ، وإعدادهم ، وإمدادهم ، وفي دينهم ، ودنياهم ، ومن غناه ، أنه لو اجتمع من في السموات ومن في الأرض ، الأحياء منهم والأموات ، في صعيد واحد ، فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته ، فأعطاهم فوق أمانيهم ، ما نقص ذلك من ملكه شيئا ، ومن غناه أن يده سحاء بالخير والبركات ، الليل والنهار ، لم يزل إفضاله على الأنفاس . ومن غناه وكرمه ، ما أودعه في دار كرامته ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . " الحميد " أي : المحمود في ذاته ، وفي أسمائه ، لكونها حسنى ، وفي صفاته ، لكونها كلها صفات كمال ، وفي أفعاله ، لكونها دائرة بين العدل والإحسان ،(1/282)
والرحمة ، والحكمة . وفي شرعه ، لكونه لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة ، أو راجحة ، ولا ينهى إلا عما فيه ، مفسدة خالصة أو راجحة ، الذي له الحمد ، الذي يملأ ما في السموات والأرض ، وما بينهما ، وما شاء بعدهما ، الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده ، وهو المحمود على توفيق من يوفقه ، وخذلان من يخذله ، وهو الغني في حمده ، الحميد في غناه .
" ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور "(1/283)
أي : ألم تشاهد ببصرك وقلبك ، نعمة ربك السابغة ، وأياديه الواسعة . " أن الله سخر لكم ما في الأرض " من حيوانات ، ونبات ، وجمادات ، فجميع ما في الأرض ، مسخر لبني آدم ، حيواناتها ، لركوبه ، وحمله ، وأعماله ، وأكله ، وأنواع انتفاعه ، وأشجارها ، وثمارها ، يقتاتها ، وقد سلط على غرسها واستغلالها ، ومعادنها ، يستخرجها ، وينتفع بها . " والفلك " أي : وسخر لكم الفلك ، وهي السفن " تجري في البحر بأمره " تحملكم ، وتحمل تجاراتكم ، وتوصلكم من محل إلى محل ، وتستخرجون من البحر ، حلية تلبسونها . ومن رحمته بكم أنه " ويمسك السماء أن تقع على الأرض " فلولا رحمته وقدرته ، لسقطت السماء على الأرض ، فتلف ما عليها ، وهلك من فيها " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا "..." إن الله بالناس لرؤوف رحيم " أرحم بهم من والديهم ، ومن أنفسهم ، ولهذا يريد لهم الخير ، ويريدون لأنفسهم الشر والضر . ومن رحمته ، أن سخر لهم ، ما سخر من هذه الأشياء . " وهو الذي أحياكم " وأوجدكم من العدم " ثم يميتكم " بعد أن أحياكم . " ثم يحييكم " بعد موتكم ، ليجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . " إن الإنسان " أي : جنسه ، إلا من عصمه الله " لكفور " لنعم الله ، كفور بالله ، لا يعترف بإحسانه ، بل ربما كفر بالبعث وقدرة ربه .
وقوله تعالى : ? (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ? (الحج : 70 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/284)
" ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض " لا يخفى عليه منها خافية ، من ظواهر الأمور ، وبواطنها ، خفيها ، وجليها ، متقدمها ، ومتأخرها ، ذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد أثبته الله في كتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، حين خلق الله القلم قال له : ( اكتب ) قال : ما أكتب ؟ قال : " اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " . " إن ذلك على الله يسير " وإن كان تصوره عندكم لا يحاط به ، فالله تعالى يسير عليه أن يحيط علما بجميع الأشياء ، وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع .
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ* ? (الحج : 73-76 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز "(1/285)
هذا مثل ضربه الله ، لقبح عبادة الأوثان ، وبيان نقصان عقول من عبدها ، وضعف الجميع فقال : " يا أيها الناس " هذا خطاب للمؤمنين والكفار ، المؤمنون يزدادون علما وبصيرة ، والكافرون ، تقوم عليهم الحجة . " ضرب مثل فاستمعوا له " أي : ألقوا إليه أسماعكم وافهموا ما احتوى عليه ، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية ، وأسماعا معرضة ، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع ، وهو هذا . " إن الذين تدعون من دون الله " شمل ما يدعى من دون الله . " لن يخلقوا ذبابا " الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها ، فليس في قدرتهم ، خلق هذا المخلوق الضعيف ، فما فوقه من باب أولى . " ولو اجتمعوا له " بل أبلغ من ذلك " وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه " وهذا غاية ما يصير من العجز . " ضعف الطالب " الذي هو المعبود من دون الله " والمطلوب " الذي هو الذباب ، فكل منهما ضعيف . وأضعف منهما ، من يتعلقون بهذا الضعيف ، وينزلونه منزلة رب العالمين . فهؤلاء " ما قدروا الله حق قدره " حيث سووا الفقير العاجز من جميع الوجوه ، بالغني القوي من جميع الوجوه . سووا من لا يملك لنفسه ، ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، بمن هو النافع الضار ، المعطي المانع ، مالك الملك ، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف . " إن الله لقوي عزيز " أي : كامل القوة ، كامل العزة ، ومن كمال قوته وعزته ، أن نواصي الخلق بيديه ، وأنه لا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ، إلا بإرادته ومشيئته ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . ومن كمال قوته ، أن يمسك السموات والأرض أن تزولا ، ومن كمال قوته ، أنه يبعث الخلق كلهم ، أولهم وآخرهم ، بصيحة واحدة . ومن كمال قوته ، أنه أهلك الجبابرة ، والأمم العاتية ، بشيء يسير ، وسوط من عذابه .
" الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور "(1/286)
لما بين تعالى كماله وضعف الأصنام ، وأنه المعبود حقا ، بين حالة الرسل ، وتميزهم عن الخلق ، بما تميزوا به ، من الفضائل فقال : " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس " أي : يختار ويجتبي من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، يكونون أزكى ذلك النوع ، وأجمعه لصفات المجد ، وأحقه بالاصطفاء . فالرسل ، لايكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق ، والذي اختارهم ، واجتباهم ، ليس جاهلا بحقائق الأشياء ، أو يعلم شيئا دون شيء وأن المصطفي لهم ، السميع ، البصير ، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء . فاختياره إياهم ، عن علم منه ، أنهم أهل لذلك ، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى : " الله أعلم حيث يجعل رسالته "... " وإلى الله ترجع الأمور " أي : هو يرسل الرسل ، يدعون الناس إلى الله ، فمنهم المجيب ، ومنهم الراد لدعوتهم ، ومنهم العامل ، ومنهم الناكل فهذا وظيفة الرسل ، وأما الجزاء على تلك الأعمال ، فمصيرها إلى الله ، فلا تعدم منه ، فضلا وعدلا .
ومن سورة المؤمنون تسع وعشرون آية(1/287)
قوله تعالى : ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * ? ( المومنون 12- 22 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون "(1/288)
ذكر الله في هذه الآيات أطوار الآدمي وتنقلاته ، من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه ، فذكر ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السلام ، وأنه " من سلالة من طين " أي : قد سلت ، وأخذت من جميع الأرض ، ولذلك جاء بنوه على قدر الأرض : منهم الطيب والخبيث ، وبين ذلك ، والسهل ، والحزن ، وبين ذلك . " ثم جعلناه " أي : جنس الآدميين " نطفة " تخرج من بين الصلب والترائب ، فتستقر " في قرار مكين " وهو : الرحم محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك . " ثم خلقنا النطفة " التي قد استقرت قبل " علقة " أي : دما أحمر ، بعد مضي أربعين يوما من النطفة . " فخلقنا العلقة " بعد أربعين يوما " مضغة " أي : قطعة لحم صغيرة ، بقدر ما يمضغ من صغرها . " فخلقنا المضغة " اللينة " عظاما " صلبة ، قد تخللت اللحم ، بحسب حاجة البدن إليها . " فكسونا العظام لحما " أي : جعلنا اللحم ، كسوة للعظام ، كما جعلنا العظام ، عمادا للحم ، وذلك في الأربعين الثالثة . " ثم أنشأناه خلقا آخر " نفخ فيه الروح ، فانتقل من كونه جمادا ، إلى أن صار حيوانا . " فتبارك الله " أي : تعالى ، وتعاظم ، وكثر خيره " أحسن الخالقين "..." الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " فخلقه كله حسن ، والإنسان من أحسن مخلوقاته ، بل هو أحسنها على الإطلاق كما قال تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " ولهذا كان خواصه ، أفضل المخلوقات وأكملها . " ثم إنكم بعد ذلك " الخلق ، ونفخ الروح " لميتون " في أحد أطواركم وتنقلاتكم . " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " فتجازون بأعمالكم ، حسنها وسيئها . قال تعالى : " أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى "(1/289)
" ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين "
لما ذكر تعالى خلق الآدمي ، ذكر مسكنه ، وتوفر النعم عليه ، من كل وجه فقال : " ولقد خلقنا فوقكم " سقفا للبلاد ، ومصلحة للعباد " سبع طرائق " أي : سبع سموات طباقا ، كل طبقة فوق الأخرى ، قد زينت بالنجوم ، والشمس ، والقمر ، وأودع فيها من مصالح الخلق ، ما أودع . " وما كنا عن الخلق غافلين " فكما أن خلقنا عام لكل مخلوق ، فعلمنا أيضا ، محيط بما خلقنا ، فلا نغفل مخلوقا ، ولا ننساه ، ولا نخلق خلقا فنضيعه ، ولا نغفل عن السماء فتقع على الأرض ، ولا ننسى ذرة في لجج البحار ، وجوانب الفلوات ، ولا دابة إلا سقنا إليها رزقا " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها " . وكثير ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "..." بلى وهو الخلاق العليم ".. لأن خلق المخلوقات ، من أقوى الأدلة العقلية ، على علم خالقها وحكمته ...." وأنزلنا من السماء ماء " يكون رزقا لكم ولأنعامكم ، بقدر ما يكفيكم ، فلا ينقصه ، بحيث يتلف المساكن ، ولا تعيش منه النباتات والأشجار ، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ، ثم صرفه ، عند التضرر من دوامه . " فأسكناه في الأرض " أي : أنزلناه عليها ، فسكن واستقر ، وأخرج بقدرة منزله ، جميع الأزواج النباتية ، وأسكنه أيضا معدا ، في خزائن الأرض ، بحيث لم يذهب نازلا ، حتى لا يوصل إليه ، ولا يبلغ قعره . " وإنا على ذهاب به لقادرون "(1/290)
، إما بأن لا ننزله ، أو ننزله ، فيذهب نازلا ، لا يوصل إليه ، أو لا يوجد منه المقصود منه ، وهذا تنبيه منه لعباده ، أن يشكروه على نعمته ، ويقدروا عدمها ، ماذا يحصل به من الضرر ، كقوله تعالى : " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين "..." فأنشأنا لكم به " أي : بذلك الماء " جنات " أي : بساتين " من نخيل وأعناب " . خص تعالى ، هذين النوعين ، مع أنه ينشر منه غيرهما من الأشجار ، لفضلهما ، ومنافعهما ، التي فاقت بها الأشجار ، ولهذا ذكر العام في قوله : " لكم " أي : في تلك الجنات " فواكه كثيرة ومنها تأكلون " من تين ، وأترج ، ورمان ، وتفاح وغيرها . " وشجرة تخرج من طور سيناء " وهي شجرة الزيتون ، أي : جنسها . خصت بالذكر ، لأن مكانها خاص ، في أرض الشام ، ولمنافعها ، التي ذكر بعضها في قوله : " تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " أي : فيها الزيت ، الذي هو دهن ، يكثر استعماله من الاستصباح به ، واصطباغ للآكلين ، أي : يجعل إداما للآكلين ، وغير ذلك من المنافع .
" وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون "(1/291)
أي : ومن نعمه عليكم ، أن سخر لكم الأنعام من الإبل ، والبقر ، والغنم ، فيها عبرة للمعتبرين ، ومنافع ، للمنتفعين . " نسقيكم مما في بطونها " من لبن ، يخرج من بين فرث ودم ، لبن ، خالص ، سائغ للشاربين . " ولكم فيها منافع كثيرة " من أصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ، تستخفونها يوم ظعنكم ، ويوم إقامتكم " ومنها تأكلون " أفضل المآكل من لحم وشحم . " وعليها وعلى الفلك تحملون " أي : جعلها لكم في البر ، تحملون عليها أثقالكم إلى بلد ، لم تكونوا بالغيه ، إلا بشق الأنفس ، كما جعل لكم السفن في البحر ، تحملكم ، وتحمل متاعكم ، قليلا كان ، أو كثيرا . فالذي أنعم بهذه النعم ، وصنف أنواع الإحسان ، وأدر علينا من خيره المدرار ، هو الذي يستحق كمال الشكر ، وكمال الثناء ، والاجتهاد في عبوديته وأن لا يستعان بنعمه على معاصيه .(1/292)
وقوله تعالى: ? وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ *وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ *قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ *قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ *بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * ? (المومنون 78-92 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون "(1/293)
يخبر تعالى ، بمنته على عباده الداعية لهم إلى شكره ، والقيام بحقه فقال : " وهو الذي أنشأ لكم السمع "لتدركوا به المسموعات فتنتفعوا في دينكم ودنياكم . " والأبصار " لتدركوا بها المبصرات ، فتنتفعوا بها في مصالحكم . " والأفئدة " أي : العقول التي تدركون بها الأشياء ، وتتميزون بها عن البهائم . فلو عدمتم السمع ، والأبصار ، والعقول ، بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم ؟ وماذا تفقدون من ضرورياتكم وكمالكم ؟ أفلا تشكرون الذي من عليكم بهذه النعم ، فتقومون بتوحيده وطاعته ؟ ولكنكم ، قليل شكركم ، مع توالي النعم عليكم . " وهو " تعالى " الذي ذرأكم في الأرض " أي : بثكم في أقطارها ، وجهاتها ، وسلطكم على استخراج مصالحها ومنافعها ، وجعلها كافية لمعايشكم ، ومساكنكم . " وإليه تحشرون " بعد موتكم ، فيجازيكم بما عملتم في الأرض ، من خير وشر ، وتحدث الأرض التي كنتم فيها بأخبارها . " وهو " تعالى وحده " الذي يحيي ويميت " أي : المتصرف في الحياة والموت ، هو الله وحده . " وله اختلاف الليل والنهار " أي : تعاقبهما وتناوبهما ، فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا ، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا ، من إله غير الله ، يأتيكم بضياء أفلا تبصرون ؟ ومن رحمته ، جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون . ولهذا قال هنا : " أفلا تعقلون " فتعرفون أن الذي وهب لكم ، من النعم ، السمع ، والأبصار ، والأفئدة ، والذي نشركم في الأرض ، وحده ، والذي يحيي ويميت ، وحده ، والذي يتصرف بالليل والنهار ، وحده ، أن ذلك موجب لكم ، أن تخلصوا له العبادة ، وحده لا شريك له ، وتتركوا عبادة من لا ينفع ولا يضر ، ولا يتصرف بشيء ، بل هو عاجز من كل وجه ، فلو كان لكم عقل ، لم تفعلوا ذلك .(1/294)
" بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين " أي : بل سلك هؤلاء المكذبون ، مسلك الأولين ، من المكذبين بالبعث ، واستبعدوه غاية الاستبعاد وقالوا : " أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " أي : هذا لا يتصور ، ولا يدخل العقل ، بزعمهم . " لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل " أي : ما زلنا نوعد بأن البعث كائن ، نحن وآباؤنا ، ولم نره ، ولم يأت بعد . " إن هذا إلا أساطير الأولين " أي : قصصهم وأسمارهم ، التي يتحدث بها وتلهى ، وإلا فليس لها حقيقة ، وكذبوا ـ قبحهم الله ـ فإن الله أراهم ، من آياته أكبر من البعث ، ومثله ، ما قاله الله تعالى : " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس "..." وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " الآيات... " وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت "الآيات... "(1/295)
قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون " أي : قل لهؤلاء المكذبين بالبعث ، العادلين بالله غيره ، محتجا عليهم بما أثبتوه ، وأقروا به ، من توحيد الربوبية ، وانفراد الله بها ـ على ما أنكروه ، من توحيد الإلهية والعبادة ، وبما أثبتوه من خلق المخلوقات العظيمة ، على ما أنكروه من إعادة الموتى ، الذي هو أسهل من ذلك : " لمن الأرض ومن فيها " أي : من هو الخالق للأرض ، ومن عليها ، من حيوان ، ونبات ، وجماد ، وبحار ، وأنهار ، وجبال ، ومن المالك لذلك ، المدبر له ؟ فإنك إذا سألتهم عن ذلك ، لا بد أن يقولوا : الله وحده ، فقل لهم إذا أقروا بذلك : " أفلا تذكرون " أي : أفلا ترجعون إلى ما ذكركم الله به ، مما هو معلوم عندكم ، مستقر في فطركم ، قد يغيبه الإعراض في بعض الأوقات . الحقيقة أنكم إن رجعتم إلى ذاكرتكم ، بمجرد التأمل ، علمتم أن مالك ذلك ، هو المعبود وحده ، وأن إلهية من هو مملوك ، أبطل الباطل ، ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك ، فقال : " قل من رب السماوات السبع " وما فيها من النيرات ، والكواكب السيارات ، والثوابت " ورب العرش العظيم " الذي هو أعلى المخلوقات وأوسعها وأعظمها ؟ فمن الذي خلق ذلك ، ودبره ، وصرفه بأنواع التدبير ؟ " سيقولون لله " أي : سيقرون بأن الله رب ذلك كله . قل لهم حين يقرون بذلك : " أفلا تتقون " عبادة المخلوقات العاجزة ، وتتقون الرب العظيم ، كامل القدرة ، عظيم السلطان ؟ وفي هذا من لطف الخطاب ، من قوله : " أفلا تتقون " والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب ، ما لا يخفى . ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله فقال : " قل من بيده ملكوت كل شيء " أي : ملك كل شيء ، من العالم العلوي ، والعالم السفلي ، ما(1/296)
نبصره ، وما لا نبصره ؟ ( الملكوت ) صيغة مبالغة ، بمعنى الملك . " وهو يجير " عباده من الشر ، ويدفع ، عنهم المكاره ، ويحفظهم مما يضرهم . " ولا يجار عليه " أي : لا يقدر أحد أن يجير على الله ، ولا يدفع الشر الذي قدره الله . بل ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه . " سيقولون لله " أي : سيقرون أن الله المالك لكل شيء ، المجير ، الذي لا يجار عليه . " قل " لهم حين يقرون بذلك ، ملزما لهم ، " فأنى تسحرون " أي : فأين تذهب عقولكم ، حيث عبدتم من علمتم أنهم لا ملك لهم ، ولا قسط من الملك ، وأنهم عاجزون من جميع الوجوه ، وتركتم الإخلاص للمالك العظيم القادر المدبر لجميع الأمور ، فالعقول التي دلتكم على هذا ، لا تكون إلا مسحورة ، وهي ـ بلا شك ـ قد سحرها الشيطان ، بما زين لهم ، وحسن لهم ، وقلب الحقائق لهم ، فسحر عقولهم ، كما سحرت السحرة ، أعين الناس... .
" بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون "
يقول تعالى : بل أتينا هؤلاء المكذبين بالحق ، المتضمن للصدق في الأخبار ، العدل في الأمر والنهي ، فما بالهم لا يعترفون به ، وهو أحق أن يتبع ؟ وليس عندهم ، ما يعوضهم عنه ، إلا الكذب والظلم ولهذا قال : " وإنهم لكاذبون "(1/297)
" ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " كذب يعرف بخبر الله ، وخبر رسله ، ويعرف بالعقل الصحيح ، ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي ، على امتناع إلهين فقال : " إذا " أي : لو كان معه آلهة كما يقولون " لذهب كل إله بما خلق " أي : لانفرد كل واحد من الإلهين ، بمخلوقاته واستقل بها ، ولحرص على ممانعة الآخر ومغالبته . " ولعلا بعضهم على بعض " فالغالب ، يكون هو الإله ، فمن التمانع ، لا يمكن وجود العالم ، ولا يتصور أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول ، واعتبر ذلك بالشمس والقمر ، والكواكب الثابتة ، والسيارة ، فإنها منذ خلقت ، وهي تجري على نظام واحد ، وترتيب واحد ، كلها مسخرة بالقدرة ، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم ، ليست مقصورة على أحد دون أحد ، ولن ترى فيها خللا ، ولا تناقضا ، ولا معارضة في أدنى تصرف ، فهل يتصور أن يكون ذلك ، تقدير إلهين ربين ؟
" سبحان الله عما يصفون " قد نطقت بلسان حالها ، وأفهمت ببديع أشكالها ، أن المدبر لها ، إله واحد ، كامل الأسماء والصفات ، قد افتقرت إليه جميع المخلوقات ، في ربوبيته لها ، وفي إلهيته لها . فكما لا وجود لها ولا دوام ، إلا بربوبيته ، كذلك ، لا صلاح لها ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة . ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك ، وهو علمه المحيط . فقال : " عالم الغيب " أي : الذي غاب عن أبصارنا ، وعلمنا ، من الواجبات ، والمستحيلات ، والممكنات . " والشهادة " وهو ما نشاهد من ذلك " فتعالى " أي : ارتفع وعظم . " عما يشركون " به ، ولا علم عندهم ، إلا ما علمه الله .(1/298)
وقوله تعالى ? أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * ? ( المومنون 115-118 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى: " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " أي : " أفحسبتم " أيها الخلق " أنما خلقناكم عبثا " أي : سدى وباطلا ، تأكلون وتشربون ، وتمرحون ، وتتمتعون بلذات الدنيا ، ونترككم ، لا نأمركم ، ولا ننهاكم ، ولا نثيبكم ، ولا نعاقبكم ؟ ولهذا قال : " وأنكم إلينا لا ترجعون " لا يخطر هذا ببالكم . " فتعالى الله " أي : تعاظم ، وارتفع عن هذا الظن الباطل ، الذي يرجع إلى القدح في حكمته . " الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " فكونه ملكا للخلق كلهم حقا ، في صدقه ، ووعده ، ووعيده ، مألوها معبودا ، لما له من الكمال " رب العرش العظيم " فما دونه من باب أولى ، يمنع أن يخلقكم عبثا .(1/299)
" ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " أي : ومن دعا مع الله آلهة غيره ، بلا بينة من أمره ، ولا برهان على ذلك ، يدل على ما ذهب إليه ، وهذا قيد ملازم ، فكل من دعا غير الله ، فليس له برهان على ذلك ، بل دلت البراهين على بطلان ما ذهب إليه ، فأعرض عنها ظلما وعنادا ، فهذا سيقدم على ربه ، فيجازيه بأعماله ، ولا ينيله من الفلاح شيئا ، لأنه كافر . " إنه لا يفلح الكافرون " فكفرهم ، منعهم من الفلاح . " وقل " داعيا لربك مخلصا له الدين " رب اغفر " لنا حتى تنجينا من المكروه ، "وارحم" ، لتوصلنا برحمتك إلى كل خير . " وأنت خير الراحمين " فكل راحم للعبد ، فالله خير له منه ، أرحم بعبده من الوالدة بولدها ، وأرحم به من نفسه .
ومن سورة النور تسع آيات
قوله تعالى : ? اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * ? (النور 35-37 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/300)
قوله تعالى :" الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم "
" الله نور السماوات والأرض " الحسي والمعنوي ، وذلك أنه تعالى بذاته ، نور ، وحجابه نور ، الذي لو كشفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ، وبه استنار العرش ، والكرسي ، والشمس ، والقمر والنور ، وبه استنارت الجنة . وكذلك المعنوي ، يرجع إلى الله ، فكتابه نور ، وشرعه نور ، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين ، نور . فلولا نوره تعالى ، لتراكمت الظلمات ، ولهذا ، كل محل ، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر . " مثل نوره " الذي يهدي إليه ، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين . " كمشكاة " أي : كوة " فيها مصباح " لأن الكوة ، تجمع نور المصباح حيث لا يتفرق . ذلك " المصباح في زجاجة الزجاجة " من صفائها وبهائها " كأنها كوكب دري " أي : مضيء إضاءة الدر . " يوقد " ذلك المصباح ، الذي في تلك الزجاجة الدرية " من شجرة مباركة زيتونة " أي : يوقد من زيت الزيتون الذي ناره ، من أنور ما يكون . " لا شرقية " فقط ، فلا تصيبها الشمس ، آخر النهار . " ولا غربية " فقط ، فلا تصيبها الشمس ، أول النهار . وإذا انتفى عنها الأمران ، كانت متوسطة من الأرض . كزيتون الشام ، تصيبه الشمس أول النهار وآخره ، فيحسن ويطيب ، ويكون أصفى لزيتها ، ولهذا قال : " يكاد زيتها " من صفائه " يضيء ولو لم تمسسه نار " فإذا مسته النار ، أضاء إضاءة بليغة " نور على نور " أي : نور النار ، ونور الزيت . ووجه هذا المثل ، الذي ضربه الله ، وتطبيقه على حالة المؤمن ، ونور الله في قلبه ، أن فطرته التي فطر عليها ، بمنزلة الزيت الصافي . ففطرته صافية ، مستعدة للتعاليم(1/301)
الإلهية ، والعمل المشروع ، فإذا وصل إليه العلم والإيمان ، اشتعل ذلك النور في قلبه ، بمنزلة إشعال النار ، فتيلة ذلك المصباح ، وهو صافي القلب ، من سوء القصد ، وسوء الفهم عن الله . إذا وصل إليه الإيمان ، أضاء إضاءة عظيمة ، لصفائه من الكدورات . وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ، فيجتمع له ، نور الفطرة ، ونور الإيمان ، ونور العلم ، وصفاء المعرفة ، نور على نوره . ولما كان هذا من نور الله تعالى ، وليس كل أحد يصلح له ذلك قال : " يهدي الله لنوره من يشاء " ممن يعلم زكاءه وطهارته ، وأنه يزكي معه ، وينمي . " ويضرب الله الأمثال للناس " ليعقلوا عنه ، ويفهموا ، لطفا منه بهم ، وإحسانا إليهم وليتضح الحق من الباطل ، فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة ، فيعلمها العباد علما واضحا . " والله بكل شيء عليم " فعلمه محيط بجميع الأشياء . فلتعلموا أن ضربه الأمثال ، ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها وأنها مصلحة للعباد . فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها ، لا بالاعتراض عليها ، ولا بمعارضتها ، فإنه يعلم ، وأنتم لا تعلمون . ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد ، ذكرها منوها بها فقال : " في بيوت أذن الله "إلى " بغير حساب "
" في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب "
أي : يتعبد لله " في بيوت " عظيمة فاضلة ، هي أحب البقاع إليه ، وهي : المساجد . " أذن الله " أي : أمر ووصى(1/302)
" أن ترفع ويذكر فيها اسمه " هذان مجموع أحكام المساجد . فيدخل في رفعها ، بناؤها ، وكنسها وتنظيفها من النجاسات والأذى وصونها من المجانين والصبيان ، الذين لا يتحرزون عن النجاسات ، وعن الكافر ، وأن تصان عن اللغو فيها ، ورفع الأصوات بغير ذكر الله . " ويذكر فيها اسمه " يدخل في ذلك ، الصلاة كلها ، فرضها ، ونفلها ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، وغيره من أنواع الذكر ، وتعلم العلم وتعليمه ، والمذاكرة فيها ، والاعتكاف ، وغير ذلك من العبادات ، التي تفعل في المساجد ، ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين : عمارة بنيان ، وصيانة لها ، وعمارة بذكر اسم الله ، من الصلاة وغيرها وهذا أشرف القسمين . ولهذا شرعت الصلوات الخمس ، والجمعة ، في المساجد ، وجوبا عند أكثر العلماء ، واستحبابا عند آخرين . ثم مدح تعالى ، عمارها بالعبادة فقال : " يسبح له فيها " إخلاصا " بالغدو " أول النهار " والآصال " آخره " رجال " . خص هذين الوقتين ، لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله ، وسهولته . ويدخل في ذلك ، التسبيح في الصلاة وغيرها ، ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء ، وأورادهما عند الصباح والمساء . أي : يسبح فيها الله ، رجال ، وأي رجال ، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ، ذات لذات ، ولا تجارة ومكاسب ، مشغلة عنه . " لا تلهيهم تجارة " وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض ، فيكون قوله : " ولا بيع " من باب عطف الخاص على العام ، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره ، فهؤلاء الرجال ، وإن اتجروا ، وباعوا ، واشتروا ، فإن ذلك ، لا محذور فيه . لكنه لا تلهيهم تلك ، بأن يقدموها ويؤثروها " عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " بل جعلوا طاعة الله وعبادته ، غاية مرادهم ، ونهاية مقصدهم ، فما حال بينهم وبينها ، رفضوه . ولما كان ترك الدنيا ، شديدا على أكثر النفوس ، وحب المكاسب بأنواع التجارات ، محبوبا لها ، ويشق عليها تركه في الغالب ، وتتكلف(1/303)
من تقديم حق الله على ذلك ، ذكر ما يدعوها إلى ذلك ، ترغيبا وترهيبا ـ فقال : " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار " من شدة هوله وإزعاجه القلوب والأبدان ، فلذلك خافوا ذلك اليوم ، فسهل عليهم العمل ، وترك ما يشغل عنه . " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا " والمراد بأحسن ما عملوا : أعمالهم الحسنة الصالحة ، لأنه أحسن ما عملوا ، لأنهم يعملون المباحات وغيرها . فالثواب لا يكون إلا على العمل الحسن كقوله تعالى : " ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون "..." ويزيدهم من فضله " زيادة كثيرة عن الجزاء المقابل لأعمالهم . " والله يرزق من يشاء بغير حساب " بل يعطيه ، من الأجر ، ما لا يبلغه عمله ، بل ولا تبلغه أمنيته ، ويعطيه من الأجر بلا عد ، ولا كيل ، وهذا كناية عن كثرته جدا .
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ *يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ*وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ? (النور 43-45 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/304)
قوله تعالى :" ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار "
أي : ألم تشاهد ببصرك ، عظيم قدرة الله ، وكيف " يزجي " ، أي : يسوق " سحابا " قطعا متفرقة " ثم يؤلف " بين تلك القطع ، فيجعله سحابا متراكما ، مثل الجبال . " فترى الودق " أي : الوابل والمطر ، يخرج من خلال السحابة ، نقطا متفرقة ، ليحصل بها الانتفاع ، من دون ضرر ، فتمتلىء بذلك ، الغدران ، وتتدفق الخلجان ، وتسيل الأودية ، وتنبت الأرض من كل زوج كريم ، وتارة ينزل الله من ذلك السحاب ، بردا يتلف ما يصيبه . " فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء " أي : بحسب اقتضاء حكمه القدري ، وحكمته التي يحمد عليها . " يكاد سنا برقه " أي : يكاد ضوء برق ذلك السحاب ، من شدته " يذهب بالأبصار " ، أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين ، وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر ، كامل القدرة ، نافذ المشيئة ، واسع الرحمة ؟ " يقلب الله الليل والنهار " من حر إلى برد ، ومن برد إلى حر ، ومن ليل إلى نهار ، ومن نهار إلى ليل ، ويديل الأيام بين عباده . " إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " أي : لذوي البصائر ، والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها ، كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة الحسية . فالبصير ، ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكير ، وتدبر لما أريد بها ومنها ، والمعرض الجاهل ، نظره إليها نظر غفلة ، بمنزلة نظر البهائم .
" والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير "(1/305)
ينبه عباده على ما يشاهدونه ، أنه خلق جميع الدواب ، التي على وجه الأرض ، " من ماء " أي : مادتها كلها ، الماء ، كما قال تعالى : " وجعلنا من الماء كل شيء حي " . فالحيوانات التي تتوالد ، مادتها ، ماء النطفة ، حين يلقح الذكر الأنثى . والحيوانات التي تتولد من الأرض ، لا تتولد إلا من الرطوبات المائية ، كالحشرات لا يوجد منها شيء ، يتولد من غير ماء أبدا . فالمادة واحدة ، ولكن الخلقة مختلفة ، من وجوه كثيرة ، " فمنهم من يمشي على بطنه " كالحية ونحوها ، " ومنهم من يمشي على رجلين " كالآدميين ، وكثير من الطيور ، " ومنهم من يمشي على أربع " كبهيمة الأنعام ونحوها . فاختلافها ـ مع أن الأصل واحد ـ يدل على نفود مشيئة الله ، وعموم قدرته ، ولهذا قال : " يخلق الله ما يشاء " أي : من المخلوقات ، على ما يشاؤه من الصفات . " إن الله على كل شيء قدير " كما أنزل المطر على الأرض ، وهو لقاح واحد ، والأم واحدة ، وهي الأرض ، والأولاد مختلفو الأصناف والأوصاف ....
وقوله تعالى :? أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ? ( النور 64 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/306)
" ألا إن لله ما في السماوات والأرض " ملكا وعبيدا ، يتصرف فيهم بحكمه القدري ، وحكمه الشرعي . " قد يعلم ما أنتم عليه " أي : قد أحاط علمه ، بما أنتم عليه ، من خير ، وشر ، وعلم جميع أعمالكم ، أحصاها علمه ، وجرى بها قلمه ، وكتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون . " ويوم يرجعون إليه " أي : يوم القيامة " فينبئهم بما عملوا " يخبرهم بجميع أعمالهم ، دقيقها ، وجليلها ، إخبارا مطابقا ، لما وقع منهم ويستشهد عليهم ، أعضاءهم ، فلا يعدمون منه فضلا ، أو عدلا . ولما قيد علمه بأعمالهم ، ذكر العموم بعد الخصوص ، فقال : " والله بكل شيء عليم "
ومن سورة الفرقان أربع عشرة آية
قوله تعالى : ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * ? (الفرقان 1-2 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/307)
هذا بيان لعظمته الكاملة ، وتفرده بالوحدانية من كل وجه ، وكثرة خيراته وإحسانه ، فقال : " تبارك " أي : تعاظم ، وكملت أوصافه ، وكثرت خيراته ، الذي من أعظم خيراته ونعمه ، أن " نزل هذا القرآن " الفارق بين الحلال والحرام ، والهدى والضلال ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة . " على عبده " محمد صلى الله عليه وسلم الذي كمل مراتب العبودية ، وفاق جميع المرسلين . " ليكون " ذلك الإنزال للفرقان على عبده " للعالمين نذيرا " ، ينذرهم بأس الله ونقمه ، ويبين لهم ، مواقع رضا الله من سخطه ، حتى إن من قبل نذارته ، وعمل بها ، كان من الناجين في الدنيا والآخرة ، الذين حصلت لهم السعادة الأبدية ، والملك السرمدي . فهل فوق هذه النعمة ، وهذا الفضل والإحسان ، شيء ؟ فتبارك الذي هذا بعض إحسانه وبركاته . " الذي له ملك السماوات والأرض " أي : له التصرف فيهما وحده ، وجميع من فيهما ، مماليك وعبيد له ، مذعنون لعظمته ، خاضعون لربوبيته ، فقراء إلى رحمته ، الذي " لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك " . وكيف يكون له ولد ، أو شريك ، وهو المالك ، وغيره مملوك ، وهو القاهر ، وغيره مقهور ، وهو الغني بذاته ، من جميع الوجوه ، والمخلوقون ، مفتقرون إليه ، فقراء من جميع الوجوه ؟ وكيف يكون له شريك في الملك ، ونواصي العباد كلهم بيديه ، فلا يتحركون أو يسكنون ، ولا يتصرفون ، إلا بإذنه ، فتعالى الله عن ذلك ، علوا كبيرا ، فلم يقدره حق قدره ، من قال فيه ذلك ، ولهذا قال : " وخلق كل شيء " شمل العالم العلوي ، والعالم السفلي ، من حيواناته ، ونباتاته ، وجماداته . " فقدره تقديرا " أي : أعطى كل مخلوق منها ، ما يليق به ، ويناسبه من الخلق ، وما تقتضيه حكمته ، من ذلك ، بحيث صار كل مخلوق ، لا يتصور العقل الصحيح ، أن يكون بخلاف شكله ، وصورته المشاهدة ، بل كل جزء وعضو من المخلوق الواحد ، لا يناسبه غير محله ، الذي هو فيه . قال تعالى : " سبح اسم ربك(1/308)
الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " ، وقال تعالى : " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " ....
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً*وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * ? (الفرقان 45-49 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/309)
" ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا " أي : ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك ، كمال قدرة ربك ، وسعة رحمته ، أنه مد على العباد ، الظل ، وذلك قبل طلوع الشمس " ثم جعلنا الشمس عليه " أي : على الظل " دليلا " ، فلولا وجود الشمس ، لما عرف الظل ، فإن الضد يعرف بضده . " ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا " فكلما ارتفعت الشمس ، تقلص الظل ، شيئا فشيئا ، حتى يذهب بالكلية ، فتوالي الظل والشمس على الخلق ، الذي يشاهدونه عيانا ، وما يترتب على ذلك ، من اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما ، وتعاقب الفصول ، وحصول المصالح الكثيرة ، بسبب ذلك ـ من أدل دليل ، على قدرة الله وعظمته ، وكمال رحمته ، وعنايته بعباده ، وأنه وحده ، المعبود المحمود ، المحبوب المعظم ، ذو الجلال والإكرام . " وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " أي : من رحمته بكم ولطفه ، أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس ، الذي يغشاكم ، حتى تستقروا فيه ، وتهدؤوا بالنوم ، وتسبت حركاتكم ، أي : تنقطع عند النوم . فلولا الليل ، لما سكن العباد ، ولا استمروا في تصرفهم ، فضرهم ذلك غاية الضرر ، ولو استمر أيضا الظلام لتعطلت عليهم ، معايشهم ، ومصالحهم ، ولكنه جعل النهار نشورا ينتشرون فيه ، لتجاراتهم ، وأسفارهم ، وأعمالهم ، فيقوم بذلك ، ما يقوم من المصالح . " وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا " أي : هو وحد ، الذي رحم عباده ، وأدر عليهم رزقه ، بأن أرسل الرياح مبشرات ، بين يدي رحمته ، وهو : المطر ، فثار بها السحاب ، وتألف ، وصار كسفا ، وألحقته ، وأدرته بإذن ربها ، والمتصرف فيها ، ليقع استبشار العباد بالمطر ، قبل نزوله ، وليستعدوا له ، قبل أن يفاجئهم(1/310)
دفعة واحدة . " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " يطهر من الحدث ، والخبث ، ويطهر من الغش والأدناس ، وفيه بركة من بركته ، أنه أنزله ليحيي به ، بلدة ميتا ، فتختلف أصناف النباتات ، والأشجار فيها ، مما يأكل الناس والأنعام . " ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا " أي : نسقيكموه ، أنتم وأنعامكم ، أليس الذي أرسل الرياح المبشرات ، وجعلها ، في عملها متنوعات ، وأنزل من السماء ، ماء طهورا مباركا ، فيه رزق العباد ، ورزق بهائمهم ، هو الذي يستحق أن يعبد ، وحده ، ولا يشرك معه غيره ؟ ولما ذكر تعالى هذه الآيات العيانية المشاهدة ، وصرفها للعباد ، ليعرفوه ، ويشكروه ، ويذكروه مع ذلك " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " لفساد أخلاقهم وطبائعهم .
وقوله تعالى :? َهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً * ? (الفرقان 53-54)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : وهو وحده الذي مرج البحرين يلتقيان ، البحر العذب ، وهي الأنهار السارحة على وجه الأرض ، والبحر الملح ، وجعل منفعة كل واحد منهما مصلحة للعباد . " وجعل بينهما برزخا " أي : حاجزا يحجز من اختلاط أحدهما بالآخر ، فتذهب المنفعة المقصودة منها " وحجرا محجورا " أي : حاجزا حصينا . " وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا " أي : وهو الله وحده لا شريك له ، الذي خلق الآدمي ، من ماء مهين ثم نشر منه ذرية كثيرة ، وجعلهم أنسابا وأصهارا ، متفرقين ومجتمعين ، والمادة كلها من ذلك الماء المهين ، فهذا يدل على كمال اقتداره ، لقوله : " وكان ربك قديرا "(1/311)
وقوله تعالى : ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً *الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً * ? (الفرقان 58-62)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/312)
ثم أمر الله تعالى رسوله أن يتوكل عليه ، ويستعين به فقال : " وتوكل على الحي " الذي له الحياة الكاملة المطلقة " الذي لا يموت وسبح بحمده " أي : اعبده ، وتوكل عليه في الأمور المتعلقة بك ، والمتعلقة بالخلق . " وكفى به بذنوب عباده خبيرا " يعلمها ، ويجازي عليها ، فأنت ، ليس عليك من هداهم شيء ، وليس عليك حفظ أعمالهم . وإنما ذلك كله ، بيد الله " الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى " بعد ذلك " على العرش " الذي هو سقف المخلوقات ، وأعلاها ، وأوسعها ، وأجملها " الرحمن " استوى على عرشه ، الذي وسع السموات والأرض ، باسمه الرحمن ، الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات ، بأوسع الصفات . وأثبت بهذه الآية ، خلقه للمخلوقات ، واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم ، وعلوه فوق العرش ، ومباينته إياهم . " فاسأل به خبيرا " يعني بذلك ، نفسه الكريمة ، فهو الذي يعلم أوصافه ، وعظمته ، وجلاله ، وقد أخبركم بذلك ، وأبان لكم من عظمته ، ما تستعدون به من معرفته ، فعرفه العارفون ، وخضعوا لجلاله . واستكبر عن عبادته الكافرون ، واستنكفوا عن ذلك ، ولهذا قال : " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن " أي : وحده ، الذي أنعم عليكم بسائر النعم ، ودفع عنكم جميع النقم . " قالوا " جحدا وكفرا " وما الرحمن " بزعمهم الفاسد ، أنهم لا يعرفون الرحمن . وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول ، أن قالوا : ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله ، وهو يدعو معه إلها آخر ، يقول : " يا رحمن " ونحو ذلك ، كما قال تعالى : " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " ، فأسماؤه تعالى كثيرة ، لكثرة أوصافه ، وتعدد كماله ، فكل واحد منها ، دل على صفة كمال . " أنسجد لما تأمرنا " أي : لمجرد أمرك إيانا . وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول ، واستكبارهم عن طاعته ، " وزادهم " دعوتهم إلى السجود للرحمن " نفورا " هربا من الحق إلى الباطل ،(1/313)
وزيادة كفر وشقاء .
" تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله : " تبارك " ثلاث مرات ، لأن معناها كما تقدم ، أنها تدل على عظمة الباري ، وكثرة أوصافه ، وكثرة خيراته وإحسانه . وهذه السورة ، فيها من الاستدلال على عظمته ، وسعة سلطانه ، ونفوذ مشيئته ، وعموم علمه وقدرته ، وإحاطة ملكه في الأحكام الأمرية الجزائية وكمال حكمته . وفيها ، ما يدل على سعة رحمته ، وواسع جوده ، وكثرة خيراته ، الدينية والدنيوية ، ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن فقال : " تبارك الذي جعل في السماء بروجا " وهي : النجوم ، عمومها أو منازل الشمس والقمر التي تنزل منزلة منزلة ، وهي بمنزلة البروج ، والقلاع للمدن في حفظها . كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم للشياطين . " وجعل فيها سراجا " فيه النور والحرارة ، وهي : الشمس . " وقمرا منيرا " فيه النور ، لا الحرارة ، وهذا من أدلة عظمته ، وكثرة إحسانه ، فإن ما فيها من الخلق الباهر ، والتدبير المنتظم ، والجمال العظيم ، دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها ، وما فيها من المصالح للخلق ، والمنافع ، دليل على كثرة خيراته . " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة " أي : يذهب أحدهما ، فيخلفه الآخر ، وهكذا أبدا ، لا يجتمعان ، ولا يرتفعان . " لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " أي : لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ، ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية ، ويشكر الله على ذلك ، ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره ، ورد من الليل أو النهار ، فمن فاته ورده من أحدهما ، أدركه في الآخر ، وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل ، في ساعات الليل والنهار ، فيحدث لها النشاط والكسل ، والذكر والغفلة ، والقبض والبسط ، والإقبال والإعراض ، فجعل الله الليل والنهار ، يتوالى كل منهما على(1/314)
العباد ، ويتكرران ، ليحدث لهم الذكر والنشاط ، والشكر لله في وقت آخر ، ولأن أوقات العبادات ، تتكرر بتكرر الليل والنهار ، فكلما تكررت الأوقات ، أحدث للعبد همة غير همته ، التي كسلت عنه ، في الوقت المتقدم ، فزاد في تذكرها وشكرها ، فوظائف الطاعات ، بمنزلة سقي الإيمان ، الذي يمده ، فلولا ذلك ، لذوي غرس الإيمان ويبس . فلله أتم حمد ، وأجمله على ذلك ....
ومن سورة الشعراء اثنتا عشرة آية
قوله تعالى : ? الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ *وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ *? (الشعراء 78-89 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/315)
" إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين " هو المتفرد بنعمة الخلق ، ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية . ثم خصص منها بعض الضروريات فقال : " والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت هو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " . فهذا هو وحده المنفرد بذلك ، فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة ، وتترك هذه الأصنام ، التي لا تخلق ، ولا تهدي ، ولا تمرض ، ولا تشفي ، ولا تطعم ولا تسقي ، ولا تميت ، ولا تحيي ، ولا تنفع عابديها بكشف الكروب ، ولا مغفرة الذنوب . فهذا دليل قاطع ، وحجة باهرة ، لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها ، فدل على اشتراككم في الضلال ، وترككم طريق الهدى والرشد . قال الله تعالى : " وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان " الآيات . ثم دعا عليه السلام ربه فقال : " رب هب لي حكما " أي : علما كثيرا ، أعرف به الأحكام ، والحلال والحرام ، وأحكم به بين الأنام . " وألحقني بالصالحين " من إخوانه الأنبياء ، والمرسلين . " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " أي : اجعل لي ثناء صدق ، مستمر إلى آخر الدهر . فاستجاب الله دعاءه ، فوهب له من العلم والحكم ، ما كان به من أفضل المرسلين ، وألحق بإخوانه المرسلين ، وجعله محبوبا مقبولا ، معظما مثنيا عليه ، في جميع الملل ، في كل الأوقات . قال تعالى : " وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين "..." واجعلني من ورثة جنة النعيم " أي : من أهل الجنة ، التي يورثهم الله إياها ، فأجاب الله دعاءه ، فرفع منزلته في جنات النعيم . " واغفر لأبي إنه كان من الضالين " وهذا الدعاء ، بسبب الوعد الذي قال لأبيه : " سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا " . قال تعالى : " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم "..." ولا تخزني يوم يبعثون " أي :(1/316)
بالتوبيخ على بعض الذنوب ، والعقوبة عليها ، والفضيحة . بل أسعدني في ذلك اليوم الذي فيه " لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " فهذا الذي ينفعه عندك ، وهذا الذي ينجو به من العقاب ، ويستحق جزيل الثواب . والقلب السليم ، معناه ، الذي سلم من الشرك والشك ، ومحبة الشر ، والإصرار على البدعة ، والذنوب ، ويلزم من سلامته مما ذكر ، اتصافه بأضدادها ، من الإخلاص ، والعلم ، واليقين ، ومحبة الخير ، وتزيينه في قلبه . وأن تكون إرادته ومحبته ، تابعة لمحبة الله ، وهواه ، تابعا لما جاء عن الله ...
ومن سورة النمل ثلاث عشرة آية
قوله تعالى :? (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ? (النمل : 25 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" أَلا " أي : هلا " يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض " أي : يعلم الخفي الخبيء ، في أقطار السموات ، وأنحاء الأرض ، من صغار المخلوقات ، وبذور النباتات ، وخفايا الصدور . ويخرج خبء الأرض والسماء ، بإنزال المطر ، وإنبات النباتات ، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض ، ليجازيهم بأعمالهم " ويعلم ما تخفون وما تعلنون "
" الله لا إله إلا هو " أي : لا تنبغي العبادة ، والإنابة ، والذل ، والحب ، إلا له ، لأنه المألوه ، لما له من الصفات الكاملة ، والنعم الموجبة لذلك . " رب العرش العظيم " الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسموات . فهذا الملك ، عظيم السلطان ، كبير الشأن ، هو الذي يذل له ، ويخضع ، يسجد له ، ويركع ...(1/317)
وقوله تعالى : ? أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ*أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * ? (النمل 60-65 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون "(1/318)
ذكر تعالى تفاصيل ما به يعرف ، ويتبين أنه الإله المعبود ، أن عبادته هي الحق ، وعبادة ما سواه ، هي الباطل فقال : " أمن خلق السماوات " إلى " يعدلون " . أي : أمن خلق السموات ، وما فيها ، من الشمس والقمر ، والنجوم ، والملائكة ، والأرض ، وما فيها من جبال ، وبحار ، وأنهار ، وأشجار ، وغير ذلك . " وأنزل لكم " أي : لأجلكم " من السماء ماء فأنبتنا به حدائق " أي : بساتين " ذات بهجة " أي : حسن منظر ، من كثرة أشجارها ، وتنوعها ، وحسن ثمارها . " ما كان لكم أن تنبتوا شجرها " لولا منة الله عليكم ، بإنزال المطر . " أإله مع الله " فعل هذه الأفعال ، حتى يعبد معه ويشرك به ؟ . " بل هم قوم يعدلون " به غيره ، ويسوون به سواه ، مع علمهم أنه وحده ، خالق العالم العلوي والسفلي ، ومنزل الرزق . " أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون " أي : هل الأصنام والأوثان ، الناقصة من كل وجه ، التي لا فعل منها ولا رزق ولا نفع ، خير ؟ أم الله الذي " جعل الأرض قرارا " يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى ، والحرث ، والبناء ، والذهاب ، والإياب . " وجعل خلالها أنهارا " أي : جعل في خلال الأرض ، أنهارا ينتفع بها العباد ، في زروعهم وأشجارهم ، وشربهم ، وشرب مواشيهم . " وجعل لها رواسي " أي : جبالا ترسيها وتثبتها ، لئلا تميد ، وتكون أوتادا لها ، لئلا تضطرب . " وجعل بين البحرين " البحر المالح والبحر العذب " حاجزا " يمنع من اختلاطهما ، فتفوت المنفعة المقصودة من كل منهما ، بل جعل بينهما حاجزا من الأرض . جعل مجري الأنهار في الأرض مبعدة عن البحار ، فتحصل منها مقاصدها ومصالحها . " أإله مع الله " فعل ذلك ، حتى يعدل به الله ويشرك به معه . " بل أكثرهم لا يعلمون " فيشركون بالله ، تقليدا لرؤسائهم وإلا فلوا علموا حق العلم ، لم يشركوا به شيئا . " أم من يجيب المضطر(1/319)
إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون " أي : هل يجيب المضطرب ، الذي أقلقته الكروب ، وتعسر عليه المطلوب ، واضطر للخلاص ، مما هو فيه ، إلا الله وحده ؟ . ومن يكشف السوء ، أي : البلاء ، والشر ، والنقمة ، إلا الله وحده ؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض ، يمكنكم منها ، ويمد لكم بالرزق ، ويوصل إليكم نعمه ، وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم ، ويأتي بقوم بعدكم ، أإله مع الله ، يفعل هذه الأفعال ؟ لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك ، حتى بإقراركم أيها المشركون ، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر ، دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده ، المقتدر على دفعه وإزالته . " قليلا ما تذكرون " أي : قليل تذكركم وتدبركم للأمور ، التي إذا تذكرتموها ، ادكرتم ، ورجعتم إلى الهدى . ولكن الغفلة والإعراض ، شامل لكم ، فلذلك ما أرعويتم ، ولا اهتديتم . " أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون " أي : من هو الذي يهديكم ، حين تكونون في ظلمات البر والبحر ، حيث لا دليل ، ولا معلم يرى ، ولا وسيلة إلى النجاة إلا هدايته لكم ، وتيسيره الطريق ، وجعل ما جعل لكم من الأسباب ، التي تهتدون بها . " ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " أي : بين يدي المطر ، فيرسلها ، فتثير السحاب ، ثم تؤلفه ، ثم تجمعه ، ثم تلقحه ، ثم تدره ، فيستبشر بذلك العباد ، قبل نزول المطر . " أإله مع الله " فعل ذلك ؟ أم هو وحده ، الذي انفرد به ؟ فلم أشركتم معه غيره ، وعبدتم سواه ؟ " تعالى الله عما يشركون " تعاظم ، وتنزه وتقدس عن شركهم ، وتسويتهم به غيره . " أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " أي : من هو الذي يبدأ الخلق ، وينشىء المخلوقات ، ويبتدي خلقها ، ثم يعيد الخلق يوم البعث والنشور ؟ ومن يرزقكم من(1/320)
السماء والأرض ، بالمطر والنبات ؟ " أإله مع الله " يفعل ذلك ، ويقدر عليه ؟ " قل هاتوا برهانكم " أي : حجتكم ودليلكم على ما قلتم " إن كنتم صادقين " وإلا ، فبتقدير أنكم تقولون : إن الأصنام لها مشاركة له ، في شيء من ذلك ، فذلك مجرد دعوى ، صدقتموها بلا برهان ، وإلا ، فاعرفوا أنكم مبطلون ، لا حجة لكم . فارجعوا إلى الأدلة اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن الله ، هو المتفرد بجميع التصرفات وأنه المستحق أن يصرف له جميع أنواع العبادات .
" قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون " يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السموات والأرض ، كقوله تعالى :" وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " وكقوله : " إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام " إلى آخر السورة . فهذه الغيوب ونحوها ، اختص الله بعلمها ، فلم يعلمها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل . وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك ، المحيط علمه بالسرائر ، والبواطن ، والخفايا ، فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، ثم أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين بالآخرة ، منتقلا من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقال : " وما يشعرون " أي : وما يدرون " أيان يبعثون " أي : متى البعث والنشور ، والقيام من القبور ، أي : فلذلك لم يستعدوا ...
وقوله تعالى : ? وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ* ? (النمل 73-75 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/321)
" وإن ربك ليعلم ما تكن " أي : تنطوي عليه " صدورهم وما يعلنون " ، فليحذروا من عالم السرائر والظواهر ، وليراقبوه . " وما من غائبة في السماء والأرض " أي : خفية ، وسر من أسرار العالم ، العلوي والسفلي . " إلا في كتاب مبين " قد أحاط ذلك الكتاب ، بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة . فكل حادث جلي أو خفي إلا وهو مطابق ، لما كتب في اللوح المحفوظ .
وقوله تعالى :? إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * ? (النمل 78 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : إن الله تعالى سيفصل بين المختصمين ، وسيحكم بين المختلفين ، بحكمه العدل ، وقضائه القسط . فالأمور وإن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين ، لخفاء الدليل ، ولبعض المقاصد ، فإنه سيبين فيها الحق المطابق للواقع ، حين يحكم الله فيها . " وهو العزيز " الذي قهر الخلائق ، فأذعنوا له . " العليم " بجميع الأشياء " العليم " بأقوال المختلفين ، وعن ماذا صدت ، وعن غاياتها ، ومقاصدها ، وسيجازي كلا بما علمه فيه .
ومن سورة القصص سبع آيات(1/322)
قوله تعالى : ? وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ *وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ *قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ *وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * ? ( القصص 68-73 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون "(1/323)
هذه الآيات ، فيها عموم خلفه لسائر المخلوقات ، ونفوز مشيئته بجميع البريات ، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه ، من الأشخاص ، والأوامر والأزمان ، والأماكن . وأن أحدا ليس له من الأمر والاختيار شيء . وأنه تعالى ، منزه عن كل ما يشركون به ، من الشريك ، والظهير والعوين ، والولد ، والصاحبة ، ونحو ذلك ، مما أشرك به المشركون . وأنه العالم بما أكنته الصدور ، وما أعلنوه . وأنه وحده ، المعبود المحمود ، في الدنيا والآخرة ، على ما له من صفات الجلال والجمال ، وعلى ما أسداه إلى خلقه من الإحسان والإفضال . وأنه هو الحاكم في الدارين : في الدنيا ، بالحكم القدري ، الذي أثره جميع ما خلق وذرأ ، والحكم الديني ، الذي أثره جميع الشرائع ، والأوامر والنواهي . وفي الآخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي ، ولهذا قال : " وإليه ترجعون "فيجازي كلا منكم بعمله ، من خير وشر .
" قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون "(1/324)
هذا امتنان من الله على عباده ، يدعوهم به إلى شكره ، والقيام بعبوديته وحقه ، أن جعل لهم من رحمته النهار ليبتغوا من فضل الله ، وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه . والليل ليهدؤوا فيه ويسكنوا ، وتستريح أبدانهم وأنفسهم ، من تعب التصرف في النهار ، فهذا من فضله ورحمته بعباده . فهل أحد يقدر على شيء من ذلك ؟ " إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون " مواعظ الله وآياته ، سماع فهم وقبول ، وانقياد . و " إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون " مواقع العبر ، ومواضع الآيات فتستنير في بصائركم ، وتسلكوا الطريق المستقيم . وقال في الليل : " أفلا تسمعون " وفي النهار " أفلا تبصرون " . لأن سلطان السمع في الليل أبلغ من سلطان البصر ، وعكسه النهار . وفي هذه الآيات ، تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم الله عليه ، ويستبصر فيها ، ويقيسها بحال عدمها . فإنه إذا وازن بين حالة وجودها ، وبين حالة عدمها ، تنبه عقله لموضع المنة . بخلاف من جرى مع العوائد ، ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمرا ، ولا يزال . وعمي قلبه عن الثناء على الله ، بنعمه ، ورؤية افتقاره إليه في كل وقت . فإن هذا ، لا يحدث له فكرة شكر ، ولا ذكر .
وقوله تعالى : ? (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ? (القصص : 88 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/325)
" ولا تدع مع الله إلها آخر " بل أخلص لله عبادتك ، فإنه " لا إله إلا هو " فلا أحد يستحق أن يؤله ، ويحب ، ويعبد ، إلا الله الكامل الباقي الذي " كل شيء هالك إلا وجهه " وإذا كان كل شيء سواه هالكا مضمحلا ، فعبادة الهالك الباطل باطلة ، ببطلان غايتها ، وفساد نهايتها . " له الحكم " في الدنيا والآخرة " وإليه " لا إلى غيره " ترجعون " . فإذا كان ما سوى الله باطلا هالكا ، والله هو الباقي ، الذي لا إله إلا هو ، وله الحكم في الدنيا والآخرة ، وإليه مرجع الخلائق كلهم ، ليجازيهم بأعمالهم ، تعين على من له عقل ، أن يعبد الله وحده لا شريك له ، ويعمل لما يقربه ويدنيه ، ويحذر من سخطه وعقابه ، وأن يقدم على ربه غير تائب ، ولا مقلع عن خطأه وذنوبه .
ومن سورة العنكبوت تسع آيات
قوله تعالى? أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * ? ( العنكبوت 19-22 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/326)
" أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده " يوم القيامة " إن ذلك على الله يسير " . كما قال تعالى : " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه "..." قل " لهم ، إن حصل معهم ريب وشك في الابتداء : " سيروا في الأرض " بأبدانكم وقلوبكم " فانظروا كيف بدأ الخلق " فإنكم ستجدون أمما من الآدميين ، لا تزال توجد شيئا فشيئا ، وتجدون النبات والأشجار ، كيف تحدث ، وقتا بعد وقت ، وتجدون السحاب والرياح ونحوها ، مستمرة في تجددها . بل الخلق دائما في بدء وإعادة . فانظروا إليهم وقت موتتهم الصغرى ـ النوم ـ وقد هجم عليهم الليل بظلامه ، فسكنت منهم الحركات ، وانقطعت منهم الأصوات ، وصاروا في فرشهم ومأواهم كالميتين . ثم إنهم لم يزالوا على ذلك ، طول ليلهم ، حتى تنفلق الأصباح ، فانتبهوا من رقدتهم ، وبعثوا من موتتهم ، قائلين : ( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ) ولهذا قال : " ثم الله " بعد الإعادة " ينشئ النشأة الآخرة " وهي النشأة لا تقبل موتا ، ولا نوما ، وإنما هو الخلود والدوام ، في إحدى الدارين . " إن الله على كل شيء قدير " فقدرته تعالى ، لا يعجزها شيء ، وكما قدر بها على ابتداء الخلق ، فقدرته على الإعادة ، من باب أولى وأخرى . " يعذب من يشاء ويرحم من يشاء " أي : هو المنفرد بالحكم الجزائي ، وهو : إثابة الطائعين ، ورحمتهم ، وتعذيب العاصين والتنكيل بهم . " وإليه تقلبون " أي : ترجعون إلى الدار ، التي بها تجري عليكم أحكام عذابه ورحمته . فاكتسبوا في هذه الدار ، ما هو من أسباب رحمته من الطاعات . وابتعدوا عن أسباب عذابه ، وهي المعاصي . " وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء " أي : يا هؤلاء المكذبين ، المتجرئين على المعاصي ، لا تحسبوا أنه مغفول عنكم ، أو أنكم معجزون لله في الأرض ، ولا في السماء . فلا تغرنكم قدرتكم ، وما زينت لكم أنفسكم ، وخدعتكم ، من النجاة من عذاب الله فلستم بمعجزين الله ،(1/327)
في جميع أقطار العالم . " وما لكم من دون الله من ولي " يتولاكم ، فيحصل لكم مصالح دينكم ودنياكم . " ولا نصير " ينصركم ، فيدفع عنكم المكاره .
وقوله تعالى : ? وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * ? ( العنكبوت 60-64)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " أي : الباري تبارك وتعالى ، قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم ، قويهم ، وعاجزهم . فكم " من دابة " في الأرض ضعيفة القوى ، ضعيفة العقل . " لا تحمل رزقها " ولا تدخره ، بل لم تزل ، لا شيء معها من الرزق ، ولا يزال الله يسخر لها الرزق ، في كل وقت بوقته . " الله يرزقها وإياكم " فكلكم عيال الله القائم برزقكم ، كما قام بخلقكم وتدبيركم . " وهو السميع العليم " فلا تخقى عليه خافية ، ولا تهلك دابة من عدم الرزق ، بسبب أنها خافية عليه . كما قال تعالى : " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين "(1/328)
" ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون "
هذا استدلال على المشركين ، المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة ، وإلزام لهم ، بما أثبتوه من توحيد الربوبية . فأنت لو سألتهم من خلق السموات والأرض ، ومن نزل من السماء ماء ، فأحيا به الأرض بعد موتها ، ومن بيده تدبير جميع الأشياء ؟ " ليقولن الله " وحده ولاعترفوا بعجز الأوثان ، ومن عبده مع الله ، عن شيء من ذلك . . فاعجب لإفكهم ، وكذبهم ، وعدولهم إلى من أقروا بعجزه ، وأنه لا يستحق أن يدبر شيئا . وسجل عليهم عدم العقل ، وأنهم السفهاء ، ضعفاء الأحلام . فهل تجد أضعف عقلا ، وأقل بصيرة ، ممن أتى إلى حجر ، أو قبر ونحوه وهو يدري أنه لا ينفع ولا يضر ، ولا يخلق ولا يرزق ـ ثم صرف له خالص الإخلاص ، وصافي العبادية ، وأشركه مع الرب ، الخالق الرازق ، النافع الضار . وقل : الحمد لله الذي بين الهدى من الضلال ، وأوضح بطلان ما عليه المشركون ، ليحذره الموفقون . وقل : الحمد لله ، الذي خلق العالم العلوي والسفلي ، وقام بتدبيرهم ، ورزقهم ، وبسط الرزق على من يشاء ، وضيقه عمن يشاء ، حكمة منه ، ولعلمه بما يصلح عباده ، وما ينبغي لهم .(1/329)
" وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون "يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة ، وفي ضمن ذلك ، التزهيد في الدنيا والتشويق للأخرى فقال : " وما هذه الحياة الدنيا " في الحقيقة " إلا لهو ولعب " تلهو بها القلوب ، وتلعب بها الأبدان ، بسبب ما جعل الله فيها من الزينة واللذات ، والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة ، الباهجة للعيون الغافلة ، المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة . ثم تزول سريعا ، وتنقضي جميعا ، ولم يحصل منها محبها ، إلا على الندم والخسران . " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " أي : الحياة الكاملة ، التي من لوازمها ، أن تكون أبدان أهلها ، في غاية القوة ، وقواهم في غاية الشدة ، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة ، وأن يكون موجودا فيها ، كل ما تكمل به الحياة ، وتتم به اللذة ، من مفرحات القلوب ، وشهوات الأبدان ، من المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، وغير ذلك ، مما لا عين رأت . ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . " لو كانوا يعلمون " لما آثروا الدنيا على الآخرة ، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان ، ورغبوا في دار اللهو واللعب ،يدل ذلك على أن الذين يعلمون لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا ، لما يعلمونه من حالة الدارين .
ومن سورة الروم سبع عشرة آية(1/330)
قوله تعالى: ? فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ *يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ *وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ? ( الروم 17-27 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/331)
قوله تعالى :" فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون " هذا إخبار عن تنزهه عن السوء والنقص ، وتقدسه عن أن يماثله أحد من الخلق ، وأمر للعباد أن يسبحوه ، حين يمسون ، وحين يصبحون ، ووقت العشي ، ووقت الظهيرة . فهذه الأوقات الخمسة ، أوقات الصلوات الخمس ، أمر الله عباده بالتسبيح فيها والحمد . ويدخل في ذلك ، الواجب منه ، كالمشتملة عليه الصلوات الخمس . والمستحب كأذكار الصباح والمساء ، وأدبار الصلوات ، وما يقترن بها من النوافل؛ لأن هذه الأوقات التي اختارها الله لأوقات المفروضات ، هي أفضل الأوقات . فالتسبيح والتحميد فيها ، والعبادة فيها ، أفضل من غيرها ، بل العبادة ، وإن لم تشتمل على قوله : " سبحان الله " فإن الإخلاص فيها ، تنزيه لله بالفعل ، أن يكون له شريك في العبادة ، أو أن يستحق أحد من الخلق ، ما يستحقه من الإخلاص والإنابة . " يخرج الحي من الميت " كما يخرج النبات من الأرض الميتة ، والسنبلة من الحبة ، والشجرة من النواة ، والفرخ من البيضة ، والمؤمن من الكافر ، ونحو ذلك . " ويخرج الميت من الحي " بعكس المذكور " ويحيي الأرض بعد موتها " . فينزل عليها المطر ، وهي ميتة هامدة ، فإذا أنزل عليها الماء ، اهتزت ، وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج " وكذلك تخرجون " من قبوركم . فهذا دليل قاطع ، وبرهان ساطع ، أن الذي أحيا الأرض بعد موتها ، يحيي الأموات . فلا فرق في نظر العقل بين الأمرين ، ولا موجب لاستبعاد أحدهما مع مشاهدة الآخر . " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "(1/332)
هذا شروع في تعداد آياته الدالة على انفراده بالإلهية ، وكمال عظمته . ونفوذ مشيئته ، وقوة اقتداره ، وجميل صنعه ، وسعة رحمته وإحسانه فقال : " ومن آياته أن خلقكم من تراب " وذلك بخلق أصل النسل ، آدم عليه السلام " ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " وبثكم في أقطار الأرض وأرجائها . ففي ذلك إيات على أن الذي أنشأكم من هذا الأصل ، وبثكم في أقطار الأرض ، هو الرب المعبود ، الملك المحمود ، والرحيم الودود ، الذي سيعيدكم بالبعث بعد الموت . " ومن آياته " الدالة على رحمته ، وعنايته بعباده ، وحكمته العظيمة ، وعلمه المحيط . " أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا " تناسبكم وتناسبونهن ، وتشاكلكم وتشاكلونهن ." لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " بما رتب على الزواج ، من الأسباب الجالبة للمودة والرحمة . فحصل بالزوجة الاستمتاع واللذة ، والمنفعة بوجود الأولاد وتربيتهم ، والسكون إليها . فلا تجد بين اثنين في الغالب ، مثل ما بين الزوجين ، من المودة والرحمة . " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " يعملون أفكارهم ، ويتدبرون آيات الله ، وينتقلون من شيء إلى شي . " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين " والعالمون ، هم أهل العلم ، الذين يفهمون العبر ، ويتدبرون الآيات ، وآيات الله في ذلك كثيرة : " ومن آياته خلق السماوات والأرض " وما فيهما ، فإن ذلك ، دال على عظمة سلطان الله ، وكمال اقتداره ، الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة وكمال حكمته ، لما فيها من الإتقان ، وسعة علمه ـ لأن الخالق ، لا بد أن يعلم ما خلقه " ألا يعلم من خلق " ـ وعموم رحمته وفضله ، لما في ذلك من المنافع الجليلة . وأنه المريد ، الذي يختار ما يشاء ، لما فيها من التخصيصات والمزايا . وأنه وحده ، الذي يستحق أن يعبد ويوحد؛ لأنه المنفرد بالخلق ، فيجب أن يفرد بالعبادة . فكل هذه ، أدلة عقلية ، نبه الله العقول إليها ، وأمرها بالتفكر ،(1/333)
واستخراج العبرة منها . ( و ) كذلك في
" واختلاف ألسنتكم وألوانكم " على كثرتكم وتباينكم مع أن الأصل واحد ، ومخارج الحروف واحدة . ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كل وجه ، ولا لونين متشابهين من كل وجه ، إلا وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز . " إن في ذلك لآيات للعالمين " أي : إن هذا دال على كمال قدرته ، ونفوذ مشيئته . ومن عنايته بعباده ، ورحمته بهم أن قدر ذلك الاختلاف لئلا يقع التشابه فيحصل الاضطراب ، ويفوت كثير من المقاصد والمطالب .
" ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون " أي سماع تدبر ، وتعقل للمعاني والآيات في ذلك . إن ذلك دليل على رحمة الله تعالى ، كما قال : " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " . وعلى تمام حكمته ، إذ حكمته ، اقتضت سكون الخلق في وقت ، ليستريحوا ويستجموا . وانتشارهم في وقت ، لمصالحهم الدينية والدنيوية ، ولا يتم ذلك ، إلا بتعاقب الليل والنهار عليهم ، والمنفرد بذلك ، هو المستحق للعبادة .
" ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون "أي : ومن آياته ، أن ينزل عليكم المطر ، الذي تحيا به البلاد والعبادة ، ويريكم قبل نزوله مقدماته ، من الرعد ، والبرق ، الذي يخاف ويطمع فيه . " إن في ذلك لآيات " دالة على عموم إحسانه ، وسعة علمه ، وكمال إتقانه ، وعظيم حكمته ، وأنه يحيي الموتى ، كما أحيا الأرض بعد موتها . " لقوم يعقلون " أي : لهم عقول ، تعقل بها ما تسمعه ، وتراه وتحفظه ، وتستدل به ، على ما جعل دليلا عليه .(1/334)
" ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "
أي : ومن آياته العظيمة ، أن قامت السموات والأرض ، واستقرتا ، وثبتتا بأمره ، فلم تتزلزلا ، ولم تسقط السماء على الأرض . فقدرته العظيمة ، التي بها أمسك السموات والأرض ، أن تزولا ، يقدر بها ، على أنه إذا دعا الخلق دعوة من الأرض ، إذا هم يخرجون " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس "..(1/335)
" وله من في السماوات والأرض " لكل خلقه ومماليكه ، والمتصرف فيهم من غير منازع ، ولا معاون ، ولا معارض ، وكلهم قانتون لجلاله ، خاضعون لكماله . " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو " أي : إعادة الخلق بعد موتهم " أهون عليه " من ابتداء خلقهم ، وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول . فإذا كان قادرا على الابتداء ، الذي تقرون به ، كانت قدرته على الإعادة ، التي هي أهون ، أولى وأولى . ولما ذكر من الآيات العظيمة ، ما به يعتبر المعتبرون ، ويتذكر المؤمنون ويستبصر المهتدون ، ذكر الأمر العظيم ، والمطلب الكبير فقال : " وله المثل الأعلى في السماوات والأرض " وهو كل صفة كمال . والكمال في تلك الصفة ، والمحبة ، والإنابة التامة الكاملة ، في قلوب عباده المخلصين ، والذكر الجليل ، والعبادة منهم . فالمثل الأعلى ، هو وصفه الأعلى ، وما ترتب عليه . ولهذا كان أهل العلم ، يستعملون في حق الباري ، قياس الأولى ، فيقولون : كل صفة كمال في المخلوقات ، فخالقها أحق بالاتصاف بها ، على وجه لا يشاركه فيها أحد . وكل نقص في المخلوق ، ينزه عنه ، فتنزيه الخالق عنه ، من باب أولى وأحرى" وهو العزيز الحكيم " أي : له العزة الكاملة ، والحكمة الواسعة . فبعزته أوجد المخلوقات ، وأظهر المأمورات . وبحكمته ، أتقن ما صنعه ، وأحسن فيها ما شرعه .
وقوله تعالى :? اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * ? (الروم : 40 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/336)
يخبر تعالى أنه وحده ، المنفرد بخلفكم ورزقكم ، وإماتتكم وإحيائكم ، وأنه ليس أحد من الشركاء ، التي يدعوها المشركون ، من يشارك الله في شيء من هذه الأشياء . فكيف يشركون ، بمن انفرد بهذه الأمور ، من ليس له تصرف فيها ، بوجه من الوجوه ؟ فسبحانه وتعالى ، وتقدس ، وتنزه ، وعلا عن شركهم . فلا يضره ذلك ، وإنما وباله عليهم
وقوله تعالى : ? (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ? (الروم : 46 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : ومن الأدلة الدالة على رحمته وبعثه الموتى ، وأنه الإله المعبود ، والملك المحمود . " أن يرسل الرياح " أمام المطر " مبشرات " بإثارتها للسحاب ، ثم جمعها ، فتستبشر بذلك النفوس قبل نزوله . " وليذيقكم من رحمته " فينزل عليكم مطرا ، تحيا به البلاد والعباد ، وتذوقون من رحمته ما تعرفون أن رحمته ، هي المنقذة للعباد الجالبة لأرزاقهم . فتشتاقون إلى الإكثار من الأعمال الصالحة ، الفاتحة لخزائن الرحمة . " ولتجري الفلك " في البحر " بأمره " القدري " ولتبتغوا من فضله " بالتصرف في معايشكم ومصالحكم . " ولعلكم تشكرون " من سخر لكم الأسباب ، وسير لكم الأمور . فهذا المقصود من النعم ، أن تقابل بشكر الله تعالى ، ليزيدكم الله منها ، ويبقيها عليكم . وأما مقابلة النعم بالكفر والمعاصي ، فهذه حال من بدل نعمة الله كفرا ، ومنحته محنة ، وهو معرض لها للزوال ، والانتقال منه إلى غيره(1/337)
وقوله تعالى : ? اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ? (الروم :48-50 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى عن كمال قدرته ، وتمام نعمته ، أنه " يرسل الرياح فتثير سحابا " من الأرض . فيبسطه في السماء " أي : يمده ويوسعه " كيف يشاء " أي : على أي حالة أرادهم من ذلك .
" ويجعله " أي : ذلك السحاب الواسع " كسفا " أي : سحابا ثخينا ، قد طبق بعضه فوق بعض " فترى الودق يخرج من خلاله " أي : السحاب ، نقطا صغارا متفرقة ، لا تنزل جميعا ، فتفسد ما أتت عليه . " فإذا أصاب به " بذلك المطر " من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون " يبشر بعضهم بعضا بنزوله ، وذلك لشدة حاجتهم ، واضطرارهم إليه ، فلهذا قال : " وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين " أي : آيسين قانطين ، لتأخر وقت مجيئه . أي : فلما نزل في تلك الحال ، صار له موقع عظيم عندهم ، وفرح واستبشار . " فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها " فاهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج كريم . " إن ذلك " الذي أحيا الأرض بعد موتها " لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير " فقدرته تعالى ، لا يتعاصى عليها شيء ، وإن تعاصى على قدر خلقه ، ودق عن أفهامهم ، وحارت فيه عقولهم .(1/338)
وقوله تعالى : ? (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) ? (الروم : 54 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى ، عن سعة علمه ، وعظيم اقتداره ، وكمال حكمته ، أنه ابتدأ خلق الآدميين من ضعف ، وهو الأطوار الأولى من خلقه ، من نطفة إلى علقة ، إلى مضغة إلى أن صار حيوانا في الأرحام ، إلى أن ولد ، وهو في سن الطفولية ، وهو إذ ذلك في غاية الضعف ، وعدم القوة والقدرة . ثم ما زال الله يزيد في قوته ، شيئا فشيئا ، حتى بلغ الشباب ، واستوت قوته ، وكملت قواه الظاهرة والباطنة . ثم انتقل من هذا الطور ، ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم .
" يخلق ما يشاء " بحسب حكمته . ومن حكمته ، أن يرى العبد ضعفه ، وأن قوته محفوفة بضعفين ، وأنه ليس له من نفسه ، إلا النقص . ولولا تقوية الله له ، لما وصل إلى قوة وقدرة ، ولو استمرت قوته في الزيادة ، لطغى ، وبغى ، وعتا . وليعلم العباد ، كمال قدرة الله ، التي لا تزال مستمرة ، يخلق بها الأشياء ، ويدبر بها الأمور ولا يلحقها إعياء ، ولا ضعف ، ولا نقص ، بوجه من الوجوه .
ومن سورة لقمان ثماني آيات
قوله تعالى : ? (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ?) (لقمان : 10 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين "(1/339)
يتلو تعالى عباده ، آثارا من آثار قدرته ، وبدائع من بدائع حكمته ، ونعما من آثار رحمته ، فقال : " خلق السماوات " السبع ، على عظمها ، وسعتها ، وكثافتها ، وارتفاعها الهائل . " بغير عمد ترونها " أي : ليس لها عمد ، ولو كان لها عمد لرؤيت وإنما استقرت واستمسكت ، بقدرة الله تعالى . " وألقى في الأرض رواسي " أي : جبالا عظيمة ، ركزها في أرجائها وأنحائها ، لئلا " تميد بكم " فلولا الجبال الراسيات ، لمادت الأرض ، ولما استقرت بساكنها . " وبث فيها من كل دابة " أي : نشر في الأرض الواسعة ، من جميع أصناف الدواب ، التي هي مسخرة لبني آدم ، ولمصالحهم ، ومنافعهم . ولما بثها في الأرض ، علم تعالى أنه لا بد لها من رزق تعيش به ، فأنزل من السماء ماء مباركا . " فأنبتنا فيها من كل زوج كريم " المنظر ، نافع مبارك ، فرتعت فيه الدواب المنبثة ، وسكن إليه كل حيوان . " هذا " أي : خلق العالم العلوي والسفلي ، من جماد ، وحيوان ، وسوق أرزاق الخلق إليهم " خلق الله " وحده لا شريك له ، كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين . " فأروني ماذا خلق الذين من دونه " أي : الذين جعلتموهم له شركاء ، تدعونهم وتعبدونهم ، يلزم على هذا ، أن يكون لهم خلق كخلقه ، ورزق كرزقه . فإن كان لهم شيء من ذلك ، فأرونيه ، ليصح ما ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة . ومن المعلوم أنهم لا يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها ، لأن جميع المذكورات ، قد أقروا أنها خلق الله وحده ، ولا ثم شيء يعلم غيرها . فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد . ولكن عبادتهم إياها ، عن غير علم وبصيرة ، بل عن جهل وضلال ، ولهذا قال : " بل الظالمون في ضلال مبين " أي : جلي واضح حيث عبدوا من لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وتركوا الإخلاص للخالق الرازق المالك لكل الأمور .(1/340)
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ? (لقمان : 20 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يمتن تعالى على عباده بنعمه ، ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها ، وعدم الغفلة عنها فقال : " ألم تروا " أي : تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم ، وقلوبكم . " أن الله سخر لكم ما في السماوات " من الشمس والقمر والنجوم ، كلها مسخرات لنفع العباد . " وما في الأرض " من الحيوانات والأشجار والزروع ، والأنهار والمعادن ونحوها كما قال تعالى : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا "..." وأسبغ عليكم " أي : عمكم وغمركم بوافر " نعمه ظاهرة وباطنة " التي نعلم بها ، والتي تخفى علينا ، نعم الدنيا ، ونعم الدين ، حصول المنافع ، ودفع المضار ، فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم ، بمحبة المنعم والخضوع له ، وصرفها في الاستعانة على طاعته ، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته . ( و ) لكن مع توالي هذه النعم ، فإن " ومن الناس من " لم يشكرها ، بل كفرها ، وكفر بمن أنعم بها ، وجحد الحق الذي أنزل به كتبه ، وأرسل به رسله . فجعل " يجادل في الله " أي : يجادل عن الباطل ، ليدحض به الحق ، ويدفع به ما جاء به الرسول ، من الأمر بعبادة الله وحده . وهذا المجادل يجادل " بغير علم " وعلى غير بصيرة . فليس جداله عن علم ، فيترك وشأنه ، ويسمح له في الكلام " ولا هدى " يقتدي به بالمهتدين " ولا كتاب منير " أي : نير مبين للحق ، فلا معقول ، ولا منقول ، ولا اقتداء بالمهتدين . وإنما جداله في الله ، مبني على تقليد آباء غير مهتدين ، بل ضالين مضلين . ولهذا قال : " وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله " على أيدي رسله ، فإنه الحق ، وبينت لهم أدلته الظاهرة(1/341)
" قالوا " معارضين ذلك : " بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " فلا نترك ما وجدنا عليه آباءنا لقول أحد ، كائنا من كان . قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم : " أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير " . فاستجاب له آباؤهم ، ومشوا خلفه ، وصاروا من تلاميذ الشيطان ، واستولت عليهم الحيرة . فهل هذا ، موجب لاتباعهم ومشيهم على طريقتهم ، أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم ، وينادي على ضلالهم ، وضلال من تبعهم . وليس دعوة الشيطان لآبائهم ولهم ، محبة لهم ومودة ، وإنما ذلك عداوة لهم ومكر لهم ، وبالحقيقة أتباعه من أعدائه ، الذين تمكن منهم ، وظفر بهم ، وقرت عينه باستحاقهم عذاب السعير ، بقبول دعوته .
وقوله تعالى : ? لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * ? (لقمان : 26-31 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/342)
قوله تعالى :" ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير "
" ولئن سألتهم " أي : سألت هؤلاء المشركين المكذبين بالحق . " من خلق السماوات والأرض " لعلموا أن أصنامهم ، ما خلقت شيئا من ذلك " ليقولن الله " الذي خلقهما وحده . " قل " لهم ، ملزما لهم ، ومحتجا عليهم بما أقروا به ، على ما أنكروا . " الحمد لله " الذي بين النور ، وأظهر الاستدلال عليكم من أنفسكم . فلو كانوا يعلمون ، لجزموا أن المنفرد بالخلق والتدبير ، هو الذي يفرد بالعبادة والتوحيد . " بل أكثرهم لا يعلمون " فلذلك أشركوا به غيره ، ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه ، على وجه الحيرة والشك ، لا على وجه البصيرة . ثم ذكر هاتين الآيتين ، نموذجا من سعة أوصاف الله سبحانه ، ليدعو عباده إلى معرفته ، ومحبته ، وإخلاص الدين له . فذكر عموم ملكه ، وأن جميع ما في السموات والأرض ـ وهذا شامل لجميع العالم العلوي والسفلي ـ أنه ملكه ، يتصرف فيهم بأحكام الملك القدرية ، وأحكامه الأمرية ، وأحكامه الجزائية . فكلهم عبيد مماليك ، مدبرون مسخرون ، ليس لهم من الملك شيء . وأنه واسع الغنى ، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه أحد من الخلق . " ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون " . وأن أعمال النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، لا تنفع الله شيئا وإنما تنفع عامليها ، والله غني عنهم ، وعن أعمالهم . ومن غناه ، أن أغناهم وأقناهم في دنياهم وأخراهم . ثم أخبر تعالى أن سعة حمده ، وأن حمده من لوازم ذاته ، فلا يكون إلا حميدا من جميع الوجوه ، فهو حميد في ذاته ، وهو حميد في صفاته . فكل صفة من صفاته ، يستحق عليها أكمل حمد وأتمه ، لكونها(1/343)
صفات عظمة وكمال . وجميع ما فعله وخلقه ، يحمد عليه ، وجميع ما أمر به ونهى عنه ، يحمد عليه . وجميع ما حكم به في العباد ، وبين العباد ، في هذه الحياة الدنيا ، وفي الآخرة ، يحمد عليه . ثم أخبر عن سعة كلامه عز وجل ، وعظمة قوله ، بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ ، وتنبهر له العقول ، وتتحير فيه الأفئدة ، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر ، فقال : " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام " يكتب بها " والبحر يمده من بعده سبعة أبحر " مدادا يستمد بها ، لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد ، و " ما نفدت كلمات الله " . وهذا ليس مبالغة لا حقيقة له . بل لما علم تبارك وتعالى ، أن العقول تتقاصر عن الإحاطة ببعض صفاته ، وعلم تعالى ، أن معرفته لعباده ، أفضل نعمة ، أنعم بها عليهم ، وأجل منقبة حصلوها ، وهي لا تمكن على وجهها ، ولكن ما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، فنبههم تعالى على بعضها تنبيها تستنير به قلوبهم ، وتنشرح له صدورهم ، ويستدلون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه ، ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه : " لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " . وإلا ، فالأمر أجل من ذلك ، وأعظم . وهذا التمثيل ، من باب تقريب المعنى ، الذي لا يطاق الوصول به إلى الأفهام والأذهان . وإلا ، فالأشجار ، وإن تضاعفت على ما ذكر ، أضعافا كثيرة ، والبحور لو امتدت بأضعاف مضاعفة ، فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها ، لكونها مخلوقة . وأما كلام الله تعالى ، فلا يتصور نفاده ، بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي ، على أنه لا نفاد له ولا منتهى ، فكل شيء ينتهى إلا الباري وصفاته " وأن إلى ربك المنتهى " . وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته ، وأن كل ما فرضه الذهن من الأزمان السابقة ، مهما تسلسل الفرض والتقدير ، فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية . وأنه مهما فرض الذهن والعقل ، من الأزمان المتأخرة ، وتسلسل الفرض والتقدير ، وساعد على ذلك من(1/344)
ساعد ، بقلبه ولسانه ، فالله تعالى ، بعد ذلك إلى غير غاية ولا نهاية . والله من جميع الأوقات ، يحكم ، ويتكلم ، ويقول ، ويفعل كيف أراد ، وإذا أراد ، لا مانع له من شيء ، من أقواله وأفعاله . فإذا تصور العقل ذلك ، عرف أن المثل الذي ضربه الله لكلامه ، ليدرك العباد شيئا منه ، وإلا ، فالأمر أعظم وأجل . ثم ذكر جلالة عزته وكمال حكمته فقال : " أن الله عزيز حكيم " أي : له العزة جميعا ، الذي ما في العالم العلوي والسفلي من القوة ، إلا هي منه ، هو الذي أعطاها للخلق ، فلا حولا ولا قوة إلا به . وبعزته قهر الخلق كلهم ، وتصرف فيهم ، ودبرهم . وبحكمته خلق الخلق ، وابتدأه بالحكمة ، وجعل غايته والمقصود منه الحكمة . وكذلك الأمر والنهي ، وجد بالحكمة ، وكانت غايته المقصودة ، الحكمة فهو الحكيم في خلقه وأمره . ثم ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه لا يمكن أن يتصورها العقل فقال : " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " وهذا شيء يحير العقول . إن خلق جميع الخلق ـ على كثرتهم وبعثهم بعد موتهم ، بعد تفرقهم في لمحة واحدة ـ كخلقه نفسا واحدة . فلا وجه لاستبعاد البعث والنشور ، والجزاء على الأعمال ، إلا الجهل بعظمة الله وقوة قدرته . ثم ذكر عموم سمعه لجميع المسموعات ، وبصره لجميع المبصرات فقال : " إن الله سميع بصير "
" ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير "(1/345)
وهذا فيه أيضا ، انفراده بالتصرف والتدبير ، وسعة تصرفه بإيلاج الليل في النهار ، وإيلاج النهار في الليل ، أي : إدخال أحدهما على الآخر ، فإذا دخل أحدهما ، ذهب الآخر . وتسخيره للشمس والقمر ، ويجريان بتدبير ونظام ، لم يختل منذ خلقهما ، ليقيم بذلك من مصالح العباد ومنافعهم ، في دينهم ودنياهم ، ما به يعتبرون وينتفعون . و " كل " منهما " يجري إلى أجل مسمى " إذا جاء ذلك الأجل ، انقطع جريانهما ، وتعطل سلطانهما ، وذلك في يوم القيامة ، حين تكور الشمس ، ويخسف القمر ، وتنتهي دار الدنيا ، وتبتدىء الدار الآخرة . " وأن الله بما تعملون " من خير وشر " خبير " لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وسيجازيكم على تلك الأعمال ، بالثواب للمطيعين ، والعقاب للعاصين . " ذلك " الذي بين لكم من عظمته وصفاته ، ما بين " بأن الله هو الحق " في ذاته وفي صفاته ، ودينه حق ، ورسله حق ، ووعده حق ، ووعيده حق ، وعبادته هي الحق . " وأن ما يدعون من دونه الباطل " في ذاته وصفاته . فلولا إيجاد الله له ، لما وجد ، ولولا إمداده ، لما بقي . فإذا كان باطلا ، كانت عبادته أبطل وأبطل . " وأن الله هو العلي " بذاته ، فوق جميع مخلوقاته ، الذي علت صفاته عن أن يقاس بها صفات ، وعلا على الخلق فقهرهم " الكبير " الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته ، وله الكبرياء في قلوب أهل السماء والأرض .
" ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور "(1/346)
أي : ألم تر من آثار قدرته ورحمته ، وعنايته بعباده ، أن سخر البحر ، تجري فيه الفلك ، بأمره القدري ، ولطفه وإحسانه . " ليريكم من آياته " ففيها الانتفاع والاعتبار . " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " . المنتفعون بالآيات ، كل صبار على الضراء ، شكور على السراء ، صبار على طاعة الله وعن معصيته ، وعلى أقداره ، شكور لله ، على نعمه الدينية والدنيوية ....
ومن سورة السجدة سبع آيات
قوله تعالى : ? اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ*الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * ? (السجدة : 4-9)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/347)
يخبر تعالى عن كمال قدرته بأنه " الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام " أولها ، يوم الأحد ، وآخرها الجمعة ، مع قدرته على خلقها بلحظة ، ولكنه تعالى رفيق حكيم . " ثم استوى على العرش " الذي هو سقف المخلوقات ، استواء يليق بجلاله . " ما لكم من دونه من ولي " يتولاكم في أموركم ، فينفعكم " ولا شفيع " يشفع لكم ، إن توجه عليكم العقاب . " أفلا تتذكرون " فتعلمون أن خالق الأرض والسموات ، المستوي على العرش العظيم ، الذي انفرد بتدبيركم ، وتوليكم ، وله الشفاعة كلها ، هو المستحق لجميع أنواع العبادة . " يدبر الأمر " القدري والأمر الشرعي ، الجميع هو المتفرد بتدبيره ، نازلة تلك التدابير من عند الملك القدير(1/348)
" من السماء إلى الأرض " فيسعد بها ويشقي ، ويغني ويفقر ، ويعز ، ويذل ، ويكرم ، ويهين ، ويرفع أقواما ، ويضع آخرين ، وينزل الأرزاق . " ثم يعرج إليه " أي : الأمر ينزل من عنده ، ويعرج إليه " في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " وهو يعرج إليه ، ويصله في لحظة . " ذلك " الذي خلق تلك المخلوقات العظيمة ، الذي استوى على العرش العظيم ، وانفرد بالتدابير في المملكة " عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم " . فبسعة علمه ، وكمال عزته ، وعموم رحمته ، أوجدها ، وأودع فيها من المنافع ما أودع ، ولم يعسر عليه تدبيرها . " الذي أحسن كل شيء خلقه " أي : كل مخلوق خلقه الله ، فإن الله أحسن خلقه ، وخلقه خلقا يليق به ، ويوافقه ـ فهذا عام . ثم خص الآدمي لشرفه وفضله فقال : " وبدأ خلق الإنسان من طين " وذلك بخلق آدم عليه السلام ، أبي البشر . " ثم جعل نسله " أي : ذرية آدم ناشئة " من سلالة من ماء مهين " وهو النطفة المستقذرة الضعيفة . " ثم سواه " بلحمه ، وأعضائه ، وأعصابه ، وعروقه ، وأحسن خلقته ، ووضع كل عضو منه ، بالمحل الذي لا يليق به غيره . " ونفخ فيه من روحه " بأن أرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، فيعود بإذن الله ، حيوانا ، بعد أن كان جمادا .
" وجعل لكم السمع والأبصار " أي : ما زال يعطيكم من المنافع شيئا فشيئا ، حتى أعطاكم السمع والأبصار " والأفئدة قليلا ما تشكرون " الذي خلقكم وصوركم .
وقوله تعالى : ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ? (السجدة : 27)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/349)
" أو لم يروا " بأبصارهم نعمتنا ، وكمال حكمتنا " أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز " التي لا نبات فيها ، فيسوق الله المطر ، الذي لم يكن قبل موجودا فيها ، فيفرغه فيها ، من السحاب ، أو من الأنهار . " فنخرج به زرعا " أي : نباتا ، مختلف الأنواع " تأكل منه أنعامهم " وهو نبات البهائم " وأنفسهم " وهو طعام الآدميين . " أفلا يبصرون " تلك المنة ، التي أحيا الله بها البلاد والعباد ، فيستبصرون فيهتدون بذلك البصر ، وتلك البصيرة ، إلى الصراط المستقيم . ولكن غلب عليهم العمى ، واستولت عليهم الغفلة ، فلم يبصروا في ذلك بصر الرجال . وإنما نظروا إلى ذلك نظر الغفلة ، ومجرد العادة ، فلم يوفقوا للخير .
ومن سورة سبأ خمس آيات
قوله تعالى ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * ? (سبأ : 1-3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور "(1/350)
الحمد : الثناء بالصفات الحميدة ، والأفعال الحسنة ، فلله تعالى الحمد ، لأن جميع صفاته ، يحمد عليها ، لكونها صفات كمال ، وأفعاله ، يحمد عليها ، لأنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر ، والحمد الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه . وحمد نفسه هنا ، على أن " له ما في السماوات وما في الأرض " ملكا وعبيدا ، يتصرف فيهم بحمده . " وله الحمد في الآخرة " لأن في الآخرة ، يظهر من حمده ، والثناء عليه ، ما لا يكون في الدنيا . فإذا قضى الله تعالى بين الخلائق كلهم ، ورأى الناس والخلق كلهم ، ما حكم به ، وكمال عدله وقسطه ، وحكمته فيه ، حمدوه كلهم على ذلك . حتى أهل العقاب ما دخلوا النار ، إلا وقلوبهم ممتلئة من حمده ، وأن عذابهم من جراء أعمالهم ، وأنه عادل في حكمه بعقابهم . وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب ، فذلك شيء ، قد تواردت وتواترت به الأخبار ، وتوافق عليه الدليل السمعي والعقلي . فإنهم في الجنة ، يرون من توالي نعم الله ، وإدرار خيره ، وكثرة بركاته ، وسعة عطاياه ، التي لا يبقى في قلوب أهل الجنة أمنية ، ولا إرادة ، إلا وقد أعطى منها كل واحد منهم ، فوق ما تمنى وأراد . بل يعطون من الخير ما لم تتعلق به أمانيهم ، ولا يخطر بقلوبهم . فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال ، مع أن في الجنة ، تضمحل العوارض والقواطع ، التي تقطع عن معرفة الله ، ومحبته ، والثناء عليه ، ويكون ذلك أحب إلى أهلها من كل نعيم ، وألذ عليهم من كل لذة . ولهذا إذا رأوا الله تعالى ، وسمعوا كلامه عند خطابه لهم ، أذهلهم ذلك عن كل نعيم ، ويكون الذكر لهم في الجنة كالنفس ، متواصلا في جميع الأوقات . هذا إذا أضفت ذلك إلى أنه يظهر لأهل الجنة ، في الجنة ، كل وقت ، من عظمة ربهم ، وجلاله ، وجماله ، وسعة كماله ، ما يوجب لهم كمال الحمد ، والثناء عليه . " وهو الحكيم " في ملكه وتدبيره ، الحكيم في أمره ونهيه . " الخبير " المطلع على سرائر الأمور(1/351)
وخفاياها . ولهذا فصل علمه بقوله : " يعلم ما يلج في الأرض " أي : من مطر ، وبذر ، وحيوان " وما يخرج منها " من أنواع النباتات ، وأصناف الحيوانات " وما ينزل من السماء " من الأملاك والأرزاق ، والأقدار " وما يعرج فيها " من الملائكة والأرواح وغير ذلك . ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها ، وعلمه بأحوالها ، ذكر مغفرته ورحمته لها ، فقال : " وهو الرحيم الغفور " أي : الذي ، الرحمة والمغفرة وصفه ، ولم تزل آثارهما تنزل على العباد كل وقت بحسب ما قاموا به من مقتضياتهما .
" وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم "
لما بين تعالى ، عظمته ، بما وصف به نفسه ، وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه ، والإيمان به ، ذكر أن من أصناف الناس ، طائفة لم تقدر ربها حق قدره ، ولم تعظمه حق عظمته ، بل كفروا به ، وأنكروا قدرته على إعادة الأموات ، وقيام الساعة ، وعارضوا بذلك رسله ، فقال : " وقال الذين كفروا " أي : بالله وبرسله ، وبما جاءوا به . فقالوا بسبب كفرهم : " لا تأتينا الساعة "(1/352)
أي : ما هي ، إلا هذه الحياة الدنيا ، نموت ونحيا . فأمر الله رسوله ، أن يرد قوله ويبطله ، ويقسم على البعث ، وأنه سيأتيهم فقال : " قل بلى وربي لتأتينكم " ، واستدل على ذلك بدليل من أقر به ، لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة ، وهو علمه تعالى الواسع العام فقال : " عالم الغيب " أي : الأمور الغائبة عن أبصارنا ، وعن علمنا ، فكيف بالشهادة ؟ ثم أكد علمه فقال : " لا يعزب عنه " أي : لا يغيب عن علمه " مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض " أي : جميع الأشياء بذواتها وأجزائها ، حتى أصغر ما يكون من الأجزاء ، وهي المثاقيل منها . " ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " أي : قد أحاط به علمه ، وجرى به قلمه ، وتضمنه الكتاب المبين ، الذي هو اللوح المحفوظ . فالذي لا يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه ، في جميع الأوقات ، ويعلم ما تنقص الأرض من الأموات ، وما يبقى من أجسادهم ، قادر على بعثهم ، من باب أولى ، وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط . ثم ذكر المقصود من البعث فقال : " ليجزي الذين آمنوا " بقلوبهم ، وصدقوا الله ، وصدقوا رسله تصديقا جازما " وعملوا الصالحات " تصديقا لإيمانهم . " أولئك لهم مغفرة " لذنوبهم ، بسبب إيمانهم وعملهم ، يندفع بها كل شر وعقاب . " ورزق كريم " بإحسانهم ، يحصل لهم به كل مطلوب ومرغوب وأمنية .
" والذين سعوا في آياتنا معاجزين " أي : سعوا فيها كفرا بها ، وتعجيزا لمن جاء بها ، وتعجيزا لمن أنزلها ، كما عجزوه في الإعادة بعد الموت . " أولئك لهم عذاب من رجز أليم " أي : مؤلم لأبدانهم ، وقلوبهم .
وقوله تعالى: ? أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ? (سبأ : 9 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/353)
قوله تعالى :" وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب "
أي : " وقال الذين كفروا " على وجه التكذيب والاستهزاء والاستبعاد . أي : قال بعضهم لبعض : " هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد " يعنون بذلك الرجل ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه رجل أتى بما يستغرب منه ، حتى صار ـ بزعمهم ـ فرجة يتفرجون عليه ، وأعجوبة يسخرون منه . وأنه كيف يقول : " إنكم مبعوثون " بعدما مزقكم البلى ، وتفرقت أوصالكم ، واضمحلت أعضاؤكم ؟ فهذا الرجل الذي أتى بذلك ، هل " افترى على الله كذبا " فتجرأ عليه وقال ما قال ، " أم به جنة " ؟ فلا يستغرب منه ، فإن الجنون فنون . وكان هذا منهم ، على وجه العناد والظلم ، ولقد علموا ، أنه أصدق خلق الله وأعقلهم ، ومن علمهم ، أنهم أبدأوا وأعادوا في معاداتهم ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ، في صد الناس عنه؛ فلو كان كاذبا مجنونا ـ يا أهل العقول غير الزاكية ـ لم ينبغ أن تصغوا لما قال ، ولا أن تحتفلوا بدعوته . فإن المجنون ، لا ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره ، أو يبلغ قوله منه ، كل مبلغ . ولولا عنادكم وظلمكم ، لبادرتم لإجابته ، ولبيتم دعوته ، ولكن " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون "... ولهذا قال تعالى : " بل الذين لا يؤمنون بالآخرة " ومنهم الذين قالوا تلك المقالة . " في العذاب والضلال البعيد " أي : في الشقاء العظيم ، والضلال البعيد ، الذي ليس بقريب من الصواب . وأي شقاء وضلال ، أبلغ من إنكارهم لقدرة الله على البعث ، وتكذيبهم لرسوله ، الذي جاء به ، واستهزائهم به ، وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحق ، فرأوا(1/354)
الحق باطلا ، والباطل والضلال حقا وهدى . ثم نبههم على الدليل العقلي ، الدال على عدم استبعاد البعث ، الذي استبعدوه ، وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم ، من السماء والأرض لرأوا من قدرة الله فيهما ، ما يبهر العقول ، ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول ، وأن خلقهما وعظمتهما ، وما فيهما من المخلوقات ، أعظم من إعادة الناس ـ بعد موتهم ـ من قبورهم . فما الحامل لهم ، على ذلك التكذيب ، مع التصديق بما هو أكبر منه ؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن ، ما شاهدوه ، فلذلك كذبوا به . قال الله : " إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء " أي : من العذاب ، لأن الأرض والسماء ، تحت تدبيرنا ، فإن أمرناهما ، لم يستعصيا . فاحذروا إصراركم على تكذيبكم ، فنعاقبكم أشد العقوبة . " إن في ذلك " أي : خلق السموات والأرض ، وما فيهما من المخلوقات " لآية لكل عبد منيب " راجع إلى ربه ، ومطيع له ، فيجزم بأن الله قادر على البعث . فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى الله ، كان انتفاعه بالآيات أعظم ، لأن المنيب مقبل إلى ربه ، قد توجهت إرادته وهماته لربه ، ورجع إليه في كل أمر من أموره ، فصار قريبا من ربه ، ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته . فيكون نظره للمخلوقات ، نظر فكر وعبرة ، لا نظر غفلة غير نافعة...
وقوله تعالى :? قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ? (سبأ : 36 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/355)
قوله تعالى :" وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين "
يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل ، أنها كحال هؤلاء الحاضرين المكذبين لرسولهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن الله إذا أرسل رسولا في قرية من القرى ، كفر به مترفوها ، وأبطرتهم نعمتهم ، وفخروا بها . " وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا " أي : ممن اتبع الحق " وما نحن بمعذبين " أي : أولا ، لسنا بمبعوثين ، فإن بعثنا ، فالذي أعطانا الأموال والأولاد في الدنيا ، سيعطينا أكثر من ذلك في الآخرة ولا يعذبنا . فأجابهم الله تعالى ، بأن بسط الرزق وتضييقه ، ليس دليلا على ما زعمتم . فإن الرزق تحت مشيئة الله ، إن شاء بسطه لعبده ، وإن شاء ضيقه .(1/356)
" وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم " إلى الله " زلفى " وتدني إليه . وإنما الذي يقرب منه زلفى ، الإيمان بما جاء به المرسلون ، والعمل الصالح الذي هو من لوازم الإيمان ، فإن أولئك ، لهم الجزاء عند الله تعالى مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، لا يعلمها إلا الله . " وهم في الغرفات آمنون " أي : في المنازل العاليات المرتفعات جدا ، ساكنين فيها ، مطمئنين ، آمنين من المكدرات والمنغصات ، لما فيه من اللذات وأنواع المشتهيات ، وآمنين من الخروج منها ، أو الحزن فيها ." والذين يسعون في آياتنا معاجزين " أي : على وجه التعجيز لنا ، ولرسلنا ، والتكذيب . " أولئك في العذاب محضرون " تحضرهم الزبانية فلا يجديهم ما عولوا عليه نفعا . ثم أعاد تعالى أنه " يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " ليرتب عليه قوله : " وما أنفقتم من شيء " نفقة واجبة ، أو مستحبة ، على قريب ، أو جار ، أو مسكين ، أو يتيم ، أو غير ذلك . " فهو " تعالى " يخلفه " فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق ، بل وعد بالخلف للمنفق ، الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " وهو خير الرازقين "
فاطلبوا الرزق منه ، واسعوا في الأسباب التي أمركم بها .
ومن سورة فاطر ثلاث عشرة آية(1/357)
قوله تعالى :? الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * ? (فاطر : 1- 3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" قوله تعالى :الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم "(1/358)
يمدح تعالى نفسه الكريمة المقدسة ، على خلقه السموات والأرض ، وما اشتملتا عليه من المخلوقات ، لأن ذلك ، دليل على كمال قدرته ، وسعة ملكه ، وعموم رحمته ، وبديع حكمته ، وإحاطة علمه . ولما ذكر الخلق ، ذكر بعده ، ما يتضمن الأمر ، وهو : أنه " جاعل الملائكة رسلا " في تدبير أوامره القدرية ، ووسائط بينه وبين خلقه ، في تبليغ أوامره الدينية . وفي ذكره أنه جعل الملائكة رسلا ، ولم يستثن منهم أحدا ، دليل على كمال طاعتهم لربهم ، وانقيادهم لأمره ، كما قال تعالى : " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " . ولما كانت الملائكة مدبرات ، بإذن الله . ما جعلهم الله موكلين فيه ، ذكر قوتهم على ذلك ، وسرعة سيرهم ، بأن جعلهم " أولي أجنحة " تطير بها ، فتسرع بتنفيذ ما أمرت به . " مثنى وثلاث ورباع " أي : منهم من له جناحان ، وثلاثة ، وأربعة ، بحسب ما اقتضته حكمته ، " يزيد في الخلق ما يشاء " أي : يزيد بعض مخلوقاته على بعض ، في صفة خلقها ، وفي القوة ، وفي الحسن ، وفي زيادة الأعضاء المعهودة ، وفي حسن الأصوات ، ولذة النغمات . " إن الله على كل شيء قدير " فقدرته تعالى ، تأتي على ما يشاؤه ، ولا يستعصي عليها شيء ، ومن ذلك ، زيادة مخلوقاته ، بعضها على بعض . ثم ذكر انفراده تعالى ، بالتدبير ، والعطاء ، والمنع فقال : " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك " من رحمته عنهم " فلا مرسل له من بعده " فهذا يوجب التعلق بالله تعالى ، والافتقار إليه من جميع الوجوه ، وأن لا يدعى إلا هو ، ولا يخاف ويرجى ، وإلا هو . " وهو العزيز " الذي قهر الأشياء كلها " الحكيم " الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها .
" يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور "(1/359)
يأمر تعالى ، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم . وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح انقيادا ، فإن ذكر نعمه تعالى ، داع لشكره . ثم نبههم على أصول النعم ، وهي : الخلق ، والرزق فقال : " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " . ولما كان من المعلوم ، أنه ليس أحد يخلق ويرزق إلا الله ، نتج من ذلك ، أن كان ذلك ، دليلا على ألوهيته وعبوديتة ، ولهذا قال : " لا إله إلا هو فأنى تؤفكون " أي : تصرفون عن عبادة الخالق الرازق لعبادة المخلوق المرزوق . " وإن يكذبوك " يا أيها الرسول ، فلك أسوة بمن قبلك من المرسلين . " فقد كذبت رسل من قبلك " فأهلك المكذبون ، ونجى الله الرسل وأتباعهم . " وإلى الله ترجع الأمور " في الآخرة ، فيجازي المكذبين ، وينصر المرسلين وأتباعهم(1/360)
وقوله تعالى : ? وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ * مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ * وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * ? (فاطر : 9-13 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/361)
قوله تعالى :"والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور " يخبر تعالى عن كمال اقتداره ، وسعة جوده ، وأنه الذي " أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت " فأنزله الله عليها " فأحيينا به الأرض بعد موتها " . فحييت البلاد والعباد ، وارتزقت الحيوانات ، ورتعت في تلك الخيرات . " كذلك " الذي أحيا الأرض بعد موتها ، ينشر الأموات من قبورهم ، بعدما مزقهم البلاء ، فيسوق إليهم مطرا ، كما ساقه إلى الأرض الميتة ، فينزله عليهم فتحيا الأجساد والأرواح من القبور ، ويكون " النشور " فيأتون للقيام بين يدي الله ليحكم بينهم ، ويفصل بحكمه العدل .
" من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور " أي : يا من يريد العزة ، اطلبها ممن هي بيده ، فإن العزة بيد الله ، ولا تنال إلا بطاعته . وقد ذكرها بقوله : " إليه يصعد الكلم الطيب " من قراءة ، وتسبيح ، وتحميد ، وتهليل ، وكل كلام حسن طيب ، فيرفع إلى الله ، ويعرض عليه ، ويثني الله على صاحبه ، بين الملأ الأعلى ، " والعمل الصالح " من أعمال القلوب وأعمال الجوارح " يرفعه " الله تعالى إليه أيضا ، كالكلم الطيب . وقيل : العمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال العبد الصالحة ، فهي التي ترفع كلمه الطيب . فإذا لم يكن له عمل صالح ، لم يرفع له قول إلى الله تعالى . فهذه الأعمال التي ترفع إلى الله تعالى ، ويرفع الله صاحبها ويعزه . وأما السيئات ، فإنها بالعكس ، يريد صاحبها الرفعة بها ، ويمكر ويكيد ويعود ذلك عليه ، ولا يزداد إلا هوانا ، ونزولا ، ولهذا قال : " والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد " يهانون فيه غاية الإهانة . " ومكر أولئك هو يبور " أي : يهلك ويضمحل ، ولا يفيدهم شيئا ، لأنه مكر بالباطل ، لأجل الباطل .(1/362)
" والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير " يذكر تعالى خلقه الآدمي ، وتنقله في هذه الأوطار ، من تراب إلى نطفة وما بعدها . " ثم جعلكم أزواجا " أي : لم يزل ينقلكم ، طورا بعد طور ، حتى أوصلكم إلى أن كنتم أزواجا ، ذكر يتزوج أنثى ، ويراد بالزواج ، الذرية والأولاد . فهو وإن كان النكاح من الأسباب فيه ، فإنه مقترن بقضاء الله وقدره وعلمه . " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " وكذلك أطوار الآدمي ، كلها ، بعلمه وقضائه . " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره " أي : عمر الذي كان معمرا عمرا طويلا
" إلا " بعلمه تعالى . أو ما ينقص من عمر الإنسان الذي هو بصدد أن يصل إليه ، لولا ما سلكه من أسباب قصر العمر ، كالزنا ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الأرحام ، ونحو ذلك ، مما ذكر أنها من أسباب قصر العمر . والمعنى : أن طول العمر وقصره ، بسبب ، وبغير سبب ، كله بعلمه تعالى ، وقد أثبت ذلك " في كتاب " حوى ما يجري على العبد ، في جميع أوقاته ، وأيام حياته .(1/363)
" إن ذلك على الله يسير " أي : إحاطة علمه بتلك المعلومات الكثيرة ، وإحاطة كتابه بها . فهذه ثلاثة أدلة ، من أدلة البعث والنشور ، كلها عقلية ، نبه الله عليها في هذه الآيات : إحياء الأرض بعد موتها ، وأن الذي أحياها سيحيي الموتى ، وتنقل الآدمي في تلك الأطوار . فالذي أوجده ونقله ، طبقا بعد طبق ، وحالا بعد حال ، حتى بلغ ما قدر له ، فهو على إعادته وإنشائه النشأة الأخرى أقدر ، وهو أهون عليه ، وإحاطة علمه بجميع أجزاء العالم ، والعلوي ، والسفلي ، دقيقها ، وجليلها ، الذي في القلوب ، والأجنة التي في البطون ، وزيادة الأعمار ونقصها ، وإثبات ذلك كله في كتاب . فالذي كان هذا يسيرا عليه ، فإعادته للأموات ، أيسر وأيسر . فتبارك من كثر خيره ، ونبه عباده على ما فيه صلاحهم ، في معاشهم ، ومعادهم .
" وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير "(1/364)
هذا إخبار عن قدرته ، وتوالي حكمته ، ورحمته أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم ، وأنه لم يسو بينهما ، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار ، عذبة فراتا ، سائغا شرابها ، لينتفع بها الشاربون ، والغارسون ، والزارعون . وأن يكون البحر ، ملحا أجاجا ، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض ، بروائح ما يموت في البحر ، من الحيوانات ، ولأنه ساكن لا يجري ، فملوحته تمنعه من التغير ، ولتكون حيواناته ، أحسن وألذ ، ولهذا قال : " ومن كل " من البحر الملح والعذب " تأكلون لحما طريا " وهو السمك المتيسر صيده في البحر . " وتستخرجون حلية تلبسونها " من لؤلؤ ، ومرجان ، وغيره ، مما يوجد في البحر . فهذه مصالح عظيمة للعباد . ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر ، أن سخره الله تعالى لحمل الفلك ، من السفن ، والمراكب ، فتراها تمخر البحر وتشقه ، فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر ، ومن محل إلى محل ، فتحمل السائرين وأثقالهم ، وتجاراتهم ، فيحصل بذلك من فضل الله وإحسانه . شيء كثير ، ولهذا قال :(1/365)
" ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " على النعم المتقدم ذكرها . ومن ذلك أيضا إيلاجه تعالى الليل بالنهار ، والنهار بالليل ، يدخل هذا على هذا ، كما أتى أحدهما ، ذهب الآخر ، ويزيد أحدهما ، وينقص الآخر ، ويتساويان فيقوم بذلك ، ما يقوم من مصالح العباد في أبدانهم ، وحيواناتهم وأشجارهم ، وزروعهم . وكذلك ما جعل الله في تسخير الشمس والقمر ، من مصالح الضياء والنور والحركة والسكون . وانتشار العباد في طلب فضله ، وما فيها من إنضاج الثمار وتجفيف ما يجفف ، وغير ذلك ، مما هو من الضروريات ، التي لو فقدت للحق الناس الضرر . وقوله : " كل يجري لأجل مسمى " أي : كل من الشمس والقمر ، يسيران في فلكهما ، ما شاء الله أن يسيرا . فإذا جاء الأجل ، وقرب انقضاء الدنيا ، انقطع سيرهما ، وتعطل سلطانهما وخسف القمر ، وكورت الشمس ، وانتثرت النجوم . فلما بين تعالى : ما بين من هذه المخلوقات العظيمة ، وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه ، قال : " ذلكم الله ربكم له الملك " أي : الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ، هو الرب المألوه المعبود ، الذي له الملك كله . " والذين تدعون من دونه " من الأوثان والأصنام " ما يملكون من قطمير "(1/366)
أي : لا يملكون شيئا ، لا قليلا ، ولا كثيرا؛ حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء . وهذا من تنصص النفي وعمومه ، فكيف يدعون ، وهم غير مالكين لشيء ، من ملك السموات والأرض ؟ ومع هذا " إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم " لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم . " ولو سمعوا " على وجه الفرض والتقدير " ما استجابوا لكم " لأنهم لا يملكون شيئا ، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده ، ولهذا قال : " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " أي : يتبرؤون منكم؛ ويقولون : " سبحانك أنت ولينا من دونهم "..." ولا ينبئك مثل خبير " أي : لا أحد ينبئك؛ أصدق من الله العليم الخبير . فاجزم بأن هذا الأمر ، الذي نبأ به؛ كأنه رأي عين ، فلا تشك ولا تمتر . فتضمنت هذه الآيات ، الأدلة والبراهين ، الساطعة ، والدالة على أنه تعالى المألوه المعبود ، الذي لا يستحق شيئا من العبادة سواه ، وأن عبادة ما سواه باطلة متعلقة بباطل ، لا تفيد عابده شيئا .
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * ? (فاطر : 27- 28 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/367)
يذكر تعالى خلقه للأشياء والمتضادات ، التي أصلها واحد ، ومادتها واحدة ، وفيها من التفاوت والفرق ، ما هو مشاهد معروف ، ليدل العباد ، على كمال قدرته ، وبديع حكمته . فمن ذلك : أن الله تعالى أنزل من السماء ماء ، فأخرج به من الثمرات المختلفات ، والنباتات المتنوعات ، ما هو مشاهد للناظرين ، والماء واحد ، والأرض واحدة . ومن ذلك : الجبال التي جعلها الله أوتادا للأرض ، تجدها جبالا مشتبكة ، بل جبلا واحدا . وفيها ألوان متعددة ، فيها جدد بيض أي : طرائق بيض ، وفيها طرائق صفر وحمر ، وفيها غرابيب سود أي : شديدة السواد جدا . ومن ذلك : الناس والدواب ، والأنعام ، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف ، والأصوات ، والهيئات ، ما هو مرئي بالأبصار ، مشهود للنظار ، والكل من أصل واحد ومادة واحدة . فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة الله تعالى ، التي خصصت ما خصصت منها ، بلونه ، ووصفه ، وقدرة الله تعالى حيث أوجدها كذلك ، وحكمته ورحمته ، حيث كان ذلك الاختلاف ، وذلك التفاوت ، فيه من المصالح والمنافع ، ومعرفة الطرق ، ومعرفة الناس بعضهم بعضا ، ما هو معلوم . وذلك أيضا ، دليل على سعة علم الله تعالى ، وأنه يبعث من في القبور . ولكن الغافل ، ينظر في هذه الأشياء وغيرها ، نظر غفلة ، لا تحدث له تذكرا . وإنما ينتفع بها من يخشى الله تعالى ، ويعلم بفكره الصائب ، وجه الحكمة فيها . ولهذا قال : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فكل من كان بالله أعلم ، كان أكثر له خشية . وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي ، والاستعداد للقاء من يخشاه . وهذا دليل على فضيلة العلم ، فإنه داع إلى خشية الله . وأهل خشيته ، هم أهل كرامته كما قال تعالى : " رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه " ... أن الله عزيز " كامل العزة ، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات . " غفور " لذنوب التائبين .(1/368)
وقوله تعالى : ? (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً? (فاطر : 41 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى ، عن كمال قدرته ، وتمام رحمته ، وسعة حلمه ومغفرته ، وأنه تعالى ، يمسك السموات والأرض عن الزوال ، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق ، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما . ولكنه تعالى ، قضى أن يكونا كما وجدا ، ليحصل للخلق القرار ، والنفع ، والاعتبار . وليعلموا من عظيم سلطانه ، وقوة قدرته ، ما به تمتلىء قلبوهم له إجلالا وتعظيما ، ومحبة ، وتكريما . وليلعموا كمال حلمه ومغفرته ، بإمهال المذنبين ، وعدم معاجلته للعاصين . مع أنه لو أمر السماء ، لحصبتهم ، ولو أذن للأرض ، لا بتلعتهم . ولكن وسعتهم مغفرته ، وحلمه ، وكرمه " إنه كان حليما " في تأخير عقاب الكفار ، " غفورا " لمن تاب..
وقوله تعالى : ? أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً * ?(فاطر : 44-45 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/369)
يحض تعالى الناس ، على السير في الأرض ، بالقلوب والأبدان ، للاعتبار لا لمجرد النظر والغفلة ، وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ، ممن كذبوا الرسل ، وكانوا أكثر منهم أموالا وأولادا ، وأشد قوة ، وعمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء . فلما جاءهم العذاب ، لم تنفعهم قوتهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، ونفذت فيهم قدرة الله ومشيئته . " وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض " لكمال علمه وقدرته " إنه كان عليما " بالأشياء كلها " قديرا " عليها .
ثم ذكر تعالى ، كمال حلمه ، وشدة إمهالة وإنظاره ، أرباب الجرائم والذنوب فقال : " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا " من الذنوب " ما ترك على ظهرها من دابة " أي : لاستوعبت العقوبة ، حتى الحيوانات غير المكلفة . " ولكن " يمهلهم تعالى ولا يهملهم " يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " فيجازيهم بحسب ما علمه منهم ، من خير وشر .
ومن سورة يس خمس وعشرون آية(1/370)
قوله تعالى ? وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ *وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ * ? (يس : 33-44 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون "
أي " وآية لهم " على البعث والنشور ، والقيام بين يدي الله تعالى ، للجزاء على الأعمال ، هذه(1/371)
" الأرض الميتة " التي أنزل الله عليها المطر ، فأحياها بعد موتها . " وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون " من جميع أصناف الزروع ، ومن جميع أصناف النبات ، التي تأكله أنعامهم " وجعلنا فيها " أي : في تلك الأرض الميتة . " جنات " أي : بساتين ، فيها أشجار كثيرة ، وخصوصا النخيل والأعناب ، واللذان هما أشرف الأشجار " وفجرنا فيها " أي : في الأرض " من العيون " . جعلنا في الأرض تلك الأشجار ، والنخيل ، والأعناب " ليأكلوا من ثمره " قوتا وفاكهة ، وأدما ، ولذة . ( و ) الحال أن ذلك الثمر " وما عملته أيديهم " وليس لهم فيه صنع ولا عمل ، إن هو إلا صنعة أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين . وأيضا فلم تعمله أيديهم ، بطبخ ولا غيره ، بل أوجد الله هذه الثمار ، غير محتاجة لطبخ ، ولا شيء ، تؤخذ من أشجارها ، فتؤكل في الحال . " أفلا يشكرون " من ساق لهم هذه النعم ، وأسبغ عليهم من جوده وإحسانه ، ما به تصلح أمور دينهم ودنياهم . أليس الذي أحيا الأرض بعد موتها ، فأنبت فيها الزروع والأشجار ، وأودع فيها لذيذ الثمار ، وأظهر ذلك الجنى من تلك الغصون ، وفجر الأرض اليابسة الميتة بالعيون ، بقادر على أن يحيي الموتى ؟ بلى ، إنه على كل شيء قدير . " سبحان الذي خلق الأزواج كلها " أي : الأصناف كلها " مما تنبت الأرض " فنوع فيها من الأصناف ، ما يعسر تعداده . " ومن أنفسهم " فنوعهم إلى ذكر وأنثى ، وفاوت بين خلقهم ، وخلقهم ، وأوصافهم الظاهرة والباطنة . " ومما لا يعلمون " من المخلوقات ، التي قد خلقت ، وغابت عن علمنا ، والتي لم تخلق بعد . فسبحانه وتعالى ، أن يكون له شريك ، أو ظهير ، أو عوين ، أو وزير ، أو صاحبة ، أو ولد ، أو سمي ، أو مثيل في صفات كماله ، ونعوت جلاله ، أو يعجزه شيء يريده(1/372)
. " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون "
أي : " وآية لهم " على نفوذ مشيئة الله ، وكمال قدرته ، وإحيائه الموتى بعد موتهم . " الليل نسلخ منه النهار " أي : نزيل منه الضياء العظيم ، الذي طبق الأرض ، فنبدله بالظلمة ، ونحلها محله " فإذا هم مظلمون " . وكذلك نزيل هذه الظلمة ، التي عمتهم وشملتهم ، فنطلع الشمس ، فتضيء الأقطار ، وينتشر الخلق لمعايشهم ومصالحهم ، ولهذا قال : " والشمس تجري لمستقر لها "أي : دائما تجري لمستقر لها ، قدره الله لها ، لا تتعداه ، ولا تقصر عنه ، وليس لها تصرف في نفسها ، ولا استعصاء على قدرة الله تعالى . " ذلك تقدير العزيز " الذي بعزته ، دبر هذه المخلوقات العظيمة ، بأكمل تدبير ، وأحسن نظام . " العليم " الذي بعلمه ، جعلها مصالح لعباده ، ومنافع في دينهم ودنياهم . " والقمر قدرناه منازل " ينزلها ، كل ليلة ينزل منها واحدة ، " حتى " صغر جدا و " عاد كالعرجون القديم " أي : عرجون النخلة ، الذي من قدمه ، نش ، وصغر حجمه ، وانحنى ، ثم بعد ذلك ، ما زال يزيد شيئا فشيئا ، حتى يتم نوره ، ويتسق ضياؤه . " وكل " من الشمس والقمر ، والليل والنهار ، قدره الله تقديرا لا يتعداه ، ولكل له سلطان ووقت ، إذا وجد ، عدم الآخر ، ولهذا قال : " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر " أي : في سلطانه الذي هو الليل ، فلا يمكن أن توجد الشمس في الليل . " ولا الليل سابق النهار " فيدخل عليه قبل انقضاء سلطانه . " وكل " من الشمس والقمر والنجوم " في فلك يسبحون " أي : يترددون على الدوام . فكل هذا دليل ظاهر ، وبرهان باهر ، على عظمة الخالق ، وعظمة أوصافه . خصوصا ، وصف القدرة والحكمة ، والعلم في هذا الموضع .(1/373)
" وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين "
أي : ودليل لهم وبرهان ، على أن الله وحده المعبود ، لأنه المنعم بالنعم ، الصارف للنقم ، الذي من جملة نعمه " أنا حملنا ذريتهم " قال كثير من المفسرين : المراد بذلك : آباؤهم . " وخلقنا لهم " أي : للموجودين من بعدهم " من مثله " أي : من مثل ذلك ، أي : جنسه " ما يركبون " به . فذكر نعمته على الآباء ، بحملهم في السفن ، لأن النعمة عليهم ، نعمة على الذرية . وهذا الموضع من أشكل المواضع علي في التفسير . فإن ما ذكره كثير من المفسرين ، من أن المراد بالذرية الآباء ، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء . بل فيه من الإبهام ، وإخراج الكلام عن موضوعه ، ما يأباه كلام رب العالمين ، وإرادته البيان والتوضيح لعباده . وثم احتمال أحسن من هذا ، وهو أن المراد بالذرية ، الجنس ، وأنهم هم بأنفسهم ، لأنهم هم ، من ذرية بني آدم . ولكن ينقض هذا المعنى قوله : " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " إن أريد : وخلقنا من مثل ذلك الفلك ، أي لهؤلاء المخاطبين ، ما يركبون من أنواع الفلك ، فيكون ذلك تكريرا للمعنى ، تأباه فصاحة القرآن . فإن أريد بقوله : " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " الإبل ، التي هي سفن البر ، استقام المعنى واتضح . إلا أنه يبقى أيضا ، أن يكون الكلام فيه تشويش ، فإنه لو أريد هذا المعنى ، لقال : وآية لهم أنا حملناهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون . فأما أن يقول في الأول : حملنا ذريتهم ، وفي الثاني : حملناهم ، فإنه لا يظهر المعنى . إلا أن يقال : الضمير عائد إلى الذرية ، والله أعلم بحقيقة الحال . فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع ، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد الله تعالى . وذلك أن من عرف جلالة كتاب الله ، وبيانه التام من كل وجه ، للأمور(1/374)
الحاضرة والماضية ، والمستقبلة ، وأنه يذكر من كل معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله ، وكانت الفلك من آياته تعالى ، ونعمه على عباده ، من حين أنعم عليهم ، بتعلمها إلى يوم القيامة ، ولم تزل موجودة في كل زمان ، إلى زمان المواجهين بالقرآن . فلما خاطبهم الله تعالى بالقرآن ، وذكر حالة الفلك ، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك ، في غير وقتهم ، وفي غير زمانهم ، حين يعلمهم صنعة الفلك البحرية ، والشراعية منها والبخارية ، والجوية السابحة في الجو ، كالطيور ونحوها ، والراكب البرية ، مما كانت الآية العظمى فيه لا توجد إلا في الذرية ، نبه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال : " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون " أي : المملوء ركبانا وأمتعة . فحملهم الله تعالى ، ونجاهم بالأسباب التي علمهم الله إياها ، من الغرق ، ولهذا نبههم على نعمته عليهم ، حيث أنجاهم من الغرق ، مع قدرته على ذلك قال : " وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم " أي : لا أحد يصرخ لهم ، فيعاونهم على الشدة ، ولا يزيل عنهم المشقة " ولا هم ينقذون " مما هم فيه . " إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين " حيث لم نغرقهم ، لطفا بهم ، وتمتيعا لهم إلى حين ، لعلهم يرجعون ، أو يستدركون ما فرط منهم .(1/375)
وقوله تعالى : ? َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ * فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ? (يس : 71-83 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون "(1/376)
يأمر تعالى العباد بالنظر إلى ما سخر لهم من الأنعام وذللها ، وجعلهم مالكين لها ، مطاوعة لهم في كل أمر يريدونه منها ، وأنه جعل لهم فيها منافع كثيرة من حملهم ، وحمل أثقالهم ، ومحاملهم ، وأمتعتهم ، من محل إلى محل ، ومن أكلهم منها ، وفيها دفء ، ومن أوبارها وأصوافها وأشعارها وأثاثا ومتاعا إلى حين . وفيها زينة وجمال ، وغير ذلك من المنافع المشاهدة منها . " أفلا يشكرون " الله تعالى الذي أنعم بهذه النعم ، ويخلصون له العبادة ولا يتمتعون بها تمتعا خاليا من العبرة والفكرة .
" واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون "
هذا بيان لبطلان آلهة المشركين ، التي اتخذوها مع الله تعالى ، ورجوا نصرها وشفعها " أي : شفاعتها ووساطتها بينهم وبين الله " . فإنها في غاية العجز " لا يستطيعون نصرهم " ولا أنفسهم ينصرون . فإذا كانوا لا يستطيعون نصرهم ، فكيف ينصرونهم ؟ والنصر له شرطان : الاستطاعة ، والقدرة . فإذا استطاع ، يبقى ، هل يريد نصرة من عبده أم لا ؟ فنفي الاستطاعة ، ينفي الأمرين كليهما . " وهم لهم جند محضرون " أي : محضرون هم وهم في العذاب ، ومتبرىء بعضهم من بعض . أفلا تبرأوا في الدنيا من عبادة هؤلاء ، وأخلصوا العبادة ، للذي بيده الملك والنفع والضر ، والعطاء والمنع ، وهو الولي النصير ؟ " فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " أي : فلا يحزنك ، يا أيها الرسول ، قول المكذبين ، والمراد بالقول : ما دل عليه السياق ، كل قول يقدحون به في الرسول ، أو فيما جاء به . أي : فلا تشغل قلبك بالحزن عليهم " إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " فنجازيهم على حسب علمنا بهم ، وإلا فقولهم لا يضرك شيئا .(1/377)
" أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون "
وهذه الآيات الكريمات ، فيها ، ذكر شبهة منكري البعث ، والجواب عنها بأتم جواب ، وأحسنه ، وأوضحه ، فقال تعالى : " أو لم ير الإنسان " المنكر للبعث أو الشاك فيه ، أمرا يفيده اليقين التام بوقوعه وهو : " أنا خلقناه " ابتداء " من نطفة " ثم تنقله في الأطوار شيئا فشيئا ، حتى كبر وشب ، وتم عقله ، واستتب . " فإذا هو خصيم مبين " بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة . فلينظر التفاوت بين هاتين الحالتين ، واليعلم أن الذي أنشأه من العدم ، قادر على أن يعيده بعدما تفرق وتمزق ، من باب أولى . " وضرب لنا مثلا " لا ينبغي لأحد أن يضربه ، وهو قياس قدره الخالق بقدره المخلوق ، وأن الأمر المستبعد على قدرة المخلوق ، مستبعد على قدرة الخالق . فسر هذا المثل بقوله : ( قال ) ذلك الإنسان " من يحيي العظام وهي رميم " أي : هل أحد يحييها ؟ استفهام إنكار ، أي : لا أحد يحييها بعدما بيليت وتلاشت . هذا وجه الشبهة والمثل ، وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر . وهذا القول الذي صدر من هذا الإنسان ، غفلة منه ، ونسيان لابتداء خلقه . فلو فطن لخلقه ، بعد أن لم يكن شيئا مذكورا فوجد عيانا ، لم يضرب هذا المثل . فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد ، بجواب شاف كاف فقال : " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " وهذا بمجرد تصوره ، يعلم به علما يقينا لا شبهة فيه ، أن الذي أنشأها أول مرة قادر على الإعادة ، ثاني مرة ، وهو أهون على القدرة ، إذا تصوره المتصور "(1/378)
وهو بكل خلق عليم " . هذا أيضا دليل ثان من صفات الله تعالى ، وهو أن علمه تعالى ، محيط بجميع مخلوقاته في جميع أحوالها ، في جميع الأوقات . ويعلم ما تنقص الأرض من أجساد الأموات ، وما يبقى ، ويعلم الغيب والشهادة . فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم ، علم أنه أعظم وأجل من إحياء الله الموتى من قبورهم . ثم ذكر دليلا ثالثا فقال : " الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " فإذا أخرج النار اليابسة ، من الشجر الأخضر ، الذي هو غاية الرطوبة ، مع تضادهما ، وشدة تخالفهما ، فإخراجه الموتى من قبورهم ، مثل ذلك . ثم ذكر دليلا رابعا فقال : " أو ليس الذي خلق السماوات والأرض " على سعتهما وعظمهما " بقادر على أن يخلق مثلهم " أي : أن يعيدهم بأعيانهم ." بلى " قادر على ذلك ، فإنه خلق السموات والأرض ، أكبر من خلق الناس . " وهو الخلاق العليم " وهذا دليل خاص ، فإنه تعالى الخلاق ، الذي جمع المخلوقات ، متقدمها ، ومتأخرها ، وصغيرها ، وكبيرها ـ كلها أثر من آثار خلقه وقدرته ، وأنه لا يستعصي عليها مخلوق أراد خلقه . فإعادته للأموات ، فرد من أفراد آثار خلقه ، ولهذا قال : " إنما أمره إذا أراد شيئا " نكرة في سياق الشرط ، فتعم كل شيء . " أن يقول له كن فيكون " أي : في الحال من غير تمانع . " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء " وهذا دليل سادس ، فإنه تعالى هو الملك المالك لكل شيء ، الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي مالك له ، وعبيد مسخرون ومدبرون ، يتصرف فيهم بأقداره الحكيمة ، وأحكامه الشرعية ، وأحكامه الجزائية . فإعادته إياهم بعد موتهم ، لينفذ فيهم حكم الجزاء ، من تمام ملكه ، ولهذا قال : " وإليه ترجعون " من غير امتراء ولا شك ، لتواتر البراهين القاطعة والأدلة الساطعة ، على ذلك . فتبارك الذي جعل في كلامه الهدي والشفاء والنور .
ومن سورة الصافات أربع عشرة آية(1/379)
قوله تعالى : ? وَالصَّافَّاتِ صَفّاً *فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً*فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ*رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ *دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ * ? (الصافات : 1-11 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/380)
هذا قسم منه تعالى ، بالملائكة الكرام ، في حال عباداتها ، وتدبيرها ما تدبره بإذن ربها ، على ألوهيته تعالى ، وربوبيته ، فقال : " والصافات صفا " أي : صفوفا في خدمة ربهم ، وهم الملائكة . " فالزاجرات زجرا " وهم الملائكة ، يزجرون السحاب وغيره بأمر الله . " فالتاليات ذكرا " وهم : الملائكة الذين يتلون كلام الله تعالى . فلما كانوا متألهين لربهم ، ومتعبدين في خدمته ، ولا يعصونه طرفة عين ، أقسم بهم على ألوهيته فقال : " إن إلهكم لواحد " ليس له شريك في الإلهية ، فأخلصوا له الحب ، والخوف ، والرجاء ، وسائر أنواع العبادة ." رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق " أي : هو الخالق لهذه المخلوقات ، الرازق لها ، المذل لها . فكما أنه لا شريك له في ربوبيته إياها ، فكذلك لا شريك له في ألوهيته . وكثيرا ما يقرن تعالى ، توحيد الإلهية ، بتوحيد الربوبية؛ لأنه دال عليه . وقد أقر به أيضا المشركون في العبادة ، فليزمهم بما أقروا به على ما أنكروه . وخص الله المشارق بالذكر ، لدلالتها على المغارب ، أو لأنها مشارق النجوم ، التي سيذكرها ، فلهذا قال : " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى " . ذكر الله في الكواكب ، هاتين الفائدتين العظيمتين : إحداهما : كونها زينة للسماء ، إذ لولاها ، لكانت السماء مظلمة ، لا ضواء فيها . ولكن زينها بها لتستنير أرجاؤها ، وتحسن صورتها ، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ويحصل فيها من المصالح ما يحصل . والثانية : حراسة السماء ، عن كل شيطان مارد ، يصل بتمرده إلى استماع الملأ الأعلى ، وهم : الملائكة . فإذا استمعوا " ويقذفون " بالشهب الثواقب " من كل جانب " طردا لهم ، وإبعادا إياهم ، عن استماع ما يقول الملأ الأعلى . " ولهم عذاب واصب " أي : دائم ، معد لهم ، لتمردهم عن طاعة ربهم . ولولا أنه تعالى استثنى ، لكان ذلك دليلا على أنهم لا(1/381)
يستمعون شيئا أصلا ، ولكن قال : " إلا من خطف الخطفة " أي : إلا من تلقف من الشياطين المردة ، الكلمة الواحدة على وجه الخفية والسرقة " فأتبعه شهاب ثاقب " تارة ، يدركه قبل أن يوصلها إلى أوليائه ، فينقطع خبر السماء . وتارة يخبر بها ، قبل أن يدركه الشهاب ، فيكذبون معها مائة كذبة ، يروجونها بسبب الكلمة ، التي سمعت من السماء . ولما بين هذه المخلوقات العظيمة قال : " فاستفتهم " أي : اسأل منكري خلقهم بعد موتهم . " أهم أشد خلقا " أي : إيجادهم بعد موتهم ، أشد خلقا وأشق ؟ " أم من خلقنا " من هذه المخلوقات ؟ فلا بد أن يقروا أن خلق السموات والأرض ، أكبر من خلق الناس . فيلزمهم إذا الإقرار بالبعث ، بل لو رجعوا إلى أنفسهم ، وفكروا فيها ، لعلموا أن ابتداء خلقهم من طين لازب ، أصعب عند الفكر من إنشائهم بعد موتهم ، ولهذا قال : " إنا خلقناهم من طين لازب "
أي : قوي شديد كقوله تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون "
وقوله تعالى : ? سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * ? (الصافات :180-182 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
نزه الله تعالى نفسه فقال : " سبحان ربك " أي : تنزه وتعالى " رب العزة " أي : الذي عز ، فقهر كل شيء ، واعتز عن كل سوء يصفونه به . " وسلام على المرسلين " لسلامتهم من الذنوب والآفات ، وسلامة ما وصفوا به فاطر الأرض والسموات . " والحمد لله رب العالمين "(1/382)
الألف واللام للاستغراق ، فجميع أنواع الحمد ، من الصفات الكاملة العظيمة ، والأفعال التي ربى بها العالمين ، وأدر عليهم فيها النعم ، وصرف عنهم بها النقم ، ودبرهم تعالى في حركاتهم وسكونهم ، وفي جميع أحوالهم ، كلها لله تعالى . فهو المقدس عن النقص ، المحمود بكل كمال ، المحبوب المعظم . ورسله سالمون مسلم عليهم ، ومن اتبعهم في ذلك ، له السلامة في الدنيا والآخرة . وأعداؤه لهم الهلاك والعطب ، في الدنيا والآخرة .
ومن سورة ص أربع آيات
قوله تعالى : ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * ? (صـ : 65-68 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/383)
" قل " يا أيها الرسول لهؤلاء المكذبين ، إن طلبوا منك ما ليس لك ولا بيدك : " إنما أنا منذر " هذا نهاية ما عندي ، وأما الأمر فلله تعالى ، ولكني آمركم ، وأنهاكم ، وأحثكم على الخير ، وأزجركم عن الشر ( فمن اهتدى ، فلنفسه ومن ضل فعليها ) .... " وما من إله إلا الله " أي : ما أحد يؤله ويعبد بحق ، إلا الله " الواحد القهار " . هذا تقرير لألوهيته ، بهذا البرهان القاطع ، وهو وحدته تعالى ، وقهره لكل شيء . فإن القهر ملازم للوحدة ، فلا يكون اثنان قهاران ، متساويين في قهرهما أبدا . فالذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد ، الذي لا نظير له ، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده ، كما كان قاهرا وحده . وقرر ذلك بتوحيد الربوبية فقال : " رب السماوات والأرض وما بينهما " أي : خالقهما ، ومربيهما ، ومدبرهما بجميع أنواع التدبير . " العزيز " الذي له القوة ، التي بها خلق المخلوقات العظيمة . " الغفار " لجميع الذنوب ، صغيرها ، وكبيرها ، لمن تاب إليه ، وأقلع منها . فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد ، دون من لا يخلق ، ولا يرزق ، ولا يضر ، ولا ينفع ، ولا يملك من الأمر شيئا ، وليس له قوة الاقتدار ، ولا بيده مغفرة الذنوب والأوزار . " قل " لهم ، محذرا ، ومخوفا ، ومنهضا لهم ومنذرا : " هو نبأ عظيم " أي : ما أنبأتكم به من البعث ، والنشور ، والجزاء على الأعمال ، خبر عظيم ينبغي الاهتمام الشديد بشأنه ، ولا ينبغي إغفاله . ولكن " أنتم عنه معرضون " كأنه ليس أمامكم حساب ولا عقاب ولا ثواب . فإن شككتم في قولي ، وامتريتم في خبري ، فإني أخبركم بأخبار لا علم لي بها ، ولا درستها في كتاب . فإخباري بها على وجهها ، من غير زيادة ولا نقص ، أكبر شاهد لصدقي ، وأدل على حقية ما جئتكم به ...
ومن سورة الزمر ست عشرة آية(1/384)
قوله تعالى : ? لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ *خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * ? (الزمر : 4-6 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار "أي : " لو أراد الله أن يتخذ ولدا " كما زعم ذلك من زعمه ، من سفهاء الخلق . " لاصطفى مما يخلق ما يشاء " أي : لاصطفى من مخلوقاته ، الذي يشاء اصطفاءه ، واختصه لنفسه ، وجعله بمنزلة الولد ، ولم يكن له حاجة إلى اتخاذ الصاحبة . " سبحانه " أي : تنزه عما ظن به الكافرون ، أو نسبه إليه الملحدون . " هو الله الواحد القهار " أي : الواحد في ذاته ، وفي أسمائه ، وفي صفاته ، وفي أفعاله فلا شبيه له في شيء من ذلك ، ولا مماثل . فلو كان له ولد ، لاقتضى أن يكون شبيها له في وحدته؛ لأنه بعضه ، وجزء منه . القهار لجميع العالم ، العلوي والسفلي . فلو كان له ولد ، لم يكن مقهورا ، ولكان له إدلال على أبيه ، ومناسبة منه . ووحدته تعالى ، وقهره متلازمان . فالواحد لا يكون إلا قهارا ، والقهار لا يكون إلا واحدا ، وذلك ينفي الشركة له من كل وجه .(1/385)
وقوله: " خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور "
يخبر تعالى أنه " خلق السماوات والأرض بالحق " أي : بالحكمة والمصلحة . وليأمر العباد وينهاهم ، ويثيبهم ويعاقبهم . " يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل " أي : يدخل كلا منها على الآخر ، ويحل محله فلا يجتمع هذا وهذا ، بل إذا أتى أحدهما ، انعزل الآخر عن سلطانه . " وسخر الشمس والقمر " بتسخير منظم ، وسير مقنن . " كل " من الشمس والقمر
" يجري " متأثرا عن تسخيره تعالى " لأجل مسمى " وهو انقضاء هذه الدار وخرابها ، فيخرب الله آلاتها ، وشمسها ، وقمرها ، وينشىء الخلق نشأة جديدة ، ليستقروا في دار القرار ، الجنة ، أو النار . " إلا هو العزيز " الذي لا يغالب ، القاهر لكل شيء ، الذي لا يستعصي عليه شيء . الذي من عزته ، أوجد هذه المخلوقات العظيمة ، وسخرها تجري بأمره . " الغفار " لذنوب عباده التوابين المؤمنين ، كما قال تعالى : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى "(1/386)
. الغفار لمن أشرك به ، بعدما رأى من آياته العظيمة ، ثم تاب وأناب . ومن عزته أن " خلقكم من نفس واحدة " على كثرتكم وانتشاركم ، في أنحاء الأرض . " ثم جعل منها زوجها " وذلك ليسكن إليها وتسكن إليه ، وتتم بذلك النعمة . " وأنزل لكم من الأنعام " أي : خلقها بقدر نازل منه ، رحمة بكم . " ثمانية أزواج " وهي التي ذكرها في سورة الأنعام " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين "..." ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " . وخصها بالذكر ، مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها ، لكثرة نفها ، وعموم مصالحها ، ولشرفها ، ولاختصاصها بأشياء لا يصلح لها غيرها ، كالأضحية والهدي والعقيقة ، ووجوب الزكاة فيها ، واختصاصها بالدية . ولما ذكر خلق أبينا وأمنا ، ذكر ابتداء خلقنا فقال : " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق " أي : طورا بعد طور ، وأنتم في حال لا يد مخلوق تمسكم ، ولا عين تنظر إليكم . وهو قد رباكم في ذلك المكان الضيق " في ظلمات ثلاث " ظلمة البطن ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة المشيمة . " ذلكم " الذي خلق السموات والأرض ، وسخر الشمس والقمر ، وخلقكم ، وخلق لكم الأنعام والنعم " الله ربكم " أي : المألوه المعبود ، الذي رباكم ، دبركم . فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته لا شريك له في ذلك ، فهو الواحد في ألوهيته ، لا شريك له . ولهذا قال : " له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون "... .(1/387)
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ * أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * ? (الزمر : 21-22 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب "
يذكر تعالى أولي الألباب ، ما أنزله من السماء من الماء ، وأنه سلكه ينابيع في الأرض ، أي : أودعه فيها ينبوعا ، يستخرج بسهولة ويسر . " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " من بر وذرة ، وشعير ، وأرز ، وغير ذلك . " ثم يهيج "
عند استكماله ، أو عند حدوث آفة فيه " فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما " متكسرا . " إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب " يذكرون بها عناية ربهم ، ورحمته بعباده ، وحيث يسر لهم هذا الماء ، وخزنه بخزائن الأرض ، تبعا لمصالحهم . ويذكرون به كمال قدرته ، وأنه يحيي الموتى ، كما أحيا الأرض بعد موتها . ويذكرون به أن الفاعل لذلك هو المستحق للعبادة . اللهم اجعلنا من أولي الألباب ، الذين نوهت بذكرهم ، وهديتهم بما أعطيتهم من العقول ، وأريتهم من أسرار كتابك ، وبديع آياتك ، ما لم يصل إليه غيرهم ، إنك أنت الوهاب .
" أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين "(1/388)
أي : أفيستوي من شرح الله صدره للإسلام ، فاتسع لتلقي أحكام الله ، والعمل بها ، منشرحا ، قرير العين ، على بصير من أمره ، ومن المراد بقوله : " فهو على نور من ربه " . كمن ليس كذلك ، بدليل قوله : " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " أي : لا تلين لكتابه ، ولا تتذكر آياته ، ولا تطمئن بذكره ، بل هي معرضة عن ربها ، ملتفتة إلى غيره ، فهؤلاء لهم الويل الشديد ، والشر الكبير . " أولئك في ضلال مبين " وأي ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليه ؟ ومن كل السعادة في الإقبال عليه ، وقسا قلبه عن ذكره ، وأقبل على كل ما يضره ؟
وقوله تعالى : ? َلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ *وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ * ? (الزمر : 36-38)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام "
" أليس الله بكاف عبده " أي : أليس من كرمه وجوده ، وعنايته بعبده الذي قام بعبوديته ، وامتثل أمره ، واجتنب ما نهي عنه ، خصوصا ، أكمل الخلق عبودية لربه ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى ، سيكفيه في أمر دينه ودنياه ، ويدفع عنه من ناوأه بسوء . " ويخوفونك بالذين من دونه " من الأصنام والأنداد ، أن تنالك بسوء ، وهذا من غيهم وضلالهم .(1/389)
" ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل " لأنه تعالى ، الذي بيده الهداية والإضلال ، وهو الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . " أليس الله بعزيز " له العزة الكاملة ، التي قهر بها كل شيء ، وبعزته يكفي عبده ، ويدفع عنه مكرهم . " ذي انتقام " ممن عصاه ، فاحذروا موجبات نقمته .
" ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون "
أي ولئن سألت هؤلاء الضلال ، الذين يخوفونك بالذين من دونه ، وأقمت عليهم دليلا من أنفسهم ، فقلت : " من خلق السماوات والأرض " لم يثبتوا لآلهتهم من خلقها شيئا . " ليقولن الله " وحده ، الذي خلقها . " قل " لهم مقررا عجز آلهتهم ، بعدما تبينت قدرة الله : " أفرأيتم "
أي : أخبروني " ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر " أي ضر كان . " هل هن كاشفات ضره " بإزالته بالكلية ، أو بتخفيفه من حال إلى حال ؟ " أو أرادني برحمة " يوصل إلي بها منفعة في ديني أو دنياي . " هل هن ممسكات رحمته " ومانعاتها عني ؟ سيقولون : لا يكشفون الضر ، ولا يمسكون الرحمة . قل لهم بعدما تبين الدليل القاطع ، على أنه وحده المعبود ، وأنه الخالق للمخلوقات ، النافع الضار وحده ، وأن غيره عاجز من كل وجه عن الخلق ، والضر ، مستجلبا كفايته ، مستدفعا مكرهم وكيدهم : " قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون " أي : عليه يعتمد المعتمدون في جلب مصالحهم ، ودفع مضارهم . فالذي بيده ـ وحده الكفاية ، هو حسبي ، سيكفيني كل ما أهمني ، وما لا أهتم به .(1/390)
وقوله تعالى : ? (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ? (الزمر : 42 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى ، أنه المنفرد بالتصرف بالعباد ، في حال يقظتهم ونومهم ، وفي حال حياتهم وموتهم . فقال : " الله يتوفى الأنفس حين موتها " وهذه الوفاة الكبرى ، وفاة الموت . وإخباره أنه يتوفى الأنفس وإضافة الفعل إلى نفسه ، لا ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت وأعوانه ، كما قال تعالى : " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم "..." حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون " لأنه تعالى يضيف الأشياء إلى نفسه ، باعتبار أنه الخالق المدبر . ويضيفها إلى أسبابها ، باعتبار أن من سنته تعالى وحكمته ، أن جعل لكل أمر من الأمور سببا . وقوله : " والتي لم تمت في منامها " وهذه هي الموتة الصغرى ، أي : ويمسك النفس ، التي لم تمت في منامها . " فيمسك " من هاتين النفسين النفس " التي قضى عليها الموت " وهي نفس من كان مات ، أو قضى أن يموت في منامه . " ويرسل " النفس " الأخرى إلى أجل مسمى "(1/391)
أي : إلى استكمال زرقها وأجلها . " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " على كمال اقتداره ، وإحيائه الموتى بعد موتهم . وفي هذه الآية ، دليل على أن الروح والنفس ، جسم قائم بنفسه ، مخالف جوهره ، جوهر البدن . وأنها مخلوقة مدبرة ، يتصرف الله فيها ، بالوفاة ، والإمساك ، والإرسال . وأن أرواح الأحياء ، تتلاقى في البرزخ ، فتجتمع ، فتتحادث . فيرسل الله أرواح الأحياء ، ويمسك أرواح الأمواتوقوله قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون وقوله وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض الا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فاذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون
وقوله تعالى : ? وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ*وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *?
( الزمر : 74-75 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/392)
" وقالوا " عند دخولهم فيها ، واستقرارهم ، حامدين ربهم على ما أولاهم ، ومن عليهم ، وهداهم : " الحمد لله الذي صدقنا وعده " أي : وعدنا الجنة على ألسنة رسله ، إن آمنا وصلحنا ، فوفى لنا بما وعدنا ، وأنجز لنا ما منانا . " وأورثنا الأرض " أي : أرض الجنة " نتبوأ من الجنة حيث نشاء " أي : ننزل منها أي مكان شئنا ، ونتناول منها ، أي نعيم أردنا ، ليس ممنوعا عنا شيء نريده . " فنعم أجر العاملين " الذين اجتهدوا بطاعة ربهم ، في زمن قليل منقطع ، فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا مستمرا . وهذه الدار ، التي تستحق المدح على الحقيقة ، التي يكرم الله فيها خواص خلقه . ورضيها الجواد الكريم لهم نزلا ، وبنى أعلاها وأحسنها ، وغرسها بيده ، وحشاها من رحمته وكرامته ، ما ببعضه يفرح الحزين ، ويزول الكدر ، ويتم الصفاء .
" وترى الملائكة " أيها الرائي ذلك اليوم العظيم " حافين من حول العرش " أي : قد قاموا في خدمة ربهم ، واجتمعوا حول عرشه ، خاضعين لجلاله ، معترفين بكماله ، مستغرقين بجماله . " يسبحون بحمد ربهم " أي : ينزهونه عن كل ما لا يليق بجلاله ، مما نسب إليه المشركون ، وما لم ينسبوا . " وقضي بينهم " أي : بين الأولين والآخرين من الخلق " بالحق " الذي لا اشتباه فيه ولا إنكار ، ممن عليه الحق . " وقيل الحمد لله رب العالمين " لم يذكر القائل من هو ، ليدل ذلك على أن جميع الخلق ، نطقوا بحمد ربهم ، وحكمته على ما قضى به على أهل الجنة ، وأهل النار ، حمد فضل وإحسان ، وحمد عدل وحكمة .
ومن سورة المؤمن تسع عشرة آية
قوله تعالى:? حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ* ? ( غافر 1-3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/393)
يخبر تعالى عن كتابه العظيم ، وأنه صادر ومنزل من الله ، المألوه المعبود ، لكماله ، وانفراده بأفعاله . " العزيز " الذي قهر بعزته كل مخلوق " العليم " بكل شيء . " غافر الذنب " للمذنبين
" وقابل التوب " من التائبين . " شديد العقاب " على من تجرأ على الذنوب ، ولم يتب منها " ذي الطول " أي : التفضل والإحسان الشامل . فلما قرر ما قرر من كماله ، وكان ذلك موجبا لأن يكون وحده المألوه ، الذي تخلص له الأعمال قال : " لا إله إلا هو إليه المصير " . ووجه المناسبة بذكر نزول القرآن من الله ، الموصوف بهذه الأوصاف ، أن هذه الأوصاف ، مستلزمة لجميع ما يشتمل عليه القرآن ، من المعاني . فإن القرآن : إما إخبار عن أسماء الله ، وصفاته ، وأفعاله؛ وهذه أسماء ، وأوصاف ، وأفعال . وإما إخبار عن نعمه العظيمة ، وآلائه الجسيمة ، وما يوصل إلى ذلك من الأوامر . فذلك يدل عليه قوله : " ذي الطول " . وإما إخبار عن نقمه الشديدة ، وعما يوجبها ويقتضيها من المعاصي ، فذلك يدل عليه " شديد العقاب " . وإما دعوة للمذنبين إلى التوبة والإنابة ، والاستغفار فذلك يدل عليه قوله : " غافر الذنب وقابل التوب " . وإما إخبار بأنه وحده ، المألوه المعبود ، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على ذلك ، والحث عليه ، والنهي عن عبادة ما سوى الله وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على فسادها ، والترهيب منها ، فذلك يدل عليه قوله تعالى : " لا إله إلا هو " . وإما إخبار عن حكمه الجزائي العدل ، وثواب المحسنين ، وعقاب العاصين ، فهذا يدل عليه قوله : " إليه المصير " . فهذا جميع ما يشتمل عليه القرآن من المطالب العاليات .(1/394)
وقوله تعالى : ? (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ? (غافر : 7 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم "(1/395)
يخبر تعالى ، عن كمال لطفه بعباده المؤمنين ، وما قيض لأسباب سعادتهم ، من الأسباب الخارجة عن قدرهم ، من استغفار الملائكة المقربين لهم ، ودعائهم لهم ، بما فيه صلاح دينهم وآخرتهم . وفي ضمن ذلك ، الإخبار عن شرف حملة العرش ومن حوله ، وقربهم من ربهم ، وكثرة عبادتهم ، ونصحهم لعباد الله ، لعلمهم أن الله يحب ذلك منهم فقال : " الذين يحملون العرش " أي : عرش الرحمن ، الذي هو سقف المخلوقات ، وأعظمها ، وأوسعها ، وأحسنها ، وأقربها من الله تعالى ، الذي وسع الأرض والسموات ، والكرسي . وهؤلاء الملائكة ، قد وكلهم الله تعالى بحمل عرشه العظيم ، فلا شك أنهم من أكبر الملائكة ، وأعظمهم ، وأقواهم . واختيار الله إياهم ، لحمل عرشه ، وتقديمهم في الذكر ، وقربهم منه ، يدل على أنهم أفضل أجناس الملائكة ، عليهم السلام ، قال تعالى : " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ".." ومن حوله " من الملائكة المقربين في المنزلة والفضيلة " يسبحون بحمد ربهم " هذا مدح لهم ، بكثرة عبادتهم لله تعالى ، وخصوصا ، التسبيح والتحميد . وسائر العبادات ، تدخل في تسبيح الله وتحميده ، لأنها تنزيه له ، عن كون العبد يصرفها لغيره ، وحمد له تعالى ، بل الحمد هو العبادة لله تعالى . وأما قول العبد : " سبحان الله وبحمده " فهو داخل في ذلك وهو من جملة العبادات ." ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا " وهذا من جملة فوائد الإيمان ، وفضائله الكثيرة جدا ، أن الملائكة الذين يؤمنون بالله ، ولا ذنوب عليهم ، يستغفرون لأهل الإيمان ، فالمؤمن بإيمانه ، تسبب لهذا الفضل العظيم . ولما كانت المغفرة ، لها لوازم ، لا تتم إلا بها ـ غير ما يتبادر إلى كثير من الأذهان ، أن سؤالها وطلبها ، غايته مجرد مغفرة الذنوب ـ ذكر تعالى صفة دعائهم لهم بالمغفرة ، بذكر ما لا تتم إلا به فقال : " ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما " فعلمك قد أحاط بكل شيء ، ولا يخفى عليك منه خافية ، ولا يعزب عن(1/396)
علمك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ، ولا أكبر ، ورحمتك وسعت كل شيء . فالكون علوية وسفليه ، قد امتلأ برحمة الله تعالى ، ووسعتهم ، ووصل إلى ما وصل إليه خلقه . " فاغفر للذين تابوا " من الشرك والمعاصي " واتبعوا سبيلك " باتباع رسلك ، بتوحيدك وطاعتك . " وقهم عذاب الجحيم " أي : قهم العذاب نفسه ، وقهم أسباب العذاب . " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " على ألسنة رسلك " ومن صلح " أي : صلح بالإيمان ، والعمل الصالح " من آبائهم وأزواجهم " زوجاتهم وأزواجهن ، وأصحابهم ، ورفقائهم " وذرياتهم "" إنك أنت العزيز " القاهر لكل شيء ، فبعزتك تغفر ذنوبهم ، وتكشف عنهم المحذور ، وتوصلهم بها إلى كل خير " الحكيم " الذي يضع الأشياء مواضعها . فلا نسألك ، يا ربنا ، أمرا تقتضي حكمتك خلافه . بل من حكمتك ، التي أخبرت بها على ألسنة رسلك ، واقتضاها فضلك ، المغفرة للمؤمنين . " وقهم السيئات " أي : جنبهم الأعمال السيئة وجزاءها ، لأنها تسوء صاحبها . " ومن تق السيئات يومئذ " أي : يوم القيامة " فقد رحمته " لأن رحمتك لم تزل مستمرة على العباد ، لا يمنعها إلا ذنوب العباد وسيئاتهم ، فمن وقيته السيئات فقد وفقته للحسنات وجزائها الحسن . " وذلك " أي : زوال المحذور ، بوقاية السيئات ، وحصول المحبوب ، بحصول الرحمة . " هو الفوز العظيم " الذي لا فوز مثله ، ولا يتنافس المتنافسون بأحسن منه . وقد تضمن هذا الدعاء من الملائكة ، كمال معرفتهم بربهم ، والتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى ، التي يحب من عباده ، التوسل بها إليها ، والدعاء بما يناسب ما دعوا الله فيه . فلما كان دعاؤهم بحصول الرحمة ، وإزالة أثر ما اقتضته النفوس البشرية ، التي علم الله نقصها ، واقتضاءها لما اقتضته من المعاصي ، ونحن ذلك من المبادىء والأسباب ، التي قد أحاط الله بها علما ، توسلوا بالرحيم العليم . وتضمن كمال أدبهم مع الله تعالى بإقرارهم بربوبيته(1/397)
لهم ، الربوبية العامة والخاصة ، وأنه ليس لهم من الأمر شيء ، وإنما دعاؤهم لربهم ، صدر من فقير بالذات ، من جميع الوجوه ، لا يدلي على ربه ، بحالة من الأحوال ، إن هو إلا فضل الله ، وكرمه وإحسانه . وتضمن موافقتهم لربهم تمام الموافقة ، بمحبة ما يحبه من الأعمال ، التي هي العبادات التي قاموا بها ، واجتهدوا اجتهاد المحبين ، ومن العمال ، الذين هم المؤمنون ، الذين يحبهم الله تعالى من بين خلقه . فسائر الخلق المكلفين ، يبغضهم الله إلا المؤمنين منهم . فمن محبة الملائكة لهم ، دعوا الله ، واجتهدوا في صلاح أحوالهم ، لأن الدعاء للشخص ، من أدل الدلائل على محبته ، لأنه لا يدعو إلا لمن يحبه . وتضمن ما شرحه الله وفصله من دعائهم بعد قوله : " ويستغفرون للذين آمنوا " التنبيه اللطيف على كيفية تدبر كتابه ، وأن لا يكون المتدبر مقتصرا على مجرد معنى اللفظ بمفرده . بل ينبغي له أن يتدبر معنى اللفظ فإذا فهمه فهما صحيحا على وجهه ، نظر بعقله إلى ذلك الأمر ، والطرق الموصلة إليه ، وما لا يتم إلا به ، وما يتوقف عليه ، وجزم بأن الله أراده ، كما يجزم أنه أراد المعنى الخاص ، الدال عليه اللفظ . والذي يوجب الجزم له ، بأن الله أراده أمران : أحدهما : معرفته وجزمه ، بأنه من توابع المعنى ، والمتوقف عليه . والثاني : علمه بأن الله بكل شيء عليم ، وأن الله أمر عباده بالتدبر والتفكر في كتابه . وقد علم تعالى ، ما يلزم من تلك المعاني ، وهو المخبر بأن كتابه هدى ، ونور ، وتبيان لكل شيء ، وأنه أفصح الكلام ، وأجله إيضاحا . فبذلك يحصل للعبد ، من العلم العظيم ، والخير الكثير ، بحسب ما وفقه الله له . وقد كان في تفسيرنا هذا ، كثير من هذا من به الله علينا . وقد يخفى في بعض الآيات ، مأخذه على غير المتأمل ، صحيح الفكرة . ونسأله تعالى ، أن يفتح علينا من خزائن رحمته ، ما يكون سببا لصلاح أحوالنا ، وأحوال المسلمين . فليس لنا ، إلا التعلق(1/398)
بكرمه ، والتوسل بإحسانه ، الذي لا نزل نتقلب فيه ، في كل الآنات ، وفي جميع اللحظات . ونسأله من فضله ، أن يقينا شر أنفسنا المانع والمعوق ، لوصول رحمته ، إنه الكريم الوهاب ، الذي تفضل بالأسباب ومسبباتها . وتضمن ذلك ، أن المقارن ، من زوج ، وولد ، وصاحب ، يسعد بقرينه ، ويكون اتصاله به ، سببا لخير يحصل له ، خارج عن عمله ، وسبب عمله ، كما كانت الملائكة ، تدعو للمؤمنين ، ولمن صلح من آبائهم ، وأزواجهم ، وذرياتهم . وقد يقال : إنه لا بد من وجود صلاحهم لقوله : " ومن صلح " فحينئذ يكون ذلك ، من نتيجة عملهم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ* يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * ? ( غافر 13-17 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/399)
يذكر تعالى نعمه العظيمة ، على عباده ، بتبيين الحق من الباطل ، بما يري عباده من آياته النفسية ، والآفاقية ، والقرآنية ، الدالة على كل مطلوب مقصود ، الموضحة للهدى من الضلال ، بحيث لا يبقى عند الناظر فيها ، والمتأمل لها ، أدنى شك في معرفة الحقائق . وهذا من أكبر نعمه على عباده ، حيث لم يبق الحق مشتبها ، ولا الصواب ملتبسا . بل نوع الدلالات ، ووضح الآيات ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة . وكلما كانت المسائل أجل وأكبر ، كانت الدلائل عليها أكثر وأيسر . فانظر إلى التوحيد ، لما كانت مسألته من أكبر المسائل ، بل أكبرها ، كثرت الأدلة عليها العقلية والنقلية ، وتنوعت ، وضرب الله لها الأمثال ، وأكثر لها من الاستدلال . ولهذا ذكرها في هذا الموضع ، ونبه على جملة من أدلتها ، فقال : " فادعوا الله مخلصين له الدين " . ولما ذكر أنه يري عباده آياته ، نبه على آية عظيمة فقال : " وينزل لكم من السماء رزقا " أي : مطرا ، به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم ، وذلك يدل على أن النعم كلها منه . فمنه نعم الدين ، وهي المسائل الدينية ، والأدلة عليها ، وما يتبع ذلك ، من العمل بها . والنعم الدنيوية كلها ، كالنعم الناشئة عن الغيث ، الذي تحيا به البلاد والعباد . وهذا يدل دلالة قاطعة ، أنه وحده هو المعبود ، الذي يتعين إخلاص الدين له ، كما أنه ـ وحده ـ المنعم . " وما يتذكر " بالآيات ، حين يذكر بها " إلا من ينيب " إلى الله تعالى ، بالإقبال على محبته ، وخشيته ، وطاعته ، والتضرع إليه . فهذا الذي ينتفع بالآيات ، وتصير رحمة في حقه ، ويزداد بها بصيرة . ولما كانت الآيات ، تثمر التذكر ، والتذكر يوجب الإخلاص لله ، رتب الأمر على ذلك بالفاء الدالة على السببية فقال : " فادعوا الله مخلصين له الدين " . وهذا شامل لدعاء العبادة ، ودعاء المسألة . والإخلاص ، معناه : تخليص القصد لله تعالى ، في جميع العبادات ، الواجبة والمستحبة(1/400)
، حقوق الله ، وحقوق عباده . أي : أخلصوا لله تعالى ، في كل ما تدينونه به ، وتتقربون به إليه . " ولو كره الكافرون " لذلك ، فلا تبالوا بهم ، ولا يثنكم ذلك عن دينكم ، ولا تأخذكم بالله لومة لائم ، فإن الكافرين ، يكرهون الإخلاص لله وحده ، غاية الكراهة كما قال تعالى : " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " . ثم ذكر من جلاله وكماله ، ما يقتضي إخلاص العبادة له فقال :
" رفيع الدرجات ذو العرش " أي : العلي الأعلى ، الذي استوى على العرش ، واختص به ، وارتفعت درجاته ارتفاعا باين به مخلوقاته ، وارتفع به قدره ، وجلت أوصافه ، وتعالت ذاته ، أن يتقرب إليه إلا بالعمل الزكي الطاهر المطهر وهو الإخلاص ، الذي يرفع درجات أصحابه ، ويقربهم إليه ، ويجعلهم فوق خلقه . ثم ذكر نعمته على عباده بالرسالة والوحي فقال : " يلقي الروح " أي : الوحي الذي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد . فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش ، فالروح والقلب ، بدون روح الوحي ، لا يصلح ولا يفلح ، فهو تعالى(1/401)
" يلقي الروح من أمره " الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم . " على من يشاء من عباده " وهم الرسل ، الذين فضلهم ، واختصهم لوحيه ، ودعوة عباده . والفائدة في إرسال الرسل ، هو تحصيل سعادة العباد ، في دينهم ، ودنياهم ، وآخرتهم ، وإزالة الشقاوة عنهم ، في دينهم ، ودنياهم ، وآخرتهم ، ولهذا قال : " لينذر " من ألقى إليه الوحي " يوم التلاق " أي : يخوف العباد بذلك ، ويحثهم على الاستعداد له ، بالأسباب المنجية مما يكون فيه . وسماه " يوم التلاق " لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق ، والمخلوقون بعضهم مع بعض ، والعاملون ، وأعمالهم وجزاؤهم . " يوم هم بارزون " أي : ظاهرون على الأرض ، وقد اجتمعوا في صعيد واحد ، لا عوج ولا أمت فيه ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر . " لا يخفى على الله منهم شيء " لا من ذواتهم ، ولا من أعمالهم ، ولا من جزاء ذلك الأعمال . " لمن الملك اليوم " أي : من هو المالك لذلك اليوم العظيم ، الجامع للأولين والآخرين ، أهل السموات وأهل الأرض الذي ، انقطعت فيه الشركة في الملك ، وتقطعت الأسباب ، ولم يبق إلا الأعمال الصالحة أو السيئة ؟ الملك " لله الواحد القهار " أي : المنفرد في ذاته وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، فلا شريك له في شيء منها ، بوجه من الوجوه . " القهار " لجميع المخلوقات ، الذي دانت له المخلوقات ، وذلت وخضعت ، خصوصا في ذلك اليوم ، الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم ، يومئذ لا تكلم نفس إلا بإذنه .
" اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " في الدنيا ، من خير وشر ، قليل وكثير . " لا ظلم اليوم "
على أحد ، بزيادة في سيئاته ، أو نقص في حسناته . " إن الله سريع الحساب " أي : لا تستبطئوا ذلك اليوم ، فإنه آت ، وكل آت قريب . وهو أيضا سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة ، لإحاطة علمه وكمال قدرته .(1/402)
وقوله تعالى :? اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ *ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ*اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *? ( غافر 61-64 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/403)
تدبر هذه الآيات الكريمات ، الدالة على سعة رحمة الله ، وجزيل فضله ، ووجوب شكره ، وكمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، وسعة ملكه ، وعموم خلقه لجميع الأشياء ، وكمال حياته ، واتصافه بالحمد على كل ما اتصف به ، من الصفات الكاملة ، وما فعله من الأفعال الحسنة . وتمام ربويته ، وانفراده فيها وأن جميع التدبير في العالم العلوي والسفلي في ماضي الأوقات وحاضرها ، ومستقبلها ، بيد الله تعالى ، ليس لأحد من الأمر شيء ، ولا من القدرة شيء . فينتج من ذلك ، أنه تعالى المألوه المعبود وحده ، الذي لا يستحق أحد غيره ، من العبودية شيئا ، كما لم يستحق من الربوبية شيئا . وينتج من ذلك ، امتلاء القلوب بمعرفة الله تعالى ، ومحبته ، وخوفه ، ورجائه . وهذان الأمران ـ وهما معرفته وعبادته ـ هما اللذان خلق الله الخلق لأجلهما . وهما الغاية المقصودة منه تعالى لعباده . توهما الموصلان إلى كل خير وفلاح وصلاح ، وسعادة دنيوية وأخروية . وهما أشرف عطايا الكريم لعباده . وهما أشرف اللذات على الإطلاق . وهما اللذان إن فاتا ، فات كل خير ، وحضر كل شر . فنسأله تعالى أن يملأ قلوبنا بمعرفته ومحبته ، وأن يجعل حركاتنا الباطنة والظاهرة ، خالصة لوجهه ، تابعة لأمره ، إنه لا يتعاظمه سؤال ، ولا يحفه نوال . فقوله تعالى : " الله الذي جعل لكم الليل " أي : لأجلكم جعل الله الليل مظلما . " لتسكنوا فيه " من حركاتكم ، التي لو استمرت لضرت ، فتأوون إلى فرشكم ، ويلقي الله عليكم النوم ، الذي يستريح به القلب والبدن وهو من ضروريات الآدمي لا يعيش بدونه . ويسكن فيه أيضا ، كل حبيب إلى حبيبه ، ويجتمع الفكر ، وتقل الشواغل . ( و ) جعل تعالى " والنهار مبصرا " منيرا بالشمس المستمرة في الفلك . فتقومون من فرشكم إلى أشغالكم الدينية والدنيوية . هذا لذكره وقراءته ، وهذا لصلاته ، وهذا لطلبه العلم ودراسته ، وهذا لبيعه وشرائه . وهذا لبنائه أو حدادته ، أو نحوها من الصناعات .(1/404)
وهذا لسفره برا وبحرا ، وهذا لفلاحته ، وهذا لتصليح حيواناته . " إن الله لذو فضل " أي : عظيم ، كما يدل عليه التنكير " على الناس " . حيث أنعم عليهم بهذه النعم وغيرها ، وصرف عنه النقم ، وهذا يوجب عليهم ، تمام شكره وذكره . " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " بسبب جهلهم وظلمهم . " وقليل من عبادي الشكور " الذين يقرون بنعمة ربهم ، ويخضعون لله ، ويحبونه ، ويصرفونها في طاعة مولاهم ورضاه . " ذلكم " الذي فعل ما فعل " الله ربكم " أي : المنفرد بالإلهية ، والمنفرد بالربوبية . لأن انفراده بهذه النعم ، من ربوبيته ، وإيجابها للشكر ، من ألوهيته . " خالق كل شيء " تقرير لربوبيته . " لا إله إلا هو " تقرير أنه المستحق للعبادة وحده ، لا شريك له . ثم صرح بالأمر بعبادته فقال : " فأنى تؤفكون " أي : كيف تصرفون عن عبادته ، وحده لا شريك له ، بعدما أبان لكم الدليل ، وأنار لكم السبيل ؟ " كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون " أي : عقوبة على جحدهم لآيات الله ، وتعديهم على رسله ، صرفوا عن التوحيد والإخلاص كما قال تعالى : " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون "..." الله الذي جعل لكم الأرض قرارا " أي : قارة ساكنة ، مهيأة لكل مصالحكم ، تتمكنون من حرثها وغرسها ، والبناء عليها ، والسفر ، والإقامة فيها . " والسماء بناء " سقفا للأرض ، التي أنتم فيها ، قد جعل الله فيها ما تنتفعون به من الأنوار والعلامات ، التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر . " وصوركم فأحسن صوركم " فليس في جنس الحيوانات ، أحسن صورة من بني آدم . كما قال تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " . وإذا أردت أن تعرف حسن الآدمي وكمال حكمة الله تعالى فيه ، فانظر إليه ، عضوا عضوا ، هل تجد عضوا من أعضائه ، يليق به ويصلح أن يكون في غير محله ؟ وانظر أيضا ، إلى الميل الذي في القلوب ، بعضهم لبعض(1/405)
، هل تجد ذلك في غير الآدميين ؟ وانظر إلى ما خصه الله به من العقل والإيمان ، والمحبة والمعرفة ، التي هي أحسن الأخلاق المناسبة لأجمل الصور . "ورزقكم من الطيبات " وهذا شامل لكل طيب ، من مأكل ، ومشرب ، ومنكح ، وملبس ، ومنظر ، ومسمع وغير ذلك ، من الطيبات التي يسرها الله لعباده ، ويسر لهم أسبابها . ومنعم من الخبائث ، التي تضادها ، وتضر أبدانهم ، وقلوبهم وأديانهم ." ذلكم " الذي دبر الأمور ، وأنعم عليكم بهذه النعم " الله ربكم "..." فتبارك الله رب العالمين " أي : تعاظم ، وكثرخيره وإحسانه ، المربي جميع العالمين بنعمه . " هو الحي " الذي له الحياة الكاملة التامة ، المستلزمة لما تستلزمه من صفاته الذاتية ، التي لا تتم حياته إلا بها ، كالسمع ، والبصر ، والقدرة ، والعلم ، والكلام ، وغير ذلك ، من صفات كماله ، ونعوت جلاله . " لا إله إلا هو " أي : لا معبود بحق ، إلا وجهه الكريم . " فادعوه " وهذا شامل لدعاء العبادة ، ودعاء المسألة " مخلصين له الدين " أي : اقصدوا بكل عبادة ودعاء وعمل ، وجه الله تعالى . فإن الإخلاص ، هو المأمور به كما قال تعالى : " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء "..." الحمد لله رب العالمين " أي : جميع المحامد والمدائح والثناء ، بالقول كنطق الخلق بذكره . والفعل ، كعبادتهم له ، كل ذلك لله تعالى وحده لا شريك له ، لكماله في أوصافه وأفعاله ، وتمام نعمه .
وقوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? (غافر : 67 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/406)
" هو الذي خلقكم من تراب " وذلك بخلقه لأصلكم وأبيكم ، آدم ، عليه السلام . " ثم من نطفة " وهذا ابتداء خلق سائر النوع الإنساني ، ما دام في بطن أمه . فنبه بالابتداء ، على بقية الأطوار ، من العلقة ، فالمضغة ، فالعظام ، فنفخ الروح . " ثم يخرجكم طفلا ثم " هكذا تنتقلون في الخلقة الإلهية . " لتبلغوا أشدكم " من قوة العقل والبدن ، وجميع قواه الظاهرة والباطنة . " ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل " بلوغ الأشد " ولتبلغوا " بهذه الأطوار المقدرة
" أجلا مسمى " تنتهي عنده أعماركم . " ولعلكم تعقلون " أحوالكم ، فتعلمون أن المطور لكم في هذه الأطوار ، كامل الاقتدار ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وأنكم ناقصون من كل وجه . " هو الذي يحيي ويميت " أي : هو المنفرد بالإحياء والإماتة ، فلا تموت نفس بسبب أو بغير سبب ، إلا بإذنه . " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير "..." فإذا قضى أمرا " جليلا أو حقيرا " فإنما يقول له كن فيكون " لا رد في ذلك ، ولا مثنوية ، ولا تمنع .
وقوله تعالى : ? اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ *? ( غافر 79-81 ) .
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/407)
يمتن تعالى على عباده ، بما جعل لهم من الأنعام ، التي بها جملة من المنافع . منها : منافع الركوب عليها ، والحمل . ومنها : منافع الأكل من لحومها ، والشرب من ألبانها . ومنها : الدفء ، واتخاذ الآلات والأمتعة ، من أصوافها ، وأوبارها وأشعارها ، إلى غير ذلك من المنافع . " ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم " من الوصول إلى الأقطار البعيدة ، وحصول السرور بها ، والفرح عند أهلها . " وعليها وعلى الفلك تحملون " أي : على الرواحل البرية ، والفلك البحرية ، يحملكم الله الذي سخرها ، وهيأ لها ما هيأ من الأسباب ، التي لا تتم إلا بها . " ويريكم آياته " الدالة على وحدانتيه ، وأسمائه ، وصفاته . وهذا من أكبر نعمه ، حيث أشهد عباده ، آياته النفسية ، وآياته الأفقية ، ونعمه الباهرة ، وعددها عليهم ، ليعرفوه ، ويشكروه ، ويذكروه . " فأي آيات الله تنكرون " أي : أي آية من آياته ، لا تعترفون بها ؟ فإنكم قد تقرر عندكم ، أن جميع الآيات والنعم منه تعالى . فلم يبق للإنكار محل ، ولا للإعراض عنها موضع . بل أوجبت لذوي الألباب ، بذل الجهد ، واستفراغ الوسع ، للاجتهاد في طاعته ، والتبتل في خدمته ، والانقطاع إليه .
ومن سورة السجدة اثنتا عشرة آية(1/408)
قوله تعالى: ? قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * ? (فصلت : 9-12 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/409)
ينكر تعالى ويعجب ، من كفر الكافرين به ، الذين جعلوا معه أندادا يشركونهم معه ، ويبذلون لهم ما يشاءون من عباداتهم ، ويسوونهم بالرب العظيم ، الملك الكريم ، الذي خلق الأرض الكثيفة العظيمة ، في يومين ، ثم دحاها في يومين ، بأن جعل فيها رواسي من فوقها ، ترسيها عن الزوال والتزلزل وعدم الاستقرار . فكمل خلقها ، ودحاها ، وأخرج أقواتها ، وتوابع ذلك " في أربعة أيام سواء للسائلين " عن ذلك ، فلا ينبئك مثل خبير . فهذا هو الخبر الصادق الذي لا زيادة فيه ولا نقص . " ثم " بعد أن خلق الأرض " استوى " أي : قصد " إلى " خلق " السماء وهي دخان " قد ثار على وجه الماء . " فقال لها " ولما كان هذا التخصيص يوهم الاختصاص ، عطف عليه بقوله : " وللأرض ائتيا طوعا أو كرها " أي : انقادا لأمري ، طائعتين أو مكرهتين ، فلا بد من نفوذه . " قالتا أتينا طائعين " أي : ليس لنا إرادة تخالف إرادتك ... " فقضاهن سبع سماوات في يومين " فتم خلق السموات والأرض في ستة أيام ، أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، مع أن قدرة الله ومشيئته ، صالحة لخلق الجميع في لحظة واحدة . ولكن مع أنه قدير ، فهو حكيم رفيق . فمن حكمته ورفقه ، أن جعل خلقها في هذه المدة المقدرة . واعلم أن ظاهر هذه الآية ، مع قوله تعالى في النازعات ، لما ذكر خلق السموات قال : " والأرض بعد ذلك دحاها " يظهر منها التعارض ، مع أن كتاب الله ، لا تعارض فيه ولا اختلاف . والجواب عن ذلك ، ما قاله كثير من السلف ، أن خلق الأرض وصورتها ، متقدم على خلق السموات كما هنا ، ودحى الأرض بأن " أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها " متأخر عن خلق السموات كما في سورة النازعات ، ولهذا قال : " والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها " إلى آخره ولم يقل : " والأرض بعد ذلك خلقها " . وقوله : " وأوحى في كل سماء أمرها " أي : الأمر والتدبير اللائق بها ، الذي اقتضته حكمة أحكم الحاكمين . " وزينا السماء(1/410)
الدنيا بمصابيح " هي : النجوم ، يستنار بها ، ويهتدى ، وتكون زينة وجمالا ، للسماء ظاهرا . " وحفظا " لها ، باطنا ، يجعلها رجوما للشياطين ، لئلا يسترق السمع فيها ، " ذلك " المذكور ، من الأرض وما فيها ، والسماء وما فيها " تقدير العزيز " الذي عزته ، قهر بها الأشياء ودبرها ، وخلق بها المخلوقات . " العليم " الذي أحاط علمه بالمخلوقات ، الغائب والشاهد ...
وقوله تعالى : ? لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ *فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ? ( فصلت : 37-39 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير "(1/411)
لما ذكر تعالى ما يقابل به العدو من الإنس ، وهو مقابلة إساءته بالإحسان ، ذكر ما يدفع به العدو الجني ، وهو الاستعاذة بالله ، والاحتماء من شره فقال : " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ " أي : أي وقت من الأوقات ، أحسست بشيء من نزغات الشيطان ، أي : من وساوسه ، وتزيينه للشر ، وتكسيله عن الخير ، وإصابة ببعض الذنوب ، وإطاعة له ببعض ما يأمر به " فاستعذ بالله " أي : أسأله ، مفتقرا إليه ، أن يعيذك ويعصك منه . " إنه هو السميع العليم " فإنه يسمع قولك وتضرعك ، ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته . ثم ذكر تعالى أن " من آياته " الدالة على كمال قدرته ، ونفوذ مشيئته ، وسعة سلطانه ، ورحمته بعباده ، وأنه الله وحده لا شريك له " الليل والنهار " : هذا بمنفعة ضيائه ، وتصرف العباد فيه ، وهذا بمنفعة ظلمته ، وسكون الخلق فيه . " والشمس والقمر " اللذان لا تستقيم معايش العباد ، ولا أبدانهم ، ولا أبدان حيواناتهم ، إلا بهما ، وبهما من المصالح ، ما لا يحصى عدده . " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر " فإنهما مدبران مسخران مخلوقان . " واسجدوا لله الذي خلقهن " ، أي : اعبدوه وحده؛ لأنه الخالق العظيم ، ودعوا عبادة ما سواه ، من المخلوقات ، وإن كبر جرمها وكثرت مصالحها ، فإن ذلك ليس منها ، وإنما هو من خالقها ، تبارك وتعالى : " إن كنتم إياه تعبدون " فخصوه بالعبادة وإخلاص الدين له . " فإن استكبروا " عن عبادة الله تعالى ، ولم ينقادوا لها ، فإنهم لن يضروا الله شيئا ، والله غني عنهم ، وله عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون . ولهذا قال : " فالذين عند ربك " يعني : الملائكة المقربين " يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " أي : لا يملون من عبادته ، لقوتهم ، وشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك . " ومن آياته " الدالة على كمال قدرته ، وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية . " أنك ترى الأرض خاشعة " لا نبات فيها " فإذا(1/412)
أنزلنا عليها الماء " أي : المطر " اهتزت " أي : تحركت بالنبات " وربت " ثم : أنبتت من كل زوج بهيج ، فحيي بها العباد والبلاد . " إن الذي أحياها " بعد موتها وهمودها ، " لمحيي الموتى " من قبورهم إلى يوم بعثهم ، فنشورهم " إنه على كل شيء قدير " فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها ، لا تعجز عن إحياء الموتى .
وقوله تعالى : ? وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ( * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ * ? ( فصلت : 45-47)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد "
يقول تعالى : " ولقد آتينا موسى الكتاب " كما آتيناك الكتاب ، فصنع به الناس ما صنعوا معك ، اختلفوا فيه : فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع ، ومنهم من كذبه ولم ينتفع به . وإن الله تعالى ، لولا حلمه وكلمته السابقة ، بتأخير العذاب إلى أجل مسمى لا يتقدم عليه ولا يتأخر " لقضي بينهم " بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين ، بإهلاك الكافرين في الحال؛ لأن سبب الهلاك ، قد وجب وحق . " وإنهم لفي شك منه مريب " أي : قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم ، فلذلك كذبوه وجحدوه . " من عمل صالحا " وهو العمل الذي أمر الله به ورسوله(1/413)
" فلنفسه " نفعه وثوابه في الدنيا والآخرة " ومن أساء فعليها " ضرره وعقابه ، في الدنيا والآخرة . وفي هذا ، حث على فعل الخير ، وترك الشر ، وانتفاع العاملين ، بأعمالهم الحسنة ، وضررهم بأعمالهم السيئة ، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى . " وما ربك بظلام للعبيد " فيحمل أحدا فوق سيئاته .
" إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص "
هذا إخبار عن سعة علمه تعالى واختصاصه بالعلم الذي لا يطلع عليه سواه فقال : " إليه يرد علم الساعة " أي : جميع الخلق يرد علمهم إلى الله تعالى ، ويقرون بالعجز عنه ، الرسل ، والملائكة ، وغيرهم . " وما تخرج من ثمرات من أكمامها " أي : وعائها الذي تخرج منه . وهذا شامل لثمرات جميع الأشجار التي في البلدان والبراري ، فلا تخرج ثمرة شجرة من الأشجار ، إلا وهو يعلمها تفصيليا . " وما تحمل من أنثى " من بني آدم وغيرهم ، من أنواع الحيوانات ، إلا بعلمه " ولا تضع إلا بعلمه " . فكيف سوى المشركون به تعالى ، من لا علم عنده ، ولا سمع ولا بصر ؟ " ويوم يناديهم " أي : المشركين به يوم القيامة توبيخا وإظهارا لكذبهم فيقول لهم :
" أين شركائي " الذي زعمتم أنهم شركائي ، فعبدتموهم ، وجادلتم على ذلك ، وعاديتهم الرسل لأجلهم ؟ " قالوا " مقرين ببطلان إلهيتهم وشركتهم من الله : " آذناك ما منا من شهيد "(1/414)
أي : أعلمناك يا ربنا ، وأشهد علينا أنه ما منا أحد يشهد بصحة إلهيتهم وشركتهم ، فكلنا الآن رجعنا إلى بطلان عبادتها ، وتبرأنا منها ، ولهذا قال : " وضل عنهم ما كانوا يدعون " من دون الله ، أي : ذهبت عقائدهم وأعمالهم ، التي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير الله ، وظنوا أنها تفيدهم ، وتدفع عنهم العذاب ، وتشفع لهم عند الله . فخاب سعيهم ، وانتقض ظنهم ، ولم تغن عنهم شركاؤهم شيئا .." وظنوا " أي : أيقنوا في تلك الحال " ما لهم من محيص " أي : منقذ ينقذهم ، ولا مغيث ، ولا ملجأ . فهذه عاقبة من أشرك بالله غيره ، بينها الله لعباده ، ليحذروا الشرك به .
وقوله تعالى : ? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ * ? (فصلت : 53-54 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/415)
" سنريهم آياتنا في الآفاق " كالآيات التي في السماء وفي الأرض ، وما يحدثه الله تعالى من الحوادث العظيمة ، الدالة للمستبصر على الحق . " وفي أنفسهم " مما اشتملت عليه أبدانهم ، من بديع آيات الله ، وعجائب صنعته ، وباهر قدرته ، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين ، ونصر المؤمنين . " حتى يتبين لهم " من تلك الآيات ، بيانا لا يقبل الشك " أنه الحق " وما اشتمل عليه حق . وقد فعل تعالى ، فإنه أرى عباده من الآيات ، ما به تبين أنه الحق ، ولكن الله هو الموفق للإيمان من يشاء ، والخاذل لمن يشاء . " أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " أي : أولم يكفهم على أن القرآن حق ، ومن جاء به صادق ، بشهادة الله تعالى ، فإنه قد شهد له بالتصديق ، هو أصدق الشاهدين ، وأيده ، ونصره نصرا متضمنا شهادته القولية ، عند من شك فيها . " ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم " أي : في شك من البعث والقيامة ، وليس عندهم دار ، سوى الدار الدنيا ، فلذلك لم يعملوا للآخرة ، ولم يلتفتوا لها . " ألا إنه بكل شيء محيط " علما وقدرة وعزة .
ومن سورة الشورى ست عشرة آية
قوله تعالى: ? حم * عسق *كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 4 ) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * ? (الشورى : 1-5 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/416)
يخبر تعالى ، أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم ، كما أوحى إلى من قبله من الأنبياء والمرسلين . ففيه بيان فضله ، بإنزال الكتب ، وإرسال الرسل ، سابقا ولاحقا ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل . وأن طريقته طريقة من قبله ، وأحواله تناسب أحوال من قبله من المرسلين . وما جاء به يشابه ما جاءوا به ، لأن الجميع حق وصدق ، وهو تنزيل ممن اتصف بالألوهية ، والعزة العظيمة ، والحكمة البالغة . وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره القدري والشرعي . وأنه " العلي " بذاته ، وقدره ، وقهره . " العظيم " الذي من عظمته " تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن " على عظمها وكونها جمادا . " والملائكة " الكرام المقربون ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزته ، مذعنون بربوبيته . " يسبحون بحمد ربهم " ويعظمونه وينزهونه عن كل نقص ، ويصفونه بكل كمال . " ويستغفرون لمن في الأرض " عما يصدر منهم ، مما لا يليق بعظمة ربهم وكبريائه . مع أنه تعالى " هو الغفور الرحيم " الذي لولا مغفرته ورحمته ، لعاجل الخلق بالعقوبة المستأصلة . وفي وصفه تعالى بهذه الأوصاف ، بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل عموما ، وإلى محمد ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ خصوصا ، إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم ، فيه الأدلة والبراهين ، والآيات الدالة على كمال الباري تعالى ، ووصفه بهذه الأسماء العظيمة الموجبة لامتلاء القلوب ، من معرفته ، ومحبته ، وتعظيمه ، وإجلاله ، وإكرامه ، وصرف جميع أنواع العبودية ، الظاهرة ، والباطنة ، له تعالى . وأن من أكبر الظلم ، وأفحش القول ، اتخاذ أنداد لله من دونه ، ليس بيدهم نفع ولا ضر . بل هم مخلوقون مفتقرون إلى الله في جميع أحوالهم ...(1/417)
وقوله تعالى : ? فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ? (الشورى : 11-12 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم "
يقول تعالى : " وما اختلفتم فيه من شيء " من أصول دينكم وفروعه ، مما لا تتفقوا عليه " فحكمه إلى الله " يرد إلى كتابه ، وإلى سنة رسوله ، فما حكما به ، فهو الحق ، وما خالف ذلك ، فباطل . " ذلكم الله ربي " أي : فكما أنه تعالى ، الرب الخالق الرازق المدبر ، فهو تعالى الحاكم بين عباده ، بشرعه في جميع أمورهم . ومفهوم الآية الكريمة ، أن اتفاق الأمة حجة قاطعة ، لأن الله تعالى ، لم يأمرنا أن نرد إليه إلا ما اختلفنا فيه . فما اتفقنا عليه ، يكفي اتفاق الأمة عليه ، لأنها معصومة عن الخطأ . ولا بد أن يكون اتفاقها ، موافقا لما في كتاب الله وسنة رسوله . وقوله : " عليه توكلت " أي : اعتمدت بقلبي عليه ، في جلب المنافع ، ودفع المضار ، واثقا به تعالى في الإسعاف بذلك ، " وإليه أنيب " أي : أتوجه بقلبي وبدني إليه ، وإلى طاعته وعبادته . وهذان الأصلان ، كثيرا ما يذكرهما الله في كتابه ، لأنهما يحصل بمجموعهما ، كمال العبد ، ويفوته الكمال بفوتهما ، أو فوت أحدهما ، كقوله تعالى :" إياك نعبد وإياك نستعين " وقوله :(1/418)
" فاعبده وتوكل عليه "..." فاطر السماوات والأرض " أي : خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته . " جعل لكم من أنفسكم أزواجا " لتسكنوا إليها ، وتنتشر منكم الذرية ، ويحصل لكم من النفع ، ما يحصل . " ومن الأنعام أزواجا " أي : ومن جميع أصنافها نوعين ، ذكر ، وأنثى ، لتبقى ، وتنمو لمنافعكم الكثيرة ، ولهذا عداها باللام ، الدالة على التعليل : أي : جعل لكم من أنفسكم ، وجعل لكم من الأنعام أزواجا . " ليس كمثله شيء " أي : ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته ، لا في ذاته ولا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، لأن أسماءه ، كلها حسنى ، وصفاته ، صفات كمال وعظمة ، وأفعاله تعالى ، أوجد بها المخلوقات العظيمة ، من غير مشارك . فليس كمثله شيء ، لانفراده ، وتوحده بالكمال ، من كل وجه . " وهو السميع " لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات . " البصير " يرى دبيب النملة السوداء ، في الليلة الظلماء ، على الصخرة الصماء . ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا ، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة . وهذه الآية ونحوها ، دليل لمذاهب أهل السنة والجماعة ، من إثبات الصفات ، ونفي مماثلة المخلوقات . وفيها رد ، على المشبهة في قوله : " ليس كمثله شيء " وعلى المعطلة في قوله : " وهو السميع البصير " . وقوله : " له مقاليد السماوات والأرض " أي : له ملك السموات والأرض وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق ، والنعم الظاهرة والباطنة . فكل الخلق مفتقرون إلى الله ، في جلب مصالحهم ، ودفع المضار عنهم ، في كل الأحوال ، ليس بيد أحد من الأمر شيء . والله تعالى هو المعطي المانع ، الضار النافع ، الذي ما بالعباد من نعمة ، إلا منه ، ولا يدفع الشر ، إلا هو و " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " . ولهذا قال هنا : " يبسط الرزق لمن يشاء " أي : يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ، ما شاء " ويقدر "(1/419)
أي : يضيق على من يشاء ، حتى يكون بقدر حاجته ، لا يزيد عنها ، وكل هذا تابع لعلمه وحكمته ، فلهذا قال : " إنه بكل شيء عليم " فيعلم أحوال عباده ، فيعطي كلا ، ما يليق بحكمته ، وتقتضيه مشيئته .وقوله وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم اذا يشاء قدير
وقوله تعالى : ? وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * ? (الشورى : 32-33)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/420)
أي : ومن أدلة رحمته ، وعنايته بعباده " الجوار في البحر " من السفن ، والمراكب البخارية ، والشراعية ، التي هي من عظمها " كالأعلام " وهي الجبال الكبار ، التي سخر لها البحر العجاج ، وحفظها من التطام الأمواج ، وجعلها تحملكم ، وتحمل أمتعتكم الكثيرة ، إلى البلدان والأقطار البعيدة ، وسخر لها من الأسباب ، ما كان معونة على ذلك . ثم نبه على هذه الأسباب بقوله : " إن يشأ يسكن الريح " التي جعلها الله سببا لسيرها . " فيظللن " أي : الجواري " أي : السفن على اختلاف أنواعها " " رواكد " على ظهر البحر ، لا تتقدم ولا تتأخر ولا ينتقض هذا ، بالمراكب البخارية ، فإن من شرط مشيها ، وجود الريح . وإن شاء الله تعالى ، أوبق الجواري ، بما كسب أهلها ، أي : أغرقها في البحر ، وأتلفها ، ولكنه يحلم ، ويعفو عن كثير . " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " أي : كثير الصبر على ما تكرهه نفسه ويشق عليها ، فيكرهها عليه ، من مشقة طاعة ، أو ردع داع إلى معصية ، أو ردع نفسه عند المصائب عن التسخط ، " شكور " . في الرخاء وعند النعم ، يعترف بنعمة ربه ويخضع له ، ويصرفها في مرضاته . فهذا الذي ينتفع بآيات الله . وأما الذي لا صبر عنده ، ولا شكر له عند نعم الله ، فإنه معرض أو معاند ، لا ينتفع بالآيات...(1/421)
وقوله تعالى : ? لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ *أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ*وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ *? (الشورى 49-53 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى " لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير " هذه الآية ، فيها الإخبار عن سعة ملكه تعالى ، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء ، والتدبير لجميع الأمور . حتى أن تدبيره تعالى ، من عمومه ، أنه يتناول المخلوقة عن الأسباب لولادة الأولاد ، فالله تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء . فمن الخلق من يهب له إناثا ، ومنهم من يهب له ذكورا . ومنهم من يزوجه ، أي : يجمع له ذكورا وإناثا . ومنهم من يجعله عقيما ، لا يولد له ." إنه عليم " بكل شيء " قدير " على كل شيء ، فيتصرف بعلمه وإتقانه الأشياء ، بقدرته في مخلوقاته .(1/422)
" وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور "
لما قال المكذبون لرسل الله ، الكافرون بالله : " لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية " من كبرهم وتجبرهم ، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة ، وبين أن تكليمه تعالى ، لا يكون إلا لخواص خلقه ، للأنبياء والمرسلين ، وصفوته من العالمين ، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه . إما " أن يكلمه الله إلا وحيا " بأن يلقي الوحي في قلب الرسول ، من غير إرسال ملك ، ولا مخاطبة منه شفاها . " أو " يكلمه منه شفاها لكن " من وراء حجاب " كما حصل لموسى بن عمران ، كليم الرحمن . " أو " يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي " يرسل رسولا " كجبريل أو غيره من الملائكة . " فيوحي بإذنه " أي : بإذن ربه ، لا بمجرد هواه " ما يشاء "..." إنه " تعالى" علي " الذات على الأوصاف ، عظيمها على الأفعال ، قد قهر كل شيء ، ودانت له المخلوقات . " حكيم " في وضعه كل شيء موضعه ، من المخلوقات والشرائع .
ومن سورة الزخرف ست عشرة آية(1/423)
قوله تعالى: ? َلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ * ?(الزخرف : 9-14 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/424)
يخبر تعالى عن المشركين ، أنك " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم " أي : الله وحده لا شرك له ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات ، بظواهر الأمور ، وبواطنها ، وأوائلها ، وأواخرها . فإذا كانوا مقرين بذلك ، فكيف يجعلون له الولد ، والصاحبة ، والشريك ؟ وكيف يشركون به ، من لا يخلق ، ولا يرزق ، ولا يميت ، ولا يحيي ؟ . ثم ذكر أيضا ، من الأدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره ، بما خلقه لعباده من الأرض ، التي مهدها ، وجعلها قرارا للعباد ، يتمكنون فيها من كل ما يريدون . " وجعل لكم فيها سبلا " أي : جعل منافذ ، بين سلاسل الجبال المتصلة ، تنفذون منها إلى ما وراءها من الأقطار . " لعلكم تهتدون " في السير في الطرق ولا تضيعون ، ولعلكم أيضا ، تهتدون في الاعتبار بذلك ، والادكار فيه . " والذي نزل من السماء ماء بقدر " لا يزيد ولا ينقص ، ويكون أيضا ، بمقدار الحاجة ، لا ينقص بحيث لا يكون فيه نفع ، ولا يزيد بحيث يضر العباد والبلاد . بل أغاث به العباد ، وأنقذ به البلاد من الشدة ، ولهذا قال : " فأنشرنا به بلدة ميتا " أي : أحييناها بعد موتها " كذلك تخرجون " أي : فكما أحيا الأرض الميتة الهامدة بالماء ، كذلك يحييكم ، بعدما تستكملون في البرزخ ، ليجازيكم بأعمالكم . " والذي خلق الأزواج كلها " أي : الأصناف جميعها ، مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ، ومما لا يعلمون ، من ليل ، ونهار ، وحر ، وبرد ، وذكر ، وأنثى ، وغير ذلك . " وجعل لكم من الفلك " أي : السفن البحرية ، الشراعية والبخارية ( و ) من " والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره " وهذا شامل لظهور الأنعام ، أي : لتستقروا عليها . " ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه " بالاعتراف بالنعمة لمن سخرها ، والثناء عليه تعالى بذلك ولهذا قال : " وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين "(1/425)
أي : لولا تسخيره لنا ما سخر من الفلك ، والأنعام ، ما كنا مطيقين لذلك ، وقادرين عليه . ولكن من لطفه وكرمه تعالى ، سخرها ، وذللها ، ويسر أسبابها . والمقصود من هذا ، بيان أن الرب الموصوف بما ذكره ، من إفاضة النعم على العباد ، هو الذي يستحق أن يعبد ، ويصلي له ويسجد . " وإنا إلى ربنا لمنقلبون " أي : وإنا إلى خالقنا لراجعون بعد هذه الحياة ليحاسب كلا بما قدمت يداه . وفيه إيذان وإعلام ، بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه ، من المسير ، ويتذكر منه المسافرة العظمى ، التي هي الانقلاب والرجوع إلى الله تعالى : فيبني أموره في مسيره ذلك ، على تلك الملاحظة . ولا يخطر بباله في شيء ، مما يأتي ويذر أمرا ينافيها ، ومن ضرورته أن يكون ركوبه لأمر مشروع .
وقوله تعالى : ? أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ *قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ *فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * ? (الزخرف : 80-89 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/426)
" أم يحسبون " بجهلهم وظلمهم " أنا لا نسمع سرهم " الذي لم يتكلموا به ، بل هو سر في قلوبهم " ونجواهم " أي : كلامهم الخفي الذي يتناجون به ، أي : فلذلك أقدموا على المعاصي ، وظنوا أنها لا تبعة لها ولا مجازاة على ما خفي منها . فرد الله عليهم بقوله : " بلى " إنا نعلم سرهم ونجواهم " ورسلنا " الملائكة الكرم . " لديهم يكتبون " كل ما عملوه ، سيحفظ ذلك عليهم ، حتى يردوا القيامة ، فيجدوا ما عملوا حاضرا ، ولا يظلم ربك أحدا .(1/427)
" قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون " أي : قل يا أيها الرسول الكريم ، للذين جعلوا لله ولدا ، وهو الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد . " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " لذلك الولد ، لأنه جزء من والده ، وأنا أول الخلق انقيادا للأوامر المحبوبة لله ولكني أول المنكرين لذلك ، وأشدهم له نفيا ، فعلم بذلك بطلانه . فهذا احتجاج عظيم ، عن من عرف أحوال الرسل . وأنه إذا علم أنهم أكمل الخلق ، وأن كل خير فهم أول الناس سبقا إليه ، وتكميلا له . وكل شر فهم أول الناس تركا له ، وإنكارا له ، وبعدا منه . فلو كان للرحمن ولد وهو الحق ، لكان محمد بن عبد الله ، أفضل الرسل أول من عبده ، ولم يسبقه إليه المشركون . ويحتمل أن معنى الآية : لو كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين لله . ومن عبادتي لله ، إثبات ما أثبته ، ونفى ما نفاه ، فهذا من العبادة القولية الاعتقادية . ويلزم من هذا ، لو كان حقا ، لكنت أول مثبت له . فعلم بذلك ، بطلان دعوى المشركين وفسادها ، عقلا ونقلا . " سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون " من الشريك والظهير ، والعوين ، والولد ، وغير ذلك ، مما نسبه إليه المشركون . " فذرهم يخوضوا ويلعبوا " أي : يخوضوا بالباطل ، ويلعبوا بالمحال . فعلومهم ضارة غير نافعة ، وهي الخوض ، والبحث بالعلوم التي يعارضون بها الحق ، وما جاءت به الرسل ، وأعمالهم لعب وسفاهة ، لا تزكي النفوس ، ولا تثمر المعارف . ولهذا توعدهم ما أمامهم يوم القيامة فقال : " حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون " فسيعلمون فيه ماذا حصلوا ، وما حصلوا عليه من الشقاء الدائم ، والعذاب المستمر .(1/428)
" وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون "..
" وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " يخبر تعالى ، أنه وحده ، المألوة ، المعبود في السموات والأرض . فأهل السموات كلهم ، والمؤمنون من أهل الأرض يعبدونه ، ويعظمونه ، ويخضعون لجلاله ، ويفتقرون لكماله . " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده "..." ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها " . فهو تعالى المألوه المعبود ، الذي يألهه الخلائق كلهم ، طائعين مختارين ، وكارهين . وهذه كقوله تعالى : " وهو الله في السماوات وفي الأرض " أي : ألوهيته ومحبته فيهما . وأما هو فإنه فوق عرشه ، بائن من خلقه ، متوحد بجلاله ، متمجد بكماله . " وهو الحكيم " الذي أحكم ما خلقه ، وأتقن ما شرعه . فما خلق شيئا إلا لحكمة ، وحكمه القدري ، والشرعي ، والجزائي مشتمل على الحكمة . " العليم " بكل شيء يعلم السر وأخفي ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في العالم العلوي والسفلي ، ولا أصغر منها ، ولا أكبر . " وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما " تبارك بمعنى تعالى وتعاصم ، وكثر خيره ، واتسعت صفاته ، وعظم ملكه . ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات والأرض وما بينهما ، وسعة علمه ، وأنه بكل شيء عليم . حتى إنه تعالى ، انفرد بعلم الغيوب ، التي لم يطلع عليها أحد من الخلق لا نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ولهذا قال : " وعنده علم الساعة " قدم الظرف ، ليفيد الحصر ، أي : لا يعلم متى تجيء الساعة إلا هو . ومن تمام ملكه وسعته ، أنه مالك الدنيا والآخرة ، ولهذا قال : " وإليه ترجعون " أي : في الآخرة فيحكم(1/429)
بينكم بحكمه العدل . ومن تمام ملكه ، أنه لا يملك أحد من خلقه من الأمر شيئا ، ولا يقدم على الشفاعة عنده أحد ، إلا بإذنه . " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة " أي : كل من دعي من دون الله ، من الأنبياء والملائكة وغيرهم ، لا يملكون الشفاعة ، ولا يشفعون إلا بإذن الله ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، ولهذا قال : " إلا من شهد بالحق " أي : نطق بلسانه ، مقرا بقلبه ، عالما بما يشهد به ، ويشترط أن تكون شهادته بالحق ، وهي الشهادة لله تعالى بالوحدانية ، ولرسله بالنبوة والرسالة ، وصحة ما جاءوا به ، من أصول الدين ، وفروعه ، وحقائقه وشرائعه . فهؤلاء الذين تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، وهؤلاء الناجون من عقاب الله ، الحائزون لثوابه . ثم قال تعالى : " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " أي : ولئن سألت المشركين عن توحيد الربوبية ، ومن هو الخالق ، لأقروا أنه الله وحده لا شريك له . " فأنى يؤفكون " أي : فكيف يصرفون عن عبادة الله ، والإخلاص له وحده ؟ فإقرارهم بتوحيد الربوبية ، يلزمهم به الإقرار بتوحيد الألوهية ، وهو من أكبر الأدلة على بطلان الشرك . " وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون " هذا معطوف على قوله : " وعنده علم الساعة " أي : وعنده علم قيله ، أي : الرسول صلى الله عليه وسلم ، شاكيا لربه تكذيب قومه ، متحزنا على ذلك ، متحسرا على عدم إيمانهم . فالله تعالى عالم بهذه الحال ، قادر على معاجلتهم بالعقوبة . ولكنه تعالى ، حليم يمهل العباد ، ويستأني بهم ، لعلهم يتوبون ، ويرجعون ولهذا قال : " فاصفح عنهم وقل سلام " أي : اصفح عنهم ، ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية ، واعف عنهم ، ولا يبدر منك لهم إلا السلام الذي يقابل به أولو الألباب والبصائر الجاهلين . ما قال تعالى عن عباده الصالحين : " وإذا خاطبهم الجاهلون " أي : خطابا بمقتضى جهلهم " قالوا سلاما " . فامتثل صلى الله عليه وسلم ، لأمر ربه ،(1/430)
وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من الأذى ، بالعفو والصفح ، ولم يقابلهم ، عليه السلام ، إلا بالإحسان إليهم والخطاب الجميل . فصلوات الله وسلامه ، على من خصه الله بالخلق العظيم ، الذي فضل به أهل الأرض والسماء ، وارتفع به أعلى من كواكب الجوزاء . وقوله : " فسوف يعلمون " أي : غب ذنوبهم ، وعاقبة جرمهم .
ومن سورة الدخان أربع آيات
قوله تعالى : ? رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * ? (الدخان : 7-8 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" رب السماوات والأرض وما بينهما " ، أي : خالق ذلك ومدبره ، والمتصرف فيه بما شاء . " إن كنتم موقنين " ، أي : عالمين بذلك علما مفيدا لليقين ، فاعلموا أن الرب للمخلوقات ، هو إلهها الحق ، ولهذا قال : " لا إله إلا هو " ، أي : لا معبود إلا وجهه ، " يحيي ويميت " ، أي : هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة ، وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . " ربكم ورب آبائكم الأولين " ، أي : رب الأولين والآخرين ، مربيهم بالنعم ، الدافع عنهم النقم . فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته ، بما يوجب العلم التام ، ويدفع الشك ، أخبر أن الكافرين مع هذا البيان ...
وقوله تعالى: ? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * ? (الدخان : 38-39 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى" وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم "(1/431)
يخبر تعالى ، عن كمال قدرته ، وتمام حكمته ، وأنه ما خلق السماوات والأرض لعبا ، ولا لهوا ، ولا سدى من غير فائدة ، وأنه ما خلقهما إلا بالحق ، أي : نفس خلقهما بالحق ، وخلقهما مشتمل على الحق ، وأنه أوجدهما ليعبدوه وحده لا شريك له ، وليأمر العباد ، وينهاهم ويثيبهم ، ويعاقبهم . " ولكن أكثرهم لا يعلمون " ، فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات والأرض . " إن يوم الفصل " وهو يوم القيامة الذي يفصل الله به بين الأولين والآخرين ، وبين كل مختلفين
" ميقاتهم " ، أي : الخلائق " أجمعين " . كلهم سيجمعهم الله فيه ، ويحضرهم ويحضر أعمالهم ، ويكون الجزاء عليها . " يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا " لا قريب عن قريبه ، ولا صديق عن صديقه ، " ولا هم ينصرون " ، أي : يمنعون عذاب الله عز وجل ، لأن أحدا من الخلق لا يملك من الأمر شيئا . " إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم " ، فإنه هو الذي ينتفع ويرتفع برحمة الله تعالى ، التي تسبب إليها ، وسعى لها سعيها في الدنيا .
ومن سورة الجاثية تسع آيات
قوله تعالى : ? حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * ? (الجاثية : 1-5 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/432)
قوله تعالى " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم "(1/433)
يخبر تعالى خبرا ، يتضمن الأمر بتعظيم القرآن ، والاعتناء به ، وأنه " تنزيل من الله " المألوه المعبود ، لما اتصف به من صفات الكمال ، وانفرد به من النعم ، الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة . ثم أيد ذلك بما ذكره من الآيات الأفقية والنفسية ، من خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من الدواب ، وما أودع فيهما من المنافع ، وما أنزل الله من الماء ، الذي يحيي به الله البلاد والعباد . فهذه كلها آيات بينات ، وأدلة واضحات ، على صدق هذا القرآن العظيم ، وصحة ما اشتمل عليه من الحكم والأحكام ، ودالات أيضا على ما لله تعالى من الكمال ، وعلى البعث والنشور . ثم قسم تعالى الناس ، بالنسبة إلى الانتفاع بآياته وعدمه ، إلى قسمين : قسم يستدلون بها ، ويتفكرون بها ، وينتفعون فيرتفعون وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا تاما ، وصل بهم إلى درجة اليقين ، فزكى منهم العقول ، وازدادت به معارفهم وألبابهم وعلومهم . وقسم يسمع آيات الله سماعا تقوم به الحجة عليهم ، ثم يعرض عنها ، ويستكبر ـ كأنه ما سمعها ، لأنها لم تزك قلبه ، ولا طهرته ، بل ـ بسبب استكباره عنها ، ازداد طغيانه . وأنه إذا علم من آيات الله شيئا ، اتخذها هزوا ، فتوعده الله تعالى بالويل فقال :
" ويل لكل أفاك أثيم " ، أي : كذاب في مقاله ، أثيم في فعاله . وأخبر أن له عذابا أليما ، وأن
" من ورائهم جهنم " تكفي في عقوبتهم البليغة . وأنه " ولا يغني عنهم ما كسبوا " من الأمول(1/434)
" شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء " يستنصرون بهم فخذلوهم ، أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا . فلما بين آياته القرآنية والعيانية ، وأن الناس فيها على قسمين ، أخبر عن القرآن المشتمل على هذه المطالب العالية ، أنه هدى ، فقال : " هذا هدى " وهو وصف عام لجميع القرآن ، فإنه يهدي إلى معرفة الله تعالى ، بصفاته المقدسة ، وأفعاله الحميدة . ويهدي إلى معرفة رسله ، وأوليائهم ، وأعدائهم ، وأوصافهم ، ويهدي إلى الأعمال الصالحة ويدعو إليها ، ويبين الأعمال السيئة وينهى عنها ، ويهدي إلى بيان الجزاء على الأعمال ، ويبين الجزاء الدنيوي والأخروي ، فالمهتدون اهتدوا به ، فأفلحوا وسعدوا . " والذين كفروا بآيات ربهم "الواضحة القاطعة ، التي لا يكفر بها إلا من اشتد ظلمه ، وتضاعف طغيانه " لهم عذاب من رجز أليم
وقوله تعالى : ? اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * ? (الجاثية : 12-13 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/435)
يخبر تعالى عن فضله على عباده وإحسانه إليهم ، بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره . " لتبتغوا من فضله " بأنواع التجارات والمكاسب . " ولعلكم تشكرون " الله تعالى ، فإنكم إذا شكرتموه ، زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجرا جزيلا . " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " ، أي : من فضله وإحسانه . وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ، ولما أودع الله فيهما ، من الشمس والقمر ، والكواكب ، والثوابت ، والسيارات ، وأنواع الحيوانات ، وأصناف الأشجار والثمرات ، وأجناس المعادن ، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ، ومصالح ما هو من ضروراته . فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته ، وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آيته وحكمه ، ولهذا قال : " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " . وجملة ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها ، دال على نفوذ مشيئة الله ، وكمال قدرته . وما فيها من الإحكام والإتقان ، وبديع الصنعة ، وحسن الخلقة ، دال على كمال حكمته وعلمه . وما فيها من السعة والعظمة والكثرة ، دال على سعة ملكه وسلطانه . وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات ، دليل على أنه الفعال لما يريد . وما فيها من المنافع ، والمصالح الدينية والدنيوية ، دليل على سعة رحمته ، وشمول فضله وإحسانه ، وبديع لطفه وبره . وكل ذلك دال على أنه وحده ، المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له ، وأن رسله صادقون فيما جاؤوا به . فهذه أدلة عقلية واضحة ، لا تقبل ريبا ولا شكا .
وقوله تعالى : ?فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ? (الجاثية 36-37 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/436)
" فلله الحمد " كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه " رب السماوات ورب الأرض رب العالمين " ، أي : له الحمد على ربوبيته لسائر الخلق ، حيث خلقهم ورباهم ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة . " وله الكبرياء في السماوات والأرض " ، أي : له الجلال والعظمة والمجد . فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال ، ومحبته تعالى وإكرامه ، والكبرياء فيها عظمته وجلاله ، والعبادة مبنية على ركنين ، محبة الله ، والذل له ، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه . " وهو العزيز " القاهر لكل شيء ، " الحكيم " الذي يضع الأشياء مواضعها ، فلا يشرع ما يشرعه إلا لحكمة ومصلحة ، ولا يخلق ما يخلقه إلا لفائدة ومنفعة ....
ومن سورة الأحقاف أربع آيات
قوله تعالى ? حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ * ? (الأحقاف : 1-3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/437)
هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له ، وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى الاهتداء بنوره ، والإقبال على تدبر آياته ، واستخراج كنوزه . ولما بين إنزال كتابه المتضمن للأمر والنهي ، ذكر خلقه السماوات والأرض ، فجمع بين الخلق والأمر " ألا له الخلق والأمر " ، كما قال تعالى : " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن " . وكما قال تعالى : " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق " . فالله تعالى ، هو الذي خلق المكلفين ، وخلق مساكنهم ، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض ، ثم أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأمرهم ونهاهم ، وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال ، لا دار إقامة ، لا يرحل عنها أهلها . وهم سينتقلون منها إلى دار الإقامة والقرار ، وموطن الخلود والدوام ، وإنما أعمالهم التي عملوها في هذه الدار ، سيجدون ثوابها في تلك الدار كاملا موفورا . وأقام تعالى الأدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل ، ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب ، والهرب من المرهوب ، ولهذا قال هنا : " ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق " ، أي : لا عبثا ، ولا سدى ، بل ليعرف العباد عظمة خالقها ، ويستدلوا على كماله ، ويعلموا أن الذي خلقهما ، قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء ، وأن خالقهما وبقاءهما ، مقدر إلى ساعة معينة " وأجل مسمى " . فلما أخبر بذلك ـ وهو أصدق القائلين ـ وأقام الدليل ، وأنار السبيل ، أخبر ـ مع ذلك ـ أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضا عن الحق ، وصدوفا عن دعوة الرسل ، فقال : " والذين كفروا عما أنذروا معرضون " . وأما الذين آمنوا ، فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم ، وتلقوها بالقبول والتسليم ، وقابلوها بالانقياد والتعظيم ، ففازوا بكل خير ، واندفع عنهم(1/438)
كل شر .
وقوله تعالى:? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? (الأحقاف : 33 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
هذا استدلال منه تعالى على الإعادة بعد الموت ، بما هو أبلغ منها ، وهو : أنه الذي خلق السماوات والأرض ، على عظمهما وسعتهما ، وإتقان خلقهما ، من دون أن يكترث بذلك ، ولم يعي بخلقهن . فكيف تعجزه إعادتكم بعد موتكم ، وهو على كل شيء قدير ؟
ومن سورة الفتح آية
قوله تعالى :? (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً? (الفتح : 14 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : هو تعالى المنفرد بملك السماوات والأرض ، يتصرف فيهما بما يشاء من الأحكام القدرية ، والأحكام الشرعية ، والأحكام الجزائية ، ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية ، فقال : " يغفر لمن يشاء " ، وهو : من قام بما أمره الله به " ويعذب من يشاء " ممن تهاون بأمر الله ، " وكان الله غفورا رحيما " ، أي : وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة . فلا يزال في جميع الأقات يغفر للمذنبين ، ويتجاوز عن الخطائين ، ويتقبل توبة التائبين ، وينزل خيره المدار ، آناء الليل والنهار
ومن سورة ق سبع آيات(1/439)
قوله تعالى: ? أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ*رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * ? (قـ : 6-11 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/440)
لما ذكر تعالى حالة المكذبين ، وما ذمهم به ، دعاهم إلى النظر في آياته الأفقية ، كي يعتبروا ، ويستدلوا بها على ما جعلت أدلة عليه ، فقال : " أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم " ، أي : لا يحتاج ذلك النظر إلى كلفة وشد رحل ، بل هو في غاية السهولة . فينظروا " كيف بنيناها " قبة مستوية الأرجاء ، ثابتة البناء ، مزينة بالنجوم الخنس ، والجواري الكنس ، التي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن والملاحة ، لا ترى فيها عيبا ، ولا فروجا ، ولا خلالا ، ولا إخلالا . قد جعلها الله سقفا لأهل الأرض ، وأودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع . ( و ) إلى " والأرض مددناها " ووسعناها ، حتى أمكن كل حيوان السكون فيها والاستقرار ، والاستعداد لجميع مصالحه ، وأرساها بالجبال ، لتستقر من التزلزل والتموج . " وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج " ، أي : من كل صنف من أصناف النبات ، التي تسر ناظريها ، وتعجب مبصريها ، وتقر عين رامقيها ، لأكل بني آدم ، وأكل بهائمهم ، ومنافعهم . وخص من تلك المنافع ، الجنات المشتملة على الفواكه اللذيذة ، من العنب والرمان والأترج والتفاح ، وغير ذلك من أصناف الفواكه . ومن النخيل الباسقات ، أي : الطوال ، التي يطول نفعها ، وترتفع إلى السماء حتى تبلغ مبلغا لا يبلغه كثير من الأشجار ، فتخرج من الطلع النضيد ، في قنوانها ، ما هو رزق للعباد قوتا وأدما وفاكهة ، يأكلون منه ويدخرون ، هم ومواشيهم . وكذلك يخرج الله بالمطر ، وما هو أثره من الأنهار ، التي على وجه الأرض وتحتها من " وحب الحصيد " ، أي : من الزرع المحصود ، من بر وشعير ، وذرة ، وأرز ، ودخن وغيره . فإن في النظر في هذه الأشياء " تبصرة " يتبصر بها من عمى الجهل ، " وذكرى " يتذكر بها ، ما ينفع في الدين والدنيا ، ويتذكر بها ، ما أخبر الله به ، وأخبرت به رسله ، وليس ذلك لكل أحد ، بل " لكل عبد منيب " إلى الله ، أي : مقبل عليه بالحق والخوف والرجاء ، وإجابة(1/441)
داعيه . وأما المكذب والمعرض ، فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون . وحاصل هذا ، أن ما فيها من الخلق الباهر ، والقوة والشدة ، دليل على كمال قدرة الله تعالى . وما فيها من الحسن والإتقان ، وبديع الصنعة ، وبديع الخلقة ، دليل على أن الله أحكم الحاكمين ، وأنه بكل شيء عليم . وما فيها من المنافع والمصالح للعباد ، دليل على رحمة الله التي وسعت كل شيء ، وجوده الذي عم كل حي . وما فيها من عظمة الخلقة ، وبديع النظام ، دليل على أن الله تعالى ، هو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والذل والحب إلا له . وما فيها من إحياء الأرض بعد موتها ، دليل على إحياء الله الموتى ، ليجازيهم بأعمالهم ، ولهذا قال :
" وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج "
قوله تعالى: ? (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? (قـ : 16 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى ، أنه المتفرد بخلق جنس الإنسان ، ذكورهم وإناثهم ، وأنه يعلم أحواله ، وما يسره ، وتوسوس به نفسه . وأنه " أقرب إليه من حبل الوريد " الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان ، وهو : العظم المكتنف لثغرة النحر ، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه ، المطلع على ضميره وباطنه ، القريب إليه في جميع أحواله ، فيستحيي منه أن يراه حيث نهاه ، أو يفقده حيث أمره . وكذلك ينبغي له أن يجعل الملائكة الكرام الكاتبين منه على بال ، فيجلهم ويوقرهم ، ويحذر أن يفعل أو يقول ما يكتب عنه ، مما لا يرضي رب العالمين
ومن سورة الذاريات سبع ايات(1/442)
قوله تعالى: ? وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ*وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ * ? (الذاريات : 20-23 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى ـ داعيا عباده إلى التفكر والاعتبار ـ : " وفي الأرض آيات للموقنين " ، وذلك شامل لنفس الأرض ، وما فيها من جبال ، وبحار وأنهار ، وأشجار ونبات ، تدل المتفكر فيها ، المتأمل لمعانيها ، على عظمة خالقها ، وسعة سلطانه ، وعميم إحسانه ، وإحاطة علمه ، بالظواهر والبواطن . وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله واحد صمد ، وأنه لم يخلق الخلق سدى . وقوله : " وفي السماء رزقكم " ، أي : مادة رزقكم من الأمطار ، وصنوف الأقدار ، الرزق الديني ، والدنيوي . " وما توعدون " من الجزاء في الدنيا والآخرة ، فإنه ينزل من عند الله كسائر الأقدار . فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيها ، ينتبه به الذكي اللبيب ، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق ، وشبه ذلك بأظهر الأشياء لنا ، وهو النطق ، فقال : " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " . فكما أنكم لا تشكون في نطقكم ، فكذلك ينبغي أن لا يعتريكم الشك في البعث والجزاء .
وقوله تعالى : ? وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ*وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*? (الذاريات : 47- 49)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/443)
يقول تعالى مبينا لقدرته العظيمة : " والسماء بنيناها " ، أي : خلقناها وأتقناها ، وجعلناها سقفا للأرض وما عليها . " بأيد " ، أي : بقوة وقدرة عظيمة " وإنا لموسعون " لأرجائها وأنحائها . وإنا لموسعون أيضا على عبادنا بالرزق الذي ما ترك دابة في مهامه القفار ، ولجج البحار ، وأقطار العالم العلوي والسلفي ، إلا وأوصل إليها من الرزق ، ما يكفيها ، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها . فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات ، وتبارك الذي وسعت رحمته ، جميع البريات . " والأرض فرشناها " ، أي : جعلناها فراشا للخلق ، يتمكنون فيها من كل ما تتعلق به مصالحهم ، من مساكن وغراس وزرع وحرث وجلوس ، وسلوك للسبل الموصلة إلى مقاصدهم ومآربهم . ولما كان الفراش قد يكون صالحا للانتفاع من كل وجه ، وقد يكون من وجه دون وجه ، أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد ، على أكمل الوجوه وأحسنها ، وأثنى على نفسه بذلك ، فقال : " فنعم الماهدون " الذي مهد لعباده ما اقتضته حكمته ورحمته . " ومن كل شيء خلقنا زوجين " ، أي : صنفين ، ذكر وأنثى ، من كل نوع من أنواع الحيوانات ." لعلكم تذكرون " لنعم الله التي أنعم بها عليكم في تقدير ذلك ، وحكمته حيث جعل ما هو السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها ، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها ، فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع . فلما دعا العباد إلى النظر إلى آياته الموجبة لخشيته ، والإنابة إليه ، أمر بما هو المقصود من ذلك ، وهو الفرار إليه ، أي : الفرار مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ، ظاهرا وباطنا ، فرار من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، ومن الغفلة إلى الذكر . فمن استكمل هذه الأمور ، فقد استكمل الدين كله ، وزال عنه المرهوب ، وحصل له غاية المراد والمطلوب . وسمى الله الرجوع إليه فرارا ، لأن في الرجوع إلى غيره أنواع المخاوف والمكاره ، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن(1/444)
والسرور والسعادة والفوز . فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره ، وكل من خفت منه فررت منه إلا الله تعالى ، فإنه بحسب الخوف منه ، يكون الفرار إليه . " إني لكم منه نذير مبين "... ، أي : منذر لكم من عذاب الله ، ومخوف بين النذارة . " ولا تجعلوا مع الله إلها آخر " ، هذا من الفرار إلى الله ، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ آلهة غير الله من الأوثان والأنداد والقبور ، وغيرها ، مما عبد من دون الله ، ويخلص لربه العبادة والخوف ، والرجاء والدعاء ، والإنابة .
ومن سورة النجم ثماني آيات
قوله تعالى : ? وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى *وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى*وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * ? (النجم : 42-49 )(1/445)
" وأن إلى ربك المنتهى " ، أي : إليه تنتهي الأمور ، وإليه تصير الأشياء والخلائق ، بالبعث والنشور ، وإلى الله المنتهى في كل حال ، فإليه ينتهي العلم ، والحكمة ، والرحمة ، وسائر الكمالات . " وأنه هو أضحك وأبكى " ، أي : هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء ، وهو الخير والشر ، والفرح والسرور ، والهم والحزن ، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك . " وأنه هو أمات وأحيا " ، أي : هو المنفرد بالإيجاد والإعدام ، والذي أوجد الخلق ، وأمرهم ونهاهم ، سيعيدهم بعد موتهم ، ويجازيهم بتلك الأعمال التي عملوها في دار الدنيا . وأنه خلق الزوجين " فسرهما بقوله :" الذكر والأنثى " ، وهذا اسم جنس شامل لجميع الحيوانات ، ناطقها وبهيمها ، فهو المنفرد بخلقها . " من نطفة إذا تمنى " وهذا من أعظم الأدلة على كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة ، حيث أوجد تلك الحيوانات ، صغيرها وكبيرها من نطفة ضعيفة من ماء مهين ، ثم نماها وكملها ، حتى بلغت ما بلغت ، ثم صار الآدمي منها ، وإما إلى أرفع المقامات في أعلى عليين ، وإما إلى أدنى الحالات في أسفل سافلين . ولهذا استدل بالبداءة على الإعادة ، فقال : " وأن عليه النشأة الأخرى " فيعيد العباد من الأجداث ، ويجمعهم ليوم الميقات ، ويجازيهم على الحسنات والسيئات ." وأنه هو أغنى وأقنى " ، أي : أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات ، وأنواع المكاسب ، من الحرف وغيرها ، وأقنى ، أي : أفاد عباده من الأموال ، بجميع أنواعها ، ما يصيرون به مقتنين لها ، ومالكين لكثير من الأعيان ، وهذا من نعمه تعالى أن أخبرهم أن جميع النعم منه ، وهذا يوجب على العبادة أن يشكروه ، ويعبدوه وحده لا شريك له . " وأنه هو رب الشعرى " وهو النجم المعروف بالشعرى العبور ، المسماة بالمرزم ، وخصها الله بالذكر ، وإن كان هو رب كل شيء ، لأن هذا النجم مما عبد في الجاهلية ، فأخبر تعالى أن جنس ما يعبد المشركون ، مربوب مدبر مخلوق(1/446)
، فكيف يتخذ مع الله آلهة .
ومن سورة القمر سبع آيات
قوله تعالى : ? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ*إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ * ? ( القمر 49- 55 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/447)
" إنا كل شيء خلقناه بقدر " وهذا شامل للمخلوقات ، والعوالم العلوية والسفلية ، إن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه ، ولا مشاركة في خلقه . وخلقها بقضاء سبق به علمه ، وجرى به قلمه ، بوقتها ومقدارها ، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف ، وذلك على الله يسير ، فلهذا قال : " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون كما أراد ، كلمح البصر ، من غير ممانعة ولا صعوبة . " ولقد أهلكنا أشياعكم "" من الأمم السابقين الذين عملوا كما عملتم ، وكذبوا كما كذبتم " فهل من مدكر " ، أي : متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة ، وأن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار فإن هؤلاء مثلهم ، ولا فرق بين الفريقين . " وكل شيء فعلوه في الزبر " ، أي : كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب عليهم في الكتب القدرية " وكل صغير وكبير مستطر " ، أي : مسطر مكتوب . وهذه حقيقة القضاء والقدر ، وأن جميع الأشياء كلها ، قد علمها الله تعالى ، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . " إن المتقين " لله ، بفعل أوامره ، وترك نواهيه ، الذي اتقوا الشرك والكبائر والصغائر . " في جنات ونهر " ، أي : في جنات النعيم ، التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، من الأشجار اليانعة ، والأنهار الجارية ، والقصور الرفيعة ، والمنازل الأنيقة ، والمآكل والمشارب اللذيذة ، والحور الحسان ، والروضات البهيات في الجنان ، ورضا الملك الديان ، والفوز بقربه ، ولهذا قال : " في مقعد صدق عند مليك مقتدر " فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده ، ويمدهم به من إحسانه ومنته . جعلنا الله منهم ، ولا حرمنا خير ما عنده ، بشر ما عندنا .
ومن سورة الرحمن سبع وعشرون آية(1/448)
قوله تعالى: ? الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ *وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ *فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ*فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( *فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ * ? ( الرحمن 1-27 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان "(1/449)
هذه السورة الكريمة الجليلة ، افتتحها باسمه " الرحمن " الدال على سعة رحمته ، وعموم إحسانه ، وجزيل بره ، وواسع فضله . ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها ، الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية والأخروية . وبعد كل جنس ونوع من نعمه ، ينبه الثقلين لشكره ، ويقول : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " . فذكر أنه " علم القرآن " ، أي : علم عباده ألفاظه ومعانيه ، ويسرها على عباده ، وهذا أعظم منة ورحمة ، رحم بها العباد ، حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا أحسن الألفاظ ، وأوضح المعاني ، مشتمل على كل خير ، زاجر عن كل شر . " خلق الإنسان " في أحسن تقويم كامل الأعضاء ، مستوفى الأجزاء ، محكم البناء ، قد أتقن البارىء تعالى البديع خلقه أي إتقان ، وميزه على سائر الحيوانات . بأن " علمه البيان " ، أي : التبين عما في ضميره ، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي ، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجل نعمه ، وأكبرها عليه . " الشمس والقمر بحسبان " ، أي : خلق الله الشمس والقمر ، وسخرهما يجريان بحساب مقنن ، وتقدير مقدر ، رحمة بالعباد ، وعناية بهم ، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم ، وليعرفوا عدد السنين والحساب ." والنجم والشجر يسجدان " ، أي : نجوم السماء ، وأشجار الأرض ، تعرف ربها وتسجد له ، وتطيع وتخضع ، تنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم . " والسماء رفعها " سقفها للمخلوقات الأرضية . " ووضع الميزان " ، أي : العدل بين العباد ، في الأقوال والأفعال ، وليس المراد به الميزان المعروف وحده ، بل هو كما ذكرنا ، يدخل فيه الميزان المعروف ، والمكيال الذي به تكال الأشياء والمقادير ، والمساحات التي تضبط بها المجهولات ، والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات ، ويقام بها العدل بينهم ، ولهذا قال : " ألا تطغوا في الميزان " ، أي : أنزل الله الميزان ، لئلا تتجاوزوا الحد في الحقوق والأمور ، فإن الأمر لو كان(1/450)
يرجع إلى عقولكم وآرائكم ، لحصل من الخلل ما الله به عليم ، ولفسدت السماوات والأرض ومن فيهن . " وأقيموا الوزن بالقسط " ، أي : اجعلوه قائما بالعدل ، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم . " والأرض وضعها " الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف أوصافها وأحوالها " للأنام " ، أي : للخلق ، لكي يستقروا عليها ، وتكون لهم مهادا ، وفراشا يبنون بها ، ويحرثون ويغرسون ، ويحفرون ، ويسلكون سبلها فجاجا ، وينتفعون بمعادنها ، وجميع ما فيها ، مما تدعو إليه حاجتهم بل ضرورتهم . ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية ، فقال : " فيها فاكهة " وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمرات التي يتفكه بها العباد ، من العنب ، والتين ، والرمان ، والتفاح ، وغير ذلك .(1/451)
" والنخل ذات الأكمام " ، أي : ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم ، فتكون قوتا يدخر ويؤكل ، ويتزود منه المقيم والمسافر ، وفاكهة لذيدة من أحسن الفواكه . " والحب ذو العصف " ، أي : ذو الساق الذي يداس ، فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها ، ويدخل في ذلك حب البر ، والشعير ، والذرة ، والأرز ، والدخن وغير ذلك . " والريحان " يحتمل أن المراد به جميع الأرزاق التي يأكلها الآدميون ، فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص ، ويكون الله قد امتن على عباده بالقوت والرزق ، عموما وخصوصا . ويحتمل أن المراد بالريحان ، المعروف ، وأن الله امتن على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة ، والمشام الفاخرة ، التي تسر الأرواح ، وتنشرح لها النفوس . ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر ، وكان الخطاب للثقلين ، الجن والإنس ، قررهم تعالى بنعمه فقال : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ، أي : فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان ؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة ، فكلما مر بقوله : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ، قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد ، فهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه ، أن يقر بها ، ويشكر ، ويحمد الله عليها . " خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان " ثم قال تعالى : " خلق الإنسان " إلى " تكذبان " . وهذا من نعمه تعالى على عباده ، حيث أراهم من آثار قدرته وبديع صنعته ، أن " خلق " أبا " الإنسان " وهو آدم عليه السلام " من صلصال كالفخار " ، أي : من طين مبلول ، قد أحكم بله ، وأتقن ، حتى جف ، فصار له صلصلة وصوت ، يشبه صوت الفخار ، وهو الطين المشوي . " وخلق الجان " ، أي : أبا الجن ، وهو إبليس لعنه الله " من مارج من نار " ، أي : من لهب النار الصافي ، أو الذي قد(1/452)
خالطه الدخان . وهذا يدل على شرف عنصر الآدمي المخلوق من الطين والتراب ، الذي هو محل الرزانة والثقل والمنافع ، بخلاف عنصر الجان وهو النار ، التي هي محل الخفة والطيش ، والشر والفساد . ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك ، وكان منة منه تعالى عليهم ، قال : " فبأي آلاء ربكما تكذبان "
" رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي : هو تعالى رب كل ما أشرقت عليه الشمس والقمر ، والكواكب النيرة ، وكل ما غربت عنه ، وكل ما كانا فيه ، فالجميع تحت تدبيره وربوبيته ، وثناهما هنا ، باعتبار مشارقها ، شتاء وصيفا ، والله أعلم .
" مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان " المراد بالبحرين : البحر العذب ، والبحر المالح ، فهما يلتقيان ، فيصب العذب في البحر المالح ، ويختلطان ويمتزجان ، ولكن الله تعالى جعل بينهما برزخا من الأرض ، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر ، ويحصل النفع بكل منهما . فالعذب : منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم وحروثهم ، والملح : به يطيب الهواء ويتولد السمك والحوت ، واللؤلؤ والمرجان ، ويكون مستقرا مسخرا للسفن والمراكب ، ولهذا قال : " وله الجوار " إلى : " تكذبان "..." وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي : وسخر تعالى لعباده السفن والجواري ، التي تمخر البحر ، وتشقه بإذن الله ، ينشئها الآدميون ، فتكون من عظمها وكبرها ، كالأعلام ، وهي : الجبال العظيمة . فيركبها الناس ويحملون عليها أمتعتهم ، وأنواع تجاراتهم وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم ، وقد حفظها حافظ السماوات والأرض ، وهذه من نعم الله الجليلة ، ولهذا قال : " فبأي آلاء ربكما تكذبان "...(1/453)
" كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي : كل من على الأرض ، من إنس وجن ، ودواب ، وسائر المخلوقات ، يفنى ويبيد ، ويبقى الحي الذي لا يموت " ذو الجلال والإكرام " ، أي : ذو العظمة والكبرياء والمجد الذي يعظم ويبجل ، ويجل لأجله ، والإكرام الذي هو سعة الفضل والجود الذي يكرم أولياءه ، وخواص خلقه بأنواع الإكرام الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه ، ويعظمونه ويحبونه ، وينيبون إليه ويعبدونه . " فبأي آلاء ربكما تكذبان "
ومن سورة الواقعة سبع عشرة آية
قوله تعالى: ? أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ *عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ *أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ*فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ *? ( الواقعة 58- 74 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون "(1/454)
أي : أفرأيتم ابتداء خلقكم من المني الذي تمنون ، فهل أنتم خالقون ذلك المني وما ينشأ منه ؟ أم الله تعالى الخالق الذي خلق فيكم الشهوة في الذكر والأنثى ، وهدى كلا منهما لما هنالك ، وحبب بين الزوجين ، وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب التناسل . ولهذا أحالهم الله تعالى بالاستدلال بالنشأة الأولى ، على النشأة الأخرى ، فقال : " ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون " أن القادر على ابتداء خلقكم ، قادر على إعادتكم .(1/455)
" أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون " وهذا امتنان منه على عباده ، يدعوهم به ، إلى توحيده وعبادته ، والإنابة إليه ، حيث أنعم عليهم بما يسره لهم من الحرث للزروع والثمار ، فتخرج من ذلك ، منن الأقوات والأرزاق ، والفواكه ، ما هو من ضروراتهم ، وحاجاتهم ومصالحهم التي لا يقدرون أن يحصوها ، فضلا عن شكرها ، وأداء حقها ، فقررهم بمنته ، فقال : " أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " ، أي : أنتم أخرجتموه نباتا من الأرض ؟ أم أنتم الذين نميتموه ؟ أم أنتم الذين أخرجتم سنبله وثمره ، حتى صار حبا حصيدا وثمرا نضيجا ؟ أم الله الذي انفرد بذلك وحده ، وأنعم به عليكم ؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الأرض وتشقوها ، وتلقوا فيها البذر . ثم لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك ، ولا قدرة لكم على أكثر من ذلك ، ومع ذلك ، فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للأخطار ، لولا حفظ الله وإبقاؤه بلغة لكم ، ومتاعا إلى حين . " لو نشاء لجعلناه " ، أي : الزرع المحروث ، وما فيه من الثمار " حطاما " ، أي : فتاتا متحطما ، لا نفع فيه ولا رزق . " فظلتم " ، أي : فصرتم بسبب جعله حطاما ، بعد أن تعبتم فيه ، وأنفقتم النفقات الكثيرة . " تفكهون " ، أي : تندمون وتتحسرون على ما أصابكم ، ويزول بذلك فرحكم وسروركم ، وتفكهكم فتقولون : " إنا لمغرمون " ، أي : إنا قد نقصنا وأصابتنا مصيبة اجتاحتنا . ثم تعرفون بعد ذلك ، من أين أتيتم ، وبأي سبب دهيتم ، فتقولون : " بل نحن محرومون " . فاحمدوا الله تعالى حيث زرعه لكم ، ثم أبقاه وكمله لكم ، ولم يرسل عليه من الآفات ما به تحرمون نفعه وخيره .
" أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون "(1/456)
لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام ، ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون ، وأنه لولا أن الله يسره وسهله ، لما كان لكم إليه سبيل ، وأنه الذي أنزله من المزن ، وهو السحاب والمطر ، الذي ينزله الله تعالى ، فتكون منه الأنهار الجارية على وجه الأرض ، وفي بطنها ، وتكون منه الغدران المتدفقة . ومن نعمته تعالى أن جعله عذابا فراتا ، تسيغه النفوس ، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا ، لا ينتفع به . " فلولا تشكرون " الله تعالى على ما أنعم به عليكم .
" أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم "
وهذه نعمة تدخل في الضروريات ، التي لا غنى للخلق عنها ، فإن الناس محتاجون إليها في كثير من أمورهم وحوائجهم ، فقررهم تعالى بالنار التي أوجدها في الأشجار ، وأن الخلق لا يقدرون أن ينشئوا شجرها ، وإنما الله تعالى قد أنشأها من الشجر الأخضر ، فإذا هي نار توقد ، بقدر حاجة العباد ، فإذا فرغوا من حاجتهم ، أطفأوها وأخمدوها . " نحن جعلناها تذكرة " للعباد بنعمة ربهم ، وتذكرة بنار جهنم ، التي أعدها الله للعاصين ، وجعلها سوطا ، يسوق به عباده إلى دار النعيم . " ومتاعا للمقوين " ، أي : المنتفعين أو المسافرين ، وخص الله المسافرين لأن نفع المسافر أعظم من غيره ، ولعل السبب في ذلك؛ لأن الدنيا كلها دار سفر ، والعبد من حين ولد ، فهو مسافر إلى ربه ، فهذه النار ، جعلها الله متاعا للمسافرين في هذه الدار ، وتذكرة لهم بدار القرار . فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده ، وشكره ، وعبادته ، أمر بتسبيحه وتعظيمه ، فقال : " فسبح باسم ربك العظيم " ، أي : نزه ربك العظيم ، كامل الأسماء والصفات ، كثير الإحسان والخيرات . واحمده بقلبك ، ولسانك ، وجوارحك ، لأنه أهل لذلك ، وهو المستحق لأن يشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، ويطاع فلا يعصى .(1/457)
ومن سورة الحديد ست آيات
قوله تعالى:? سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * ? ( الحديد 1-6 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله ، وسعة سلطانه أن جميع ما في السماوات والأرض ، من الحيوانات الناطقة وغيرها ، الجوامد ، تسبح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله . وأنها قانتة لربها ، منقادة لعزته ، قد ظهرت فيها آثار حكمته ، ولهذا قال : " وهو العزيز الحكيم " ، فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها ، في جميع أحوالها ، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها ، وعموم حكمته في خلقه وأمر . ثم أخبر عن عموم ملكه ، فقال : " له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت " . أي : هو الخالق للمخلوقات ، الرازق المدبر لها ، بقدرته " وهو على كل شيء قدير "...
" هو الأول " الذي ليس قبله شيء ، " والآخر " الذي ليس بعده شيء . " والظاهر " الذي ليس فوقه شيء ، " والباطن " الذي ليس دونه شيء . " وهو بكل شيء عليم " قد أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والسرائر والخفايا ، والأمور المتقدمة والمتأخرة .(1/458)
" هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام " أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة . " ثم استوى على العرش " استواء يليق بجلاله ، فوق جميع خلقه . " يعلم ما يلج في الأرض " منحب وحيوان ، ومطر ، وغير ذلك . " وما يخرج منها " من نبت وشجر ، وحيوان ، وغير ذلك . " وما ينزل من السماء " من الملائكة والأقدار والأرزاق . " وما يعرج فيها " من الملائكة والأرواح ، والأدعية والأعمال ، وغير ذلك . " وهو معكم أين ما كنتم " ، كقوله : " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا " . وهذه المعية ، معية العلم والاطلاع ، ولهذا توعد ووعد بالمجازاة بالأعمال بقوله : " والله بما تعملون بصير " أي : هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال ، وما صدرت عنه تلك الأعمال ، من بر وفجور ، فمجازيكم عليها ، وحافظها عليكم . " له ما في السماوات والأرض " ملكا ، وخلقا ، وعبيدا ، يتصرف فيهم بما شاءه من أوامره القدرية والشرعية ، الجارية على الحكمة الربانية . " وإلى الله ترجع الأمور " من الأعمال والعمال ، فيعرض عليه العباد ، فيميز الخبيث من الطيب ، ويجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " ، أي : يدخل الليل على النهار ، فيغشيهم الليل بظلامه ، فيسكنون ويهدأون . ثم يدخل النهار على الليل ، فيزول ما على الأرض من الظلام ، ويضيء الكون ، فيتحرك العباد ويقومون إلى مصالحهم ومعايشهم . ولا يزال الله يكور الليل على النهار ، والنهار على الليل ، ويداول بينهما ، في الزيادة والنقص ، والطول والقصر ، حتى تقوم بذلك الفصول ، وتستقيم الأزمنة ، ويحصل من المصالح بذلك ما يحصل . فتبارك الله رب العالمين ، وتعالى الكريم الجواد ، الذي أنعم على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة . " وهو عليم بذات الصدور " ، أي : بما يكون في صدور العالمين . فيوفق(1/459)
من يعلم أنه أهل لذلك ، ويخذل من يعلم أنه لا يصلح لهدايته
ومن سورة المجادلة آية
قوله تعالى : ? (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? (المجادلة : 7 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم "
يقول الله تعالى : " يوم يبعثهم الله " ، أي : يوم يبعث الله الخلق " جميعا " فيقومون من أجداثهم سريعا " فينبئهم بما عملوا " من خير وشر ، لأنه علم ذلك ، و " أحصاه الله " ، أي : كتبه في اللوح المحفوظ ، وأمر الملائكة الكرام الحفظة بكتابته . هذا ( و ) العاملون قد " نسوه "
، أي : نسوا ما عملوه والله أحصى ذلك . " والله على كل شيء شهيد " على الظواهر والسرائر ، والخبايا والخفايا ، ولهذا أخبر عن سعة علمه وإحاطته بما في السماوات والأرض من دقيق وجليل . وأنه " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا " ، والمراد بهذه المعية : معية العلم والإحاطة ، بما تناجوا به وأسروه فيما بينهم ، ولهذا قال : " أن الله بكل شيء عليم "
ومن سورة الحشر أربع آيات(1/460)
قوله تعالى :? لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ? (الحشر : 21-24 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون "(1/461)
.. لما بين تعالى لعباده ما بين ، وأمر عباده ونهاهم في كتابه العزيز ، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه ، وحثهم عليه ، ولوا كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي . فإن هذا القرآن لو أنزل " على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله" ، أي : لكمال تأثيره في القلوب ، فإن مواعظ القرآن ، أعظم المواعظ على الإطلاق . وأوامره ونواهيه ، محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها ، وهي من أسهل شيء على النفوس ، وأيسرها على الأبدان ، خالية من التكلف لا تناقض فيها ، ولا اختلاف ، ولا صعوبة فيها ، ولا اعتساف ، تصلح لكل زمان ومكان ، وتليق لكل أحد . ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال ، ويوضح لعباده الحلال والحرام ، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها ، فإن التفكير فيها يفتح للعبد خزائن العلم ، ويبين له طرق الخير والشر ، ويحثه على مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ويزجره عن مساوىء الأخلاق ، فلا أنفع للعبد من التفكير في القرآن ، والتدبر لمعانيه .
" هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "(1/462)
هذه الآيات الكريمات ، قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى ، وأوصافه العلى ، عظيمة الشأن ، وبديعة البرهان . فأخبر أنه الله المألوه المعبود ، الذي لا إله إلا هو ، وذلك لكماله العظيم ، وإحسانه الشامل ، وتدبيره العام . وكل إله غيره ، فإنه باطل ، لا يستحق من العبادة مثقال ذرة ، لأنه فقير عاجز ناقص ، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا . ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل ، لما غاب عن الخلق ، وما يشاهدونه ، وبعموم رحمته التي وسعت كل شيء ، ووصلت إلى كل حي . ثم كرر ذكر عموم إلهيته وانفراده بها ، وأنه المالك لجميع الممالك ، فالعالم العلوي والسفلي وأهله ، الجميع مماليك لله ، فقراء مدبرون .
" القدوس السلام " ، أي : المقدس السالم من كل عيب ونقص ، المعظم الممجد؛ لأن القدوس ، يدل على التنزيه من كل نقص ، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله . " المؤمن " ، أي : المصدق لرسله وأنبيائه ، بما جاءوا به ، بالآيات البينات ، والبراهين القاطعات ، والحجج الواضحات . " العزيز " الذي لا يغالب ولا يمانع ، بل قد قهر كل شيء ، وخضع له كل شيء . " الجبار " الذي قهر جميع العباد ، وأذعن له سائر الخلق ، الذي يجبر الكسير ، ويغني الفقير . " المتكبر "(1/463)
الذي له الكبرياء والعظمة ، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور . " سبحان الله عما يشركون " ، وهذا تنزيه عام ، عن كل ما وصفه به ، من أشرك به وعانده . " هو الله الخالق " لجميع المخلوقات " البارئ " للمبروءات " المصور " للمصورات ، وهذه الأسماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير ، وأن ذلك كله ، قد انفرد الله به ، لم يشاركه فيه مشارك . " له الأسماء الحسنى " ، أي : له الأسماء الكثيرة جدا ، التي لا يحصيها ، ولا يعلمها أحد إلا هو ، ومع ذلك ، فكلها حسنى ، أي : صفات كمال ، بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها ، لا نقص في شيء منها ، بوجه من الوجوه . ومن حسنها أن الله يحبها ، ويحب من يحبها ، ويحب من عباده أن يدعوه ويسألوه بها . ومن كماله ، وأن له الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، وأن جميع من في السماوات والأرض ، مفتقرون إليه على الدوام ، يسبحون بحمده ، ويسألونه حوائجهم ، فيعطيهم من فضله وكرمه ما تقتضيه رحمته وحكمته . " وهو العزيز الحكيم " الذي لا يريد شيئا إلا ويكون ، ولا يكون شيئا إلا لحكمة ومصلحة .
ومن سورة الجمعة أربع آيات
قوله تعالى : ? يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * ? (الجمعة : 1-4 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/464)
أي : يسبح الله ، وينقاد لأمره ، ويتألهه ، ويعبده ، جميع ما في السماوات والأرض ، لأنه الكامل الملك ، الذي له مالك العالم العلوي والسفلي ، فالجميع مماليكه وتحت تدبيره . " القدوس " المعظم ، المنزه عن كل آفة ونقص ، " العزيز " القاهر للأشياء كلها . " الحكيم " في خلقه وأمره . فهذه الأوصاف العظيمة ، تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له . " هو الذي بعث في الأميين رسولا " المراد بالأميين : الذين لا كتاب عندهم ، ولا أثر رسالة ، من العرب وغيرهم ممن ليسوا من أهل الكتاب . فامتن الله تعالى عليهم ، منة عظيمة ، أعظم من منته على غيرهم ، لأنهم عادمون للعلم والخير ، وكانوا من قبل في ضلال مبين ، يتعبدون للأصنام والأشجار والأحجار ، ويتخلقون بأخلاق السباع الضارية ، يأكل قويهم ضعيفهم ، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء . فبعث الله فيهم رسولا منهم ، يعرفون نسبه ، وأوصافه الجميلة وصدقه . وأنزل عليه كتابه " يتلو عليهم آياته " القاطعة الموجبة للإيمان واليقين . " ويزكيهم " بأن يفصل لهم الأخلاق الفاضلة ، ويحثهم عليها ، ويزجرهم عن الأخلاق الرذيلة . " ويعلمهم الكتاب والحكمة " ، أي : علم الكتاب والسنة ، المشتمل على علوم الأولين والآخرين . فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية ، من أعلم الخلق ، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين ، وأكمل الخلق أخلاقا ، وأحسنهم هديا وسمتا . اهتدوا بأنفسهم ، وهدوا غيرهم فصاروا أئمة المهتدين ، وقادة المتقين ، فلله تعالى عليهم ، ببعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، أكمل نعمة ، وأجل منحة . وقوله :(1/465)
" وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " ، أي : وامتن على آخرين من غيرهم ، أي : من غير الأميين ، ممن يأتي بعدهم ، ومن أهل الكتاب ، لما يلحقوا بهم ، أي : فيمن باشر دعوة الرسول . ويحتمل أنهم لما يلحقوا بهم في الفضل ، ويحتمل أن يكونوا لما يلحقوا بهم في الزمان ، وعلى كل ، فكلا المعنيين صحيح . فإن الذين بعث الله فيهم رسوله ، وشاهدوه ، وباشروا دعوته ، حصل لهم من الخصائص والفضائل ، ما لا يمكن أحدا أن يلحقهم فيها ، وهذا من عزته وحكمته ، حيث لم يترك عباده هملا ولا سدى ، بل ابتعث فيهم الرسل ، وأمرهم ونهاهم ، وذلك من فضله العظيم ، الذي يؤتيه من يشاء من عباده ، وهو أفضل من نعمته عليهم بعافية البدن وسعة الرزق ، وغير ذلك من النعم الدنيوية . فلا أعظم من نعمة الدين التي هي مادة الفوز ، والسعادة الأبدية .
ومن سورة التغابن أربع آيات
قوله تعالى : ? يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ*? (التغابن : 1-4 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/466)
هذه الآيات الكريمات ، مشتملات على جملة كثيرة واسعة ، من أوصاف الباري العظيمة ، فذكر كمال ألوهيته سبحانه ، وسعة غناه ، وافتقار جميع الخلائق إليه ، وتسبيح من في السماوات والأرض بحمد ربها ، وأن الملك كله لله ، فلا يخرج عن ملكه مخلوق . والحمد كله له ، حمد على ما له من صفات الكمال ، وحمد على ما أوجده من الأشياء ، وحمد على ما شرعه من الأحكام ، وأسداه من النعم . وقدرته شاملة ، لا يخرج عنها موجود ، فلا يعجزه شيء يريده . وذكر أنه خلق العباد ، وجعل منهم المؤمن والكافر ، فإيمانهم وكفرهم كله ، بقضاء الله وقدره ، وهو الذي شاء ذلك منهم ، بأن جعل لهم قدرة وإرادة ، بها يتمكنون من كل ما يريدون ، من الأمر والنهي ، " والله بما تعملون بصير " . فلما ذكر خلق الإنسان المأمور المنهي ، ذكر خلق باقي المخلوقات ، فقال : " خلق السماوات والأرض " ، أي : أجرامهما ، وجميع ما فيهما ، فأحسن خلقهما . " بالحق " ، أي : بالحكمة ، والغاية المقصودة له تعالى . " وصوركم فأحسن صوركم " كما قال تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " . فالإنسان ، أحسن المخلوقات صورة ، وأبهاها منظرا . " وإليه المصير " ، أي : المرجع يوم القيامة ، فيجازيكم على إيمانكم وكفركم ، ويسألكم عن النعم والنعيم الذي أولاكمد هل قمتم بشكره أم لم تقوموا به ؟ ثم ذكر عموم علمه ، فقال : " يعلم ما في السماوات والأرض " ، أي : في السرائر والظواهر ، والغيب والشهادة . " ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور " ، أي : بما فيها من الأسرار الطيبة ، والخبايا الخبيثة ، والنيات الصالحة ، والمقاصد الفاسدة . فإذا كان عليما بذات الصدور ، تعين على العاقل البصير ، أن يحرص ويجتهد في حفظ باطنه ، من الأخلاق الرذيلة ، واتصافه بالأخلاق الجميلة .
ومن سورة الطلاق آية(1/467)
قوله تعالى: ? (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ?(الطلاق : 12 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض ، ومن فيهن ، والأرضين السبع ومن فيهن ، وما بينهن ، وأنزل الأمر وهو : الشرائع والأحكام الدينية ، التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظمهم ، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية ، التي يدبر بها الخلق ، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها ، وإحاطة علمه بجميع الأشياء . فإذا عرفوه بأسمائه الحسنى وأوصافه المقدسة ، عبدوه ، وأحبوه ، وقاموا بحقه ، فهذه هي الغاية المقصودة من الخلق والأمر : معرفة الله وعبادته . فقام بذلك الموفقون من عباد الله الصالحين ، وأعرض عن ذلك الظالمون المعرضون .
ومن سورة الملك ثلاث عشرة آية
قوله تعالى : ? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ( * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * ? (الملك : 1-5 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/468)
" تبارك الذي بيده الملك " ، أي : تعاظم وتعالى ، وكثر خيره ، وعم إحسانه . من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي والسفلي ، فهو الذي خلقه ، ويتصرف فيه بما شاء ، من الأحكام القدرية ، والأحكام الدينية ، التابعة لحكمته . " وهو على كل شيء قدير " ، أي : ومن عظمته ، كمال قدرته ، التي يقدر بها على كل شيء ، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقت العظيمة ، كالسموات والأرض . " الذي خلق الموت والحياة " أي : قدر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم . " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " ، أي : أخلصه وأصوبه ، وذلك أن الله خلق عباده ، وأخرجهم لهذه الدار ، وأخبرهم أنهم سينتقلون منها ، وأمرهم ونهاهم ، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره ، فمن انقاد لأمر الله ، أحسن الله له الجزاء في الدارين ، ومن مال مع شهوات النفس ، ونبذ أمر الله ، فله شر الجزاء . " وهو العزيز " الذي له العزة كلها ، التي قهر بها جميع الأشياء ، وانقادت له المخلوقات . " الغفور " عن المسيئين ، والمقصرين ، والمذنبيين ، خصوصا إذا تابوا وأنابوا . فإنه يغفر ذنوبهم ، ولو بلغت عنان السماء ، ويستر عيوبهم ، ولو كانت ملء الدنيا . " الذي خلق سبع سماوات طباقا " ، أي : كل واحدة فوق الأخرى ، ولسن طبقة واحدة ، وخلقها في غاية الحسن والإتقان " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " ، أي : خلل ونقص . وإذا انتفى النقص من كل وجه ، وصارت حسنة كاملة ، متناسبة من كل وجه ، في لونها وهيئتها ، وارتفاعها ، وما فيها من الشمس ، والكواكب النيرات ، الثوابت منهن والسيارات . ولما كان كمالها معلوما ، أمر الله تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها ، فقال : " فارجع البصر "(1/469)
، أي : أعده إليها ، ناظرا معتبرا " هل ترى من فطور " ، أي : نقص واختلال . " ثم ارجع البصر كرتين " المراد بذلك : كثرة التكرار " ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " ، أي : عاجزا عن أن يرى خللا أو فطورا ، ولو حرص غاية الحرص . ثم صرح بذكر حسنها ، فقال :
" ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير "
" ولقد زينا " ، أي : ولقد جملنا " السماء الدنيا " التي ترونها وتليكم . " بمصابيح " وهي النجوم ، على اختلافها في النور والضياء ، فإنه لولا ما فيها من النجوم ، لكانت سقفا مظلما ، لا حسن فيه ولا جمال . ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء ، وجمالا ونورا ، وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر . ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح ، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع ، فإن السماوات شفافة ، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا ، وإن لم تكن الكواكب فيها . " وجعلناها " ، أي : المصابيح " رجوما للشياطين " الذين يريدون استراق خبر السماء . فجعل الله هذه النجوم ، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبارها ، إلى الأرض ، فهذه الشهب ، التي ترمى من النجوم ، أعدها الله في الدنيا للشياطين . " وأعتدنا لهم " في الآخرة " عذاب السعير " لأنهم تمردوا على الله ، وأضلوا عباده ، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم ، قد أعد الله لهم عذاب السعير ، ...
وقوله تعالى : ? وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * ? (الملك : 13-15 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/470)
قوله تعالى :" وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " هذا إخبار من الله بسعة علمه ، وشمول لطفه ، فقال : " وأسروا قولكم أو اجهروا به " ، أي : كلاهما سواء لديه ، لا يخفى عليه منهما خافية . " إنه عليم بذات الصدور " ، أي : بما فيها من النيات ، والإرادات ، فكيف بالأقوال والأفعال ، التي تسمع وترى ؟ ثم قال ـ مستدلا بدليل عقلي على علمه ـ : " ألا يعلم من خلق " ، فمن خلق الخلق وأتقنه ، وأحسنه ، كيف لا يعلمه ؟ " وهو اللطيف الخبير " الذي لطف علمه وخبره ، حتى أدرك السرائر والضمائر ، والخبايا والخفايا ، والغيوب " فإنه يعلم السر وأخفى ". ومن معاني اللطيف ، أنه الذي يلطف بعبده ووليه ، فيسوق إليه البر والإحسان ، من حيث لا يشعر ، ويعصمه من الشر ، من حيث لا يحتسب ، ويرقيه إلى أعلى المراتب ، بأسباب لا تكون من العبد على بال ، حتى إنه يذيقه المكاره ، ليوصله بها ، إلى المحاب الجليلة ، والمطالب النبيلة .
" هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور "... " فامشوا في مناكبها " ، أي : لطلب الرزق والمكاسب . " وكلوا من رزقه وإليه النشور " ، أي : بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانا ، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة ، تبعثون بعد موتكم ، وتحشرون إلى الله ، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة
وقوله تعالى : ? أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ? ( الملك 19 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/471)
وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير ، التي سخرها الله ، وسخر لها الجو والهواء ، تصف فيه أجنحتها للطيران ، وتقبضها للوقوع ، فتظل سابحة في الجو ، مترددة فيه ، بحسب إرادتها وحاجتها . " ما يمسكهن إلا الرحمن " فإنه الذي سخر لهن الجو ، وجعل أجسادها وخلقتها ، في حالة مستعدة للطيران . فمن نظر في حالة الطير ، واعتبر فيها ، دلته على قدرة الباري ، وعنايته الربانية ، وأنه الواحد الأحد ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له . " إنه بكل شيء بصير "
، فهو المدبر لعباده ، بما يليق بهم ، وتقتضيه حكمته .
وقوله تعالى :? قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * ? (الملك 23-24 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى ـ مبينا أنه المعبود وحده ، وداعيا عباده إلى شكره ، وإفراده بالعبادة ـ : " قل هو الذي أنشأكم " ، أي : أوجدكم من العدم ، من غير معاون له ولا مظاهر . ولما أنشأكم ، كمل لكم الوجود ، إذ " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " ، وهذه الثلاثة ، هي أفضل أعضاء البدن ، وأكمل القوى الجسمانية . ولكنكم مع هذا الإنعام " قليلا ما تشكرون " الله ، قليل منكم الشاكر ، وقليل منكم الشكر . " قل هو الذي ذرأكم في الأرض " ، أي : بثكم في أقطارها ، وأسكنكم في أرجائها ، وأمركم ، ونهاكم ، وأسدى إليكم من النعم ، ما به تنتفعون ، ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة .
وقوله تعالى : ? قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ * ? ( الملك : 30 -31 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/472)
فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله ، وحال أتباعه ، ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم ، وهو أن يقولوا : " هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا " ، والإيمان يشمل التصديق الباطن ، والأعمال الباطنة والظاهرة . ولما كانت الأعمال ، وجودها وكمالها ، متوقفان على التوكل ، خص الله التوكل من سائر الأعمال ، وإلا فهو داخل في الإيمان ، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى : " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " . فإذا كانت هذه حال الرسول ، وحال من اتبعه ، وهي الحال التي تتعين للفلاح ، وتتوقف عليها السعادة ، وحالة أعدائه بضدها ، فلا إيمان لهم ولا توكل ، علم بذلك ، من هو على هدى ، ومن هو في ضلال مبين . ثم أخبر عن انفراده بالنعم ، خصوصا الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، فقال : " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا " ، أي : غائرا " فمن يأتيكم بماء معين " تشربون منه ، وتسقون أنعامكم ، وأشجاركم ، وزروعكم ؟ وهذا استفهام بمعنى النفي ، أي : لا يقدر أحد على ذلك ، غير الله تعالى .
ومن سورة نوح عشر آيات
قوله تعالى: ? يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً *وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً * ? ( نوح 11-20 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/473)
" يرسل السماء عليكم مدرارا " ، أي : مطرا متتابعا ، يروي الشعاب والوهاد ، ويحيي البلاد والعباد . " ويمددكم بأموال وبنين " ، أي : يكثر أموالكم ، التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا ، وأولادكم . " ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا " وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها . " ما لكم لا ترجون لله وقارا " ، أي : لا تخافون لله عظمة ، وليس الله عندكم قدر . " وقد خلقكم أطوارا " ، أي : خلقا من بعد خلق ، في بطن الأم ، ثم في الرضاع ، ثم في سن الطفولة ، ثم التمييز ، ثم الشباب . ثم إلى آخر ما يصل إليه الخلق ، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع ، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد . وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على المعاد ، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم . واستدل أيضا بخلق السماوات ، التي هي أكبر من خلق الناس ، فقال : " ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا " ، أي : كل سماء فوق الأخرى . " وجعل القمر فيهن نورا " لأهل الأرض " وجعل الشمس سراجا " . ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء ، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمة الله وسعة إحسانه ، فالعظيم الرحيم ، يستحق أن يعظم ويحب ويخاف ويرجى . " والله أنبتكم من الأرض نباتا " حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه . " ثم يعيدكم فيها " عند الموت " ويخرجكم إخراجا " للبعث والنشور ، فهو الذي يملك الحياة والموت والنشور . " والله جعل لكم الأرض بساطا " ، أي : مبسوطة مهيأة للانتفاع بها . " لتسلكوا منها سبلا فجاجا " فلولا أنه بسطها ، لما أمكن ذلك ، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها ، وزرعها ، والبناء والسكون على ظهرها
ومن سورة الجن خمس آيات
قوله تعالى : ? وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً * ? ( الحن 3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/474)
" وأنه تعالى جد ربنا " ، أي : تعالت عظمته وتقدست أسماؤه . " ما اتخذ صاحبة ولا ولدا " فعلموا من جد الله وعظمته ، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا ، لأن له العظمة والجلال في كل صفة كمال . واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك ، لأنه يضاد كمال الغنى ...
وقوله تعالى : ? قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً * ? ( الجن 25-28 ) ..
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/475)
" قل " لهم إن سألوك فقالوا : " متى هذا الوعد " ؟ ..." إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا " ، أي : غاية طويلة ، فعلم ذلك ، عند الله . " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا " من الخلق ، بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار ، والغيوب . " إلا من ارتضى من رسول "، أي : فإنه يخبره بما اقتضت حكمته ، أن يخبره به . وذلك لأن الرسل ، ليسوا كغيرهم ، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق ، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته ، من غير أن تقربه الشياطين ، فيزيدوا فيه أو ينقصوا ، ولهذا قال : " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " ، أي : يحفظونه بأمر الله . " ليعلم " بذلك " أن قد أبلغوا رسالات ربهم " بما جعله لهم من الأسباب . " وأحاط بما لديهم " ، أي : بما عندهم ، وما أسروه وما أعلنوه . " وأحصى كل شيء عددا " . وفي هذه السورة فوائد عديدة : منها : وجود الجن ، وأنهم مأمورون منهيون ، ومجازون بأعمالهم ، كما هو صريح في هذه السورة . ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن ، كما هو مبعوث إلى الإنس ، فإن الله صرف نفرا من الجن ، ليستمعوا ما يوحى إليه ، ويبلغوا قومهم . ومنها : ذكاء الجن ، ومعرفتهم بالحق ، وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن ، وحسن أدبهم في خطابهم . ومنها : اعتناء الله برسوله ، وحفظه لما جاء به . فحين ابتدأت بشائر نبوته ، والسماء محروسة بالنجوم ، والشياطين قد هربت من أماكنها ، وأزعجت عن مراصدها ، وأن الله رحم به أهل حمة ما يقدر لها قدر ، وأراد بهم ربهم رشدا ، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ، ومعرفته في الأرض ، ما تبتهج به القلوب ، وتفرح به أولو الألباب ، وتظهر به شعائر الإسلام ، وينقمع به أهل الأوثان والأصنام . ومنها : شدة حرص الجن على استماعهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتراكمهم عليه . ومنها : أن هذه السورة ، قد اشتملت على الأمر بالتوحيد(1/476)
والنهي عن الشرك ، وبينت حالة الخلق ، وأن كل أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة؛ لأن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ، إذا كان لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا ، بل ولا يملك لنفسه ، علم أن الخلق كلهم كذلك ، فمن الخطأ والظلم اتخاذ من هذا وصفه إلها آخر . ومنها : أن علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها ، فلا يعلمها أحد من الخلق ، إلا من ارتضاه واختصه بعلم شيء منها .
ومن سورة القيامة أربع آيات
قوله تعالى : ? أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى*أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى * ? (القيامة : 36-40 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
ذكر اللهُ الإنسان بخلقه الأول ، فقال : " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " ، أي : مهملا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يثاب ولا يعاقب ؟ هذا حسبان باطل ، وظن بالله غير ما يليق بحكمته . " ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان " بعد المنى " علقة " أي : دما " فخلق " الله منها الحيوان " فسوى " أي : أتقنه وأحكمه . " فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك " ، أي : الذي خلق الإنسان وطوره إلى هذه الأطوار المختلفة " بقادر على أن يحيي الموتى ".؟ ، بلى إنه على كل شيء قدير .
ومن سورة الإنسان ثلاث آيات
قوله تعالى:? هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً *إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * ? (الإنسان : 1-3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/477)
ذكر الله في هذه السورة ، أول حال الإنسان ومنتهاها ومتوسطها . فذكر أنه مر عليه " حين من الدهر " طويل ، وهو الذي قبل وجوده ، وهو معدوم " لم يكن شيئا مذكورا " . ثم لما أراد خلقه خلق أباه آدم من طين ، ثم جعل نسله متسلسلا " من نطفة أمشاج " ، أي : ماء مهين مستقذر " نبتليه " بذلك ، لنعلم هل يرى حاله الأولى ، ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه ؟ فأنشأه الله ، وخلق له القوى الظاهرة والباطنة ، كالسمع والبصر ، وسائر الأعضاء فأتمها له وجعلها سالمة ، يتمكن بها من تحصيل مقاصده . ثم أرسل إليه الرسل ، وأنزل عليه الكتب ، وهداه الطريق الموصلة إليه ، وبينها ، ورغبه فيها ، وأخبره بما له عند الوصول إليه . ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ، ورهبه عنها ، وأخبره بما له ، إذا سلكها ، وابتلاه بذلك ، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه ، قائم بما حمله الله من حقوقه . وإلى كفور للنعم ، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية ، فردها ، وكفر بربه ، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك .
ومن سورة المرسلات ثمان آيات
قوله تعالى: ? َلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً*وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً * ? (المرسلات : 20-26 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/478)
قوله تعالى :" ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين " أي : أما خلقناكم أيها الآدميون " من ماء مهين " ، أي : في غاية الحقارة ، خرج من بين الصلب والترائب ، حتى جعله الله " في قرار مكين " وهو الرحم ، به يستقر وينمو . " إلى قدر معلوم " ووقت مقدر . " فقدرنا " ، أي : قدرنا ودبرنا ذلك الجنين ، في تلك الظلمات ، ونقلناه من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى أن جعله الله جسدا ، ونفخ فيه الروح ومنهم من يموت قبل ذلك . " فنعم القادرون " يعني بذلك ، نفسه المقدسة ، لأن قدره ، تابع لحكمته ، موافق للحمد . " ويل يومئذ للمكذبين "...
" ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين " أي : أما مننا عليكم ، وأنعمنا ، بتسخير الأرض لمصالحكم ، فجعلناها " كفاتا " لكم " أحياء " في الدور " وأمواتا " في القبور ، فكما أن الدور والقصور من نعم الله على عباده ومنته ، فكذلك القبور ، رحمة في حقهم ، وستر لهم ، عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها . " وجعلنا فيها رواسي " ، أي : جبالا ترسي الأرض ، لئلا تميد بأهلها ، فثبتها الله بالجبال الراسيات الشامخات ، أي : الطوال العراض . " وأسقيناكم ماء فراتا " ، أي : عذبا زلالا ، قال تعالى : " أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون "" ويل يومئذ للمكذبين " مع ما أراهم الله من النعم ، التي انفرد بها ، واختصهم بها ، فقابلوها بالتكذيب . هذا من الويل ، الذي أعد للمجرمين المكذبين ،..
ومن سورة النبأ ست عشرة آية(1/479)
قوله تعالى : ? عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً *وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً *لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً *وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً *? (النبأ : 1-16 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون " أي : عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات الله ؟ ثم بين ما يتساءلون عنه فقال : " عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون " ، أي : عن الخبر العظيم ، الذي طال فيه نزاعهم وانتشر فيه خلافهم على وجه التكذيب والاستبعاد ، وهو النبأ الذي لا يقبل الشك ، ولا يدخله الريب ، ولكن المكذبين بلقاء ربهم لا يؤمنون ، ولو جاءتهم كل آية ، حتى يروا العذاب الأليم . ولهذا قال : " كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون " ، أي : سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ، ما كانوا به يكذبون ، حين يدعون إلى نار جهنم دعا . ويقال لهم : " هذه النار التي كنتم بها تكذبون "
ثم ذكر تعالى النعم والأدلة الدالة على ما جاءت به الرسل ، فقال : " ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا "(1/480)
أي : أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة ، فجعلنا لكم " الأرض مهادا " ، أي : ممهدة مذللة لكم ولمصالحكم ، من الحروث ، والمساكن والسبل . " والجبال أوتادا " تمسك الأرض لئلا تضطرب بكم وتميد . " وخلقناكم أزواجا " ، أي : ذكورا وإناثا ، من جنس واحد ، ليسكن كل منهما إلى الآخر ، فتتكون المودة والرحمة ، وتنشأ عنهما الذرية ، وفي ضمن هذا الامتنان ، بلذة المنكح . " وجعلنا نومكم سباتا " ، أي : راحة لكم ، وقطعا لأشغالكم ، التي متى تمادت بكم ، أضرت بأبدانكم ، فجعل الله الليل والنوم ، يغشى الناس ، لتسكن حركاتهم الضارة ، وتحصل راحتهم النافعة . " وبنينا فوقكم سبعا شدادا " ، أي : سبع سموات ، في غاية القوة ، والصلابة والشدة . وقد أمسكها الله بقدرته ، وجعلها سقفا للأرض ، فيها عدة منافع لهم ، ولهذا ذكر من منافعها الشمس ، فقال : " وجعلنا سراجا وهاجا " نبه بالسراج على النعمة بنورها الذي صار ضرورة للخلق ، وبالوهاج ، وهي : حرارتها ، على ما فيها من الإنضاج والمنافع . " وأنزلنا من المعصرات " ، أي : السحاب " ماء ثجاجا " ، أي : كثيرا جدا . " لنخرج به حبا " من بر وشعير ، وذرة ، وأرز ، وغير ذلك مما يأكله الآدميون . " ونباتا " يشمل سائر النبات ، الذي جعله الله قوتا لمواشيهم . " وجنات ألفافا " ، أي : بساتين ملتفة ، فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة . فالذي أنعم بهذه النعم الجليلة ، التي لا يقدر قدرها ، ولا يحصى عددها كيف تكفرون به ، وتكذبون ما أخبركم به ، من البعث والنشور ؟ أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه ، وتجحدونها ؟
ومن سورة عبس ست عشرة آية(1/481)
قوله تعالى : ? قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً *وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ * ? (عبس : 17-32 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/482)
" قتل الإنسان ما أكفره " لنعمة الله ، وما أشد معاندته للحق ، بعد ما تبين ، وهو ما هو ؟ هو من أضعف الأشياء ، خلقه من ماء مهين ، ثم قدر خلقه ، وسواه بشرا سويا ، وأتقن قواه الظاهرة والباطنة . " ثم السبيل يسره " ، أي : يسر له الأسباب الدينية والدنيوية ، وهداه السبيل ، وبينه وامتحنه بالأمر والنهي . " ثم أماته فأقبره " ، أي : أكرهه بالدفن ، ولم يجعله كسائر الحيوانات ، التي تكون جيفها على وجه الأرض . " ثم إذا شاء أنشره " ، أي : بعثه بعد موته للجزاء . فالله هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التصاريف ، لم يشاركه فيه مشارك . وهو ـ مع هذا ـ لا يقوم بما أمره الله ، ولم يقض ما فرضه عليه ، بل لا يزال مقصرا تحت الطلب . ثم أرشده الله إلى النظر والتفكر في طعامه ، وكيف وصل إليه بعد ما تكررت عليه طبقات عديدة ، ويسره له ، فقال : " فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا " ، أي : أنزلنا المطر على الأرض بكثرة . " ثم شققنا الأرض " للنبات " شقا فأنبتنا فيها " أصنافا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة ، والأقوات الشهية " حبا " ، وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها . " وعنبا وقضبا " وهو القت : " وزيتونا ونخلا " . وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها . " وحدائق غلبا " ، أي : بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة ." وفاكهة وأبا " الفاكهة : ما يتفكه فيه الإنسان ، من تين وعنب وخوخ ورمان ، وغير ذلك . والأب : ما تأكله البهائم والأنعام ، ولهذا قال : " متاعا لكم ولأنعامكم " التي خلقها الله وسخرها لكم . فمن نظر في هذه النعم ، أوجب له ذلك ، شكر ربه ، وبدل الجهد في الإنابة إليه ، والإقبال على طاعته ، والتصديق لأخباره .
ومن سورة الانفطار ثلاث ايات(1/483)
قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ * ? (الإنفطار : 6-8 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى ، معاتبا للإنسان المقصر في حقه ، المتجرىء على معاصيه : " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم " أتهاونا منك في حقوقه ؟ أم احتقارا منك لعذابه ؟ أم عدم إيمان منك بجزائه ؟ أليس هو " الذي خلقك فسواك " في أحسن تقويم ؟ " فعدلك " وركبك تركيبا قويما معتدلا ، في أحسن الأشكال ، وأجمل الهيئات . فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم ، أو تجحد إحسان المحسن ؟ إن هذا إلا من جهلك وظلمك ، وعنادك وغشمك ، فاحمد الله إذ لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار أو نحوهما من الحيوانات . ولهذا قال تعالى : " في أي صورة ما شاء ركبك "
ومن سورة البروج خمس ايات
قوله تعالى : ? إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ*وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * ? (البروج : 12-16 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/484)
" إن بطش ربك لشديد " ، أي : إن عقوبته لأهل الجرائم والذنوب العظام ، لقوية شديدة ، وهو للظالمين بالمرصاد . قال الله تعالى : " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "..." إنه هو يبدئ ويعيد " ، أي : هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته ، فلا يشاركه في ذلك مشارك . " وهو الغفور " الذي يغفر الذنوب جميعها ، لمن تاب ، ويعفو عن السيئات ، لمن استغفره وأناب . " الودود " الذي يحبه أحبابه ، محبة لا يشبهها شيء . فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال ، والمعاني والأفعال ، فمحبته في قلوب خواص خلقه ، التابعة لذلك ، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب . ولهذا كانت محبته أصل العبودية ، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها ، وإن لم يكن غيرها تبعا لها ، كانت عذابا على أهلها . وهو تعالى الودود ، الواد لأحبابه ، كما قال تعالى : " يحبهم ويحبونه " ، والمودة هي المحبة الصافية . وفي هذا سر لطيف ، حيث قرن " الودود " بالغفور ، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب ، إذا تابوا إلى الله وأنابوا ، غفر لهم ذنوبهم ، وأحبهم ، فلا يقال : تغفر ذنوبهم ، ولا يرجع إليهم الود ، كما قال بعض الظالمين . بل الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب ، من رجل على راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، وما يصلحه ، فأضلها في أرض فلاة مهلكة ، فأيس منها ، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت . فبينما هو على تلك الحال ، إذا راحلته على رأسه ، فأخذ بخطامها ، فالله أعظم فرحا بتوبة العبد ، من هذا براحلته ، وهذا أعظم فرح يقدر . فلله الحمد والثناء ، وصفو الوداد ، ما أعظم بره ، وأكثر خيره ، وأغزر إحسانه ، وأوسع امتنانه " ذو العرش المجيد " ، أي : صاحب العرش العظيم ، الذي من عظمته ، أنه وسع السماوات والأرض ، والكرسي . فهي بالنسبة إلى العرش ، كحلقة ملقاة في فلاة ، بالنسبة لسائر الأرض ، وخص الله العرش بالذكر لعظمته ، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه ،(1/485)
وهذا على قراءة الجر ، يكون " المجيد " نعتا للعرش . وأما على قراءة الرفع ، فإنه يكون نعتا لله ، والمجد سعة الأوصاف وعظمتها . " فعال لما يريد " ، أي : مهما أراد شيئا فعله ، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، وليس أحد فعالا لما يريد إلا الله . فإن المخلوقات ، ولو أرادت شيئا ، فإنه لا بد لإرادتها من معاون وممانع ، والله لا معاون لإرادته ، ولا ممانع له ، مما أراد ...
ومن سورة الطارق ست ايات
قوله تعالى : ? فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ * ? (الطارق : 5-10 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/486)
" فلينظر الإنسان مم خلق " ، أي : فليتدبر خلقته ومبدأه ، فإنه " خلق من ماء دافق " ، وهو المني الذي " يخرج من بين الصلب والترائب " ، يحتمل أنه من بين صلب الرجل ، وترائب المرأة ، وهي ثدياها . ويحتمل أن المراد : المني الدافق ، وهو مني الرجل ، وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه وترائبه . ولعل هذا أولى ، فإنه إنما وصف به الماء الدافق ، الذي يحس به ويشاهد دفقه ، وهو مني الرجل . وكذلك لفظ الترائب ، فإنها تستعمل للرجل ، فإن الترائب للرجل ، بمنزلة الثديين للأنثى ، فلو أريد الأنثى ، لقيل : " من الصلب والثديين " ، ونحو ذلك ، والله أعلم . فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق ، يخرج من هذا الموضع الصعب ، قادر على رجعه في الآخرة ، وإعادته للبعث ، والنشور والجزاء . وقد قيل : إن معناه ، أن الله على رجع الماء المدفوق ، في الصلب لقادر ، وهذا المعنى وإن كان صحيحا ، فليس هو المراد من الآية ، ولهذا قال بعده : " يوم تبلى السرائر " ، أي : تختبر سرائر الصدور ، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر ، على صفحات الوجوه كما قال تعالى : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " . ففي الدنيا ، ينكتم كثير من الأشياء ، ولا يظهر عيانا للناس ، وأما يوم القيامة ، فيظهر بر الأبرار ، وفجور الفجار ، وتصير الأمور علانية . وقوله : " فما له من قوة " ، أي : من نفسه يدفع بها " ولا ناصر " من خارج ، ينتصر به ، فهذا القسم على العاملين ، وقت عملهم ، وعند جزائهم .
ومن سورة الأعلى خمس آيات
قوله تعالى :? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى * ? (الأعلى : 1-5 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/487)
يأمر تعالى ، بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته ، والخضوع لجلاله ، والاستكانة لعظمته ، وأن يكون تسبيحا ، يليق بعظمة الله تعالى ، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها العظيم الجليل . وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات ، فسواها ، أي : أتقن وأحسن خلقها . " والذي قدر " تقديرا ، تتبعه جميع المقدرات " فهدى " إلى ذلك جميع المخلوقات . وهذه هي الهداية العامة ، التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته ، وتذكر فيها نعمه الدنيوية ، ولهذا قال : " والذي أخرج المرعى " ، أي : أنزل من السماء ماء ، فأنبت به أصناف النبات ، والعشب الكثير ، فرتع فيه الناس والبهائم ، وجميع الحيوانات . ثم بعد أن استكمل ما قدر له من الشباب ، ألوى نباته ، وصوح عشبه . " فجعله غثاء أحوى " ، أي : أسود ، أي : جعله هشيما رميما ،
ومن سورة الغاشية اربع آيات
قوله تعالى:?أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ *وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * ? (الغاشية : 17- 20)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/488)
يقول تعالى حثا للذين لا يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولغيرهم من الناس ، أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على توحيده : " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " ، أي : ألا ينظرون إلى خلقها البديع ، وكيف سخرها الله للعباد ، وذللها لمنافعهم الكثيرة ، التي يضطرون إليها . " وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت " بهيئة باهرة ، حصل بها الاستقرار للأرض ، وثباتها من الاضطراب ، وأودع فيها من المنافع الجليلة ما أودع . " وإلى الأرض كيف سطحت " ، أي : مدت مدا واسعا ، وسهلت غاية التسهيل ، ليستقر العباد على ظهرها ، ويتمكنوا من حرثها وغراسها ، والبنيان فيها ، وسلوك طرقها . واعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة ، قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها ، كما دل على ذلك النقل والعقل ، والحس والمشاهدة ، كما هو مذكور معروف عند كثير من الناس ، خصوصا في هذه الأزمنة ، التي وقف فيها الناس على أكثر أرجائها ، بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد . فإن التسطيح ، إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدا ، الذي لو سطح ، لم يبق له استدارة تذكر . وأما جسم الأرض الذي هو كبير جدا وواسع ، فيكون كرويا مسطحا ، ولا يتنافى الأمران ، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة .
ومن سورة البلد ثلاث آيات
قوله تعالى: ? أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * ? (البلد : 8-10 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين " للجمال والبصر ، والنطق ، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها ، فهذه نعم الدنيا . ثم قال في نعم الدين : " وهديناه النجدين " ، أي : طريقي الخير والشر ، بينا له الهدى من الضلال ، والرشد من الغي . فهذه المنن الجزيلة ، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله ، ويشكره على نعمه ، وأن لا يستعين بها على معاصي الله ، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك(1/489)
ومن سورة العلق ثماني آيات
قوله تعالى :? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ( 7 ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * ? (العلق :1-8 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
هذه السورة أول السور القرآنية نزولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإنها نزلت في مبادىء النبوة ، إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان . فجاءه جبريل عليه السلام بالرسالة ، وأمره أن يقرأ ، فاعتذر ، وقال : " ما أنا بقارىء " فلم يزل به حتى قرأ . فأنزل الله : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " عموم الخلق . ثم خص الإنسان ، وذكر ابتداء خلقه " من علق " . فالذي خلق الإنسان ، واعتنى بتدبيره ، لا بد أن يدبر بالأمر والنهي ، وذلك بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب . ولهذا أتى بعد الأمر بالقراءة ، بخلقه للإنسان . ثم قال : " اقرأ وربك الأكرم " ، أي : كثير الصفات واسعها ، كثير الكرم والإحسان ، واسع الجود ، الذي من كرمه أن علم أنواع العلوم . و " علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه ، لا يعلم شيئا ، وجعل له السمع والبصر والفؤاد ، ويسر له أسباب العلم . فعلمه القرآن ، وعلمه الحكمة ، وعلمه بالقلم ، الذي به تحفظ العلوم ، وتضبط الحقوق ، وتكون رسلا للناس ، تنوب مناب خطابهم . فلله الحمد والمنة ، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها ، على جزاء ولا شكور . ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق . ولكن الإنسان ـ لجهله وظلمه ـ إذا رأى نفسه غنيا ، طغى وبغى ، وتجبر عن الهدى ، ونسي أن لربه الرجعى ، ولم يخف الجزاء ، بل ربما وصلت به الحال إلى أنه يترك الهدى بنفسه ، ويدعو غيره إلى تركه ، فينهى عن الصلاة التي هي أفضل أعمال الإيمان(1/490)
، يقول الله لهذا المتمرد العاتي : " أرأيت " أيها الناهي للعبد إذا صلى " إن كان " العبد المصلي " على الهدى " العلم بالحق ، والعمل به " أو أمر " غيره " بالتقوى " . فهل يحسن أن ينهى ، من هذا وصفه ؟ أليس نهيه من أعظم المحاده لله ، والمحاربة للحق ؟ فإن النهي لا يتوجه إلا ممن هو في نفسه على غير الهدى ، أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى . " أرأيت إن كذب " الناهي بالحق " وتولى " عن الأمر ، أما يخاف الله ، ويخشى عقابه ؟ " ألم يعلم بأن الله يرى " ما يعمل ويفعل ؟ ثم توعده إن استمر على حاله فقال : " كلا لئن لم ينته " عما يقول ويفعل " لنسفعا بالناصية " ، أي : لنأخذن بناصيته أخذا عنيفا ، وهي حقيقة بذلك ، فإنها " ناصية كاذبة خاطئة " ، أي : كاذبة في قولها ، خاطئة في فعلها . " فليدع " هذا الذي حق عليه العذاب " ناديه " ، أي : أهل مجلسه وأصحابه ، ومن حوله ، ليعينوه على ما نزل به . " سندع الزبانية " ، أي : خزنة جهنم ، لأخذه وعقوبته . فلينظر أي الفريقين أقوى وأقدر ؟ فهذه حالة الناهي ، وما توعد به من العقوبة . وأما حالة المنهي ، فأمره الله أن لا يصغي إلى هذا الناهي ، ولا ينقاد لنهيه ، فقال : " كلا لا تطعه " ، أي : فءنه لا يأمر إلا بما فيه الخسار . " واسجد " لربك " واقترب " منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات ، فإنها كلها تدني من رضاه ، وتقرب منه . وهذا عام لكل ناه عن الخير ، ولكل منهي عنه . وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل ، حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، وعذبه وآذاه .
وسورة الأخلاص كلها
قوله تعالى :? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ *? (الإخلاص : 1- 4 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(1/491)
أي : " قل " قولا جازما به ، معتقدا له ، عارفا بمعناه . " هو الله أحد " ، أي : قد انحصرت فيه الأحدية ، فهو الأحد المنفرد بالكمال ، والذي له الأسماء الحسنى ، والصفات الكاملة العليا ، والأفعال المقدسة ، الذي لا نظير له ولا مثيل . " الله الصمد " ، أي : المقصود في جميع الحوائج . فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غاية الافتقار ، يسألونه حوائجهم ، ويرغبون إليه في مهماتهم ، لأنه الكامل في أوصافه ، العليم الذي قد كمل في علمه . الحليم الذي كمل في حلمه . الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، وهكذا سائر أوصافه . ومن كماله ، أنه " لم يلد ولم يولد " لكمال غناه ، " ولم يكن له كفوا أحد " ، لا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، تبارك وتعالى . فهذه السورة مشتملة على توحيد الأسماء والصفات .
النمط الثاني
في درر القرآن
وهي سبعمائة وإحدى وأربعون آية
من سورة البقرة ست وأربعون آية
قوله تعالى: ? الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * ? (البقرة : 1- 5 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
الحروف المقطعة في أوائل السور الأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها [ من غير مستند شرعي ] مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها ...(1/492)
وقوله : " ذلك الكتاب " أي : هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم والحق المبين" لا ريب فيه " ولا شك بوجه من الوجوه ونفي الريب عنه يستلزم ضده إذ ضد الريب والشك اليقين فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح لا بد أن يكون متضمنا لضده وهو الكمال لأن النفي عدم والعدم المحض لا مدح فيه فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال : " هدى للمتقين " والهدى : ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة وقال : " هدى " وحذف المعمول فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ولا للشيء الفلاني لإرادة العموم وأنه هدى لجميع مصالح الدارين فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية ومبين للحق من الباطل والصحيح من الضعيف ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأخراهم وقال في موضع آخر : " هدى للناس " فعمم وفي هذا الموضع وغيره " هدى للمتقين " لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا ولم يقبلوا هدى الله فقامت عليهم به الحجة ولم ينتفعوا به لشقائهم وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها : اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فاهتدوا به وانتفعوا غاية الانتفاع قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية ولأن الهداية نوعان : هداية البيان وهداية التوفيق فالمتقون حصلت لهم الهدايتان وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية [ تامة ] ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة لتضمن التقوى لذلك فقال : " الذين يؤمنون بالغيب(1/493)
" حقيقة الإيمان : هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل المتضمن لانقياد الجوارح وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر إنما الشأن في الإيمان بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر لأنه تصديق مجرد لله ورسله فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به أو أخبر به رسوله سواء شاهده أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقله وفهمه بخلاف الزنادقة المكذبين للأمور الغيبية ؛ لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم ومرجت أحلامهم وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله ويدخل في الإيمان بالغيب [ الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة وأحوال الآخرة وحقائق أوصاف الله وكيفيتها [ وما أخبرت به الرسل من ذلك ] فيؤمنون بصفات الله ووجودها ويتيقنونها وإن لم يفهموا كيفيتها ثم قال : " ويقيمون الصلاة " لم يقل : يفعلون الصلاة أو يأتون بالصلاة لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة فإقامة الصلاة إقامتها ظاهرا بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها وإقامتها باطنا بإقامة روحها وهو حضور القلب فيها وتدبر ما يقوله ويفعله منها فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " وهي التي يترتب عليها الثواب فلا ثواب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها ثم قال : " ومما رزقناهم ينفقون " يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك ونحو ذلك والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير ولم يذكر المنفق عليه لكثرة أسبابه وتنوع أهله ولأن النفقة من حيث هي قربة إلى الله وأتى ب من الدالة على التبعيض لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم غير ضار لهم ولا مثقل بل ينتفعون(1/494)
هم بإنفاقه وينتفع به إخوانهم وفي قوله : " رزقناهم " إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلة بقوتكم وملككم وإنما هي رزق الله الذي خولكم وأنعم به عليكم فكما أنعم به عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم وواسوا إخوانكم المعدمين وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه فلا إخلاص ولا إحسان ثم قال :" والذين يؤمنون بما أنزل إليك " وهو القرآن والسنة قال تعالى : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه فيؤمنون ببعضه ولا يؤمنون ببعضه إما بجحده أو تأويله على غير مراد الله ورسوله كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم بما حاصله عدم التصديق بمعناها وإن صدقوا بلفظها فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا وقوله" وما أنزل من قبلك " يشمل الإيمان بجميع الكتب السابقة ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه خصوصا التوراة والإنجيل والزبور وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم ثم قال : " وبالآخرة هم يوقنون " والآخرة : اسم لما يكون بعد الموت وخصه [ بالذكر ] بعد العموم لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان ؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل واليقين : هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك الموجب للعمل " أولئك " أي : الموصوفون بتلك الصفات الحميدة " على هدى من ربهم " أي : على هدى عظيم لأن التنكير للتعظيم وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة وهل الهداية [ الحقيقة ] إلا(1/495)
هدايتهم وما سواها [ مما خالفها ] فهو ضلالة وأتى ب على في هذا الموضع الدالة على الاستعلاء وفي الضلالة يأتي ب في كما في قوله : " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى مرتفع به وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر ثم قال : " وأولئك هم المفلحون " والفلاح [ هو ] الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب حصر الفلاح فيهم ؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم وما عدا تلك السبيل فهي سبل الشقاء والهلاك والخسارة التي تفضي بسالكها إلى الهلاك ...
وقوله تعالى : ? (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? (البقرة : 21 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي عل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "(1/496)
هذا أمر لكل الناس بأمر عام وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره فأمرهم تعالى بما خلقهم له قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " ثم استدل على وجوب عبادته وحده بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم فخلقكم بعد العدم وخلق الذين من قبلكم وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والسلوك من محل إلى محل وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها وجعل السماء بناء لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم كالشمس والقمر والنجوم " وأنزل من السماء ماء " والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب فأنزل منه تعالى ماء " فأخرج به من الثمرات " كالحبوب والثمار من نخيل وفواكه [ وزروع ] وغيرها " رزقا لكم " به ترتزقون وتقوتون وتعيشون وتفكهون " فلا تجعلوا لله أندادا " أي : نظراء وأشباها من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله وتحبونهم كما تحبونه وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا ينفعونكم ولا يضرون " وأنتم تعلمون " أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه ...
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة من سواه وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك فكذلك فليكن الإقرار بأن [ الله ] ليس له شريك في العبادة وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري وبطلان الشرك ...(1/497)
وقوله تعالى : " لعلكم تتقون " يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده اتقيتم بذلك سخطه وعذابه لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى وكلا المعنيين صحيح وهما متلازمان فمن أتى بالعبادة كاملة كان من المتقين ومن كان من المتقين حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه ...
وقوله تعالى :? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * ? ( البقرة 40 - 46 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين "(1/498)
" يا بني إسرائيل " المراد بإسرائيل : يعقوب عليه السلام والخطاب مع فرق بني إسرائيل الذين بالمدينة وما حولها ويدخل فيهم من أتى من بعدهم فأمرهم بأمر عام فقال : " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها والمراد بذكرها بالقلب اعترافا وباللسان ثناء وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه " وأوفوا بعهدي " وهو ما عهده إليهم من الإيمان به وبرسله وإقامة شرعه " أوف بعهدكم " وهو المجازاة على ذلك ؛ والمراد بذلك : ما ذكره الله في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (المائدة : 12 )...ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده وهو الرهبة منه تعالى وخشيته وحده فإن من خشية أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه ثم أمرهم بالأمر الخاص الذي لا يتم إيمانهم ولا يصح إلا به فقال : " وآمنوا بما أنزلت " وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالإيمان به واتباعه ويستلزم ذلك الإيمان بمن أنزل عليه وذكر الداعي لإيمانهم به فقال :" مصدقا لما معكم " أي : موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب غير مخالف لها فلا مانع لكم من الإيمان به لأنه جاء بما جاءت به المرسلون فأنتم أولى من آمن به وصدق به لكونكم أهل الكتب والعلم وأيضا فإن في قوله : " مصدقا لما معكم " إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به عاد ذلك عليكم بتكذيب ما معكم لأن ما جاء(1/499)
به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء فتكذيبكم له تكذيب لما معكم وأيضا فإن في الكتب التي بأيديكم صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به فإن لم تؤمنوا به كذبتم ببعض ما أنزل إليكم ومن كذب ببعض ما أنزل إليه فقد كذب بجميعه كما أن من كفر برسول فقد كذب الرسل جميعهم فلما أمرهم بالإيمان به نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال : " ولا تكونوا أول كافر به " أي : بالرسول والقرآن وفي قوله : " أول كافر به " أبلغ من قوله : ( ولا تكفروا به ) لأنهم إذا كانوا أول كافر به كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به عكس ما ينبغي منهم وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم ثم ذكر المانع لهم من الإيمان وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية فقال : " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل التي يتوهمون انقطاعها إن آمنوا بالله ورسوله فاشتروها بآيات الله واستحبوها وآثروها " وإياي " أي : لا غيري " فاتقون " فإنكم إذا اتقيتم الله وحده أوجبت لكم تقواه تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم ثم قال :(1/500)
" ولا تلبسوا " أي : تخلطوا " الحق بالباطل وتكتموا الحق " فنهاهم عن شيئين عن خلط الحق بالباطل وكتمان بيان الحق ؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم تمييز الحق من الباطل وإظهار الحق ليهتدي بذلك المهتدون ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين ؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته ليميز الحق من الباطل ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين فمن عمل بهذا من أهل العلم فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم ومن لبس الحق بالباطل فلم يميز هذا من هذا مع علمه بذلك وكتم الحق الذي يعلمه وأمر بإظهاره فهو من دعاة جهنم لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين ثم قال : " وأقيموا الصلاة " أي : ظاهرا وباطنا " وآتوا الزكاة " مستحقيها " واركعوا مع الراكعين " أي : صلوا مع المصلين فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة وبين الإخلاص للمعبود والإحسان إلى عبيده وبين العبادات القلبية والبدنية والمالية وقوله :" واركعوا مع الراكعين " أي : صلوا مع المصلين ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبر عن الصلاة بالركوع والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها ..." أتأمرون الناس بالبر " أي : بالإيمان والخير " وتنسون أنفسكم " أي : تتركونها عن أمرها بذلك والحال : " وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " وأسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير وينعقل به عما يضره وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به وأول تارك لما ينهى عنه فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله أو نهاه عن الشر فلم يتركه دل على عدم عقله وجهله خصوصا إذا كان عالما بذلك قد قامت عليه الحجة وهذه الآية وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن(2/1)
تقولوا ما لا تفعلون " وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين : أمر غيره ونهيه وأمر نفسه ونهيها فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين والنقص الكامل أن يتركهما وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة ...
" واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون "
أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها والصبر عن معصية الله حتى يتركها والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور ومن يتصبر يصبره الله وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان وتنهي عن الفحشاء والمنكر يستعان بها على كل أمر من الأمور " وإنها " أي : الصلاة " لكبيرة " أي : شاقة " إلا على الخاشعين " فإنها سهلة عليهم خفيفة ؛ لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشية من العقاب بخلاف من لم يكن كذلك فإنه لا داعي له يدعوه إليها وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه والخشوع هو : خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا وإيمانا به وبلقائه ولهذا قال : " الذين يظنون " أي : يستيقنون(2/2)
" إنهم ملاقوا ربهم " فيجازيهم بأعمالهم " وأنهم إليه راجعون " فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات ونفس عنهم الكربات وزجرهم عن فعل السيئات فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات وأما من لم يؤمن بلقاء ربه كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه ...
وقوله تعالى :? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? (البقرة : 74 - 75 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/3)
" ثم قست قلوبكم " أي : اشتدت وغلظت فلم تؤثر فيها الموعظة " من بعد ذلك " أي : من بعد ما أنعم الله عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم لأن ما شاهدتم مما يوجب رقة القلب وانقياده ثم وصف قسوتها بأنها " كالحجارة " التي هي أشد قسوة من الحديد لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ذاب بخلاف الأحجار ... وقوله : " أو أشد قسوة " أي : إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار وليست أو بمعنى بل ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم فقال : " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله " فبهذه الأمور فضلت قلوبكم ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال : " وما الله بغافل عما تعملون " بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل ونزلوا عليها الآيات القرآنية وجعلوها تفسيرا لكتاب الله محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ... والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ولا منزلة على كتاب الله فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم... فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها معاني لكتاب الله مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل والله الموفق...
" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون "(2/4)
هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب أي : فلا تطمعوا في إيمانهم وحالتهم لا تقتضي الطمع فيهم فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه فيضعون له معاني ما أرادها الله ليوهموا الناس أنها من عند الله وما هي من عند الله فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله فكيف يرجى منهم إيمان لكم ؟ ! فهذا من أبعد الأشياء ...
وقوله تعالى : ? وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ? (البقرة : 83 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون "
وهذه الشرائع من أصول الدين التي أمر الله بها في كل شريعة لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان فلا يدخلها نسخ كأصل الدين ولهذا أمرنا الله بها في قوله : " (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء : 36 )(2/5)
فقوله : " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل " هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به استعصوا ؛ فلا يقبلونه إلا بالإيمان الغليظة والعهود الموثقة " لا تعبدون إلا الله " هذا أمر بعبادة الله وحده ونهي عن الشرك به وهذا أصل الدين فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها فهذا حق الله تعالى على عباده ثم قال : " وبالوالدين إحسانا " أي : أحسنوا بالوالدين إحسانا وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين أو عدم الإحسان والإساءة لأن الواجب الإحسان والأمر بالشيء نهي عن ضده وللإحسان ضدان : الإساءة وهي أعظم جرما وترك الإحسان بدون إساءة وهذا محرم لكن لا يجب أن يلحق بالأول وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى والمساكين وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد بل تكون بالحد كما تقدم(2/6)
ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما فقال : " وقولوا للناس حسنا " ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليمهم العلم وبذل السلام والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق وهو الإحسان بالقول فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار ولهذا قال تعالى : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله غير فاحش ولا بذيء ولا شاتم ولا مخاصم بل يكون حسن الخلق واسع الحلم مجاملا لكل أحد صبورا على ما يناله من أذى الخلق امتثالا لأمر الله ورجاء لثوابه ثم أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد " ثم " بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل عرف أن من إحسان الله إلى عباده أن أمرهم بها وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليهم ثم " توليتم " على وجه الإعراض لأن المتولي قد يتولى وله نية رجوع إلى ما تولى عنه وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر فنعوذ بالله من الخذلان وقوله : " إلا قليلا منكم " هذا استثناء لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم فأخبر أن قليلا منهم عصمهم الله وثبتهم ..
وقوله تعالى : ? (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ? (البقرة : 112 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "(2/7)
أي : قال اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ؛ وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى... فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم ، وهذا مجرد أماني غير مقبولة إلا بحجة وبرهان فأتوا بها إن كنتم صادقين ...وهكذا كل من ادعى دعوى لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه وإلا فلو قلبت عليه دعواه وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها ولما لم يكن بأيديهم برهان علم كذبهم بتلك الدعوى .. ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد فقال : " بلى " أي : ليس بأمانيكم ودعاويكم ولكن " من أسلم وجهه لله " أي : أخلص لله أعماله متوجها إليه بقلبه " مع إخلاصه " محسن " في عبادة ربه بأن عبده بشرعه فأولئك هم أهل الجنة وحدهم فلهم أجرهم عند ربهم وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " فحصل لهم المرغوب ونجوا من المرهوب ويفهم منها أن من ليس كذلك فهو من أهل النار الهالكين فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول
وقوله تعالى : ? َاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ*وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ *? ( البقرة 152- 157 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/8)
" فاذكروني أذكركم " .. أمر تعالى بذكره ووعده عليه أفضل جزاء وهو ذكره لمن ذكره كما قال تعالى على لسان رسوله : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ... وذكر الله تعالى أفضله ما تواطأ عليه القلب واللسان وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته وكثرة ثوابه والذكر هو رأس الشكر فلهذا أمر به خصوصا ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال : " واشكروا لي " أي : على ما أنعمت عليكم بهذه النعم ودفعت عنكم صنوف النقم والشكر يكون بالقلب إقرارا بالنعم واعترافا وباللسان ذكرا وثناء وبالجوارح طاعة لله وانقيادا لأمره واجتنابا لنهيه فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة وزيادة في النعم المفقودة قال تعالى : " لئن شكرتم لأزيدنكم " وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال بيان أنها أكبر النعم بل هي النعم الحقيقية التي تدوم إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل أن يشكروا الله على ذلك ليزيدهم من فضله وليندفع عنهم الإعجاب فيشتغلوا بالشكر ولما كان الشكر ضده الكفر نهى عن ضده فقال : " ولا تكفرون "....(2/9)
المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر فهو كفر النعم وجحدها وعدم القيام بها ويحتمل أن يكون المعنى عاما فيكون الكفر أنواعا كثيرة أعظمه الكفر بالله ثم أنواع المعاصي على اختلاف أنواعها وأجناسها من الشرك فما دونه ..." يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين "أمر الله تعالى المؤمنين بالاستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية " بالصبر والصلاة " فالصبر هو : حبس النفس وكفها على ما تكره فهو ثلاثة أقسام : صبرها على طاعة الله حتى تؤديها وعن معصية الله حتى تتركها وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر وتجرع المرارة الشاقة فإذا لازم صاحبها الصبر فاز بالنجاح وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها لم يدرك شيئا وحصل على الحرمان وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى واستعانة بالله على العصمة منها فإنها من الفتن الكبار وكذلك البلاء الشاق خصوصا إن استمر فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية ويوجد مقتضاها وهو التسخط إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله والتوكل عليه واللجأ إليه والافتقار على الدوام فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد بل مضطر في كل حالة من أحواله فلهذا أمر الله تعالى به وأخبر أنه " مع الصابرين " أي : مع من كان الصبر لهم خلقا وصفة وملكة بمعونته وتوفيقه وتسديده فهانت عليهم بذلك المشاق والمكاره وسهل عليهم كل عظيم وزالت عنهم كل صعوبة وهذه معية خاصة تقتضي محبته ومعونته ونصره وقربه وهذه [ منقبة عظيمة ] للصابرين فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية من الله لكفى بها فضلا وشرفا وأما المعية العامة فهي معية العلم(2/10)
والقدرة كما في قوله تعالى : " وهو معكم أين ما كنتم " وهذه عامة للخلق وأمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي عماد الدين ونور المؤمنين وهي الصلة بين العبد وبين ربه فإذا كانت صلاة العبد صلاة كاملة مجتمعا فيها ما يلزم فيها وما يسن وحصل فيها حضور القلب الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها استشعر دخوله على ربه ووقوفه بين يديه موقف العبد الخادم المتأدب مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه لا جرم أن هذه الصلاة من أكبر المعونة على جميع الأمور فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة يوجب للعبد في قلبه وصفا وداعيا يدعوه إلى امتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل شيء(2/11)
" ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " لما ذكر تبارك وتعالى الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأمور ذكر نموذجا مما يستعان بالصبر عليه وهو الجهاد في سبيله وهو أفضل الطاعات البدنية وأشقها على النفوس لمشقته في نفسه ولكونه مؤديا للقتل وعدم الحياة التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها فكل ما يتصرفون به فإنه سعي لها ودفع لما يضادها ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم فأخبر تعالى : أن من قتل في سبيله بأن قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر لا لغير ذلك من الأغراض فإنه لم تفته الحياة المحبوبة بل حصل له حياة أعظم وأكمل مما تظنون وتحسبون فالشهداء " أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى وتمتعهم برزقه البدني من المأكولات والمشروبات اللذيذة والرزق الروحي وهو الفرح والاستبشار وزوال كل خوف وحزن وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش وفي هذه الآية أعظم حث على الجهاد في سبيل الله وملازمة الصبر عليه فلو شعر العباد بما للمقتولين في سبيل الله من الثواب لم يتخلف عنه أحد ولكن عدم العلم اليقيني التام هو الذي فتر العزائم وزاد نوم النائم وأفات الأجور العظيمة والغنائم لم لا يكون كذلك والله تعالى قد : " اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون " فوالله لو كان للإنسان ألف نفس تذهب نفسا فنفسا في سبيل الله لم يكن عظيما في جانب هذا الأجر(2/12)
العظيم ولهذا لا يتمنى الشهداء بعدما عاينوا من ثواب الله وحسن جزائه إلا أن يردوا إلى الدنيا حتى يقتلوا في سبيله مرة بعد مرة ... وفي الآية دليل على نعيم البرزخ وعذابه كما تكاثرت بذلك النصوص.
" ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون "
أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن ليتبين الصادق من الكاذب والجازع من الصابر وهذه سنته تعالى في عباده ؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ولم يحصل معها محنة لحصل الاختلاط الذي هو فساد وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر هذه فائدة المحن لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان ولا ردهم عن دينهم فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده " بشيء من الخوف " من الأعداء " والجوع " أي : بشيء يسير منهما ؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله أو الجوع لهلكوا والمحن تمحص لا تهلك " ونقص من الأموال " وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية وغرق وضياع وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة وقطاع الطريق وغير ذلك " والأنفس " أي : ذهاب الأحباب من الأولاد والأقارب والأصحاب ومن أنواع الأمراض في بدن العبد أو بدن من يحبه " والثمرات " أي : الحبوب وثمار النخيل والأشجار كلها والخضر ؛ ببرد أو برد أو حرق أو آفة سماوية من جراد ونحوه فهذه الأمور لا بد أن تقع لأن العليم الخبير أخبر بها فوقعت كما أخبر فإذا وقعت انقسم الناس قسمين : جازعين وصابرين فالجازع حصلت له المصيبتان فوات المحبوب وهو وجود هذه المصيبة وفوات ما هو أعظم منها وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر ففاز بالخسارة والحرمان ونقص ما معه من الإيمان وفاته الصبر والرضا والشكران وحصل ] له [ السخط الدال على شدة النقصان وأما من وفقه الله(2/13)
للصبر عند وجود هذه المصائب فحبس نفسه عن التسخط قولا وفعلا واحتسب أجرها عند الله وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له بل المصيبة تكون نعمة في حقه لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها فقد امتثل أمر الله وفاز بالثواب فلهذا قال تعالى : " وبشر الصابرين " أي : بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة والمنحة الجسيمة ثم وصفهم بقوله : " الذين إذا أصابتهم مصيبة " وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره " قالوا إنا لله " أي : مملوكون لله مدبرون تحت أمره وتصريفه فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء فإذا ابتلانا بشيء منها فقد تصرف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم فلا اعتراض عليه بل من كمال عبودية العبد علمه بأن وقوع البلية من المالك الحكيم الذي أرحم بعبده من نفسه فيوجب له ذلك الرضا عن الله والشكر له على تدبيره لما هو خير لعبده وإن لم يشعر بذلك ومع أننا مملوكون لله فإنا إليه راجعون يوم المعاد فمجاز كل عامل بعمله فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفرا عنده وإن جزعنا وسخطنا لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر فكون العبد لله وراجع إليه من أقوى أسباب الصبر " أولئك " الموصوفون بالصبر المذكور " عليهم صلوات من ربهم " أي : ثناء وتنويه بحالهم " ورحمة " عظيمة ومن رحمته إياهم أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر .." وأولئك هم المهتدون " الذين عرفوا الحق وهو في هذا الموضع علمهم بأنهم لله وأنهم إليه راجعون وعملوا به وهو هنا صبرهم لله ودلت هذه الآية على أن من لم يصبر فله ضد ما لهم فحصل له الذم من الله والعقوبة والضلال والخسارة فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين وأعظم عناء الجازعين فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها لتخف وتسهل إذا وقعت وبيان ما تقابل به إذا وقعت وهو الصبر وبيان ما(2/14)
يعين على الصبر وما للصابر من الأجر ويعلم حال غير الصابر بضد حال الصابر وأن هذا الابتلاء والامتحان سنة الله التي قد خلت ولن تجد لسنة الله تبديلا وبيان أنواع المصائب .
وقوله تعالى : ? (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌِ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ?) (البقرة : 168 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون "(2/15)
هذا خطاب للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض من حبوب وثمار وفواكه وحيوانات حالة كونها " حلالا " أي : محللا لكم تناوله ليس بغصب ولا سرقة ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم أو معينا على محرم " طيبا " أي : ليس بخبيث كالميتة والدم ولحم الخنزير والخبائث كلها ففي هذه الآية دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة أكلا وانتفاعا وأن المحرم نوعان : إما محرم لذاته وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب وإما محرم لما عرض له وهو المحرم لتعلق حق الله أو حق عباده به وهو ضد الحلال وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب يأثم تاركه لظاهر الأمر ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع " خطوات الشيطان " أي : طرقة التي يأمر بها وهي جميع المعاصي من كفر وفسوق وظلم ويدخل في ذلك تحريم السوائب والحام ونحو ذلك ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة " إنه لكم عدو مبين " أي : ظاهر العداوة فلا يريد بأمركم إلا غشكم وأن تكونوا من أصحاب السعير فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين - بعداوته الداعية للحذر منه ثم لم يكتف بذلك حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به وأنه أقبح الأشياء وأعظمها مفسدة فقال : " إنما يأمركم بالسوء " أي : الشر الذي يسوء صاحبه فيدخل في ذلك جميع المعاصي فيكون قوله : " والفحشاء " من باب عطف الخاص على العام لأن الفحشاء من المعاصي ما تناهى قبحه كالزنا وشرب الخمر والقتل والقذف والبخل ونحو ذلك مما يستفحشه من له عقل " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " فيدخل في ذلك القول على الله بلا علم في شرعه وقدره فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو نفى عنه ما أثبته لنفسه أو أثبت له ما نفاه عن نفسه فقد قال على الله بلا علم ومن زعم أن لله ندا وأوثانا تقرب من عبدها من الله فقد قال على الله بلا علم ومن(2/16)
قال : إن الله أحل كذا أو حرم كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا بغير بصيرة فقد قال على الله بلا علم ومن قال : إن الله خلق هذا الصنف من المخلوقات للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك فقد قال على الله بلا علم ومن أعظم القول على الله بلا علم أن يتأول المتأول كلامه أو كلام رسوله على معاني اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال ثم يقول : إن الله أرادها فالقول على الله بلا علم من أكبر المحرمات وأشملها وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده ويبذلون مكرهم وخداعهم على إغواء الخلق بما يقدرون عليه ...
وأما الله تعالى فإنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فلينظر العبد نفسه مع أي : الداعيين هو ومن أي : الحزبين ؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية الذي كل الفلاح بطاعته وكل الفوز في خدمته وجميع الأرباح في معاملته المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الذي لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عن الشر أم تتبع داعي الشيطان الذي هو عدو الإنسان الذي يريد لك الشر ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة ؟ الذي كل الشر في طاعته وكل الخسران في ولايته الذي لا يأمر إلا بشر ولا ينهى إلا عن خير ..(2/17)
وقوله تعالى : ? (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ?) (البقرة : 177 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " أي : ليس هذا هو البر المقصود من العباد فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ونحو ذلك " ولكن البر من آمن بالله " أي : بأنه إله واحد موصوف بكل صفة كمال منزه عن كل نقص " واليوم الآخر " وهو كل ما أخبر الله به في كتابه أو أخبر به الرسول مما يكون بعد الموت " والملائكة " الذين وصفهم الله لنا في كتابه ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم " والكتاب " أي : جنس الكتب التي أنزلها الله على رسله وأعظمها القرآن فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام " والنبيين " عموما ، وخصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم " وآتى المال " وهو كل ما يتموله الإنسان من مال قليلا كان أو كثيرا أي : أعطى المال " على حبه " أي : حب المال بين به أن المال محبوب للنفوس فلا يكاد يخرجه العبد(2/18)
فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى كان هذا برهانا لإيمانه ومن إيتاء المال على حبه أن يتصدق وهو صحيح شحيح يأمل الغنى ويخشى الفقر وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة كانت أفضل لأنه في هذه الحال يحب إمساكه لما يتوهمه من العدم والفقر وكذلك إخراج النفيس من المال وما يحبه من ماله كما قال تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه ثم ذكر المنفق عليهم وهم أولى الناس ببرك وإحسانك من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم وتفرح بسرورهم الذين يتناصرون ويتعاقلون فمن أحسن البر وأوفقه تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي على حسب قربهم وحاجتهم ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم وليس لهم قوة يستغنون بها وهذا من رحمته [ تعالى ] بالعباد الدالة على أنه تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده فالله قد أوصى العباد وفرض عليهم في أموالهم الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره رحم يتيمه " والمساكين "(2/19)
: وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء بما يدفع مسكنتهم أو يخففها بما يقدرون عليه وبما يتيسر " وابن السبيل " : وهو الغريب المنقطع به في غير بلده فحث الله عباده على إعطائه من المال ما يعينه على سفره لكونه مظنة الحاجة وكثرة المصارف فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته وخوله من نعمته أن يرحم أخاه الغريب الذي بهذه الصفة على حسب استطاعته ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها " والسائلين " أي : الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج توجب السؤال كمن ابتلي بأرش جناية أو ضريبة عليه من ولاة الأمور أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة كالمساجد والمدارس والقناطر ونحو ذلك فهذا له حق وإن كان غنيا " وفي الرقاب " فيدخل فيه العتق والإعانة عليه وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة " وأقام الصلاة وآتى الزكاة "(2/20)
قد تقدم مرارا أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة لكونهما أفضل العبادات وأكمل القربات عبادات قلبية وبدنية ومالية وبهما يوزن الإيمان ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " والعهد : هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه فدخل في ذلك حقوق الله كلها لكون الله ألزم بها عباده والتزموها ودخلوا تحت عهدتها ووجب عليهم أداؤها وحقوق العباد التي أوجبها الله عليهم والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور ونحو ذلك " والصابرين في البأساء " أي : الفقر ؛ لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم وإن جاع أو جاعت عياله تألم وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم وإن عري أو كاد تألم وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم فكل هذه ونحوها مصائب يؤمر بالصبر عليها والاحتساب ورجاء الثواب من الله عليها " والضراء " أي : المرض على اختلاف أنواعه من حمى وقروح ورياح ووجع عضو حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك ؛ لأن النفس تضعف والبدن يألم وذلك في غاية المشقة على النفوس خصوصا مع تطاول ذلك فإنه يؤمر بالصبر احتسابا لثواب الله [ تعالى ] " وحين البأس " أي : وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم لأن الجلاد يشق غاية المشقة على النفس ويجزع الإنسان من القتل أو الجراح أو الأسر فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا ورجاء لثواب الله [ تعالى ] الذي منه النصر والمعونة التي وعدها الصابرين " أولئك " أي : المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة والأعمال التي هي آثار الإيمان وبرهانه ونوره والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقته الإنسانية فأولئك هم " الذين صدقوا " في إيمانهم لأن أعمالهم صدقت إيمانهم " وأولئك هم المتقون(2/21)
" ؛ لأنهم تركوا المحظور وفعلوا المأمور ؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير تضمنا ولزوما لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات ومن قام بها كان بما سواها أقوم فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون ...
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? (البقرة : 194-195 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين "(2/22)
يقول تعالى : " الشهر الحرام بالشهر الحرام " يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية عن الدخول لمكة وقاضوهم على دخولها من قابل وكان الصد والقضاء في شهر حرام وهو ذو القعدة فيكون هذا بهذا فيكون فيه تطييب لقلوب الصحابة بتمام نسكهم وكماله ويحتمل أن يكون المعنى : إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد قاتلوكم فيه وهم المعتدون فليس عليكم في ذلك حرج وعلى هذا فيكون قوله : " " "والحرمات قصاص " من باب عطف العام على الخاص أي : كل شيء يحترم من شهر حرام أو بلد حرام أو إحرام أو ما هو أعم من ذلك جميع ما أمر الشرع باحترامه فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه فمن قاتل في الشهر الحرام قوتل ومن هتك البلد الحرام أخذ منه الحد ولم يكن له حرمة ومن قتل مكافئا له قتل به ومن جرحه أو قطع عضوا منه اقتص منه ومن أخذ مال غيره المحترم أخذ منه بدله ولكن هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم لا خلاف بين العلماء الراجح من ذلك أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالضيف إذا لم يقره غيره والزوجة والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة [ من الإنفاق عليه ] فإنه يجوز أخذه من ماله وإن كان السبب خفيا كمن جحد دين غيره أو خانه في وديعة أو سرق منه ونحو ذلك فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له جمعا بين الأدلة ولهذا قال تعالى تأكيدا وتقوية لما تقدم : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " هذا تفسير لصفة المقاصة وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي ولما كانت النفوس في الغالب لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها لتشفي أمر تعالى بلزوم تقواه التي هي الوقوف عند حدوده وعدم تجاوزها وأخبر تعالى أنه " مع المتقين " أي : بالعون والنصر والتأييد والتوفيق ومن كان الله معه حصل له السعادة الأبدية ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه وخذله فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من(2/23)
حبل الوريد
" وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله وهي كل طرق الخير من صدقة على مسكين أو قريب أو أنفاق على من تجب مؤنته وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله فإن النفقة فيه جهاد بالمال وهو فرض كالجهاد بالبدن وفيها من المصالح العظيمة الإعانة على تقوية المسلمين وعلى توهية الشرك وأهله وعلى إقامة دين الله وإعزازه فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة فالنفقة له كالروح لا يمكن وجوده بدونها وفي ترك الإنفاق في سبيل الله إبطال للجهاد وتسليط للأعداء وشدة تكالبهم فيكون قوله تعالى : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " كالتعليل لذلك والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين : ترك ما أمر به العبد إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة فمن ذلك ترك الجهاد في سبيل الله أو النفقة فيه الموجب لتسلط الأعداء ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف أو محل مسبعة أو حيات أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك فهذا ونحوه ممن ألقى بيده إلى التهلكة .. ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله واليأس من التوبة ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض التي تركها هلاك للروح والدين ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان أمر بالإحسان عموما فقال :(2/24)
" وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان لأنه لم يقيده بشيء دون شيء فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم ويدخل فيه الإحسان بالجاه بالشفاعات ونحو ذلك ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به ويدخل في الإحسان أيضا الإحسان في عبادة الله تعالى وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فمن اتصف بهذه الصفات كان من الذين قال الله فيهم : " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? (البقرة : 218 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/25)
هذه الأعمال الثلاثة هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران: فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة وأهل الجنة من أهل النار ؟ وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل ولا فرض ولا نفل ... وأما الهجرة : فهي مفارقة المحبوب المألوف لرضا الله تعالى فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقربا إلى الله ونصرة لدينه ... وأما الجهاد : فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء والسعي التام في نصرة دين الله وقمع دين الشيطان وهو ذروة الأعمال الصالحة وجزاؤه أفضل الجزاء وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ... فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة وأما الرجاء المقارن للكسل وعدم القيام بالأسباب فهذا عجز وتمن وغرور وهو دال على ضعف همة صاحبه ونقص عقله بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح ووجود الغلة بلا بذر وسقي ونحو ذلك وفي قوله : " أولئك يرجون رحمة الله " إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها ويعول عليها بل يرجو رحمة ربه ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه ولهذا قال : " والله غفور " أي : لمن تاب توبة نصوحا " رحيم " وسعت رحمته كل شيء وعم جوده وإحسانه كل حي وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة حصل له مغفرة الله إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله وإذا حصلت له المغفرة اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة التي هي آثار الذنوب التي قد غفرت واضمحلت آثارها وإذا حصلت له الرحمة حصل(2/26)
على كل خير في الدنيا والآخرة ؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم فلولا توفيقه إياهم لم يريدوها ولولا إقدارهم عليها لم يقدروا عليها ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم فله الفضل أولا وآخرا وهو الذي من بالسبب والمسبب ...
وقوله تعالى : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ? (البقرة : 235 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم " أي : فانووا الخير ولا تنووا الشر خوفا من عقابه ورجاء لثوابه " واعلموا أن الله غفور " لمن صدرت منه الذنوب فتاب منها ورجع إلى ربه " حليم " حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم مع قدرته عليهم
وقوله تعالى : ? (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? (البقرة : 261- 262 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/27)
هذا حث عظيم من الله لعباده على إنفاق أموالهم في سبيله وهو طريقه للوصول إليه فيدخل في هذا إنفاقه في ترقية العلوم النافعة وفي الاستعداد للجهاد في سبيله وفي تجهز المجاهدين وتجهيزهم وفي جميع المشاريع الخيرية النافعة للمسلمين ويلي ذلك الإنفاق على المحتاجين والفقراء والمساكين وقد يجتمع الأمران فيكون في النفقة دفع الحاجات والإعانة على الخير والطاعات فهذه النفقات مضاعفة هذه المضاعفة بسبعمائة إلى أضعاف أكثر من ذلك ولهذا قال والله يضاعف لمن يشاء وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان والإخلاص التام وفي ثمرات نفقته ونفعها فإن بعض طرق الخيرات يترتب على الإنفاق فيها منافع متسلسلة ومصالح متنوعة فكان الجزاء من جنس العمل ثم أيضا ذكر ثوابا آخر للمنفقين أموالهم في سبيله نفقة صادرة مستوفية لشروطها منتفية موانعها فلا يتبعون المنفق عليه منا منهم عليه وتعدادا للنعم وأذية له قولية أو فعلية فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم بحسب ما يعلمه منه وبحسب نفقاتهم ونفعها وبفضله الذي لا تناله ولا تصل إليه صدقاتهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فنفى عنهم المكروه الماضي بنفي الحزن والمستقبل بنفي الخوف عليهم فقد حصل لهم المحبوب واندفع عنهم المكروه
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ *وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * ? ( البقرة 278 - 281 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/28)
إن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها وذلك لشناعته ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شرطها وانتفاء موانعها وليس فيها حجة للخوارج كغيرها من آيات الوعيد فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من الإيمان من النار ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار إن لم يتب منها ثم أخبر تعالى أنه يمحق مكاسب المرابين ويربي صدقات المنفقين عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله تعالى : ( وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره فالمتجرىء على الربا ) يعاقبه بنقيض مقصوده وهذا مشاهد بالتجربة و من أصدق من الله قيلا " والله لا يحب كل كفار " أثيم وهو الذي كفر نعمة الله وجحد منة ربه وأثم بإصراره على معاصيه ومفهوم الآية أن الله يحب من كان شكورا على النعماء تائبا من المآثم والذنوب ثم أدخل هذه الآية بين آيات الربا وهي قوله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة الآية لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية تكميل الإيمان وحقوقه خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وإن الزكاة إحسان إلى الخلق ينافي تعاطي الربا الذي هو ظلم لهم وإساءة عليهم ثم وجه الخطاب للمؤمنين وأمرهم أن يتقوه ويذروا ما بقي من معاملات الربا التي كانوا يتعاطونها قبل ذلك وأنهم إن لم يفعلوا ذلك فإنهم محاربون لله ورسوله وهذا من أعظم ما يدل على شناعة الربا حيث جعل المصر عليه محاربا لله ورسوله ثم قال " وإن تبتم " يعني من المعاملات الربوية " فلكم رؤوس أموالكم "..." لا تظلمون " الناس بأخذ الربا " ولا تظلمون " ببخسكم رؤوس أموالكم فكل من تاب من الربا فإن كانت معاملات سالفة فله ما سلف وأمره(2/29)
منظور فيه وإن كانت معاملات موجودة وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله فإن أخذ زيادة فقد تجرأ على الربا وفي هذه الآية بيان لحكمة تحريم الربا وأنه يتضمن الظلم للمحتاجين بأخذ الزيادة وتضاعف الربا عليهم وهو واجب إنظارهم ولهذا قال " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " أي وإن كان الذي عليه الدين معسرا لا يقدر على الوفاء وجب على غريمه أن ينظره إلى ميسرة وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح أن يوفي ما عليه وإن تصدق عليه غريمه بإسقاط الدين كله أو بعضه فهو خير له ويهون على العبد التزام الأمور الشرعية واجتناب المعاملات الربوية والإحسان إلى المعسرين علمه بأن له يوما يرجع فيه إلى الله ويوفيه عمله ولا يظلمه مثقال ذرة كما ختم هذه الآية بقوله " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "(2/30)
وقوله تعالى : ? لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * ? ( البقرة 284 - 286 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير "(2/31)
يخبر تعالى بعموم ملكه لأهل السماء والأرض وإحاطة علمه بما أبداه العباد وما أخفوه في أنفسهم وأنه سيحاسبهم به " فيغفر لمن يشاء " وهو المنيب إلى ربه الأواب إليه إنه كان للأوابين غفورا ويعذب من يشاء وهو المصر على المعاصي في باطنه وظاهره وهذه الآية لا تنافي الأحاديث الواردة في العفو عما حدث به العبد نفسه ما لم يعمل أو يتكلم فتلك الخطرات هي التي تتحدث بها النفوس التي لا يتصف بها العبد ولا يصمم عليها وأما هنا فهي العزائم المصممة والأوصاف الثابتة في النفوس أوصاف الخير وأوصاف الشر ولهذا قال ما في أنفسكم أي استقر فيها وثبت من العزائم والأوصاف وأخبر أنه " على كل شيء قدير " فمن تمام قدرته محاسبة الخلائق وإيصال ما يستحقونه من الثواب والعقاب
" آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين "(2/32)
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن من قرأ هاتين الآيتين في ليلته كفتاه أي من جميع الشرور وذلك لما احتوتا عليه من المعاني الجليلة فإن الله أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان بجميع أصوله في قوله قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية وأخبر في هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم 1 ومن معه من المؤمنين آمنوا بهذه الأصول العظيمة وبجميع الرسل وجميع الكتب ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض وكفر ببعض كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة وفي قرن المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم والإخبار عنهم جميعا بخبر واحد شرف عظيم للمؤمنين وفيه أنه صلى الله عليه وسلم مشارك للأمة في الخطاب الشرعي له وقيامه التام به وأنه فاق المؤمنين بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه وقوله وقالوا سمعنا وأطعنا هذا التزام من المؤمنين عام لجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة وأنهم سمعوه سماع قبول وإذعان وانقياد ومضمون ذلك تضرعهم إلى الله في طلب الإعانة على القيام به وأن الله يغفر لهم ما قصروا فيه من الواجبات وما ارتكبوه من المحرمات وكذلك تضرعوا إلى الله في هذه الأدعية النافعة والله تعالى قد أجاب دعاءهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقال قد فعلت فهذه الدعوات مقبولة من مجموع المؤمنين قطعا ومن أفرادهم إذا لم يمنع من ذلك مانع في الأفراد وذلك أن الله رفع عنهم المؤاخذة في الخطأ والنسيان وأن الله سهل عليهم شرعه غاية التسهيل ولم يحملهم من المشاق والآصار والأغلال ما حمله على من قبلهم ولم يحملهم فوق طاقتهم وقد غفر لهم ورحمهم ونصرهم عى القوم الكافرين فنسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته وبما من به علينا من التزام دينه أن يحقق لنا ذلك وأن ينجز لنا ما وعدنا على لسان نبيه وأن يصلح أحوال المؤمنين ويؤخذ من هنا قاعدة التيسير ونفي الحرج في أمور الدين كلها وقاعدة العفو عن النسيان والخطأ في العبادات وفي حقوق(2/33)
الله تعالى وكذلك في حقوق الخلق من جهة رفع المأثم وتوجه الذم وأما وجوب ضمان المتلفات خطأ أو نسيانا في النفوس والأموال فإنه مرتب على الإتلاف بغير حق وذلك شامل لحالة الخطأ والنسيان والعمد .
? قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى
ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الاَيتين الكريمتين نفعنا الله بهما
(الحديث الأول) ـ قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير, أخبرنا شعبة عن سليمان, عن إبراهيم, عن عبد الرحمن, عن ابن مسعود, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "من قرأ الاَيتين" وحدثنا أبو نعيم: حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد, عن أبي مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ بالاَيتين ـ من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" وقد أخرجه بقية الجماعة عن طريق سليمان بن مهران الأعمش بإسناده مثله وهو في الصحيحين من طريق الثوري, عن منصور, عن إبراهيم, عن عبد الرحمن عنه به, وهو في الصحيحين أيضاً عن عبد الرحمن, عن علقمة, عن ابن مسعود, قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود فحدثني به, وهكذا رواه أحمد بن حنبل, حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا شريك, عن عاصم, عن المسيب بن رافع, عن علقمة, عن ابن مسعود, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "من قرأ الاَيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه".
(الحديث الثاني) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا حسين, حدثنا شيبان, عن منصور, عن ربعي, عن خرشة بن الحر, عن المعرور بن سويد, عن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي" قد رواه ابن مردويه من حديث الأشجعي, عن الثوري, عن منصور, عن ربعي, عن زيد بن ظبيان, عن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش".(2/34)
(الحديث الثالث) ـ قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو أسامة, حدثنا مالك بن مغول (ح) وحدثنا ابن نمير وزهير بن حرب, جميعاً عن عبد الله بن نمير, وألفاظهم متقاربة, قال ابن نمير: حدثنا أبي, حدثنا مالك ابن مغول عن الزبير بن عدي, عن طلحة, عن مرة, عن عبد الله, قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم, انتهى به إلى سدرة المنتهى, وهي في السماء السابعة, إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها, وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها, قال {إذ يغشى السدرة ما يغشى} قال: فراش من ذهب, قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس, وأعطي خواتيم سورة البقرة, وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات.
(الحديث الرابع) قال أحمد حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرأ الاَيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش" هذا إسناد حسن ولم يخرجوه في كتبهم.
(الحديث الخامس) ـ قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل, حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي, أخبرنا مروان, أنبأنا ابن عوانة عن أبي مالك, عن ربعي, عن حذيفة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث أوتيت هذه الاَيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش, لم يعطها أحد قبلي, ولا يعطاها أحد بعدي" ثم رواه من حديث نعيم بن أبي هند عن ربعي عن حذيفة بنحوه.(2/35)
(الحديث السادس) ـ قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن نافع, أنبأنا إسماعيل بن الفضل, أخبرنا محمد بن بزيع, أخبرنا جعفر بن عون عن مالك بن مغول, عن أبي إسحاق, عن الحارث, عن علي, قال: لا أرى أحداً عقل الإسلام ينام حتى يقرأ خواتيم سورة البقرة, فإنها من كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت العرش, ورواه وكيع في تفسيره عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عمير بن عمرو المخارقي, عن علي, قال: ما أرى أحداً يعقل, بلغه الإسلام, ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة, فإنها من كنز تحت العرش.
(الحديث السابع) ـ قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن الجرمي, عن أبي قلابة, عن أبي الأشعث الصنعاني, عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام, أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة, ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقر بها شيطان" ثم قال: هذا حديث غريب, وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به وقال: صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
(الحديث الثامن) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين, أخبرنا الحسن بن الجهم, أخبرنا إسماعيل بن عمرو, أخبرنا ابن مريم, حدثني يوسف بن أبي الحجاج, عن سعيد, عن ابن عباس, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال: "إنهما من كنز الرحمن تحت العرش" وإذا قرأ {ومن يعمل سوءاً يجزبه} {وأن ليس للإنسان إلا ماسعى, وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الأوفى} استرجع واستكان.(2/36)
(الحديث التاسع) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي, حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة, حدثنا محمد بن بكر, حدثنا مكي بن إبراهيم, حدثنا عبد الله بن أبي حميد, عن أبي مليح, عن معقل بن يسار, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة".
(الحديث العاشر) ـ قد تقدم في فضائل الفاتحة من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه, فرفع جبريل بصره إلى السماء, فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة, لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته رواه مسلم والنسائي وهذا لفظه.
فقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, قال ابن جرير: حدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة, قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لما نزلت عليه هذه الاَية "ويحق له أن يؤمن" وقد روى الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو النضر الفقيه, حدثنا معاذ بن نجدة القرشي, حدثنا خلاد بن يحيى, حدثنا أبو عقيل عن يحيى بن أبي كثير, عن أنس بن مالك, قال: لما نزلت هذه الاَية على النبي صلى الله عليه وسلم {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حق له أن يؤمن", ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(2/37)
وقوله {والمؤمنون} عطف على الرسول, ثم أخبر عن الجميع فقال {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد, فرد صمد, لا إله غيره, ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء, لا يفرقون بين أحد منهم, فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض, بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير, وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم, خاتم الأنبياء والمرسلين, الذين تقوم الساعة على شريعته, ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين, وقوله {وقالوا سمعنا وأطعنا} أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه, وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه, {غفرانك ربنا} سؤال للمغفرة والرحمة واللطف, قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا ابن فضل عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قول الله {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ـ إلى قوله ـ غفرانك ربنا} قال: قد غفرت لكم {وإليه المصير} أي المرجع والمآب يوم الحساب. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن بيان, عن حكيم, عن جابر, قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} قال جبريل: إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه, فسأل {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} إلى آخر هذه الأية, وقوله {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} أي لا يكلف أحداً فوق طاقته, وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم, وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} أي هو وإن حاسب وسأل, لكن لا يعذب إلا بما(2/38)
يملك الشخص دفعه, فأما مالا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها, فهذا لا يكلف به الإنسان, وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان, وقوله {لها ما كسبت} أي من خير {وعليها ما اكتسبت} أي من شر وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف. ثم قال تعالى مرشداً عباده إلى سؤاله, وقد تكفل لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} أي إن تركنا فرضاً على جهة النسيان, أو فعلنا حراماً كذلك, أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي. وقد تقدم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة, قال "قال الله: نعم" ولحديث ابن عباس, قال الله "قد فعلت". وروى ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي, عن عطاء¹ قال ابن ماجه في روايته عن ابن عباس, وقال الطبراني وابن حبان, عن عطاء, عن عبيد بن عمير, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد روي من طريق آخر وأعله أحمد وأبو حاتم, والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا أبو بكر الهذلي, عن شهر, عن أم الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان, والاستكراه" قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن, فقال: أجل, أما تقرأ بذلك قرآناً {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.(2/39)
وقوله {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والاَصار التي كانت عليهم, التي بعثت نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم, نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح, وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "قال الله: نعم" وعن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "قال الله قد فعلت". وجاء في الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالحنيفية السمحة".
وقوله {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به, وقد قال مكحول في قوله {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: العزبة والغلمة, رواه ابن أبي حاتم, قال الله: نعم, وفي الحديث الاَخر: قال الله: قد فعلت.
وقوله {واعف عنا} أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا {واغفر لنا} أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة {وارحمنا} أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر, ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه, وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم, وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره. وقد تقدم في الحديث أن الله قال: نعم, وفي الحديث الاَخر: قال الله: قد فعلت.(2/40)
وقوله {أنت مولانا} أي أنت ولينا وناصرنا, وعليك توكلنا, وأنت المستعان, وعليك التكلان, ولا حول لنا ولا قوة إلا بك, {فانصرنا على القوم الكافرين} أي الذين جحدوا دينك, وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك, وعبدوا غيرك وأشركوا معك من عبادك, فانصرنا عليهم, واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والاَخرة, قال الله: نعم. وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس, قال الله: قد فعلت. وقال ابن جرير: حدثني مثنى بن إبراهيم, حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن أبي إسحاق أن معاذاً رضي الله عنه, كان إذا فرغ من هذه السورة {فانصرنا على القوم الكافرين} قال: آمين. ورواه وكيع عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن رجل, عن معاذ بن جبل, أنه كان إذا ختم البقرة قال: آمين.
ومن سورة آل عمران أربع وثلاثون آية
قوله تعالى :? هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ * ? (آل عمران : 7- 9 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/41)
يخبر تعالى عن عظمته وكمال قيوميته أنه هو الذي تفرد بإنزال هذا الكتاب العظيم الذي لم يوجد ولن يوجد له نظير أو مقارب في هدايته وبلاغته وإعجازه وإصلاحه للخلق وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين الذي لا يشتبه بغيره ومنه آيات متشابهات تحتمل بعض المعاني ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها حتى تضم إلى المحكم فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف لسوء قصدهم يتبعون المتشابه منه فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة وآرائهم الزائفة طلبا للفتنة وتحريفا لكتابه وتأويلا له على مشاربهم ومذاهبهم ليضلوا ويضلوا وأما أهل العلم الراسخون فيه الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم فأثمر لهم العمل والمعارف فيعلمون أن القرآن كله من عند الله وأنه كله حق محكمه ومتشابهه وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان يردون إليها المشتبه الذي تحصل فيه الحيرة لناقص العلم وناقص المعرفة فيردون المتشابه إلى المحكم فيعود كله محكما ويقولون آمنا به كل من عند ربنا " وما يذكر " للأمور النافعة والعلوم الصائبة إلا " أولوا الألباب " أي : أهل العقول الرزينة ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب وأن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة والعقول الواهية والقصود السيئة وقوله وما يعلم تأويله إلا الله إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور وما تنتهي إليه وتؤول تعين الوقوف على إلا الله حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى وإن أريد بالتأويل معنى التفسير ومعرفة معنى الكلام كان العطف أولى فيكون هذا مدحا للراسخين في العلم أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة محكمها ومتشابهها ولما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين ومستقيمين دعوا الله تعالى أن يثبتهم على الإيمان فقالوا " ربنا لا تزغ قلوبنا " أي : لا تملها عن الحق إلى الباطل بعد إذ هديتنا " وهب لنا من لدنك رحمة "(2/42)
تصلح بها أحوالنا " إنك أنت الوهاب " أي : كثير الفضل والهبات وهذه الآية تصلح مثالا للطريقة التي يتعين سلوكها في المتشابهات وذلك أن الله تعالى ذكر عن الراسخين أنهم يسألونه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم وقد أخبر في آيات أخر عن الأسباب التي بها تزيغ قلوب أهل الانحراف وأن ذلك بسبب كسبهم كقوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة فالعبد إذا تولى عن ربه ووالى عدوه ورأى الحق فصدف عنه ورأى الباطل فاختاره ولاه الله ما تولى لنفسه وأزاغ قبله عقوبة له على زيغه وما ظلمه الله ولكنه ظلم نفسه فلا يلم إلا نفسه الأمارة بالسوء والله أعلم ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد هذا من تتمة كلام الراسخين في العلم وهو يتضمن الإقرار بالبعث والجزاء واليقين التام وأن الله لا بد أن يوقع ما وعد به وذلك يستلزم موجبه ومقتضاه من العمل والاستعداد لذلك اليوم فإن الإيمان بالبعث والجزاء أصل صلاح القلوب وأصل الرغبة في الخير والرهبة من الشر اللذين هما أساس الخيرات ...(2/43)
وقوله تعالى :? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ * ? (آل عمران : 14 - 17 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد "(2/44)
أخبر تعالى في هاتين الآيتين عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة وبين التفاوت العظيم والفرق الجسيم بين الدارين فأخبر أن الناس زينت لهم هذه الأمور فرمقوها بالأبصار واستحلوها بالقلوب وعكفت على لذاتها النفوس كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع قد جعلوها هي أكبر همهم ومبلغ علمهم وهي مع هذا متاع قليل منقض في مدة يسيرة فهذا متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ثم أخبر عن ذلك بأن المتقين لله القائمين بعبوديته لهم خير من هذه اللذات فلهم أصناف الخيرات والنعيم المقيم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولهم رضوان الله الذي هو أكبر من كل شيء ولهم الأزواج المطهرة من كل آفة ونقص جميلات الأخلاق كاملات الخلائق لأن النفي يستلزم ضده فتطهيرها عن الآفات مستلزم لوصفها بالكمالات والله بصير بالعباد فييسر كلا منهم لما خلق له أما أهل السعادة فييسرهم للعمل لتلك الدار الباقية ويأخذون من هذه الحياة الدنيا ما يعينهم على عبادة الله وطاعته وأما أهل الشقاوة والإعراض فيقيضهم لعمل أهل الشقاوة ويرضون بالحياة الدنيا ويطمئنون بها ويتخذونها قرارا
" الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار "(2/45)
أي : هؤلاء الراسخون في العلم أهل العلم بالإيمان يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم لمغفرة ذنوبهم ووقايتهم عذاب النار )وهذا من الوسائل التي يحبها الله أن يتوسل العبد إلى ربه بما من به عليه من الإيمان والأعمال الصالحة إلى تكميل نعم الله عليه بحصول الثواب الكامل واندفاع العقاب ثم وصفهم بأجمل الصفات بالصبر الذي هو حبس النفوس على ما يحبه الله طلبا لمرضاته يصبرون على طاعة الله ويصبرون عن معاصيه ويصبرون على أقداره المؤلمة ( وبالصدق بالأقوال والأحوال وهو استواء الظاهر والباطن وصدق العزيمة على سلوك الصراط المستقيم وبالقنوت الذي هو دوام الطاعة مع مصاحبة الخشوع والخضوع وبالنفقات ) في سبل الخيرات وعلى الفقراء وأهل الحاجات وبالاستغفار خصوصا وقت الأسحار فإنهم : مدوا الصلاة إلى وقت السحر فجلسوا يستغفرون الله تعالى...
وقوله تعالى : ? لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ *? (آل عمران : 28 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/46)
هذا نهي من الله وتحذير للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض والله وليهم ومن يفعل ذلك التولي فليس من الله في شيء أي فهو بريء من الله والله بريء منه كقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقوله إلا أن تتقوا منهم تقاة أي إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين فلكم في هذه الحال الرخصة في المسالمة والمهادنة لا في التولي الذي هو محبة القلب الذي تتبعه النصرة ويحذركم الله نفسه أي فخافوه واخشوه وقدموا خشيته على خشية الناس فإنه هو الذي يتولى شؤون العباد وقد أخذ بنواصيهم وإليه يرجعون وسيصيرون إليه فيجازي من قدم حقوقه ورجاءه على غيره بالثواب الجزيل ويعاقب الكافرين ومن تولاهم بالعذاب الوبيل
وقوله تعالى : ? (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ? (آل عمران : 31- 32 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى مجردة فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقا إلى محبته ورضوانه فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما فمن فعل ذلك أحبه الله وجازاه جزاء المحبين وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه فكأنه قيل ومع ذلك فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها فأجاب بقوله:( قل أطيعوا الله والرسول) بامتثال الأمر واجتناب النهي وتصديق الخير فإن تولوا عن ذلك فهذا هو الكفر ( والله لا يحب الكافرين) ...(2/47)
وقوله تعالى :? (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ? (آل عمران : 83 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون "
هذا إخبار منه تعالى أنه أخذ عهد النبيين وميثاقهم كلهم بسبب ما أعطاهم ومن به عليهم من الكتاب والحكمة المقتضي للقيام التام بحق الله وتوفيته إنه إن جاءهم رسول مصدق لما معهم بما بعثوا به من التوحيد والحق والقسط والأصول التي اتفقت عليها الشرائع أنهم يؤمنون به وينصرونه فأقروا على ذلك واعترفوا والتزموا وأشهدهم وشهد عليهم وتوعد من خالف هذا الميثاق وهذا أمر عام بين الأنبياء إن جميعهم طريقهم واحد وأن دعوة كل واحد منهم قد اتفقوا وتعاقدوا عليها وعموم ذلك أنه أخذ على جميعهم الميثاق بالإيمان والنصرة لمحمد صلى الله عليه وسلم فمن ادعى أنه من أتباعهم فهذا دينهم الذي أخذه الله عليهم وأقروا به واعترفوا فمن تولى عن اتباع محمد ممن يزعم أنه من أتباعهم فإنه فاسق خارج عن طاعة الله مكذب للرسول الذي يزعم أنه من أتباعه مخالف لطريقه وفي هذا إقامة الحجة والبرهان على كل من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتب والأديان وأنه لا يمكنهم الإيمان برسلهم الذين يزعمون أنهم أتباعهم حتى يؤمنوا بإمامهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم ... " أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ؟...
? وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى(2/48)
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي أنزل به كتبه, وأرسل به رسله, وهو عبادة الله وحده لا شريك له, الذي {له أسلم من في السموات والأرض} أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً, كما قال تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} الاَية, وقال تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله, والكافر مستسلم لله كرهاً, فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع, وقد ورد حديث في تفسير هذه الاَية على معنى آخر فيه غرابة, فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن النضر العسكري, حدثنا سعيد بن حفص النفيلي, حدثنا محمد بن محصن العكاشي, حدثنا الأوزاعي, عن عطاء بن أبي رباح, عن النبي صلى الله عليه وسلم {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً}, "أما من في السموات فالملائكة, وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام, وأما كرهاً فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون". وقد ورد في الصحيح "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" وسيأتي له شاهد من وجه آخر, ولكن المعنى الأول للاَية أقوى, وقد قال وكيع في تفسيره, حدثنا سفيان عن منصور, عن مجاهد {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} قال: هو كقوله {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} وقال أيضاً: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} قال: حين أخذ الميثاق, {وإليه يرجعون} أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله(2/49)
وقوله تعالى :? لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ? (آل عمران : 92 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يعني لنا تنالوا وتدركوا البر الذي هو اسم جامع للخيرات وهو الطريق الموصل إلى الجنة " حتى تنفقوا مما تحبون " من أطيب أموالكم وأزكاها فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس من أكبر الأدلة على سماحة النفس واتصافها بمكارم الأخلاق ورحمتها ورقتها ومن أول الدلائل على محبة الله وتقديم محبته على محبة الأموال التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها فمن آثر محبة الله على محبة نفسه فقد بلغ الذروة العليا من الكمال وكذلك من أنفق الطيبات وأحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا لا تحصل بدون هذه الحالة وأيضا فمن قام بهذه النفقة على هذا الوجه كان قيامه ببقية الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة من طريق الأولى والأحرى ومع أن النفقة من الطيبات هي أكمل الحالات فمهما أنفق العبد من نفقة قليلة أو كثيرة من طيب أو غيره .." فإن الله به عليم " وسيجزي كل منفق بحسب عمله سيجزيه في الدنيا بالخلف العاجل وفي الآخرة بالنعيم الآجل .(2/50)
وقوله تعالى : ? َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * ? ( آل عمران 102 - 103 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون "
" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم "(2/51)
هذه الآيات فيها حث الله عباده المؤمنين أن يقوموا بشكر نعمه العظيمة بأن يتقوه حق تقواه وأن يقوموا بطاعته وترك معصيته مخلصين له بذلك وأن يقيموا دينهم ويستمسكوا بحبله الذي أوصله إليهم وجعله السبب بينهم وبنيه وهو دينه وكتابه والاجتماع على ذلك وعدم التفرق وأن يستديموا ذلك إلى الممات وذكرهم ما هم عليه قبل هذه النعمة وهو أنهم كانوا أعداء متفرقين فجمعهم بهذا الدين وألف بين قلوبهم وجعلهم إخوانا وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم من الشقاء ونهج بهم طريق السعادة .." كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون " إلى شكر الله والتمسك بحبله وأمرهم بتتميم هذه الحالة والسبب الأقوى الذي يتمكنون به من إقامة دينهم بأن يتصدى منهم طائفة يحصل فيها الكفاية " يدعون إلى الخير " وهو الدين أصوله وفروعه وشرائعه
" ويأمرون بالمعروف " وهو ما عرف حسنه شرعا وعقلا " وينهون عن المنكر " وهو ما عرف قبحه شرعا وعقلا " وأولئك هم المفلحون " المدركون لكل مطلوب الناجون من كل مرهوب ويدخل في هذه الطائفة أهل العلم والتعليم والمتصدون للخطابة ووعظ الناس عموما وخصوصا والمحتسبون الذين يقومون بإلزام الناس بإقامة الصلوات وإيتاء الزكاة والقيام بشرائع الدين وينهونهم عن المنكرات فكل من دعا الناس إلى خير على وجه العموم أو على وجه الخصوص أو قام بنصيحة عامة أو خاصة فإنه داخل في هذه الآية الكريمة ثم نهاهم عن سلوك مسلك المتفرقين الذين جاءهم الدين والبينات الموجب لقيامهم به واجتماعهم فتفرقوا " واختلفوا " وصاروا شيعا ولم يصدر ذلك عن جهل وضلال وإنما صدر عن علم وقصد سيىء وبغي من بعضهم على بعض ولهذا قال : " وأولئك لهم عذاب عظيم "(2/52)
وقوله تعالى: ? لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ? (آل عمران : 113 - 117 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين "
لما ذكر الله المنحرفين من أهل الكتاب بين حالة المستقيمين منهم وأن منهم أمة مقيمين لأصول الدين وفروعه " يؤمنون بالله واليوم الآخر "..." ويأمرون بالمعروف " وهو الخير كله " وينهون عن المنكر " وهو جميع الشر كما قال تعالى : " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون "(2/53)
و يسارعون في الخيرات والمسارعة إلى الخيرات قدر زائد على مجرد فعلها فهو وصف لهم بفعل الخيرات والمبادرة إليها وتكميلها بكل ما تم به من واجب ومستحب ثم بين تعالى أن كل ما فعلوه من خير قليل أو كثير فإن الله سيقبله حيث كان صادرا عن إيمان وإخلاص فلن يكفروه يعني لن ينكر ما عملوه ولن يهدر والله عليم بالمتقين وهم الذين قاموا بالخيرات وتركوا المحرمات لقصد رضا الله وطلب ثوابه
" إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون "
بين تعالى أن الكفار والذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله أنه لا ينقذهم من عذاب الله منقذ ولا ينفعهم نافع ولا يشفع لهم عند الله شافع وأن أموالهم وأولادهم التي كانوا يعدونها للشدائد والمكاره لا تفيدهم شيئا وأن نفقاتهم التي أنفقوها في الدنيا لنصر باطلهم ستضمحل وأن مثلها كمثل حرث أصابته ريح شديدة فيها صر أي : برد شديد أو نار محرقة فأهلكت ذلك الحرث وذلك بظلمهم فلم يظلمهم الله ويعاقبهم بغير ذنب وإنما ظلموا أنفسهم وهذه كقوله تعالى : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون "...
وقوله تعالى : ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ? (آل عمران : 128 - 129 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون "(2/54)
لما أصيب صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته وشج في رأسه جعل يقول كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أن الأمر كله لله وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء لأنه عبد من عبيد الله والجميع تحت عبودية ربهم مدبرون لا مدبرون وهؤلاء الذين دعوت عليهم أيها الرسول أو استبعدت فلاحهم وهدايتهم إن شاء الله تاب عليهم ووفقهم للدخول في الإسلام وقد فعل فإن أكثر أولئك هداهم الله فأسلموا وإن شاء الله عذبهم فإنهم ظالمون مستحقون لعقوبات الله وعذابه
" ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم "
يخبر تعالى أنه هو المتصرف في العالم العلوي والسفلي وأنه يتوب على من يشاء )فيغفر له ويخذل من يشاء فيعذبه " والله غفور رحيم " فمن صفته اللازمة كمال المغفرة والرحمة ووجود مقتضياتهما في الخلق والأمر يغفر للتائبين ويرحم من قام بالأسباب الموجبة للرحمة ...
وقوله تعالى : ? وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * ? (آل عمران : 133 - 136 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/55)
ترك المعاصي ينجي من النار ويقي من سخط الجبار وأفعال الخير والطاعة توجب رضا الرحمن ودخول الجنان وحصول الرحمة ولهذا قال : " وأطيعوا الله والرسول " بفعل الأوامر وامتثالها واجتناب النواهي " لعلكم ترحمون " فطاعة الله وطاعة رسوله من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى : " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة "
ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض فكيف بطولها التي أعدها الله للمتقين فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها ثم وصف المتقين وأعمالهم فقال : " الذين ينفقون في السراء والضراء " أي : في عسرهم ويسرهم إن أيسروا أكثروا من النفقة وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قلَّ.. " والكاظمين الغيظ " أي : إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم - وهو امتلاء قلوبهم من الحنق الموجب للانتقام بالقول والفعل - هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم .." والعافين عن الناس " يدخل في العفو عن الناس العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل والعفو أبلغ من الكظم لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة وتخلى عن الأخلاق الرذيلة وممن تاجر مع الله وعفا عن عباد الله رحمة بهم وإحسانا إليهم وكراهة لحصول الشر عليهم وليعفو الله عنه ويكون أجره على ربه الكريم لا على العبد الفقير كما قال تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " ثم ذكر حالة أعم من غيرها وأحسن وأعلى وأجل وهي الإحسان فقال : " والله يحب المحسنين " والإحسان نوعان : الإحسان في عبادة الخالق والإحسان إلى المخلوق ؛ فالإحسان في عبادة الخالق فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وأما الإحسان إلى المخلوق فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم ودفع(2/56)
الشر الديني والدنيوي عنهم فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليم جاهلهم ووعظ غافلهم والنصيحة لعامتهم وخاصتهم والسعي في جمع كلمتهم وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات فمن قام بهذه الأمور فقد قام بحق الله وحق عبيده ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم فقال : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " أي : صدر منهم أعمال سيئة كبيرة أو ما دون ذلك بادروا إلى التوبة والاستغفار وذكروا ربهم وما توعد به العاصين ووعد به المتقين فسألوه المغفرة لذنوبهم والستر لعيوبهم مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها فلهذا قال : " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ".." أولئك " الموصوفون بتلك الصفات " جزاؤهم مغفرة من ربهم " تزيل عنهم كل محذور " وجنات تجري من تحتها الأنهار " فيها من النعيم المقيم والبهجة والحبور والبهاء والخير والسرور والقصور والمنازل الأنيقة العاليات والأشجار المثمرة البهية والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات " خالدين فيها " لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلا ولا يغير ما هم فيه من النعيم " ونعم أجر العاملين " عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا فعند الصباح يحمد القوم السري وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفرا ...(2/57)
وهذه الآيات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة على أن الأعمال تدخل في الإيمان خلافا للمرجئة وجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية التي في سورة الحديد نظير هذه الآيات وهي قوله تعالى : " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله " فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله وهنا قال : " أعدت للمتقين " ثم وصف المتقين بهذه الأعمال المالية والبدنية فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون ...
وقوله تعالى:? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ? (آل عمران : 145 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين "(2/58)
يقول تعالى : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " أي : ليس ببدع من الرسل بل هو من جنس الرسل الذين قبله وظيفتهم تبليغ رسالة ربهم وتنفيذ أوامره ليسوا بمخلدين وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله بل الواجب على الأمم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال ولهذا قال : " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " بترك ما جاءكم به من إيمان أو جهاد أو غير ذلك قال تعالى : " ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " إنما يضر نفسه وإلا فالله تعالى غني عنه وسيقيم دينه ويعز عباده المؤمنين فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه مدح من ثبت مع رسوله وامتثل أمر ربه فقال : " وسيجزي الله الشاكرين "والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى على كل حال وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه فقد رئيس ولو عظم وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه إذا فقد أحدهم قام به غيره وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله والجهاد عنه بحسب الإمكان لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم وتستقيم أمورهم ...
وفي هذه الآية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين ...(2/59)
ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها معلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه فمن حتم عليه بالقدر أن يموت مات ولو بغير سبب ومن أراد بقاءه فلو وقع من الأسباب كل سبب لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى : " إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ما تعلقت به إراداتهم فقال : " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها " قال الله تعالى : " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا "" وسنجزي الشاكرين " ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر قلة وكثرة وحسنا ....
وقوله تعالى:? (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ? (آل عمران : 159 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : برحمة الله لك ولأصحابك من الله عليك أن ألنت لهم جانبك وخفضت لهم جناحك وترققت عليهم وحسنت لهم خلقك فاجتمعوا عليك وأحبوك وامتثلوا أمرك " ولو كنت فظا "(2/60)
أي : سيىء الخلق " غليظ القلب " أي : قاسيه " لانفضوا من حولك " لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيىء فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدنيا تجذب الناس إلى دين الله وترغبهم فيه مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين وتبغضهم إليه مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول فكيف بغيره ؟ ! أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة ومعاملة الناس بما كان يعاملهم به صلى الله عليه وسلم من اللين وحسن الخلق والتأليف امتثالا لأمر الله وجذبا لعباد الله لدين الله ثم أمره تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم ويستغفر لهم في التقصير في حق الله فيجمع بين العفو والإحسان... " وشاورهم في الأمر " أي : الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره : منها : أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله ومنها : أن فيها تسميحا لخواطرهم وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث فإن من له الأمر على الناس - إذا جمع أهل الرأي : والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث - اطمأنت إليه نفوسهم وأحبوه وعلموا أنه ليس يستبد عليهم وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته لعلمهم بسعيه في مصالح العموم بخلاف من ليس كذلك فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة ومنها : أن في الاستشارة تنور الأفكار بسبب إعمالها فيما وضعت له فصار في ذلك زيادة للعقول ومنها : ما تنتجه الاستشارة من الرأي : المصيب فإن المشاور لا يكاد يخطىء في فعله وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب فليس بملوم فإذا كان الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل الناس عقلا وأغزرهم علما وأفضلهم رأيا -(2/61)
: " وشاورهم في الأمر " فكيف بغيره ؟ ! ثم قال تعالى : " فإذا عزمت " أي : على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه إن كان يحتاج إلى استشارة " فتوكل على الله " أي : اعتمد على حول الله وقوته متبرئا من حولك وقوتك " إن الله يحب المتوكلين " عليه اللاجئين إليه
وقوله تعالى : ? (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ? (آل عمران : 180 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/62)
أي : ولا يظن الذي يبخلون أي : يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله من المال والجاه والعلم وغير ذلك مما منحهم الله وأحسن إليهم به وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده فبخلوا بذلك وأمسكوه وضنوا به على عباد الله وظنوا أنه خير لهم بل هو شر لهم في دينهم ودنياهم وعاجلهم وآجلهم " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " أي : يجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح إن البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يأخذ بلهزميه يقول : أنا مالك أنا كنزك وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك هذه الآية فهؤلاء حسبوا أن بخلهم نافعهم ومجد عليهم فانقلب عليهم الأمر وصار من أعظم مضارهم وسبب عقابهم " ولله ميراث السماوات والأرض " أي : هو تعالى ملك الملك وترد جميع الأملاك إلى مالكها وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ولا دينار ولا غير ذلك من المال قال تعالى : " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون " وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب النهائي الموجب كل واحد منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله ... أخبر أولا : أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة ليس ملكا للعبد بل لولا فضل الله عليه وإحسانه لم يصل إليه منه شيء فمنعه ذلك منع لفضل الله وإحسانه ؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى : " وأحسن كما أحسن الله إليك ".. فمن تحقق أن ما بيده هو فضل من الله لم يمنع الفضل الذي لا يضره بل ينفعه في قلبه وماله وزيادة إيمانه وحفظه من الآفات ؛ ثم ذكر ثانيا : أن هذا الذي بيد العباد كله يرجع إلى الله ويرثه تعالى وهو خير الوارثين فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك ؛ ثم ذكر ثالثا : السبب الجزائي فقال :(2/63)
" والله بما تعملون خبير "... فإذا كان خبيرا بأعمالكم جميعا - ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات والعقوبات على الشر - لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به الثواب ولا يرضى بالإمساك الذي به العقاب.
وقوله تعالى : ? (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? (آل عمران : 188 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " أي : من القبائح والباطل القولي والفعلي " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " أي : بالخير الذي لم يفعلوه والحق الذي لم يقولوه فجمعوا بين فعل الشر وقوله والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " أي : بمحل نجوة منه وسلامة بل قد استحقوه وسيصيرون إليه ولهذا قال : " ولهم عذاب أليم " ويدخل في هذه الآية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم ولم ينقادوا للرسول وزعموا أنهم المحقون في حالهم ومقالهم وكذلك كل من ابتدع بدعة قوليه أو فعلية وفرح بها ودعا إليها وزعم أنه محق وغيره مبطل كما هو الواقع من أهل البدع ودلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة أنه غير مذموم بل هذا من الأمور المطلوبة التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين في الأعمال والأقوال وأنه جازى بها خواص خلقه وسألوها منه كما قال إبراهيم عليه السلام : " واجعل لي لسان صدق في الآخرين "... وقال : " سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين " وقد قال عباد الرحمن : " واجعلنا للمتقين إماما " وهي من نعم الباري على عبده ومننه التي تحتاج إلى الشكر ...(2/64)
وقوله تعالى : ? (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ? (آل عمران : 200 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
حض الله تعالى المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح - وهو : الفوز بالسعادة والنجاح وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر الذي هو حبس النفس على ما تكرهه من ترك المعاصي ومن الصبر على المصائب وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس فأمرهم بالصبر على جميع ذلك والمصابرة هي : الملازمة والاستمرار على ذلك على الدوام ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال والمرابطة : وهو لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه وأن يراقبوا أعداءهم ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم لعلهم يفلحون : يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي وينجون من المكروه كذلك فعلم من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات فلم يفلح من أفلح إلا بها ولم يفت أحد الفلاح إلا بالإخلال بها أو ببعضها والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا به ...
ومن سورة النساء تسع وخمسون آية
قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? (النساء : 1 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/65)
افتتح تعالى هذه السورة ، بالأمر بتقواه ، والحث على عبادته ، والأمر بصلة الأرحام ، والحث على ذلك . وبين السبب الداعي ، الموجب لكل من ذلك ، وأن الموجب لتقواه أنه " ربكم الذي خلقكم " ورزقكم ، ورباكم بنعمه العظيمة ، التي من جملتها خلقكم " من نفس واحدة وخلق منها زوجها " ليناسبها ، فيسكن إليها ، وتتم بذلك النعمة ، ويحصل به السرور . وكذلك ، من الموجب الداعي لتقواه ، تساؤلكم به ، وتعظيمكم . حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم ، توسلتم به ، بالسؤال . فيقول من يريد ذلك لغيره : أسألك بالله ، أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه ، من تعظيم الله الداعي ، أن لا يرد من سأله بالله . فكما عظمتموه بذلك ، فلتعظموه بعبادته وتقواه . وكذلك الإخبار بأنه رقيب ، أي : مطلع على العباد ، في حال حركاتهم وسكونهم ، وسرهم وعلنهم ، وجميع الأحوال ، مراقبا لهم فيها ، مما يوجب مراقبته ، وشدة الحياء منه ، بلزوم تقواه . وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة ، وأنه بثهم في أقطار الأرض ، مع رجوعهم إلى أصل واحد ـ ليعطف بعضهم على بعض ، ويرقق بعضهم على بعض . وقرن الأمر بتقواه ، بالأمر ببر الأرحام ، والنهي عن قطيعتها ، ليؤكد هذا الحق . وإنه كما يلزم القيام بحق الله ، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق ، خصوصا الأقربين منهم ، بل القيام بحقوقهم ، هو من حق الله الذي أمر به . وتأمل كيف افتتح هذه السورة ، بالأمر بالتقوى ، وصلة الأرحام والأزواج عموما . ثم بعد ذلك ، فصل هذه الأمور أتم تفصيل ، من أول السورة إلى آخرها . فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة ، مفصلة لما أجمل منها ، موضحة لما أبهم . وفي قوله : " وجعل منها زوجها " تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به ، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج فبينهم وبينهن أقرب نسب ، وأشد اتصال ، وأوثق علاقة .(2/66)
وقوله تعالى : ? يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً *يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً * ? (النساء : 26 - 28 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى ، بمنته العظيمة ، ومنحته الجسيمة ، وحسن تربيته لعباده المؤمنين ، وسهولة دينه فقال : " يريد الله ليبين لكم " أي : جميع ما تحتاجون إلى بيانه ، من الحق والباطل ، والحلال والحرام . " ويهديكم سنن الذين من قبلكم " أي : الذين أنعم الله عليهم ، من النبيين وأتباعهم ، في سيرهم الحميدة ، وأفعالهم السديدة ، وشمائلهم الكاملة ، وتوفيقهم التام . فلذلك نفذ ما أراده ، ووضح لكم ، وبين بيانا ، كما بين لمن قبلكم ، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل . " ويتوب عليكم " أي : يلطف لكم في أحوالكم ، وما شرعه لكم ، حتى تتمكنوا من الوقوف على ما حده الله ، والاكتفاء بما أحله ، فتقل ذنوبكم ، بسبب ما يسر الله عليكم ، فهذا من توبته على عباده . ومن توبته عليهم ، أنهم إذا أذنبوا ، فتح لهم أبواب الرحمة ، وأوزع قلوبهم الإنابة إليه ، والتذلل بين يديه ، ثم يتوب عليهم ، بقبول ما وفقهم له . فله الحمد والشكر ، على ذلك . وقوله : " والله عليم حكيم " أي : كامل الحكمة ، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون . ومنها هذه الأشياء والحدود . ومن حكمته ، أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته ، التوبة عليه . ويخذل من اقتضت حكمته وعدله ، من لا يصلح للتوبة . وقوله : " والله يريد أن يتوب عليكم " أي : توبة تلم شعثكم ، وتجمع متفرقكم ، وتقرب بعيدكم . " ويريد الذين يتبعون الشهوات " أي : يميلون معها حيث مالت ، ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم(2/67)
، ويعبدون أهواءهم ، من أصناف الكفرة والعاصين ، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم . فهؤلاء يريدون " أن تميلوا ميلا عظيما " أي : تنحرفوا عن الصراط المستقيم ، إلى صراط المغضوب عليهم والضالين . يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن ، إلى طاعة الشيطان ، وعن التزام حدود من السعادة كلها ، في امتثال أوامره ، إلى من الشقاوة كلها في اتباعه . فإذا عرفتم أن الله تعالى ، يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم ، وسعادتكم ، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم ، يأمرونكم ، بما فيه غاية الخسار والشقاء ، فاختاروا لأنفسكم أولى الداعيين ، وتخيروا أحسن الطريقتين . " يريد الله أن يخفف عنكم " أي : بسهولة ما أمركم به ، ونهاكم عنه . ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع ، أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم ، كالميتة والدم ونحوهما ، للمضطر ، وكتزوج الأمة للحر ، بتلك الشروط السابقة . وذلك لرحمته التامة ، وإحسانه الشامل ، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان ، من جميع الوجوه ، ضعف البنية ، وضعف الإرادة وضعف العزيمة ، وضعف الإيمان ، وضعف الصبر . فناسب ذلك ، أن يخفف الله عنه ، ما يضعف عنه ، وما لا يطيقه إيمانه ، وصبره ، وقوته...
وقوله تعالى : ? إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً * وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً * ? (النساء :31 - 32 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/68)
" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما "... وعدالله الذين آمنوا أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات ، غفر لهم جميع الذنوب والسيئات ، وأدخلهم مدخلا كريما ، كثير الخير ، وهو الجنة ، المشتملة على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ويدخل في اجتناب الكبائر ، فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة ، كالصلوات الخمس ، والجمعة وصوم رمضان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ، ما اجتنبت الكبائر " . وأحسن ما حُدت به الكبائر ، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا ، أو وعيد في الآخرة ، أو نفي إيمان ، أو ترتيب لعنة ، أو غضب عليه .
" ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما "(2/69)
ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ، ما فضل الله به غيره ، من الأمور الممكنة ، وغير الممكنة . فلا تتمنى النساء خصائص الرجال ، التي بها فضلهم على النساء ، ولا صاحب الفقر والنقص ، حالة الغنى والكمال ، تمنيا مجردا ، لأن هذا هو الحسد بعينه ، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ، ويسلب إياها . ولأنه يقتضي السخط على قدر الله ، والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة ، التي لا يقترن بها عمل ، ولا كسب . وإنما المحمود أمران ، أن يسعى العبد على حسب قدرته ، بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية . ويسأل الله تعالى من فضله . فلا يتكل على نفسه ، ولا على غير ربه . ولهذا قال تعالى : " للرجال نصيب مما اكتسبوا " أي : من أعمالهم المنتجة للمطلوب . " وللنساء نصيب مما اكتسبن " فكل منهم لا يناله ، غير ما كسبه ، وتعب فيه . " واسألوا الله من فضله " أي : من جميع مصالحكم في الدين والدنيا . فهذا كمال العبد ، وعنوان سعادته ، لا من يترك العمل ، أو يتكل على نفسه ، غير مفتقر لربه ، أو يجمع بين الأمرين ، فإن هذا مخذول خاسر . وقوله : " إن الله كان بكل شيء عليما " فيعطى من يعلمه أهلا لذلك ، ويمنع من يعلمه غير مستحق...(2/70)
وقوله تعالى:? وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً *الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً *وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً *وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً *إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً * ? (النساء : 36 - 41 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/71)
يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له ، وهو الدخول تحت رق عبوديته ، والانقياد لأوامره ونواهيه ، محبة ، وذلا ، وإخلاصا له ، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة . وينهى عن الشرك به شيئا ، لا شركا أصغر ، ولا أكبر ، لا ملكا ، ولا نبيا ، ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين ، الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا . بل الواجب المتعين ، إخلاص العبادة ، لمن له الكمال المطلق ، من جميع الوجوه ، وله التدبير الكامل ، الذي لا يشركه ، ولا يعينه عليه أحد . ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه ، أمر بالقيام بحقوق العباد ، الأقرب ، فالأقرب . فقال : " وبالوالدين إحسانا " أي : أحسنوا إليهم بالقول الكريم ، والخطاب اللطيف ، والفعل الجميل ، بطاعة أمرهما ، واجتناب نهيهما ، والإنفاق عليهما ، وإكرام من له تعلق بهما ، وصلة الرحم ، التي لا رحم لك إلا بهما . وللإحسان ضدان ، الإساءة ، وعدم الإحسان . وكلاهما منهي عنه . " وبذي القربى " أيضا إحسانا ، ويشمل ذلك جميع الأقارب ، قربوا ، أو بعدوا ، بأن يحسن إليهم ، بالقول ، والفعل ، وأن لا يقطع رحمه ، بقوله أو فعله . " واليتامى "(2/72)
أي : الذين فقدوا آباءهم وهم صغار ، فلهم حق على المسلمين ، سواء كانوا أقارب أو غيرهم ، بكفالتهم ، وبرهم ، وجبر خواطرهم ، وتأديبهم ، وتربيتهم أحسن تربية ، في مصالح دينهم ودنياهم . " والمساكين " وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر ، فلم يحصلوا على كفايتهم ، ولا كفاية من يمونون . فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم ، بسد خلتهم ، وبدفع فاقتهم ، والحض على ذلك ، والقيام بما يمكن منه . " والجار ذي القربى " أي : الجار القريب ، الذي له حقان ، حق الجوار ، وحق القرابة ، فله على جاره حق ، وإحسان ، راجع إلى العرف . وكذلك " والجار الجنب " أي : الذي ليس له قرابة . وكلما كان الجار أقرب بابا ، كان آكد حقا . فينبغي للجار ، أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة ، والدعوة ، واللطافة بالأقوال والأفعال ، وعدم أذيته ، بقول أو فعل . " والصاحب بالجنب " قيل : الرفيق في السفر ، وقيل : الزوجة ، وقيل الصاحب مطلقا ، ولعله أولى ، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ، ويشمل الزوجة . فعلى الصاحب لصاحبه ، حق زائد على مجرد إسلامه ، من مساعدته على أمور دينه ودنياه ، والنصح له؛ والوفاء معه ، في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ، وأن يحب له ، ما يحب لنفسه ، ويكره له ، ما يكره لنفسه ، وكلما زادت الصحبة ، تأكد الحق ، وزاد . " وابن السبيل " هو : الغريب الذي احتاج في بلد الغربة ، أو لم يحتج ، فله حق على المسلمين ، لشدة حاجته ، وكونه في غير وطنه ، بتبليغه إلى مقصوده ، أو بعض مقصوده ، وبإكرامه ، وتأنيسه . " وما ملكت أيمانكم " أي : من الآدميين والبهائم ، بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ، ما يشق عليهم وإعانتهم على ما تحملوه ، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم . فمن قام بهذه المأمورات ، فهو الخاضع لربه ، المتواضع لعباد الله ، المنقاد لأمر الله وشرعه ، الذي يستحق الثواب الجزيل ، والثناء الجميل . ومن لم يقم بذلك ، فإنه عبد معرض عن ربه ، غير منقاد(2/73)
لأوامره ، ولا متواضع للخلق . بل هو متكبر على عباد الله ، معجب بنفسه ، فخور بقوله ، ولهذا قال : " إن الله لا يحب من كان مختالا " أي : معجبا بنفسه ، متكبرا على الخلق . " فخورا " يثني على نفسه ويمدحها ، على وجه الفخر والبطر ، على عباد الله . فهؤلاء ، ما بهم من الاختيال والفخر ، يمنعهم من القيام بالحقوق . ولهذا ذمهم بقوله : " الذين يبخلون " أي : يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة . " ويأمرون الناس بالبخل " بأقوالهم وأفعالهم . " ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " أي : من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون ، فيكتمونه عنهم ، ويظهرون لهم من الباطل ، ما يحول بينهم وبين الحق . فجمعوا بين البخل بالمال ، والبخل بالعلم ، وبين السعي في خسارة أنفسهم ، وخسارة غيرهم ، وهذه هي صفات الكافرين ، فلهذا قال تعالى : " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " أي : كما تكبروا على عباد الله ، ومنعوا حقوقه ، وتسببوا في منع غيرهم ، من البخل ، وعدم الاهتداء ، أهانهم بالعذاب الأليم ، والخزي الدائم . فعياذا بك اللهم من كل سوء .
ثم أخبر عن النفقة الصادرة ، عن رياء وسمعة ، وعدم إيمان به ، فقال : " والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس " أي : ليروهم ، ويمدحوهم ، ويعظموهم . " ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "(2/74)
أي : ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص وإيمان بالله ، ورجاء ثوابه . أي : فهذا من خطوات الشيطان وأعماله ، التي يدعو حزبه إليها ، ليكونوا من أصحاب السعير . وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها ، فلهذا قال : " ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا " أي : بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه ، ويسعى فيه أشد السعي . فكما أن من بخل بما أتاه الله ، وكتم ما من الله عليه ، عاص آثم ، مخالف لربه . فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله ، فإنه آثم عاص لربه ، مستوجب للعقوبة . لأن الله إنما أمر بطاعته ، وامتثال أمره ، على وجه الإخلاص ، كما قال تعالى : " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " فهذا هو العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب ، فلهذا حث تعالى عليه بقوله : " وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا من ما رزقهم الله وكان الله بهم عليما " أي : أي شيء عليهم ، وأي حرج ومشقة ، تلحقهم ، لو حصل منهم ، الإيمان بالله ، الذي هو الإخلاص ، وأنفقوا من أموالهم ، التي رزقهم الله ، وأنعم بها عليهم ، فجمعوا بين الإخلاص والإنفاق . ولما كان الإخلاص ، سرا بين العبد وربه ، لا يطلع عليه إلا الله ، أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال :(2/75)
" وكان الله بهم عليما "" إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله ، وتنزهه عما يضاد ذلك ، من الظلم القليل ، والكثير فقال : " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " أي : ينقصها من حسنات عبده ، أو يزيدها في سيئاته . كما قال تعالى : " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ".... وإن تك حسنة يضاعفها " أي : إلى عشرة أمثالها : أي أكثر من ذلك ، بحسب حالها ونفعها ، وحال صاحبها ، إخلاصا ومحبة وكمالا . " ويؤت من لدنه أجرا عظيما " أي : زيادة على ثواب العمل بنفسه ، من التوفيق لأعمال أخر ، وإعطاء البر الكثير ، والخير الغزير . ثم قال تعالى : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " أي : كيف تكون تلك الأحوال ، وكيف يكون ذلك الحكم العظيم ، الذي جمع أن من حكم به ، كامل العلم ، كامل العدل ، كامل الحكمة ، بشهادة أزكى الخلق ، وهم الرسل ، على أممهم ، مع إقرار المحكوم عليه ؟ فهذا ـ والله ـ الحكم ، الذي هو أعم الأحكام ، وأعدلها ، وأعظمها . وهناك يبقى المحكوم عليهم مقرين له ، لكمال الفضل والعدل ، والحمد والثناء . وهناك يسعد أقوام ، بالفوز والفلاح ، والعز والنجاح . ويشقى أقوام ، بالخزي والفضيحة ، والعذاب المبين . " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا " ولهذا قال : " يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول " أي : جمعوا بين الكفر بالله ورسوله ، ومعصية الرسول " لو تسوى بهم الأرض " أي : تبتلعهم ، ويكونون ترابا وعدما ، كما قال تعالى : " ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا "...." ولا يكتمون الله حديثا " أي : بل يعترفون له بما عملوا ، وتشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم : جزاءهم الحق ،(2/76)
ويعلمون أن الله هو الحق المبين . فأما ما ورد ، من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم ، فإن ذلك يكون في بعض مواضع القيامة ، حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب الله . فإذا عرفوا الحقائق ، وشهدت عليهم جوارحهم ، حينئذ ينجلي الأمر ، ولا يبقى للكتمان موضع ، ولا نفع ، ولا فائدة .
? قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى
وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن إبراهيم عن عبيدة, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرأ علي" فقلت: يا رسول الله آقرأ عليك, وعليك أنزل ؟ "قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الاَية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} فقال "حسبك الاَن" فإذا عيناه تذرفان, ورواه هو ومسلم أيضاً من حديث الأعمش به, وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود فهو مقطوع به عنه ورواه أحمد من طريق أبي حيان وأبي رزين عنه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا, حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري, حدثنا فضيل بن سليمان, حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري عن أبيه, قال: وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر, فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم, ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً فقرأ حتى أتى على هذه الاَية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه, فقال: "يا رب, هذا شهدت على من أنا بين ظهريه, فكيف بمن لم أره", وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان, عن المسعودي, عن جعفر بن عمرو بن حريث, عن أبيه, عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الاَية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شهيد عليهم ما دمت فيهم, فإذا توفيتني(2/77)
كنت أنت الرقيب عليهم". وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في التذكرة حيث قال: باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته, قال: أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض فيه على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية, فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم, فلذلك يشهد عليهم, يقول الله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} فإنه أثر وفيه انقطاع, فإن فيه رجلاً مبهماً لم يسم, وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه, وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس, وعلى الأنبياء والاَباء والأمهات يوم الجمعة, قال: ولا تعارض, فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم, ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام ...
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ? (النساء : 48 -49 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/78)
قوله تعالى :" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " يخبر تعالى أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين ، ويغفر ما دون ذلك ، من الذنوب ، صغائرها ، وكبائرها ، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك ، إذا اقتضت حكمته مغفرته . فالذنوب التي دون الشرك ، قد جعل الله لمغفرتها ، أسبابا كثيرة كالحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة في الدنيا ، والبرزخ ، ويوم القيامة ، وكدعاء المؤمنين ، بعضهم لبعض ، وبشفاعة الشافعين . ومن دون ذلك كله ، رحمته ، التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد . وهذا بخلاف الشرك فإنه المشرك ، قد سد على نفسه أبواب المغفرة ، وأغلق دونه أبواب الرحمة ، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد ، ولا تفيده المصائب شيئا وما لهم يوم القيامة " من شافعين ولا صديق حميم " . ولهذا قال تعالى : " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما "أي : افترى جرما كبيرا . وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق ـ من تراب ، الناقص من جميع الوجوه ، الفقير بذاته من كل وجه . الذي لا يملك لنفسه ـ فضلا عمن عبده ـ نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ـ بالخالق لكل شيء الكامل من جميع الوجوه ، الغني بذاته ، عن جميع مخلوقاته ، الذي بيده النفع والضر ، والعطاء والمنع ، الذي ما من نعمة بالمخلوقين ، إلا منه تعالى . فهل أعظم من هذا الظلم شيء ؟ ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار " . وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب . وأما التائب ، فإنه يغفر له الشرك فما دونه ، كما قال تعالى : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " أي : لمن تاب إليه ، وأناب .(2/79)
" ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا " هذا تعجب من الله لعباده ، وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم ، من اليهود والنصارى ، ومن نحا نحوهم ، من كل من زكى نفسه ، بأمر ليس فيه . وذلك أن اليهود والنصارى يقولون : " نحن أبناء الله وأحباؤه ". ويقولون : " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " وهذا مجرد دعوى ، لا برهان عليها . وإنما البرهان ، ما أخبر به في القرآن في قوله : " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " . فهؤلاء هم الذين زكاهم الله ، ولهذا قال هنا : " بل الله يزكي من يشاء " أي : بالإيمان والعمل الصالح ، بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة ، والتحلي بالصفات الجميلة . وأما هؤلاء ، فهم ـ وإن زكوا أنفسهم بزعمهم ، أنهم على شيء ، وأن الثواب لهم وحدهم ـ فإنهم كذبة في ذلك ، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب ، بسبب ظلمهم وكفرهم ، لا بظلم من الله لهم ، ولهذا قال : " ولا يظلمون فتيلا " . وهذا لتحقيق العموم ، أي : لا يظلمون شيئا ، ولا مقدار الفتيل الذي في شق النواة ، أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها...
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً? (النساء : 58 - 59 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/80)
الأمانات ، كل ما ائتمن عليه الإنسان ، وأمر بالقيام به . فأمر الله عباده بأدائها أي : كاملة موفرة ، لا منقوصة ولا مبخوسة ، ولا ممطولا بها . ويدخل في ذلك ، أمانات الولايات والأموال ، والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله . وقد ذكر الفقهاء ، أن من ائتمن أمانة؛ وجب عليه حفظها ، في حرز مثلها . قالوا : لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك . وفي قوله تعالى : " إلى أهلها " دلالة على أنها ، لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمن ، ووكيله بمنزلته؛ فلو دفعها لغير ربها ، لم يكن مؤديا لها . " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء ، والأموال ، والأعراض ، القليل من ذلك ، والكثير ، على القريب ، والبعيد ، والفاجر ، والولي ، والعدو . والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به ، هو ما شرعه الله على لسان رسوله ، من الحدود والأحكام ، وهذا يستلزم معرفة العدل ، ليحكم به . ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة ، قال : " إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا " وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه لاشتمالها على مصالح الدارين ، ودفع مضارهما ، لأن شارعها السميع البصير ، الذي لا تخفى عليه خافية ، ويعلم من مصالح العباد ، ما لا يعلمون .(2/81)
ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله ، وذلك بامتثال أمرهما ، الواجب والمستحب ، واجتناب نهيهما . وأمر بطاعة أولي الأمر ، وهم : الولاة على الناس ، من الأمراء ، والحكام ، والمفتين ، فإنه لا يستقيم للناس ، أمر دينهم ودنياهم ، إلا بطاعتهم والانقياد لهم ، طاعة لله ، ورغبة فيما عنده . ولكن بشرط ، أن لا يأمروا بمعصية الله ، فإن أمروا بذلك ، فلا طاعة لمخلوق ، في معصية الخالق . ولعل هذا هو السر في حذف الفعل ، عند الأمر بطاعتهم ، وذكره مع طاعة الرسول . فإن الرسول ، لا يأمر إلا بطاعة الله ، ومن يطعه ، فقد أطاع الله . وأما أولو الأمر ، فشرط الأمر بطاعتهم ، أن لا يكون معصية . ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه؛ من أصول الدين وفروعه ، إلى الله والرسول ، أي : إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية ، إما بصريحهما ، أو عمومهما؛ أو إيماء ، أو تنبيه ، أو مفهوم ، أو عموم معنى ، يقاس عليه ما أشبهه . لأن كتاب الله وسنة رسوله ، عليهما بناء الدين ، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما ، فالرد إليهما ، شرط في الإيمان ، فلهذا قال : " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " . فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة ، بل مؤمن بالطاغوت ، كما ذكر في الآية بعدها . " ذلك " أي : الرد إلى الله ورسوله " خير وأحسن تأويلا " فإن حكم الله ورسوله ، أحسن الأحكام وأعدلها ، وأصلحها للناس ، في أمر دينهم ، ودنياهم ، وعاقبتهم .(2/82)
وقوله تعالى : ? (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً* (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ? (النساء : 64 - 65 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/83)
يخبر تعالى خبرا ، في ضمنه الأمر ، والحث على طاعة الرسول ، والانقياد له . وأن الغاية من إرسال الرسل ، أن يكونوا مطاعين ، ينقاد لهم المرسل إليهم في جميع ما أمروا به ، ونهوا عنه ، وأن يكونوا معظمين ، تعظيم المطاع من المطيع . وفي هذا إثبات عصمة الرسل ، فيما يبلغونه عن الله ، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله ، أمر بطاعتهم مطلقا ، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ ، لما أمر بذلك مطلقا . وقوله : " بإذن الله " أي : الطاعة من المطيع ، صادرة بقضاء الله وقدره . ففيه إثبات القضاء والقدر ، والحث على الاستعانة بالله ، وبيان أنه لا يمكن الإنسان ـ إن لم يعنه الله ـ أن يطيع الرسول . ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده ، ودعوته لمن اقترفوا السيئات ـ أن يعترفوا ويتوبوا ، ويستغفروا الله فقال : " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك " أي : معترفين بذنوبهم ، باخعين بها ." فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " أي : لتاب عليهم بمغفرته ظلمهم ، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها ، والثواب عليها . وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك ، لكون الاستغفار من الرسول ، لا يكون إلا في حياته . وأما بعد موته ، فإنه لا يطلب منه شيء ، بل ذلك شرك . ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة ، أنهم لا يؤمنون ، حتى يحكموا رسوله ، فيما شجر بينهم أي : في كل شيء يحصل فيه اختلاف . بخلاف مسائل الإجماع ، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة . ثم لا يكفي هذا التحكيم ، حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق ، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض . ثم لا يكفي هذا التحكيم ، حتى يسلموا لحكمه تسليما ، بانشراح صدر ، وطمأنينة نفس ، وانقياد بالظاهر والباطن . فالتحكيم في مقام الإسلام ، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان ، والتسليم في مقام الإحسان . فمن استكمل هذه المراتب ، وكملها ، فقد استكمل مراتب(2/84)
الدين كلها . ومن ترك هذا التحكيم المذكور ، غير ملتزم له فهو كافر . ومن تركه ـ مع التزامه ـ فله حكم أمثاله من العاصين .
وقوله تعالى :? (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً *ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً ? (النساء : 69 -70 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أي : كل من أطاع الله ورسوله ـ على حسب حاله ، وقدر الواجب عليه ، من ذكر وأنثى وصغير وكبير . " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم " أي : النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح ، والسعادة . " من النبيين " الذين فضلهم الله بوحيه ، واختصهم بتفضيلهم ، بإرسالهم إلى الخلق ، ودعوتهم إلى الله تعالى . " والصديقين " وهم : الذين كمل تصديقهم ، بما جاءت به الرسل ، فعلموا الحق ، وصدقوه بيقينهم ، وبالقيام به ، قولا ، وعملا ، وحالا ، ودعوة إلى الله . " والشهداء " الذين قاتلوا في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، فقتلوا . " والصالحين " الذين صلح ظاهرهم وباطنهم ، فصلحت أعمالهم . فكل من أطاع الله تعالى ، كان مع هؤلاء في صحبتهم . " وحسن أولئك رفيقا " بالاجتماع بهم ، في جنات النعيم ، والأنس بقربهم ، في جوار رب العالمين . " ذلك الفضل " الذي نالوه " من الله " . فهو الذي وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه ، وأعطاهم من الثواب ، ما لا تبلغه أعمالهم . " وكفى بالله عليما " ، يعلم أحوال عباده ، ومن يستحق منهم الثواب الجزيل ، بما قام به ، من الأعمال الصالحة ، التي تواطأ عليها القلب والجوارح .(2/85)
وقوله تعالى : ? (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً * مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً? (النساء : 79 - 80 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ما أصابك من حسنة " أي : في الدين والدنيا " فمن الله " هو الذي من بها ويسرها بتيسير أسبابها . " وما أصابك من سيئة " في الدين والدنيا " فمن نفسك " أي : بذنوبك وكسبك ، وما يعفو الله عنه أكثر . فالله تعالى ، قد فتح لعباده أبواب إحسانه ، وأمرهم بالدخول لبره وفضله ، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله . فإذا فعلها العبد ، فلا يلومن إلا نفسه ، فإنه المانع لنفسه ، عن وصول فضل الله وبره . ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال : " وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا " على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره ، والمعجزات الباهرة ، والبراهين الساطعة ، فهي أكبر شهادة على الإطلاق . كما قال تعالى : " قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم " . فإن علم أن الله تعالى ، كامل العلم ، وتام القدرة ، عظيم الحكمة ، وقد أيد الله رسوله بما أيده ، ونصره نصرا عظيما ، تيقن بذلك أنه رسول الله . وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل ، لأخذ منه باليمين ، ثم لقطع منه الوتين .
" من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا "(2/86)
أي : كل من أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه " فقد أطاع الله " تعالى ، لكونه لا يأمر ولا ينهى ، إلا بأمر الله ، وشرعه ، ووحيه وتنزيله . وفي هذا عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله أمر بطاعته مطلقا فلولا أنه معصوم في كل ما يبلغ عن الله ، لم يأمر بطاعته مطلقا ، ويمدح على ذلك . وهذا من الحقوق المشتركة ، فإن الحقوق ثلاثة : حق الله تعالى ، لا يكون لأحد من الخلق ، وهو عبادة الله ، والرغبة إليه ، وتوابع ذلك . وقسم مختص بالرسول ، وهو التعزير ، والتوقير ، والنصرة . وقسم مشترك ، وهو الإيمان بالله ورسوله ، ومحبتهما وطاعتهما . كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله : " لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا " . فمن أطاع الرسول ، فقد أطاع الله ، وله من الثواب والخير ، ما رتب على طاعة الله . " ومن تولى " عن طاعة الله ورسوله ، فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئا . " فما أرسلناك عليهم حفيظا " أي : تحفظ أعمالهم ، وأحوالهم ، بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا . وقد أديت وظيفتك ، ووجب أجرك على الله ، سواء اهتدوا ، أم لم يهتدوا . كما قال تعالى : " فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر " الآية . ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ، ظاهرا وباطنا ، في الحضرة والمغيب . فأما من يظهر في الحضرة ، الطاعة والالتزام ، فإذا خلا بنفسه ، أو أبناء جنسه ، ترك الطاعة ، وأقبل على ضدها ، فإن الطاعة التي أظهرها ، غير نافعة ولا مفيدة ، وقد أشبه من قال الله فيهم : " ويقولون طاعة " أي : يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك . " فإذا برزوا من عندك " أي : خرجوا ، وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم . " بيت طائفة منهم غير الذي تقول " أي : بيتوا ودبروا غير طاعتك ، ولا ثم إلا المعصية . وفي قوله : " بيت طائفة منهم غير الذي تقول " دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه ، غير الطاعة ، لأن التبييت ، تدبير الأمر ليلا ، على(2/87)
وجه يستقر عليه الرأي . ثم توعدهم على ما فعلوا فقال : " والله يكتب ما يبيتون " أي : يحفظه عليهم ، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ، ففيه وعيد لهم . ثم أمر رسوله ، بمقابلتهم بالإعراض ، وعدم التعنيف ، فإنهم لا يضرونه شيئا ، إذا توكل على الله ، واستعان به ، في نصر دينه ، وإقامة شرعه . ولهذا قال : " فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا "...
وقوله تعالى : ? وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا * ? (النساء : 81 - 83 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/88)
" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " يأمر تعالى بتدبر كتابه ، وهو : التأمل في معانيه ، وتحديق الفكر فيه ، وفي مبادئه وعواقبه ، ولوازم ذلك . فإن في تدبر كتاب الله مفتاحا للعلوم والمعارف ، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم . وبه يزداد الإيمان في القلب ، وترسخ شجرته . فإنه يعرف بالرب المعبود ، وما له من صفات الكمال؛ وما ينزه عنه من سمات النقص . ويعرف الطريق الموصلة إليه ، وصفة أهلها ، وما لهم عند القدوم عليه . ويعرف العدو ، الذي هو العدو على الحقيقة؛ والطريق الموصلة إلى العذاب؛ وصفة أهلها؛ وما لهم عند وجود أسباب العقاب . وكلما ازداد العبد تأملا فيه ، ازداد علما ، وعملا ، وبصيرة . ولذلك أمر الله بذلك ، وحث عليه ، وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن ، كما قال تعالى : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب " . وقال تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " . ومن فوائد التدبير لكتاب الله : أنه بذلك ، يصل العبد إلى درجة اليقين ، والعلم بأنه كلام الله ، لأنه يراه ، يصدق بعضه بعضا ، ويوافق بعضه بعضا . فترى الحكم والقصة والأخبار ، تعاد في القرآن؛ في عدة مواضع ، كلها متوافقة متصادقة ، لا ينقض بعضها بعضا . فبذلك يعلم كمال القرآن ، وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور . فلذلك قال تعالى : " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " أي : فلما كان من عند الله؛ لم يكن فيه اختلاف أصلا .
" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا "(2/89)
هذا تأديب من الله لعباده ، عن فعلهم هذا ، غير اللائق . وأنه ينبغي لهم ، إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة ، والمصالح العامة ، ما يتعلق بالأمن ، وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم ، أن يتثبتوا ، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر . بل يردونه إلى الرسول ، وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي ، والعلم والنصح ، والعقل ، والرزانة ، الذين يعرفون الأمور ، ويعرفون المصالح وضدها . فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين ، وسرورا لهم ، وتحرزا من أعدائهم ، فعلوا ذلك . وإن رأوا ما فيه مصلحة ، أو فيه مصلحة ، ولكن مضرته تزيد على مصلحته ، لم يذيعوه . ولهذا قال : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " أي : يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة ، وعلومهم الرشيدة . وفي هذا دليل لقاعدة أدبية ، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ، ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك ، ويجعل إلى أهله ، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ . وفيه النهي عن العجلة والتسرع ، لنشر الأمور ، من حين سماعها . والأمر بالتأمل قبل الكلام ، والنظر فيه ، هل هو مصلحة ، فيقدم عليه الإنسان ، أم لا ؟ فيحجم عنه ؟ ثم قال تعالى : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " أي : في توفيقكم ، وتأديبكم ، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون . " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " لأن الإنسان بطبعه ، ظالم جاهل ، فلا تأمره نفسه إلا بالشر . فإذا لجأ إلى ربه ، واعتصم به ، واجتهد في ذلك ، لطف به ربه ، ووفقه لكل خير ، وعصمه من الشيطان الرجيم .(2/90)
وقوله تعالى :? (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً*وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً? (النساء : 85 -87 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا " المراد بالشفاعة هنا : المعاونة على أمر من الأمور . فمن شفع غيره ، وقام معه على أمر من أمور الخير ـ ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم ـ كان له نصيب من شفاعته ، بحسب سعيه وعمله ، ونفعه ، ولا ينقص من أجر الأصيل أو المباشر شيء . ومن عاون غيره على أمر من الشر ، كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه . ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى ، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان . وقرر ذلك بقوله : " وكان الله على كل شيء مقيتا " أي : شاهدا حفيظا ، حسيبا على هذه الأعمال ، فيجازي كلا ، ما يستحقه .(2/91)
" وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا " التحية هي : اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين ، على وجه الإكرام والدعاء ، وما يقترن بذلك اللفظ ، من البشاشة ونحوها . وأعلى أنواع التحية ، ما ورد به الشرع ، من السلام ابتداء وردا . فأمر تعالى ، المؤمنين أنهم ، إذا حيوا بأي تحية كانت ، أن يردوها بأحسن منها ، لفظا ، وبشاشة ، أو مثلها في ذلك . ومفهوم ذلك ، النهي عن عدم الرد بالكلية ، أو ردها بدونها . ويؤخذ من الآية الكريمة ، الحث على ابتداء السلام والتحية ، من وجهين : أحدهما : أن الله أمر بردها ، بأحسن منها ، أو مثلها ، وذلك يستلزم أن التحية ، مطلوبة شرعا . والثاني : ما يستفاد من أفعل التفضيل ، وهو " أحسن " الدال على مشاركة التحية وردها ، بالحسن ، كما هو الأصل في ذلك . ويستثنى من عموم الآية الكريمة ، من حيا بحال غير مأمور بها ، ك ـ " على مشتغل بقراءة ، أو استماع خطبة ، أو مصل ونحو ذلك " فإنه لا يطلب إجابة تحيته . وكذلك يستثنى من ذلك ، من أمر الشارع بهجره ، وعدم تحيته ، وهو العاصي غير التائب ، الذي يرتدع بالهجر ، فإنه يهجر ، ولا يحيا ، ولا ترد تحيته ، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى . ويدخل في رد التحية ، كل تحية اعتادها الناس ، وهي غير محظورة شرعا ، فإنه مأمور بردها وبأحسن منها . ثم وعد تعالى وتوعد ، على فعل الحسنات والسيئات بقوله : " إن الله كان على كل شيء حسيبا " فيحفظ على العباد أعمالهم ، حسنها ، وسيئها ، صغيرها ، وكبيرها ، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله ، وحكمه المحمود .
" الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا "(2/92)
يخبر تعالى ، عن انفراده بالوحدانية ، وأنه لا معبود ولا مألوه إلا هو ، لكماله في ذاته وأوصافه ، ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير ، والنعم الظاهرة والباطنة . وذلك يستلزم الأمر بعبادته ، والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية . لكونه المستحق لذلك وحده ، والمجازي للعباد ، بما قاموا به من عبوديته ، أو تركوه منها . ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء ـ وهو يوم القيامة ـ فقال : " ليجمعنكم " أي : أولكم وآخركم ، في مقام واحد . " إلى يوم القيامة لا ريب فيه " أي : لا شك ولا شبهة ، بوجه من الوجوه ، بالدليل العقلي ، والدليل السمعي . فالدليل العقلي ، ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها ، ومن وجود النشأة الأولى ، التي وقوع الثانية ، أولى منها بالإمكان . ومن الحكمة التي يجزم ، بأن الله لم يخلق خلقه عبثا ، يحيون ثم يموتون . وأما الدليل السمعي ، فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك ، بل إقسامه عليه ، ولهذا قال : " ومن أصدق من الله حديثا " . كذلك أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن ، كقوله تعالى : " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير " . وفي قوله : " ومن أصدق من الله حديثا "، وقوله: " ومن أصدق من الله قيلا "
إخبار بأن حديثه وأخباره ، وأقواله في أعلى مراتب الصدق ، بل أعلاها . فكل ما قيل في العقائد والعلوم والأعمال ، مما يناقض ما أخبر الله به ، فهو باطل ، لمناقضته للخبر الصادق اليقين ، فلا يمكن أن يكون حقا .(2/93)
وقوله تعالى : ? (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً*لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً* دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً? (النساء : 94 - 96 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا "(2/94)
يأمر تعالى عباده المؤمنين ، إذا خرجوا جهادا في سبيله ، وابتغاء مرضاته ـ أن يتبينوا ، ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البينة ، لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك ، تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة ، فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، هل يقدم عليها أم لا ؟ فإن التثبت في هذه الأمور ، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، فإنه به يعرف دين العبد ، وعقله ، ورزانته . بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها ، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي . كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية ، لما لم يتثبتوا ، وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنا أنه يستكفي بذلك قتلهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر ، فلهذا عاتبهم بقوله : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة " أي : فلا يحملنكم العرض الفاني القليل ، على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي ، فما عند الله خير وأبقى . وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له ، إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى ، وهي مضرة له ـ أن يذكرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها ، وقدم مرضاة الله على رضا نفسه ، فإن في ذلك ترغيبا للنفس ، في امتثال أمر الله ، وإن شق ذلك عليها . ثم قال تعالى ـ مذكرا لهم بحالهم الأولى ، قبل هدايتهم إلى الإسلام : " كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم " أي : فكما هداكم بعد ضلالكم ، فكذلك يهدي غيركم . وكما أن الهداية حصلت لكم شيئا فشيئا ، فكذلك غيركم . فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة ، ومعاملته لمن كان على مثلها ، بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى ، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة ـ من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه . ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال :(2/95)
" فتبينوا " . فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله ، ومجاهدة أعداء الله ، واستعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم ، مأمورا بالتبين لمن ألقى إليه السلام ، وكانت القرينة قوية ، في أنه إنما سلم تعوذا من القتل ، وخوفا على نفسه ـ فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت ، في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه ، فيتثبت فيها العبد ، حتى يتضح له الأمر ، ويتبين الرشد والصواب . " إن الله كان بما تعملون خبيرا " فيجازي كلا ، ما عمله ونواه ، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم .
" لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما "(2/96)
أي : لا يستوي من جاهد من المؤمنين ، بنفسه وماله ، ومن لم يخرج للجهاد ، ولم يقاتل أعداء الله . ففيه الحث على الخروج للجهاد ، والترغيب في ذلك ، والترهيب من التكاسل ، والقعود عنه ، من غير عذر . وأما أهل الضرر ، كالمريض ، والأعمى ، والأعرج ، والذي لا يجد ما يتجهز به ، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين ، من غير عذر . فمن كان من أولي الضرر ، راضيا بقعوده ، لا ينوي الخروج في سبيل الله ، لولا وجود المانع ، ولا يحدث نفسه بذلك ، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر . ومن كان عازما على الخروج في سبيل الله ، لولا وجود المانع ، يتمنى ذلك ، ويحدث به نفسه ، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد . لأن النية الجازمة ، إذا اقترن بها مقدورها ، من القول ، أو الفعل ـ ينزل صاحبها منزلة الفاعل . ثم صرح تعالى ، بتفضيل المجاهدين على القاعدين ، بالدرجة أي : الرفعة ، وهذا تفضيل على وجه الإجمال . ثم صرح بذلك على وجه التفصيل ، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير ، واندفاع كل شر . والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في الصحيحين ، أن في الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين ، كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله . وهذا الثواب ، الذي رتبه الله على الجهاد ، نظير الذي في سورة الصف في قوله : " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم " إلى آخر السورة . وتأمل حسن هذا الانتقال ، من حالة إلى أعلى منها . فإنه نفى التسوية أولا ، بين المجاهد وغيره . ثم صرح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة . ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة ، والرحمة والدرجات . وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها(2/97)
عند التفضيل والمدح ، أو النزول من حالة إلى ما دونها ، عند القدح والذم ـ أحسن لفظا ، وأوقع في النفس . وكذلك إذا فضل تعالى ، شيئا على شيء ، وكل منهما له فضل ، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين ، لئلا يتوهم أحد ، ذم المفضل عليه كما قال هنا : " وكلا وعد الله الحسنى " . وكما قال تعالى في الآيات المذكورة في الصف في قوله : " وبشر المؤمنين " . وكما في قوله تعالى : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " أي : ممن لم يكن كذلك . ثم قال : " وكلا وعد الله الحسنى ". وكما قال تعالى : " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " . فينبغي لمن يبحث في التفضيل بين الأشخاص ، والطوائف ، والأعمال ، أن يفطن لهذه النكتة . وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ، ذكر ما تجتمع فيه ، عند تفضيل بعضها على بعض ، لئلا يتوهم أن المفضل ، قد حصل له الكمال . كما إذا قيل : النصارى خير من المجوس ، فليقل ـ مع ذلك ـ وكل منهما كافر . والقتل أشنع من الزنا ، وكل منهما معصية كبيرة ، حرمها الله ورسوله وزجر عنها . ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرين عن اسميه الكريمين " الغفور الرحيم " ختم هذه الآية بهما فقال : " وكان الله غفورا رحيما "(2/98)
وقوله تعالى : ? فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً*وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً*إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً*وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * ? (النساء : 103 -107 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا "(2/99)
أي : فإذا فرغتم من صلاتكم ، صلاة الخوف وغيرها ، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم . ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد . منها : أن القلب صلاحه وفلاحه ، وسعادته ، بالإنابة إلى الله تعالى ، في المحبة ، وامتلاء القلب من ذكره ، والثناء عليه . وأعظم ما يحصل به هذا المقصود ، الصلاة ، التي حقيقتها : أنها صلة بين العبد وبين ربه . ومنها : أن فيها من حقائق الإيمان ، ومعارف الإيقان ، ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة . ومن المعلوم أن صلاة الخوف ، لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب ، والبدن ، والخوف ، فأمر بجبرها بالذكر بعدها . ومنها : أن الخوف ، يوجب قلق القلب وخوفه ، وهو مظنة لضعفه . وإذا ضعف القلب ، ضعف البدن عن مقاومة العدو . والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب . ومنها : أن الذكر لله تعالى ـ مع الصبر والثبات ـ سبب للفلاح والظفر بالأعداء . كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " . فأمر بالإكثار منه في هذه الحال ، إلى غير ذلك من الحكم . وقوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " أي : إذا أمنتم من الخوف ، واطمأنت قلوبكم وأبدانكم ، فأقيموا صلاتكم على الوجه الأكمل ، ظاهرا وباطنا ، بأركانها وشروطها ، وخشوعها ، وسائر مكملاتها .(2/100)
" إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " أي : مفروضا في وقته . فدل ذلك على فرضيتها ، وأن لها وقتا ، لا تصح إلا به ، وهو هذه الأوقات ، التي قد تقررت عند المسلمين ، صغيرهم ، وكبيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " . ودل قوله : " على المؤمنين " على أن الصلاة ميزان الإيمان ، وعلى حسب إيمان العبد ، تكون صلاته ، وتتم وتكمل . ويدل ذلك ، على أن الكفار ـ وإن كانوا ملتزمين لأحكام المسلمين كأهل الذمة ـ أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة ، ولا يؤمرون بها ، بل ولا تصح منهم ، ما داموا على كفرهم ، وإن كانوا يعاقبون عليها ، وعلى سائر الأحكام ، في الآخرة .
" ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما "(2/101)
أي : لا تضعفوا ولا تكسلوا ، في ابتغاء عدوكم من الكفار ، أي : في جهادهم ، والمرابطة على ذلك فإن وهن القلب ، مستدع لوهن البدن ، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء . بل كونوا أقوياء ، نشيطين في قتالهم . ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين ، فذكر شيئين : الأول : أن ما يصيبكم من الألم ، والتعب ، والجراح ونحو ذلك ، فإنه يصيب أعداءكم . فليس من المروءة الإنسانية ، والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم ، وأنتم وهم وقد تساويتم فيما يوجب ذلك . لأن العادة الجارية ، أن لا يضعف ، إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام . لا من يدال له مرة ، ويدال عليه أخرى . الأمر الثاني : أنكم ترجون من الله ما لا يرجون . فترجون الفوز بثوابه ، والنجاة من عقابه . بل خواص المؤمنين ، لهم مقاصد عالية ، وآمال رفيعة ، من نصر دين الله ، وإقامة شرعه ، واتساع دائرة الإسلام ، وهداية الضالين ، وقمع أعداء الدين . فهذه الأمور ، توجب للمؤمن المصدق ، زيادة القوة ، وتضاعف النشاط ، والشجاعة التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي ، إن ناله ، ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية ، والفوز برضوان الله وجنته . فسبحان من فاوت بين العباد ، وفرق بينهم بعلمه وحكمته . ولهذا قال : " وكان الله عليما حكيما " كامل العلم ، كامل الحكمة .
" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما(2/102)
يخبر تعالى ، أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق ، أي : محفوظ في إنزاله من الشياطين ، أن يتطرق إليه منهم باطل . بل نزل بالحق ، ومشتملا أيضا على الحق . فأخباره صدق ، وأوامره ونواهيه عدل " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " . وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس . وفي الآية الأخرى : " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " . فيحتمل أن هذه الآية ، في الحكم بين الناس ، في مسائل النزاع والاختلاف . وتلك في تبيين جميع الدين ، وأصوله ، وفروعه . ويحتمل أن الآيتين كلتيهما ، معناهما واحد . فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد ، وفي جميع مسائل الأحكام . وقوله : " بما أراك الله " أي : لا بهواك ، بل بما علمك الله وألهمك . كقوله تعالى : " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " . وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها . وأنه يشترط في الحكم ، العلم والعدل لقوله : " بما أراك الله " ولم يقل : بما رأيت . ورتب أيضا ، الحكم بين الناس على معرفة الكتاب . ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط ، نهاه عن الجور والظلم ، الذي هو ضد العدل فقال : " ولا تكن للخائنين خصيما " أي : لا تخاصم عن من عرفت خيانته ، من مدع ما ليس له ، أو منكر حقا عليه ، سواء علم ذلك ، أو ظنه . ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل ، والنيابة عن المبطل ، في الخصومات الدينية ، والحقوق الدنيوية . ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم . " واستغفر الله " مما صدر منك ، إن صدر . " إن الله كان غفورا رحيما " أي : يغفر الذنب العظيم ، لمن استغفره ، وتاب إليه وأناب ، ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك ، الموجب لثوابه ، وزوال عقابه . " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " . " الاختيان " و " الخيانة "(2/103)
بمعنى الجناية ، والظلم ، والإثم ، وهذا يشمل النهي عن المجادلة ، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة ، من حد أو تعزير ، فإنه لا يجادل عنه ، بدفع ما صدر منه من الخيانة ، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية . " إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " أي : كثير الخيانة والإثم . وإذا انتفى الحب ، ثبت ضده ، وهو البغض ، وهذا كالتعليل ، للنهي المتقدم .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً * لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً * ? ( النساء 110 - 116 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/104)
قوله تعالى :"ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " أي : من تجرأ على المعاصي ، واقتحم على الإثم ، ثم استغفر الله استغفارا تاما ، يستلزم الإقرار بالذنب ، والندم عليه ، والإقلاع ، والعزم على أن لا يعود . فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد ، بالمغفرة والرحمة . فيغفر له ما صدر منه من الذنب ، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب ، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة ، ويوفقه فيما يستقبله من عمره ، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه ، لأنه قد غفره ، وإذا غفره ، غفر ما يترتب عليه . واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق ، يشمل سائر المعاصي ، الصغيرة والكبيرة . وسمي " سوءا " لكونه يسوء عامله بعقوبته ، ولكونه ـ في نفسه ـ سيئا ، غير حسن . وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق ، يشمل ظلمها بالشرك ، فما دونه . ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر ، قد يفسر كل واحد منهما ، بما يناسبه . فيفسر عمل السوء هنا ، بالظلم الذي يسوء الناس ، وهو ظلمهم ، في دمائهم ، وأموالهم وأعراضهم . ويفسر ظلم النفس ، بالظلم والمعاصي ، التي بين الله وبين عبده . وسمي ظلم النفس " ظلما " لأن نفس العبد ، ليس ملكا له ، يتصرف فيها بما يشاء . وإنما هي ، ملك لله تعالى ، قد جعلها أمانة عند العبد ، وأمره أن يقيمها على طريق العدل ، بإلزامها الصراط المستقيم ، علما وعملا ، فيسعى في تعليمها ما أمر به ، ويسعى في العمل بما يجب . فسعيه في غير هذا الطريق ، ظلم لنفسه ، وخيانة ، وعدول بها عن العدل ، الذي ضده ، الجور والظلم . ثم قال : " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " وهذا يشمل ، كل ما يؤثم ، من صغير وكبير . فمن كسب سيئة ، فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية ، على نفسه ، لا تتعداها إلى غيرها ، كما قال تعالى : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " . لكن إذا ظهرت السيئات ، فلم تنكر ، عمت عقوبتها ، وشمل إثمها . فلا تخرج أيضا ، عن حكم هذه الآية(2/105)
الكريمة ، لأن من ترك الإنكار الواجب ، فقد كسب سيئة . وفي هذا بيان عدل الله وحكمته ، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد ، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه ، ولهذا قال : " وكان الله عليما حكيما " أي : له العلم الكامل ، والحكمة التامة . ومن علمه وحكمته ، أنه يعلم الذنب ، ومن صدر منه ، والسبب الداعي لفعله ، والعقوبة المترتبة على فعله . ويعلم حالة المذنب ، أنه إن صدر منه الذنب ، بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء ، مع إنابته إلى ربه ، في كثير من أوقاته ، أنه سيغفر له ، ويوفقه للتوبة . وإن صدر بتجرؤه على المحارم ، استخفافا بنظر ربه ، وتهاونا بعقابه ، فإن هذا بعيد من المغفرة ، بعيد من التوفيق للتوبة . ثم قال : " ومن يكسب خطيئة " أي : ذنبا كبيرا " أو إثما " ما دون ذلك .(2/106)
" ثم يرم به " أي : يتهم بذنبه " بريئا " من ذلك الذنب ، وإن كان مذنبا " فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " أي : فقد حمل فوق ظهره ، بهتا للبريء وإثما ظاهرا بينا . وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها . فإنه قد جمع عدة مفاسد : كسب الخطيئة ، والإثم . ثم رمى من لم يفعلها بفعلها . ثم الكذب الشنيع ، بتبرئة نفسه ، واتهام البريء . ثم ما يترتب على ذلك ، من العقوبة الدنيوية ، تندفع عمن وجبت عليه ، وتقام على من لا يستحقها . ثم ما يترتب على ذلك أيضا ، من كلام الناس في البريء ، إلى غير ذلك من المفاسد ، التي نسأل الله العافية منها ، ومن كل شر . ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال : " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك " . وذلك أن هذه الآيات الكريمات ، قد ذكر المفسرون ، أن سبب نزولها ، أن أهل بيت ، سرقوا في المدينة . فلما اطلع على سرقتهم ، خافوا الفضيحة ، وأخذوا سرقتهم ، فرموها ببيت من هو بريء من ذلك . واستعان السارق بقومه ، أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويطلبوا منه أن يبرىء صاحبهم ، على رؤوس الناس . وقالوا : إنه لم يسرق ، وإنما الذي سرق ، من وجدت السرقة ببيته ، وهو البريء . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يبرىء صاحبهم . فأنزل الله هذه الآيات ، تذكيرا ، وتبيينا لتلك الواقعة ، وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم ، من المخاصمة عن الخائنين ، فإن المخاصمة عن المبطل ، من الضلال . فإن الضلال نوعان : ضلال في العلم ، وهو الجهل بالحق ، وضلال في العمل ، وهو : العمل بغير ما يجب . فحفظ الله رسوله ، عن هذا النوع من الضلال ، كما حفظه عن الضلال في الأعمال . وأخبر أن كيدهم ومكرهم ، يعود على أنفسهم ، كحالة كل ماكر ، فقال : " وما يضلون إلا أنفسهم " لكون ذلك المكر ، وذلك التحيل ، لم يحصل لهم فيه مقصودهم ، ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان ، والإثم(2/107)
والخسران . وهذه نعمة كبيرة ، على رسوله صلى الله عليه وسلم ، تتضمن النعمة بالعمل ، وهو : التوفيق لفعل ما يحب ، والعصمة له عن كل محرم . ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " أي : أنزل عليك هذا القرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، الذي فيه تبيان كل شيء ، وعلم الأولين والآخرين . والحكمة : إما السنة ، التي قد قال فيها بعض السلف : إن السنة تنزل عليه ، كما ينزل القرآن . وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة ، على معرفة أحكامها ، وتنزيل الأشياء منازلها ، وترتيب كل شيء بحسبه . " وعلمك ما لم تكن تعلم " وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى . فإنه صلى الله عليه وسلم ، كما وصفه الله قبل النبوة بقوله : " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان "... وقوله :" ووجدك ضالا فهدى " . ثم لم يزل يوحي الله إليه ، ويعلمه ، ويكمله ، حتى ارتقى مقاما من العلم ، يتعذر وصوله على الأولين والآخرين . فكان أعلم الخلق على الإطلاق ، وأجمعهم لصفات الكمال ، وأكملهم فيها . ولهذا قال : " وكان فضل الله عليك عظيما " ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، أعظم من فضله على كل الخلق . وأجناس الفضل التي قد فضله الله به ، لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها .(2/108)
" لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما " أي : لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون . وإذا لم يكن فيه خير ، فإما لا فائدة فيه ، كفضول الكلام المباح ، وإما شر ومضرة محضة ، كالكلام المحرم بجميع أنواعه . ثم استثنى تعالى فقال : " إلا من أمر بصدقة " من مال ، أو علم ، أو أي نفع كان . بل لعله ، يدخل فيه العبادات القاصرة ، كالتسبيح ، والتحميد ، ونحوه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة " الحديث . " أو معروف " وهو الإحسان والطاعة ، وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه . وإذا أطلق الأمر بالمعروف ، من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر ، دخل فيه النهي عن المنكر . وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف . وأيضا لا يتم فعل الخير ، إلا بترك الشر . وأما عند الاقتران ، فيفسر المعروف ، بفعل المأمور ، والمنكر ، بترك المنهي . " أو إصلاح بين الناس " والإصلاح ، لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين . والنزاع ، والخصام ، والتغاضب ، يوجب من الشر والفرقة ، ما لا يمكن حصره . فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس ، في الدماء والأموال والأعراض . بل وفي الأديان ، كما قال تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " . وقال تعالى : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " الآية . وقال تعالى : " والصلح خير " . والساعي في الإصلاح بين الناس ، أفضل من القانت بالصلاة ، والصيام ، والصدقة . والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله . كما أن الساعي في الإفساد ، لا يصلح الله عمله ، ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى : " إن الله لا يصلح عمل المفسدين(2/109)
". فهذه الأشياء ، حيثما فعلت ، فهي خير ، كما دل على ذلك الاستثناء . ولكن كمال الأجر وتمامه ، بحسب النية والإخلاص ، ولهذا قال : " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما " . فلهذا ينبغي للعبد ، أن يقصد وجه الله تعالى ، ويخلص العمل لله ، في كل وقت ، وفي كل جزء من أجزاء الخير ، ليحصل له بذلك ، الأجر العظيم ، وليتعود الإخلاص ، فيكون من المخلصين ، وليتم له الأجر ، سواء تم مقصوده أم لا ، لأن النية حصلت ، واقترن بها ، ما يمكن من العمل .
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا "(2/110)
أي : ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعانده فيما جاء به " من بعد ما تبين له الهدى " بالدلائل القرآنية ، والبراهين النبوية . " ويتبع غير سبيل المؤمنين " وسبيلهم هو : طريقهم في عقائدهم وأعمالهم . " نوله ما تولى " أي : نتركه وما اختاره لنفسه ، ونخذله ، فلا نوفقه للخير ، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه . فجزاؤه من الله عدلا ، أن يبقيه في ضلاله حائرا ، ويزداد ضلالا إلى ضلاله . كما قال تعالى : " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " ، وقال تعالى : " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " . ويدل مفهومها ، على أن من لم يشاقق الرسول ، ويتبع سبيل المؤمنين ، بأن كان قصده وجه الله ، واتباع رسوله ، ولزوم جماعة المسلمين ، ثم صدر منه ، من الذنوب أو الهم بها ، ما هو من مقتضيات النفوس ، وغلبات الطباع ، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه ، بل يتداركه بلطفه ، ويمن عليه ، بحفظه ، ويعصمه من السوء كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام : " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين " أي : بسبب إخلاصه ، صرفنا عنه السوء ، وكذلك كل مخلص ، كما يدل عليه ، عموم التعليل . وقوله : " ونصله جهنم "أي : نعذبه فيها عذابا عظيما . " وساءت مصيرا " أي : مرجعا له ومآلا . وهذا الوعيد ، المترتب على الشقاق ، ومخالفة المؤمنين ، مراتب ، لا يحصيها إلا الله ، بحسب حالة الذنب ، صغرا وكبرا . فمنه ما يخلد في النار ، ويوجب جميع الخذلان . ومنه ما هو دون ذلك ، فلعل الآية الثانية ، كالتفصيل لهذا المطلق . وهو : أن الشرك ، لا يغفره الله تعالى ، لتضمنه القدح في رب العالمين ، ووحدانيته ، وتسوية المخلوق ، الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، بمن هو مالك النفع والضر ، الذي ما من نعمة إلا منه ، ولا يدفع النقم إلا هو ، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه ، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات . فمن أعظم الظلم ، وأبعد الضلال ، عدم(2/111)
إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته ، وصرف شيء منها للمخلوق ، الذي ليس له من صفات الكمال شيء ، ولا له من صفات الغنى شيء ، بل ليس له إلا العدم . عدم الوجود ، وعدم الكمال ، وعدم الغنى من جميع الوجوه . وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي ، فهو تحت المشيئة . إن شاء الله غفره برحمته وحكمته . وإن شاء عذب عليه ، وعاقب بعدله وحكمته . وقد استدل بهذه الآية الكريمة ، على أن إجماع هذه الأمة ، حجة ، وأنها معصومة من الخطأ . ووجه ذلك : أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين ، بالخذلان والنار . وسبيل المؤمنين مفرد مضاف ، يشمل سائر ما المؤمنون عليه ، من العقائد والأعمال . فإذا اتفقوا على إيجاب شيء ، أو استحبابه ، أو تحريمه ، أو كراهته ، أو إباحته ـ فهذا سبيلهم . فمن خالفهم في شيء من ذلك ، بعد انعقاد إجماعهم عليه ، فقد اتبع غير سبيلهم . ويدل على ذلك قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " . ووجه الدلالة منها ، أن الله تعالى ، أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة ، لا يأمرون إلا بالمعروف . فإذا اتفقوا على إيجاب شيء ، أو استحبابه ، فهو مما أمروا به . فيتعين ـ بنص الآية ـ أن يكون معروفا ، ولا شيء بعد المعروف ، غير المنكر . وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء ، فهو مما نهوا عنه ، فلا يكون إلا منكرا . ومثل ذلك ، قوله : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " . فأخبر تعالى ، أن هذه الأمة ، جعلها الله وسطا أي : عدلا خيارا ، ليكونوا شهداء على الناس ، أي : في كل شيء . فإذا شهدوا على حكم ، بأن الله أمر به ، أو نهى عنه ، أو أباحه ، فإن شهادتهم معصومة ، لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم . فلو كان الأمر بخلاف ذلك ، لم يكونوا عادلين في شهادتهم ، ولا عالمين بها . ومثل ذلك قوله تعالى : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " . يفهم منها ، أن ما لم يتنازعوا(2/112)
فيه ، بل اتفقوا عليه ، أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة . وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة ، فلا يكون مخالفا ....
إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً *
يخبر تعالى أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين ، ويغفر ما دون ذلك ، من الذنوب ، صغائرها ، وكبائرها ، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك ، إذا اقتضت حكمته مغفرته . فالذنوب التي دون الشرك ، قد جعل الله لمغفرتها ، أسبابا كثيرة كالحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة في الدنيا ، والبرزخ ، ويوم القيامة ، وكدعاء المؤمنين ، بعضهم لبعض ، وبشفاعة الشافعين . ومن دون ذلك كله ، رحمته ، التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد . وهذا بخلاف الشرك فإنه المشرك ، قد سد على نفسه أبواب المغفرة ، وأغلق دونه أبواب الرحمة ، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد ، ولا تفيده المصائب شيئا وما لهم يوم القيامة " من شافعين ولا صديق حميم "... . ولهذا قال تعالى هنا : "وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً " وقال في آية أخرى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء : 48 ) "...
وقوله تعالى : ? وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً * وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً * ? (النساء : 125- 126 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا "(2/113)
أي : لا أحد أحسن من دين من جمع بين الإخلاص للمعبود ، وهو : إسلام الوجه لله ، الدال عى استسلام القلب وتوجهه ، وإنابته ، وإخلاصه وتوجه الوجه وسائر الأعضاء لله . " وهو "
مع هذا الإخلاص والاستسلام " محسن " أي : متبع لشريعة الله ، التي أرسل الله بها رسله ، وأنزل كتبه ، وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم ." واتبع ملة إبراهيم " أي : دينه وشرعه
" حنيفا " أي : مائلا عن الشرك إلى التوحيد ، وعن التوجه للخلق ، إلى الإقبال على الخالق .
" واتخذ الله إبراهيم خليلا " والخلة أعلى أنواع المحبة . وهذه المرتبة ، حصلت للخليلين ، محمد ، وإبراهيم ، عليهما الصلاة والسلام . وأما المحبة من الله ، فهي لعموم المؤمنين . وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلا ، لأنه وفى بما أمر به ، وقام بما ابتلي به . فجعله الله إماما للناس ، واتخذه خليلا ، ونوه بذكره في العالمين .
" ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا " وهذه الآية الكريمة ، فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الأشياء . فأخبر أن له " ما في السماوات وما في الأرض " أي : الجميع ملكه وعبيده . فهم المملوكون ، وهو المالك المتفرد بتدبيرهم . وقد أحاط علمه بجميع المعلومات ، وبصره بجميع المبصرات ، وسمعه بجميع المسموعات ، ونفذت مشيئته وقدرته ، بجميع الموجودات ، ووسعت رحمته أهل الأرض والسموات ، وقهر بعزه وقهره ، كل مخلوق ، ودانت له جميع الأشياء
وقوله تعالى : ? وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ? (النساء : 129 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/114)
يخبر تعالى : أن الأزواج لا يستطيعون ، وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء . وذلك ، لأن العدل : يستلزم وجود المحبة على السواء ، والداعي على السواء ، والميل في القلب إليهن على السواء ، ثم العمل بمقتضى ذلك . وهذا متعذر غير ممكن ، فلذلك عفا الله ، عما لا يستطاع ونهى عما هو ممكن بقوله : " فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " أي : لا تميلوا ميلا كثيرا ، بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة . بل افعلوا ما هو باستطاعتكم في العدل . فالنفقة والكسوة ، والقسم ونحوها ، عليكم أن تعدلوا بينهن فيها . بخلاف الحب ، والوطء ونحو ذلك ، فإن الزوجة ، إذا ترك زوجها ، ما يجب لها ، صارت كالمعلقة ، التي لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج ، ولا ذات زوج ، يقوم بحقوقها . " وإن تصلحوا " ما بينكم وبين زوجاتكم . وبإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس ، احتسابا وقياما بحق الزوجة . وتصلحوا أيضا ، فيما بينكم وبين الناس . وتصلحوا أيضا بين الناس ، فيما تنازعوا فيه . وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم . " وتتقوا " الله بفعل المأمور وترك المحظور ، والصبر على المقدور .
" فإن الله كان غفورا رحيما " يغفر ما صدر منكم ، من الذنوب ، والتقصير في الحق الواجب ، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن .(2/115)
وقوله تعالى : ? إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً * مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً * لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً * إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً *? (النساء : 146 - 149 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما "
يخبر تعالى ، عن مآل المنافقين ، أنهم في أسفل الدركات من العذاب ، وأشر الحالات من العقاب . فهم تحت سائر الكفار ، لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ، ومعاداة رسله . وزادوا عليهم ، المكر والخديعة ، والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين ، على وجه لا يشعر به ولا يحس . ورتبوا على ذلك ، جريان أحكام الإسلام عليهم ، واستحقاق ما لا يستحقونه . فبذلك ونحوه ، استحقوا أشد العذاب . وليس لهم منقذ من عذابه ، ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه . وهذا عام لكل منافق ، إلا من من الله عليهم بالتوبة من السيئات . " وأصلحوا " له الظواهر والبواطن
" واعتصموا بالله " والتجأوا إليه ، في جلب منافعهم ، ودفع المضار عنهم . " وأخلصوا دينهم "(2/116)
الذي هو الإسلام ، والإيمان والإحسان " لله " . فقصدوا وجه الله ، بأعمالهم الظاهرة والباطنة ، وسلموا من الرياء والنفاق . فمن اتصف بهذه الصفات " فأولئك مع المؤمنين " أي : في الدنيا ، والبرزخ ، ويوم القيامة . " وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما " لا يعلم كنهه إلا الله ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص ، بالذكر مع دخولهما في قوله : " وأصلحوا " لأن الاعتصام والإخلاص ، من جملة الإصلاح ، لشدة الحاجة إليهما ، خصوصا في هذا المقام الحرج ، الذي تمكن فيه النفاق من القلوب . فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله ، ودوام اللجأ والافتقار إليه ، في دفعه ، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق . فذكرهما لفضلهما ، وتوقف الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما ، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما . وتأمل كيف ـ لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين ـ لم يقل : وسوف يؤتيهم أجرا عظيما ، مع أن السيئات فيهم . بل قال : " وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما " . لأن هذه القاعدة الشريفة ـ لم يزل الله يبدىء فيها ويعيد ، إذا كان السياق في بعض الجزئيات ، وأراد أن يرتب عليه ثوابا أو عقابا وكان ذلك مشتركا بينه وبين الجنس الداخل فيه . رتب الثواب ، في مقابلة الحكم العام ، الذي تندرج تحته ، تلك القضية وغيرها . ولئلا يتوهم اختصاص الحكم ، بالأمر الجزئي ، فهذا من أسرار القرآن البديعة . فالتائب من المنافقين ، مع المؤمنين ، وله ثوابهم . ثم أخبر تعالى ، عن كمال غناه ، وسعة حلمه ، ورحمته وإحسانه فقال : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " والحال أن الله شاكر عليم . يعطي المتحملين لأجله الأثقال ، الدائبين في الأعمال؛ جزيل الثواب وواسع الإحسان . ومن ترك شيئا لله ، أعطاه الله خيرا منه . ومع هذا ، يعلم ظاهركم وباطنكم ، وأعمالكم ، وما تصدر عنه من إخلاص وصدق ، وضد ذلك . وهو يريد التوبة(2/117)
والإنابة منكم والرجوع إليه . فإذا أنبتم إليه ، فأي شيء يفعل بعذابكم ؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم ، ولا ينتفع بعقابكم . بل العاصي لا يضر إلا نفسه ، كما أن عمل المطيع لنفسه . والشكر هو : خضوع القلب ، واعترافه بنعمة الله ، وثناء اللسان على المشكور . وعمل الجوارح بطاعته ، وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه .
وقوله تعالى : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا "(2/118)
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ، ويعاقب عليه . ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة ، التي تسوء وتحزن ، كالشتم ، والقذف ، والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله ، من المنهي عنه ، الذي يبغضه الله . ويدل مفهومها ، أنه يحب الحسن من القول ، كالذكر ، والكلام الطيب اللين . وقوله : " إلا من ظلم " أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ، ويشتكي منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ، ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه . ومع ذلك ، فعفوه ، وعدم مقابلته ، أولى كما قال تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله "..." وكان الله سميعا عليما " ولما كانت الآية ، قد اشتملت على الكلام السيء ، والحسن ، والمباح ، أخبر تعالى ، أنه سميع ، فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم . وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن " عليم " بنياتكم ومصدر أقوالكم . ثم قال تعالى : " إن تبدوا خيرا أو تخفوه " وهذا يشمل كل خير ، قولي ، وفعلي ، ظاهر ، وباطن ، من واجب ، ومستحب . " أو تعفوا عن سوء " أي : عمن أساء إليكم في أبدانكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، فتسمحوا عنه ، فإن الجزاء من جنس العمل . فمن عفا لله ، عفا الله عنه ، ومن أحسن ، أحسن الله إليه ، فلهذا قال : " فإن الله كان عفوا قديرا "أي : يعفو عن زلات عباده ، وذنوبهم العظيمة . فيسدل عليهم ستره ، ثم يعاملهم بعفوه التام ، الصادر عن قدرته . وفي هذه الآية ، إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته ، وأن الخلق والأمر ، صادر عنها ، وهي مقتضية له ، ولهذا يعلل الأحكام ، بالأسماء الحسنى ، كما في هذه الآية . لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء ، رتب على ذلك ، بأن أحالنا على معرفة أسمائه ، وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص...(2/119)
وقوله تعالى : ? لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ? (النساء : 162 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
لما ذكر معايب أهل الكتاب ، ذكر الممدوحين منهم فقال : " لكن الراسخون في العلم " أي : الذين ثبت العلم في قلوبهم ، ورسخ الإيقان في أفئدتهم ، فأثمر لهم الإيمان التام العام " بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " وأثمر لهم الأعمال الصالحة ، من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، الذين هما أفضل الأعمال . وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود ، والإحسان إلى العبيد . وآمنوا باليوم الآخر ، فخافوا الوعيد ، ورجوا الوعد . " أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما " لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان ، والعمل الصالح ، والإيمان بالكتب ، والرسل السابقة واللاحقة .
وقوله تعالى : ? (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً?) (النساء : 174 - 175 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/120)
" يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم " أي : حجج قاطعة على الحق ، تبينه وتوضحه ، وتبين ضده . وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية ، والآيات الأفقية والنفسية " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " . وفي قوله : " من ربكم " ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته ، حيث كان من ربكم ، الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية . فمن تربيته لكم ، التي يحمد عليها ويشكر ، أن أوصل إليكم البينات ، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم ، والوصول إلى جنات النعيم . " وأنزلنا إليكم نورا مبينا " وهو هذا القرآن العظيم ، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين ، والأخبار الصادقة النافعة ، والأمر بكل عدل وإحسان وخير ، والنهي عن كل ظلم وشر . فالناس في ظلمة ، إن لم يستضيئوا بأنواره ، وفي شقاء عظيم ، إن لم يقتبسوا من خيره . ولكن انقسم الناس ـ حسب الإيمان بالقرآن ، والانتفاع به ـ قسمين . " فأما الذين آمنوا بالله " أي : اعترفوا بوجوده ، واتصافه بكل وصف كامل ، وتنزيهه من كل نقص وعيب . " واعتصموا به " أي : لجأوا إلى الله ، واعتمدوا عليه ، وتبرأوا من حولهم وقوتهم ، واستعانوا بربهم . " فسيدخلهم في رحمة منه وفضل " أي : فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة ، فيوفقهم للخيرات ، ويجزل لهم المثوبات ، ويدفع عنهم البليات . " ويهديهم إليه صراطا مستقيما " أي : يوفقهم للعلم والعمل ومعرفة الحق والعمل به . أي : ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ، ويتمسك بكتابه ، منعهم من رحمته ، وحرمهم من فضله ، وخلى بينهم وبين أنفسهم ، فلم يهتدوا ، بل ضلوا ضلالا مبينا ، عقوبة لهم على تركهم الإيمان ، فحصلت لهم الخيبة والحرمان . نسأله تعالى ، العفو ، والعافية ، والمعافاة .
ومن سورة المائدة اثنتا عشرة آية(2/121)
قوله تعالى : ? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *? (المائدة : 2 - 3 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وتعاونوا على البر والتقوى " أي : ليعن بعضكم بعضا على البر . وهو : اسم جامع لكل من يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين . والتقوى في هذا الموضع : اسم جامع ، لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . وكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المؤمنين ، بكل قول يبعث عليها ، وينشط لها ، وبكل فعل كذلك . " ولا تعاونوا على الإثم " وهو التجري على المعاصي ، التي يأثم صاحبها ، ويجرح . " والعدوان " هو : التعدي على الخلق ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم . فكل معصية وظلم ، يجب على العبد ، كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه .
" واتقوا الله إن الله شديد العقاب " على من عصاه ، وتجرأ على محارمه . فاحذروا المحارم ، لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل .(2/122)
" حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم "
هذا الذي حولنا الله عليه في قوله : " إلا ما يتلى عليكم "... . واعلم أن الله تبارك وتعالى ، لا يحرم ما يحرم ، إلا صيانة لعباده ، وحماية لهم من الضرر الموجود في المحرمات ، وقد يبين للعباد ذلك ، وقد لا يبين . فأخبر أنه حرم(2/123)
" الميتة " ، والمراد بالميتة : ما فقدت حياته بغير ذكاة شرعية ، فإنها تحرم ، لضررها ، وهو احتقان الدم في جوفها ولحمها ، المضر بآكلها . وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلاكها ، فتضر بالآكل . ويستثنى من ذلك ، ميتة الجراد ، والسمك فإنه حلال . " والدم " أي : المسفوح ، كما قيد في الآية الأخرى . " ولحم الخنزير " وذلك شامل لجميع أجزائه . وإنما نص الله عليه من بين سائر الخبائث من السباع ، لأن طائفة من أهل الكتاب ، من النصارى ، يزعمون أن الله أحله لهم . أي : فلا تغتروا بهم ، بل هو محرم من جملة الخبائث . " وما أهل لغير الله به " أي : ذكر عليه اسم غير الله ، من الأصنام ، والأولياء ، والكواكب ، وغير ذلك من المخلوقين . فكما أن ذكر الله تعالى يطيب الذبيحة ، فذكر اسم غيره عليها ، يفيدها خبثا معنويا ، لأنه شرك بالله تعالى . " والمنخنقة " أي : الميتة بخنق ، بيد ، أو حبل ، أو إدخال رأسها بشيء ضيق ، فتعجز عن إخراجه ، حتى تموت . " والموقوذة " أي : الميتة بسبب الضرب ، بعصا ، أو حصى ، أو خشبة ، أو هدم شيء عليها ، بقصد ، أو بغير قصد . " والمتردية " أي : الساقطة من علو ، كجبل ، أو جدار ، أو سطح ونحوه ، فتموت بذلك . " والنطيحة " وهي التي تنطحها غيرها فتموت . " وما أكل السبع " من ذئب ، أو أسد ، أو نمر ، أو من الطيور التي تفترس الصيود ، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع ، فإنها لا تحل . وقوله : " إلا ما ذكيتم " راجع لهذه المسائل ، من منخنقة ، وموقوذة ، ومتردية ، ونطيحة ، وأكيلة سبع ، إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة لتتحقق الذكاة فيها . ولهذا قال الفقهاء : " لو أبان السبع أو غيره ، حشوتها ، أو قطع حلقومها ، كان وجود حياتها ، كعدمها ، لعدم فائدة الذكاة فيها " . وبعضهم لم يعتبر فيها إلا وجود الحياة ، فإذا ذكاها وفيها حياة ، حلت ، ولو كانت مبانة الحشوة ، وهو ظاهر الآية الكريمة . " وأن تستقسموا بالأزلام " أي : وحرم(2/124)
عليكم الاستقسام بالأزلام . ومعنى الاستقسام : طلب ما يقسم لكم ، ويقدر بها . وهي قداح ثلاثة ، كانت تستعمل في الجاهلية ، مكتوب على أحدها " افعل " وعلى الثاني " لا تفعل " والثالث " غفل " لا كتابة فيه . فإذا هم أحدهم بسفر ، أو عرس أو نحوهما ، أجال تلك القداح المتساوية في الجرم ، ثم أخرج واحدا منها . فإن خرج المكتوب عليه " افعل " مضى في أمره . وإن ظهر المكتوب عليه " لا تفعل " لم يفعل ولم يمض في شأنه . وإن ظهر الآخر ، الذي لا شيء عليه ، أعادها حتى يخرج أحد القدحين ، فيعمل به . فحرم الله عليهم الذي في هذه الصورة ، وما يشبهها ، وعوضهم عنه ، بالاستخارة لربهم ، في جميع أمورهم . " ذلكم فسق " الإشارة لكل ما تقدم من المحرمات ، التي حرمها الله ، صيانة لعباده ، وأنها فسق ، أي : خروج عن طاعته ، إلى طاعة الشيطان . ثم امتن على عباده بقوله :" اليوم يئس الذين كفروا من دينكم "الآية . واليوم المشار إليه ، يوم عرفة ، إذ أتم الله دينه ، ونصر عبده ورسوله ، وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا ، بعدما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم ، طامعين في ذلك . فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره ، يئسوا كل اليأس من المؤمنين ، أن يرجعوا إلى دينهم ، وصاروا يخافون منهم ويخشون . ولهذا في هذه السنة ، التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع ـ لم يحجج فيها مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان . ولهذا قال : " فلا تخشوهم واخشون " أي : فلا تخشوا المشركين ، واخشوا الله ، الذي نصركم عليهم ، وخذلهم ، ورد كيدهم في نحورهم .(2/125)
" اليوم أكملت لكم دينكم " بتمام النصر ، وتكميل الشرائع ، الظاهرة والباطنة ، الأصول والفروع . ولهذا كان الكتاب والسنة ، كافيين كل الكفاية ، في أحكام الدين ، وأصوله وفروعه . فكل متكلف يزعم ، أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم ، إلى علوم ، غير علم الكتاب والسنة ، من علم الكلام وغيره ، فهو جاهل ، مبطل في دعواه ، قد زعم أن الدين لا يكمل ، إلا بما قاله ، ودعا إليه . وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله .
" وأتممت عليكم نعمتي " الظاهرة والباطنة " ورضيت لكم الإسلام دينا " أي : اخترته واصطفيته لكم دينا ، كما ارتضيتكم له . فقوموا به ، شكرا لربكم ، واحمدوا الذي من عليكم ، بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها . " فمن اضطر " أي : ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات السابقة ، في قوله : " حرمت عليكم الميتة "..." في مخمصة "
أي : مجاعة " غير متجانف " أي : مائل " لإثم " بأن لا يأكل حتى يضطر ، ولا يزيد في الأكل على كفايته . " فإن الله غفور رحيم " حيث أباح له الأكل في هذه الحال . ورحمه ، بما يقيم به بنيته ، من غير نقص يلحقه في دينه
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ? (المائدة : 9 - 10 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/126)
أي : " يا أيها الذين آمنوا " بما أمروا بالإيمان به ، قوموا بلازم إيمانكم ، بأن تكونوا " قوامين لله شهداء بالقسط " ، بأن تنشط للقيام بالقسط ، حركاتكم الظاهرة والباطنة . وأن يكون ذلك القيام ، لله وحده ، لا لغرض من الأغراض الدنيوية . وأن تكونوا قاصدين للقسط ، الذي هو العدل ، لا الإفراط ولا التفريط ، في أقوالكم ولا في أفعالكم . وقوموا بذلك ، على القريب ، والبعيد ، والصديق والعدو . " ولا يجرمنكم " أي : لا يحملنكم " شنآن قوم " أي : بغضهم . " على ألا تعدلوا " كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط . بل كما تشهدون لوليكم ، فاشهدوا عليه ، وكما تشهدون على عدوكم ، فاشهدوا له ، فلو كان كافرا أو مبتدعا . فإنه يجب العدل فيه ، وقبول ما يأتي به من الحق ، لا لأنه قاله . ولا يرد الحق لأجل قوله ، فإن هذا ظلم للحق . " اعدلوا هو أقرب للتقوى " أي : كلما حرصتم على العدل ، واجتهدتم في العمل به ، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم ، فإن تم العدل ، كملت التقوى . " إن الله خبير بما تعملون " فمجازيكم بأعمالكم ، خيرها ، وشرها ، صغيرها ، وكبيرها ، جزاء عاجلا ، وآجلا .
" وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم..." أي : " وعد الله " الذي لا يخلف الميعاد ، وهو أصدق القائلين ـ المؤمنين به ، وبكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر . " وعملوا الصالحات " من واجبات ، ومستحبات ـ بالمغفرة لذنوبهم ، بالعفو عنها ، وعن عواقبها ، وبالأجر العظيم الذي لا يعلم عظمه إلا الله تعالى ." فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "
وقوله تعالى : ? (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? (المائدة : 35 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/127)
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان ، من تقوى الله ، والحذر من سخطه وغضبه . وذلك بأن يجتهد العبد ، ويبذل غاية ما يمكنه المقدور ، في اجتناب ما يسخطه الله ، من معاصي القلب ، واللسان ، والجوارح ، الظاهرة ، والباطنة . ويستعين بالله على تركها ، لينجو بذلك من سخط الله وعذابه .
" وابتغوا إليه الوسيلة " أي : القرب منه ، والحظوة لديه ، والحب له . وذلك بأداء فرائضه القلبية ، كالحب له ، وفيه ، والخوف ، والرجاء ، والإنابة والتوكل . والبدنية : كالزكاة ، والحج . والمركبة من ذلك ، كالصلاة ونحوها ، من أنواع القراءة والذكر ، ومن أنواع الإحسان إلى الخلق ، بالمال ، والعلم ، والجاه ، والبدن ، والنصح لعباد الله . فكل هذه الأعمال ، تقرب إلى الله . ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله ، حتى يحبه . فإذا أحبه ، كان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ويستجيب الله له الدعاء . ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه ، الجهاد في سبيله ، وهو : بذل الجهد في قتال الكافرين ، بالمال ، والنفس ، والرأي ، واللسان ، والسعي في نصر دين الله ، بكل ما يقدر عليه العبد ، لأن هذا النوع ، من أجل الطاعات ، وأفضل القربات . ولأن من قام به ، فهو على القيام بغيره ، أحرى وأولى " لعلكم تفلحون " إذا اتقيتم الله ، بترك المعاصي ، وابتغيتم الوسيلة إلى الله ، بفعل الطاعات ، وجاهدتم في سبيله ، ابتغاء مرضاته . والفلاح هو : الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب ، والنجاة من كل مرهوب . فحقيقته ، السعادة الأبدية ، والنعيم المقيم .(2/128)
وقوله تعالى :? (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ* (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ? (المائدة : 49 -50 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/129)
" وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " . ودل هذا ، على بيان القسط ، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ، وما خالف ذلك ، فهو جور وظلم . " ولا تتبع أهواءهم " كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها . ولأن ذلك ، في مقام الحكم والفتوى ، وهو أوسع ، وهذا في مقام الحكم وحده . وكلاهما ، يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم ، المخالفة للحق ، ولهذا قال : " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " أي : إياك والاغترار بهم ، وأن يفتنوك ، فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك . فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب ، والفرض اتباعه . " فإن تولوا " عن اتباعك ، واتباع الحق " فاعلم " أن ذلك عقوبة عليهم و " أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم "فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة . ومن أعظم العقوبات ، أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول ، وذلك لفسقه . " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " أي : طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله ، واتباع رسوله . " أفحكم الجاهلية يبغون " أي : أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك ، حكم الجاهلية . وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله . فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية . فمن أعرض عن الأول ، ابتلى بالثاني المبني على الجهل ، والظلم ، والغي ، ولهذا أضافه الله للجاهلية . وأما حكم الله تعالى ، فمبني على العلم ، والعدل ، والقسط ، والنور ، والهدى . " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " فالموقن ، هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز ـ بإيقانه ـ ما في حكم الله ، من الحسن والبهاء ، وأنه يتعين ـ عقلا وشرعا ـ اتباعه . واليقين ، هو : العلم التام ، الموجب للعمل .(2/130)
وقوله تعالى : ? وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ *فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * ? ( المائدة 83 - 85 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " محمد صلى الله عليه وسلم ، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له ، وفاضت أعينهم ، بحسب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه ، فلذلك آمنوا ، وأقروا به فقالوا : " ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يشهدون لله بالتوحيد ، ولرسله بالرسالة ، وصحة ما جاؤوا به ، ويشهدون على الأمم السابقة ، بالتصديق والتكذيب . وهم عدول ، شهادتهم مقبولة ، كما قال تعالى : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " . فكأنهم ليموا على إيمانهم ، ومسارعتهم فيه ، فقالوا : " وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " أي : وما الذي يمنعنا ، من الإيمان بالله ، والحال ، أنه قد جاءنا الحق من ربنا ، الذي لا يقبل الشك والريب . ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق ، طمعنا أن يدخلنا الله الجنة ، مع القوم الصالحين . فأي مانع يمنعنا ؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان ، وعدم التخلف عنه . قال الله تعالى :
" فأثابهم الله بما قالوا " أي : بما تفوهوا به من الإيمان ، ونطقوا به من التصديق بالحق . " جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين "(2/131)
. وهذه الآيات ، نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، كالنجاشي وغيره ، ممن آمن منهم . وكذلك لا يزال يوجد فيهم ، من يختار دين الإسلام ، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه ، وهم أقرب من اليهود والمشركين ، إلى دين الإسلام . ولما ذكر ثواب المحسنين ، ذكر عقاب المسيئين فقال : " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم "
وقوله تعالى : ? (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (المائدة : 93 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح " أي : حرج وإثم " فيما طعموا " من الخمر والميسر قبل تحريمها . ولما كان نفي الجناح ، يشمل المذكورات وغيرها ، قيد ذلك بقوله : " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " أي : بشرط أنهم تاركون للمعاصي ، مؤمنون بالله إيمانا صحيحا ، موجبا لهم عمل الصالحات ، ثم استمروا على ذلك . وإلا ، فقد يتصف العبد بذلك ، في وقت دون آخر . فلا يكفي ، حتى يكون كذلك ، حتى يأتيه أجله ، ويدوم على إحسانه ، فإن الله يحب المحسنين في عبادة الخالق ، المحسنين في نفع العبيد . ويدخل في هذه الآية الكريمة ، من طعم المحرم ، أو فعل غيره بعد التحريم ، ثم اعترف بذنبه ، وتاب إلى الله ، واتقى وعمل صالحا ، فإن الله يغفر له ، ويرتفع عنه الإثم في ذلك
وقوله تعالى : ? (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ?(المائدة : 105 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/132)
يقول تعالى : " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " أي : اجتهدوا في إصلاحها ، وكمالها ، وإلزامها سلوك الصراط المستقيم . فإنكم ـ إذا صلحتم ـ لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم ، ولم يهتد إلى الدين القويم ، وإنما يضر نفسه . ولا يدل هذا ، أن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يضر العبد تركهما وإهمالهما . فإنه لا يتم هداه ، إلا بالإتيان بما يجب عليه ، من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . نعم ، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر ، بيده ، ولسانه ، وأنكره بقلبه ، فإنه لا يضره ضلال غيره . وقوله : " إلى الله مرجعكم جميعا " أي : مآلكم يوم القيامة ، واجتماعكم بين يدي الله تعالى . " فينبئكم بما كنتم تعملون " من خير وشر .
ومن سورة الأنعام سبع عشرة آية
قوله تعالى: ? (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) ? (الأنعام : 32 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
أما حقيقة الدنيا : فإنها لعب ولهو ، لعب في الأبدان ، ولهو في القلوب . فالقلوب لها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، والهموم فيها متعلقة ، والاشتغال بها ، كلعب الصبيان . وأما الآخرة ، فإنها " خير للذين يتقون " في ذاتها وصفاتها ، وبقائها ودوامها . وفيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، من نعيم القلوب والأرواح ، وكثرة السرور والأفراح . ولكنها ليست لكل أحد ، وإنما هي للمتقين ، الذين يفعلون أوامر الله ، ويتركون نواهيه وزواجره . " أفلا تعقلون " أي : أفلا يكون لكم عقول ، بها تدركون ، أي الدارين أحق بالإيثار .(2/133)
وقوله تعالى : ? فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * ? (الأنعام : 44 -45 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " من الدنيا ولذاتها وغفلاتها . " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " أي : آيسون من كل خير ، وهذا أشد ما يكون من العذاب ، أن يؤخذوا على غرة ، وغفلة وطمأنينة ، ليكون أشد لعقوبتهم ، وأعظم لمصيبتهم . " فقطع دابر القوم الذين ظلموا " أي : اصطلموا بالعذاب ، وتقطعت بهم الأسباب . " والحمد لله رب العالمين " على ما قضاه وقدره ، من هلاك المكذبين . فإن بذلك ، تتبين آياته ، وإكرامه لأوليائه ، وإهانته لأعدائه ، وصدق ما جاءت به المرسلون .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ? (الأنعام : 52 - 54 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/134)
قوله تعالى : " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " أي : لا تطرد عنك ، وعن مجالستك ، أهل العبادة والإخلاص ، رغبة في مجالسة غيرهم ، من الملازمين لدعاء ربهم ، دعاء العبادة بالذكر والصلاة ونحوها ، ودعاء المسألة ، في أول النهار وآخره ، وهم قاصدون بذلك ، وجه الله ، ليس لهم من الأغراض ، سوى ذلك الغرض الجليل . فهؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض عنهم ، بل هم مستحقون لموالاتك إياهم ومحبتهم ، وإدنائهم ، وتقريبهم ، لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء ، والأعزاء ـ في الحقيقة ـ وإن كانوا ـ عند الناس ـ أذلاء . " ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء " أي : كل له حسابه ، وله عمله الحسن ، وعمله القبيح . " فتطردهم فتكون من الظالمين " وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ، أشد امتثال . فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين ، صبر نفسه معهم ، وأحسن معاملتهم ، وألان لهم جانبه ، وحسن خلقه ، وقربهم منه ، بل كانوا هم ، أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم . وكان سبب نزول هذه الآيات ، أن أناسا من قريش ، أو من أجلاف العرب ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك ، فاطرد فلانا وفلانا ، أناسا من فقراء الصحابة ، فإنا نستحي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلاء الفقراء . فحمله حبه لإسلامهم ، واتباعهم له ، فحدثته نفسه بذلك ، فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها . " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا "(2/135)
أي : هذا ، من ابتلاء الله لعباده ، حيث جعل بعضهم غنيا؛ وبعضهم فقيرا ، وبعضهم شريفا ، وبعضهم وضيعا . فإذا من الله بالإيمان على الفقير ، أو الوضيع؛ كان محل محنة للغني والشريف . فإن كان قصده الحق واتباعه ، آمن وأسلم ، ولم يمنعه من ذلك مشاركة الذي يراه دونه ، بالغنى أو الشرف . وإن لم يكن صادقا في طلب الحق ، كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق . وقالوا ـ محتقرين لمن يرونهم دونهم ـ :
" أهؤلاء من الله عليهم من بيننا "
. فمنعهم هذا ، من اتباع الحق ، لعدم ذكائهم . قال الله ـ مجيبا لكلامهم ، المتضمن ، الاعتراض على الله في هداية هؤلاء ، وعدم هداية الله إياهم .
" أليس الله بأعلم بالشاكرين "
الذين يعرفون النعمة ، ويقرون بها ، ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح ، فيضع فضله ومنته عليهم ، دون من ليس بشاكر . فإن الله تعالى حكيم ، لا يضع فضله ، عند من ليس له أهل . وهؤلاء ، المعترضون بهذا الوصف بخلاف من من الله عليهم ، بالإيمان ، من الفقراء وغيرهم فإنهم هم الشاكرون . ولما نهى الله رسوله ، عن طرد المؤمنين القانتين ، أمره بمقابلتهم بالإكرام والإعظام ، والتبجيل والاحترام ، فقال : " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم "
أي : وإذا جاءك المؤمنون ، فحيهم ، ورحب بهم ولقهم منك تحية وسلاما ، وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم ، من رحمة الله ، وسعة جوده وإحسانه ، وحثهم على كل سبب وطريق ، يوصل لذلك . ورهبهم من الإقامة على الذنوب ، وأمرهم بالتوبة من المعاصي ، لينالوا مغفرة ربهم وجوده . ولهذا قال :" كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح " أي : فلا بد مع ترك الذنوب ، والإقلاع ، والندم عليها ، من إصلاح العمل ، وأداء ما أوجب الله ، وإصلاح ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة . فإذا وجد ذلك كله " فأنه غفور رحيم "(2/136)
أي : صب عليهم من مغفرته ورحمته ، بحسب ما قاموا به ، بما أمرهم به .
وقوله تعالى: ? وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ? (الأنعام : 68 - 69 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/137)
المراد بالخوض في آيات الله : التكلم بما يخالف الحق ، من تحسين المقالات الباطلة ، والدعوة إليها ، ومدح أهلها ، والإعراض عن الحق ، والقدح فيه وفي أهله . فأمر الله رسوله أصلا ، وأمته تبعا ، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر ، بالإعراض عنهم ، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل والاستمرار على ذلك ، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره . فإذا كان في كلام غيره ، زال النهي المذكور . فإن كان مصلحة ، كان مأمورا به ، وإن كان غير ذلك ، كان غير مفيد ولا مأمور به . وفي ذم الخوض بالباطل ، حث على البحث ، والنظر ، والمناظرة بالحق . ثم قال : " وإما ينسينك الشيطان " أي : بأن جلست معهم ، على وجه النسيان والغفلة . " فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين " يشمل الخائضين بالباطل ، وكل متكلم بمحرم ، أو فاعل لمحرم ، فإنه يحرم الجلوس والحضور ، عند حضور المنكر ، الذي لا يقدر على إزالته . هذا النهي والتحريم ، لمن جلس معهم ، ولم يستعمل تقوى الله ، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم ، أو يسكت عنهم ، وعن الإنكار . فإن استعمل تقوى الله تعالى ، بأن كان يأمرهم بالخير ، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم ، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه ـ فهذا ليس عليه حرج ولا إثم ، ولهذا قال : " وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون " أي : ولكن ليذكرهم ، ويعظهم ، لعلهم يتقون الله تعالى . وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكر من الكلام ، ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى . وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ ، مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره ، كان تركه هو الواجب ، لأنه إذا ناقض المقصود ، كان تركه مقصودا.
وقوله تعالى : ? (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ? (الأنعام : 82 ).
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/138)
" الذين آمنوا ولم يلبسوا " أي : يخلطوا " إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " الأمن من المخاوف ، والعذاب والشقاء ، والهداية إلى الصراط المستقيم . فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا ، لا بشرك ، ولا بمعاصي ، حصل لهم الأمن التام ، والهداية التامة . وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده ، ولكنهم يعملون السيئات ، حصل لهم أصل الهداية ، وأصل الأمن ، وإن لم يحصل لهم كمالها . ومفهوم الآية الكريمة ، أن الذين لم يحصل لهم الأمران ، لم يحصل لهم هداية ، ولا أمن ، بل حظهم الضلال والشقاء .
وقوله تعالى : ? وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ?) (الأنعام : 120 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
المراد بالإثم : جميع المعاصي ، التي تؤثم العبد ، أي : توقعه في الإثم ، والحرج ، من الأشياء المتعلقة بحقوق الله ، وحقوق عباده . فنهى الله عباده ، عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن . أي : السر والعلانية ، المتعلقة بالبدن والجوارح ، والمتعلقة بالقلب . ولا يتم للعبد ، ترك المعاصي الظاهرة والباطنة ، إلا بعد معرفتها ، والبحث عنها . فيكون البحث عنها ، ومعرفة معاصي القلب ، والبدن ، والعلم بذلك ، واجبا متعينا على المكلف . وكثير من الناس ، يخفى عليه كثير من المعاصي ، خصوصا ، معاصي القلب ، كالكبر ، والعجب ، والرياء ، ونحو ذلك . حتى إنه يكون به كثير منها ، وهو لا يحس به ولا يشعر ، وهذا من الإعراض عن العلم ، وعدم البصيرة . ثم أخبر تعالى ، أن الذين يكسبون الإثم الظاهر والباطن ، سيجزون على حسب كسبهم ، وعلى قدر ذنوبهم ، قلت أو كثرت . وهذا الجزاء يكون في الآخرة . وقد يكون في الدنيا ، يعاقب العبد ، فيخفف عنه بذلك ، من سيئاته .(2/139)
وقوله تعالى : ? فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ*وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ? (الأنعام :125 - 127 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون "
يقول تعالى ـ مبينا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته ، وعلامة شقاوته وضلاله ـ : إن من انشرح صدره للإسلام ، أي : اتسع وانفسح ، فاستنار بنور الإيمان ، وحيي بضوء اليقين ، فاطمأنت بذلك نفسه ، وأحب الخير ، وطوعت له نفسه فعله ، متلذذا به ـ غير مستثقل ـ فإن هذا ، علامة ، على أن الله قد هداه ، ومن عليه بالتوفيق ، وسلوك أقوم الطريق . وأن علامة من يرد الله أن يضله ، أن يجعل صدره ضيقا حرجا . أي : في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين . قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات ، فلا يصل إليه خير ، ولا ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه وشدته ، يكاد يصعد في السماء ، أي : كأنه يكلف الصعود إلى السماء ، الذي لا حيلة فيه . وهذا سببه ، عدم إيمانهم ، فهو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم ، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان . وهذا ميزان لا يعول ، وطريق لا يتغير . فإن من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، ييسره الله لليسرى . ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى ، فسييسره للعسرى .(2/140)
" وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون "
أي : معتدلا ، موصلا إلى الله ، وإلى دار كرامته ، قد بينت أحكامه ، وفصلت شرائعه ، وميز الخير من الشر . ولكن هذا التفصيل والبيان ، ليس لكل أحد ، إنما هو " لقوم يذكرون " . فإنهم الذين علموا ، فانتفعوا بعلمهم ، وأعد لهم الجزاء الجزيل ، والأجر الجميل . فلهذا قال : " لهم دار السلام عند ربهم " . وسميت الجنة دار السلام ، لسلامتها من كل عيب ، وآفة وكدر ، وهم وغم ، وغير ذلك من المنغصات . ويلزم من ذلك ، أن يكون نعيمها : في غاية الكمال ، ونهاية التمام ، بحيث لا يقدر على وصفه الواصفون ، ولا يتمنى فوقه المتمنون ، من نعيم الروح ، والقلب ، والبدن . ولهم فيها ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون . " وهو وليهم " الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم ، ولطف بهم في جميع أمورهم ، وأعانهم على طاعته ، ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته . وإنما تولاهم ، بسبب أعمالهم الصالحة ، ومقدماتهم التي قصدوا بها رضا مولاهم . بخلاف من أعرض عن مولاه ، واتبع هواه . فإنه سلط عليه الشيطان فتولاه ، فأفسد عليه دينه ودنياه(2/141)
وقوله تعالى :? وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ? (الأنعام : 151 -153 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون "(2/142)
يقول تعالى ، لنبيه صلى الله عليه وسلم : " قل " لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله ." تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " تحريما عاما ، شاملا لكل أحد ، محتويا على سائر المحرمات ، من المآكل ، والمشارب ، والأقوال ، والأفعال . " ألا تشركوا به شيئا " أي : لا قليلا ولا كثيرا . وحقيقة الشرك بالله : أن يعبد المخلوق ، كما يعبد الله ، أو يعظم كما يعظم الله ، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية . وإذا ترك العبد الشرك كله ، صار موحدا ، مخلصا لله في جميع أحواله . فهذا حق الله على عباده ، أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا . ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال : " وبالوالدين إحسانا " من الأقوال الكريمة الحسنة ، والأفعال الجميلة المستحسنة . فكل قول وفعل ، يحصل به منفعة للوالدين ، أو سرور لهما ، فإن ذلك من الإحسان ، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق . " ولا تقتلوا أولادكم " من ذكور وإناث " من إملاق " أي : بسبب الفقر وضيقتكم من رزقهم ، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة . وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال ، وهم أولادهم ، فنهيهم عن قتلهم ، لغير موجب ، أو قتل أولاد غيرهم ، من باب أولى ، وأحرى . " نحن نرزقكم وإياهم " أي : قد تكفلنا برزق الجميع ، فلستم الذين ترزقون أولادكم ، بل ولا أنفسكم ، فليس عليكم منهم ضيق . " ولا تقربوا الفواحش " وهي : الذنوب العظام المستفحشة . " ما ظهر منها وما بطن " أي : لا تقربوا الظاهر منها ، والخفي ، أو المتعلق منها بالظاهر ، والمتعلق بالقلب والباطن . والنهي عن قربان الفواحش ، أبلغ من النهي عن مجرد فعلها ، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ، ووسائلها الموصلة إليها . " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله " وهي : النفس المسلمة ، من ذكر ، وأنثى ، صغير ، وكبير ، بر ، وفاجر ، والكافرة التي قد عصمت ، بالعهد والميثاق . " إلا بالحق " كالزاني المحصن ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه(2/143)
، المفارق للجماعة . " ذلكم " المذكور " وصاكم به لعلكم تعقلون " عن الله وصيته ، ثم تحفظونها ، ثم تراعونها ، وتقومون بها . ودلت الآية ، على أنه بحسب عقل العبد ، يكون قيامه بما أمر الله به .
" ولا تقربوا مال اليتيم " بأكل ، أو معاوضة على وجه المحاباة لأنفسكم ، أو أخذ من غير سبب . " إلا بالتي هي أحسن " أي : إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم ، وينتفعون بها . فدل هذا ، على أنه لا يجوز قربانها ، والتصرف بها ، على وجه يضر اليتامى ، أو على وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة . " حتى يبلغ " اليتيم " أشده " أي : حتى يبلغ ويرشد ، ويعرف التصرف . فإذا بلغ أشده ، أعطي ، حينئذ ، ماله ، وتصرف فيه على نظره . وفي هذا دلالة على أن اليتيم ـ قبل بلوغ الأشد ـ محجور عليه ، وأن وليه يتصرف في ماله بالأحظ ، وأن هذا الحجر ، ينتهي ببلوغ الأشد . " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " أي : بالعدل ، والوفاء التام . فإذا اجتهدتم في ذلك ، فإننا " لا نكلف نفسا إلا وسعها "أي : بقدر ما تسعه ، ولا تضيق عنه . فمن حرص على الإيفاء ، في الكيل ، والوزن ، ثم حصل منه تقصير ، لم يفرط فيه ، ولم يعلمه ، فإن الله غفور رحيم . وبهذه الآية استدل الأصوليون ، بأن الله لا يكلف أحدا ، ما لا يطيق ، وعلى أن من اتقى الله ، فيما أمر ، وفعل ما يمكنه من ذلك ، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك . " وإذا قلتم " قولا تحكمون به بين الناس ، وتفصلون بينهم الخطاب ، وتتكلمون به على المقالات والأحوال " فاعدلوا " في قولكم ، بمراعاة الصدق فيمن تحبون ، ومن تكرهون والإنصاف ، وعدم كتمان ما يلزم بيانه . فإن الميل ، على من تكره بالكلام فيه ، أو في مقالته ، من الظلم المحرم . بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع ، فالواجب عليه ، أن يعطي كل ذي حق حقه ، وأن يبين ما فيها ، من الحق والباطل ، ويعتبر قربها من الحق ، وبعدها منه . وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين ،(2/144)
في لحظه ، ولفظه . " وبعهد الله أوفوا " وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد ، من القيام بحقوقه ، والوفاء بها ، ومن العهد الذي يقع التعاهد به بين الخلق . فالجميع ، يجب الوفاء به ، ويحرم نقضه ، والإخلال به . " ذلكم " الأحكام المذكورة " وصاكم به لعلكم تذكرون " ما بينه لكم من الأحكام ، وتقومون بوصية الله لكم ، حق القيام ، وتعرفون ما فيها ، من الحكم والأحكام . ولما بين كثيرا من الأوامر الكبار ، والشرائع المهمة ، أشار إليها ، وإلى ما هو أعم منها فقال : " وأن هذا صراطي مستقيما " أي : هذه الأحكام وما أشبهها ، مما بينه الله في كتابه ، ووضحه لعباده ، صراط الله الموصل إليه ، وإلى دار كرامته ، المعتدل السهل المختصر . " فاتبعوه " لتنالوا الفوز والفلاح ، وتدركوا الآمال والأفراح . " ولا تتبعوا السبل " أي : الطرق المخالفة لهذا الطريق . " فتفرق بكم عن سبيله " أي : تضلكم عنه وتفرقكم ، يمينا وشمالا . فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم ، فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم . " ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " ، فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم ، علما وعملا ، صرتم من المتقين ، وعباد الله المفلحين . ووحد الصراط ، وأضافه إليه ، لأنه سبيل واحد موصل إليه . والله هو المعين للسالكين ، على سلوكه .
وقوله تعالى : ? مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? (الأنعام : 160 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
ذكر تعالى صفةَ الجزاء فقال : " من جاء بالحسنة " القولية والفعلية ، الظاهرة ، والباطنة ، المتعلقة بحق الله ، أو حق خلقه . " فله عشر أمثالها " هذا أقل ما يكون من التضعيف . " ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " وهذا من تمام عدله تعالى وإحسانه ، وأنه لا يظلم مثقال ذرة ، ولهذا قال : " وهم لا يظلمون "(2/145)
ومن سورة الآعراف ثماني آيات
قوله تعالى : ? قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ*يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * ? (الأعراف : 29 - 31 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" قل أمر ربي بالقسط " أي : بالعدل في العبادات والمعاملات ، لا بالظلم والجور . " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " أي : توجهوا إلى الله ، واجتهدوا في تكميل العبادات ، خصوصا " الصلاة " أقيموها ، ظاهرا وباطنا ، ونقوها من كل نقص ومفسد . " وادعوه مخلصين له الدين " أي : قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له . والدعاء يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة أي : لا تريدوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم ، سوى عبودية الله ورضاه . " كما بدأكم " أول مرة " تعودون " للبعث ، فالقادر على بدء خلقكم ، قادر على إعادته ، بل الإعادة ، أهون من البدء .
" فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون "...(2/146)
" فريقا " منكم " هدى " الله ، أي : وفقهم للهداية ، ويسر لهم أسبابها ، وصرف عنهم موانعها . " وفريقا حق عليهم الضلالة " أي : وجبت عليهم الضلالة ، بما تسببوا لأنفسهم ، وعملوا بأسباب الغواية . " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله " ومن يتخذ الشيطاين وليا من دون الله ، فقد خسر خسرانا مبينا . فحين انسلخوا من ولاية الرحمن ، واستحبوا ولاية الشيطان ، حصل لهم النصيب الوافر ، من الخذلان ، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران . " ويحسبون أنهم مهتدون " لأنهم انقلبت عليهم الحقائق ، فظنوا الباطل حقا ، والحق باطلا . وفي هذه الآيات ، دليل على أن الأوامر والنواهي ، تابعة للحكمة والمصلحة ، حيث ذكر تعالى ، أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول ، وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص ، وفيه دليل على أن الهداية ، بفضل الله ومنه ، وأن الضلالة بخذلانه للعبد ، إذ تولى ـ بجهله وظلمه ـ الشيطان ، وتسبب لنفسه بالضلال . وأن من حسب أنه مهتد ، وهو ضال ، فإنه لا عذر له ، لأنه متمكن من الهدى ، وإنما أتاه حسبانه ، من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى .
" يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " يقول تعالى ـ بعدما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا ـ : " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " أي : استروا عوراتكم عند الصلاة كلها ، وفرضها ونفلها ، فإن سترها زينة للبدن ، كما أن كشفها ، يدع البدن قبيحا مشوها . ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ، ما فوق ذلك ، من اللباس النظيف الحسن ، ففي هذا ، الأمر بستر العورة في الصلاة ، وباستعمال التجميل فيها ، ونظافة السترة من الأدناس والأنجاس . ثم قال : " وكلوا واشربوا "(2/147)
أي : مما رزقكم الله من الطيبات " ولا تسرفوا " في ذلك . والإسراف ، إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي ، ولشره في المأكولات التي تضر بالجسم ، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل ، والمشارب ، واللباس ، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام . " إنه لا يحب المسرفين " فإن السرف يبغضه الله ، ويضر بدن الإنسان ومعيشته ، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات ، ففي هذه الآية الكريمة ، الأمر بتناول الأكل والشرب ، والنهي عن تركهما ، وعن الإسراف فيهما .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ? (الأعراف : 96 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
ذكر تعالى أن أهل القرى ، لو آمنوا بقلوبهم ، إيمانا صادقا ، صدقته الأعمال ، واستعملوا تقوى الله تعالى ، ظاهرا وباطنا ، بترك جميع ما حرم الله ، لفتح عليهم بركات من السماء والأرض ، فأرسل السماء عليهم مدرارا ، وأنبت لهم من الأرض ، ما به يعيشون ، وتعيش بهائمهم ، في أخصب عيش ، وأغزر رزق ، من غير عناء ولا تعب ، ولا كد ولا نصب ، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا " فأخذناهم بما كانوا يكسبون " بالعقوبات والبلايا ، ونزع البركات ، وكثرة الآفات ، وهي بعض جزاء أعمالهم ، وإلا ، فلو أخذهم بجميع ما كسبوا ، ما ترك على ظهرها من دابة . ..." ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون "
وقوله تعالى : ? فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ? (الأعراف : 165 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/148)
" فلما نسوا ما ذكروا به " أي : تركوا ما ذكروا به ، واستمروا على غيهم واعتدائهم . " أنجينا الذين ينهون عن السوء " وهكذا سنة الله في عباده ، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . " وأخذنا الذين ظلموا " وهم الذين اعتدوا في السبت " بعذاب بئيس " أي : شديد " بما كانوا يفسقون "
وقوله نعالى :? وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ * ? (الأعراف : 203 -206 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/149)
قوله تعالى : " وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " أي لا يزال هؤلاء المكذبون لك في تعنت وعناد ، ولو جاءتهم الآيات الدالة على الهدى والرشاد . فإذا جئتهم بشيء من الآيات الدالة على صدقك ، لم ينقادوا . " وإذا لم تأتهم بآية " من آيات الاقتراح ، التي يعينونها " قالوا لولا اجتبيتها " أي : هلا اخترت الآية ، فصارت الآية الفلانية ، والمعجزة الفلانية كأنك أنت المنزل للآيات ، المدبر لجميع المخلوقات ، ولم يعلموا أنه ليس لك من الأمر شيء ، أو لولا اخترعتها من نفسك . " قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي " فأنا عبد متبع ، مدبر ، والله تعالى هو الذي ينزل الآيات ويرسلها على حسب ما اقتضاه حمده وطلبته حكمته البالغة ، فإن أردتم آية ، لا تضمحل على تعاقب الأوقات ، وحجة لا تبطل في جميع الآنات . فإن " هذا " القرآن العظيم ، والذكر الحكيم " بصائر من ربكم " يستبصر به في جميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الإنسانية ، وهو الدليل والمدلول ، فمن تفكر وتدبره ، علم أنه تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وبه قامت الحجة ، على كل من بلغه ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . وإلا فمن آمن ، فهو " هدى " له من الضلال " ورحمة " له من الشقاء ، فالمؤمن ، مهتد بالقرآن ، متبع له ، سعيد في دنياه وأخراه . وأما من لم يؤمن به ، فإنه ضال شقي ، في الدنيا والآخرة ....
" وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون "(2/150)
هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى ، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات ، والفرق بين الاستماع والإنصات ، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه . وأما الاستماع له ، فهو أن يلقي سمعه ، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع . فإن من لازم على هذين الأمرين ، حين يتلى كتاب الله ، فإنه ينال خيرا كثيرا ، وعلما غزيرا ، وإيمانا مستمرا متجددا ، وهدى متزايدا ، وبصيرة في دينه . ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما ، فدل ذلك على أن من تلي عليه الكتاب ، فلم يستمع له ولم ينصت ، أنه محروم الحظ ، من الرحمة ، قد فاته خير كثير . ومن أوكد ما يؤمر مستمع القرآن ، أنه يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه ، فإنه مأمور بالإنصات ، حتى إن أكثر العلماء يقولون : إن اشتغاله بالإنصات ، أولى من قراءته الفاتحة وغيرها .
" واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون "(2/151)
الذكر لله تعالى ، يكون بالقلب ، ويكون باللسان ، ويكون بهما ، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله ، فأمر الله ، عبده ورسوله محمدا أصلا ، وغيره تبعا ، بذكر ربه في نفسه أي : مخلصا خاليا . " تضرعا " بلسانك ، مكررا لأنواع الذكر ، " وخيفة " في قلبك بأن تكون خائفا من الله ، وجل القلب منه ، خوفا أن يكون عملك غير مقبول . وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد ، في تكميل العمل وإصلاحه ، والنصح به . " ودون الجهر من القول " أي : كن متوسطا ، لا تجهر بصلاتك ، ولا تخافت بها ، وابتغ بين ذلك سبيلا . " بالغدو " أول النهار " والآصال " آخره ، وهذان الوقتان ، فيهما مزية وفضيلة على غيرهما . " ولا تكن من الغافلين " الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة ، وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز ، في ذكره وعبوديته ، وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة ، في الاشتغال به . وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها ، وهي الإكثار من ذكر الله آناء الليل والنهار ، خصوصا ، طرفي النهار ، مخلصا خاشعا متضرعا ، متذللا ، ساكنا متواطئا عليه قلبه ولسانه بأدب ووقار ، وإقبال على الدعاء والذكر ، وإحضار له بقلبه ، وعدم غفلة ، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه . ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته ، ملازمين لخدمته وهم الملائكة ، لتعلموا أن الله لا يريد أن يستكثر بعبادتكم من قلة ، ولا يتعزز بها من ذلة ، وإنما يريد نفع أنفسكم ، وأن تربحوا عليه ، أضعاف أضعاف ، ما عملتم ، فقال : " إن الذين عند ربك " من الملائكة المقربين ، وحملة العرش والكروبيين " لا يستكبرون عن عبادته " بل يذعنون لها ، وينقادون لأوامر ربهم " ويسبحونه " الليل والنهار ، لا يفترون . " وله " وحده لا شريك له " يسجدون " ، فليقتد العباد ، بهؤلاء الملائكة الكرام ، وليداوموا على عبادة الملك العلام .
ومن سورة الأنفال إحدى عشرة آية(2/152)
قوله تعالى : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * ? (الأنفال : 1 - 4 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
الأنفال ، هي : الغنائم ، التي ينفلها الله لهذه الأمة ، من أموال الكفار . وكانت هذه الآيات في هذه السورة ، قد نزلت في قصة " بدر " أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين ، فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فأنزل الله
" يسألونك عن الأنفال " كيف تقسم وعلى من تقسم ؟ . " قل " لهم " الأنفال لله والرسول "(2/153)
يضعانها حيث شاءا ، فلا اعتراض لكم على حكم الله ورسوله ، بل عليكم إذا حكم الله ورسوله ، أن ترضوا بحكمهما ، وتسلموا الأمر لهما ، وذلك داخل في قوله : " فاتقوا الله " بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه . " وأصلحوا ذات بينكم " أي : أصلحوا ما بينكم من التشاحن ، والتقاطع ، والتدابر ، بالتوادد ، والتحاب ، والتواصل . فبذلك تجتمع كلمتكم ، ويزول ما يحصل ـ بسبب التقاطع ـ من التخاصم ، والتشاجر والتنازع . ويدخل في إصلاح ذات البين ، تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه ـ بذلك ـ يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء ، والتدابر . والأمر الجامع لذلك كله قوله : " وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " ، فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله ورسوله ، كما أن من لم يطع الله ورسوله ، فليس بمؤمن . ومن نقصت طاعته لله ورسوله ، فذلك لنقص إيمانه . ولما كان الإيمان قسمين : إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء ، والفوز التام ، وإيمانا دون ذلك ، ذكر الإيمان الكامل فقال : " إنما المؤمنون " الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان . " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " أي : خافت ورهبت ، فأوجبت لهم خشية الله تعالى ، الانكفاف عن المحارم ، فإن خوف الله تعالى ، أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب . " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " ، ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم ، لأن التدبر من أعمال القلوب ، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى ، كانوا يجهلونه ، ويتذكرون ما كانوا نسوه ، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير ، واشتياقا إلى كرامة ربهم ، أو وجلا من العقوبات ، وازدجارا عن المعاصي ، وكل هذا مما يزداد به الإيمان . " وعلى ربهم " وحده ، لا شريك له(2/154)
" يتوكلون " أي : يعتمدون في قلوبهم على ربهم ، في جلب مصالحهم ، ودفع مضارهم الدينية ، والدنيوية ، ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك . والتوكل هو الحامل للأعمال كلها ، فلا توجد ولا تكمل إلا به . " الذين يقيمون الصلاة " من فرائض ، ونوافل ، بأعمالها الظاهرة والباطنة ، كحضور القلب فيها ، الذي هو روح الصلاة ولبها . " ومما رزقناهم ينفقون " النفقات الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، والنفقة على الزوجات والأقارب ، وما ملكت أيمانهم ، والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير . " أولئك " الذين اتصفوا بتلك الصفات " هم المؤمنون حقا " لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان ، بين الأعمال الباطنة ، والأعمال الظاهرة ، بين العلم والعمل ، بين أداء حقوق الله ، وحقوق عباده . وقدم تعالى أعمال القلوب ، لأنها أصل لأعمال الجوارح ، وأفضل منها ، وفيها دليل على أن الإيمان ، يزيد وينقص ، فيزيد بفعل الطاعة ، وينقص بضدها . وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه ، وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب الله تعالى ، والتأمل لمعانيه . ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال : " لهم درجات عند ربهم " أي : عالية بحسب علو أعمالهم ، " ومغفرة " لذنوبهم " ورزق كريم " وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ودل هذا ، على أن من لم يصل إلى درجتهم في الإيمان ـ وإن دخل الجنة ـ فلن ينال ما نالوا ، من كرامة الله التامة ...(2/155)
وقوله تعالى : ? َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * ? (الأنفال : 24 - 28 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب "(2/156)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو : الاستجابة لله وللرسول ، أي : الانقياد لما أمر به والمبادرة إلى ذلك ، والدعوة إليه ، والاجتناب لما نهيا عنه ، والانكفاف عنه ، والنهي عنه . وقوله : " إذا دعاكم لما يحييكم " وصف ملازم ، لكل ما دعا الله ورسوله إليه ، وبيان لفائدته وحكمته ، فإن حياة القلب والروح بعبودية الله تعالى ، ولزوم طاعته ، وطاعة رسوله ، على الدوام . ثم حذر عن عدم الاستجابة لله وللرسول فقال : " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " فإياكم أن تردوا أمر الله ، أول ما يأتيكم ، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك ، وتختلف قلوبكم فإن الله يحول بين المرء وقلبه ، يقلب القلوب حيث شاء ، ويصرفها أنى شاء . فليكثر العبد من قول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب ، اصرف قلبي إلى طاعتك " . " وأنه إليه تحشرون " أي : تجمعون ليوم لا ريب فيه ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بعصيانه . " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " بل تصيب فاعل الظلم وغيره ، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير ، فإن عقوبته ، تعم الفاعل وغيره . وتتقى هذه الفتنة ، بالنهي عن المنكر ، وقمع أهل الشر والفساد ، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن . " واعلموا أن الله شديد العقاب " لمن تعرض لمساخطه ، وجانب رضاه .
" واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون "(2/157)
يقول تعالى ممتنا على عباده ، في نصرهم بعد الذلة ، وتكثيرهم بعد القلة ، وإغنائهم بعد العيلة . " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض " أي : مقهورون تحت حكم غيركم " تخافون أن يتخطفكم الناس " أي : يأخذوكم . " فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات " فجعل لكم بلدا تأوون إليه ، وانتصر من أعدائكم على أيديكم ، وغنمتم من أموالهم ، ما كنتم به أغنياء . " لعلكم تشكرون " الله على منته العظيمة ، وإحسانه التام ، بأن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئا .
" يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم "
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم الله عليه من أوامره ونواهيه . فإن الأمانة قد عرضها الله على السموات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل ، ومن لم يؤدها بل خانها ، استحق العقاب الوبيل ، وصار خائنا لله وللرسول ولأمانته ، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات ، وأقبح الشيات ، وهي الخيانة ، مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها ، وهي : الأمانة . ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده ، فربما حملته محبته ذلك ، على تقديم هوى نفسه ، على أداء أمانته ، أخبر الله تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلي الله بهما عباده ، وأنهما عارية ، ستؤدى لمن أعطاها ، وترد لمن استودعها " وأن الله عنده أجر عظيم " . فإن كان لكم عقل ورأي ، فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة ، فالعاقل يوازن بين الأشياء ، ويؤثر أولاها بالإيثار ، وأحقها بالتقديم .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? (الأنفال : 53 )(2/158)
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ذلك " العذاب الذي أوقعه الله بالأمم المكذبة ، وأزال عنهم ما هم فيه ، من النعم والنعيم ، بسبب ذنوبهم ، وتغييرهم ما بأنفسهم ، " بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم " من نعم الدين والدنيا ، بل يبقيها ، ويزيدهم منها ، إن ازدادوا له شكرا ، " حتى يغيروا ما بأنفسهم " من الطاعة إلى المعصية ، فيكفروا نعمة الله ، ويبدلوا بها كفرا ، فيسلبهم إياها ، ويغيرها عليهم ، كما غيروا ما بأنفسهم . ولله الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده ، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم ، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه ، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره . " وأن الله سميع عليم " يسمع جميع ما نطق به الناطقون ، سواء من أسر القول ومن جهر به . ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر ، وتخفيه السرائر ، فيجري على عباده من الأقدار ما اقتضاه علمه وجرت به مشيئته
ومن سورة التوبة اثنتي عشرة آية
قوله تعالى : ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ?(التوبة : 18 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة " الواجبة والمستحبة ، بالقيام بالظاهر منها والباطن . " وآتى الزكاة " لأهلها " ولم يخش إلا الله " أي قصر خشيته على ربه ، فكف عن ما حرم الله ، ولم يقصر بحقوق الله الواجبة . فوصفهم بالإيمان النافع ، وبالقيام بالأعمال الصالحة ، التي أمها ، الصلاة ، والزكاة ، وبخشية الله التي هي أصل كل خير . فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها الذين هم أهلها . " فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين "(2/159)
و " عسى " من الله واجبة . وأما من لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، ولا عنده خشية لله ، فهذا ليس من عمار مساجد الله ، ولا من أهلها ، الذين هم أهلها ، وإن زعم ذلك وادعاه .
وقوله تعالى : ? (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ?) (التوبة : 24 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
محبة الله ورسوله ، يتعين تقديمها على محبة كل شيء ، وجعل جميع الأشياء تابعة لهما ؛ قال تعالى : " قل إن كان آباؤكم " ومثلهم الأمهات " وأبناؤكم وإخوانكم " في النسب والعشيرة " وأزواجكم وعشيرتكم " أي : قراباتكم عموما " وأموال اقترفتموها " أي : اكتسبتموها ، وتعبتم في تحصيلها . خصها بالذكر ، لأنها أرغب عند أهلها ، وصاحبها أشد حرصا عليها ، ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كد . " وتجارة تخشون كسادها " أي : رخصها ونقصها ، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات ، من الأثمان ، والأواني ، والأسلحة ، والأمتعة ، والحبوب ، والحروث ، والأنعام ، وغير ذلك . " ومساكن ترضونها "(2/160)
من حسنها وزخرفتها ، وموافقتها لأهوائكم ، فإن كانت هذه الأشياء " أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله " فأنتم فسقة ظلمة . " فتربصوا " أي : انتظروا ما يحل بكم من العقاب " حتى يأتي الله بأمره " الذي لا مرد له . " والله لا يهدي القوم الفاسقين " أي : الخارجين عن طاعة الله ، المقدمين على محبة الله ، شيئا من المذكورات . وهذه الآية الكريمة ، أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله ، وعلى تقديمها على محبة كل شيء ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد ، على من كان شيء من المذكورات أحب إليه من الله ورسوله ، وجهاد في سبيله . وعلامة ذلك أنه إذا عرض عليه أمران ، أحدهما يحبه الله ورسوله ، وليس لنفسه فيها هوى ، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ، ولكنه يفوت عليه محبوبا لله ورسوله ، أو ينقصه ، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه ، على ما يحبه الله ، دل على أنه ظالم ، تارك لما يجب عليه .
وقوله تعالى: ? (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ? (التوبة : 38 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير "(2/161)
" يا أيها الذين آمنوا " ألا تعملون بمقتضى الإيمان ، ودواعي اليقين ، من المبادرة لأمر الله ، والمسارعة إلى رضاه ، وجهاد أعدائه لدينكم . ف ـ" ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض " أي : تكاسلتم ، وملتم إلى الأرض ، والدعة ، والكون فيها . " أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " أي : ما حالكم ، إلا حال من رضي بالدنيا ، وسعى لها ، ولم يبال بالآخرة ، فكأنه ما آمن بها . " فما متاع الحياة الدنيا " التي مالت بكم ، وقدمتموها على الآخرة(2/162)
" إلا قليل " ، أفليس قد جعل الله لكم عقولا ، تزنون بها الأمور ، وأيها أحق بالإيثار ؟ أفليست الدنيا ـ من أولها إلى آخرها ـ لا نسبة لها في الآخرة . فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا ، حتى يجعله الغاية ، التي لا غاية وراءها ، فيجعل سعيه ، وكده ، وهمه ، وإرادته ، لا يتعدى الحياة الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار ، المشحونة بالأخطار . فبأي رأي رأيتم إيثارها على الدار الآخرة ، الجامعة لكل نعيم ، التي فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون . فوالله ما آثر الدنيا على الآخرة ، من وقر الإيمان في قلبه ، ولا من جزل رأيه ، ولا من عد من أولي الألباب ، ثم توعدهم على عدم النفير فقال : " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما " في الدنيا والآخرة ، فإن عدم النفير في حال الاستنفار ، من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب ، لما فيه من المضار الشديدة . فإن المتخلف ، قد عصى الله تعالى ، وارتكب لنهيه ، ولم يساعد على نصر دين الله ، ولا ذب عن كتاب الله وشرعه ، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم ، الذي يريد أن يستأصلهم ، ويمحق دينهم ، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان ، بل ربما فت في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء الله ، فحقيق بمن هذا حاله ، أن يتوعده الله بالوعيد الشديد ، فقال : " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا " ، فإنه تعالى متكفل بنصرة دينه وإعلاء كلمته ، فسواء امتثلتم لأمر الله ، أو ألقيتموه وراءكم ظهريا . " والله على كل شيء قدير " لا يعجزه شيء أراده ، ولا يغالبه أحد .(2/163)
وقوله تعالى : ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? (التوبة : 71 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، فقال : " والمؤمنون والمؤمنات " أي : ذكورهم وإناثهم " بعضهم أولياء بعض " في المحبة والموالاة ، والانتماء والنصرة . " يأمرون بالمعروف " وهو اسم جامع لكل ما عرف حسنه من العقائد الحسنة ، والأعمال الصالحة ، والأخلاق الفاضلة ، وأول من يدخل في أمرهم أنفسهم ، " وينهون عن المنكر " وهو : كل ما خالف المعروف وناقضه من العقائد الباطلة ، والأعمال الخبيثة ، والأخلاق الرذيلة . " ويطيعون الله ورسوله " أي لا يزالون ملازمين لطاعة الله ورسوله على الدوام . " أولئك سيرحمهم الله " أي : يدخلهم في رحمته ، ويشملهم بإحسانه . " إن الله عزيز حكيم " أي : قوي قاهر ، ومع قوته ، فهو حكيم ، يضع كل شيء موضعه اللائق به الذي يحمد على ما خلقه وأمر به .(2/164)
ثم ذكر ما أعد الله لهم من الثواب فقال : " وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار " جامعة لكل نعيم وفرح ، خالية من كل أذى وترح ، تجري من تحت قصورها ، ودورها ، وأشجارها الأنهار الغزيرة ، المروية للبساتين الأنيقة ، التي لا يعلم ما فيها من الخيرات إلا الله تعالى . " خالدين فيها " لا يبغون عنها حولا " ومساكن طيبة في جنات عدن " قد زخرفت ، وحسنت ، وأعدت لعباد الله المتقين . قد طاب مرآها ، وطاب منزلها ومقيلها ، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنى فوقه المتمنون ، حتى إن الله تعالى قد أعد لهم غرفا في غاية الصفاء والحسن ، يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها . فهذه المساكن الأنيقة ، التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس ، وتنزع إليها القلوب ، وتشتاق لها الأرواح ، لأنها في جنات عدن ، أي : إقامة لا يظعنون عنها ، ولا يتحولون منها . " ورضوان من الله " يحله على أهل الجنة " أكبر " مما هم فيه من النعيم . فإن نعيمهم لم يطب ، إلا برؤية ربهم ، ورضوانه عليهم ، ولأنه الغاية التي أمها العابدون ، والنهاية التي سعى نحوها المحبون ، فرضا رب الأرض والسموات أكبر من نعيم الجنات . " ذلك هو الفوز العظيم " حيث حصلوا على كل مطلوب ، وانتفى عنهم كل محذور ، وحسنت وطابت منهم جميع الأمور ، فنسأل الله أن يجعلنا معهم بجوده .
وقوله تعالى : ? وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? (التوبة : 100 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/165)
" والسابقون الأولون " هم الذين سبقوا هذه الأمة وبدروها للإيمان والهجرة ، والجهاد ، وإقامة دين الله . " من المهاجرين " (( الذين ، أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وينصرون الله ورسوله ، أولئك هم الصادقون...)) " والأنصار " (( الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة . ))... " والذين اتبعوهم بإحسان " بالاعتقادات ، والأقوال والأعمال ، فهؤلاء هم الذين سلموا من الذم ، وحصل لهم نهاية المدح ، وأفضل الكرامات من الله . " رضي الله عنهم " ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة ، " ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار " الجارية ، التي تساق إلى سقي الجنان ، والحدائق الزاهية الزاهرة ، والرياض الفاخرة . " خالدين فيها أبدا " لا يبغون عنها حولا ، ولا يطلبون منها بدلا ، لأنهم مهما تمنوه ، أدركوه ، ومهما أرادوه ، وجدوه . " ذلك الفوز العظيم " الذي حصل لهم فيه ، كل محبوب للنفوس ، ولذة للأرواح ، ونعيم للقلوب ، وشهوة للأبدان ، واندفع عنهم كل محذور .
وقوله تعالى: ? أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * ? (التوبة : 104- 105 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/166)
أي : أما علموا سعة رحمة الله ، وعموم كرمه وأنه " يقبل التوبة عن عباده " التائبين من أي ذنب كان ، بل يفرح تعالى بتوبة عبده إذا تاب ، أعظم فرح يقدر . " ويأخذ الصدقات " منهم أي يقبلها ، ويأخذها بيمينه ، فيربيها لأحدهم كما يربي الرجل فلوه ، حتى تكن التمرة الواحدة كالجبل العظيم ، فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك . " وأن الله هو التواب الرحيم " أي : كثير التوبة على التائبين ، فمن تاب إليه ، تاب عليه ، ولو تكررت منه المعصية مرارا . ولا يمل الله من التوبة على عباده ، حتى يملوا هم ، ويأبوا إلا النفار والشرود عن بابه ، وموالاتهم عدوهم . " الرحيم " الذي وسعت رحمته كل شيء ، وكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بآياته ، ويتبعون رسوله . " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " يقول تعالى : " وقل " لهؤلاء المنافقين : " اعملوا " ما ترون من الأعمال ، واستمروا على باطلكم ، فلا تحسبوا أن ذلك سيخفى . " فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " أي : لا بد أن يتبين عملكم ويتضح ، " وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " من خير وشر . ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على من استمر على باطله وطغيانه ، وغيه وعصيانه . ويحتمل أن المعنى : أنكم مهما عملتم من خير وشر ، فإن الله مطلع عليكم ، وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين ، على أعمالكم ، ولو كانت باطنة .(2/167)
وقوله تعالى :? ِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * ? (التوبة : 111- 112 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى خبرا صدقا ، ويعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة ، ومعاوضة جسيمة ، وهو أنه " اشترى " بنفسه الكريمة " من المؤمنين أنفسهم وأموالهم " فهي المثمن والسلعة المبيعة . " بأن لهم الجنة "(2/168)
التي فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين من أنواع اللذات ، والأفراح ، والمسرات ، والحور الحسان ، والمنازل الأنيقات . وصفة العقد والمبايعة ، بأن يبذلوا لله نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه ، لإعلاء كلمته ، وإظهار دينه " يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون " ، فهذا العقد والمبايعة ، قد صدرت من الله مؤكدة بأنواع التأكيدات . " وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن " التي هي أشرف الكتب ، التي طرقت العالم ، وأعلاها ، وأكملها ، وجاء بها أكمل الرسل ، أولو العزم ، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق . " ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا " أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم الله ، " ببيعكم الذي بايعتم به " أي : لتعزموا بذلك ، وليبشر بعضكم بعضا ، ويحث بعضكم بعضا . " وذلك هو الفوز العظيم " الذي لا فوز أكبر منه ، ولا أجل ، لأنه يتضمن السعادة الأبدية ، والنعيم المقيم ، والرضا من الله الذي هو أكبر من نعيم الجنات . وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة ، فانظر إلى المشتري من هو ؟ وهو الله جل جلاله ، وإلى العوض ، وهو أكبر الأعواض وأجلها ، جنات النعيم ، وإلى الثمن المبذول فيها ، وهو : النفس ، والمال ، الذي هو أحب الأشياء للإنسان . وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع ، وهو أشرف الرسل ، وبأي الكتب رقم ، في كتب الله الكبار المنزلة ، على أفضل الخلق .
" التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين "
كأنه قيل : من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ، ونيل الكرامات ؟ فقال : هم " التائبون "(2/169)
أي : الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات ." العابدون " أي : المتصفون بالعبودية لله ، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت ، فبذلك يكون العبد من العابدين . " الحامدون " لله في السراء والضراء ، واليسر والعسر ، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، المثنون على الله بذكرها وبذكره في آناء الليل ، وآناء النهار . " السائحون " فسرت السياحة بالصيام ، أو السياحة في طلب العلم ، وفسرت بسياحة القلب ، في معرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه على الدوام ، والصحيح أن المراد بالسياحة : السفر في القربات ، كالحج ، والعمرة ، والجهاد ، وطلب العلم ، وصلة الأقارب ، ونحو ذلك . " الراكعون الساجدون " أي : المكثرون من الصلاة ، المشتملة على الركوع والسجود . " الآمرون بالمعروف " ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات . " والناهون عن المنكر "
وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه . " والحافظون لحدود الله " بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله ، وما يدخل في الأوامر ، والنواهي ، والأحكام ، وما لا يدخل ، الملازمون لها فعلا وتركا . " وبشر المؤمنين " لم يذكر ما يبشر لهم به ، ليعم جميع ما رتب على الإيمان ، من ثواب الدنيا ، والدين والآخرة ، فالبشارة متناولة لكل مؤمن . وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين ، وإيمانهم ، قوة ، وضعفا ، وعملا بمقتضاه ...
وقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ?(التوبة : 122 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى : ـ منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم ـ " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "(2/170)
أي : جميعا لقتال عدوهم ، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك ، ويفوت به كثير من المصالح الأخرى ، " فلولا نفر من كل فرقة منهم " أي : من البلدان ، والقبائل ، والأفخاذ " طائفة " تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى . ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم ، وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم ، فقال : " ليتفقهوا " أي : القاعدون " في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " أي : ليتعلموا العلم الشرعي ، ويعلموا معانيه ، ويفقهوا أسراره ، وليعلموا غيرهم ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم . ففي هذا فضيلة العلم ، خصوصا الفقه في الدين ، وأنه أهم الأمور ، وأن من تعلم علما ، فعليه نشره وبثه في العباد ، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم ، من بركته وأجره الذي ينمى . وأما اقتصار العالم على نفسه ، وعدم دعوته إلى سبيل الله ، بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون ، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه ؟ وأي نتيجة نتجت من علمه ؟ وغايته أن يموت ، فيموت علمه وثمرته ، وهذا غاية الحرمان ، لمن آتاه الله علما ومنحه فهما . وفي هذه الآية أيضا دليل ، وإرشاد ، وتنبيه لطيف ، لفائدة مهمة ، وهي : أن المسلمين ينبغي لهم ، أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة ، من يقوم بها ، ويوفر وقته عليها ، ويجتهد فيها ، ولا يلتفت إلى غيرها ، لتقوم مصالحهم ، وتتم منافعهم ، ولتكون وجهة جميعهم ، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا ، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم ، ولو تفرقت الطرق ، وتعددت المشارب ، فالأعمال متباينة ، والقصد واحد ، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور ...(2/171)
وقوله تعالى : ? لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * ? (التوبة : 1 )
يمتن تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم ، يعرفون حاله ، ويتمكنون من الأخذ عنه ، ولا يأنفون عن الانقياد له ، وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم ، والسعي في مصالحهم . " عزيز عليه ما عنتم " أي : يشق عليه الأمر ، الذي يشق عليكم ويعنتكم . " حريص عليكم " فيحب لكم الخير ، ويسعى جهده في إيصاله إليكم ، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان ، ويكره لكم الشر ، ويسعى جهده في تنفيركم عنه . " بالمؤمنين رؤوف رحيم " أي : شديد الرأفة والرحمة بهم ، أرحم بهم من والديهم . ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق ، وواجب على الأمة الإيمان به ، وتعظيمه ، وتوقيره ، وتعزيره ، " فإن " آمنوا ، فذلك حظهم وتوفيقهم ، وإن " تولوا " عن الإيمان والعمل ، فامض على سبيلك ، ولا تزل في دعوتك ، وقل : " حسبي الله " أي : الله يكفيني جميع ما أهمني ، " لا إله إلا هو " أي : لا معبود بحق سواه . " عليه توكلت " أي : اعتمدت ، ووثقت به ، في جلب ما ينفع ، ودفع ما يضر ، " وهو رب العرش العظيم " الذي هو أعظم المخلوقات . وإذا كان رب العرش العظيم ، الذي وسع المخلوقات ، كان ربا لما دونه من باب أولى ، وأحرى .
ومن سورة يونس ثماني عشرة آية(2/172)
قوله تعالى: ? إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? (يونس : 7 - 9 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى : " إن الذين لا يرجون لقاءنا " أي : لا يطمعون بلقاء الله ، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون ، وأعلى ما أمله المؤملون ، بل أعرضوا عن ذلك ، وربما كذبوا به " ورضوا بالحياة الدنيا " بدلا عن الآخرة . " واطمأنوا بها " أي : ركنوا إليها ، وجعلوها غاية أمرهم ، ونهاية قصدهم . فسعوا لها ، وأكبوا على لذاتها وشهواتها ، بأي طريق حصلت ، حصلوها ، ومن أي وجه لاحت ، ابتدروها ، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها . فكأنهم خلقوا للبقاء فيها ، وكأنها ليست بدار ممر ، يتزود فيها المسافرون ، إلى الدار الباقية التي إليها ، يرحل الأولون والآخرون ، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون . " والذين هم عن آياتنا غافلون " فلا ينتفعون بالآيات القرآنية ، ولا بالآيات الأفقية والنفسية ، والإعراض عن الدليل ، مستلزم للإعراض والغفلة ، عن المدلول المقصود . " أولئك " الذين هذا وصفهم " مأواهم النار " أي : مقرهم ومسكنهم ، التي لا يرحلون عنها . " بما كانوا يكسبون " من الكفر والشرك ، وأنواع المعاصي . فلما ذكر عقابهم ، ذكر ثواب المطيعين فقال : " إن الذين آمنوا " إلى " أن الحمد لله رب العالمين "...(2/173)
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين "
يقول تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي : جمعوا بين الإيمان ، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة ، المشتملة على أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح ، على وجه الإخلاص والمتابعة . " يهديهم ربهم بإيمانهم " أي : بسبب ما معهم من الإيمان ، يثيبهم الله أعظم الثواب ، وهو : الهداية ، فيعلمهم ما ينفعهم ، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية ، ويهديهم للنظر في آياته ، ويهديهم في هذه الدار ، إلى الصراط المستقيم ، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم ، ولهذا قال : " تجري من تحتهم الأنهار " الجارية على الدوام(2/174)
" في جنات النعيم " . أضافها الله إلى النعيم ، لاشتمالها على النعيم التام . نعيم القلب بالفرح والسرور ، والبهجة والحبور ، ورؤية الرحمن ، وسماع كلامه ، والاغتباط برضاه وقربه ، ولقاء الأحبة والإخوان ، والتمتع بالاجتماع بهم ، وسماع الأصوات المطربات ، والنغمات المشجيات ، والمناظر المفرحات . ونعيم البدن بأنواع المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، ونحو ذلك ، مما لا تعلمه النفوس ، ولا خطر ببال أحد ، أو قدر أن يصفه الواصفون . " دعواهم فيها سبحانك اللهم " أي عبادتهم فيها لله ، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائص ، وآخرها ، تحميد لله ، فالتكاليف سقطت عنه في دار الجزاء ، وإنما بقي لهم ، أكمل اللذات ، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة ، ألا وهو : ذكر الله الذي تطمئن به القلوب ، وتفرح به الأرواح ، وهو لهم بمنزلة النفس ، من دون كلفة ومشقة . ( و ) أما " تحيتهم فيها " فيما بينهم عند التلاقي والتزاور ، فهو السلام ، أي : كلام سالم من اللغو والإثم ، موصوف بأنه " سلام " ، وقد قيل في تفسير قوله : " دعواهم فيها سبحانك " إلى آخر الآية ، أن أهل الجنة ـ إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما ـ قالوا سبحانك اللهم ، فأحضر لهم في الحال . " وآخر دعواهم " إذا فرغوا
" أن الحمد لله رب العالمين "...(2/175)
وقوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ? (يونس : 22 - 27 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/176)
" هو الذي يسيركم في البر والبحر " بما يسر لكم من الأسباب الميسرة لكم فيها ، وهداكم إليها " حتى إذا كنتم في الفلك " أي : السفن البحرية " وجرين بهم بريح طيبة " موافقة لما يهوونه ، من غير انزعاج ولا مشقة . " وفرحوا بها " واطمأنوا إليها ، فبينما هم كذلك ، إذ " جاءتها ريح عاصف " شديدة الهبوب " وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم " أي : عرفوا أنه الهلاك ، فانقطع حينئذ ، تعلقهم بالمخلوقين ، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده . وحينئذ " دعوا الله مخلصين له الدين " ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام ، فقالوا : " لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين "...
" فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق " أي نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء ، وما ألزموه أنفسهم ، فأشركوا بالله ، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد ، ولا يدفع عنهم المضايق . فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء ، كما أخلصوها في الشدة ؟ ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم ، ولهذا قال : " يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا " أي : غاية ما تؤملون ببغيكم ، وشرودكم عن الإخلاص لله ، أن تنالوا شيئا من حطام الدنيا وجاهها ، النزر اليسير الذي سينقضي سريعا ، ويمضي جميعا ، ثم تنتقلون عنه بالرغم . " ثم إلينا مرجعكم "
في يوم القيامة " فننبئكم بما كنتم تعملون ".. وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم .
" إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون "(2/177)
وهذا المثل من أحسن الأمثلة ، وهو مطابق لحالة الدنيا ، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ، ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتا قصيرا ، فإذا استكمل وتم ، اضمحل ، وزال عن صاحبه ، أو زال صاحبه عنه ، فأصبح صفر اليدين منها ، ممتلىء القلب من همها وحزنها وحسرتها . فذلك
" كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض " أي : نبت فيها من كل صنف ، وزوج بهيج " مما يأكل الناس " كالحبوب والثمار ( و ) مما تأكل " الأنعام " كأنواع العشب ، والكلأ المختلف الأصناف . " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت " أي : تزخرفت في منظرها ، واكتست في زينتها ، فصارت بهجة للناظرين ، ونزهة للمتفرجين ، وآية للمتبصرين ، فصرت ترى لها منظرا عجيبا ما بين أخضر ، وأصفر ، وأبيض وغيره . " وظن أهلها أنهم قادرون عليها " أي : حصل معهم طمع بأن ذلك سيستمر ويدوم ، لوقوف إرادتهم عنده ، وانتهاء مطالبهم فيه . فبينما هم في تلك الحالة " أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس "
أي : كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا ، سواء بسواء . " كذلك نفصل الآيات " أي : نبينها ونوضحها ، بتقريب المعاني إلى الأذهان ، وضرب الأمثال " لقوم يتفكرون " أي : يعملون أفكارهم فيما ينفعهم . وأما الغافل المعرض ، فهذا لا تنفعه الآيات ، ولا يزيل عنه الشك البيان . ولما ذكر الله حال الدنيا ، وحاصل نعيمها ، شوق إلى الدار الباقية فقال :
" والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون "(2/178)
عمم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلام ، والحث على ذلك ، والترغيب ، وخص بالهداية ، من شاء استخلاصه واصطفاءه . فهذا فضله وإحسانه ، والله يختص برحمته من يشاء ، وذلك عدله وحكمته ، وليس لأحد عليه حجة ، بعد البيان والرسل . وسمى الله الجنة " دار السلام " لسلامتها من جميع الآفات والنقائص ، وذلك لكمال نعيمها ، وتمامه ، وبقائه ، وحسنه من كل وجه . ولما دعا إلى دار السلام ، كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها ، الموصلة إليها ، أخبر عنها بقوله : " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " أي : للذين أحسنوا في عبادة الخالق ، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة ، في عبوديته ، وقاموا بما قدروا عليه منها ، وأحسنوا إلى عباد الله ، بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي ، من بذل الإحسان المالي ، والإحسان البدني ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتعليم الجاهلين ، ونصيحة المعرضين ، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان . فهؤلاء الذين أحسنوا لهم " الحسنى " وهي : الجنة الكاملة في حسنها و " زيادة " وهي : النظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه ، والفوز برضاه والبهجة بقربه ، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون ، ويسأله السائلون . ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال : " ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة " ، أي : لا ينالهم مكروه بوجه من الوجوه ، لأن المكروه ، إذا وقع الإنسان ، تبين ذلك في وجهه ، وتغير ، وتكدر . وأما هؤلاء ـ فكما قال الله عنهم ـ
" تعرف في وجوههم نضرة النعيم "... " أولئك أصحاب الجنة " الملازمون لها " وهم فيها خالدون " لا يحولون ، ولا يزولون ، ولا يتغيرون .(2/179)
وقوله تعالى : ? أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * ? (يونس : 55 -58 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون "(2/180)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : " ويستنبئونك أحق هو " أي : يستخبرك المكذبون على وجه التعنت والعناد ، لا على وجه التبين والاسترشاد . " أحق هو " أي : أصحيح حشر العباد ، وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد ، وجزاء العباد بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ؟ " قل " لهم مقسما على صحته ، مستدلا عليه بالدليل الواضح والبرهان : " إي وربي إنه لحق " لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه . " وما أنتم بمعجزين " لله أن يبعثكم ، فكما ابتدأ خلقكم ، ولم تكونوا شيئا ، كذلك يعيدكم مرة أخرى ليجازيكم بأعمالهم . ( و ) إذا كانت القيامة " ولو أن لكل نفس ظلمت " بالكفر والمعاصي جميع " ما في الأرض " من ذهب وفضة وغيرهما ، لتفتدي به من عذاب الله " لافتدت به " ولما نفعها ذلك ، وإنما النفع والضر ، والثواب والعقاب ، على الأعمال الصالحة ، والسيئة . " وأسروا " أي : الذين ظلموا " الندامة لما رأوا العذاب " ندموا على ما قدموا ، ولات حين مناص ، " وقضي بينهم بالقسط " أي : العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه . " ألا إن لله ما في السماوات والأرض " يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري ، وسيحكم فيهم بحكمه الجزائي . ولهذا قال : " ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " فلذلك لا يستعدون للقاء الله ، بل ربما لم يؤمنوا به ، وقد تواترت عليه الأدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية . " هو يحيي ويميت " أي : هو المتصرف بالإحياء والإماتة ، وسائر أنواع التدابير ، لا شريك له في ذلك . " وإليه ترجعون " يوم القيامة ، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها .
" يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون "(2/181)
يقول تعالى ـ مرغبا الخلق ، في الإقبال على هذا الكتاب الكريم ، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال : " يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم " أي : تعظكم ، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله ، المقتضية لعقابه ، وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها . " وشفاء لما في الصدور " وهو : هذا القرآن ، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع ، وأمراض الشبهات ، القادحة في العلم اليقيني . فإن ما فيه من المواعظ ، والترغيب ، والترهيب ، والوعد والوعيد ، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة . وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير ، والرهبة عن الشر ، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن ، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس ، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه . وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله ، غاية التصريف ، وبينها أحسن بيان ، مما يزيل الشبه القادحة في الحق ، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين . وإذا صح القلب من مرضه ، ورفل بأثواب العافية ، تبعته الجوارح كلها ، فإنها تصلح بصلاحه ، وتفسد بفساده ، " وهدى ورحمة للمؤمنين " فالهدى هو العلم بالحق والعمل به . والرحمة هي : ما يحصل من الخير والإحسان ، والثواب العاجل والآجل ، لمن اهتدى به . فالهدى ، أجل الوسائل ، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب ، ولكن لا يهتدي به ، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين . وإذا حصل الهدى وحلت الرحمة الناشئة عنه ، حصلت السعادة والفلاح ، والربح والنجاح ، والفرح والسرور . ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال : " قل بفضل الله " الذي هو القرآن ، الذي هو أعظم نعمة ومنة ، وفضل تفضل الله به على عباده " ورحمته " الدين والإيمان ، وعبادة الله ومحبته ومعرفته . " فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " من متاع الدنيا ولذاتها . فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين ، لا نسبة بينها ، وبين جميع ما في(2/182)
الدنيا ، مما هو مضمحل زائل عن قريب . وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته ، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها ، وشكرها لله تعالى وقوتها ، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما ، وهذا فرح محمود ، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها ، أو الفرح بالباطل ، فإن هذا مذموم كما قال تعالى عن قوم قارون له : " لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين " . وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل ، المناقض لما جاءت به الرسل :" فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم "
وقوله تعالى :? أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ? (يونس : 62 - 65 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم "(2/183)
يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه ، ويذكر أعمالهم وأوصافهم ، وثوابهم ، فقال : " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم " فيما يستقبلونه ، مما أمامهم ، من المخاوف والأهوال . " ولا هم يحزنون " على ما أسلفوا ، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال . وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ثبت لهم الأمن والسعادة ، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى . ثم ذكر وصفهم فقال : " الذين آمنوا " بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، وصدقوا إيمانهم باستعمال التقوى ، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي . فكل من كان مؤمنا تقيا ، كان لله تعالى وليا ، لذلك كانت " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " . أما البشارة في الدنيا ، فهي : الثناء الحسن ، والمودة في قلوب المؤمنين ، والرؤيا الصالحة ، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأمال والأخلاق ، وصرفه عن مساوىء الأخلاق . وأما في الآخرة ، فأولها ، البشارة عند قبض أرواحهم ، كما قال تعالى : " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون "...وفي القبر ، ما يبشر به من رضا الله تعالى ، والنعيم المقيم . وفي الآخرة ، تمام البشرى ، بدخول جنات النعيم ، والنجاة من العذاب الأليم . .." لا تبديل لكلمات الله " بل ما وعد الله فهو حق ، لا يمكن تغييره ولا تبديله ، لأنه الصادق في قيله ، الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه . " ذلك هو الفوز العظيم " لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور ، والظفر بكل مطلوب محبوب . وحصر الفوز فيه ، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى . والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب ، رتبه الله في الدنيا والآخرة ، على الإيمان والتقوى ، ولهذا أطلق ذلك ، فلم يقيده .
" ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم "(2/184)
أي : ولا يحزنك قول المكذبين فيك ، من الأقوال ، التي يتوصلون بها إلى القدح فيك ، وفي دينك ، فإن أقوالهم لا تعزهم ، ولا تضرك شيئا . " إن العزة لله جميعا " يؤتيها من يشاء ، ويمنعها ممن يشاء . قال تعالى : " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " أي : فليطلبها بطاعته ، بدليل قوله بعده : " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ".. . ومن المعلوم أنك على طاعة الله ، وأن العزة لك ولأتباعك من الله ، " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " . وقوله : " هو السميع العليم " أي : سمعه قد أحاط بجميع الأصوات ، فلا يخفى عليه شيء منها . وعلمه قد أحاط جميع الظواهر والبواطن ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . وهو ـ تعالى ـ يسمع قولك ، وقول أعدائك فيه ، يعلم ذلك تفصيلا ، فاكتف بعلم الله وكفايته ، فمن يتق الله فهو حسبه ...
ومن سورة هود عشرون آية
قوله تعالى: ? الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * ?
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير "(2/185)
يقول تعالى : هذا " كتاب " عظيم ، ونزل كريم ، " أحكمت آياته " أي : أتقنت وأحسنت ، صادقة أخبارها ، عادلة أوامرها ونواهيها ، فصيحة ألفاظه بهية معانيه . " ثم فصلت " أي : ميزت ، وبينت بيانا في أعلى أنواع البيان ، " من لدن حكيم " يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها ، لا يأمر ، ولا ينهى ، إلا بما تقتضيه حكمته ، " خبير " مطلع على الظواهر والبواطن . فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير ، فلا تسأل بعد هذا عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة ، وسعة الرحمة . وإنما أنزل الله كتابه لأجل " ألا تعبدوا إلا الله "
أي : لأجل إخلاص الدين كله لله ، وأن لا يشرك به أحد من خلقه . " إنني لكم " أيها الناس
" منه " أي : من الله ربكم " نذير " لمن تجرأ على المعاصي ، بعقاب الدنيا والآخرة ، " وبشير "
للمطيعين لله ، بثواب الدنيا والآخرة . " وأن استغفروا ربكم " عن ما صدر منكم من الذنوب
" ثم توبوا إليه " فيما تستقبلون من أعماركم بالرجوع إليه ، بالإنابة والرجوع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه . ثم ذكر ما يترتب على الاستغفار والتوبة فقال : " يمتعكم متاعا حسنا "
أي : يعطيكم من رزقه ما تتمتعون به وتنتفعون . " إلى أجل مسمى " أي : إلى وقت وفاتكم
" ويؤت " منكم " كل ذي فضل فضله " أي : يعطي أهل الإحسان والبر من فضله وبره ، ما هو جزاء لإحسانهم ، من حصول ما يحبون ، ودفع ما يكرهون . " وإن تولوا " عن ما دعوتكم إليه ، بل أعرضتم عنه ، وربما كذبتم به " فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير " وهو يوم القيامة ، الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين . " إلى الله مرجعكم " ليجازيهم بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . وفي قوله : " وهو على كل شيء قدير " كالدليل على إحياء الله الموتى ، فإنه على كل شيء قدير ، ومن جملة الأشياء إحياء الموتى ، وقد أخبر بذلك وهو أصدق القائلين ، فيجب وقوع ذلك عقلا ونقلا .(2/186)
وقوله تعالى : ? وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ *وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * ? ( هود 9-11 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان ، أنه جاهل ظالم ، بأن الله إذا أذاقه منه رحمة ، كالصحة والرزق ، والأولاد ، ونحو ذلك ، ثم نزعها منه ، فإنه يستسلم لليأس ، وينقاد للقنوط ، فلا يرجو ثواب الله ، ولا يخطر بباله أن الله سيردها ، أو مثلها ، أو خيرا منها عليه . وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته ، أنه يفرح ويبطر ، ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير ويقول : " ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور " أي : يفرح بما أوتي مما يوافق هوى نفسه ، فخور بنعم الله على عباد الله وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس ، والتكبر على الخلق ، واحتقارهم ، وازدرائهم ، وأي عيب أشد من هذا ؟ وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله ، وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده ، وهم الذين صبروا أنفسهم عند الضراء ، فلم ييأسوا ، وعند السراء ، فلم يبطروا ، وعملوا الصالحات من واجبات ومستحبات . " أولئك لهم مغفرة " لذنوبهم ، يزول بها عنهم كل محذور . " وأجر كبير " وهو : الفوز بجنات النعيم ، التي فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين .(2/187)
وقوله تعالى :? َفإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ? (هود : 14 - 16 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/188)
" أم يقولون افتراه " أي : افترى محمد هذا القرآن ؟ فأجابهم بقوله : " قل " لهم " فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " أي : إن كان قد افتراه ، فإنه لا فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلاغة ، وأنتم الأعداء حقا ، الحريصون بغاية ما يمكنكم على إبطال دعوته ، فإن كنتم صادقين ، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات . " فإن لم يستجيبوا لكم " على شيء من ذلكم " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " من عند الله ، لقيام الدليل والمقتضى ، وانتفاء المعارض . " وأن لا إله إلا هو " أي : واعلموا " أنه لا إله إلا هو " أي : هو المستحق للألوهية والعبادة ، " فهل أنتم مسلمون " أي : منقادون لألوهيته مستسلمون لعبوديته . وفي هذه الآيات ، إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله ، أن يصده اعتراض المعترضين ، ولا قدح القادحين . خصوصا ، إذا كان القدح لا مستند له ، ولا يقدح فيما دعا إليه ، وأنه لا يضيق صدره ، بل يطمئن بذلك ، ماضيا على أمره ، مقبلا على شأنه . وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي يختارونها ، بل يكفي إقامة الدليل ، السالم عن المعارض ، على جميع المسائل والمطالب . وفيها أن هذا القرآن ، معجز بنفسه ، لا يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله ، ولا بعشر سور مثله ، بل ولا سورة من مثله ، لأن الأعداء البلغاء الفصحاء ، تحداهم الله بذلك ، فلم يعارضوه ، لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على ذلك . وفيها : أن مما يطلب فيه العلم ، ولا يكفي غلبة الظن ، علم القرآن ، وعلم التوحيد ، لقوله تعالى : " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو "
" من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون "(2/189)
يقول تعالى : " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " ، أي : كل إرادته ، مقصورة على الحياة الدنيا ، وعلى زينتها من النساء ، والبنين ، والقناطير المقنطرة ، من الذهب ، والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام والحرث . قد صرف رغبته ، وسعيه ، وعمله ، في هذه الأشياء ، ولم يجعل لدار القرار من إرادته ، شيئا ، فهذا لا يكون إلا كافرا ، لأنه لو كان مؤمنا ، لكان ما معه من الإيمان ، يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا ، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال ، أثر من آثار إرادته الدار الآخرة . ولكن هذا الشقي ، الذي كأنه خلق للدنيا وحدها " نوف إليهم أعمالهم فيها " أي : نعطيهم ما قسم لهم ، في أم الكتاب من ثواب الدنيا . " وهم فيها لا يبخسون " أي : لا ينقصون شيئا ، مما قدر لهم ، ولكن هذا منتهى نعيمهم . " أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار " خالدين فيها أبدا ، لا يفتر عنهم العذاب ، وقد حرموا جزيل الثواب . " وحبط ما صنعوا فيها " أي : في الدنيا ، أي ، بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحق وأهله ، وما عملوه من أعمال الخير التي لا أساس لها ، ولا وجود لشرطها ، وهو الإيمان .
وقوله تعالى : ? وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ? (هود : 61 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/190)
" وإلى ثمود أخاهم صالحا " ..." أي "( و ) أرسلنا " إلى ثمود " وهم : عاد الثانية ، المعروفون ، الذين يسكنون الحجر ، ووادي القرى ، " أخاهم " في النسب " صالحا " عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، " قال يا قوم اعبدوا الله " أي : وحدوه ، وأخلصوا له الدين " ما لكم من إله غيره " لا من أهل السماء ، ولا من أهل الأرض .
" هو أنشأكم من الأرض " أي : خلقكم منها " واستعمركم فيها " أي : استخلفكم فيها ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، ومكنكم في الأرض ، تبنون ، وتغرسون ، وتزرعون ، وتحرثون ما شئتم ، وتنتفعون بمنافعها ، وتستغلون مصالحها ، فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك ، فلا تشركوا به في عبادته . " فاستغفروه " مما صدر منكم من الكفر ، والشرك ، والمعاصي ، وأقلعوا عنها ، " ثم توبوا إليه " أي : ارجعوا إليه بالتوبة النصوح ، والإنابة ، " إن ربي قريب مجيب " أي : قريب ممن دعاه دعاء مسألة ، أو دعاء عبادة . يجيبه بإعطائه سؤاله ، وقبول عبادته ، وإثابته عليها ، أجل الثواب . واعلم أن قربه تعالى نوعان : عام ، وخاص . فالقرب العام ، قربه بعلمه ، من جميع الخلق ، وهو المذكور في قوله تعالى : " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "، والقرب الخاص ، قربه من عابديه ، وسائليه ، ومحبيه ، وهو المذكور في قوله تعالى : " واسجد واقترب " . وفي هذه الآية ، وفي قوله تعالى : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع " ، وهذا النوع ، قرب يقتضي إلطافه تعالى ، وإجابته لدعواتهم ، وتحقيقه لمراداتهم ، ولهذا يقرن باسمه " القريب " اسمه " المجيب " ...(2/191)
وقوله تعالى : ? وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ * قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ*? (هود : 84 - 87 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/192)
" وإلى مدين أخاهم شعيبا " أي : ( و ) أرسلنا " وإلى مدين " القبيلة المعروفة الذين يسكنون مدين ، في أدنى فلسطين ، " أخاهم " في النسب " شعيبا " لأنهم يعرفونه ، ويتمكنون من الأخذ عنه . ( قال ) لهم : " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " أي : أخلصوا له العبادة ، فإنهم كانوا يشركون . وكانوا ـ مع شركهم ـ يبخسون المكيال والميزان ، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال : " ولا تنقصوا المكيال والميزان " بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط . " إني أراكم بخير " أي : بنعمة كثيرة ، وصحة ، وكثرة أموال وبنين ، فاشكروا الله على ما أعطاكم ، ولا تكفروا نعمة الله ، فيزيلها عنكم . " وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط " أي : عذابا يحيط بكم ، ولا يبقى منكم باقية . " ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط " أي : بالعدل الذي ترضون أن تعطوه ، " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " أي : لا تنقصوا من أشياء الناس ، فتسرقوها بأخذها ، بنقص المكيال والميزان . " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " فإن الاستمرار على المعاصي ، يفسد الأديان ، والعقائد ، والدين ، والدنيا ، ويهلك الحرث والنسل . " بقية الله خير لكم " أي : يكفيكم ما أبقى الله لكم من الخير ، وما هو لكم ، فلا تطمعوا في أمر لكم عنه غنية ، وهو ضار لكم جدا . " إن كنتم مؤمنين " فاعملوا بمقتضى الإيمان ، " وما أنا عليكم بحفيظ " أي : لست بحافظ لأعمالكم ، ووكيل عليها ، وإنما الذي يحفظها الله تعالى ، وأما أنا فأبلغكم ما أرسلت به . " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا " أي : قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم ، والاستبعاد لإجابتهم له . ومعنى كلامهم : أنه لا موجب لنهيك لنا ، إلا أنك تصلي لله ، وتتعبد له ، فإن كنت كذلك ، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ، لقول ليس عليه دليل ، إلا أنه موافق لك ، فكيف نتبعك ، ونترك آباءنا الأقدمين ، أولي العقول والألباب ؟ وكذلك لا يوجب قولك لنا : " أن(2/193)
نفعل في أموالنا " ما قلت لنا ، من وفاء الكيل ، والميزان ، وأداء الحقوق الواجبة فيها ، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا ، لأنها أموالنا ، فليس لك فيها تصرف . ولهذا قالوا في تهكمهم : " إنك لأنت الحليم الرشيد " أي : إنك أنت الذي ، الحلم والوقار لك خلق ، والرشد لك سجية ، فلا يصدر عنك إلا رشد ، ولا تأمر إلا برشد ، ولا تنهى إلا عن غي ، أي : ليس الأمر كذلك . وقصدهم ، أنه موصوف بعكس هذين الوصفين : بالسفه والغواية . أي : أن المعنى : كيف تكون أنت الحليم الرشيد ، وآباؤنا هم السفهاء الغاوين ؟ وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم ، وأن الأمر بعكسه ، ليس كما ظنوه ، بل الأمر كما قالوه . إن صلاته تأمره أن ينهاهم ، عما كان يعبد آباؤهم الضالون ، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأي فحشاء ومنكر ، أكبر من عبادة غير الله ، ومن منع حقوق عباد الله ، أو سرقتها ، بالمكاييل ، والموازين ، وهو عليه الصلاة والسلام الحليم الرشيد .
وقوله تعالى : ? وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * ? (هود : 110 - 115 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/194)
قوله تعالى :" ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون "
يخبر تعالى أنه آتى موسى الكتاب الذي هو التوراة ، الموجب للاتفاق على أوامره ونواهيه ، والاجتماع ، ولكن مع هذا ، فإن المنتسبين إليه ، اختلفوا فيه اختلافا ، أضر بعقائدهم ، وبجامعتهم الدينية . " ولولا كلمة سبقت من ربك " بتأخيرهم ، وعدم معاجلتهم بالعذاب " لقضي بينهم " بإحلال العقوبة بالظالم ، ولكنه تعالى ، اقتضت حكمته أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة ، وبقوا في شك مريب . وإذا كانت هذه حالهم ، مع كتابهم فمع القرآن الذي أوحاه الله إليك غير مستغرب ، من طائفة اليهود ، أن لا يؤمنوا به ، وأن يكونوا في شك منه مريب . " وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم " أي : لا بد أن يقضي الله بينهم يوم القيامة بحكمه العدل فيجازي كلا بما يستحق . " إنه بما يعملون " من خير وشر " خبير " فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، دقيقها وجليلها . ثم لما أخبر بعدم استقامتهم ، التي أوجبت اختلافهم وافتراقهم ، أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أن يستقيموا كما أمروا ، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع ، ويعتقدوا ما أخبر الله من العقائد الصحيحة ، ولا يزيغوا عن ذلك ، يمنة ، ولا يسرة ، ويدوموا على ذلك ، ولا يطغوا ، بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة . وقوله : " إنه بما تعملون بصير " أي : لا يخفى عليه من أعمالكم شيء ، وسيجازيكم عليها . ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة ، وترهيب من ضدها ، ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال : " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " فإنكم إذا ملتم إليهم ، ووافقتموهم على ظلمهم ،(2/195)
أو رضيتم ما هم عليه من الظلم " فتمسكم النار " إن فعلتم ذلك " وما لكم من دون الله من أولياء " يمنعونكم من عذاب الله ، ولا يحصلون لكم شيئا من ثواب الله . " ثم لا تنصرون " أي : لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم . ففي هذه الآية : التحذير من الركون إلى كل ظالم ، والمراد بالركون ، الميل والانضمام إليه بظلمه ، وموافقته على ذلك ، والرضا بما هو عليه من الظلم . وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة ، فكيف حال الظلمة ؟ نسأل الله العافية من الظلم .
" وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين "(2/196)
يأمر تعالى بإقامة الصلاة كاملة " طرفي النهار " أي : أوله وآخره ، ويدخل في هذا ، صلاة الفجر ، وصلاتا الظهر والعصر ، " وزلفا من الليل " ويدخل في ذلك صلاة المغرب والعشاء ، ويتناول ذلك قيام الليل ، فإنها مما تزلف العبد ، وتقربه إلى الله تعالى . " إن الحسنات يذهبن السيئات " أي : فهذه الصلوات الخمس ، وما ألحق بها من التطوعات من أكبر الحسنات ، وهي : ـ مع أنها حسنات ـ تقرب إلى الله ، وتوجب الثواب ، فإنها تذهب السيئات وتمحوها ، والمراد بذلك : الصغائر ، كما قيدتها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله : " والصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر " ، بل كما قيدتها الآية التي في سورة النساء ، وهي قوله عز وجل : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " . ذلك ولعل الإشارة لكل ما تقدم من لزوم الاستقامة على الصراط المستقيم وعدم مجاوزته وتعديه ، وعدم الركون إلى الذين ظلموا . والأمر بإقامة الصلاة ، وبيان أن الحسنات يذهبن السيئات ، الجميع " ذكرى للذاكرين " يفهمون بها ما أمرهم الله به ، ونهاهم عنه ، ويمتثلون لتلك الأوامر الحسنة المثمرة للخيرات ، الدافعة للشرور والسيئات . ولكن تلك الأمور ، تحتاج إلى مجاهدة النفس ، والصبر عليها ولهذا قال : " واصبر " أي : احبس نفسك على طاعة الله ، وعن معصيته ، وإلزامها لذلك ، واستمر ولا تضجر . " فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " بل يتقبل الله عنهم أحسن الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم ، بأحسن ما كانوا يعملون . وفي هذا ترغيب عظيم ، للزوم الصبر ، بتشويق النفس الضعيفة ، إلى ثواب الله ، كلما ونت وفترت .
ومن سورة الرعد ثماني آيات(2/197)
قوله تعالى : ? كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ * لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ *أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * ? (الرعد : 17 - 22 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" كذلك يضرب الله الأمثال " ليتضح الحق من الباطل والهدى من الضلال .
" للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد "(2/198)
لما بين تعالى ، الحق من الباطل ، ذكر أن الناس على قسمين : مستجيب لربه ، فذكر ثوابه ، وغير مستجيب ، فذكر عقابه فقال : " للذين استجابوا لربهم " أي : انقادت قلوبهم للعلم والإيمان ، وجوارحهم للأمر والنهي ، وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم ، فلهم " الحسنى " أي : الحالة الحسنة ، والثواب الحسن . فلهم من الصفات أجلها ، ومن المناقب أفضلها . ومن الثواب العاجل والآجل ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . " والذين لم يستجيبوا له " بعد ما ضرب لهم الأمثال ، وبين لهم الحق ، لهم الحالة غير الحسنة ، و " لو أن لهم ما في الأرض جميعا " من ذهب وفضة وغيرها ، " ومثله معه لافتدوا به " من عذاب يوم القيامة ، ما تقبل منهم ، وأنى لهم ذلك ؟ " أولئك لهم سوء الحساب " ، وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه ، من عمل سيىء ، وما ضيعوه من حقوق عباده قد كتب ذلك ، وسطر عليهم ، وقالوا : " يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " . بعد هذا الحساب السيىء " مأواهم جهنم " الجامعة لكل عذاب ، من الجوع الشديد ، والعطش الوجيع ، والنار الحامية ، والزقوم ، والزمهرير ، والضريع ، وجميع ما ذكره الله من أصناف العذاب ، " وبئس المهاد " أي : المقر ، والمسكن ، مسكنهم .
" أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار "(2/199)
يقول تعالى : مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم : " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق " ففهم ذلك ، وعمل به ." كمن هو أعمى " لا يعلم الحق ، ولا يعمل به ، فبينهما من الفرق ، كما بين السماء والأرض ، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر ، أي الفريقين أحسن حالا ، وخير مآلا ، فيؤثر طريقها ، ويسلك خلف فريقها ، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره . " إنما يتذكر أولوا الألباب " أي : أولو العقول الرزينة ، والآراء الكاملة ، الذين هم ، لب العالم ، وصفوة بني آدم ، فإن سألت عن وصفهم ، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله : " الذين يوفون بعهد الله " الذي عهده إليهم ، والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة ، فالوفاء بها ، توفيتها حقها ، من التنمية لها ، والنصح فيها ، ( و ) تمام الوفاء بها ، أنهم " ولا ينقضون الميثاق " أي : العهد الذي عاهدوا الله عليه ، فدخل في ذلك ، جميع المواثيق والعهود ، والأيمان والنذور ، التي يعقدها العباد . فلا يكون العبد من أولي الألباب ، الذين لهم الثواب العظيم ، إلا بأدائها كاملة ، وعدم نقضها وبخسها . " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل " وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله ، من الإيمان به ، وبرسوله ، ومحبته ، ومحبة رسوله ، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له ، ولطاعة رسوله . ويصلون آباءهم وأمهاتهم ، ببرهم بالقول والفعل ، وعدم عقوقهم ، ويصلون الأقارب والأرحام ، بالإحسان إليهم ، قولا وفعلا . ويصلون ما بينهم وبين الأزواج ، والأصحاب ، والمماليك ، بأداء حقهم ، كاملا موفرا ، من الحقوق الدينية والدنيوية . والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به ، أن يوصل خشية الله ، وخوف يوم الحساب ، ولهذا قال : " ويخشون ربهم " أي : يخافونه ، فيمنعهم خوفهم منه ، ومن القدوم عليه يوم الحساب ، أن يتجرأوا على معاصي الله ، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به ، خوفا من العقاب ، ورجاء للثواب(2/200)
. " والذين صبروا " على المأمورات بامتثالها ، وعن المنهيات بالانكفاف عنها ، والبعد منها ، وعلى أقدار الله المؤلمة ، بعدم تسخطها . لكن بشرط أن يكون ذلك الصبر " ابتغاء وجه ربهم " لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة ، فإن هذا هو الصبر النافع ، الذي يحبس به العبد نفسه ، وطلبا لمرضاة ربه ، ورجاء للقرب منه . والخطوة بثوابه ، هو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان ، وأما الصبر المشترك ، الذي غايته التجلد ، ومنتهاه الفخر ، فهذا يصدر من البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فليس هو الممدوح ، على الحقيقة . " وأقاموا الصلاة " بأركانها ، وشروطها ، ومكملاتها ، ظاهرا وباطنا ، " وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية " دخل في ذلك ، النفقات الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، والنفقات المستحبة ، وأنهم ينفقون ، حيث دعت الحاجة إلى النفقة ، سرا وعلانية ، " ويدرؤون بالحسنة السيئة " أي : من أساء إليهم ، بقول أو فعل ، لم يقابلوه بفعله ، بل قابلوه بالإحسان إليه . فيعطون من حرمهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويصلون من قطعهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان ، فما ظنك بغير المسيء ؟ " أولئك " الذين وصفت صفاتهم الجليلة ، ومناقبهم الجميلة " لهم عقبى الدار " ، فسرها بقوله : " جنات عدن "(2/201)
أي : إقامة ، لا يزولون منها ، ولا يبغون عنها حولا ، لأنهم لا يرون فوقها ، غاية لما اشتملت عليه من النعيم ، والسرور ، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات . ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم ، أنهم " يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " من الذكور والإناث وكذلك النظراء والأشباه ، والأصحاب ، والأحباب ، فإنهم من قبيل أزواجهم وذرياتهم ، " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " يهنئونهم بالسلامة ، وكرامة الله لهم ويقولون : " سلام عليكم " أي : حلت عليكم السلامة ، والتحية من الله حصلت لكم ، وذلك متضمن لزوال كل مكروه ، ومستلزم لحصول كل محبوب . " بما صبرتم " أي : بسبب صبركم ، وهو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية ، والجنان الغالية ، " فنعم عقبى الدار " . فحقيق بمن نصح نفسه ، وكان لها عنده قيمة ، أن يجاهدها ، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب ، ولعلها تحظى بهذه الدار ، التي هي منية النفوس ، وسرور الأرواح ، الجامعة لجميع اللذات والأفراح ، فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون .......
وقوله تعالى : ? اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ * ? (الرعد : 26 -29 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/202)
أي : هو وحده يوسع الرزق ويبسطه على من يشاء ، ويقدره ويضيقه على من يشاء ، " وفرحوا " أي : الكفار " بالحياة الدنيا " فرحا ، أوجب لهم أن يطمئنوا بها ، ويغفلوا عن الآخرة ، وذلك لنقصان عقولهم ، " وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " أي : شيء حقير ، يتمتع به قليلا ، ويفارق أهله وأصحابه ، ويعقبهم ويلا طويلا .
" ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب " يخبر تعالى ، أن الذين كفروا بآيات الله ، يتعنتون على رسول الله ، ويقترحون ويقولون : " لولا أنزل عليه آية من ربه " وبزعمهم أنها لو جاءت لآمنوا ، فأجابهم الله بقوله : " قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب " أي : طلب رضوانه ، فليست الهداية والضلالة بأيديهم ، حتى يجعلوا ذلك متوقفا على الآيات ، ومع ذلك فهم كاذبون ، فلو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ، ولكن أكثرهم يجهلون . ولا يلزم أن يأتي الرسول بالآية ، التي يعينونها ، ويقترحونها ، بل إذا جاءهم بآية ، وتبين ما جاء به من الحق ، كفى ذلك ، وحصل المقصود ، وكان أنفع لهم من طلبهم الآيات التي يعينونها ، فإنها لو جاءتهم طبق ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا بها ، لعاجلهم العذاب ، ثم ذكر تعالى علامة المؤمنين فقال : " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله " أي : يزول قلقها واضطرابها ، وتحضرها أفراحها ولذاتها . " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " أي : حقيق بها ، وحري أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره ، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أحلى ، من محبة خالقها ، والأنس به ومعرفته ، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له ، يكون ذكرها له ، هذا على القول بأن ذكر الله ، هو ذكر العبد لربه ، من تسبيح ، وتهليل ،(2/203)
وتكبير وغير ذلك . وقيل : إن المراد بذكر الله كتابه ، الذي أنزله ذكرى للمؤمنين . فعلى هذا ، معنى طمأنينة القلب بذكر الله : أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه ، تطمئن لها ، فإنها تدل على الحق المبين ، المؤيد بالأدلة والبراهين ، وبذلك تطمئن القلوب ، فإنها لا تطمئن القلوب ، إلا باليقين والعلم ، وذلك في كتاب الله ، مضمون على أتم الوجوه وأكملها ، وأما ما سواه من الكتب ، التي لا ترجع إليه ، فلا تطمئن بها ، بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة ، وتضاد الأحكام ." ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " وهذا إنما يعرفه من خبر كتاب الله ، وتدبره ، وتدبر غيره من أنواع العلوم ، فإنه يجد بينها وبينه فرقا عظيما .
" الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي : آمنوا بقلوبهم بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وصدقوا هذا الإيمان ، بالأعمال الصالحة ، أعمال القلوب ، كمحبة الله ، وخشيته ورجائه ، وأعمال الجوارح ، كالصلاة ونحوها ، " طوبى لهم وحسن مآب " أي : لهم حالة طيبة ، ومرجع حسن . وذلك بما ينالون ، من رضوان الله وكرامته ، في الدنيا والآخرة ، وأن لهم كمال الراحة ، وتمام الطمأنينة ، ومن جملة ذلك ، شجرة طوبى ، التي في الجنة ، التي يسير الراكب في ظلها ، مائة عام ما يقطعها ، كما وردت بها الأحاديث الصحيحة
ومن سورة إبراهيم ست آيات(2/204)
قوله تعالى: ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ * ? (إبراهيم : 24 -27 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
" ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار "
ولما ذكر عقاب الظالمين ، ذكر ثواب الطائعين فقال : " وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي : الذين قاموا بالدين ، قولا ، وعملا ، واعتقادا ، " جنات تجري من تحتها الأنهار " فيها من اللذات والشهوات ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، " خالدين فيها بإذن ربهم " أي : لا بحولهم وقوتهم بل بحول الله وقوته " تحيتهم فيها سلام " أي : يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، والتحية ، والكلام الطيب . يقول تعالى : " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة " وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، وفروعها ، " كشجرة طيبة " وهي النخلة(2/205)
" أصلها ثابت " في الأرض " وفرعها "منتشر " في السماء " وهي كثيرة النفع دائما ." تؤتي أكلها " أي ثمرتها " كل حين بإذن ربها " ، فكذلك شجرة الإيمان ، أصلها ثابت في قلب المؤمن ، علما واعتقادا . وفرعها من الكلم الطيب ، والعلم الصالح ، والأخلاق المرضية ، والآداب الحسنة ، في السماء دائما ، يصعد إلى الله منه ، من الأعمال والأقوال ، التي تخرجها شجرة الإيمان ، ما ينتفع به المؤمن ، وينتفع غيره ، " ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون " ما أمرهم به ونهاهم عنه ، فإن في ضرب الأمثال تقريبا للمعاني المعقولة من الأمثال المحسوسة . ويتبين المعنى الذي أراده الله غاية البيان ، ويتضح غاية الوضوح ، وهذا من رحمته ، وحسن تعليمه . فلله أتم الحمد وأكمله وأعمه ، فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها ، في قلب المؤمن .
ذكر ضدها وهي : كلمة الكفر ، وفرعها فقال : " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة " المأكل والمطعم ، وهي : شجرة الحنظل ونحوها ، " اجتثت " هذه الشجرة " من فوق الأرض ما لها من قرار " أي : ثبوت فلا عروق تمسكها ، ولا ثمرة صالحة ، تنتجها ، بل إن وجد فيها ثمرة ، فهي ثمرة خبيثة ، كذلك كلمة الكفر والمعاصي ، ليس لها ثبوت نافع في القلب ، ولا تثمر إلا كل قول خبيث ، وعمل خبيث ، يؤذي صاحبه ، ولا يصعد إلى الله منه عمل صالح ، ولا ينفع نفسه ولا ينتفع به غيره .
" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء "(2/206)
يخبر تعالى : أنه يثبت عباده المؤمنين أي : الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام ، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها ، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا ، عند ورود الشبهات ، بالهداية إلى اليقين ، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة ، على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها . وفي الآخرة عند الموت ، بالثبات على الدين الإسلامي ، والخاتمة الحسنة ، وفي القبر عند سؤال الملكين ، للجواب الصحيح ، إذا قيل للميت " من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ " هداهم للجواب الصحيح ، بأن يقول المؤمن : " الله ربي ، والإسلام ديني ، ومحمد نبيي " .
" ويضل الله الظالمين "عن الصواب في الدنيا والآخرة ، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم ، وفي هذه الآية ، دلالة على فتنة القبر ، وعذابه ، ونعيمه ، كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في الفتنة وصفتها ، ونعيم القبر وعذابه .
وقوله تعالى: ? رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ * ? (إبراهيم : 38 -41 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/207)
قوله تعالى : " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب "(2/208)
أي : ( و ) اذكر إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، في هذه الحالة الجميلة ، " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا " أي : الحرم " آمنا " ، فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا ، فحرمه الله في الشرع ، ويسر من أسباب حرمته ، قدرا ، ما هو معلوم ، حتى إنه لم يرده ظالم بسوء ، إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم . ولما دعا له بالأمن ، دعا له ولبنيه بالإيمان فقال : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " ، أي : اجعلني وإياهم ، جانبا بعيدا عن عبادتها ، والإلمام بها ، ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه ، بكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها ، فقال : " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس " أي : ضلوا بسببها ، " فمن تبعني " على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين " فإنه مني " لتمام الموافقة ومن أحب قوما واتبعهم ، التحق بهم . " ومن عصاني فإنك غفور رحيم " وهذا من شفقة الخليل ، عليه الصلاة والسلام حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله ، والله تبارك وتعالى ، أرحم منه بعباده ، لا يعذب إلا من تمرد عليه . " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " وذلك أنه أتى ب ـ " هاجر " أم إسماعيل وبابنها إسماعيل ، عليه الصلاة والسلام ، وهو في الرضاع ، من الشام ، حتى وضعهما في مكة ، وهي ـ إذ ذاك ـ ليس فيها سكن ، ولا داع ، ولا مجيب ، فلما وضعهما ، دعا ربه بهذا الدعاء ، فقال ـ متضرعا متوكلا على ربه : " ربنا إني أسكنت من ذريتي " أي : لا كل ذريتي ، لأن إسحق في الشام ، وباقي بنيه كذلك ، وإنما أسكن في مكة ، إسماعيل وذريته ، وقوله : " بواد غير ذي زرع " أي : لأن أرض مكة لم يكن فيها ماء ." ربنا ليقيموا الصلاة " أي : اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة ، لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية ، فمن أقامها ، كان مقيما لدينه ، " فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم " أي : تحبهم ، وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه .(2/209)
فأجاب الله دعاءه ، فأخرج من ذرية إسماعيل ، محمدا صلى الله عليه وسلم ، حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي ، وإلى ملة أبيهم إبراهيم ، فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة . وافترض الله حج هذا البيت ، الذي أسكن به ذرية إبراهيم ، وجعل فيه سرا عجيبا ، جاذبا للقلوب ، فهي تحجه ، ولا تقضي منه وطرا على الدوام ، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ، ازداد شوقه ، وعظم ولعه وتوقه ، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة . " وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " فأجاب الله دعاءه ، فصار يجبى إليه ، ثمرات كل شيء ، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت ، والثمار فيها متوفرة ، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب . " ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن " أي : أنت أعلم بنا منا ، فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا ، أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها ، والتي لا نعلمها ، ما هو مقتضى علمك ورحمتك ، " وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء " ومن ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير ، وكثرة الشكر لله رب العالمين . " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق " فذلك من أكبر النعم ، وكونه على الكبر ، في حال الإياس من الأولاد ، نعمة أخرى ، وكونهم أنبياء صالحين ، أجل وأفضل ، " إن ربي لسميع الدعاء " أي : لقريب الإجابة ، ممن دعاه ، وقد دعوته ، ولم يخيب رجائي ، ثم دعا لنفسه ولذريته . فقال : " رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب " ، فاستجاب الله له في ذلك كله ، إلا أن دعاءه لأبيه ، إنما كان من موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله ، تبرأ منه .
ومن سورة الحجر ست آيات(2/210)
قوله تعالى : ? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * ? ( الحجر 85 - 89 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم " أي : ما خلقناهما عبثا باطلا ، كما يظن أعداء الله ، بل ما خلقناهما " إلا بالحق " الذي منه ، أن تكونا بما فيهما دالتين على كمال خالقهما ، واقتداره ، وسعة رحمته ، وحكمته ، وعلمه المحيط ، وإنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وحده لا شريك له ، " وإن الساعة لآتية " لا ريب فيها ، لأن خلق السموات والأرض ابتداء ، أكبر من خلق الناس مرة أخرى " فاصفح الصفح الجميل " وهو الصفح ، الذي لا أذية فيه ، بل قابل إساءة المسيء بالإحسان ، وذنبه بالغفران ، لتنال من ربك ، جزيل الأجر والثواب ، فإن كل ما هو آت فهو قريب ، وقد ظهر لي معنى أحسن مما ذكرت هنا . وهو : أن المأمور به ، هو الصفح الجميل ، أي : الحسن الذي قد سلم من الحقد ، والأذية القولية والفعلية ، دون الصفح الذي ليس بجميل ، وهو : الصفح في غير محله ، فلا يصفح ، حيث اقتضى المقام العقوبة ، كعقوبة المعتدين الظالمين ، الذين لا ينفع فيهم إلا العقوبة ، وهذا هو المعنى . " إن ربك هو الخلاق " لكل مخلوق " العليم " بكل شيء ، فلا يعجزه أحد من جميع ما أحاط به علمه ، وجرى عليه خلقه ، وذلك : سائر الموجودات .(2/211)
" ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون "
يقول تعالى ممتنا على رسوله : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " وهن ـ على الصحيح ـ السور السبع الطوال : " البقرة " و " آل عمران " و " النساء " و " المائدة " و " الأنعام " و " الأعراف " و " الأنفال " مع " التوبة " . أو أنها فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات ، فيكون عطف " والقرآن العظيم " على ذلك ، من باب عطف العام على الخاص ، لكثرة ما في المثاني من التوحيد ، وعلوم الغيب ، والأحكام الجليلة ، وتثنيتها فيها . وعلى القول ، بأن " الفاتحة " هي السبع المثاني ، معناها : أنها سبع آيات ، تثنى في كل ركعة ، وإذا كان الله قد أعطاه القرآن العظيم مع السبع المثاني ، كان قد أعطاه أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون ، وأعظم ما فرح به المؤمنون ، " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون "
، ولذلك قال بعده : " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " أي : لا تعجب إعجابا يحملك على إشغال فكرك ، بشهوات الدنيا ، التي تمتع بها المترفون ، واغتر بها الجاهلون ، واستغن بما آتاك الله ، من المثاني والقرآن العظيم ، " ولا تحزن عليهم " فإنهم لا خير فيهم يرجى ، ولا نفع يرتقب . فلك في المؤمنين عنهم ، أحسن البدل ، وأفضل العوض ، " واخفض جناحك للمؤمنين " أي : ألن لهم جانبك ، وحسن لهم خلقك ، محبة ، وإكراما ، وتوددا . " وقل إني أنا النذير المبين "
أي : قم بما عليك من النذارة ، وأداء الرسالة ، والتبليغ للقريب والبعيد ، والعدو ، والصديق ، فإنك إذا فعلت ذلك فليس عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء .(2/212)
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ * ? ( الحجر 97 - 99 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى : " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين "(2/213)
... أمر الله رسوله أن لا يبالي بهم ، ولا بغيرهم ، وأن يصدع بما أمر الله ، ويعلن بذلك لكل أحد ولا يعوقنه عن أمر عائق ولا تصده أقوال المتهوكين ، " وأعرض عن المشركين " أي لا تبال بهم ، واترك مشاتمتهم ومسابتهم ، مقبلا على شأنك ، " إنا كفيناك المستهزئين " بك وبما جئت به ، وهذا وعد من الله لرسوله ، أن لا يضره المستهزئون ، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة . وقد فعل تعالى ، فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، إلا أهلكه الله ، وقتله شر قتله . ثم ذكر وصفهم وأنهم كما يؤذونك يا رسول الله ، فإنهم أيضا ، يؤذون الله " الذين يجعلون مع الله إلها آخر " وهو ربهم وخالقهم ، ومنه برهم " فسوف يعلمون " غب أفعالهم إذا وردوا القيامة . " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " لك من التكذيب والاستهزاء . فنحن قادرون على استئصالهم بالعذاب ، والتعجيل لهم بما يستحقونه ، ولكن الله يمهلهم ولا يهملهم . ( ف ـ ) أنت يا محمد " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين " أي : أكثر من ذكر الله ، وتسبيحه ، وتحميده ، والصلاة ، فإن ذلك يوسع الصدر ، ويشرحه ، ويعينك على أمورك . " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " أي : الموت ، أي : استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات ، فامتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه ، فلم يزل دائبا في العبادة ، حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وسلم ، تسليما كثيرا .
ومن سورة النحل أربع عشرة آية
قوله تعالى:? وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ?(النحل : 61 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/214)
ذكر الله تعالىكمال حلمه وصبره فقال : " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم " من غير زيادة ولا نقص ، " ما ترك عليها من دابة " أي : لأهلك المباشرين للمعصية وغيرهم ، من أنواع الدواب والحيوانات ، فإن شؤم المعاصي ، يهلك به الحرث والنسل . " ولكن يؤخرهم " عن تعجيل العقوبة عليهم إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " فليحذروا ، ما داموا في وقت الإمهال ، قبل أن يجيء الوقت الذي لا إمهال فيه
وقوله تعالى : ? وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ? (النحل : 64 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
يقول تعالى : وما أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن ، إلا لتبين للناس الحق ، فيما كان موضع اختلافهم ، من التوحيد ، والقدر ، وأحكام الأفعال وأحوال المعاد ، وليكون هداية تامة ، ورحمة عامة ، لقوم يؤمنون بالله ، وبالكتاب الذي أنزله وقوله تعالى : ? وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * ? (النحل : 89 - 91 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :" ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين "(2/215)
لما ذكر فيما تقدم أنه يبعث " في كل أمة شهيدا " ذكر ذلك أيضا هنا ، وخص منهم هذا الرسول الكريم فقال : " وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " أي : على أمتك تشهد عليهم بالخير والشر . وهذا من كمال عدل الله تعالى أن كل رسول يشهد على أمته ، لأنه أعظم اطلاعا من غيره على أعمال أمته ، وأعدل ، وأشفق من أن يشهد عليهم إلا بما يستحقون . وهذا كقوله تعالى : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " . وقال تعالى : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض " . وقوله : " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء " في أصول الدين وفروعه ، وفي أحكام الدارين ، وكل ما يحتاج إليه العباد ، فهو مبين فيه ، أتم تبيين ، بألفاظ واضحة ، ومعان جلية . حتى إنه تعالى يثني فيه الأمور الكبار ، التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل وقت ، وإعادتها في كل ساعة ، ويعيدها ، ويبديها بألفاظ مختلفة وأدلة متنوعة ، لتستقر في القلوب فتثمر من الخير والبر ، بحسب ثبوتها في القلب . وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل الواضح ، معاني كثيرة ، يكون اللفظ لها ، كالقاعدة والأساس . واعتبر هذا ، بالآية التي بعد هذه الآية ، وما فيها من أنواع الأوامر والنواهي ، التي لا تحصى . فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء ، صار حجة الله على العباد كلهم . فانقطعت به حجة الظالمين ، وانتفع به المسلمون ، فصار هدى لهم ، يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم ، ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والآخرة . فالهدى ، ما نالوا به ، من علم نافع ، وعمل صالح . والرحمة ، ما ترتب على ذلك من ثواب الدنيا والآخرة ، كصلاح القلب وبره ، وطمأنينته . وتمام العقل ، الذي لا يتم إلا بتربيته على معانيه ، التي هي أجل المعاني وأعلاها ، والأعمال الكريمة والأخلاق الفاضلة ، والرزق الواسع ، والنصر على الأعداء(2/216)
بالقول والفعل ، ونيل رضا الله تعالى ، وكرامته العظيمة ، التي لا يعلم ما فيها من النعيم المقيم ، إلا الرب الرحيم .
" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " فالعدل الذي أمر الله به ، يشمل العدل في حقه ، وفي حق عباده . فالعدل في ذلك ، أداء الحقوق كاملة موفورة ، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية ، والمركبة منهما ، في حقه ، وحق عباده . ويعامل الخلق بالعدل التام ، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته ، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى ، وولاية القضاء ، ونواب الخليفة ، ونواب القاضي . والعدل هو : ما فرضه الله عليهم في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، وأمرهم بسلوكه ، ومن العدل في المعاملات ، أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات ، بإيفاء جميع ما عليك ، فلا تبخس لهم حقا ، ولا تغشهم ، ولا تخدعهم وتظلمهم . فالعدل واجب ، والإحسان فضيلة مستحبة ، وذلك كنفع الناس ، بالمال والبدن ، والعلم ، وغير ذلك من أنواع . النفع ، حتى يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول ، وغيره . وخص الله إيتاء ذوي القربى ـ وإن كان داخلا في العموم ـ لتأكد حقهم ، وتعين صلتهم وبرهم ، والحرص على ذلك . ويدخل في ذلك ، جميع الأقارب ، قريبهم ، وبعيدهم ، لكن كل من كان أقرب ، كان أحق بالبر . وقوله : " وينهى عن الفحشاء " وهو : كل ذنب عظيم ، استفحشته الشرائع والفطر ، كالشرك بالله ، والقتل بغير حق ، والزنا ، والسرقة ، والعجب ، والكبر ، واحتقار الخلق ، وغير ذلك من الفواحش . ويدخل في المنكر ، كل ذنب ومعصية تتعلق بحق الله تعالى . وبالبغي ، كل عدوان على الخلق ، في الدماء ، والأموال ، والأعراض . فصارت هذه الآية ، جامعة لجميع المأمورات والمنهيات ، لم يبق شيء ، إلا دخل فيها ، فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات . فكل مسألة مشتملة على عدل ، أو(2/217)
إحسان ، أو إيتاء ذي القربى ، فهي مما أمر الله به . وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر ، أو بغي ، فهي مما نهى الله عنه . وبها يعلم حسن ما أمر الله به ، وقبح ما نهى عنه . وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال ، وترد إليها سائر الأحوال ، فتبارك من جعل من كلامه ، الهدى ، والشفاء ، والنور ، والفرقان بين جميع الأشياء . ولهذا قال : " يعظكم " أي : بما بينه لكم في كتابه ، بأمركم بما فيه غاية صلاحكم ونهيكم عما فيه مضرتكم . " لعلكم تذكرون " ما يعظكم به ، فتفهمونه وتعقلونه . فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه ، عملتم بمقتضاه ، فسعدتم سعادة لا شقاوة معها . فلما أمر بما هو واجب في أصل الشرع ، أمر بوفاء ما أوجبه العبد على نفسه فقال : " وأوفوا بعهد الله " إلى قوله : " فيه تختلفون "
" وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون... هذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه ، من العبادات والنذور ، والأيمان التي عقدها ، إذا كان بها برا . ويشتمل أيضا ، ما تعاقد عليه هو وغيره ، كالعهود بين المتعاقدين ، وكالوعد الذي يعده العبد لغيره ، ويؤكده على نفسه ، فعليه في جميع ذلك الوفاء وتتميمها مع القدرة ، ولهذا نهى الله عن نقضها فقال : " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " بعقدها على اسم الله تعالى : " وقد جعلتم الله عليكم " أيها المتعاقدون " كفيلا " . فلا يحل لكم أن لا تحكموا ما جعلتم الله عليكم كفيلا ، فيكون في ذلك ترك تعظيم الله ، واستهانة به ، وقد رضي الآخر منك باليمين ، والتوكيد الذي جعلت الله فيه كفيلا . فكما ائتمنك وأحسن ظنه فيك ، فلتف له بما قلته وأكدته . " إن الله يعلم ما تفعلون " فيجازي كل عامل بعمله ، على حسب نيته ومقصده .(2/218)
وقوله تعالى: ? مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ * ? (النحل : 98 - 100 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى(2/219)
" ما عندكم " ولو كثر جدا ، لا بد أن " ينفد " ويفنى ..." وما عند الله باق " ببقائه ، لا يفنى ولا يزول . فليس بعاقل ، من آثر الفاني الخسيس ، على الباقي النفيس ، وهذا كقوله تعالى : " بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى "..." وما عند الله خير للأبرار ".... ، وفي هذا ، الحث والترغيب على الزهد في الدنيا . خصوصا ، الزهد المتعين ، وهو الزهد فيما يكون ضررا على العبد ، ويوجب له الاشتغال عما أوجب الله عليه ، وتقديمه على حق الله ، فإن هذا الزهد واجب . ومن الدواعي للزهد ، أن يقابل العبد لذات الدنيا وشهواتها بخيرات الآخرة . فإنه يجد من الفرق والتفاوت ، ما يدعوه إلى إيثار أعلى الأمرين . وليس الزهد الممدوح ، هو الانقطاع للعبادات القاصرة ، كالصلاة ، والصيام ، والذكر ونحوها . بل لا يكون العبد زاهدا ، زهدا صحيحا ، حتى يقوم بما يقدر عليه ، من الأوامر الشرعية ، الظاهرة والباطنة ومن الدعوة إلى الله وإلى دينه بالقول والفعل . فالزهد الحقيقي ، هو : الزهد فيما لا ينفع في الدين والدنيا ، والرغبة والسعي في كل ما ينفع . " ولنجزين الذين صبروا " على طاعة الله ، وعن معصيته ، وفطموا أنفسهم عن الشهوات الدنيوية ، المضرة بدينهم " أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ولهذا ذكر جزاء العاملين في الدنيا والآخرة ، فقال : " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها ، بل لا تسمى أعمالا صالحة ، إلا بالإيمان ، والإيمان مقتض لها ، فإنه : التصديق الجازم ، المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات . فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح " فلنحيينه حياة طيبة " وذلك بطمأنينة قلبه ، وسكون نفسه ، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه ، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا ، من حيث لا يحتسب . " ولنجزينهم "(2/220)
في الآخرة ، " أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " من أصناف اللذات ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . فيؤتيه الله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة .
" فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون "
أي : فإذا أردت القراءة لكتاب الله ، الذي هو أشرف الكتب وأجلها ، وفيه صلاح القلوب ، والعلوم الكثيرة ، فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد ، عند شروعه في الأمور الفاضلة ، فيسعى في صرفه عن مقاصدها ومعانيها . فالطريق إلى السلامة من شره الالتجاء إلى الله ، والاستعاذة من شره ، فيقول القارىء : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " متدبرا لمعناها ، معتمدا بقلبه على الله ، في صرفه عنه ، مجتهدا في دفع وسواسه وأفكاره الرديئة ، مجتهدا على السبب الأقوى في دفعه ، وهو : التحلي بحلية الإيمان والتوكل . فإن الشيطان " ليس له سلطان "
أي : تسلط " على الذين آمنوا وعلى ربهم " وحده لا شريك له " يتوكلون " ، فيدفع الله عن المؤمنين المتوكلين عليه ، شر الشيطان ، ولا يبقى له عليهم سبيل . " إنما سلطانه " أي تسلطه " على الذين يتولونه " أي : يجعلونه لهم وليا . وذلك بتخليهم عن ولاية الله ، ودخولهم في طاعة الشيطان ، وانضمامهم لحزبه . فهم الذين جعلوا له ولاية على أنفسهم ، فأزهم إلى المعاصي أزا ، وقادهم إلى النار قودا .(2/221)
وقوله تعالى: ? ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ * ? (النحل : 125 -128 )
? قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى
قوله تعالى :"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين "(2/222)
أي : ليكن دعاؤك للخلق ، مسلمهم وكافرهم ، إلى سبيل ربك المستقيم ، المشتمل على العلم النافع ، والعمل الصالح . " بالحكمة " أي : كل أحد على حسب حاله وفهمه ، وقبوله وانقياده . ومن الحكمة ، الدعوة بالعلم ، لا بالجهل ، والبدأة بالأهم فالأهم ، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم ، وبما يكون قبوله أتم ، وبالرفق واللين . فإن انقاد بالحكمة ، وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة ، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب . إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها ، والنواهي من المضار وتعدادها . وإما بذكر إكرام من قام بدين الله ، وإهانة من لم يقم به . وإما بذكر ما أعد الله للطائعين ، من الثواب العاجل والآجل ، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل . فإن كان المدعو ، يرى أن ما هو عليه حق ، أو كان داعيه إلى الباطل ، فيجادل بالتي هي أحسن ، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا . من ذلك ، الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها ، فإنه أقرب إلى حصول المقصود ، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة ، تذهب بمقصودها ، ولا تحصل الفائدة منها ، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها . وقوله : " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " أي : أعلم بالسبب ، الذي أداه إلى الضلال ، ويعلم أعماله المترتبة على ضلالته ، وسيجازيه عليها . " وهو أعلم بالمهتدين " علم أنهم يصلحون للهداية ، فهداهم ، ثم من عليهم فاجتباهم .
" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون "(2/223)
يقول تعالى ـ مبيحا للعدل ، ونادبا للفضل والإحسان ـ " وإن عاقبتم " من أساء إليكم بالقول والفعل " فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " من غير زيادة منكم ، على ما أجراه معكم . " ولئن صبرتم " عن المعاقبة ، وعفوتم عن جرمهم " لهو خير للصابرين " من الاستيفاء ، وما عند الله ، خير لكم ، وأحسن عاقبة كما قال تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " ، ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى الله ، والاستعانة بالله على ذلك ، وعدم الاتكال على النفس فقال : " واصبر وما صبرك إلا بالله " هو الذي يعينك عليه ويثبتك . " ولا تحزن عليهم " إذا دعوتهم ، فلم تر منهم قبولا لدعوتك ، فإن الحزن لا يجدي عليك شيئا . " ولا تك في ضيق " أي شدة وحرج " مما يمكرون " فإن مكرهم عائد إليهم ، وأنت من المتقين المحسنين . والله مع المتقين المحسنين ، بعونه ، وتوفيقه ، وتسديده ، وهم الذين اتقوا الكفر والمعاصي ، وأحسنوا في عبادة الله ، بأن عبدوا الله ، كأنهم يرونه ، فإن لم يكونوا يرونه ، فإنه يراهم . والإحسان إلى الخلق ببذل النفع لهم من كل وجه . نسأل الله أن يجعلنا من المتقين المحسنين .
ومن سورة بني إسرائيل تسع وعشرون آية(2/224)