ثم فسر ذلك فقال : 19 - { من نطفة خلقه } أي من ماء مهين وهذا تحقير له قال الحسن : كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرتين ومعنى { فقدره } أي فسواه وهيأه لمصالح نفسه وخلق له اليدين والرجلين والعينين وسائر الآلات والحواس وقيل قدره أطوارا من حال إلى حال نطفة ثم علقة إلى أن تم خلقه (5/541)
20 - { ثم السبيل يسره } أي يسر له الطريق إلى الخير والشر وقال السدي ومقاتل وعطاء وقتادة يسره للخروج من بطن أمه والأول أولى ومثله قوله : { وهديناه النجدين } وانتصاب السبيل بمضمر يدل عليه الفعل المذكور : أي يسر السبيل يسره (5/541)
21 - { ثم أماته فأقبره } أي جعله بعد أن أمته ذا قبر يوارى فيه إكراما له ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله السباعو الطير كذا قال الفراء : وقال أبو عبيدة : جعل له قبرا وأمر أن يقبر فيه ولم يقل قبره لأن القابر هو الدافن بيده ومنه قول الأعمشي :
( لو أسندت ميتا إلى صدرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر ) (5/541)
22 - { ثم إذا شاء أنشره } أي ثم إذا شاء إنشاره أنشره : أي أحياه بعد موته وعلق الإنشار بالمشيئة للدلالة على أن وقته غير متعين بل هو تابع للمشيئة قرأ الجمهور { أنشره } بالألف وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة نشره بغير ألف وهما لغتان فصيحتان (5/542)
23 - { كلا لما يقض ما أمره } كلا ردع وزجر للإنسان الكافر : أي ليس الأمر كما يقول ومعنى : لما يقض ما أمره لم يقض ما أمره الله به من العمل بطاعته واجتناب معاصيه وقيل المراد الإنسان على العموم وأنه لم يفعل ما أمره الله به مع طول المدة لأنه لا يخلو من تقصير قال الحسن : أي حقا لم يعمل ما أمر به قال ابن فورك : أي كلا لما يقض لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان بل أمره بما لم يقض له قال ابن الأنباري : الوقف على كلا قبيح والوقف على أمره جيد وكلا على هذا بمعنى حقا وقيل المعنى : لما يقض جميع أفراد الإنسان ما أمره بل أخل به : بعضها بالكفر وبعضها بالعصيان وما قضى ما أمره الله إلا القليل (5/542)
ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده ليشكروها وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم المتعلقة بحدوثه فقال : 24 - { فلينظر الإنسان إلى طعامه } أي ينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته ؟ وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعد بها للسعادة الأخروية ؟ قال مجاهد : معناه فلينظر الإنسان إلى طعامه : أي إلى مدخله ومخرجه والأول أولى (5/542)
ثم بين ذلك سبحانه فقال : 25 - { أنا صببنا الماء صبا } قرأ الجمهور { إنا } بالكسر على الاستئناف وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب بالفتح على أنه بدل من طعامه بدل اشتمال لكون نزول المطر سببا لحصول الطعام فهو كالمشتمل عليه أو بتقدير لام العلة قال الزجاج : الكسر على الابتداء والاستئناف والفتح على معنى البدل من الطعام المعنى : فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صبا وأراد بصب الماء المطر وقرأ الحسن بن علي بالفتح والإمالة (5/542)
26 - { ثم شققنا الأرض شقا } أي شققناها بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر شقا بديعا بما يخرج منه في الصغر والكبر والشكل والهيئة (5/542)
ثم بين سبب هذا الشق وما وقع لأجله فقال 27 - { فأنبتنا فيها حبا } يعني الحبوب الذي يتغذى بها والمعنى : أن النبات لا يزال ينمو ويتزايد إلى أن يصير حبا (5/542)
وقوله : 28 - { وعنبا } معطوف على حبا : أي وأنبتنا فيها عنبا قيل وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه فلا ضير في خلو إنبات العنب عن شق الأرض والقضب : هو القت الرطب الذي يقضب مرة بعد أخرى تعلق به الدواب ولهذا سمي قضبا على مصدر قضبه : أي قطعه كأنه لتكرر قطعها نفس القطع قال الخليل : القضب الفصفصة الرطبة فإذا يبست فهي القت قال في الصحاح : والقضبة والقضب الرطبة قال : والموضع الذي ينبت فيه مقضبة قال القتيبي وثعلب : وأهل مكة يسمون العنب القضب والزيتون هو ما يعصبر منه الزيت وهو شجرة الزيتون المعروفة والنخل هو جمع نخلة (5/543)
29 - { وزيتونا ونخلا } (5/543)
30 - { وحدائق غلبا } جمع حديقة وهي البستان والغلب العظام الغلاظ الرقاب وقال قتادة ومقاتل : الغلب الملتف بعضها ببعض يقال : رجل أغلب : إذا كان عظيم الرقبة ويقال للأسد أغلب لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جميعا قال العجاج :
( ما زلت يوم البين ألوي صلبي ... والرأس حتى صرت مثل الأغلب )
وجمع أغلب وغلباء غلب كما جمع أحمر وحمراء على حمر وقال قتادة وابن زيد : الغلب النخل الكرام وعن ابن زيد [ أيضا ] وعكرمة : هي غلاظ الأوساط والجذوع والفاكهة ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار كالعنب والتين والخوخ ونحوها والأب كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ولا يزرعونه من الكلأ وسائر أنواع الري ومنه قول الشاعر :
( جدنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب بها والمكرع )
قال الضحاك : الأب كل شيء ينبت على وجه الأرض وقال ابن أبي طلحة : هو الثمار الرطبة وروي عن الضحاك أيضا أنه قال : هو التين خاصة والأول أولى (5/543)
31 - { وفاكهة وأبا } (5/543)
32 - { متاعا لكم ولأنعامكم } (5/543)
ثم شرع سبحانه في بيان أحوال المعاد فقال : 33 - { فإذا جاءت الصاخة } يعني صيحة يوم القيامة وسميت صاخة لشدة صوتها لأنها تصخ الأذان : أي تصمها فلا تسمع وقيل سميت صاخة لأنها يصيخ لها الأسماع من قولك أصاخ إلى كذا أي استمع إليه والأول أصح قال الخليل : الصاخة صيحة تصخ الآذان حتى تصمها بشدة وقعها وأصل الكلمة في اللغة مأخوذة من الصك الشديد يقال صخه بالحجر : إذا صكه بها وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } أي فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه (5/543)
والظرف في قوله : 34 - { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه } إما بدل من إذا جاءت أو منصوب بمقدر : أي أعني ويكون تفسيرا للصاخة أو بدلا منها مبني على الفتح وخص هؤلاء بالذكر لأنهم أخص القرابة وأولادهم بالحنو والرأفة فالفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم وخطب فظيع (5/543)
35 - { وأمه وأبيه } (5/544)
36 - { وصاحبته وبنيه } (5/544)
37 - { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } أي لك إنسان يوم القيامة شأن يشغله عن الأقرباء ويصرفه عنهم وقيل إنما يفر عنهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينهم وقيل يفر عنهم لئلا يروا ما هو فيه من الشدة وقيل لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنوه عنه شيئا كما قال تعالى : { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا } والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الفرار قال ابن قتيبة : يغنيه : أي يصرفه عن قرابته ومنه يقال أغن عني وجهك : أي اصرفه قرأ الجمهور { يغنيه } بالغين المعجمة وقرأ ابن محيصن بالعين المهملة مع فتح الياء : أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه (5/544)
38 - { وجوه يومئذ مسفرة } وجوه مبتدأ وإن كان كرة لأنه في مقام التفصيل وهو من مسوغات الابتداء بالنكرة ويومئذ متعلق به ومسفرة خبره ومعنى مسفرة : مشرقة مضيئة وهي وجوه المؤمنين لأنهم قد علموا إذا ذاك ما لهم من النعيم والكرامة يقال أسفر الصبح : إذا أضاء قال الضحاك : مسفرة من آثار الوضوء وقيل من قيام الليل (5/544)
39 - { ضاحكة مستبشرة } أي فرحة بما نالته من الثواب الجزيل (5/544)
ثم لما فرغ من ذكر حال المؤمنين ذكر حال الكفار فقال : 40 - { ووجوه يومئذ عليها غبرة } أي غبار وكدورة لما تراه مما أعده الله لها من العذاب (5/544)
41 - { ترهقها قترة } أي يغشاها ويعلوها سواد وكسوف وقيل ذلة وقيل شدة والقتر في كلام العرب الغبار كذا قال أبو عبيدة وأنشد قول الفرزدق :
( متوج برداء الملك يتبعه ... فوج ترى فوقه الرايات والقترا )
ويدفع ما فاله أبو عبيدة تقدم ذكر الغبرة فإنها واحدة الغبار وقال زيد بن أسلم : القترة ما ارتفعت إلى السماء والغبرة ما انحطت إلى الأرض (5/544)
42 - { أولئك } يعني أصحاب الوجوه { هم الكفرة الفجرة } أي الجامعون بين الكفر بالله والفجور يقال فجر : أي فسق وفجر : أي كذب وأصله الميل والفاجر المائل عن الحق
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت : [ أنزلت عبس وتولى في أم متكوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني وعند رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من عظماء المشركين فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول : أترى بما أقول بأسا ؟ فيقول لا ففي هذا أنزلت ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو يعلى عن أنس قال : [ جاء عبد الله ابن أم مكتوم وهو يكلم أبي بن خلف فأعرض عنه فأنزل الله { عبس وتولى * أن جاءه الأعمى } فكان النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك يكرمه ] وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : [ بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يناجي عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبا جهل بن هشام وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص عليهم أن يؤمنوا فأقبل عليهم رجل أعمى يقال له عبد الله بن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم فجعل علد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه و سلم آية من القرآن قال : يا رسول الله علمني مما علمك الله فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه وأقبل على الآخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم نجواه وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ثم خفق برأسه ثم أنزل الله { عبس وتولى } الآية فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبي الله صلى الله عليه و سلم وكلمه وقال له : ما حاجتك ؟ هل تريد من شيء ؟ وإذا ذهب من عنده قال : هل لك حاجة في شيء ؟ ] قال ابن كثير : فيه غرابة وقد تكلم في إسناده وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { بأيدي سفرة } قال : كتبة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { بأيدي سفرة } قال : هم بالنبطية القراء وأخرج ابن جرير عنه أيضا { كرام بررة } قال : الملائكة : وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران ] وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { ثم السبيل يسره } قال : يعني بذلك خروجه من بطن أمه يسره له وأخرج ابن المنذر عن عبد الله ابن الزبير في قوله : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } قال : إلى مدخله ومخرجه وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس { فلينظر الإنسان إلى طعامه } قال : إلى خرئه وأخرج ابن المنذر عنه { أنا صببنا الماء صبا } قال : المطر { ثم شققنا الأرض شقا } قال : عن النبات وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وقضبا } قال : الفصفصة يعني القت { وحدائق غلبا } قال : طوالا { وفاكهة وأبا } قال : الثمار الرطبة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الحدائق كل ملتف والغلب ما غلظ والأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا { وحدائق غلبا } قال : شجر في الجنة يستظل به لا يحمل شيئا وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الأب الكلأ والمرعى وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال : سئل أبو بكر الصديق عن الأب ما هو ؟ فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد : أن رجلا سأل عمر عن قوله : { وأبا } فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والخطيب عن أنس أن عمر قرأ على المنبر { فأنبتنا فيها حبا * وعنبا } إلى قوله : { وأبا } قال : كل هذا قد عرفناه فما الأب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا تدري ما الأب اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا عليه وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال الصاخة من أسماء يوم القيامة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مسفرة } قال : مشرقة وفي قوله : { ترهقها قترة } قال : تغشاها شدة وذلة وأخرج ابن أبي حاتم عنه { قترة } قال : سواد الوجه (5/544)
وهي تسع وعشرون آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة { إذا الشمس كورت } بمكة وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ : { إذا الشمس كورت } { إذا السماء انفطرت } { إذا السماء انشقت } ]
قوله : 1 - { إذا الشمس كورت } ارتفاع الشمس بفعل محذوف يفسره ما بعده على الاشتغال وهذا عند البصريين وأما عند الكوفيين والأخفش فهو مرتفع على الابتداء والتكوير الجمع وهو مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها قال الزجاج : لفت كما تلف العمامة يقال : كورت العمامة على رأسي أكورها كورا وكورتها تكويرا : إذا لففتها قال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة تلف فتجمع قال الربيع بن خثيم كورت : أي رمى بها ومنه كورته فتكور : أي سقط وقال قتادة والكلبي : ذهب ضوؤها وقال مجاهد : اضمحلت قال الواحدي : قال المفسرون : تجمع الشمس بعضها إلى بعض ثم تلف فيرمى بها فالحاصل أن التكوير إما بمعنى لف جرمها أو لف ضوئها أو الرمي بها (5/546)
2 - { وإذا النجوم انكدرت } أي تهافتت وانقضت وتناكرت يقال انكدر الطائر من الهواء : إذا انقض والأصل في النكداء الانصباب قال الخليل : يقال انكدر عليهم القول : إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم قال أبو عبيدة : انصبت كما ينصب العقاب قال الكلبي وعطاء : تمطر السماء يومئذ نجوما فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض وقيل انكدارها طمس نورها (5/547)
3 - { وإذا الجبال سيرت } أي قلعت عن الأرض وسيرت في الهواء ومنه قوله : { ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة } (5/547)
4 - { وإذا العشار عطلت } العشار : النوق الحوامل التي في بطونها أولادها الواحدة عشراء وهي التي قد أتى عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وخص العشار لأنها أنفس مال عند العرب وأعزه عندهم ومعنى عطلت : تركت هملا بلا راع وذلك لما شاهدوا من الهول العظيم قيل وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء بل المراد أنه لو كان للرجل ناقة عشراء في ذلك اليوم أو نوق عشار لتركها ولم يلتفت إليها اشتغالا بما هو فيه من هول يوم القيامة وسيأتي آخر البحث إن شاء الله ما يفيد أن هذا في الدنيا وقيل العشار السحاب فإن العرب تشبهها بالحامل ومنه قوله : { فالحاملات وقرا } وتعطيلها عدم إمطارها قرأ الجمهور { عطلت } بالتشديد وقرأ ابن كثير في رواية عنه بالتخفيف وقيل المراد أن الديار تعطل فلا تسكن وقيل الأرض التي تعشر زرعها تعطل فلا تزرع (5/547)
5 - { وإذا الوحوش حشرت } الوحوش ما توحش من دواب البر ومعنى حشرت : بعثت حتى يقتص بعضها من بعض فيقتص للجماء من القرناء وقيل حشرها موتها وقيل إنها مع نفرتها اليوم من الناس وتبددها في الصحارى تضم ذلك اليوم إليهم قرأ الجمهور { حشرت } بالتخفيف وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون بالتشديد (5/548)
6 - { وإذا البحار سجرت } أي أوقدت فصارت نارا تضطرم وقال الفراء : ملئت بأن صارت بحرا واحدا وروي عن قتادة وابن حبان أن معنى الآية : يبست ولا يبقى فيها قطرة يقال سجرت الحوض أسجره سجرا : إذا ملأته وقال القشيري : هو من سجرت التنور أسجره سجرا : إذا أحميته قال ابن زيد وعطية وسفيان ووهب وغيرهم : أوقدت فصارت نارا وقيل معنى سجرت أنها صارت حمراء كالدم من قولهم عين سجراء : أي حمراء قرأ الجمهور { سجرت } بتشديد الجيم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيفها (5/548)
7 - { وإذا النفوس زوجت } أي قرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة وقرن بين رجل السوء مع رجل السوء في النار وقال عطاء : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين وقيل قرن كل شكل إلى شكله في سلطان كما في قوله : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } وقال عكرمة { وإذا النفوس زوجت } يعني قرنت الأرواح بالأجساد وقال الحسن : ألحق كل امرئ بشيعته : اليهود باليهود والنصارى بالنصارى والمجوس بالمجوس وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض والمنافقون بالمنافقين والمؤمنون بالمؤمنين وقيل يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين وقيل قرنت النفوس بأعمالها (5/547)
8 - { وإذا الموؤدة سئلت } أي المدفونة حية وقد كان العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية مخافة العار أو الحاجة يقال : وأد [ يئد ] وأدا فهو وائد والمفعول به موءود وأصله مأخوذ من الثقل لأنها تدفن فيطح عليها التراب فيثقلها فتموت ومنه { ولا يؤوده حفظهما } أي لا يثقله ومنه قول متمم بن نويرة :
( وموءودة مقبورة في مغارة )
ومنه قول الراجز :
( سميتها إذا ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن رميت )
قرأ الجمهور { الموؤدة } بهمزة بين واوين ساكنين كالموعودة وقرأ البزي في رواية عنه بهمزة مضمونة ثم واو ساكنة وقرأ الأعمش المودة بزنة الموزة وقرأ الجمهور { سئلت } مبنيا للمفعول وقرأ الحسن بكسر السين من سال يسيل (5/549)
وقرأ الجمهور 9 - { سئلت } مبنيا للمفعول وقرأ الحسن بكسر السين من سال يسيل وقرأ الجمهور قتلت بالتخفيف مبنيا للمفعول وقرأ أبو جعفر بالتشديد على التكثير وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس سألت مبنيا للفاعل قتلت بضم التاء الأخيرة ومعنى سئلت على قراءة الجمهور : أن توجيه السؤال إليها لإظهار كمال الغيظ على قاتلها حتى كان لا يستحق أن يخاطب ويسأل عن ذلك وفيه تبكيت لقاتلها وتوبيخ له شديد قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها لأنها قتلت بغير ذنب وفي مصحف أبي وإذا الموءودة سألت بأي ذنب قتلتني (5/549)
10 - { وإذا الصحف نشرت } يعني صحائف الأعمال نشرت للحساب لأنها تطوى عنه الموت وتنشر عندالحساب فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول : { مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } قرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو { نشرت } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد على التكثير (5/549)
11 - { وإذا السماء كشطت } الكشط : قلع عن شدة التزاق فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش والقشط بالقاف لغة في الكشط وهي قراءة ابن مسعود قال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف وقال الفراء : نزعت فطويت وقال مقاتل : كشفت عما قيها قال الواحدي : ومعنى الكشط رفعك شيئا عن شيء قد غطاه (5/549)
12 - { وإذا الجحيم سعرت } أي أوقدت لأعداء الله إيقادا شديدا قرأ الجمهور { سعرت } بالتخفيف وقرأ نافع وابن ذكوان وحفص بالتشديد لأنها أوقدت مرة بعد مرة قال قتادة : سعرها غضب الله وخطايا بني آدم (5/550)
13 - { وإذا الجنة أزلفت } أي قربت إلى المتقين وأدنيت منهم قال الحسن : إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها وقال ابن زيد : معنى أزلفت تزينت والأول أولى لأن الزلفى في كلام العرب القرب قيل هذه الأمور الاثنا عشر : ست منها في الدنيا وهي من أول السورة إلى قوله : { وإذا البحار سجرت } وست في الآخرة وهي { وإذا النفوس زوجت } إلى هنا (5/550)
14 - { علمت نفس ما أحضرت } على أن المراد الزمان الممتد من الدنيا إلى الآخرة لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء هذا الوقت الممتد بل المراد علمت ما أحضرته عند نشر الصحف : يعني ما عملت من خير أو شر ومعنى ما أحضرت : ما أحضرت من أعمالها والمراد حضور صحائف الأعمال أو حضور الأعمال نفسها كما ورد أن الأعمال تصور بصور تدل عليها وتعرف بها وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم المذكور لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها من الظهور والوضوح بحيث لا يخفى على أحد ويدل على هذا قوله : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } وقيل يجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي علمت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على فعله (5/550)
15 - { فلا أقسم بالخنس } لا زائدة كما تقدم تحقيقه وتحقيق ما فيه من الأقوال في أول سورة القيامة : أي فأقسم بالخنس وهي الكواكب وسميت الخنس من خنس : إذا تأخر لأنها تخنس بالنهار فتخفى ولا ترى وهي زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد كما ذكره أهل التفسير ووجه تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم أنها تستقبل الشمس وتقطع المجرة وقال في الصحاح : الخنس الكواكب كلها لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تخفى نهارا أو يقال هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة قال الفراء : إنها الكواكب الخمسة المذكورة لأنها تخنس في مجراها وتكنس : أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار ويقال سميت خنسا لتأخرها لأها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم يقال خنس عنه يخنس خنوسا إذا تأخر وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه والخنس : تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة (5/550)
ومعنى 16 - { الجوار } أنها تجري مع الشمس والقمر ومعنى { الكنس } أنها ترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها وقيل خنوسها خفاؤها بالنهار وكنوسها غروبها قال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت والمعنى متقارب لأنها تتأخبر في النهار عن البصر لخفائها فلا ترى وتظهر بالليل وتكنس في وقت غروبها وقيل المراد بها بقر الوحش لأنها تتصف بالخنس وبالجوار وبالكنس وقال عكرمة : الخنس البقر والكنس الظباء فهي تخنس إذا رأت الإنسان وتنقبض وتتأخر وتدخل كناسها وقيل هي الملائكة والأول أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا والكنس مأخوذ من الكناس الذي يختفي فيه الوحش والخنس جمع خانس وخانسة والكنس جمع كانس وكانسة (5/551)
17 - { والليل إذا عسعس } قال أهل اللغة : هو من الأضداد يقال عسعس الليل : إذا أقبل وعسعس : إذا أدبر (5/551)
ويدل على أن المراد هنا أدبر قوله : 18 - { والصبح إذا تنفس } قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر كذا حكاه عنه الجوهري وقال الحسن : أقبل بظلامه قال الفراء : العرب تقول عسعس الليل : إذا أقبل وعسعس الليل : إذا أدبر وهذا لا ينافي ما تقدم عنه لأنه حكى عن المفسرين أنهم أجمعوا على حمل معناه في هذه الآية على أدبر وإن كان في الأصل مشتركا بين الإقبال والإدبار قال المبرد : هو من الأضداد قال : والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره قال رؤبة بن العجاج :
( يا هند ما أسرع ما تعسعسا ... من بعد ما كان فتى ترعرعا )
وقال امرؤ القيس :
( عسعس حتى لو نشاء إذا دنا ... كان لنا من ناره مقتبس )
وقوله :
( الماء على الربع القديم تعسعسا )
{ والصبح إذا تنفس } التنفس في الأصل : خروج النسيم من الجوف وتنفس الصبح إقباله لأنه يقبل بروح ونسيم فجعل ذلك تنفسا له مجازا قال الواحدي : تنفس : أي امتد ضوؤه حتى يصير نهارا ومنه يقال للنهار إذا زاد تنفس وقيل { إذا تنفس } إذا انشق وانفلق ومنه تنفست القوس : أي تصدعت (5/551)
ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال : 19 - { إنه لقول رسول كريم } يعني جبريل لكونه نزل به من جهة الله سبحانه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأضاف القول إلى جبريل لكونه مرسلا به وقيل المراد بالرسول في الآية محمد صلى الله عليه و سلم والأول أولى (5/551)
ثم وصف الرسول المذكور بأوصاف محمودة فقال : 20 - { ذي قوة عند ذي العرش مكين } أي ذي قوة شديدة في القيام بما كلف به كما في قوله : { شديد القوى } ومعنى { عند ذي العرش مكين } أنه ذو رفعة عالية ومكانة مكينة عند الله سبحانه وهو في محل نصب على الحال من مكين وأصله الوصف فلما قدم صار حالا ويجوز أن يكون نعتا لرسول يقال مكن فلان عند فلان مكانة : أي صار ذا منزلة عنده ومكانة قال أبو صالح : من مكانته عند ذي العرش أنه يدخل سبعين سرادقا بغير إذن (5/551)
ومعنى 21 - { مطاع } أنه مطاع بين الملائكة يرجعون إليه ويطيعونه { ثم أمين } قرأ الجمهور بفتح { ثم } على أنها ظرف مكان للبعيد والعامل فيه مطاع أو ما بعده والمعنى : أنه مطاع في السموات أو أمين فيها : أي مؤتمن على الوحي وغيره وقرأ هشيم وأبو جعفر وأبو حيوة بضمها على أنها عاطف وكان العطف بها للتراخي في الرتبة لأن لأن ما بعدها أعظم مما قبلها ومن قال : إن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه و سلم فالمعنى : أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة مطاع يطيعه من أطاع الله أمين على الوحي (5/552)
22 - { وما صاحبكم بمجنون } الخطاب لأهل مكة والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم والمعنى : وما محمد يا أهل مكة بمجنون وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره وأنه ليس مما يرمونه به من الجنون وغيره في شيء وأنهم افتروا عليه ذلك عن علم منهم بأنه أعقل الناس وأكملهم وهذه الجملة داخلة في جواب القسم فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل وأن محمدا صلى الله عليه و سلم ليس كما يقولون من أنه مجنون وأنه يأتي بالقرآن من جهنة نفسه (5/552)
23 - { ولقد رآه بالأفق المبين } اللام جواب قسم محذوف : أي وتالله لقد رأى محمد جبريل بالأفق المبين : أي بمطلع الشمس من قبل المشرق لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين لأن من جهته ترى الأشياء وقيل الأفق المبين : أقطار السماء ونواحيها ومنه قول الشاعر :
( أخذنا بأقطار السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع )
وإنما قال سبحانه : { ولقد رآه بالأفق المبين } مع أنه قد رآه غير مرة لأنه رآه هذه المرة في صورته له ستمائة جناح قال سفيان : إنه رآه في أفق السماء الشرقي وقال ابن بحر : في أفق السماء الغربي وقال مجاهد : رآه [ نحو أجياد ] وهو مشرق مكة والمبين صفة للأفق قاله الربيع وقيل صفة لمن رآه قاله مجاهد : وقيل معنى الآية : ولقد رأى محمد ربه عز و جل وقد تقدم القول في هذا في سورة النجم (5/552)
24 - { وما هو } أي محمد صلى الله عليه و سلم { على الغيب } يعني خبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائبا علمه عن أهل مكة { بضنين } بمتهم : أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله سبحانه وقيل بضنين ببخيل : أي لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ وسبب هذا الاختلاف اختلاف القراء فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي { بضنين } بالظاء المشالة : أي بمتهم والظنة التهمة واختار هذه القراءة أبو عبيد قال : لأنهم لم يبخلوا ولكن كذبوه وقرأ الباقون { بضنين } بالضاد : أي ببخيل من ضننت بالشيء أضن ضنا : إذا بخلت قال مجاهد : أي لا [ يضن ] عليكم بما يعلم بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه وقيل المراد جبريل إنه ليس على الغيب بضنين والأول أولى (5/552)
25 - { وما هو بقول شيطان رجيم } أي وما القرآن بقول شيطان من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب قال الكلبي : يقول إن القرآن ليس بشعر ولا كهانة كما قالت قريش قال عطاء : يريد بالشيطان : الشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه و سلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه (5/553)
ثم بكتهم سبحانه ووبخهم فقال : 26 - { فأين تذهبون } أي أين تعدلون عن هذا القرآن وعن طاعته كذا قاله قتادة وقال الزجاج : معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم يقال أين تذهب وإلى أين تذهب ؟ وحكى الفراء عن العرب : ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق : أي إليها قال : سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة وأنشد لبعض بني عقيل :
( تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا ... وأي الأرض تذهب بالصياح )
تريد إلى أي الأرض تذهب فحذف إلى (5/553)
27 - { إن هو إلا ذكر للعالمين } أي ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين وتذكير لهم (5/553)
وقوله : 28 - { لمن شاء منكم أن يستقيم } بدل من العالمين بإعادة الجار ومفعول المشيئة أن يستقيم أي لمن شاء منكم الاستقامة على الحق والإيمان والطاعة (5/553)
29 - { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } أي وما تشاءون الاستقامة إلا أن يشاء الله تلك المشيئة فأعلمهم سبحانه أن المشيئة في التوفيق إليه وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله وتوفيقه ومثل هذا قوله سبحانه : { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } وقوله : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } وقوله : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { إذا الشمس كورت } قال : أظلمت { وإذا النجوم انكدرت } قال : تغيرت وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن أبي مريم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في قوله : { إذا الشمس كورت } قال : كروت في جهنم { وإذا النجوم انكدرت } قال : انكدرت في جهنم فكل من عبد من دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيسى وأمه ولورضيا أن يعبدا لدخلاها وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية قال : ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون إليها وست ينظرون في الآخرة { إذا الشمس كورت } إلى { وإذا البحار سجرت } هذه في الدنيا والناس ينظرون إليها { وإذا النفوس زوجت } إلى { وإذا الجنة أزلفت } هذه في الآخرة وأخرج ابن أبي الدنيا في الأهوال وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينهما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض { وإذا الوحوش حشرت } قال : اختلطت { وإذا العشار عطلت } قال : أهملها أهلها { وإذا البحار سجرت } قال : الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج / فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وإذا الوحوش حشرت } قال : حشر البهائم موتها وحشر كل شيء الموت غير الجن والإنس فإنهما يوافيان يوم القيامة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب في المتفق والمفترق عنه في قوله : { وإذا الوحوش حشرت } قال : يحشر كل شيء يوم القيامة حتى أن الدواب لتحشر وأخرج البيهقي في البعث عنه أيضا في قوله : { وإذا البحار سجرت } قال : تسجر حتى تصير نارا وأخرج الطبراني عنه { سجرت } قال : اختلط ماؤها بماء الأرض وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحيلة والبيهقي في البعث عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله : { وإذا النفوس زوجت } قال : يقرن بين الرجل الصالح مع الصالح في الجنة ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار كذلك تزويج الأنفس : وفي رواية : ثم قرأ { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } وأخرج نحوه ابن مردويه عن النعمان بن بشير مرفوعا وأخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال : جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أعتق عن كل واحدة رقبة قال : إني صاحب إبل قال : فأهد عن كل واحدة بدنة ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { وإذا الجنة أزلفت } قال : قربت وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله : { فلا أقسم بالخنس } قال : هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { لا أقسم بالخنس } قال خمسة أنجم : زحل وعطارد والمشتري وبهرام والزهرة ليس شيء يقطع المجرة غيرها وأخرج ابن مردويه والخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في الآية قال : هي النجوم السبعة : زحل وبهرام وعطارد والمشتري والزهرة والشمس والقمر خنوسها رجوعها وكنوسها تغيبها بالنهار وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود في قوله : { بالخنس * الجوار الكنس } قال : هي بقر الوحش وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هي البقر تكنس إلى الظل وأخرج ابن المنذر عنه قال : تكنس لأنفسها في أصول الشجر تتوارى فيه وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : هي الظباء وأخرج ابن راهويه وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب في قوله : { الجوار الكنس } قال : هي الكواكب وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس { الخنس } البقر { الجوار الكنس } الظباء ألم ترها إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت نظرها وأخرج أبو أحمد الحاكم في الكنى عن أبي العديس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين ما { الجوار الكنس } فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن رأسه فقال عمر : أحروري ؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجتك محلوقا لأنحيت القمل عن رأسك وهذا منكر فالحرورية لم يكونوا في زمن عمر ولا كان لهم في ذلك الوقت ذكر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { والليل إذا عسعس } قال : إذا أدبر { والصبح إذا تنفس } قال : إذا بدا النهار حين طلوع الفجر وأخرج الطبراني عنه { إذا عسعس } قال : إقبال سواده وأخرج ابن المنذر عنه أيضا { إنه لقول رسول كريم } قال : جبريل وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود { ولقد رآه بالأفق المبين } قال : رأى جبريل له ستمائة جناح قد سد الأفق وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : إنما عنى جبريل أن محمدا رآه في صورته عند سدرة المنتهى وأخرج ابن مردويه عنه بالأفق المبين قال : السماء السابعة وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ { بضنين } بالضاد وقال : ببخيل وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ وما هو [ على ] الغيب بظنين بالظاء قال : ليس بمتهم وأخرج الدارقطني في الأفراد والحاكم وصححه وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ { بضنين } بالظاء وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت { لمن شاء منكم أن يستقيم } قالوا : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فهبط جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : كذبوا يا محمد { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } (5/553)
هي تسع عشرة آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت { إذا السماء انفطرت } بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج النسائي عن جابر قال : [ قام معاذ فصلى العشاء فطول فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أفتان أنت يا معاذ ؟ أين أنت عن { سبح اسم ربك الأعلى } والضحى { إذا السماء انفطرت } وأصل الحديث في الصحيحين ولكن بدون ذكر { إذا السماء انفطرت } ] وقد تقدم بها النسائي وقد تقدم في سورة التكوير حديث [ من سره أن ينظر إلى يوم القيامة رأي عين فليقرأ { إذا الشمس كورت } و { إذا السماء انفطرت } و { إذا السماء انشقت } ]
قوله : 1 - { إذا السماء انفطرت } قال الواحدي : قال المفسرون : انفطارها انشقاقها كقوله : { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } والفطر : الشق يقال فطرته فانفطر ومنه فطر ناب البعير : إذا طلع قيل والمراد أنها انفطرت هنا لنزول الملائكة منها وقيل انفطرت لهيبة الله (5/556)
2 - { وإذا الكواكب انتثرت } أي تساقطت متفرقة : يقال نثرت الشيء أنثره نثرا (5/557)
3 - { وإذا البحار فجرت } أي فجر بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا واختلط العذب منها بالمالح وقال الحسن : معنى فجرت ذهب ماؤها ويبست وهذه الأشياء بين يدي الساعة كما تقدم في السورة التي قبل هذه (5/557)
4 - { وإذا القبور بعثرت } أي قلب ترابها وأخرج الموتى الذين هم فيها يقال بعثر يبعثر يبعثر بعثرة : إذا قلب التراب ويقال بعثر المتاع قلبه ظهرا لبطن وبعثرت الحوض وبحثرته : إذا هدمته وجعلت أعلاه أسفله قال الفراء : بعثرت أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها (5/557)
ثم ذكر سبحانه الجواب عما تقدم فقال : 5 - { علمت نفس ما قدمت وأخرت } والمعنى : أنها علمته عند نشر الصحف لا عند البعث لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار والكلام في إفراد نفس هنا كما تقدم في السورة الأولى في قوله { علمت نفس ما أحضرت } ومعنى { ما قدمت وأخرت } ما قدمت من عمل خير أو شر وما أخرت من سنة حسنة أو سيئة لأن لها أجر ما سنته من السنن الحسنة وأجر من عمل بها وعليها وزر ما سنته من السنن السيئة ووزر من عمل بها وقال قتادة : ما قدمت من معصية وأخرت من طاعة وقيل ما قدم من فرض وأخر من فرض وقيل أول عمله وآخره وقيل إن النفس تعلم عند البعث بما قدمت وأخرت علما إجماليا لأن المطيع يرى آثار السعادة والعاصي يرى آثار الشقاوة وأما العلم التفصيلي فإنما يحصل عند نشر الصحف (5/557)
6 - { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } هذا خطاب الكفار : أي ما الذي غرك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسك وجعلك عاقلا فاهما ورزقك وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر على جحد شيء منها قال قتادة : غره شيطانه المسلط عليه وقال الحسن : غره شيطانه الخبيث وقيل حمقه وجهله وقيل غره عفر الله إذا لم يعاجله بالعقوبة أول مرة كذا قال مقاتل (5/558)
7 - { الذي خلقك فسواك فعدلك } أي خلقك من نطفة ولم تك شيئا فسواك رجلا تسمع وتبصر وتعقل فعدلك : جعلك معتدلا قال عطاء : جعلك قائما معتدلا حسن الصورة وقال مقاتل : عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين والمعنى : عدل بين ما خلق لك من الأعضاء قرأ الجمهور { فعدلك } مشددا وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف واختار أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأولى قال الفراء وأبو عبيد : يدل عليها قوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } ومعنى القراءة الأولى : أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها ومعنى القراءة الثانية : أنه صرفه وأماله إلى أي صورة شاء إما حسنا وإما قبيحا وإما طريلا وإما قصيرا (5/558)
8 - { في أي صورة ما شاء ركبك } في أي صورة متعلق بركبك وما مزيدة وشاء صفة لصورة : أي ركبك في أي صورة شاءها من الصور المختلفة وتكون هذه الجملة كالبيان لقوله : { فعدلك } والتقدير : فعدلك ركبك في أي صورة شاءها ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال : أي ركبك حاصلا في أي صورة ونقل أبو حيان عن بعض المفسرين أنه متعلق بعدلك واعترض عليه بأن أي لها صدر الكلام فلا يعمل فيها ما قبلها قال مقاتل والكلبي ومجاهد : في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم وقال مكحول : إن شاء [ ذكرا ] وإن شاء أنثى (5/558)
وقوله : 9 - { كلا } للردع والزجر عن الغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به والمعاصي له ويجوز أن يكون بمعنى حقا وقوله : { بل تكذبون بالدين } إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل : بعد الردع وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجاوزونه إلى ما هو أعظم منه من التكذيب بالدين وهو الجزاء أو بدين الإسلام قال ابن الأنباري : الوقف الجيد على الدين وعلى ركبك وعلى كلا قبيح والمعنى : بل تكذبون يا أهل مكة بالدين : أي بالحساب وبل لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره وإنكار البعث قد كان معلوما عندهم وإن لم يجر له ذكر قال الفراء : كلا ليس الأمر كما غررت به قرأ الجمهور { تكذبون } بالفوقية على الخطاب وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة بالتحتية على الغيبة (5/559)
وجملة 10 - { وإن عليكم لحافظين } في محل نصب على الحال من فاعل تكذبون : أي تكذبون والحال أن عليكم من يدفع تكذيبكم ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان ما يبطل تكذيبهم والحافظين الرقباء من الملائكة الذي يحفظون على العباد أعمالهم ويكتبونها في الصحف ووصفهم سبحانه بأنهم كرام لديه يكتبون ما يأمرهم به من أعمال العباد (5/559)
11 - { كراما كاتبين } (5/559)
وجملة 12 - { يعلمون ما تفعلون } في محل نصب على الحال من ضمير كاتبين أو على النعت أو مستأنفة قال الرازي : والمعنى التعجيب من حالهم كأنه قال : إنكم تكذبون بيوم الدين وملائكة الله موكلون بكم يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ونظيره قوله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } (5/559)
ثم بين سبحانه حال الفريقين فقال : 13 - { إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم } والجملة مستأنفة لتقرير هذا المعنى الذي سقيت له وهي كقوله سبحانه : { فريق في الجنة وفريق في السعير } (5/559)
14 - { وإن الفجار لفي جحيم } (5/559)
15 - { يصلونها يوم الدين } صفة لجحيم ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في متعلق الجار والمجرور أو مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما حالهم ؟ فقيل { يصلونها يوم الدين } أي يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به ومعنى يصلونها : أنهم يلزمونها مقاسين لوهجها وحرها يومئذ قرأ الجمهور { يصلونها } مخففا مبنيا للفاعل وقرئ بالتشديد مبنيا للمفعول (5/559)
16 - { وما هم عنها بغائبين } إي لا يفارقونها أبدا ولا يغيبون عنها بل هم فيها وقيل المعنى : وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون حرها في قبورهم (5/559)
ثم عظم سبحانه ذلك اليوم فقال : 17 - { وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين } أي يوم الجزاء والحساب وكرره تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه وتهويلا لأمره كما في قوله : { القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة } و { الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة } وامعنى : أي شيء جعلك داريا ما يوم الدين قال الكلبي : الخطاب للإنسان الكافر (5/559)
18 - { ثم ما أدراك ما يوم الدين } (5/560)
19 - { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع { يوم } على أنه بدل من يوم الدين أو خبر مبتدأ محذوف وقرأ أبو عمرو في رواية يوم بالتنوين والقطع عن الإضافة وقرأ الباقون بفتحه على أنها فتحة إعراب بتقدير أعني أو أذكر فيكون مفعولا به أو على أنها فتحة بناء لإضافته إلى الجملة على رأي الكوفيين وهو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو على أنه بدل من يوم الدين قال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه مبني على الفتح لإضافته إلى قوله : { لا تملك } وما أضيف إلى غير المتمكن فقد يبنى على الفتح وإن كان في موضع رفع وهذا الذي ذكره إنما يجوز عند الخليل وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي وأما إلى الفعل المستقبل فلا يجوز عندهما وقد وافق الزجاج على ذلك أبو علي الفارسي والفراء وغيرهما والمعنى : أنها لا تملك نفس من النفوس لنفس أخرى شيئا من النفع أو الضر { والأمر يومئذ لله } وحده لا يملك شيئا من الأمر غيره كائنا ما كان قال مقاتل : يعني لنفس كافرة شيئا من المنفعة قال قتادة ليس ثم أحد يقضي شيئا أو يصنع شيئا إلا الله رب العالمين والمعنى : أن الله لا يملك أحدا في اليوم شيئا من الأمور كما ملكهم في الدنيا ومثل هذا قوله : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { وإذا البحار فجرت } قال : بعضها في بعض وفي قوله : { وإذا القبور بعثرت } قال : بحثت وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } قال : ما قدمت من خير وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس نحوه وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم [ من استن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم ومن استن شرا فاستن به فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه من غير منتقص من أوزارهم وتلا حذيفة { علمت نفس ما قدمت وأخرت } ] وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية { ما غرك بربك الكريم } قال : غره الله جهله وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل وحافظين في النهار يحفظان عمله ويكتبان أثره (5/560)
وهي ست وثلاثون آية
قال القرطبي : وهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل ومدنية في قوله الحسن وعكرمة وقال مقاتل : أيضا هي أول سورة نزلت بالمدينة وقال ابن عباس وقتادة : هي مدنية إلا ثمان آيات من قوله : { إن الذين أجرموا } إلى آخرها وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة المطففين بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال : آخر ما نزل بمكة سورة المطففين وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله { ويل للمطففين } فأحسنوا الكيل بعد ذلك
قوله : 1 - { ويل للمطففين } ويل مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه دعاء ولو نصب لجاز قال مكي والمختار : في ويل وشبهه إذا كان غير مضاف الرفع ويجوز النصب فإن كان مضافا أو معرفا كان [ الاختيار ] فيه النصب نحو قوله : { ويلكم لا تفتروا } وللمطففين خبره والمطفف المنقص وحقيقته الأخذ في الكيل أو الوزن شيئا طفيفا : أي نزرا حقيرا قال أهل اللغة : المطفف مأخوذ من الطفف وهو القليل فالمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن قال الزجاج : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف قال أبو عبيدة والمبرد : المطفف الذي يبخس في الكيل والوزن والمرد بالويل هنا شدة العذاب أو نفس العذاب أو الشر الشديد أو هو واد في جهنم قال الكلبي : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وهم يسيئون كيلهم ووزنهم لغيرهم ويستوفون لأنفسهم فنزلت هذه الآية وقال السدي : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وكان بها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله هذه الآية قال الفراء : هم بعد نزول هذه الآية أحسن الناس كيلا إلى يومهم هذا (5/561)
ثم بين سبحانه المطففين من هم ؟ فقال : 2 - { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } أي يستوفون الاكتيال والأخذ بالكيل قال الفراء : يردي اتكتاروا من الناس وعلى ومن في هذا الموضع يعتقبان يقال اكتلت منك : أي استوفيت منك وتقول اكتلت عليك : أي أخذت ما عليك قال الزجاج : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل ولم يذكر اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر قال الواحدي : قال المفسرون : يعني الذي إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن وإذا باعوا ووزنوا لغيرهم نقصوا (5/562)
وهو معنى قوله : 3 - { وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام فتعدى الفعل إلى المفعول فهو من باب الحذف والإيصال ومثله نصحتك ونصحت لك كذا قال الأخفش والكسائي والفراء قال الفراء : وسمعت أعرابية تقول : إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكليلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل قال : وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس قال الزجاج : لا يجوز الوقف على كالوا حتى يوصل بالضمير ومن الناس من يجعله توكيدا : أي توكيدا : أي توكيدا للضمير المستكن في الفعل فيجيز الوقف على كالوا أو وزنوا قال أبو عبيد : وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين ويقف على كالوا أو وزنوا ثم يقول هم يخسرون قال : وأحسب قراءة حمزة كذلك قال أبو عبيد : والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين : إحدهما الخط ولذلك كتبوهما بغير ألف ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا أو وزنوا بالألف والأخرى أنه يقال : كلتك ووزنتك بمعنى : كلت لك ووزنت لك وهو كلام عربي كما يقال صدقتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك وشكرتك وشكرت لك ونحو ذلك وقيل هو على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والمضاف المكيل والموزون : أي وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم ومعنى يخسرون : ينقصون كقوله : { ولا تخسروا الميزان } والعرب تقول : خسرت الميزان وأخسرته (5/562)
ثم خوفهم سبحانه فقال : 4 - { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون } والجملة مستأنفة مسوقة لتهويل ما فعلوه من التطفيف وتفظيعه وللتعجيب من حالهم في الاجتراء عليه والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المطففين والمعنى : أنهم لا يخطرون ببالهم أنهم بمعوثون فمسؤولون عما يفعلون قيل والظن هنا بمعنى اليقين : أي لا يوقن أولئك ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن وقيل الظن على بابه والمعنى : إن كانوا لا يستيقنون البعث فهلا ظنوه حتى يتدبوا فيه ويبحثوا عنه يوتركوا ما يخشون من عاقبته واليوم العظيم هو يوم القيامة ووصفه بالعظم لكونه زمانا لتلك الأمور العظام من البعث والحساب والعقاب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار (5/563)
5 - { ليوم عظيم } (5/563)
ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال : 6 - { يوم يقوم الناس لرب العالمين } انتصاب الظرف بمبعوثون المذكور قبله أو بفعل مقدر يدل عليه مبعوثون أي يبعثون يوم يقوم الناس أو على البدل من محل ليوم أو بإضمار أعني أو هو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو في محل جر على البدل من لفظ ليوم وإنما بني على الفتح في هذين الوجهين لإضافته إلى الفعل قال الزجاج : يوم منصوب بقوله مبعوثون المعنى : ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة ومعنى يوم يقوم الناس : يوم يقومون من قبورهم لأمر رب العالمين أو لجزائه أو لحسابه أو لحكمه وقضائه وفي وصف اليوم بالعظم مع قيام الناس لله خاضعين فيه ووصفه سبحانه بكونه رب العالمين دلالة على عظم ذنب الطفيف ومزيد إئمه وفظاعة عقابه وقيل المراد بقوله : { يوم يقوم الناس } قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم وقيل المراد قيامهم بما عليهم من حقوق العباد وقيل المراد قيام الرسل بين يدي الله للقضاء والأول أولى (5/563)
وقوله : 7 - { كلا } هي للردع والزجر للمطففين الغافلين عن البعث وما بعده ثم استأنف فقال : { إن كتاب الفجار لفي سجين } وعند أبي حاتم أن كلا بمعنى حقا متصلة بما بعدها على معنى : حقا إن كتاب الفجار لفي سجين (5/564)
وسجين هو ما فسره به سبحانه من قوله : 8 - { وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم } فأخبر بهذا أنه كتاب مرقوم : أي مسطور قيل هو كتاب جامع لأعمال الشر الصادر من الشياطين والكفرة والفسفة ولفظ سجين علم له وقال قتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب : إنه صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها وبه قال مجاهد فيكون في الكلام على هذا القول مضاف محذوف والتقدير : محل كتاب مرقوم وقال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج { لفي سجين } لفي حبس وضيق شديد والمعنى : كأنهم في حبس جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم وهوانها (5/564)
قال الواحدي : ذكر قوم أن قوله : 9 - { كتاب مرقوم } تفسير لسجين وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين والوجه أن يجعل بيانا لكتاب المذكور في قوله : { إن كتاب الفجار } على تقدير هو كتاب مرقوم : أي مكتوب قد بينت حروفه انتهى والأول ما ذكرناه ويكون المعنى : إن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون : أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون للقبائح المختص بالشر وهو سجين ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه فقال : { وما أدراك ما سجين } ثم بينه بقوله : { كتاب مرقوم } قال الزجاج : معنى قوله : { وما أدراك ما سجين } ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك قال قتادة : ومعنى مرقوم : رقم لهم بشر كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر وكذا قال مقاتل وقد اختلفوا في نون سجين فقيل هي أصلية واشتقاقه من السجن وهو الحبس وهو بناء مبالغة كخمير وسكير وفسيق من الخمر والسكر والفسق وكذا قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج قال الواحد : وهذا ضعيف لأن العرب ما كانت تعرف سجينا ويجاب عنه بأن رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة وتدل على أنه من لغة العرب ومنه قول ابن مقبل :
( ورفقة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصت به الأبطال سجينا )
وقيل النون بدل من اللام والأصل سجيل مشتقا من السجل وهو الكتاب قال ابن عطية : من قال إن سجينا موضع فكتاب مرفوع على أنه خبر إن والظرف وهو قوله : { لفي سجين } ملغى ومن جعله عبارة عن الكتاب فكتاب خبر مبتدأ محذوف التقدير : هو كتاب ويكون هذا الكلام مفسرا لسجين ما هو ؟ كذا قال قال الضحاك : مرقوم مختوم بلغة حمير وأصل الرقم الكتابة قال الشاعر :
( سأرقم بالماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم ) (5/564)
10 - { ويل يومئذ للمكذبين } هذا متصل بقوله : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } وما بينهما اعتراض والمعنى : ويل يوم القيامة لمن وقع منه التكذيب بالبعث وبما جاءت به الرسل (5/565)
ثم بين سبحانه هؤلاء المكذبين فقال : 11 - { الذين يكذبون بيوم الدين } والموصول صفة للمكذبين أو بدل منه (5/565)
12 - { وما يكذب به إلا كل معتد أثيم } أي فاجر جائر متجاوز في الإثم منهمك في أسبابه (5/565)
13 - { إذا تتلى عليه آياتنا } المنزلة على محمد صلى الله عليه و سلم { قال أساطير الأولين } أي أحاديثهم وأباطيلهم التي زخرفوها قرأ الجمهور { إذا تتلى } بفوقيتين وقرأ أبو حيوة وأبو السماك والأشهب العقيلي والسلمي بالتحتية (5/565)
وقوله : 14 - { كلا } للردع والزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له وقوله : { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } بيان للسبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأولين قال أبو عبيدة : ران على قلوبهم : غلب عليها رينا وريونا وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك وران عليك قال الفراء : هو أنها كثرت منهم المعاصي والذنوب فأحاطب بقلوبهم فذلك الرين عليها قال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب قال مجاهد : القلب مثل الكف ورفع كفه فإذا أذنب انقبض وضم أصبعه فإذا أذنب ذنبا آخر انقبض وضم أخرى حتى ضم أصابعه كلها حتى يطبع على قلبه قال : وكانوا يرون أن ذلك هو الرين ثم قرأ هذه الآية قال أبو زيد : يقال قد رين بالرجل رينا : إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به وقال أبو معاذ النحوي : الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب هو أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع قال الزجاج : الرين هو كالصدأ بغشى القلب كالغيم الرقيق ومثله الغين (5/565)
ثم كرر سبحانه الردع والزجر فقال : 15 - { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وقيل كلا بمعنى حقا : أي حقا إنهم يعني الكفار عن ربهم يوم القيامة لا يرونه أبدا قال مقاتل : يعني أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته قال الزجاج : في هذه الآية دليل على أن الله عز و جل يرى في القيامة ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة وقال جل ثناؤه { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } فأعلم جل ثناؤه أن النمؤمنين ينظرون وأعلم أن الكفار محجوبون عنه وقيل هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك وقال قتادة وابن أبي مليكة : هو أن لا ينظر إليهم برحمته ولا يزكيهم وقال مجاهد : محجوبون عن كرامته وكذا قال ابن كيسان (5/565)
16 - { ثم إنهم لصالوا الجحيم } أي داخلو النار وملازموها غير خارجين منها وثم [ لتراخي ] الرتبة لأن صلى الجحيم أشد من الإهانة وحرمان الكرامة (5/566)
17 - { ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون } أي تقول لهم خزنة جهنم تبكيتا وتوبيخا : هذا الذي كنتم به تكذبون في الدنيا فانظروه وذوقوه
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ] وأخرج الطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عمر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الآية : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } قال : فكيف إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم ] وأخرج أبو يعلى وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم { يوم يقوم الناس لرب العالمين } بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : إذا حشر الناس قاموا أربعين عاما وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعا وأخرج الطبراني [ عن ابن عمر أنه قال : يا رسول الله كبر مقام الناس بين يدي رب العالمين يوم القيامة ؟ قال : ألف سنة لا يؤذن لهم ]
وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله : { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين } قال : إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها فيهبط بها إلى الأرض فتأبى أن تقبلها فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين وهو خد إبليس فيخرج لها من تحت خد إبليس كتابا فيختم ويوضع تحت خذ إبليس وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { سجين } أسفل الأرضين وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الفلق جب في جهنم مغطى وأما سجين فمفتوح ] قال ابن كثير : هو حديث غريب منكر لا يصح وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : { سجين } الأرض السابعة السفلى وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه مرفوعا وأخرج عبد بن حميد وابن ماجه والطبراني والبيهقي في البعث عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : لما حضرت كعبا الوفاة أتته أم بشر بنت البراء فقالت : إن لقيت ابني فأقرئه مني السلام فقال : غفر الله لك يا أم بشر نحن أشغل من ذلك فقالت : أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حين شاءت وإن نسمة الكافر في سجين ؟ قال : بلى قالت : فهو ذلك ] وأخرج ابن المبارك نحوه عن سلمان وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } ] (5/566)
قوله : 18 - { كلا } للردع والزجر عما كانوا عليه والتكرير للتأكيد وجملة { إن كتاب الأبرار لفي عليين } مستأنفة لبيان ما تضمنته ويجوز أن يكون كلا بمعنى حقا والأبرار هم المطيعون وكتابهم صحائف حسناتهم قال الفراء : عليين ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له ووجه هذا أنه منقول من جمع علي من العلو قال الزجاج : هو إعلاء الأمكنة قال الفراء والزجاج : فأعرب كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ولا واحد له من لفظ نحو ثلاثين وعشرين وقنسرين قيل هو علم لديوان الخير الذي دون فيه ما عمله الصالحون وحكى الواحدي : عن المفسرين أنه السماء السابعة قال الضحاك ومجاهد وقتادة : يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين وقال الضحاك : هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها وقيل هو الجنة وقال قتادة أيضا : هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى وقيل إن عليين صفة للملائكة فإنهم في الملأ الأعلى كما يقال فلان في بني فلان : أي في جملتهم (5/567)
19 - { وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم } أي وما أعلمك يا محمد أي شيء عليوم على جهة التفخيم والتعظيم لعليين ثم فسره فقال : { كتاب مرقوم } أي مسطور والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله : { وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم } (5/568)
20 - { كتاب مرقوم } (5/568)
وجملة 21 - { يشهده المقربون } صفة أخرى لكتاب والمعنى : أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم وقيل يشهدون بما فيه يوم القيامة قال وهب وابن إسحاق : المقربون هنا إسرافيل فإذا عمل المؤمن عمل البر صعدت الملائكة بالصحيفة ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض حتى تنتهي بها إلى إسرافيل فيختم عليها (5/568)
ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم فقال : 22 - { إن الأبرار لفي نعيم } أي إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره (5/568)
23 - { على الأرائك ينظرون } الأرائك : الأسرة التي في الحجال وقد تقدم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة قال الحسن : ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير ومعنى { ينظرون } أنهم ينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامات كذا قال عكرمة ومجاهد وغيرهما وقال مقاتل : ينظرون إلى أهل النار وقيل ينظرون إلى وجهه وجلاله (5/568)
24 - { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة والرونق والخطاب لكل راء يصلح لذلك يقال أنضر النبات : إذا أزهر ونور قال عطاء : وذلك أن الله زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف قرأ الجمهور { تعرف } بفتح الفوقية وكسر الراء ونصب { نضرة } وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وطلحة وابن أبي إسحاق بضم الفوقية وفتح الراء على البناء للمفعول ورفع { نضرة } بالنيابة (5/568)
25 - { يسقون من رحيق مختوم } قال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج : الرحيق من الخمر ما لا غش فيه ولا شيء يفسده والمختوم الذي له ختام وقال الخليل : الرحيق أجود الخمر وفي الصحاح الرحيق صفرة الخمر وقال مجاهد : هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية ومنه قول حسان :
( يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل )
قال مجاهد : { مختوم } مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين ويكون المعنى : أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار (5/569)
وقال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي : ختامه آخر طعمه وهو معنى قوله : 26 - { ختامه مسك } أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك وقيل مختوم أوانيه من الأكواب والأباريق بيسك مكان الطين وكأنه تمثيل لكمال نفاسته وطيب رائحته والحاصل أن المختوم والختام الأشياء بالطين ونحوه وقرأ الجمهور { ختامه } وقرأ علي وعلقمة وشفيق والضحاك وطاوس والكسائي { ختامه } بفتح الخاء والتاء وألف بينهما قال علقمة : أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل خاتمه مسكا : أي آخره والخاتم والختام يتقاربان في المعنى إلا أن الخاتم الاسم والختام المصدر كذا قال الفراء قال في الصحاح : والختام الطين الذي يختم به وكذا قال ابن زيد قال الفرزدق :
( وبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاف الختام )
{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } أي فليرغب الراغبون والإشارة بقوله : ذلك إلى الرحيق الموصوف بتلك الصفة وقيل إن في بمعنى إلى : أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل كما في قوله : { لمثل هذا فليعمل العاملون } وأصل التنافس التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن يتفرد به دون صاحبه يقال نفست الشيء عليه أنفسه نفاسة : أي ظننت به ولم أحب أن يصير إليه قال البغوي : أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس فيريده كل واحد لنفسه وينفس به على غيره : أي يضن به قال عطاء : المعنى فليستبق المستبقون وقال مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون (5/569)
وقوله : 27 - { ومزاجه من تسنيم } معطوف على { ختامه مسك } صفة أخرى لرحيق : أي ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم وهو شراب ينصب عليهم من علو وهو أشرف شراب الجنة وأصل التسنيم في اللغة الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه ومنه تسنيم القبور (5/569)
ثم بين ذلك فقال : 28 - { عينا يشرب بها المقربون } وانتصاب عينا على المدح وقال الزجاج : على الحال وإنما جاز أن تكون عينا حالا مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله : { يشرب بها } وقال الأخفش : إنها منصوبة بيسقون : أي يسقون عينا أو من عين وقال الفراء : إنها منصوبة بتسنيم على أنه مصدر مشتق من السنام كما في قوله : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما } والأول أولى وبه قال المبرد قيل والباء في بها زائدة : أي يشربها أو بمعنى من : أي يشرب منها قال ابن زيد : بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش قيل يشرب بها المقربون صرفا ويمزج بها كأس أصحاب اليمين (5/570)
ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال : 29 - { إن الذين أجرموا } وهم كفار قريش ومن وافقهم على الكفر { كانوا من الذين آمنوا يضحكون } أي كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم (5/570)
30 - { وإذا مروا بهم } أي وإذا مر المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم { يتغامزون } من الغمز وهو الإشارة بالجفون والحواجب : أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم وحواجبهم وقيل يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به (5/570)
31 - { وإذا انقلبوا } أي الكفار { إلى أهلهم } من مجالسهم { انقلبوا فكهين } أي معجبين بما هم فيه متلذذين به يتفكهون بذكر المؤمنين والطعن فيهم والاستهزاء بهم والسخرية منهم والانقلاب : الانصراف قرأ الجمهور { فاكهين } وقرأ حفص وابن القعقاع والأعرج والسلمي { فكهين } بغير ألف قال الفراء : هما لغتان مثل طمع وطامع وحذر وحاذر وقد تقدم بيانه في سورة الدخان أن الفكه : الأشر البطر والفاكه : الناعم المتنعم (5/570)
32 - { وإذا رأوهم } أي إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان { قالوا إن هؤلاء لضالون } في اتباعهم محمدا وتمسكهم بما جاء به وتركهم التنعم الحاضر ويجوز أن يكون المعنى : وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول والأول أولى (5/570)
وجملة 33 - { وما أرسلوا عليهم حافظين } في محل نصب على الحال من فاعل قالوا : أي قالوا ذلك أنهم لم يرسلوا على المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم (5/570)
34 - { فاليوم الذين آمنوا } المراد باليوم : اليوم الآخر { من الكفار يضحكون } والمعنى : أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين قد نزل بهم ما نزل من العذاب كما ضحك الكفار منهم في الدنيا (5/570)
وجملة { على الأرائك ينظرون } في محل نصب على الحال من فاعل يضحكون : أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع وقد تقدم تفسير الأرائك قريبا قال الواحدي : قال المفسرون : إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله وهم يعذبون في النار فضحكوا منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا وقال أبو صالح : يقال لأهل النار اخرجوا ويفتح لهم أبوابها فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم فذلك قوله : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } (5/570)
36 - { هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } الجملة مستأنفة لبيان أنه قد وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم والاستفهام للتقرير وثوب بمعنى أثيب والمعنى : هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين ؟ وقيل الجملة في محل نصب بينظرون وقيل هي على إضمار القول : أي يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوب الكفار والثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ويطلق على الخير والشر
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله : { إن كتاب الأبرار لفي عليين } قال : روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء ففتح لها أبواب السماء وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى تنتهي بها إلى العرش وتعرج الملائكة فيخرج لها من تحت العرش رق فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لفي عليين } قال : الجنة وفي قوله : { يشهده المقربون } قال : أهل السماء وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ] وأخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب في قوله : { نضرة النعيم } قال : عين في الجنة يتوضأون منها ويغتسلون فتجري عليهم نضرة النعيم وأخرج عبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله : { يسقون من رحيق مختوم } قال : الرحيق الخمر والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عنه في قوله : { مختوم } قال : ممزوج { ختامه مسك } قال : طعمه وريحه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { من رحيق } قال : خمر وقوله : { مختوم } قال : ختم بالمسك وأخرج الفريابي والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن مسعود في قوله : { ختامه مسك } قال : ليس بخاتم يختم به ولكن خلطه مسك ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول خلطه من الطيب كذا وكذا وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن أبي الدرداء { ختامه مسك } قال : هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصابعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { تسنيم } أشرف شراب أهل الجنة وهو صرف للمتقين ويمزج لأصحاب اليمين وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود { مزاجه من تسنيم } قال : عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين ويشربها المقربون صرفا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { ومزاجه من تسنيم } قال : هذا مما قال الله { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } (5/571)
هي ثلاث وعشرون آية وقيل خمس وعشرون آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الانشقاق بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي رافع قال : [ صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ { إذا السماء انشقت } فسجد فقلت له فقال : سجدت خلف أبي القاسم صلى الله عليه و سلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه ] وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال : [ سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في { إذا السماء انشقت } { اقرأ باسم ربك } ] وأخرج ابن خزيمة والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة عن بريدة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الظهر { إذا السماء انشقت } ونحوها ]
قوله : 1 - { إذا السماء انشقت } هو كقوله : { إذا الشمس كورت } في إضمار الفعل وعدمه قال الواحدي : قال المفسرون انشقاقها من علامات القيامة ومعنى انشقاقها : انفطارها بالغمام الأبيض كما في قوله : { ويوم تشقق السماء بالغمام } وقيل تنشق من المجرة والمجرة باب السماء
واختلف في جواب إذا فقال الفراء : إنه أذنت والواو زائدة وكذلك ألقت قال ابن الأنباري : هذا غلط لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع حتى إذا كقوله : { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } ومع لما كقوله : { فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه } ولا تقحم مع غير هذين وقيل إن الجواب قوله : { فملاقيه } أي فأنت ملاقيه وبه قال الأخفش وقال المبرد : إن في الكلام تقديما وتأخيرا : أي يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه إذا السماء انشقت وقال المبرد أيضا : إن الجواب قوله : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } وبه قال الكسائي والتقدير : إذا السماء انشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا وقيل هو { يا أيها الإنسان } على إضمار الفاء وقيل إنه { يا أيها الإنسان } على إضمار القول : أي يقال له يا أيها الإنسان وقيل الجواب محذوف تقديره بعثتم أو لاقى كل إنسان عمله وقيل هو ما صرح به في سورة التكوير : أي علمت نفس هذا على تقدير أن إذا شرطية وقيل ليست بشرطية وهي منصوبة بفعل محذوف : أي اذكر أو هي مبتدأ وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة وتقديره : وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض (5/572)
ومعنى 2 - { وأذنت لربها } أنها أطاعته في الانشقاق من الإذن وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه { وحقت } أي وحق لها أن تطيع وتنقاد وتسمع ومن استعمال الإذن في الاستماع قول الشاعر :
( صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا )
وقول الآخر :
( إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا ... مني وما أذنوا من صالح دفنوا )
وقيل المعنى : وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق : أي جعلها حقيقة بذلك قال الضحاك : حقت أطاعت وحق لها أن تطيع ربها لأنه خلقها يقال فلان محقوق بكذا ومعنى طاعتها : أنها لا تمتنع مما أراده الله بها قال قتادة : حق لها أن تفعل ذلك ومن هذا قول كثير :
( فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقت لها العتبى لدينا وقلت ) (5/574)
3 - { وإذا الأرض مدت } أي بسطت كما تبسط الأدم ودكت جبالها حتى صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا قال مقاتل : سويت كمد الأديم فلا يبقى عليها بناء ولا جبل إلا دخل فيها وقيل مدت زيد في سعتها من المدد وهو الزيادة (5/574)
4 - { وألقت ما فيها } أي أخرجت ما فيها من الأموات والكنوز وطرحتهم إلى ظهرها { وتخلت } من ذلك قال سعيد بن جبير : ألقت ما في بطنها من الموتى وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء ومثل هذا قوله : { وأخرجت الأرض أثقالها } (5/574)
5 - { وأذنت لربها } أي سمعت وأطاعت لما أمرها به من الإلقاء والتخلي { وحقت } أي وجعلت حقيقة بالاستماع لذلك والانقياد له وقد تقدم بيان معنى الفعلين قبل هذا (5/574)
6 - { يا أيها الإنسان } المراد جنس الإنسان فيشمل المؤمن والكافر وقيل هو الإنسان الكافر والأول أولى لما سيأتي من التفصيل { إنك كادح إلى ربك كدحا } الكدح في كلام العرب : السعي في الشيء بجهد من غير فرق بين أن يكون ذلك الشيء خيرا أو شرا والمعنى : أنك ساع إلى ربك في عملك أو إلى لقاء ربك مأخوذ من كدح جلده : إذا خدشه قال ابن مقبل :
( وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح )
قال قتادة والضحاك والكبي : عامل لربك عملا { فملاقيه } أي فملاق عملك والمعنى : أنه لا محالة ملاق لجزاء عمله وما يترت عليه من الثواب والعقاب قال القتيبي : معنى الآية : إنك كادح : أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك والملاقاة بمعنى اللقاء : أي تلقى ربك بعملك وقيل فملاق كتاب عملك لأن العمل قد انقضى (5/575)
8 - { فأما من أوتي كتابه بيمينه } وهم المؤمنون (5/575)
8 - { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } لا مناقشة فيه قال مقاتل : لأنها تغفر ذنوبه ولا يحاسب بها وقال المفسرون : هو أن تعرض عليه سيئاته ثم يغفرها الله فهو الحساب اليسير (5/575)
9 - { وينقلب إلى أهله مسرورا } أي ونيصرف بعد الحساب اليسير إلى أهله الذين هم في الجنة من عشيرته أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد وقد سبقوه إلى الجنة أو إلى من أعده الله له في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين أو إلى جميع هؤلاء مسرورا مبتهجا بما أوتي من الخير والكرامة (5/575)
10 - { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } قال الكلبي : لأن يمينه مغلولة إلى عنقه وتكون يده اليسرى خلفه وقال قتادة ومقاتل : تفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره فيأخذ كتابه كذلك (5/575)
11 - { فسوف يدعو ثبورا } أي إذا قرأ كتابه قال : يا ويلاه يا ثبوراه والثبور الهلاك (5/575)
12 - { ويصلى سعيرا } أي يدخلها ويقاسي حر نارها وشدتها قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديدها وروى إسماعيل المكي عن ابن كثير وكذلك خارجة عن نافع وكذلك روى إسماعيل المكي عن ابن كثير أنهم قرأوا بضم الياء وإسكان الصاد من أصلى يصلي (5/575)
13 - { إنه كان في أهله مسرورا } أي كان بين أهله في الدنيا مسرورا باتباع هواه وركوب شهوته بطرا أشرا لعدم خطور الآخرة بباله والجملة تعليل لما قبلها (5/575)
وجملة 14 - { إنه ظن أن لن يحور } تعليل لكونه كان في الدنيا في أهله مسرورا والمعنى : أن سبب ذلك السرور ظنه بأنه لا يرجع إلى الله ولا يبعث للحساب والعقاب لتكذيبه بالبعث وجحده للدار الآخرة وأن في قوله : { أن لن يحور } هي المخففة من الثقيلة سادة مع ما في حيزها مسد مفعولي ظن والحور في اللغة : الرجوع يقال حال يحور : إذا رجع وقال الراغب : الحور التردد في الأمر ومنه نعوذ بالله من الجور بعد الكور : أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه ومحاورة الكلام مراجعته والمحار المرجع والمصير قال عكرمة وداود بن أبي هند : يحور كلمة بالحبشية ومعناها يرجع قال القرطبي : الحور في كلام العرب : الرجوع ومنه قوله صلى الله عليه و سلم [ اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور ] يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة وكذلك الحور بالضم وفي المثل حور في محار : أي نقصان في نقصان ومنه قول الشاعر :
( والدم يسفى وراد القوم في حور )
والحور أيضا الهلكة ومنه قول الراجز :
( في بئر لا حور سرا وما شعر )
قال أبو عبيدة : أي في بئر حور ولا زائدة (5/575)
15 - { بلى إن ربه كان به بصيرا } بلى إيجاب للمنفي بلن : أي بلى ليحورن وليبعثن ثم علل ذلك بقوله : { إن ربه كان به بصيرا } أي كان به وبأعماله عالما لا يخفى عليه منها خافية قال الزجاج : كان به بصيرا قبل أن يخلقه عالما بأن مرجعه إليه (5/576)
16 - { فلا أقسم بالشفق } لا زائدة كما تقدم في أمثال هذه العبارة وقد قدمنا الاختلاف فيها في سورة القيامة فارجع إليه والشفق : الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة قال الواحدي : هذا قول المفسرين وأهل اللغة جميعا قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر وحكاه القرطبي عن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء وقال أسد بن عمر وأبو حنيفة : في إحدى الروايتين عنه إنه البياض ولا وجه لهذا القول ولا متمسك له لا من لغة العرب ولا من الشرع قال الخليل : الشفق الحمرة من غروب الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب العتمة وكتب اللغة والشرع مطبقة على هذا ومنه قول الشاعر :
( قم يا غلام أعني غير مرتبك ... على الزمان بكأس حشوها شفق )
وقال آخر :
( أحمر اللون كحمرة الشفق ) (5/576)
وقال مجاهد : الشفق النهار كله ألا تراه قال : 17 - { والليل وما وسق } وقال عكرمة : هو ما بقي من النهار وإنما قالا هذا لقوله بعده { والليل وما وسق } فكأنه تعالى أقسم [ بالضياء ] والظلام ولا وجه لهذا على أنه قد روي عن عكرمة أنه قال : الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء وروي عن أسد بن عمر الرجوع { والليل وما وسق } الوسق عند أهل اللغة : ضم الشيء بعضه إلى بعض يقال استوسقت الإبل : إذا اجتمعت وانضمت والراعي يسقها : أي يجمعها قال الواحدي : المفسرون يقولون : وما جمع وضم وحى ولف والمعنى : أنه جمع وضم ما كان منتشرا بالنهار في تصرفه وذلك أن الليل إذا أقبل آوى كل شيء إلى مأواه ومنه قول ضابئ بن الحرث البرجمي :
( فإني وإياكم وسوقا إليكم ... كقابض شيئا لم تنله أنامله )
وقال عكرمة { وما وسق } أي وما ساق من شيء إلى حيث يأوي فجعله من السوق لا من الجمع وقيل { وما وسق } أي وما جن وستر وقيل : وما وسق أي وما حمل وكل شيء حملته فقد وسقته والعرب تقول : لا أحمله ما وسقت عيني الماء : أي حملته ووسقت الناقة تسق وسقا : أي حملت قال قتادة والضحاك ومقاتل بن سليمان : وما وسق وما حمل من الظلمة أو حمل من الكواكب قال القشيري : ومعنى حمل ضم وجمع والليل يحمل بظلمته كل شيء وقال سعيد بن جبير : وما وسق : أي وما عمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار والأول أولى (5/576)
18 - { والقمر إذا اتسق } أي اجتمع وتكامل قال الفراء : اتساقه امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثالث عشر ورابع عشر إلى ست عشرة وقد افتعل من الوسق الذي هو الجمع قال الحسن : اتسق امتلأ واجتمع وقال قتادة : استدار يقال وسقته فاتسق كما يقال وصلته فاتصل ويقال أمر فلان متسق : أي مجتمع منتظم ويقال اتسق الشيء : إذا تتابع (5/577)
19 - { لتركبن طبقا عن طبق } هذا جواب القسم قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وأبو عمرو { لتركبن } بفتح الموحدة على أنه خطاب للواحد وهو النبي صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي العالية ومسروق وأبي وائل ومجاهد والنخعي والشعبي وسعيد بن جبير وقرأ الباقون بضم الموحدة خطالبا للجمع وهم الناس قال الشعبي ومجاهد : لتركبن يا محمد سماء بعد سماء قال الكلبي : يعني تصعد فيها وهذا على القراءة الأولى وقيل درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله ورفعه المنزلة وقيل المعنى : لتركبن حالا بعد حال كل حالة منها مطابقة لأختها في الشدة وقيل المعنى : لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من كونك نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا فالخطاب للإنسان المذكور في قوله : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا } واختار أبو عبيد وأبو الحاتم القراءة الثانية قالا : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه و سلم وقرأ عمر ليركبن بالتحتية وضم الموحدة على الإخبار وروي عنه وعن ابن عباس أنهما قرأ بالغيبة وفتح الموحدة : أي ليركبن الإنسان وروي عن ابن مسعود وابن عباس أنهم قرأ بكسر حرف المضارعة وهي لغة وقرئ بفتح حرف المضارعة وكسر الموحدة على أنه خطاب للنفس وقيل إن معنى الآية : ليركبن القمر أحوالا من سرار واستهلال وهو بعيد قال مقاتل { طبقا عن طبق } يعني الموت والحياة وقال عكرمة : رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ ومحل عن طبق النصب على أنه صفة لطبقا أي طبقا مجاوزا لطبق أو على الحال من ضمير لتركبن : أي مجاوزين أو مجاوزا (5/577)
20 - { فما لهم لا يؤمنون } الاستفهام للإنكار والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة أو من غيرها على الاختلاف السابق والمعنى : أي شيء للكفار لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه و سلم وبما جاء به من القرآن مع وجود موجبات الإيمان بذلك (5/578)
21 - { وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } هذه الجملة الشرطية وجوابها في محل نصب على الحال : أي أي مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن قال الحسن وعطاء والكلبي ومقاتل : ما لهم لا يصلون وقال أبو مسلم : المراد الخضوع والاستكانة وقيل المراد نفس السجود المعروف بسجود التلاوة وقد قوع الخلاف هل هذا الموضع من مواضع السجود عند التلاوة أم لا ؟ وقد تقدم في فاتحة هذه السورة الدليل على السجود (5/578)
22 - { بل الذين كفروا يكذبون } أي يكذبون بمحمد صلى الله عليه و سلم وبما جاء به من الكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب (5/578)
23 - { والله أعلم بما يوعون } أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب وقال مقاتل : يكتمون من أفعالهم وقال ابن زيد : يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه ومنه قول الشاعر :
( الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد )
ويقال وعاه حفظه ووعيت الحديث أعيه وعيا ومنه { أذن واعية } (5/578)
24 - { فبشرهم بعذاب أليم } أي اجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم لأن علمه سبحانه بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم والأليم المؤلم الموجع والكلام خارج مخرج التهكم بهم (5/578)
25 - { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } هذا الاستثناء منقطع : أي لكن الذين جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح لهم أجر عند الله غير ممنون : أي غير مقطوع يقال مننت الحبل : إذا قطعته ومنه قول الشاعر :
( فترى خلقهن من سرعة الرجـ ... ع منينا كأنه أهباء )
قال المبرد : المنين الغبار لأنه تقطعه وراءها وكل ضعيف منين وممنون وقيل معنى غير ممنون أنه لا يمن عليهم به ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا إن أريد من آمن منهم
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله : { إذا السماء انشقت } قال : تنشق السماءمن المجرة وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { وأذنت لربها وحقت } قال : سمعت حين كلمها وأخرج ابن أبي حاتم عنه { وأذنت لربها وحقت } قال : أطاعت وحقت بالطاعة وأخرج الحاكم عنه وصححه قال : سمعت وأطاعت { وإذا الأرض مدت } قال : يوم القيامة { وألقت ما فيها } قال : أخرجت ما فيها من الموتى { وتخلت } عنهم وأخرج ابن المنذر عنه أيضا { وألقت ما فيها } قال : سواري الذهب وأخرج الحاكم قال السيوطي بسند جيد عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم فيها إلا موضع قدميه ] وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { إنك كادح إلى ربك كدحا } قال : عامل عملا { فملاقيه } قال : فملاق عملك وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس أحد يحاسب إلا هلك فقلت أليس يقول الله : { فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ؟ قال : ليس ذلك بالحساب ولكن ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك ] وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في بعض صلاته : اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير قال : أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إنه من نوقش الحساب هلك ] وفي بعض ألفاظ الحديث الأول وهذا الحديث الآخر [ من نوقش الحساب عذب ] وأخرج البزار والطبراني في الأوسط والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاث من كن فيه يحاسب الله حسابا يسيرا ويدخله الجنة برحمته : تعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يدعو ثبورا } قال : الويل وأخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه { إنه ظن أن لن يحور } قال يبعث وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { أن لن يحور } قال : أن لن يرجع وأخرج سمويه في فوائده عن عمر بن الخطاب قال : { الشفق } الحمرة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : { الشفق } النهار كله وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والليل وما وسق } قال : وما دخل فيه وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه { وما وسق } قال : وما جمع وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { والقمر إذا اتسق } قال : إذا استوى وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { والليل وما وسق } قال : وما جمع أما سمعت قول :
( إن لنا قلائصا نقانقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا )
وأخرج عبد بن حميد عنه { والقمر إذا اتسق } قال : ليلة ثلاثة عشر وأخرج عبد بن حميد عن عمر بن الخطاب { لتركبن طبقا عن طبق } حالا بعد حال وأخرج البخاري عن ابن عباس { لتركبن طبقا عن طبق } حالا بعد حال قال : هذا نبيكم صلى الله عليه و سلم وأخرج أبو عبيد في القراءات وسعيد بن منصور وابن منيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ { لتركبن طبقا عن طبق } يعني بفتح الباء من تركبن وقال : يعني نبيكم صلى الله عليه و سلم حالا بعد حال وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عنه قال : { لتركبن } يا محمد السماء { طبقا عن طبق } وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم في الكنى والطبراني وابن منده وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ { لتركبن } يعني بفتح الباء وقال لتركبن يا محمد سماء بعد سماء وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه { لتركبن طبقا عن طبق } قال : يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عنه أيضا في الآية قال : السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالا بعد حال وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والله أعلم بما يوعون } قال : يسرون (5/578)
هي اثنتان وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت { والسماء ذات البروج } بمكة وأخرج أحمد قال : حدثنا عبد الصمد حدثنا زريق بن أبي سلمى حدثنا أبو المهزم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والسماء والطارق وأخرج الطيالسي وابن أبي شيبة في المصنف وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق والسماء ذات البروج
قوله : 1 - { والسماء ذات البروج } قد تقدم الكلام في البروج عند تفسير قوله : { جعل في السماء بروجا } قال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك : هي النجوم والمعنى : والسماء ذات النجوم وقال عكرمة ومجاهد أيضا : هي قصور في السماء وقال المنهال بن عمرو : ذات الخلق الحسن وقال أبو عبيدة ويحيى بن سلام وغيرهما : هي المنازل للكواكب وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت والبروج في كلام العرب : القصور ومنه قوله : { ولو كنتم في بروج مشيدة } شبهت منازل هذه النجوم بالقصور لكونها تنزل فيها وقيل هي أبواب السماء وقيل هي منازل القمر وأصل البرج الظهور سميت بذلك لظهورها (5/580)
2 - { واليوم الموعود } أي الموعود به وهو يوم القيامة (5/582)
قال الواحدي : في قول جميع المفسرين 3 - { وشاهد ومشهود } المراد بالشاهد من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق : أي يحضر فيه والمراد بالمشهود ما يشاهد في ذلك اليوم من العجائب وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه والمشهود يوم عرفة لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج وتحضره الملائكة قال الواحدي : وهذا قول الأكثر وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى وقال سعيد بن المسيب : الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة وقال النخعي : الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر وقيل الشاهد هو الله سبحانه وبه قال الحسن وسعيد بن جبير لقوله : { وكفى بالله شهيدا } وقوله : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } وقيل الشاهد محمد صلى الله عليه و سلم لقوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } وقوله : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وقوله : { ويكون الرسول عليكم شهيدا } وقيل الشاهد جميع الأنبياء لقوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } وقيل هو عيسى ابن مريم لقوله : { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } والمشهود على هذه الأقوال الثلاثة إما أمة محمد أو أمم الأنبياء أو أمة عيسى وقيل الشاهد آدم والمشهود ذريته وقال محمد بن كعب : الشاهد الإنسان لقوله : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } وقال مقاتل : أعضاؤه لقوله : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } وقيل الشاهد الحفظة والمشهود بنو آدم وقيل الأيام والليالي وقيل الشاهد الخلق يشهدون لله عز و جل بالوحدانية والمشهود له بالوحدانية هو الله سبحانه وسيأتي بيان ما ورد في تفسير الشاهد والمشهود وبيان ما هو الحق إن شاء الله (5/582)
4 - { قتل أصحاب الأخدود } هذا جواب القسم واللام فيه مضمرة وهو الظاهر وبه قال الفراء وغيره وقيل تقديره : لقد قتل فحذفت اللام وقد وعلى هذا تكون الجملة خبرية والظاهر أنها دعائية لأن معنى قتل لعن قال الواحدي : في قول الجميع والدعائية لا تكون جوابا للقسم فقيل الجواب قوله : { إن الذين فتنوا المؤمنين } وقيل قوله : { إن بطش ربك لشديد } وبه قال المبرد : واعترض عليه بطول الفصل وقيل هو مقدر يدل عليه قوله : { قتل أصحاب الأخدود } كأنه قال أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود وقيل تقدير الجواب : لتبعثن واختاره ابن الأنباري وقال أبو حاتم السجستاني وابن الأنباري أيضا : في الكلام تقدير وتأخير : أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج واعترض عليه بأنه لا يجوز أن يقال : والله قام زيد والأخدود : الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد ومنه الخد لمجاري الدموع والمخدة لأن الخد يوضع عليها ويقال تخدد وجه الرجل : إذا صارت فيه أخاديد من خراج ومنه قول طرفة :
( ووجه كأن الشمس ألقت رداءها ... عليه نقي اللون لم يتخدد )
وسيأتي بيان حديث أصحاب الأخدود إن شاء الله (5/583)
قرأ الجمهور 5 - { النار ذات الوقود } بجر النار على أنها بدل اشتمال من الأخدود لأن الأخدود مشتمل عليها وذات الوقود وصف لها بأنها نار عظيمة والوقود : الحطب الذي توقد به وقيل هو بدل كل من كل لا بدل اشتمال وقيل إن النار مخفوضة على الجوار كذا حكى مكي عن الكوفيين وقرأ الجمهور بفتح الواو من الوقود وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم بضمها وقرأ أشهب العقيلي وأبو حيوة وأبو السماك العدوي وابن السميفع وعيسى برفع النار على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي هي النار أو على أنها فاعل فعل محذوف : أي أحرقتم النار (5/583)
6 - { إذ هم عليها قعود } العامل في الظرف قتل : أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين على ما يدنو منها ويقرب إليها قال مقاتل : يعني عند النار قعود يعرضونهم على الكفر وقال مجاهد : كانوا قعود على الكراسي عند الأخدود (5/583)
7 - { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } أي الذي خدوا الأخدود وهم الملك وأصحابه على ما يفعلون بالمؤمنين من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم شهود : أي حضور أو يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به وقيل يشهدون بما فعلوا يوم القيامة ثم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وقيل على بمعنى مع والتقدير : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود قال الزجاج : أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في الله (5/584)
8 - { وما نقموا منهم } أي ما أنكروا عليهم ولا عابوا منهم { إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } : أي إلا أن صدقوا بالله الغالب المحمول في كل حال قال الزجاج : ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم وهذا كقوله : { هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله } وهذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله :
( لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلوا عن الأهل والأوطان والحشم )
وقال الآخر :
( ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الطير شكلا عيونها )
قرأ الجمهور { نقموا } بفتح النون وقرأ أبو حيوة بكسرها والفصيح الفتح (5/584)
ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على العظم والفخامة فقال : 9 - { الذي له ملك السموات والأرض } ومن كان هذا شأنه فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحد { والله على كل شيء شهيد } من فعلهم بالمؤمنين لا يخفى عليه منه خافية وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين (5/584)
ثم بين سبحانه ما أعد لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال : 10 - { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } : أي حرقوهم بالنار والعرب تقول : فتنت الشيء : أي أحرقته وفتنت الدرهم والدينار : إذا أدخلته النار لتنظر جودته ويقال دينار مفتون ويسمى الصائغ الفتان ومنه قوله : { يوم هم على النار يفتنون } أي يحرقون وقيل معنى فتنوا المؤمنين : محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم وفتنتهم فلهم عذاب جهنم : أي لهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم والجملة في محل رفع على أنها خبر إن أو الخبر لهم وعذاب جهنم مرتفع به على الفاعلية والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن خلافا للأخفش ولهم عذاب الحريق : أي ولهم عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم وهو عذاب الحريق الذي وقع منهم للمؤمنين وقيل إن الحريق اسم من أسماء النار كالسعير وقيل إنهم يعذبون في جهنم بالزمهرير ثم يعذبون بعذاب الحريق فالأول عذاب ببردها والثاني عذاب بحرها وقال الربيع بن أنس : إن عذاب الحريق أصيبوا به في الدنيا وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم وبه قال الكلبي (5/584)
ثم ذكر سبحانه ما أعد للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال : 11 - { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وظاهر الآية العموم فيدخل في ذلك المحرقون في الأخدود بسبب إيمانهم دخولا أوليا والمعنى : أن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } : أي لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح جنات متصفة بهذه الصفة وقد تقدم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات في غير موضع وأوضحنا أنه إن أريد بالجنات الأشجار فجري الأنهار من تحتها واضح وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر وهو الشجر لأنها ساترة لساحتها والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم ذكره مما أعده الله لهم : أي ذلك المذكور { الفوز الكبير } الذي لا يعدله فوز ولا يقاربه ولا يطانيه والفوز الظفر بالمطلوب (5/585)
وجملة 12 - { إن بطش ربك لشديد } مستأنفة لخطاب النبي صلى الله عليه و سلم مبنية لما عند الله سبحانه من الجزاء لمن عصاه والمغفرة لمن أطاعه : أي أخذه للجبابرة والظلمة شديد والبطش : الأخذ بعنف ووصفه بالشدة يدل على أنه قد تضاعف وتفاقم ومثل هذا قوله : { إن أخذه أليم شديد } (5/585)
13 - { إنه هو يبدئ ويعيد } أي يخلق أولا في الدنيا ويعيدهم أحياء بعد الموت كذا قال الجمهور وقيل يبدئ للكفار عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده لهم في الآخرة واختار هذا ابن جرير والأول أول (5/585)
14 - { وهو الغفور الودود } أي بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه قال مجاهد : الواد لأوليائه فهو فعول بمعنى فاعل وقال ابن زيد : معنى الودود الرحيم وحكى المبرد عن إسماعيل القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له وأنشد :
( وأركب في الروع عريانة ... ذلول الجناح لقاحا ودودا )
أي لا ولد لها تحن إليه وقيل الودود بمعنى المودود : أي يوده عباده الصالحون ويحبونه كذا قال الأزهري : قال : ويجوز أن يكون فعول بمعنى فالع : أي يكون محبا لهم قال : وكلتا الصفتين مدح لأنه جل ذكره إن أحب عباده المطيعين فهو فضل منه وإن أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه (5/585)
قرأ الجمهور 15 - { ذو العرش المجيد } برفع المجيد على أنه نعت لذو واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قالا : لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل والله سبحانه هو المنعوت بذلك وقرأ الكوفيون إلا عاصما بالجر على أنه نعت للعرش وقد وصف سبحانه عرشه بالكرم كما في آخر سورة المؤمنون وقيل هو نعت لربك ولا يضر الفصل بينهما لأنها صفات لله سبحانه وقال مكي : هو خبر بعد خبر والأول أولى ومعنى ذو العرش : ذو الملك والسلطان كما يقال : فلان على سرير ملكه ومنه قول الشاعر :
( رأوا عرشي تثلم جانباه ... فلما أن تثلم أفردوني )
وقول الآخر :
( إن يقتلونك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب )
وقيل المراد خالق العرش (5/585)
16 - { فعال لما يريد } أي من الإبداء والإعادة قال عطاء : لا يعجز عن شيء يريده ولا يمتنع منه شيء طلبه وارتفاع فعال على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الفراء : هو رفع على التكرير والاستئناف لأنه نكرة محضة قال ابن جرير : رفع فعال وهو نكرة محضة على وجه الاتباع لاعراب الغفور الودود وإنما قال فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة (5/586)
ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال : 17 - { هل أتاك حديث الجنود } والجملة مستأنفة مقررة لما تقدم من شدة بطشه سبحانه وكونه فعالا لما يريده وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم المتجندة عليها (5/586)
ثم بينهم فقال : 18 - { فرعون وثمود } وهو بدل من الجنود والمراد بفرعون هو وقومه والمراد بثمود القوم المعروفون والمراد بحديثهم ما وقع منهم من الكفر والعناد وما وقع عليهم من العذاب وقصتهم مشهورة قد تكرر في الكتاب العزيز ذكرها في غير موضع واقتصر على الطائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب وعند مشركي العرب ودل بهما على أمثالهما (5/586)
ثم أضرب عن مماثلة هؤلاء الكفار الموجودين في عصره صلى الله عليه و سلم لمن تقدم ذكره وبين أنهم أشد منهم في الكفر والتكذيب فقال : 19 - { بل الذين كفروا في تكذيب } أي بل هؤلاء المشركون من العرب في تكذيب شديد لك ولما جئت به ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار (5/586)
20 - { والله من ورائهم محيط } أي يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك والإحاطة بالشيء الحصر له من جميع جوانبه فهو تمثيل لعدم نجاتهم بعدم فوت المحاط به على المحيط (5/586)
ثم رد سبحانه تكذيبهم بالقرآن فقال : 21 - { بل هو قرآن مجيد } أي متناه في الشرف والكرم والبركة لكونه بيانا لما شرعه الله لعباده من أحكام الدين والدنيا وليس هو كما يقولون إنه شعر وكهانة وسحر (5/586)
22 - { في لوح محفوظ } أي مكتوب في لوح وهو أم الكتاب محفوظ عند الله من وصول الشياطين إليه قرأ الجمهور { محفوظ } بالجر على أنه نعت للوح وقرأ نافع برفعه على أنه نعت للقرآن : أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح واتفق القراء على فتح اللام من لوح إلا يحيى بن يعمر وابن السميفع فإنهما قرآ بضمها قال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش قيل والمراد باللوح بضم اللام : الهواء الذي فوق السماء السابعة قال أبو الفضل : اللوح بضم اللام : الهواء وكذا قال ابن خالويه قال في الصحاح : اللوح بالضم : الهواء بين السماء والأرض
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : { البروج } قصور في السماء وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن { السماء ذات البروج } فقال : الكواكب وسئل عن قوله : { الذي جعل في السماء بروجا } قال : الكواكب وعن قوله : { في بروج مشيدة } قال : القصور ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { واليوم الموعود * وشاهد ومشهود } قال : اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وهو الحج الأكبر فيوم الجمعة جعله الله عيدا لمحمد وأمته وفضله بها على الخلق أجمعين وهو سيد الأيام عند الله وأحب الأعمال فيه إلى الله وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ولا يستعذ من شيء إلا أعاذه منه ] وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة رفعه { وشاهد ومشهود } قال : الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود هو الموعود يوم القيامة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : اليوم الموعود يوم القيامة والمشهود يوم النحر والشاهد يوم الجمعة وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طريق شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ] وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الآية : [ الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ] وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وأبي هريرة مثله موقوفا وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة ] وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب وأخرج ابن ماجه والطبراني وابن جرير عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ] وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب في الآية قال : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي أن رجلا سأله عن قوله : { وشاهد ومشهود } قال : هل سألت أحدا قبلي ؟ قال : نعم سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا : يوم الذبح ويوم الجمعة قال : لا ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه و سلم ثم قرأ { وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } والمشهود يوم القيامة ثم قرأ { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } وأخرج عبد بن حميد والطبراني في الأوسط و الصغير وابن مردويه عن الحسين بن علي في الآية قال : الشاهد جدي رسول الله صلى الله عليه و سلم والمشهود يوم القيامة ثم تلا { إنا أرسلناك شاهدا } { ذلك يوم مشهود } وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي الدنيا والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : اليوم الموعود يوم القيامة والشهد محمد صلى الله عليه و سلم والمشهود يوم القيامة ثم تلا { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } وأخرج ابن جرير عنه قال : الشاهد الله والمشهود يوم القيامة وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الشاهد الله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الشاهد الله والمشهود يوم القيامة
قلت : وهذه التافسير عن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفت كما ترى وكذلك اختلت تفاسير التابعين بعدهم واستدل من استدل منهم بآيات ذكر الله فيها أن ذلك الشيء شاهد أو مشهود فجعله دليلا على أنه المراد بالشاهد والمشهود في هذه الآية المطلقة وليس ذلك بدليل يستدل به على أن الشاهد والمشهود المذكورين في هذا المقام هو ذلك الشاهد والمشهود الذي ذكر في آية أخرى وإلا لزم أن يكون قوله هنا { وشاهد ومشهود } هو جميع ما أطلق عليه في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة أنه يشهد أن أنه مشهود وليس بعض ما استدلوا به مع اختلافه بأولى من بعض ولم يقل قائل بذلك فإن قلت : هل في المرفوع الذي ذكرته من حديثي أبي هريرة وحديث أبي مالك وحديث جبير بن مطعم ومرسل سعيد بن المسيب ما يعين هذا اليوم الموعود والشاهد والمشهود ؟ قلت : أما اليوم الموعود فلم تختلف هذه الروايات التي ذكر فيها بل اتفقت على أنه يوم القيامة وأما الشاهد ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم الجمعة وفي حديثه الثاني أنه يوم الجمعة وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة وفي حديثه الثاني أنه يوم عرفة ويوم الجمعة وفي حديث أبي مالك أنه يوم الجمعة وفي حديث جبير أنه يوم الجمعة وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة فاتفقت هذه الأحاديث عليه ولا تضر زيادة يوم عرفة عليه في حديث أبي هريرة الثاني وأما المشهود ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم عرفة وفي حديث الثاني أنه يوم القيامة وفي حديث أبي مالك أنه يوم عرفة وفي حديث جبير ابن معطم أنه يوم عرفة وكذا في حديث سعيد فقد تعين في هذه الروايات أنه يوم عرفة وهي أرجح من تلك الرواية التي صرح فيها بأنه يوم القيامة فحصل من مجموع هذا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وأما اليوم الموعود فقد قدمنا أنه وقع الإجماع على أنه يوم القيامة
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن : انظروا لي غلاما فهما أو قال فطنا لقنا فأعلمه علمي فإن أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه قال : فنظروا له على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلالم راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال : إنما أعبد الله فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ويبطئ على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب : إذا قال لك أين كنت ؟ فقل عند أهلي وإذا قال لك أهلك أين كنت ؟ فأخبرهم أني كنت عند الكاهن فبينهما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة يقال إنها كانت أسدا فأخذ الغلام حجرا فقال : [ اللهم ] إن كان ما يقول ذلك الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقول الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة فقال الناس : من قتلها ؟ فقالوا الغلام ففزع الناس وقالوا : قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد فسمع أعمى فجاءه فقال له : إن أنت رددت علي بصري فلك كذا وكذا فقال الغلام : لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك ؟ قال نعم فدعا الله فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال : لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى ثم أمر بالغلام فقال : انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلقوا به إلى البحر فغرق الله الذين كانوا معه وأنجاه فقال الغلام للملك : إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني : بسم الله رب الغلام فأمر به فصلت ثم رماه وقال : بسم الله رب الغلام فرقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم ثم مات فقال الناس : لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام فقيل للملك : أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك قال : فخذ أخدودا ثم ألقي فيه الحطب والنار ثم جمع الناس فقال : من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار فجعل يلقيهم في تلك الأخدود فقال : يقول الله : { قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود } حتى بلغ { العزيز الحميد } ] فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه أخرج في زمن عمر ابن الخطاب وأصبعه على صدغة كما وضعها حين قتل ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف وقد رواها مسلم في أوخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب وأخرجها أحمد من طريق عفان عن حماد به وأخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن حماد بن سلمة به وأخرجها الترمذي عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت به وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله : { أصحاب الأخدود } قال : هم الحبشة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدودا في الأرض أوقدوا فيه نارا ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء فعرضوا عليها وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : { والسماء ذات البروج } إلى قوله : { وشاهد ومشهود } قال : هذا قسم على { إن بطش ربك لشديد } إلى آخرها وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إنه هو يبدئ ويعيد } قال : يبدئ العذاب ويعيده وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { الودود } قال : الحبيب وفي قوله : { ذو العرش المجيد } قال : الكريم وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { في لوح محفوظ } قال : أخبرت أنه لوح الذكر لوح واحد فيه الذكر وإن ذلك اللوح من نور وإنه مسيرة ثلثمائة سنة وأخرج ابن جرير عن أنس قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في قوله : { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } في جبهة إسرافيل وأخرج أبو الشيخ قال السيوطي بسند جيد عن ابن عباس قال : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق : اكتب علمي في خلقي فجرى ما هو كائن إلى يوم القيامة اهـ (5/587)
هي سبع عشرة آية وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت { والسماء والطارق } بمكة وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني وابن مردويه عن خالد العدواني [ أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه و سلم في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصي حين أتاهم يبتغي النصر عندهم فسمعه يقرأ { والسماء والطارق } حتى ختمها قال : فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل فقرأتها فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه ]
1 - { والسماء والطارق } أقسم سبحانه بالسماء والطارق وهو النجم الثاقب كما صرح به التنزيل قال الواحدي : قال المفسرون : أقسم الله بالسماء والطارق يعني الكواكب تطرق بالليل وتخفى بالنهار قال الفراء : الطارق النجم لأنه يطلع بالليل وما أتاك ليلا فهو طارق وكذا قال الزجاج والمبرد : ومنه قول امرئ القيس :
( ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول )
وقوله أيضا :
( ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب )
وقد اختلف في الطارق هل هو نجم معين أو جنس النجم ؟ فقيل هو زحل وقيل الثريا وقيل هو الذي ترمى به الشياطين وقيل هو جنس النجم قال في الصحاح : والطارق النجم الذي يقال له كوكب الصبح ومنه قول هند بنت عتبة :
( نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق )
أي إن آبائنا في الشرف كالنجم المضيء وأصل الطروق الدق فسمي قاصد الليل طارقا لاحتياجه في الوصول إلى الدق وقال قوم : إن الطروق قد يكون نهارا والعرب تقول : أتيتك اليوم طرقتين : أي مرتين ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير ] (5/591)
ثم بين سبحانه ما هو الطارق تفخيما لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به فقال : 2 - { وما أدراك ما الطارق * النجم الثاقب } الثاقب : المضيء ومنه يقال ثقب النجم ثقوبا وثقابة إذا أضاء وثقوبه ضوؤه ومنه قول الشاعر :
( أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب )
قال الواحدي : الطارق يقع على كل ما طرق ليلا ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يدري ما المراد به لو لم يبينه بقوله : { النجم الثاقب } قال مجاهد : الثاقب المتوهج قال سفيان : كل ما في القرآن وما أدراك فقد أخبره وكل شيء قال : وما يدريك لم يخبره به (5/592)
3 - وارتفاع قوله : { النجم الثاقب } على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر نشأ مما قبله كأنه قيل ما هو ؟ فقيل هو النجم الثاقب (5/593)
4 - { إن كل نفس لما عليها حافظ } هذا جواب القسم وما بينهما اعتراض وقد تقدم في سورة هود اختلاف القراء في لما فمن قرأ بتخفيفها كانت إن هنا هي المخففة من الثقيلة فيها ضمير الشأن المقدر وهو اسمها واللام هي الفارقة وما مزيدة : أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ ومن قرأ بالتشديد فإن نافية ولما بمعنى إلا : أي ما كل نفس إلا عليها حافظ وقد قرأ هنا بالتشديد ابن عامر وعاصم وحمزة وقرأ الباقون بالتخفيف قيل والحافظ : هم الحفظة من الملائكة هو الله عز و جل وقيل هو العقل يرشدهم إلى المصالح ويكفهم عن المفاسد والأول أولى لقوله : { وإن عليكم لحافظين } وقوله : { ويرسل عليكم حفظة } وقوله : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه } والحافظ على الحقيقة هو الله عز و جل كما في قوله : { فالله خير حافظا } وحفظ الملائكة من حفظه لأنهم بأمره (5/593)
5 - { فلينظر الإنسان مم خلق } الفاء للدلالة على أن كون على كل نفس حافظ يوجب على الإنسان أن يتفكر في مبتدأ خلقه ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث قال مقاتل : يعني المكذب بالبعث { مم خلق } من أي شيئ خلقه الله والمعنى : فلينظر نظر التفكر والاستدلال حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نظفة قادر على إعادته (5/593)
6 - { خلق من ماء دافق } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر والماء : هو المني والدفق : الصب يقال دفقت الماء : أي صببته يقال ماء دافق : أي مدفوق مثل { عيشة راضية } أي مرضية قال الفراء والأخفش : ماء دافق : أي مصبوب في الرحم قال الفراء : وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم كقولهم : سر كاتم : أي مكتوم وهم ناصب : أي منصوب وليل نائم ونحو ذلك قال الزجاج : من ماء ذي اندفاق يقال دارع وقايس ونابل : أي ذو درع وقوس ونبل وأراد سبحانه ماء الرجل والمرأة لأن الإنسان مخلوق منهما لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما (5/593)
ثم وصف هذا الماء فقال : 7 - { يخرج من بين الصلب والترائب } أي صلب الرجل وترائب المرأة والترائب جمع تريبة وهي موضع القلادة من الصدر والولد لا يكون إلا من الماءين قرأ الجمهور { يخرج } مبنيا للفاعل وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم مبنيا للمفعول وفي الصلب : وهو الظهر لغات قرأ الجمهور بضم الصاد وسكون اللام وقرأ أهل مكة بضم الصاد واللام وقرأ اليماني بفتحهما ويقال صالب على وزن قالب ومنه قول العباس بن عبد المطلب :
( تنقل من صلب إلى رحم )
في أبياته المشهورة في مدح النبي صلى الله عليه و سلم وقد تقدم كلام في هذا عند تفسير قوله : { الذين من أصلابكم } وقيل الترائب : ما بين الثديين وقال الضحاك : ترائب المرأة : اليدين والرجلين والعينين وقال سعيد بن جبير : هي الجيد وقال مجاهد : هي ما بين المنكبين والصدر وروي عنه أيضا أنه قال : هي الصدر وروي عنه أيضا أنه قال : هي التراقي وحكى الزجاج : أن الترائب عصارة القلب ومنه يكون الولد والمشهور في اللغة أنها عظام الصدر والنحر ومنه قول دريد بن الصمة :
( فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم ... وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب )
قال عكرمة : الترائب الصدر وأنشد :
( نظام در على ترائبها )
قال في الصحاح : التربية واحدة الترائب وهي عظام الصدر قال أبو عبيدة : جمع التريبة تريب ومنه قول المثقب العبدي :
( ومن ذهب بنين على تريب ... كلون العاج ليس بذي غصون )
وقول امرئ القيس :
( ترائبها مصقولة كالسجنجل )
وحكى الزجاج : أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع أضلاع من يسرة الصدر قال قتادة والحسن : المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب يكون معنى من بين الصلب من الصلب وقيل إن ماء الرجل ينزل من الدماغ ولا يخالف هذا ما في الآية لأنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب وقيل إن المعنى : يخرج من جميع أجزاء البدن ولا يخالف هذا ما في الآية لأن نسبة خروجه إلى بين الصلب والترائب باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي الصلب والترائب وما يجاورها وما فوقها مما يكون تنزله منها (5/593)
8 - { إنه على رجعه لقادر } الضمير في إنه يرجع إلى الله سبحانه لدلالة قوله : خلق عليه فإن الذي خلقه هو الله سبحانه والضمير في رجعه عائد إلى الإنسان والمعنى : أن الله سبحانه على رجعل الإنسان : أي إعادته بالبعث بعد الموت لقادر هكذا قال جماعة من المفسرين : وقال مجاهد : على أن يرد الماء في الإحليل وقال عكرمة والضحاك : على أن يرد الماء في الصلب وقال مقاتل ابن حيان يقول : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا إلى النطفة وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر والأول أظهر ورجحه ابن جرير والثعلبي والقرطبي (5/595)
9 - { يوم تبلى السرائر } العامل في الظرف على التفسير الأول هو رجعه وقيل لقادر واعترض عليه بأنه يلزم تخصيص القدرة بهذا اليوم وقيل العامل فيه مقدر : أي يرجعه يوم تبلى السرائر وقيل العامل فيه مقدر وهو اذكر فيكون مفعولا به وأما على قول من قال : إن المراد رجع الماء فالعامل في الظرف مقدر وهو اذكر ومعنى تبلى السرائر : تختبر وتعرف ومنه قول الراجز :
( قد كنت قبل اليوم تزدريني ... فاليوم أبلوك وتبتليني )
أي أختبرك وتختبرني وأمتحنك وتمتحنني والسرائر : ما يسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها والمراد هنا عرض الأعمال ونشر الصحف فعند ذلك يتميز الحسن منها عن القبيح والغث من السمين (5/595)
10 - { فما له من قوة ولا ناصر } أي فما للإنسان من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله ولا ناصر ينصره مما نزل به قال عكرمة : هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر قال سفيان : القوة العشيرة والناصر الحليف والأول أولى (5/595)
11 - { والسماء ذات الرجع } الرجع : المطر قال الزجاج : الرجع المطر لأنه يجيء ويرجع ويتكرر قال الخليل : الرجع المطر نفسه والرجع نبات الربيع قال أهل اللغة : الرجع المطر قال المتنخل يصف سيفا له :
( أبيض كالرجع رسول إذا ... ما باح في محتفل يختلي )
قال الواحدي : الرجع المطر في قول جميع المفسرين وفي هذا الذي حكاه عن جميع المفسرين نظر فإن ابن زيد قال : الرجع الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية وتغيب في أخرى وقال بعض المفسرين : ذات الرجع ذات الملائكة لرجوعهم إليهما بأغمال العباد وقال بعضهم : معنى ذات الرجع : ذات النفع ووجه تسمية المطر رجعا ما قاله القفال إنه مأخوذ من ترجيع الصوت وهو إعادته وكذا المطر لكونه يعود مرة بعد أخرى سمي رجعا وقيل إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وقيل سمته العرب رجعا لأجل التفاؤل ليرجع عليهم وقيل لأن الله يرجعه وقتا بعد وقت (5/595)
12 - { والأرض ذات الصدع } هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات والثمار والشجر والصدع : الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع له قال أبو عبيدة والفراء : تتصدع بالنبات قال مجاهد : والأرض ذات الطرق التي تصدعها المياه وقيل ذات الحرث لأنه يصدعها وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم عند البعث
والحاصل أن الصدع إن كان اسما للنبات فكأنه قال : والأرض ذات النبات وإن كان المراد به الشق فكأنه قال : والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه (5/596)
وجواب القسم قوله : 13 - { إنه لقول فصل } أي إن القرآن لقول يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما (5/596)
14 - { وما هو بالهزل } أي لم ينزل باللعب فهو جد ليس بالهزل والهزل ضد الجد قال الكميت :
( تجد بنا في كل يوم وتهزل ) (5/596)
15 - { إنهم يكيدون كيدا } أي يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الدين الحق قال الزجاج : يخاتلون النبي صلى الله عليه و سلم ويظهرون ما هم على خلافه (5/596)
16 - { وأكيد كيدا } أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون وأجازيهم جزاء كيدهم قيل هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر (5/596)
17 - { فمهل الكافرين } أي أخرهم ولا تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم وارض بما يدبره لك في أمورهم وقوله : { أمهلهم } بدل من مهل ومهل وأمهل بمعنى مثل نزل وأنزل والإمهال الإنظار وتمهل في الأمر اتأد وانتصاب { رويدا } على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور أو نعت لمصدر محذوف : أي أمهلهم إمهالا رويدا : أي قريبا أو قليلا قال أبو عبيدة : والرويد في كلام العرب تصغير الرود وأنشد :
( كأنها تمشي على رود )
أي على مهل وقيل تصغير أرواد مصدر رود تصغير الترخيم ويأتي اسم فعل نحو رويد زيدا : أي أمهله ويأتي حالا نحو سار القوم رويدا : أي متمهلين ذكر معنى هذا الجوهري والبحث مستوفى في علم النحو
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والسماء والطارق } قال : أقسم ربك بالطارق : وكل شيء طرقك بالليل فهو طارق وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { إن كل نفس لما عليها حافظ } قال : كل نفس عليها حفظة من الملائكة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله : { النجم الثاقب } قال : النجم المضيء { إن كل نفس لما عليها حافظ } قال : إلا عليها حافظ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه { يخرج من بين الصلب والترائب } قال : ما بين الجيد والنحر وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : تريبة المرأة وهي موضع القلادة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال : الترائب بين ثديي المرأة وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضا قال : الترائب أربعة أضلاع من كل جانب من أسفل الأضلاع وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا { إنه على رجعه لقادر } قال : على أن يجعل الشيخ شابا والشاب شيخا وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { والسماء ذات الرجع } قال : المطر بعد المطر { والأرض ذات الصدع } قال : صدعها عن النبات وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { والأرض ذات الصدع } تصدع الأدوية وأخرج ابن منده والديلمي عن معاذ بن أنس مرفوعا { والأرض ذات الصدع } قال : تصدع بإذن الله عن الأموال والنبات وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إنه لقول فصل } قال : حق { وما هو بالهزل } قال : بالباطل وفي قوله : { أمهلهم رويدا } قال : قريبا (5/596)
ويقال سورة سبح : هي تسع عشرة آية
وهي مكية في قول الجمهور وقال الضحاك : هي مدنية وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة { سبح اسم ربك الأعلى } بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله وأخرج البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال : [ أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرآننا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي صلى الله عليه و سلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قد جاء فما جاء حتى قرأت { سبح اسم ربك الأعلى } في سورة مثلها ] وأخرج أحمد والبزار وابن مردويه عن علي قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب هذه السورة : { سبح اسم ربك الأعلى } ] أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن عن النعمان بن بشير أن [ رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى و { هل أتاك حديث الغاشية } وإن وافق يوم جمعة قرأهما جميعا ] وفي لفظ [ وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما ] وفي الباب أحاديث وأخرج مسلم وغيره عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم [ كان يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى ] وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ] وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بسبح وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين ] وفي الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ : هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ]
قوله : 1 - { سبح اسم ربك الأعلى } أي نزهه عن كل ما لا يليق به قال السدي : سبح اسم ربك الأعلى : أي عظمه قيل والاسم هنا مقحم لقصد التعظيم كما في قول لبيد :
( إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر )
والمعنى : سبح ربك الأعلى قال ابن جرير : المعنى نزه اسم ربك أن يسمى به أحد سواه فلا تكون على هذا مقحمة وقيل المعنى : نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم ولذكره محترم وقال الحسن : معنى سبح اسم ربك الأعلى : صل له وقيل المعنى : صل بأسماء الله لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية وقيل المعنى : ارفع صوتك بذكر ربك ومنه قول جرير :
( قبح الإله وجوه تغلب كلما ... سبح الحجيج وكبروا تكبيرا )
والأعلى صفة للرب وقيل للاسم والأول أولى (5/597)
وقوله : 2 - { الذي خلق فسوى } صفة أخرى للرب قال الزجاج : خلق الإنسان مستويا ومعنى سوى : عدل قامته قال الضحاك : خلقه فسوى خلقه وقيل خلق الأجساد فسوى الأفهام وقيل خلق الإنسان وهيأه للتكليف (5/599)
3 - { والذي قدر فهدى } صفة أخرى للرب أو معطوف على الموصول الذي قبله قرأ علي بن أبي طالب والكسائي والسلمي { قدر } مخففا وقرأ الباقون بالتشديد قال الواحدي : قال المفسرون : قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها وقال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة وروي عنه أيضا أنه قال في معنى الآية : قدر السعادة والشقاوة وهدى للرشد والضلالة وهدى الأنعام لمراعيها وقيل قدر أرزاقهم وأقواتهم وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسا ولمراعيهم إن كانوا وحشا وقال عطاء : جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له وقيل خلق المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر وأقل وأكثر ثم هداه للخروج من الرحم قال الفراء : أي قدر فهدي وأضل فاكتفي بأحدهما وفي تفسير الآية أقوال غير ما ذكرنا والأولى عدم تعيين فرد أو أفراد مما يصدق عليه قدر وهدى إلا بدليل يدل عليه ومع عدم الدليل يحمل على ما يصدق عليه معنى الفعلين إما على البدل أو على الشمول والمعنى : قدر أجناس الأشياء وأنواعها وصفاتها وأفعالها وأقوالها وآجالها فهدي كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له ويسره لما خلق له وألهمه إلى أمور دينه ودنياه (5/599)
4 - { والذي أخرج المرعى } صفة أخرى للرب : أي أنبت العشب وما ترعاه النعم من النبات الأخضر (5/600)
5 - { فجعله غثاء أحوى } أي فجعله بعد أن كان أخضر غثاء : أي هشيما جافا كالغثاء الذي يكون فوق السبل أحوى : أي أسود بعد اخضراره وذلك أن الكلأ إذا يبس اسود قال قتادة : الغثاء الشيء اليابس ويقال للبقل والحشيش إذا انحطم ويبس غثاء وهشيم قال امرؤ القيس :
( كأن ذرى رأس المجمر غدوة ... من السيل والأغثاء فلكة مغزل )
وانتصاب غثاء على أنه المفعول الثاني أو على الحال وأوحى صفة له وقال الكسائي : هو حال من المرعى : أي أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري { فجعله غثاء } بعد ذلك والأحوى مأخوذ من الحوة وهي سواد يضرب إلى الخضرة قال في الصحاح : والحوة سمرة الشفة ومنه قول ذي الرمة :
( لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنب ) (5/600)
6 - { سنقرئك فلا تنسى } أي سنجعلك قائا بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرأه والجملة مستأنفة لبيان هدايته صلى الله عليه و سلم الخاصة به بعد بيان الهداية العامة وهي هدايته صلى الله عليه و سلم لحفظ القرآن قال مجاهد والكلبي : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي صلى الله عليه و سلم بأولها مخافة أن ينساها فنزلت { سنقرئك فلا تنسى } (5/600)
وقوله : 7 - { إلا ما شاء الله } استثناء مفرغ من أعم المفاعيل : أي لا تنسى مما تقرأه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه قال الفراء : وهو لم يشأ سبحانه أن ينسى محمد صلى الله عليه و سلم شيئا كقوله : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } وقيل إلا ما شاء الله أن تنسى ثم تذكر بعد ذلك فإذن قد نسي ولكنه يتذكر ولا ينسى شيئا نسيانا كليا وقيل بمعنى النسخ : أي إلا ما شاء الله أن ينسخ تلاوته وقيل معنى فلا تنسى : فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه ورفع حكمه وقيل المعنى : إلا ما شاء الله أن يؤخر أنزاله وقيل لا في قوله : { فلا تنسى } للنهي والألف مزيدة لرعاية الفاصلة كما في قوله : { فأضلونا السبيلا } يعني فلا تغفل قراءته وتذكره { إنه يعلم الجهر وما يخفى } الجملة تعليل لما قبلها : أي يعلم ما ظهر وما بطن والإعلان والإسرار وظاهره العموم فيندرج تحته ما قيل إن الجهر ما حفظه رسول الله صلى الله عليه و سلم من القرآن وما يخفى هو ما نسخ من صدره ويدخل تحته أيضا ما قيل من أن الجهر هو إعلان الصدقة وما يخفى هو إخفاؤها ويدخل تحته أيضا ما قيل إن الجهر جهره صلى الله عليه و سلم بالقرآن مع قراءة جبريل مخافة أن يتفلت عليه وما يخفى : ما في نفسه مما يدعوه إلى الجهر (5/600)
8 - { ونيسرك لليسرى } معطوف على سنقرئك وما بينهما اعتراض قال مقاتل : أي نهون عليك عمل الجنة وقيل نوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل وقيل للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السهلة وقيل نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به والأولى حمل الآية على العموم : أي نوفقك للطريقة اليسرى في الدين والدنيا في كل أمر من أمورهما التي تتوجه إليك (5/601)
9 - { فذكر إن نفعت الذكرى } أي عظ يا محمد الناس بما أوحينا إليك وأرشدهم إلى سبل الخير واهدهم إلى شرائع الدين قال الحسن : تذكره للمؤمن وحجة على الكافر قال الواحدي : إن نفعت أو لم تنفع ولم يذكر الحالة الثانية كقوله : { سرابيل تقيكم الحر } الآية قال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع فالمعنى : إن نفعت الذكرى أو لم تنفع وقيل إنه مخصوص في قوم بأعيانهم وقيل إن بمعنى ما : أي فذكر ما نفعت الذكرى لأن الذكرى نافعة بكل حال وقيل إنها بمعنى قد وقيل إنها بمعنى إذ وما قاله الواحدي والجرجاني أولى وقد سبقهما إلى القول به الفراء والنحاس قال الرازي : إن قوله : { إن نفعت الذكرى } للتنبيه على أشرف الحالين وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى والمعلق بإن على الشري لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ويدل عليه آيات : منها هذه الآية ومنها قوله تعالى : { واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } ومنها قوله : { جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه ومنها قوله : { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } والمراجعة جائزة بدون هذا الظن فهذا الشرط فيه فوائد : منها ما تقدم ومنها البعث على الانتفاع بالذكر كما يقول الرجل لمن يرشده : قد أوضحت لك إن كنت تعقل وهو تنبيه للنبي صلى الله عليه و سلم على أنها لا تنفعهم الذكرى أو يكون هذا في تكرير الدعوة فأما الدعاء الأول فعام انتهى (5/601)
ثم بين سبحانه الفرق بين من تنفعه الذكرى ومن لا تنفعه فقال : 10 - { سيذكر من يخشى } أي سيتعظ بوعظك من يخشى الله فيزداد بالتذكير خشية وصلاحا (5/602)
11 - { ويتجنبها الأشقى } أي [ ويتحنب ] الذكرى ويبعد عنها الأشقي من الكفار لإصراره على الكفر بالله وانهماكه في معاصيه (5/602)
ثم وصف الأشقى فقال : 12 - { الذي يصلى النار الكبرى } أي العظيمة الفظيعة لأنها أشد حرا من غيرها قال الحسن : النار الكبرى نار جهنم والنار الصغرى نار الدنيا وقال الزجاج : عي السفلى من أطباق النار (5/602)
13 - { ثم لا يموت فيها ولا يحيا } أي لا يموت فيها فيستريح مما هو فيه من العذاب ولا يحيا حياة يتنفع بها ومنه قول الشاعر :
( ألا ما لتفس لا تموت فينقضي ... [ عناها ] ولا تحيا حياة لها طعم )
وثم للتراخي في مراتب الشدة لأن التردد بين الموت والحياة أفظع من صلى النار الكبرى (5/602)
14 - { قد أفلح من تزكى } أي من تطهر من الشرك فآمن بالله ووحده وعمل بشرائعه قال عطاء والربيع : من كان عمله زاكيا ناميا وقال قتادة : تزكى بعمل صالح قال قتادة : وعطاء وأبو العالية : نزلت في صدقة الفطر قال عكرمة : كان الرجل يقول : أقدم زكاتي بين يدي صلاتي وأصل الزكاة في اللغة النماء وقيل المراد بالآية زكاة الأموال كلها وقيل المراد بها زكاة الأعمال لا زكاة الأموال لأن الأكثر أن يقال في الأموال زكى لا تزكى (5/602)
15 - { وذكر اسم ربه فصلى } قيل المعنى : ذكر اسم ربه بالخوف فعبده وصلى له وقيل ذكر اسم ربه بلسانه فصلى : أي فأقام الصلوات الخمس وقيل ذكر موقفه ومعاده فعبده وهو كالقول الأول وقيل ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة لأنها لا تنعقد إلا بذكره وهو قوله : الله أكبر وقيل ذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى وقيل هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاة وقيل المراد بالصلاة هنا صلاة العيد كما أن المراد بالتزكي في الآية الأولى زكاة الفطر ولا يخفى بعد هذا القول لأن السورة مكية ولم تفرض زكاة الفطر وصلاة العيد إلا بالمدينة (5/602)
16 - { بل تؤثرون الحياة الدنيا } هذا إضراب عن كلام مقدر يدل عليه السياق : أي لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا قرأ الجمهور { تؤثرون } بالفوقية على الخطاب ويؤيدها قراءة أبي بل أنتم تؤثرون وقرأ أبو عمرو بالتحتية على الغيبة قيل والمراد بالآية الكفرة والمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا بها والاطمئنان إليها والإعراض عن الآخرة بالكلية وقيل المراد بها جميع الناس من مؤمن وكافر والمراد بإيثارها ما هو أعم من ذلك مما لا يخلو عنه غالب الناس من تأثير جانب الدنيا على الآخرة والتوجه إلى تحصيل منافعها والاهتمام بها اهتماما زائدا على اهتمامه بالطاعات (5/602)
17 - { والآخرة خير وأبقى } في محل نصب على الحال من فاعل تؤثرون : أي والحال أن الدار الآخرة التي هي الجنة أفضل وأدوم من الدنيا قال مالك بن دينار : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى ؟ (5/603)
والإشارة بقوله : 18 - { إن هذا } إلى ما تقدم من فلاح مت تزكى وما بعده وقيل إنه إشارة إلى جميع السورة ومعنى { لفي الصحف الأولى } أي ثابت فيها (5/603)
وقوله : 19 - { صحف إبراهيم وموسى } بدل من الصحف الأولى قال قتادة وابن زيد : يريد بقوله : { إن هذا } والآخرة خير وأبقى وقالا : تتابعت كتب الله عز و جل أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا وقال الحسن : تتابعت كتب الله جل ثناؤه إن هذا لفي الصحف الأولى وهو قوله : { قد أفلح } إلى آخر السورة قرأ الجمهور { لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم } بضم الحاء في الموضعين وقرأ الأعمش وهارون وأبو عمرو في رواية عنه بسكونها فيهما وقرأ الجمهور إبراهيم بالألف بعد الراء وبالياء بعد الهاء وقرأ أبو رجاء بحذفهما وفتح الهاء وقرأ أبو موسى وابن الزبير إبراهيم بألفين
وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة بن عامر الجهني قال : [ لما نزلت { فسبح باسم ربك العظيم } قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت { سبح اسم ربك الأعلى } قال : اجعلوها في سجودكم ] ولا مطعن في إسناده وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا قرأ { سبح اسم ربك الأعلى } قال : سبحان ربي الأعلى ] قال أبو داود : خولف فيه وكيع فرواه شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد ابن عباس موقوفا وأخرجه موقوفا أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ { سبح اسم ربك الأعلى } قال : سبحان ربي الأعلى وفي لفظ لعبد بن حميد عنه قال : [ إذا قرأت { سبح اسم ربك الأعلى } فقل : سبحان ربي الأعلى ] وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب أنه قرأ { سبح اسم ربك الأعلى } فقال : سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة فقيل له أتزيد في القرآن ؟ قال : لا إنما أمرنا بشيء فقلته وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن أبي موسى الأشعري أنه قرأ في الجمعة ب { سبح اسم ربك الأعلى } فقال : سبحان ربي الأعلى وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال : سمعت ابن عمر يقرأ { سبح اسم ربك الأعلى } فقال : سبحان ربي الأعلى وكذلك هي في قراءة أبي بن كعب وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عبد الله بن الزبير أنه قرأ { سبح اسم ربك الأعلى } فقال : سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فجعله غثاء } قال : هشيما { أحوى } قال متغيرا وأخرج ابن مردويه عنه قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يستذكر القرآن مخافة أن ينسى فقيل له قد كفيناك ذلك ونزلت { سنقرئك فلا تنسى } ] وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { إلا ما شاء الله } يقول : إلا ما شئت أنا فأنسيك وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { ونيسرك لليسرى } قال : للخير وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود { ونيسرك لليسرى } قال : الجنة وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { قد أفلح من تزكى } قال [ من شهد أن لا إله إلا الله وقطع الأنداد وشهد أني رسول الله { وذكر اسم ربه فصلى } قال : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بمواقيتها ] قال البزار : لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قد أفلح من تزكى } قال : من الشرك { وذكر اسم ربه } قال : وحد الله { فصلى } قال : الصلوات الخمس وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس { قد أفلح من تزكى } قال : من قال لا إله إلا الله وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن مردويه والبيهقي في سننه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى } ] وفي لفظ قال : [ سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن زكاة الفطر فقال : { قد أفلح من تزكى } قال : هي زكاة الفطر ] وكثير بن عبد الله ضعيف جدا قال فيه أبو داود : هو ركن من أركان الكذب وقد صحح الترمذي حديثا من طريقه وخطئ في ذلك ولكنه يشهد له ما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى } ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر ] وليس في هذين الحديثين ما يدل على أن ذلك سبب النزول بل فيهما أنه صلى الله عليه و سلم تلا الآية وقوله : هي زكاة الفطر يمكن أن يراد به أنها مما يصدق عليه التزكي وقد قدمنا أن السورة مكية ولم تكن في مكة صلاة عيد ولا فطرة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري { قد أفلح من تزكى } قال : أعطي صدقة الفطر قبل أن يخرج إلى العيد { وذكر اسم ربه فصلى } قال : خرج إلى العيد وصلى : وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال إنما أنزلت هذه الآية في إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى } وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : قلت لابن عباس : أرأيت قوله : { قد أفلح من تزكى } للفطر قال : لم أسمع بذلك ولكن للزكاة كلها ثم عاودته فقال لي : والصدقات كلها وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن عرفجة الثقفي قال : استقرأت ابن مسعود { سبح اسم ربك الأعلى } فلما بلغ { بل تؤثرون الحياة الدنيا } ترك القراءة وأقبل على أصحابه فقال : آثرنا الدنيا على الآخرة فسكت القوم فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل وقال : { بل تؤثرون الحياة الدنيا } بالياء وأخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هي كلها في صحف إبراهيم وموسى ] وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال : نسخت هذه السورة من صحف إبراهيم وموسى وفي لفظ : هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال [ قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب ؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب ] الحديث (5/603)
هي ست وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الغاشية بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وقد تقدم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كان يقرأ { سبح اسم ربك الأعلى } والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة ]
قوله : 1 - { هل أتاك حديث الغاشية } قال جماعة من المفسرين : هل هنا بمعنى قد وبه قال قطرب : أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية وهي القيامة لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وقيل إن بقاء هل هنا على معناها الاستفهامي المتضمن للتعجيب مما في خبره والتشويق إلى استماعه أولى وقد ذهب إلى أن المراد بالغاشية هنا القيامة أكثر المفسرين وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب : الغاشية النار تغشى وجوه الكفار كما في قوله : { وتغشى وجوههم النار } وقيل الغاشية أهل النار لأنهم يغشونها ويقتحمونها والأول أولى قال الكلبي : المعنى إن لم يكن أتاك حديث الغاشية (5/605)
فقد أتاك 2 - { وجوه يومئذ خاشعة } الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما هو ؟ أو مستأنفة استئنافا نحويا لبيان ما تضمنته من كون ثم وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفة المذكورة ووجوه مرتفع على الابتداء وإن كانت نكرة لوقوعه في مقام التفصيل وقد تقدم مثل هذا في سورة القيامة وفي سورة النازعات والتنوين في يومئذ عوص عن المضاف إليه : أي يوم غشيان الغاشية والخاشعة الذليلة الخاضعة وكل متضائل ساكن يقال له خاشع يقال خشع الصوت : إذا خفي وخشع في صلاته : إذا تذلل ونكس رأسه والمراد بالوجوه هنا أصحابها قال مقاتل : يعني الكفار لأنهم تكبروا عن عبادة الله قال قتادة وابن زيد : خاشعة في النار وقيل أراد وجوه اليهود والنصارى على الخصوص والأول أولى (5/606)
قوله : 3 - { عاملة ناصبة } معنى عاملة أنها تعمل عملا شاقا قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : عمل يعمل عملا ويقال للسحاب إذا دام برقة : قد عمل يعمل عملا قيل وهذا العمل هو جر السلاسل والأغلال والخوض في النار { ناصبة } أي تعبة يقال نصب بالكسر ينصب نصبا : إذا تعب والمعنى : أنها في الآخرة تعبة لما تلاقيه من عذاب الله وقيل إن قوله : { عاملة } في الدنيا إذ لا عمل في الآخرة : أي تعمل في الدنيا بالكفر والمعاصي وتنصب في ذلك وقيل إنها عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة والأول أولى قال قتادة { عاملة ناصبة } تكبرت في الدنيا عن طاعة الله فأعملها الله وأنصبها في النار بجر السلاسل الثقال وحمل الأغلال والوقوف حفاة عراة في العرصات { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب فأعملها وأنصبها في جهنم قال الكلبي : يجرون على وجوههم في النار وقال أيضا : يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل قرأ الجمهور { عاملة ناصبة } بالرفع فيهما على أنهما خبران آخران للمبتدأ أو على تقدير مبتدأ وهما خبران له وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد وابن كثير في رواية عنه بنصبهما على الحال أو على الذم (5/607)
وقوله : 4 - { تصلى نارا حامية } خبر آخر للمبتدأ أي تدخل نارا متناهية في الحر يقال حمي النهار وحمي التنور : أي اشتد حرهما قال الكسائي : يقال اشتد حمى النهار وحموه بمعنى قرأ الجمهور { تصلى } بفتح التاء مبنيا للفاعل وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمهما مبنيا للمفعول وقرأ أبو رجاء بضم التاء وفتح الصاد وتشديد اللام والضمير راجع إلى الوجوه على جيمع هذه القراءات والمراد أصحابها كما تقدم وهكذا الضمير (5/607)
5 - { تسقى من عين آنية } والمراد بالعين الآنية : المتناهية في الحر والآني : الذي قد انتهى حره من الإيناء بمعنى التأخر يقال آناه يؤنيه إيناء : أي أخره وحبسه كما في قوله : { يطوفون بينها وبين حميم آن } قال الواحدي : قال المفسرون لو وقعت منها نطفة على جبال الدنيا لذابت (5/607)
ولما ذكر سبحانه شرابهم عقبه بذكر طعامهم فقال : 6 - { ليس لهم طعام إلا من ضريع } هو نوع من الشوك يقال له الشبرق في لسان قريش إذا كان رطبا فإذايبس فهو الضريع كذا قال مجاهد وقتادة وغيرهما من المفسرين قيل وهو سم قاتل وإذا يبس لا تقربه دابة ولا ترعاه وقيل هو شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس فإذا رعت منه الإبل لم تشبع وهلكت هزالا قال الخليل : الضريع نبات أخضر منتن الريح يرمي به البحر وجمهور أهل اللغة والتفسير قالوا : بالأول ومنه قول أبي ذؤيب :
( رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعا بان عنه التحايص )
وقال الهذلي إبلا وسوء مرعاها :
( وحبس في هرم الضريع وكلها ... قرناء دامية اليدين جرود )
وقال سعيد بن جبير : الضريع الحجارة وقيل هو شجرة في نار جهنم وقال الحسن : وهو بعض ما أخفاه الله من العذاب وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله بالخلاص منه فسمي بذلك لأن آكله يتضرع إلى الله في أن يعفي عنه لكراهته وخشونته قال النحاس : قد يكون مشتقا من الضارع وهو الذليل : أي من شربه يلحقه ضراعة وذلة وقال الحسن أيضا : هو الزقوم وقيل هو واد في جهنم وقد تقدم في سورة الحاقة { فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين } والغسلين غير الضريع كما تقدم وجمع بين الآيتين بأن النار دركات فمنهم من طعامه الضريع ومنهم من طعامه الغسلين (5/608)
ثم وصف سبحانه الضريع فقال : 7 - { لا يسمن ولا يغني من جوع } أي لا يسمن الضريع آكله ولا يدفع عنه ما به من الجوع قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية قال المشركون : إن إبلنا تسمن من الضريع فنزلت { لا يسمن ولا يغني من جوع } وكذبوا في قولهم هذا فإن الإبل لا تأكل الضريع ولا تقربه وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبات النافع (5/608)
ثم شرع سبحانه في بيان حال أهل الجنة بعد الفراغ من بيان حال أهل النار فقال : 8 - { وجوه يومئذ ناعمة } أي ذات نعمة وبهجة وهي وجوه المؤمنين صارت وجوههم ناعمة لما شاهدوا من عاقبة أمرهم وما أعده الله لهم من الخير الذي يفوق الوصف ومثله قوله : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } (5/608)
ثم قال : 9 - { لسعيها راضية } أي لعلمها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها وقرت به عيونها والمراد بالوجوه هنا أصحابها كما تقدم (5/608)
10 - { في جنة عالية } أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة أو عالية القدر لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين (5/608)
11 - { لا تسمع فيها لاغية } قرأ الجمهور { لا تسمع } بفتح الفوقية ونصب { لاغية } : أي لا تسمع أنت أيها المخاطب أو لا تسمع تلك الوجوه وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتحتية مضمونة مبنيا للمفعول ورفع لاغية وقرأ نافع بالفوقية مضمومة مبنيا للمفعول ورفع لاغية وقرأ الفضل والجحدري بفتح التحتية مبنيا للفاعل ونصب لاغية واللغو الكلام الساقط قال الفراء والأخفش : أي لا تسمع فيها كلمة لغو قيل المراد بذلك الكذب والبهتان والكفر قاله قتادة : وقال مجاهد : أي الشتم وقال الفراء : لا تسمع فيها حالفا يحلف بكذب وقال الكلبي : لا تسمع في الجنة حالفا بيمين برة ولا فاجرة وقال الفراء : أيضا لا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة تلغى لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم وهذا أرجح الأقوال لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم ولا وجه لتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص إلا بمخصص يصلح للتخصيص ولاغية إما صفة موصوف محذوف : أي كلمة لاغية أو نفس لاغية أو مصدر : أي لا تسمع فيها لغوا (5/609)
12 - { فيها عين جارية } قد تقدم في سورة الإنسان أن فيها عيونا والعين هنا بمعنى العيون كما في قوله : { علمت نفس } ومعنى جارية أنها تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة قال الكلبي : لا أدري بماء أو بغيره (5/609)
13 - { فيها سرر مرفوعة } أي عالية مرتفة السمك أو عالية القدر (5/609)
14 - { وأكواب موضوعة } قد تقدم أن الأكواب جمع كوب وأنه القدح الذي لا عروة له ومعنى موضوعة : أنها موضوعة بين أيديهم يشربون منها (5/609)
15 - { ونمارق مصفوفة } النمارق : الوسائد قال الواحدي : في قول الجميع واحدتها نمرقة بضم النون وزاد الفراء سماعا عن العرب نمرقة بكسرها قال الكلبي : وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض ومنه قول الشاعر :
( وإنا لنجري الكأس بين شروبنا ... وبين أبي قابوس فوق النمارق )
وقال الآخر :
( كهول وشبان حسان وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق )
قال في الصحاح : النمرق والنمرقة وسادة صغيرة وكذلك النمرقة بالكسر لغة حكاها يعقوب (5/609)
16 - { وزرابي مبثوثة } يعني البسط واحدها زربي وزربية قال أبو عبيدة والفراء : الزرابي الطنافس التي لها خمل رقيق واحدها زربية والمبثوثة المبسوطة قاله قتادة وقال عكرمة : بعضها فوق بعض قال الواحدي : ويجوز أن يكون المعنى : أنها مفرقة في المجالس وبه قال القتيبي وقال الفراء : معنى بمثوثة كثيرة والظاهر أن معنى البث : التفرق مع كثرة ومنه { وبث فيها من كل دابة } (5/609)
10 - { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } الاستفهام للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره مما مر غير مرة والجملة مسوقة لتقرير أمر البعث والاستدلال عليه وكذا ما بعدها وكيف منصوبة بما بعدها والجملة في محل جر على أنها بدل اشتمال من الإبل والمعنى : أينكرون أمر البعث ويستبعدون وقوعه أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر ما يشاهدونه من المخلوقات { كيف خلقت } على ما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثتها ومزيد قوتها وبديع أوصافها قال أبو عمرو بن العلاء : إنما خص الإبل لأنها من ذوات الأربع تبرك فتحمل عليها الحمولة وغيرهما من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم : قال الزجاج : نبههم على عظيم من خلقه قد ذلله للصغير يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك فينهض بثقل حمله وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره فأراهم عظيما من خلقه ليدل بذلك على توحيده وسئل الحسن عن هذه الآية وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال : أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به ثم هو حنزير لا يركب ظهره ولا يؤكل لحمه ولا يحلب دره والإبل من أعز مال العرب وأنفسه تأكل النوى والقت وتخرج اللبن ويأخذ الصبي بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها وقال المبرد : الإبل هنا هي القطع العظيمة من السحاب وهو خلاف ما ذكره أهل التفسير واللغة وروي عن الأصمعي أنه قال : من قرأ خلقت بالتخفيف عنى به البعير ومن قرأ بالتشديد عنى به السحاب (5/610)
18 - { وإلى السماء كيف رفعت } أي رفعت فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم ولا يدركه العقل وقيل رفعت فلا ينالها شيء (5/610)
19 - { وإلى الجبال كيف نصبت } على الأرض مرساة راسخة لا تميد ولا تميل ولا تزول (5/610)
20 - { وإلى الأرض كيف سطحت } أي بسطت والسطح بسط الشيء يقال لظهر البيت إذا كان مستويا : سطح قرأ الجمهور { سطحت } مبنيا للمفعول مخففا وقرأ الحسن : بالتشديد وقرأ علي بن أبي طالب وابن السميفع وأبو العالية : خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وضم التاء فيها كلها (5/610)
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بالتذكير فقال : 21 - { فذكر } والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها : أي فعظهم يا محمد وخوفهم ثم علل الأمر بالتذكير فقال : { إنما أنت مذكر } أي ليس عليك إلا ذلك (5/610)
22 - و { لست عليهم بمصيطر } المصيطر والمسيطر بالسين والصاد : المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله كذا في الصحاح أي لست عليهم بمصيطر حتى تكرههم على الإيمان وهذا منسوخ بآية السيف قرأ الجمهور { بمصيطر } بالصاد وقرأ هشام وقنبل في رواية بالسين وقرأ خلف بإشمام الصاد زايا وقرأ هارون الأعور بفتح الطاء اسم مفعول (5/610)
23 - { إلا من تولى وكفر } هذا استثناء منقطع : أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير (5/611)
24 - { فيعذبه الله العذاب الأكبر } وهو عذاب جهنم الدائم وقيل هو استثناء متصل من قوله { فذكر } أي فذكر كل أحد إلا من انقطع طعمك عن إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر والأول أولى وإنما قال الأكبر لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر وقرأ ابن مسعود فإنه يعذبه الله وقرأ ابن عباس وقتادة ألا من تولى على أنها ألا التي للتنبيه والاستفتاح (5/611)
25 - { إن إلينا إيابهم } أي رجوعهم بعد الموت يقال آب يؤوب : إذا رجع ومنه قول عبيد بن الأبرص :
( وكل ... ذي غيبة يتوب وغائب الموت لا يؤوب )
قرأ الجمهور { إيابهم } بالتخفيف وقرأ أبو جعفر وشيبة بالتشديد قال أبو حاتم : لا يجوز التشديد ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام وقيل هما لغتان بمعنى قال الواحدي : وأما إيابهم بتشديد الياء فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج (5/611)
26 - { ثم إن علينا حسابهم } يعني جزاءهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث وثم للتراخي في الرتبة لبعد منزلة الحساب في الشدة عن منزلة الإياب
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الغاشية من أسماء القيامة وأخرج ابن أبي حاتم عنه { هل أتاك حديث الغاشية } قال : الساعة { وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة } قال : تعمل وتنصب في النار { تسقى من عين آنية } قال : هي التي قد طال أينها { ليس لهم طعام إلا من ضريع } قال : الشبرق وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة } قال : يعني اليهود والنصارى تخشع ولا ينفعها عملها { تسقى من عين آنية } قال : قد أنى غليانها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { تصلى نارا حامية } قال : حارة { تسقى من عين آنية } قال : انتهى حرها { ليس لهم طعام إلا من ضريع } يقول : من شجر من نار وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا { إلا من ضريع } قال : الشبرق اليابس وأخرج ابن جرير عنه أيضا { لا تسمع فيها لاغية } يقول : لا تسمع أذى ولا باطل وفي قوله : { فيها سرر مرفوعة } قال : بعضها فوق بعض { ونمارق } قال : مجالس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا { ونمارق } قال : المرافق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { لست عليهم بمصيطر } قال : جبار { إلا من تولى وكفر } قال : حسابه على الله وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضا { لست عليهم بمصيطر } ثن نسخ ذلك فقال : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وأخرج ابن المنذر عنه أيضا { إن إلينا إيابهم } قال : مرجعهم (5/611)
هي ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال : نزلت { والفجر } بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله وأخرج النسائي عن جابر قال : [ صلى معاذ صلاة فجاء رجل فصلى معه فطول فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف فبلغ ذلك معاذا فقال : منافق فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله جئت أصلي فطول علي فانصرفت فصليت في ناحية المسجد فعلفت ناضحي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفتان أنت يا معاذ ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والفجر والليل إذا يغشى ]
1 - { والفجر } أقسم سبحانه بهذه الأشياء كما أقسم بغيرها من مخلوقاته واختلف في الفجر الذي أقسم الله به هنا فقيل هو الوقت المعروف وسمي فجرا لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم وقال قتادة : إنه فجر أول يوم من شهر محرم لأن منه تتفجر السنة وقال مجاهد : يريد يوم النحر وقال الضحاك : فجر ذي الحجة (5/612)
لأن الله قرن الأيام به فقال : 2 - { وليال عشر } أي ليالي عشر من ذي الحجة وبه قال السدي والكلبي وقيل المعنى : وصلاة الفجر أو رب الفجر والأول أولى وجواب هذا القسم وما بعده هو قوله : { إن ربك لبالمرصاد } كذا قال ابن الأنباري وقيل محذوف لدلالة السياق عليه : أي ليجازين كل أحد بما عمل أو ليعذبن وقدره أبو حيان بما دلت عليه خاتمة السورة التي قبله : أي والفجر الخ لإيابهم إلينا وحسابهم علينا وهذا ضعيف جدا وأضعف منه قول من قال : إن الجواب قوله : { هل في ذلك قسم لذي حجر } وأن هل بمعنى قد لأن هذا لا يصح أن يكون مقسما عليه أبدا { وليال عشر } هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين وقال الضحاك : إنها الأواخر من رمضان وقيل العشر الأول من المحرم إلى عاشرها يوم عاشوراء قرأ الجمهور { ليال } بالتنوين وعشر صفة لها وقرأ ابن عباس وليال عشر بالإضافة قيل والمراد ليالي أيام عشر وكان حقه على هذا أن يقال عشرة لأن المعدود مذكر وأجيب عنه بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان (5/613)
3 - { والشفع والوتر } الشفع والوتر يعمان كل الأشياء شفعها ووترها وقيل شفع الليالي ووترها وقال قتادة : الشفع والوتر شفع الصلاة ووترها منه شفع ومنها وتر وقيل الشفع يوم عرفة ويوم النحر والوتر ليلة يوم النحر وقال مجاهد وعطية العوفي : الشفع الخلق والوتر الله الواحد الصمد وبه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة وقال الربيع بن أنس وأبو العالية : هي صلاة المغرب فيها ركعتان والوتر الركعة وقال الضحاك : الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة وبه قال عطاء : وقيل هما آدم وحواء لأن آدم كان وترا فشفع بحواء وقيل الشفع درجات الجنة وهي ثمان والوتر دركات النار وهي سبع وبه قال الحسين بن الفضل وقيل الشفع الصفا والمروة والوتر الكعبة وقال مقاتل : الشفع الأيام والليلالي والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة وقال سفيان بن عيينة : الوتر هو الله سبحانه وهو الشفع أيضا لقوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } الآية وقال الحسن : المراد بالشفع والوتر العدد كله لأن العدد لا يخلو عنهما وقيل الشفع مسجد مكة والمدينة والوتر مسجد بيت القدس وقيل الشفع حجج القرآن والوتر الإفراد وقيل الشفع الحيوان لأنه ذكر وأنثى والوتر الجماد وقيل الشفع ما سمي والوتر ما لا يسمى ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين والضعف الظاهر والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف والخاطر الخاطئ
والذي ينبغي التعويل عليه ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلامه العرب وهما معروفان واضحان فالشفع عند العرب الزوج والوتر الفرد فالمراد بالآية إما نفس العدد أو ما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعا من تناولها لغيره قرأ الجمهور { والوتر } بفتح الواو وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسرها وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه وهما لغتان والفتح لغة قريش وأهل الحجاز والكسر لغة تميم قال الأصمعي : كل فرد وتر وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد وحكى يونس عن ابن كثير أنه قرأ بفتح الواو وكسر التاء فيحتمل أن تكون لغة ثالثة ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراء للوصل مجرى الوقف (5/613)
4 - { والليل إذا يسر } قرأ الجمهور { يسر } بحذف الياء وصلا ووقفا اتباعا لرسم المصحف وقرأ نافع وأبو عمرو بحذفها في الوقف وإثباتها في الوصل وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب بإثباتها في الوصل والوقف قال الخليل : تسقط الياء منها موافقة لرؤوس الآي قال الزجاج : والحذف أحب إلي لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياآت قال الفراء : قد تحذف العرب الياء وتكتفي بكسر ما قبلها وأنشد بعضهم :
( كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف دما )
ما تليق : أي ما تمسك قال المؤرج : سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من يسر فقال : لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة فبت على باب داره سنة فقال : الليل لا يسري وإنما يسرى فيه فهو مصروف عن جهته وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه ألا ترى إلى قوله : { وما كانت أمك بغيا } ولم يقل بغية لأنه صرفها من باغية
وفي كلام الأخفش هذا نظر فإن صرف الشيء عن معناه لسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن بعض ما يستحقه ولو صح ذلك للزم في كل المجازات العقلية واللفظية واللازم باطل فالملزوم مثله والأصل ههنا إثبات الياء لأنها لام الفعل المضارع المرفوع ولم تحذف العلة من العلل إلا لاتباع رسم المصحف وموافقة رؤس الآي إجراء للفواصل مجرى القوافي : ومعنى { والليل إذا يسر } إذا يمضي كقوله : { والليل إذ أدبر } { والليل إذا عسعس } وقيل معنى يسر : يسار فيه كما يقال ليل نائم ونهار صائم كما في قول الشاعر :
( لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم )
وبهذا قال الأخفش والقتيبي وغيرهما من أهل المعاني وبالأول قال جمهور المفسرين وقال قتادة وأبو العالية : { والليل إذا يسر } أي جاء وأقبل قال النخعي : أي استوى قال عكرمة وقتادة والكلبي ومحمد بن كعب : هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه وقيل ليلة القدر لسراية الرحمة فيها والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى (5/614)
5 - { هل في ذلك قسم لذي حجر } هذا الاستفهام لتقرير تعظيم ما أقسم سبحانه به وتفخيمه من هذه الأمور المذكورة والإشارة بقوله : { ذلك } إلى تلك الأمور والتذكير بتأويل المذكور : أي هل في ذلك المذكور : من الأمور التي أقسمنا بها قسم : أي مقسم به حقيق بأن تؤكد به الأخبار { لذي حجر } أي عقل ولب فمن كان ذا عقل ولب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به ومثل هذا قوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } قال الحسن { لذي حجر } أي لذي حلم وقال أبو مالك : لذي ستر من الناس وقال الجمهور : الحجر العقل قال الفراء : الكل يرجع إلى معنى واحد لذي عقل ولذي حلم ولذي ستر الكل بمعنى العقل وأصل الحجر المنع يقال لمن ملك نفسه ومنعها : إنه لذو حجر ومنه سمي الحجر لامتناعه بصلابته ومنه حجر الحاكم على فلان : أي منعه قال والعرب تقول : إنه لذو حجر : إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها (5/615)
ثم ذكر سبحانه على طريقه الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيرا للكفار في عصر نبينا صلى الله عليه و سلم وتخويفا لهم أن يصيبهم ما أصابهم فقال : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد } قرأ الجمهور بتنوين { عاد } على أن يكون إرم عطف بيان لعاد والمراد بعاد اسم أبيهم وإرم اسم القبيلة أو بدلا منه وامتناع صرف إرم للتعريف والتأنيث وقيل المراد بعاد أولاد عاد وهم عاد الأولى ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى فيكون ذكر إرم على طريقة عطف البيان أو البدل للدلالة على أنهم عاد الأولى لا عاد الأخرى ولا بد من تقدير مضاف على كلا القولين : أي أهل إرم أو سبط إرم ؟ فإن إرم هو جد عاد لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وقرأ الحسن وأبو العالية بإضافة عاد إلى إرم قرأ الجمهور { إرم } بكسر الهمزة وفتح الراء والميم وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك أرم بفتح الهمزة والراء وقرأ معاذ بسكون الراء تخفيفا وقرئ بإضافة إرم إلى ذات العماد قال مجاهد : من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالإرم التي هي الأعلام واحدها أرم وفي الكلام تقديم وتأخير : أي والفجر وكذا وكذا { إن ربك لبالمرصاد } ألم تر : أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد وهذه الرؤية رؤية القلب والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له وقد كان أمر عاد وثمود مشهورا عند العرب لأن ديارهم متصلة بديار العرب وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون وقال مجاهد أيضا : إرم أمة من الأمم وقال قتادة : هي قبيلة من عاد وقيل هما عادان فالأولى هي إرم ومنه قول قيس بن الرقيات :
( مجدا تليدا بناه أولهم ... أدرك عادا وقبله إرم )
قال معمر : إرم إليه مجتمع عاد وثمود وكان يقال عاد إرم وعاد ثمود وكانت القبيلتان تنسب إلى إرم قال أبو عبيدة : هما عادان فالأولى إرم ومعنى ذات العماد : ذات القوة والشدة مأخوذ من قوة الأعمدة كذا قال الضحاك وقال قتادة ومجاهد : إنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم وقال مقاتل : ذات العماد يعني طولهم كان طول الرجل منهم اثني عشرة ذراعا ويقال رجل طويل العماد : أي القامة قال أبو عبيدة : ذات العماد ذات الطول يقال رجع معمد : إذا كان طويلا وقال مجاهد وقتادة : أيضا كان عمادا لقومهم يقال فلان عميد القوم وعمودهم : أي سيدهم وقال ابن زيد : ذات العماد يعني إحكام البنيان بالعمد قال في الصحاح : والعماد الأبنية الرفيعة تذكر وتؤنث قال عمرو بن كلثوم :
( ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الإخفاض نمنع من يلينا )
وقال عكرمة وسعيد المقبري : هي دمشق ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك وقال محمد بن كعب : هي الإسكندرية (5/616)
17 - { إرم ذات العماد } (5/617)
8 - { التي لم يخلق مثلها في البلاد } هذه صفة لعاد : أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة وهم الذين قالوا : { من أشد منا قوة } أو صفة للقرية على قول من قال : إن إرم اسم لقريتهم أو للأرض التي كانوا فيها والأول أولى ويدل عليه قراءة أبي التي لم يخلق مثلهم في البلاد وقيل الإرم الهلاك قال الضحاك إرم ذات العماد : أي أهلكهم فجعلهم رميما وبه قال شهر بن حوشب وقد ذكر جماعة من المفسرين أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها وإن حصباءها جواهر وترابها مسك وليس بها أنيس ولا فيها ساكن من بني آدم وإنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع فتارة تكون باليمن وتارة تكون بالشام وتارة تكون بالعراق وتارة تكون بسائر البلاد وهذا كذب بحت لا ينفق على من له أدنى تميز وزاد الثعلبي في تفسيره فقال : إن عبد الله بن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة وهذا كذب على كذب وافتراء على افتراء وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء وفاقرة عظمى ورزية كبرى من مثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذي يجترئون على الكذب تارة على بني إسرائيل وتارة على الأنبياء وتارة على الصالحين وتارة على رب العالمين وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة والأقاصيص المنحولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه فحرفوا وغيروا وبدلوا ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتابي الذين سميته الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (5/617)
ثم عطف سبحانه القبيلة الآخرة وهي ثمود على قبيلة عاد فقال : 9 - { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } وهم قوم صالح سموا باسم جدهم ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح ومعنى جابوا الصخر : قطعوه والجوب القطع ومنه جاب البلاد : إذا قطعها ومنه سمي جيب القميص لأنه جيب : أي قطع قال المفسرون : أول من نحت الجبال والصخور ثمود فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة ومنه قوله سبحانه : { ينحتون من الجبال بيوتا آمنين } وكانواينحتون الجبال وينقبونها ويجعلون تلك الأنقاب بيوتا يسكنون فيها وقوله : { بالواد } متعلق بجابوا أو بمحذوف على أنه حال من الصخر وهو وادي القرى قرأ الجمهور { ثمود } بمنع الصرف على أنه اسم للقبيلة ففيه التأنيث والتعريف وقرأ يحيى بن وثاب بالصرف على أنه اسم لأبيها وقرأ الجمهور أيضا { بالواد } بحذف الياء وصلا ووقفا اتباعا لرسم المصحف وقرأ ابن كثير بإثباتها فيهما وقرأ قنبل في رواية عنه بإثباتها في الوصل دون الوقف (5/617)
10 - { وفرعون ذي الأوتاد } أي ذو الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد أو جعل الجنود أنفسهم أوتادا لأنهم يشدون الملك كما تشد الأوتاد الخيام وقيل كان له أوتاد يعذب الناس بها ويشدهم إليها وقد تقدم بيان هذا في سورة ص (5/618)
11 - { الذين طغوا في البلاد } الموصول صفة لعاد وثمود وفرعون : أي طغت كل طائفة منهم في بلادهم وتمردت وعتت والطغيان مجاوزة الحد (5/618)
12 - { فأكثروا فيها الفساد } بالكفر ومعاصي الله والجور على عباده ويجوز أن يكون الموصول في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم الذين طغوا أو في محل نصب على الذم (5/618)
13 - { فصب عليهم ربك سوط عذاب } أي أفرغ عليهم وألقى على تلك الطوائف سوط عذاب وهو ما عذبهم به قال الزجاج : جعل صوته الذي ضربهم به العذاب يقال : صب على فلان خلعة : أي ألقاها عليه ومنه قول النابغة :
( فصب عليه الله أحسن صبغة ... وكان له بين البرية ناصر )
ومنه قول الآخر :
( ألم تر أن الله أظهر دينه ... وصب على الكفار سوط عذاب )
ومعنى [ سوط ] عذاب : نصيب عذاب وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم هو بالنسبة إلى ما أعده لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به وقيل ذكر السوط للدلالة على شدة ما نزل بهم وكان السوط عندهم هو نهاية ما يعذب به قال الفراء : هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى لكل عذاب إذا كان فيه عندهم غاية العذاب وقيل معناه : عذاب يخالط اللحم والدم من قولهم ساطه يسوطه سوطأ : أي خلطه فالسوط خلط الشيء بعضه ببعض ومنه قول كعب بن زهير :
( لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل )
وقال الآخر :
( أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمس دم دما )
وقال آخر :
( فسطها ذميم الرأي غير موفق ... فلست على تسويطها بمعان ) (5/618)
14 - { إن ربك لبالمرصاد } قد قدمنا قول من قال إن هذا جواب القسم والأولى أن الجواب محذوف وهذه الجملة تعليل لما قبلها وفيها إرشاد إلى أن كفار قومه صلى الله عليه و سلم سيصيبهم ما أصاب أولئك الكفار ومعنى بالمرصاد : أنه يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه عليه بالخير خيرا وبالشر شرا قال الحسن وعكرمة : أي عليه طريق العباد لا يفوته أحد والرصد والمرصاد : الطريق وقد تقدم بيانه في سورة براءة وتقدم أيضا عند قوله : { إن جهنم كانت مرصادا }
وقد أخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { والفجر } قال : فجر النهار وأخرج ابن جرير عنه قال : يعني صلاة الفجر وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب وابن عساكر عنه أيضا في قوله : { والفجر } قال : هو المحرم فجر السنة وقد ورد في فضل صوم شهر محرم أحاديث صحيحة ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما وأخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : { والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر } قال : إن العشر عشر الأضحى والوتر : يوم عرفة والشفع : يوم النحر وفي لفظ : هي ليالي من ذي الحجة ] وأخرج عبد بن حميد عن طلحة بن عبد الله أنه دخل على ابن عمر هو وأبو سلمة بن عبد الرحمن فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة فقال أبو سلمة : أليس هذه الليالي العشر التي ذكرها الله في القرآن ؟ فقال ابن عمر : وما يدريك ؟ قال : ما أشك قال : بلى فانشكك وقد ورد في فضل هذه العشر أحاديث وليس فيها ما يدل على أنها المرادة بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وليال عشر } قال : هي العشر الأواخر من رمضان وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه عن عمران بن حصين [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الشفع والوتر فقال : هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر ] وفي إسناده رجل مجهول وهو الراوي له عن عمران بن حصين وقد روي عن عمران بن عصام على عمران بن حصين بإسقاط الرجل المجهول وقال الترمذي بعد إخراجه بالإسناد الذي فيه الرجل المجهول : هو حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة قال ابن كثير : وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه والله أعلم قال : ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر وقد أخرج هذا الحديث موقوفا على عمران بن حصين عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير فهذا يقوي ما قاله ابن كثير وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { والشفع والوتر } فقال : كل شيء شفع فهو اثنان والوتر واحد وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه سئل عن الشفع والوتر فقال : يومان وليلة يوم عرفة ويوم النحر والوتر ليلة النحر ليلة جمع ] وأخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الشفع اليومان والوتر اليوم الثالث ] وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير أنه سئل عن الشفع والوتر فقال : الشفع قول الله : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } والوتر اليوم الثالث وفي لفظ : الوتر أوسط أيام التشريق وأخرج عبد بن حيمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال : الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة وأخرج ابن جرير عنه { والليل إذا يسر } قال : إذا ذهب وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ { والفجر } إلى قوله : { إذا يسر } قال : هذا قسم على إن ربك بالمرصاد وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله : { قسم لذي حجر } قال : لذي حجى وعقل ونهى وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { بعاد * إرم } قال : يعني بالإرم الهالك ألا ترى أنك تقول أرم بنو فلان { ذات العماد } يعني طولهم مثل العماد وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معدي كرب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه ذكر { إرم ذات العماد } فقال : كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم ] وفي إسناده رجل مجهول لأن معاوية بن صالح رواه عمن حدثه عن المقدام وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { جابوا الصخر بالواد } قال : خرقوها وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كانوا ينحتون من الجبال بيوتا { وفرعون ذي الأوتاد } قال : الأوتاد : الجنود الذي يشدون له أمره وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : { ذي الأوتاد } قال : وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { إن ربك لبالمرصاد } قال : يسمع ويرى وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله : { إن ربك لبالمرصاد } قال : من وراء الصراط جسور : جسر عليه الأمانة وجسر عليه الرحم وجسر عليه الرب عز و جل (5/619)
لما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير وعند إصابة الشر وأن مطمح أنظارهم ومعظم مقاصدهم هو الدنيا فقال : 15 - { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } أي امتحنه واختبره بالنعم { فأكرمه ونعمه } أي أكرمه بالمال ووسع عليه رزقه { فيقول ربي أكرمن } فرحا بما نال وسرورا بما أعطي غير شاكر لله على ذلك ولا خاطر بباله أن ذلك امتحان له من ربه واختبار لحاله وكشف لما يشتمل عليه من الصبر والجزع والشكر للنعمة وكفرانها وما في قوله : { إذا ما } زائدة وقوله : { فأكرمه ونعمه } تفسير للابتلاء ومعنى { أكرمن } أي فضلني بما أعطاني من المال وأسبغه علي من النعم لمزيد استحقاقي لذلك وكوني موضعا له والإنسان مبتدأ وخبره فيقول ربي أكرمن ودخلت الفاء فيه لتضمن أما معنى الشرط والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر وإن تقدم لفظا فهو مؤخر في المعنى : أي فأما الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام قال الكلبي : الإنسان هو الكافر أبي بن خلف وقال مقاتل : نزلت في أمية بن خلف وقيل نزلت في عتبة بن ربيعة وأبي حذيفة بن المغيرة (5/621)
16 - { وأما إذا ما ابتلاه } أي اختبره وعامله معاملة من يختبره { فقدر عليه رزقه } أي ضيقه ولم يوسعه له ولا بسط له فيه { فيقول ربي أهانن } أي أولاني هوانا وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث فأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسيع في متاعها ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ويوفقه لعمل الآخرة ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختيار والامتحان وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى الكافر منا شربة ماء قرأ نافع بإثبات الياء في { أكرمن } و { أهانن } وصلا وحذفهما وقفا وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه وابن محيصن ويعقوب بإثباتهما وصلا ووقفا وقرأ الباقون بحذفهما في الوصل والوقف اتباعا لرسم المصحف ولموافقة رؤوس الآي والأصل إثباتها لأنها اسم ومن الحذف قول الشاعر :
( ومن كائح ظاهر عمره ... إذا ما انتصبت له أنكرن )
أي أنكرني وقرأ الجمهور { فقدر } بالتخفيف وقرأ ابن عامر بالتشديد وهما لغتان وقرأ الحميان وأبو عمرو { ربي } بفتح الياء في الموضعين وأسكنها الباقون (5/622)
وقوله : 17 - { كلا } ردع للإنسان القائل في الحالتين ما قال وزجر له فإن الله سبحانه قد يوسع الرزق ويبسط النعم للإنسان لا لكرامته ويضيقه عليه لا لإهانته بل للاختبار والامتحان كما تقدم قال الفراء : كلا في هذا الموضع بمعنى أنه لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا ولكن يحمد الله على الغنى والفقر ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله فقال : { بل لا تكرمون اليتيم } والالتفات إلى الخطاب لقصد التوبيخ والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية وقرأ الجمهور { تحاضون } و { تأكلون } و { تحبون } بالفوقية على الخطاب فيها وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتحتية فيها والجمع في هذه الأفعال باعتبار معنى الإنسان لأن المراد به الجنس : أي بل لكم أفعال هي أقبح مما ذكر وهي أنكم تتركون إكرام اليتيم فتأكلون ماله وتمنعونه من فضل أموالكم قال مقاتل : نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف (5/622)
18 - { ولا تحاضون على طعام المسكين } قرأ الجمهور { تحاضون } من حضة على كذا : أي أغراه به ومفعوله محذوف : أي لا تحضون أنفسكم أو لا يحض بعضكم بعضا على ذلك ولا يأمر به ولا يرشد إليه وقرأ الكوفيون { تحاضون } بفتح التاء والحاء بعدها ألف وأصله تتحاضون فحذف إحدى التاءين : أي لا يحض بعضكم بعضا وقرأ الكسائي في رواية عنه والسلمي { تحاضون } بضم التاء من الحض وهو الحث وقوله : { على طعام المسكين } متعلق بتحضون وهو إما اسم مصدر : أي على إطعام المسكين أو اسم للمطعوم ويكون على حذف مضاف : أي على بذل طعام المسكين أو على إعطاء طعام المسكين (5/623)
19 - { وتأكلون التراث } أصله الوراث فأبدلت التاء من الواو المضمومة كما في تجاه ووجاه والمراد به أموال اليتامى الذين يرثونه من قراباتهم وكذلك أموال النساء وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أموالهم { أكلا لما } أي أكلا شديدا وقيل معنى لما جمعا من قولهم : لممت الطعام : إذا أكلته جميعا قال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب اليتيم وكذا قال أبو عبيدة وأصل اللم في كلام العرب : الجمع يقال لممت الشيء ألمه لما : جمعته ومنه قولهم : لم الله شعته : أي جمع ما تفرق من أموره ومنه قول النابغة :
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
قال الليث : اللم الجمع الشديد ومنه حجر ملموم وكتيبة ملمومة والآكل يلم الثريد فيجمعه ثم يأكله وقال مجاهد : يسفه سفا وقال ابن زيد : هو إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله ولا يفكر فيما أكل من خبيث وطيب (5/623)
20 - { وتحبون المال حبا جما } أي حبا كثيرا والجم الكثير يقال جم الماء في الحوض : إذا كثر واجتمع والجمة : المكان الذي يجتمع فيه الماء (5/623)
ثم كرر سبحانه الردع لهم والزجر فقال : 21 - { كلا } أي ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم ثم استأنف سبحانه فقال : { إذا دكت الأرض دكا دكا } وفيه وعيد لهم بعد الردع والزجر والدك : الكسر والدق والمعنى هنا : أنها زلزلت وحركت تحريكا بعد تحريك قال ابن قتيبة : دكت جبالها حتى استوت قال الزجاج : أي تزلزلت فدك بعضها بعضا قال المبرد : أي بسطت وذهب ارتفاعها قال والدك : حط المرتفع بالبسط وقد تقدم الكلام على الدك في سورة الأعراف وفي سورة الأحقاف والمعنى : أنها دكت مرة بعد أخرى وانتصاب دكا الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل ودكا الثاني تأكيد الأول كذا قال ابن عصفور ويجوز أن يكون النصب على الحال : أي حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة كما يقال : علمته الحساب بابا بابا وعلمته الخط حرفا حرفا والمعنى : أنه كرر الدك عليها حتى صارت هباء منبئا (5/623)
22 - { وجاء ربك } أي جاء أمره وقضاؤه وظهرت آياته وقيل المعنى : أنها زالت الشبه في ذلك اليوم وظهرت المعارف وصارت ضرورية كما يزول الشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه وقيل جاء قهر بك وسلطانه وانفراده بالأمر والتدبير من دون أن يجعل إلى أحد من عباده شيئا من ذلك { والملك صفا صفا } انتصاب صفا صفا على الحال : أي مصطفين أو ذي صفوف قال عطاء : يريد صفوف الملائكة وأهل كل سماء صف على حدة قال الضحاك : أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا محيطين بالأرض ومن فيها فيكونون سبعة صفوف (5/624)
23 - { وجيء يومئذ بجهنم } يومئذ منصوب بجيء والقائم مقام الفاعل بجهنم وجوز مكي أن يكون يومئذ هو القائم مقام الفاعل وليس بذاك قال الواحدي : قال جماعة من المفسرين : جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول يا رب نفسي نفسي وسيأتي الذي هذا نقله عن جماعة المفسرين مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إن شاء الله { يومئذ يتذكر الإنسان } يومئذ هذا بدل من يومئذ الذي قبله : أي يوم جيء بجهنم يتذكر الإنسان أي يتعظ ويذكر ما فرط منه ويندم على ما قدمه في الدنيا من الكفر والمعاصي وقيل إن قوله : يومئذ الثاني بدل من قوله : إذا دكت والعامل فيهما هو قوله : يتذكر الإنسان { وأنى له الذكرى } أي ومن أين له التذكر والاتعاظ وقيل هو على حذف مضاف : أي ومن أين له منفعة الذكرى قال الزجاج : يظهر التوبة ومن أين التوبة ؟ (5/624)
24 - { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ماذا يقول الإنسان ويجوز أن تكون بدل اشتمال من قوله : يتذكر والمعنى : يتمنى أنه قدم الخير والعمل الصالح واللام في لحياتي بمعنى لأجل حياتي والمراد حياة الآخرة فإنها الحياة بالحقيقة لأنها دائمة غير منقطعة وقيل إن اللام بمعنى في والمراد حياة الدنيا : أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في وقت حياتي في الدنيا أنتفع بها هذا اليوم والأول أولى : قال الحسن : علم والله أنه صادف حياة طويلة لا موت فيها (5/624)
25 - { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } أي يوم يكون زمان ما ذكر من الأحوال لا يعذب كعذاب الله أحد (5/624)
26 - { ولا يوثق } ك { وثاقه أحد } أو لا يتولى عذاب الله ووثاقه أحد سواه إذ الأمر كله له والضميران على التقديرين في عذابه ووثاقه الله عز و جل وهذا على قراءة الجمهور { يعذب } و { يوثق } مبنيين للفاعل وقرأ الكسائي على البناء للمفعول فيهما فيكون الضميران راجعين إلى الإنسان : أي لا يعذب كعذاب ذلك الإنسان أحد ولا يوثق كوثاقه أحد والمراد بالإنسان الكافر : أي لا يعذب من ليس بكافر كعذاب الكافر وقيل إبليس وقيل المراد به أبي بن خلف قال الفراء : المعنى أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد لتناهيه في الكفر والعناد وقيل المعنى : أنه لا يعذب مكانه أحد ولا يوثق مكانه أحد فلا تؤخذ منه فدية وهو كقوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } والعذاب بمعنى التعذيب والوثاق بمعنى التوثيق واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الكسائي قال : وتكون الهاء في الموضعين ضمير الكافر لأنه مفروف أنه لا يعذب أحد كعذاب الله قال أبو علي الفارسي : يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة : أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر (5/624)
ولما فرغ سبحانه من حكاية أحوال الأشقياء ذكر بعض أحوال السعداء فقال : 27 - { يا أيتها النفس المطمئنة } المطمئنة هي الساكنة الموقنة بالإيمان وتوحيد الله الواصلة إلى ثلج اليقين بحيث لا يخالطها شك ولا يعتريها ريب قال الحسن : هي المؤمنة الموقنة وقال مجاهد : الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها وقال مقاتل هي الآمنة المطمئنة وقال ابن كيسان : المطمئنة بذكر الله وقيل المخلصة : قال ابن زيد : المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث (5/625)
28 - { ارجعي إلى ربك } أي ارجعي إلى الله { راضية } بالثواب الذي أعطاك { مرضية } عنده وقيل ارجعي إلى موعده وقيل إلى أمره وقال عكرمة وعطاء : معنى { ارجعي إلى ربك } إلى جسدك الذي كنت فيه واختاره ابن جرير ويدل على هذا قراءة ابن عباس فادخلي في عبدي بالإفراد والأول أولى (5/625)
29 - { فادخلي في عبادي } أي في زمرة عبادي الصالحين وكوني من جملتهم وانتظمي في سلكهم (5/625)
30 - { وادخلي جنتي } معهم قيل إنه يقال لها ارجعي إلى ربك عند خروجها من الدنيا ويقال لها : ادخلي في عبادي وادخلي جنتي يوم القيامة والمراد بالآية كل نفس مطمئنة على العموم ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أكلا لما } قال : سفا وفي قوله : { حبا جما } قال : شديدا وأخرج ابن جرير عنه { أكلا لما } قال : شديدا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { إذا دكت الأرض دكا دكا } قال : تحريكها وأخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وأنى له الذكرى } يقول : وكيف له ؟ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { فيومئذ لا يعذب } الآية قال : لا يعذب بعذاب الله أحد ولا يوثق بوثاق الله أحد وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا في قوله : { يا أيتها النفس المطمئنة } قال : المؤمنة { ارجعي إلى ربك } يقول : إلى جسدك قال : [ نزلت هذه الآية وأبو بكر جالس فقال : يا رسول الله ما أحسن هذا فقال : أما إنه سيقال لك هذا ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير نحوه مرسلا وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول نحوه عن أبي بكر الصديق وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { يا أيتها النفس المطمئنة } المصدقة وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : ترد الأرواح يوم القيامة في الأجساد وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ارجعي إلى ربك راضية } قال : بما أعطيت من الثواب { مرضية } عنها بعملها { فادخلي في عبادي } المؤمنين وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير قال : مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه ثم لم يرد خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا ندري من تلاها { يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي } وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عكرمة مثله (5/625)
ويقال سورة لا أقسم هي عشرون آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة لا أقسم بهذا البلد بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله
قوله : 1 - { لا أقسم } لا زائدة والمعنى أقسم { بهذا البلد } وقد تقدم الكلام على هذا في تفسير { لا أقسم بيوم القيامة } ومن زيادة لا في الكلام في غير القسم قول الشاعر :
( تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتصدع )
أي يتصدع ومن ذلك قوله : { ما منعك أن لا تسجد } أي أن تسجد قال الواحدي : أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة قرأ الجمهور { لا أقسم } وقرأ الحسن والأعمش لأقسم من غير ألف وقيل هو نفي للقسم والمعنى : لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه وقال مجاهد : إن لا رد على من أنكر البعث ثم ابتدأ فقال أقسم والمعنى : ليس الأمر كما تحسبون والأول أولى والمعنى : أقسم بالبلد الحرام الذي أنت حل فيه وقال الواسطي : إن المراد بالبلد المدينة وهو مع كونه خلاف إجماع المفسرين هو أيضا مدفوع لكون السورة مكية لا مدنية (5/626)
وجملة قوله : 2 - { وأنت حل بهذا البلد } معترضة والمعنى : أقسم بهذا البلد (5/627)
3 - { ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان في كبد } واعترض بينهما بهذه الجملة والمعنى : ومن المكابد أن مثلك علي عظيم حرمته يستحل بهذا البلد كما يستحل الصيد في غير الحرم وقال الواحدي : الحل والحلال والمحل واحد وهو ضد المحرم أحل الله لنبيه صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح حتى قاتل وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ] قال : والمعنى أن الله لما ذكر القسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها مع كونها حراما فوعد نبيه صلى الله عليه و سلم أن يحلها له حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلا انتهى فالمعنى : وأنت حل بهذا البلد في المستقبل كما في قوله : { إنك ميت وإنهم ميتون } قال مجاهد : المعنى ما صنعت فيه من شيء فأنت حل قال قتادة أنت حل به لست بآثم : يعني أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر والمعاصي وقيل المعنى : لا أقسم بهذا البلد وأنت حال به ومقيم فيه وهو محلك فعلى القول بأن لا نافية غير زائدة يكون المعنى : لا أقسم به وأنت حال به فأنت أحق بالإقسام بك وعلى القول بأنها زائدة يكون المعنى : أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفا لك وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا وزاد على ما كان عليه من الشرف والعظم ولكن هذا إذا تقرر في لغة العرب أن لفظ حل يجيء بمعنى حال وكما يجوز أن تكون الجملة معترضة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال { ووالد وما ولد } عطف على البلد قال قتادة ومجاهد والضحاك والحسن وأبو صالح { ووالد } أي آدم { وما ولد } أي وما تناسل من ولده أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والعقل والتدبير وفيهم الأنبياء والعلماء والصالحون وقال أبو عمران الجوني : الوالد إبراهيم وما ولد : ذريته قال الفراء : إن ما عبارة عن الناس كقوله : { ما طاب لكم } وقيل الوالد إبراهيم والولد إسماعيل ومحمد صلى الله عليه و سلم وقال عكرمة وسعيد بن جبير : { ووالد } يعني الذي يولد له { وما ولد } يعني العاقر الذي لا يولد له وكأنهما جعلا ما نافية وهو بعيد ولا يصح ذلك إلا بإضمار الموصول : أي ووالد والذي ما ولد ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين وقال عطية العوفي : هو عام في كل والد ومولود من جميع الحيوانات واختار هذا ابن جرير (5/627)
4 - { لقد خلقنا الإنسان في كبد } هذا جواب القسم والإنسان هو هذا النوع الإنساني والكبد : الشدة والمشقة يقال كابدت الأمر : قاسيت شدته والإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ومقاساة شدائدها حتى يموت وأصل الكبد الشدة ومنه تكبد اللبن : إذا غلظ واشتد ويقال كبد الرجل : إذا وجعت كبده ثم استعمل في كل شدة ومشقة ومنه قول أبي الأصبغ :
( لي ابن عم لو أن الناس في كبد ... لظل محتجزا بالنبل يرميني )
قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وقال أيضا : يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء لا يخلو عن أحدهما قال الكلبي : نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له أبو الأشدين وكان يأخذ الأديم العكاظي ويجعله تحت رجليه ويقول : من أزالني عنه فله كذا فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه ويجعله تحت رجليه ويقول : من أزالني عنه فله كذا فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه وكان من أعداء النبي صلى الله عليه و سلم (5/628)
وفيه نزل 5 - { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } يعني لقوته ويكون معنى { في كبد } على هذا : في شدة خلق وقيل معنى { في كبد } أنه جريء القلب غليظ الكبد { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } أي يظن ابن آدم أن لن يقدر عليه ولا ينتقم منه أحد أو يظن أبو الأشدين أن لن يقدر عليه أحد وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر (5/629)
ثم أخبر سبحانه عن مقال هذا الإنسان فقال : 6 - { يقول أهلكت مالا لبدا } أي كثير مجتمعا بعضه على بعض قال الليث : مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته قال الكلبي ومقاتل : يقول أهلكت في عداوة محمد مالا كثيرا وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل : أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه و سلم فأمره أن يكفر فقال : لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد قرأ الجمهور { لبدا } بضم اللام وفتح الباء مشددا قال أبو عبيدة : لبد فعل من التلبيد وهو المال الكثير بعضه على بعض قال الزجاج : فعل للكثرة يقال رجل حطم : إذا كان كثير الحطم قال الفراء : واحدته لبدة والجمع لبد وقد تقدم بيان هذا في سورة الجن (5/629)
7 - { أيحسب أن لم يره أحد } أي أيظن أنه لم يعاينه أحد قال قتادة : أيظن أن الله سبحانه لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وأين أنفقه ؟ وقال الكلبي : كان كاذبا لم ينفق ما قال فقال الله : أيظن أن الله لم ير ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أم لم ينفق (5/629)
ثم ذكر سبحانه ما أنعم به عليهم ليعتبروا فقال : 8 - { ألم نجعل له عينين } يبصر بهما (5/629)
9 - { ولسانا } ينطق به { وشفتين } يستر بهما ثغره قال الزجاج : المعنى ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على أن يبعثه والشفة محذوفة اللام وأصلها شفهة بدليل تصغيرها على شفيهة (5/629)
10 - { وهديناه النجدين } النجد : الطريق في ارتفاع قال المفسرون : بينا له طريق الخير وطريق الشر قال الزجاج : المعنى ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشر مبينتين كتبين الطريقين العاليتين وقال عكرمة وسعيد بن المسيب والضحاك النجدان : الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والأول أولى وأصل النجد المكان المرتفع وجمعه نجود ومنه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة فالنجدان الطريقان العاليان ومنه قول امرئ القيس :
( فريقان منهم قاطع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب ) (5/629)
11 - { فلا اقتحم العقبة } الاقتحام : الرمي بالنفس في شيء من غير روية يقال منه : قحم في الأمر قحوما : أي رمى بنفسه فيه من غير روية وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير روية والقحمة بالضم المهلكة والعقبة في الأصل الطريق التي في الجبل سميت بذلك لصعوبة سلوكها وهو مثل ضربه سبحانه لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة قال الفراء والزجاج : ذكر سبحانه هنا لا مرة واحدة والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع حتى يعيدوها في كلام آخر كقوله : { فلا صدق ولا صلى } وإنما أفرها هنا لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله : ثم كان من الذين آمنوا قائما مقام التكرير كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن قال المبرد وأبو علي الفارسي : إن لا هنا بمعنى لم : أي فلم يقتحم العقبة وروي نحو ذلك عن مجاهد فلهذا لم يحتج إلى التكرير ومنه قول زهير :
( وكان طوى كشحا على مستكنة ... فلا هو أبداها ولم يتقدم )
أي فلم يبدها ولم يتقدم وقيل هو جار مجرى الدعاء كقولهم : لا نجاء قال أبو زيد وجماعة من المفسرين : معنى الكلام هنا الاستفهام الذي بمعنى الإنكار تقديره : أفلا اقتحم العقبة أو هلا اقتحم العقبة (5/630)
ثم بين سبحانه العقبة فقال : 12 - { وما أدراك ما العقبة } أي أي شيء أعلمك ما اقتحامها (5/630)
13 - { فك رقبة } أي هي إعتاق رقبة وتخليصها من أسار الرق وكل شيء أطلقته فقد فككته ومنه : فك الرهن وفك الكتاب فقد بين سبحانه أن العقبة هي هذه القرب المذكورة التي تكون بها النجاة من النار قال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله وقال مجاهد الضحاك والكلبي : هي الصراط الذي يضرب على جهنم كحد السيف وقال كعب : هي نار دون الجسر وقيل وفي الكلام حذف : أي وما أدراك ما اقتحام العقبة ؟ قرأ أبو عمر وابن كثير والكسائي { فك رقبة } على أنه فعل ماض ونصب رقبة على المفعولية وهكذا قروا : { أطعم } : على أنه فعل ماض وقرأ الباقون { فك } { أو إطعام } على أنهما مصدران وجر { رقبة } بإضافة المصدر إليها فعلى القراءة الأولى يكون الفعلان بدلا من اقتحم أو بيانا له كأنه قيل : فلا فك ولا أطعم والفك في الأصل : حل القيد سمي العتق فكا لأن الرق كالقيد وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته (5/630)
14 - { أو إطعام في يوم ذي مسغبة } المسغبة المجاعة والسغب الجوع والساغب الجائع قال الراغب : يقال منه سغب الرجل سغبا وسغوبا فهو ساغب وسغبان والمسغبة مفعلة منه وأنشد أبو عبيدة :
( فلو كنت حرا يابن قيس بن عاصم ... لما بت شبعانا وجارك ساغبا )
قال النخعي : { في يوم ذي مسغبة } أي عزيز فيه الطعام (5/631)
15 - { يتيما ذا مقربة } أي قرابة يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي واليتيم في الأصل : الضعيف يقال : يتم الرجل : إذا ضعف واليتيم عند أهل اللغة : من لا أب له وقيل : هو من لا أب له ولا أم ومنه قول قيس بن الملوح :
( إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا ... إلى الله فقد الوالدين يتيم ) (5/631)
16 - { أو مسكينا ذا متربة } أي لا شيء له كأنه لصق بالتراب لفقره وليس له مأوى إلا التراب يقال ترب الرجل يترب تربا ومتربة : إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضرا قال مجاهد : هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره وقال قتادة : هو ذو العيال وقال عكرمة : هو المديون وقال أبو سنان : هو ذو الزمانة وقال ابن جبير : هو الذي ليس له أحد وقال عكرمة : هو البعيد التربة الغريب عن وطنه والأول أولى ومنه قول الهذلي :
( وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا ... سفكنا دماء البدن في تربة الحال )
قرأ الجمهور ذي مسغبة على أنه صفة ليوم ويتيما هو مفعول إطعام وقرأ الحسن ذا مسغبة بالنصب على أنه مفعول إطعام : أي يطعمون ذا مسغبة ويتيما بدل منه (5/631)
17 - { ثم كان من الذين آمنوا } عطف على المنفي بلا وجاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محله وفيه دليل على أن هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان وقيل المعنى : ثم كان من الذين آمنوا بأن هذا نافع لهم وقيل المعنى : أنه أتى بهذه القرب لوجه الله { وتواصوا بالصبر } معطوف على آمنوا : أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله وعن معاصيه وعلى ما أصابهم من البلايا والمصائب { وتواصوا بالمرحمة } أي بالرحمة على عباد الله فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين واستكثروا من فعل الخير بالصدقة ونحوها (5/631)
والإشارة بقوله : 18 - { أولئك } إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصفات المذكورة { أولئك أصحاب الميمنة } أي أصحاب جهة اليمين أو أصحاب اليمين أو الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وقيل غير ذلك مما قد قدمنا ذكره في سورة الواقعة (5/631)
19 - { والذين كفروا بآياتنا } أي بالقرآن أو بما هو أعم منه فتدخل الآيات التنزيلية والآيات التكوينية التي تدل على الصانع سبحانه { هم أصحاب المشأمة } أي أصحاب الشمال أو أصحاب الشؤم أو الذين يعطون كتبهم بشمالهم أو غير ذلك مما تقدم (5/631)
20 - { عليهم نار مؤصدة } أي مطبقة مغلقة يقال : أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته ومنه قول الشاعر :
( تحن إلى أجبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة )
قرأ الجمهور { مؤصدة } بالواو وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة مكان الواو وهما لغتان والمعنى واحد
وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لا أقسم بهذا البلد } قال : مكة { وأنت حل بهذا البلد } يعني بذلك النبي صلى الله عليه و سلم أحل الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحيي من شاء فقتل له يومئذ ابن خطل صبرا وهو آخذ بأستار الكعبة فلم يحل لأحد من الناس بعد النبي صلى الله عليه و سلم أن يفعل فيها حراما حرمه الله فأحل الله ما صنع بأهل مكة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : { لا أقسم بهذا البلد } قال مكة : { وأنت حل بهذا البلد } قال أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل فيه وأما غيرك فلا وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : نزلت هذه الآية { لا أقسم بهذا البلد } قال : أحل له أن يصنع فيه ما شاء { ووالد وما ولد } قال : يعني بالوالد آدم وما ولد ولده وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال الوالد الذي يلد وما ولد العاقر لا يلد من الرجال والنساء وأخرج ابن جرير والطبراني عنه أيضا ووالد قال آدم { لقد خلقنا الإنسان في كبد } قال : في اعتدال وانتصاب وأخرج ابن جرير عنه أيضا { لقد خلقنا الإنسان في كبد } قال : في نصب وأخرج ابن جرير عنه أيضا { لقد خلقنا الإنسان في كبد } قال : في شدة وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { لقد خلقنا الإنسان في كبد } قال : في شدة خلق ولادته ونبت أسنانه ومعيشته وختانه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { لقد خلقنا الإنسان في كبد } قال : خلق الله كل شيء يمشي على أربعة إلا الإنسان فإنه خلق منتصبا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضا { لقد خلقنا الإنسان في كبد } قال : منتصبا في بطن أمه أنه قد وكل به ملك إذا نامت الأم أو اضطجعت رفع رأسه لولا ذلك لغرق في الدم وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : { مالا لبدا } قال : كثيرا وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : { وهديناه النجدين } قال : سبيل الخير والشر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وهديناه النجدين } قال : الهدي والضلالة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه قال : سبيل الخير والشر وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سنان بن سعد عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هما نجدان فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ] تفرد به سنان بن سعد ويقال سعد بن سنان وقد وثقه يحيى بن [ معين ] وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني : منكر الحديث وقال أحمد : تركت حديثه لاضطرابه قد روى خمسة عشر حديثا منكرة كلها ما أعرف منها حديثا واحدا يشبه حديثه حديث الحسن البصري لا يشبه حديث أنس وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه من طرق عن الحسن قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول فذكره وهذا مرسل وكذا رواه قتادة مرسلا أخرجه عنه ابن جرير ويشهد له ما أخرج الطبراني عن أمامة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يا أيها الناس إنهما نجدان : نجد خير ونجد شر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ] ويشهد له أيضا ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما هما نجدان : نجد الخير ونجد الشر فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { وهديناه النجدين } قال : الثديين وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : { فلا اقتحم العقبة } قال : جبل زلال في جهنم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : العقبة النار وأخرج عبد بن حميد عنه قال : عقبة بين الجنة والنار وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت : [ لما نزل { فلا اقتحم العقبة } قيل يا رسول الله ما عند أحدنا ما يعتق إلا أن عند أحدنا الجارية السوداء تخدمه فلو أموناهن بالزنا فجئن بالأولاد فأعتقناهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن آمر بالزنا ثم أعتق الولد ] وأخرج ابن جرير عنها بلفظ [ لعلاقة سوط في سبيل الله أعظم أجرا من هذا ] وقد ثبت الترغيب في عتق الرقاب بأحاديث كثيرة : منها في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج ] وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { في يوم ذي مسغبة } قال : مجاعة وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه { في يوم ذي مسغبة } قال : جوع وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { يتيما ذا مقربة } قال : ذا قرابة وفي قوله : { ذا متربة } قال : بعيد التربة : أي غريبا عن وطنه وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضا { أو مسكينا ذا متربة } قال : هو المطروح الذي ليس له بيت وفي لفظ للحاكم : هو الذي لا يقيه من التراب شيء وفي لفظ : هو اللازق بالتراب من شدة الفقر وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم { مسكينا ذا متربة } قال : الذي مأواه المزابل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وتواصوا بالمرحمة } يعني بذلك رحمة الناس كلهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { مؤصدة } قال : مغلقة الأبواب وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة { مؤصدة } قال مطبقة (5/632)
هي خمس عشرة آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت والشمس وضحاها بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي عن بريدة : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في صلاة العشاء والشمس وضحاها وأشباهها من السور ] وقد تقدم حديث جابر في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ : [ هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ] وأخرج الطبراني عن ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن يقرأ في صلاة الصبح بالليل إذا يغشى والشمس وضحاها ] وأخرج البيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر قال : [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها والضحى ]
أقسم سبحانها بهذه الأمور وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته وقال قوم : إن القسم بهذه الأمور ونحوها مما تقدم ومما سيأتي هو على حذف مضاف : أي 1 - { و } رب { الشمس } ورب القمر وهكذا سائرها ولا ملجئ إلى هذا ولا موجب له وقوله : { وضحاها } هو قسم ثان قال مجاهد : وضحاها : أي ضوئها وإشراقها وأضاف الضحى إلى الشمس لأنه إنما يكون عند ارتفاعها وكذا قال الكلبي وقال قتادة : ضحاها نهارها كله قال الفراء : الضحى هو النهار وقال المبرد : أصل الضحى الصبح وهو نور الشمس قال أبو الهيثم : الضحى نقيض الظل وهو نور الشمس على وجه الأرض إذا طلعت الشمس وبعيد ذلك قليلا فإذا زاد فهو الضحاء بالمد قال المبرد : الضحى والضحوة مشتقان من الضح وهو النور فأبدلت الألف والواو من الحاء
واختلف في جواب القسم ماذا هو ؟ فقيل هو قوله : { قد أفلح من زكاها } قاله الزجاج وغيره قال الزجاج : وحذفت اللام لأن الكلام قد طال فصار طوله عوضا منها وقيل الجواب محذوف : أي والشمس وكذا لتبعثن وقيل تقديره : ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحا وأما { قد أفلح من زكاها } فكلام تابع لقوله : { فألهمها فجورها وتقواها } على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء وقيل هو على التقديم والتأخير بغير حذف والمعنى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها والشمس وضحاها والأول أولى (5/634)
2 - { والقمر إذا تلاها } أي تبعها وذلك بأن طلع بعد غروبها يقال تلا يتلو تلوا : إذا تبع قال المفسرون : وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور قال الزجاج : تلاها حين استدار فكان يتلو الشمس في الضياء والنور يعني إذا كمل ضوءه فصار تابعا للشمس في الإنارة يعني كان مثلها في الإضاءة وذلك في الليالي البيض وقيل إذا تلا طلوعه طلوعها قال قتادة : إن ذلك ليلة الهلال إذا سقطت رؤي الهلال قال ابن زيد : إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب وقال الفراء تلاها أخذ منها : يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس (5/636)
3 - { والنهار إذا جلاها } أي حلى الشمس وذلك أن الشمس عند انبساط النهار تنجلي تمام الانجلاء فكأنه جلاها مع أنها الذي تبسطه وقيل الضمير عائد إلى الظلمة : أي جلى الظلمة وإن لم يجر للظلمة ذكر لأن المعنى معروف قال الفراء : كما تقول أصبحت باردة : أي أصبحت غداتنا باردة والأول أولى ومنه قول قيس بن الحطيم :
( تجلت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب )
وقيل المعنى : جلى ما في الأرض من الحيوانات وغيرها بعد أن كانت مستترة في الليل وقيل جلى الدنيا وقيل جلى الأرض (5/636)
4 - { والليل إذا يغشاها } أي يغشى الشمس فيذهب بضوئها فتغيب وتظلم الآفاق وقيل يغشى الآفاق وقيل الأرض وإن لم يجر لهما ذكر لأن ذلك معروف والأول أولى (5/636)
5 - { والسماء وما بناها } يجوز أن تكون ما مصدرية أي والسماء وبنيانها ويجوز أن تكون موصولة : أي والذي بناها وإيثار ما على من لإرادة الوصفية لقصد التفخيم كأنه قال : والقادر العظيم الشأن الذي بناها ورجح الأول الفراء والزجاج ولا وجه لقوله من قال : إن جعلها مصدرية مخل بالنظم ورجح الثاني ابن جرير (5/637)
6 - { والأرض وما طحاها } الكلام في ما هذه كالكلام في التي قبلها ومعنى طحاها بسطها كذا قال عامة المفسرين كما في قوله : { دحاها } قالوا : طحاها ودحاها واحد : أي بسطها من كل جانب والطحو البسط وقيل معنى طحاها قسمها وقيل خلقها ومنه قول الشاعر :
( وما يدري جذيمة من طحاها ... ولا من ساكن العرش الرفيع )
والأول أولى والطحو أيضا : الذهاب قال أبو عمرو بن العلاء : طحا الرجل : إذا ذهب في الأرض يقال ما أدري أين طحا ؟ ويقال طحا به قبله : إذا ذهب به ومنه قول الشاعر :
( طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب ) (5/637)
7 - { ونفس وما سواها } الكلام في ما هذه كما تقدم ومعنى سواها خلقها وأنشأها وسوى أعضاءها قال عطاء : يريد جيمع ما خلق من الجن والإنس والتنكير للتفخيم وقيل المراد نفس آدم (5/637)
8 - { فألهمها فجورها وتقواها } أي عرفها وأفهمها حالهما وما فيهما من الحسن والقبح قال مجاهد : عرفها طريق الفجور والتقوى والطاعة والمعصية قال الفراء : فألهمها عرفها طريق الخير وطريق الشر كما قال : { وهديناه النجدين } قال محمد بن كعب : إذا أراد الله بعبده خيرا ألهمه الخير فعمل به وإذا أراد الله بعبده خيرا ألهمه الخير فعمل به وإذا أراد به الشر ألهمه الشر فعمل به قال ابن زيد : جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إيها للفجور واختار هذا الزجاج وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان قال الواحدي : وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام والإلهام أن يوقع في قلبه ويجعل فيه وإذا أوقع الله في قلب عبده شيئا ألزمه ذلك الشيء قال : وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه وفي الكافر فجوره (5/637)
9 - { قد أفلح من زكاها } أي قد فاز من زكى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب وظفر بكل محبوب وقد قدمنا أن هذا جواب القسم على الرجح وأصل الزكاة : النمو والزيادة ومنه زكا الزرع : إذا كثر (5/637)
10 - { وقد خاب من دساها } أي خسر من أضلها وأغواها قال أهل اللغة : دساها أصله دسسها من التدسيس وهو إخفاء الشيء في الشيء فمعنى دساها في الآية : أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح وكانت أجواد العرب تنزل الأمكنة المرتفعة ليشتهر مكانها فيقصدها الضيوف وكانت لئام العرب تنزل الخضاب والأمكنة المنخفضة ليخفى مكانها عن الوافدين وقيل معنى دساها : أغواها ومنه قول الشاعر :
( وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت ... حلائله منه أرامل ضيعا )
وقال ابن الأعرابي { وقد خاب من دساها } أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم (5/637)
11 - { كذبت ثمود بطغواها } الطغوى : اسم من الطغيان حملتهم على التكذيب والظغيان مجاوزة الحد في المعاصي والباء للسببية وقيل كذبت ثمود بطغواها أي بعذابها الذي وعدت به وسمي العذاب طغوى لأنه طغى عليهم فتكون الباء على هذا للتعدية وقال محمد بن كعب : بطغواها : أي بأجمعها قرأ الجمهور { بطغواها } بفتح الطاء وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة بضم الطاء فعلى القراءة الأولى هو مصدر بمعنى الطغيان وإنما قلبت الياء والواو للفرق بين الاسم والصفة لأنهم يقبلون الياء في الأسماء كثيرا نحو تقوى وسروى وعلى القراءة الثانية هو مصدر كالرجعى والحسنى ونحوهما وقيل هما لغتان (5/638)
13 - { إذ انبعث أشقاها } العامل في الظرف كذبت أو بطغواها : أي حين قام أشقى ثمود وهو قدار بن سالف فعقر الناقة ومعنى انبعث : انتدب لذلك وقام به يقال بعثته على الأمر فانبعث له وقد تقدم بيان هذا في الأعراف (5/638)
13 - { فقال لهم رسول الله } يعني صالحا { ناقة الله } قال الزجاج : ناقة الله منصوبة على معنى ذروا ناقة الله قال الفراء : حذرهم إياها وكل تحذير فهو نصب { وسقياها } معطوف على ناقة وهو شربها من الماء قال الكلبي ومقاتل : قال لهم صالح : ذروا ناقة الله فلا تعقروها وذروا سقياها وهو شربها من النهر فلا تعرضوا له يوم شربها فكذبوا بتحذيره إيهاهم (5/638)
14 - { فعقروها } أي عقرها تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم قال الفراء : عقرها اثنان والعرب تقول : هذان أفضل الناس وهذان خير الناس فلهذا لم يقل أشقياها { فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها } أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب وحقيقة الدمدمة : تضعيف العذاب وترديده يقال دمدمت على الشيء : أي أطبقت عليه ودمدم عليه القبر : أي أطبقه وناقة مدمومة : إذا لبسها الشحم والدمدمة : إهلاك باستئصال كذا قال المؤرج قال في الصحاح : دمدمت الشيء : إذا ألزقته بالأرض وطحطحته ودمدم الله عليه : أي أهلكهم وقال ابن الأعرابي : دمدم إذا عذب عذابا تاما والضمير في فسواها يعود إلى الدمدمة : أي فسوى الدمدمة عليهم وعمهم بها فاستوت على صغيرهم وكبيرهم وقيل يعود إلى الأرض : أي فسوى الأرض عليهم فجعلهم تحت التراب وقيل تعود إلى الأمة : أي ثمود قال الفراء : سوى الأمة أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها بمعنى سوى بينهم قرأ الجمهور { فدمدم } بميم بين الدالين وقرأ ابن الزبير فدمدم بهاء بين الدالين قال القرطبي : وهما لغتان كما يقال : امتقع لونه واهتقع لونه (5/638)
15 - { ولا يخاف عقباها } أي فعل الله ذلك بهم غير خائف من عاقبة ولا تبعة والضمير في عقباها يرجع إلى الفعلة أو إلى الدمدمة المدلول عليها بدمدم وقال السدي والضحاك والكلبي : إن الكلام يرجع إلى العاقر لا إلى الله سبحانه : أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع وقيل لا يخاف رسول الله صلى الله عليه و سلم عاقبة إهلاك قومه ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم لأنه قد أنذرهم والأول أولى قرأ الجمهور { ولا يخاف } بالواو وقرأ نافع وابن عامر بالفاء
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس { وضحاها } قال : ضوئها { والقمر إذا تلاها } قال : تبعها { والنهار إذا جلاها } قال : أضاءها { والسماء وما بناها } قال : الله بنى السماء { والأرض وما طحاها } قال : دحاها { فألهمها فجورها وتقواها } قال : علمها الطاعة والمعصية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه : { والأرض وما طحاها } يقول : قسمها { فألهمها فجورها وتقواها } قال : من الخير والشر وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضا { فألهمها } قال : ألزمها فجورها وتقواها وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمران بن حصين [ أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قد قضي عليهم ومضى في قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم نبيهم واتخذت عليهم به الحجة قال : بل شيء قد قضي عليهم ؟ قال : فلم يعملون إذن ؟ قال : من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } ] وسيأتي في السورة التي بعد هذه نحو هذا الحديث وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ] وأخرجه ابن المنذر الطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس وزاد [ كان إذا تلا هذه الآية { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } قال : فذكره ] وزاد أيضا وهو في الصلاة وأخرج حديث زيد بن أرقم مسلم أيضا وأخرج نحوه أحمد من حديث عائشة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { قد أفلح من زكاها } يقول : قد أفلح من زكى الله نفسه { وقد خاب من دساها } يقول : قد خاب من دس الله نفسه فأضله { ولا يخاف عقباها } قال : لا يخاف من أحد تبعة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { وقد خاب من دساها } يعني مكر بها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي من طريق وجويبر عن الضحاك عن ابن عباس [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في قوله : { قد أفلح من زكاها } الآية : أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس خيبها الله من كل خير ] وجويبر ضعيف وأخرج ابن جرير عنه أيضا { بطغواها } قال : اسم العذاب الذي جاءها الطغوى فقال : كذبت ثمود بعذابها وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال : [ خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال : { إذ انبعث أشقاها } قال : انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة ] وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والبغوي والطبراني وابن مردويه والحاكم وأبو نعيم في الدلائل عن عمار بن ياسر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي : ألا أحدثك بأشقى الناس ؟ قال بلى قال رجلان : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك على هذا ] يعني قرنه [ حتى تبتل منه هذه ] يعني لحيته (5/639)
هي إحدى وعشرون آية
وهي مكية عند الجمهور وقيل مدنية وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة { والليل إذا يغشى } بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج البيهقي في سننه عن جابر بن سمرة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الظهر والعصر { والليل إذا يغشى } ونحوها ] وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم الهاجرة فرفع صوته فقرأ { والشمس وضحاها } { والليل إذا يغشى } فقال له أبي بن كعب : يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء ؟ قال : لا ولكن أردت أن أوقت لكم ] وقد تقدم حديث [ فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إني لأقول إن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل { والليل إذا يغشى }
قوله : 1 - { والليل إذا يغشى } أي يغطي بظلمته ما كان مضيئا قال الزجاج : يغشى الليل الأفق وجميع ما بين السماء والأرض فيذهب ضوء النهار وقيل يغشى النهار وقيل يغشى الأرض والأول أولى (5/640)
2 - { والنهار إذا تجلى } أي ظهر وانكشف ووضح لزوال الظلمة التي كانت في الليل وذلك بطلوع الشمس (5/641)
3 - { وما خلق الذكر والأنثى } ما هنا هي الموصولة : أي والذي خلق الذكر والأنثى وعبر عن من بما للدلالة على الوصفية ولقصد التفخيم : أي والقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى قال الحسن والكلبي : معناه والذي خلق الذكر والأنثى فيكون قد أقسم بنفسه قال أبو عبيدة : وما خلق : أي ومن خلق قال مقاتل : يعني وخلق الذكر والأنثى فتكون ما على هذا مصدرية قال الكلبي ومقاتل : يعني آدم وحواء والظاهر العموم قرأ الجمهور وما خلق الذكر والأنثى وقرأ ابن مسعود والذكر والأنثى بدون ما خلق (5/641)
4 - { إن سعيكم لشتى } هذا جواب القسم : أي إن عملكم لمختلف : فمنه عمل للجنة ومنه عمل للنار قال جمهور المفسرين : السعي العمل فساع في فكاك نفسه وساع في عطبها وشتى جمع شتيت : كمرضى ومريض وقيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعض (5/641)
5 - { فأما من أعطى واتقى } أي بذل ماله في وجوه الخير واتقى محارم الله التي نهى عنها (5/641)
6 - { وصدق بالحسنى } أي بالخلف من الله قال المفسرون : فأما من أعطى المعسرين وقال قتادة : أعطى حق الله الذي عليه وقال الحسن : أعطى الصدق من قلبه وصدق بالحسنى : أي بلا إله إلا الله وبه قال الضحاك والسلمي وقال مجاهد : بالحسنى بالجنة وقال زيد بن أسلم : بالصلاة والزكاة والصوم والأول أولى قال قتادة : بالحسنى : أي بموعود الله الذي وعده أن يثيبه قال الحسن : بالخلف من عطائه واختار هذا ابن جرير (5/641)
7 - { فسنيسره لليسرى } أي فسنهيئه للخصلة الحسنى وهي عمل الخير والمعنى : فسنيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بالطاعة لله قال الواحدي : قال المفسرون : نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق اشترى ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة يعذبونهم في الله (5/642)
8 - { وأما من بخل واستغنى } أي بخل بماله فلم يبذله في سبل الخير واستغنى : أي زهد في الأجر والثواب أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة (5/642)
9 - { وكذب بالحسنى } أي بالخلف من الله عز و جل وقال مجاهد : بالجنة وروي عنه أيضا أنه قال : بلا إله إلا الله (5/642)
10 - { فسنيسره للعسرى } أي فسنيئه للخصلة العسرى ونسهلها له حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ويضعف عن فعلها فيؤديه ذلك إلى النار قال مقاتل : يعسر عليه أن يعطي خيرا قيل العسرى الشر وذلك أن الشر يؤدي إلى العذاب والعسرة في العذاب والمعنى : سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه قال الفراء : سنيسره سنهيئه والعرب تقول : قد يسرت الغنم إذا ولدت أو تهيأت للولادة قال الشاعر :
( هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا إن يسرت غنماهما ) (5/642)
11 - { وما يغني عنه ماله إذا تردى } أي لا يغني عنه شيئا ماله الذي بخل به أو أي شيء يغني عنه إذا تردى : أي هلك يقال ردي الرجل يردي ردي وتردى يتردى : إذا هلك وقال قتادة وأبو صالح وزيد بن أسلم : إذا تردى : إذا سقط في جهنم يقال ردي في البئر وتردى : إذا سقط فيها ويقال ما أدري أين ردي : أي أين ذهب ؟ (5/642)
12 - { إن علينا للهدى } هذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها : أي إن علينا البيان قال الزجاج : علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال قال قتادة : على الله البيان : بيان حرامه وطاعته ومعصيته قال الفراء : من سلك الهدى فعلى الله سبيله لقوله : { وعلى الله قصد السبيل } يقول : من أراد الله الإضلال كقوله : { سرابيل تقيكم الحر } وقيل المعنى : إن علينا ثواب هداه الذي هديناه (5/642)
13 - { وإن لنا للآخرة والأولى } أي لنا كل ما في الآخرة وكل ما في الدنيا نتصرف به كيف نشاء فمن أرادهما أو إحداهما فليطلب ذلك منا وقيل المعنى : إن لنا ثواب الآخرة وثواب الدنيا (5/642)
14 - { فأنذرتكم نارا تلظى } أي حذرتكم وخوفتكم نارا تتوقد وتتوهج وأصله تتلظى فحذقت إحدى التاءين تخفيفا وقرأ على الأصل عبيد بن عمير ويحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف (5/643)
15 - { لا يصلاها إلا الأشقى } أي يصلاها صليا لازما على جهة الخلود إلا الأشقى وهو الكافر وإن صليها غيره من العصاة فليس صليه كصليه والمراد بقوله يصلاها : يدخلها أو يجد صلاها وهو حرها (5/643)
ثم وصف الأشقى فقال : 16 - { الذي كذب وتولى } أي كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وأعرض عن الطاعة والإيمان قال الفراء { إلا الأشقى } إلا من كان شقيا في علم الله جل ثناؤه قال أيضا : لم يكن كذب برد ظاهر ولكن قصر عما أمر به من الطاعة فجعل تكذيبا كما تقول لقي فلان العدو فكذب : إذا نكل ورجع عن اتباعه قال الزجاج : هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار والله سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجدير أن يعذب به وقد قال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب لم يكن في قوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فائدة وقال في الكشاف : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل الأشقى وجعل مختصا بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له وقيل الأتقى وجعل مختصا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف وبالأتقى أبو بكر الصديق (5/643)
ومعنى 17 - { سيجنبها الأتقى } سيباعد عنها المتقي للكفر اتقاء بالغا قال الواحدي : الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين انتهى والأولى حمل الأشقى والأتقى على كل متصف بالصفتين المذكورتين ويكون المعنى أنه لا يصلاها صليا تاما لازما إلا الكامل في الشقاء وهو الكافر ولا يجنبها ويبعد عنها تبعيدا كاملا بحيث لا يحوم حولها فضلا عن أن يدخلها إلا الكامل في التقوى فلا ينافي هذا دخول بعض العصاة من المسلمين النار دخولا غير لازم ولا تبعيد بعض من لم يكن كامل التقوى عن النار تبعيدا غير بالغ مبلغ تبعيد الكامل في التقوى عنها والحاصل أن من تمسك من المرجئة بقوله : { لا يصلاها إلا الأشقى } زاعما أن الأشقى الكافر لأنه الذي كذب وتولى ولم يقع التكذيب من عصاة المسلمين فيقال له : فما تقول في قوله : { وسيجنبها الأتقى } فإنه يدل على أنه لا يجنب النار إلا الكامل في التقوى فمن لم يكن كاملا فيها كعصاة المسلمين لم يكن ممن يجنب النار فإن أولت الأتقى بوجه من وجوه التأويل لزمك مثله في الأشقى فخذ إليك هذه مع تلك وكن كما قال الشاعر :
( على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخرج منه لا علي ولا ليه )
وقيل أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي كما قال طرفة بن العبد :
( تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد )
أي بواحد ولا يخفاك أنه ينافي هذا وصف الأشقى بالتكذيب فإن ذلك لا يكون إلا من الكافر فلا يتم ما أراده قائل هذا القول من شمول الوصفين لعصاة المسلمين (5/643)
ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى فقال : 18 - { الذي يؤتي ماله } أي يعطيه ويصرفه في وجوه الخير وقوله : { يتزكى } في محل نصب على الحال من فاعل يؤتي : أي حال كونه يطلب أن يكون عند الله زكيا لا يطلب رياء ولا سمعة ويجوز أن يكون بدلا من يؤتى داخلا معه في حكم الصلة قرأ الجمهور { يتزكى } مضارع تزكى وقرأ علي بن الحسين بن علي تزكى بإدغام التاء في الزاي (5/644)
19 - { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون التزكي على جهة الخلوص غير مشوب بشائبة تنافي الخلوص : أي ليس ممن يتصدق بماله ليجازى بصدقته نعمة لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها وإنما يبتغي بصدقته وجه الله تعالى ومعنى الآية : أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازى عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها وإنما قال نجزي مضارعا مبنيا للمفعول لأجل الفواصل والأصل يجزيها إياه أو يجزيه إياها (5/644)
20 - { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } قرأ الجمهور { إلا ابتغاء } بالنصب ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول له على المعنى : أي لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربه الأعلى ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول على التأويل : أي ما أعطيتك ابتغاء جزائك بل ابتغاء وجه الله وقرأ يحيى بن وثاب بالرفع على البدل من محل نعمة لأن محلها الرفع إما على الفاعلية وإما على الابتداء ومن مزيدة والرفع لغة تميم لأنهم يجوزون البدل في المنقطع ويجرونه مجرى المتصل قال مكي : وأجاز الفراء الرفع في ابتغاء على البدل من موضع نعمة وهو بعيد قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع عليها قراءة واستبعاده هو البعيد فإنها لغة فاشية وقرأ الجمهور أيضا ابتغاء بمالد وقرأ ابن أبي عبلة بالقصر والأعلى نعت للرب (5/644)
21 - { ولسوف يرضى } اللام هي الموطئة للقسم : أي وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم قرأ الجمهور { يرضى } مبنيا للفاعل وقرئ مبنيا للمفعول
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس { والليل إذا يغشى } قال : إذا أظلم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إن أبا بكر الصديق اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه لله فأنزل الله { والليل إذا يغشى } إلى قوله : { إن سعيكم لشتى } سعي أبي بكر وأمية وأبي إلى قوله : { وكذب بالحسنى } قال : لا إله إلا الله إلى قوله : { فسنيسره للعسرى } قال : النار وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { فأما من أعطى } من الفضل { واتقى } قال : اتقى ربه { وصدق بالحسنى } قال : صدق بالخلف من الله { فسنيسره لليسرى } قال : للخير من الله { وأما من بخل واستغنى } قال : بخل بماله واستغنى عن ربه { وكذب بالحسنى } قال : بالخلف من الله { فسنيسره للعسرى } قال للشر من الله وأخرج ابن جرير عنه { وصدق بالحسنى } قال : أيقن بالخلف وأخرج ابن جرير عنه أيضا { وصدق بالحسنى } يقول : صدق بلا إله إلا الله { وأما من بخل واستغنى } يقول : من أغناه الله فلخل بالزكاة وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة وكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن فقال له أبوه : أي بني أراك تعتق أناسا ضعفا فلو أنك تعتق رجالا جلدا يقومون معك ويمنعوك ويدفعون عنك قال أي أبت إنما أريد ما عند الله قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى } وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى } قال : أبو بكر الصديق : { وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى } قال : أبو سفيان بن حرب وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن علي بن أبي طالب قال : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في جنازة فقال [ ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة مقعده من النار فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى } إلى قوله { للعسرى } ] وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله [ أن سراقة بن مالك قال : يا رسول الله في أي شيء نعمل ؟ أفي شيء ثبتت فيه المقادير وجرت به الأقلام أم في شيء يستقبل فيه العمل ؟ قال : بلى في شيء ثبتت فيه المقادير وجرت فيه الأقلام قال سراقة : ففيم العمل إذن يا رسول الله ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { فأما من أعطى واتقى } إلى قوله { فسنيسره للعسرى } ] وقد تقدم حديث عمران بن حصين في السورة التي قبل هذه وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : [ لتدخلن الجنة إلا من يأبى قالوا : ومن يأبى أن يدخل الجنة ؟ فقرأ { الذي كذب وتولى } ] وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أمامة قال : لا يبقى أحد من هذه الأمة إلا أدخله الله الجنة إلا من شرد على الله كما يشرد البعير السوء على أهله فمن لم يدقني فإن الله يقول : { لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى } كذب بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وتولى عنه وأخرج أحمد والحاكم والضياء عن أبي أمامة الباهلي أنه سئل عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ألا كلكم يدخل الله الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله ] وأخرج أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم : [ لا يدخل النار إلا شقي قيل ومن الشقي ؟ قال : الذي لا يعمل لله بطاعة ولا يترك لله معصية ] وأخرج أحمد والبخاري عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ] وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله : بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها وزنيرة وأم عيسى وأمة بني المؤمل وفيه نزلت { وسيجنبها الأتقى } إلى آخر السورة وأخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله بن الزبير ما قدمنا عنه وزاد فيه فنزلت فيه هذه الآية { فأما من أعطى واتقى } إلى قوله : { وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى } وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عنه نحو هذا من وجه آخر وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وسيجنبها الأتقى } قال : هو أبو بكر الصديق (5/644)
هي إحدى عشرة آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس : نزلت { والضحى } بمكة وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن المقري قال : سمعت عكرمة بن سليمان يقول : [ قرأت على إسماعيل بن قسطيطين فلما بلغت والضحى قال : كبر حتى تختم وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك وأخبره أبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره بذلك ] وأبو الحسن المقري المذكور هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقري قال ابن كثير : فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة وكان إماما في القراءات وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال : لا أخذت عنه وكذلك أبو جعفر العقيلي قال : هو منكر الحديث قال ابن كثير ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته فقال بعضهم : يكبر من آخر الليل إذا يغشى وقال آخرون : من آخر الضحى وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول الله أكبر ويقتصر ومنهم من يقول الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر وذكروا في مناسبة التكبير من أول الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وفتر تلك المدة ثم جاء الملك فأوحى إليه { والضحى * والليل إذا سجى } السورة كبر فرحا وسرورا ولم يرووا ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جندب البجلي قال : [ اشتكى النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فأتته امرأة فقالت : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم يقربك ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } ] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن جندب قال : أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه و سلم فقال المشركون : قد ودع محمد فنزلت { ما ودعك ربك وما قلى } وأخرج الطبراني عن جندب قال : احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه و سلم فقالت بعض بنات عمه : ما أرى صاحبك إلا قد قلاك فنزلت { والضحى } وأخرجه الترمذي وصححه وابن أبي حاتم عن جندب وفيه فقالت له امرأة : ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت { والضحى }
1 - { والضحى } والمراد بالضحى هنا النهار كله (5/646)
لقوله : 2 - { والليل إذا سجى } فلما قابل الضحى بالليل دل على أن المراد به النهار كله لا بعضه وهو في الأصل اسم لوقت ارتفاع الشمس كما تقدم في قوله : { والشمس وضحاها } والظاهر أن المراد به الضحى من غير تعيين وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : إن المراد به الضحى الذي كلم الله فيه موسى والمراد بقوله : { والليل إذا سجى } ليلة المعراج وقيل المراد بالضحى هو الساعة التي خر فيها السحرة سجدا كما في قوله : { وأن يحشر الناس ضحى } وقيل المقسم به مضاف مقدر كما تقدم في نظائره : أي ورب الضحى وقيل تقديره : وضحاوة الضحى ولا وجه لهذا فلله سبحانه أن يقسم بما شاء من خلقه : وقيل الضحى نور الجنة ولليل ظلمة النار وقيل الضحى نور قلوب العارفين والليل سواد قلوب الكافرين { والليل إذا سجى } أي سكن كذا قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة وغيرهم : يقال ليلة ساجية : إي ساكنة ويقال للعين إذا سكن طرفها ساجية يقال سجا الشيء يسجو سجوا : إذا سكن قال عطاء : سجا إذا غطي بالعظمة وروى ثعلب عن ابن الأعرابي : سجا امتد ظلامه وقال الأصمعي : سجو الليل تغطيته النهار مثل ما يسجى الرجل بالثوب وقال الحسن : غشى بظلامه وقال سعيد بن جبير : أقبل وقال مجاهد : أيضا استوى والأول أولى وعليه جمهور المفسرين وأهل اللغة ومعنى سكونه : استقرار ظلامه واستواؤه فلا يزاد بعد ذلك (5/648)
3 - { ما ودعك ربك } هذا جواب القسم : أي ما قطعك قطع المودع : قرأ الجمهور { ما ودعك } بتشديد الدال من التوديع وهو توديع المفارق وقرأ ابن عباس وعروة بن الزبير وابن هاشم وابن أبي عبلة وأبو حيوة بتخفيفها من قولهم ودعه : أي تركه ومنه قول الشاعر :
( سل أميري ما الذي غيره ... عن وصالي اليوم حتى ودعه )
والتوديع أبلغ في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك قال المبرد : لا يكادون يقولون ودع ولا وذر لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك قال أبو عبيدة : ودعك من التوديع كما يودع المفارق وقال الزجاج : لم يقطع الوحي وقد قدمنا سبب نزول هذه الآية في فاتحة هذه السورة { وما قلى } القلى البغض يقال قلاه يقليه قلاء قال الزجاج : وما أبغضك وقال : وما قلى ولم يقل وما قلاك لموافقة رؤوس الآي والمعنى وما أبغضك ومنه قول امرئ القيس :
( ولست بمقلي الخلال ولا قالي ) (5/648)
4 - { وللآخرة خير لك من الأولى } اللام جواب قسم محذوف : أي الجنة خير لك من الدنيا مع أنه صلى الله عليه و سلم قد أوتي في الدنيا من شرف النبوة ما يصغر عنده كل شرف ويتضاءل بالنسبة إليه كل مكرمة في الدنيا ولكنها لما كانت الدنيا بأسرها مشوبة بالأكدار منغصة بالعوارض البشرية وكانت الحياة فيها كأحلام نائم أو كظل زائل لم تكن بالنسبة إلى الآخرة شيئا ولما كانت طريقا إلى الآخرة وسببا لنيل ما أعده الله لعبادة الصالحين من الخير العظيم بما يفعلونه فيها من الأعمال الموجبة للفوز بالجنة كان فيها خير في الجملة من هذه الحيثية (5/649)
5 - { ولسوف يعطيك ربك فترضى } هذه اللام فيل هي لام الابتداء دخلت على الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت سوف يعطيك الخ وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة وقيل هي للقسم قال أبو علي الفارسي : ليست هذه اللام هي التي في قولك : إن زيدا لقائم بل هي التي في قولك لأقومن ونابت سوف عن إحدى نوني التأكيد فكأنه قال : وليعطينك قيل المعنى : ولسوف يعطيك ربك الفتح في الدنيا والثواب في الآخرة فترضى وقيل الحوض والشفاعة وقيل ألف قصر من لؤلؤ أبيض تربه المسك وقيل غير ذلك والظاهر أنه سبحانه يعطيه ما يرضى به من خيري الدنيا والآخرة ومن أهم ذلك عنده وأقدمه لديه قبول شفاعته لأمته (5/649)
6 - { ألم يجدك يتيما فآوى } هذا شرع في تعداد ما أفاضله الله سبحانه عليه من النعم : أي وجدك يتيما لا أب لك فآوى : أي جعل لك مأوى تأوى إليه قرأ الجمهور { فآوى } بألف بعد الهمزة رباعيا من آواه يؤويه وقرأ أبو الأشهب فأوى ثلاثيا وهو إما بمعنى الرباعي أو هو من أوى له إذا رحمه وعن مجاهد معنى الآية : ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك فجعل يتيما من قولهم درة يتيمة وهو بعيد جدا والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفي على أبلغ وجه فكأنه قال : قد وجدك يتيما فآوى والوجود بمعنى العلم ويتميا مفعوله الثاني وقيل بمعنى المصادفة ويتميا حال من مفعوله (5/649)
7 - { ووجدك ضالا فهدى } معطوف على المضارع المنفي وقيل هو معطوف على ما يقتضيه الكلام الذي قبله كما ذكرنا : أي قد وجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى والضلال هنا بمعنى الغفلة كما في قوله : { لا يضل ربي ولا ينسى } وكما في قوله : { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } والمعنى : أنه وجدك غافلا عما يراد بك من أمر النبوة واختار هذا الزجاج وقيل معنى ضالا : لم تكن تدري القرآن ولا الشرئع فهداك لذلك وقال الكلبي والسدي والفراء : وجدك في قوم ضلال فهداهم الله لك وقيل وجدك طالبا للقبلة فهداك إليها كما في قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها } ويكون الضلال بمعنى الطلب وقيل وجدك ضائعا في قومك فهداك إليه ويكون الضلال بمعنى الضياع وقيل وجدك محبا للهداية فهداك إليها ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قول الشاعر :
( عجبا لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا )
وقيل وجدك ضالا في شعاب مكة فهداك : أي ردك إلى جدك عبد المطلب (5/650)
8 - { ووجدك عائلا فأغنى } أي وجدك فقيرا لا مال لك فأغناك يقال عال الرجل يعيل علية : إذا افتقر ومنه قول أحيحة بن الجلاح :
( فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل )
أي يفتقر قال الكلبي : فأغنى : أي رضاك بما أعطاك من الرزق واختار هذا الفراء قال : لأنه لم يكن غنيا من كثرة ولكن الله سبحانه رضاه بما آتاه وذلك حقيقة الغنى وقال الأخفش : عائلا ذا عيال ومنه قول جرير :
( الله أنزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل )
وقيل فأغنى بما فتح لك من الفتوح وفيه نظر لأن السورة مكية وقيل بمال خديجة بنت خويلد وقيل وجدك فقيرا من الحجج والبراهين فأغناك بها قرأ الجمهور { عائلا } وقرأ محمد بن السميفع واليماني عيلا بكسر الياء المشددة كسيد (5/650)
ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال : 9 - { فأما اليتيم فلا تقهر } أي لا تقهره بوجه من وجوه القهر كائنا من كان قال مجاهد : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما قال الأخفش : لا تسلط عليه بالظلم ادفع إليه حقه واذكر يتمك قال الفراء والزجاج : لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه وكذا كانت العرب تفعل في حق اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى قرأ الجمهور { فلا تقهر } بالقاف وقرأ ابن مسعود والنخعي والشعبي والأشهب العقيلي تكهر بالكاف والعرب تعاقب بين القاف والكاف قال النحاس : إنما يقال كهره : إذا اشتد عليه وغلظ وقيل القهر الغلبة والكهر الزجر قال أبو حيان : هي لغة : يعني قراءة الكاف مثل قراءة الجمهور واليتيم منصوب بتقهر (5/651)
10 - { وأما السائل فلا تنهر } يقال نهره وانتهره : إذا استقبله بكلام يزجره فهو نهي عن زجر السائل والإغلاظ له ولكن يبذل له اليسير أو يرده بالجميل قال الواحدي : قال المفسرون : يريد السائل على الباب يقول لا تنهره : إذا سألك فقد كنت فقيرا فإما تطعمه وإما أن ترده ردا لينا قال قتادة : معناه رد السائل برحمة ولين وقيل المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين فلا تنهره بالغلظة والجفوة وأجبه برفق ولين كذا قال سفيان والسائل منصوب بتنهر والتقدير : مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم ولا تنهر السائل (5/651)
11 - { وأما بنعمة ربك فحدث } أمره سبحانه بالتحدث بنعم الله عليه وإظهارها للناس وإشهارها بينهم والظاهر النعمة على العموم من غير تخصيص بفرد من أفرادها أو نوع من أنواعها وقال مجاهد والكلبي : المراد بالنعمة هنا القرآن قال الكلبي : وكان القرآن أعظم ما أنعم الله به عليه فأمره أن يقرأه قال الفراء : وكن يقرأه ويحدث به وقال مجاهد أيضا : المراد بالنعمة النبوة التي أعطاه الله واختار هذا الزجاج فقال : أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي آتاك الله وهي أجل النعم وقال مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من الهدى بعد الضلالة وجبر اليتم والإغناء بعد العيلة فاشكر هذه النعم والتحدث بنعمة الله شكر والجار والمجرور متعلق بحدث والفاء غير مانعة من تعلقه به وهذه النواهي لرسول الله صلى الله عليه و سلم هي نواه له ولأمته لأنهم أسوته فكل فرد من أفراد هذه الأمة منهي بكل فرد من أفراد هذه النواهي
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { والليل إذا سجى } قال : إذا أقبل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه { إذا سجى } قال : إذا ذهب { ما ودعك ربك } قال ما تركك { وما قلى } قال : ما أبغضك وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عرض علي ما هو مفتوح لأمتي بعدي فأنزل الله { وللآخرة خير لك من الأولى } ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم عنه أيضا قال [ عرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم ما هو مفتوح على أمته من بعده فسر بذلك فأنزل الله { ولسوف يعطيك ربك فترضى } فأعطاه في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم ] وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } قال : رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : من رضا محمد أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار وأخرج الخطيب في التلخيص من وجه آخر عنه أيضا في الآية قال : لا يرضى محمد وأحد من أمته في النار ويدل على هذا ما أخرجه مسلم عن ابن عمرو [ أن النبي صلى الله عليه و سلم تلا قول الله في إبراهيم { فمن تبعني فإنه مني } وقول عيسى { إن تعذبهم فإنهم عبادك } الآية فرفع يديه وقال : اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك ] وأخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال : قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي ؟ قال : إي والله حدثني محمد بن الحنفية عن علي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أشفع لأمتي حتى يناديني ربي أرضيت يا محمد ؟ فأقول : نعم يا رب رضيت ثم أقبل علي فقال : إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } قلت إنا لنقول ذلك قال : فكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في كتاب الله { ولسوف يعطيك ربك فترضى } وهي الشفاعة ] وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا { ولسوف يعطيك ربك فترضى } ] وأخرج العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من جلد الإبل فلما نظر إليها قال : يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة فأنزل الله { ولسوف يعطيك ربك فترضى } ] وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته قلت : قد كانت قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيى الموتى فقال تعالى : يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك ؟ ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أضع عنك وزرك ؟ ألم أرفع لك ذكرك ؟ قلت بلى يا رب ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : [ لما نزلت { والضحى } على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يمن علي ربي وأهل أن يمن ربي ] وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { ووجدك ضالا فهدى } قال : وجدك بين الضالين فاستنقذك من ضلالتهم وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن علي في قوله : { وأما بنعمة ربك فحدث } قال : ما علمت من الخير وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والبيهقي في الشعب والخطيب في المتفق قال السيوطي بسند ضعيف عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر : [ من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر والجماعة رحمة ] وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه أبو يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أبلى بلاء فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ] وأخرج البخاري في الأدب و أبو داوود و الضياء عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أعطي عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط فإنه كلابس ثوب زور ] وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي عن عائشة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أولي معروفا فليكافئ به فإن لم يستطع فليذكره فإن من ذكره فقد شكره ] (5/651)
سورة ألم نشرح
هي ثمان آيات
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت ألم نشرح - بمكة وزاد : بعد الضحى وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة ألم نشرح بمكة
1 - { ألم نشرح لك صدرك } معنى شرح الصدر : بإذهاب ما يصد عن الإدراك والاستفهام إذا دخل على النفي قرره فصار المعنى : قد شرحنا لك صدرك وإنما خص الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات والمراد الامتنان عليه صلى الله عليه و سلم بفتح صدره وتوسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوة وحفظ الوحي وقد مضى القول في هذا عند تفسير قوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } (5/653)
2 - { ووضعنا عنك وزرك } معطوف على معنى ما تقدم لا على لفظه : أي قد شرحنا لك صدرك ووضعنا الخ ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان :
( ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح )
أي أنتم خير من ركب المطايا وأندى الخ قرأ الجمهور { نشرح } بسكون الحاء بالجزم وقرأ أبو جعفر المنصور العباسي بفتحها قال الزمخشري : قالوا لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها وقال ابن عطية : إن الأصل ألم نشرحن بالنون الخفيفة ثم إبدالها ألفا ثم حذفها تخفيفا كما أنشد أبو زيد :
( من أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر )
بفتح الراء من لم يقدر ومثله قوله :
( اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس )
بفتح الباء من اضرب وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم بلم وهو قليل جدا كقوله :
( يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخا على كرسيه معما )
فقد تركبت هذه القراءة من ثلاثة أصول كلها ضعيفة : الأول توكيد المجزوم بلم وهو ضعيف الثاني إبدالها ألفا وهو خاص بالوقف فإجراء الوصل مجرى الوقف ضعيف والثالث حذف الألف وهو ضعيف أيضا لأنه خلاف الأصل وخرجها بعضهم على لغة بعض العرب الذين ينصبون بلم ويجزمون بلن ومنه قول الشاعر :
( في كل ما هم أمضى رأيه قدما ... ولم يشاور في إقدامه أحدا )
بنصب الراء من يشاور وهذه اللغة لبعض العرب ما أظنها تصح وإن صحت فليست من اللغات المعتبرة فإنها جاءت بعكس ما عليه لغة العرب بأسرها وعلى كل حال فقراءة هذا الرجل مع شدة جوره ومزيد ظلمه وكثرة جبروته وقلة علمه ليست بحقيقة بالأشتغال بها والوزر : الذنب أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية قال الحسن وقتادة والضحاك ومقاتل : المعنى حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية وهذا كقوله : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } (5/654)
3 - { الذي أنقض ظهرك } قال المفسرون : أي أثقل ظهرك قال الزجاج : أثقله حتى سمع له نقيض : أي صوت وهذا مثل معناه : أنه لو كان حملا يحمل لسمع نقيض ظهره وأهل اللغة يقولون : أنقض الحمل ظهر الناقة : إذا سمع له صرير ومنه قول جميل :
( وحتى تداعت بالنقيض حباله ... وهمت ثواني زوره أن تحطما )
وقول العباس بن مرداس :
( وأنقض ظهري ما تطويت منهم ... وكنت عليهم مشفقا متحننا )
قال قتادة : كان للنبي صلى الله عليه و سلم ذنوب قد أثقلته فغفرها الله له وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له : وكذا قال أبو عبيدة وغيره وقرأ ابن مسعود وحللنا عنك وقرك (5/655)
ثم ذكر سبحانه منته عليه وكرامته فقال : 4 - { ورفعنا لك ذكرك } قال الحسن : وذلك أن الله لا يذكر في موضع إلا ذكر معه صلى الله عليه و سلم قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله قال مجاهد : { ورفعنا لك ذكرك } يعني بالتأذين وقيل المعنى : ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله وأمرناهم بالبشارة به وقيل رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وعند المؤمنين في الأرض والظاهر أن هذا الرفع لذكره الذي امتن الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه وإخباره صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرا وأمر الله بطاعته كقوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وقوله : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقوله : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وغير ذلك وبالجملة فقد ملأ ذكره الجليل السموات والأرضين وجعل الله له من لسان الصدق والذكر الحسن والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } الله صل وسلم عليه وعلى آله عدد ما صلى عليه المصلون بكل لسان في كل زمان وما أحسن قول حسان :
( أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهور يلوح ويشهد )
( وضم الإله اسم النبي مع اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد )
( وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد ) (5/655)
5 - { فإن مع العسر يسرا } أي إن مع الضيقة سعة ومع الشدة رخاء ومع الكرب فرج وفي هذا وعد منه سبحانه بأن كل عسير يتيسر وكل شديد يهون وكل صعب يلين (5/656)
ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريرا وتأكيدا فقال مكررا له بلفظ 6 - { إن مع العسر يسرا } أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا آخر لما تقرر من أنه إذا أعيد المعرف يكون الثاني عين الأول سواء كان المراد به الجنس أو العهد بخلاف المنكر إذا أعيد فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأول في الغالب ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في معنى هذه الآية لن يغلب عسر يسرين قال الواحدي : وهذا قول النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة والمفسرين على أن العسر واحد واليسر اثنان قال الزجاج : ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثني ذكره فصار المعنى : إن مع العسر يسرين قيل والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرر قرأ الجمهور بسكون السين في العسر واليسر في الموضعين وقرأ يحيى بن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمها في الجميع (5/656)
7 - { فإذا فرغت فانصب } أي إذا فرغت من صلاتك أو من التبليغ أو من الغزو فانصب : أي فاجتهد في الدعاء واطلب من الله حاجتك أو فانصب في العبادة والنصب التعب يقال نصب ينصب نصبا : أي تعب قال قتادة والضحاك ومقاتل والكلبي : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك وكذا قال مجاهد قال الشعبي : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب : أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات وقال الحسن وقتادة : إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك وقال مجاهد أيضا : إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك (5/657)
8 - { وإلى ربك فارغب } قال الزجاج : أي اجعل رغبتك إلى الله وحده قال عطاء : يريد أنه يضرع إليه راهبا من النار راغبا في الجنة والمعنى : أنه يرغب إليه سبحانه لا إلى غيره كائنا من كان فلا يطلب حاجاته إلا منه ولا يعول في جميع أموره إلا عليه قرأ الجمهور فارغب وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة فرغب بتشديد الغين : أي فرغب الناس إلى الله وشوقهم إلى ما عنده من الخير
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ألم نشرح لك صدرك } قال : شرح الله صدره للإسلام وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أتاني جبريل فقال : إن ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : إذا ذكرت ذكرت معي ] وإسناد ابن جرير هكذا : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد وأخرجه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق يونس بن عبد الأعلى به وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : { ورفعنا لك ذكرك } الآية قال : لا يذكر الله إلا ذكر معه وأخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم جالسا وحياله جحر فقال : العسر لو دخل العسر هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله { فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } ] ولفظ الطبراني [ وتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } ] وأخرج ابن النجار عنه مرفوعا نحوه وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا مرفوعا نحوه قال السيوطي وسنده ضعيف وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن ابي الدنيا في الصبر وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود مرفوعا [ لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه فيخرجه ولن يغلب عسر يسرين إن الله يقول : { فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } ] قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح قال فيه أبو حاتم الرازي في حديثه ضعف ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد الله بن مسعود وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فرحا مسرورا وهو يضحك ويقول : [ لن يغلب عسر يسرين إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ] وهذا مرسل وروي نحوه مرفوعا مرسلا عن قتادة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فإذا فرغت فانصب } الآية قال : إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء واسأل الله وارغب إليه وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال الله لرسوله : إذا فرغت من الصلاة وتشهدت فانصب إلى ربك وأسأله حاجتك وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن ابن مسعود { فإذا فرغت فانصب } إلى الدعاء { وإلى ربك فارغب } في المسألة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { فإذا فرغت فانصب } قال : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل (5/657)
هي ثمان آيات
وهي مكية في قول الجمهور وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : أنزلت سورة التين بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم في سفر فصلى العشاء فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا ولا قراءة منه ] وأخرج الخطيب عنه قال : [ صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم المغرب فقرأ : { والتين والزيتون } ] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في مسنده والطبراني عن عبد الله بن يزيد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ في المغرب والتين والزيتون ] وأخرج ابن قانع وابن السكن والشيرازي في الألقاب عن زرعة بن خليفة قال : [ اتيت النبي صلى الله عليه و سلم من اليمامة فعرض علينا الإسلام فأسلمنا فلما صلينا الغداة قرأ باتين والزيتون و { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ]
قال أكثر المفسرين : هو التين الذي يأكله الناس 1 - { والتين والزيتون } الذي يعصرون منه الزيت وإنما أقسم بالتين لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيأها لذلك وجعلها على مقدار اللقمة قال كثير من أهل الطب : إن التين أنفع الفواكه للبدن وأكثرها عذاء وذكروا له فوائد كما في كتب المفردات والمركبات وأما الزيتون فإنه يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم ويدخل في كثير من الأدوية وقال الضحاك : التين المسجد الحرام والزيتون المسجد الأقصى وقال ابن زيد : التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس وقال قتادة : التين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس وقال عكرمة وكعب الأحبار : التين دمشق والزيتون بيت المقدس
وليت شعري ما الحامل هؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ولا نقل وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية قال الفراء : سمعت رجلا يقول : التين جبال حلوان إلى همدان والزيتون جبال الشام قلت : هب أنك سمعت هذا الرجل فكان ماذا ؟ فليس بمثل هذا تثبت اللغة ولا هو نقل عن الشارع وقال محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيلياء وقيل إنه على [ حذف ] مضاف : أي ومنابت التين والزيتون قال النحاس : لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل ولا من قول ما لا يجوز خلافه (5/658)
2 - { وطور سينين } هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى اسمه الطور ومعنى سنين : المبارك الحسن بلغة الحبشة قاله قتادة : وقال مجاهد : هو المبارك بالسريانية وقال مجاهد والكلبي : سينين كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء لأنه جعل اسما للبقعة وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدسة كما في قوله { إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } وأعظم بركة حلت به ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه قرأ الجمهور سينين بكسر السين وقرأ ابن إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء بفتحها وهي لغة بكر وتميم وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والحسن وطلحة سيناء بالكسر والمد (5/660)
3 - { وهذا البلد الأمين } يعني مكة سماه أمينا لأنه آمن كما قال : { أنا جعلنا حرما آمنا } يقال أمن الرجل أمانة فهو أمين قال الفراء وغيره : الأمين بمعنى الآمن ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل (5/660)
4 - { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } هذا جواب القسم : أي خلقنا جنس الإنسان كائنا في أحسن تقويم وتعديل قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله خلق كل ذي روح مكبا على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده ومعنى التقويم : التعديل يقال : قومته فاستقام قال القرطبي : هو اعتداله واستواء شأنه كذا قال عامة المفسرين قال ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله خلقه حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما وهذه صفات الرب سبحانه وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله خلق آدم على صوته ] يعني على صفاته التي تقدم ذكرها قلت : وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه : { ليس كمثله شيء } وقوله : { ولا يحيطون به علما } ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق وعجيب الصنع فلينظر في كتاب العبر والاعتبار للجاحظ وفي الكتاب الذي عقده النيسابوري على قوله : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وهو في مجلدين ضخمين (5/660)
5 - { ثم رددناه أسفل سافلين } أي رددناه إلى أرذل العمر وهو الهرم والضعف بعد الشباب والقوة حتى يصير كالصبي فيخرف وينقص عقله كذا قال جماعة من المفسرين قال الواحدي : والسافلون هم الضعفاء والزمناء والأطفال والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا وقال مجاهد وأبو العالية والحسن : المعنى ثم رددنا الكافر إلى النار وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة ولا ينافي هذا قوله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } فلا مانع من كون الكفار والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل وقوله : { أسفل سافلين } إما حال من المفعول : أي رددناه حال كونه أسفل سافلين أو صفة لمقدر محذوف : أي مكانا أسفل سافلين (5/660)
6 - { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } هذا الاستثناء على القول الأول منقطع : أي لكن الذين آمنوا الخ ووجهه أن الهرم والرد إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن كما يصاب به الكافر فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى وعلى القول الثاني يكون الاستثناء متصلا من ضمير رددناه فإنه في معنى الجمع : أي رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } { فلهم أجر غير ممنون } أي غير مقطوع : أي فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الرد وقال : أسفل سافلين على الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع ولو قال أسفل سافل لجاز لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد وقيل معنى رددناه أسفل سافلين : رددناه إلى الضلال كما قال : { إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي إلا هؤلاء فلا يردون إلى ذلك (5/661)
7 - { فما يكذبك بعد بالدين } الخطاب للإنسان الكافر والاستفهام للتقريع والتوبيخ وإلزام الحجة : أي إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم وأنه يردك أسفل سافلين فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء ؟ وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم : أي أي شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين قال الفراء والأخفش : المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين كأنه قال : من يقدر على ذلك ؟ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر واختار هذا ابن جرير والدين : ومنه قول الشاعر :
( دنا تميما كما كانت أوائلنا ... دانت أوائلهم من سالف الزمن )
وقال الآخر :
( ولما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان )
( ولم ... يبق سوى العدوا ن دناهم كما دانوا ) (5/661)
8 - { أليس الله بأحكم الحاكمين } أي أليس الذي فعل ما فعل مما ذكرنا بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا ؟ حتى تتوهم عدم الإعادة والجزاء وفيه وعيد شديد للكفار ومعنى أحكم الحاكمين : أتقن الحاكمين في كل ما يخلق وقيل أحكام الحاكمين قضاء وعدلا والاستفهام إذا دخل على النفي صار الكلام إيجابا كما تقدم تفسير قوله : { ألم نشرح لك صدرك }
وقد أخرج الخطيب وابن عساكر قال السيوطي بسند فيه مجهول عن الزهري عن أنس قال : لما أنزلت سورة التين والزيتون على رسول الله صلى الله عليه و سلم فرح فرحا شديدا حتى تبين لنا شدة فرحه فسألنا ابن عباس عن تفسيرها فقال : التين بلاد الشام والزيتون بلاد فلسطين وطور سيناء الذي كلم الله عليه موسى وهذا البلد الأمين مكة { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } محمدا { ثم رددناه أسفل سافلين } عبدة اللات والعزى { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } أبو بكر وعمر وعثمان وعلي { فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين } إذ بعثك فيهم نبيا وجمعك على التقوى يا محمد ومثل هذا التفسير من ابن عباس لا تقوم به حجة لما تقدم من كون في إسناده ذلك المجهول وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والتين والزيتون } قال : مسجد نوح الذي بني على الجودي والزيتون قال : بيت المقدس { وطور سينين } قال : مسجد الطور { وهذا البلد الأمين } قال : مكة { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } { ثم رددناه أسفل سافلين } يقول : يرد إلى أرذل العمر كبر حتى ذهب عقله هم نفر كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم حين سفهت عقولهم فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم { فما يكذبك بعد بالدين } يقول : بحكم الله وأخرج ابن مردويه عنه نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضا { والتين والزيتون } قال : الفاكهة التي يأكلها الناس { وطور سينين } قال : الطور الجبل والسينين المبارك وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } قال في أعدل خلق { ثم رددناه أسفل سافلين } يقول : إلى أرذل العمر { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } يعني غير منقوص يقول فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر وكان يعمل في شبابه عملا صالحا كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه ولم يضره ما عمل في كبره ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله : { ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال : لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئا وأخرج ابن أبي حاتم عنه { ثم رددناه أسفل سافلين } يقول : إلى الكبر وضعفه فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له مثل أجر ما كان يعمل في شبيبته وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما ] وأخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا [ من قرأ التين والزيتون فقرأ { أليس الله بأحكم الحاكمين } فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ] وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا [ إذا قرأت التين والزيتون فقرأ { أليس الله بأحكم الحاكمين } فقل بلى ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ { أليس الله بأحكم الحاكمين } قال : سبحانك اللهم فبلى اهـ (5/662)
ويقال سورة العلق وهي تسع عشرة آية وقيل عشرون آية
وهي مكية بلا خلاف وهي أول ما نزل من القرآن وأخرج ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : أول ما نزل من القرآن { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن الأنباري والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن أبي موسى الأشعري قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } أول سورة أنزلت على محمد وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وصححه عن عائشة قالت : إن أول ما نزل من القرآن { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ويدل على أن هذه السورة أول ما نزل الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة وفيه فجاءه الحق وهو في غار حراء فقال له اقرأ الحديث وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن
قرأ الجمهور 1 - { اقرأ } بسكون الهمزة أمرا من القراءة وقرأ عاصم في رواية عنه بفتح الراء وكأنه قلب الهمزة ألفا ثم حذفها للأمر والأمر بالقراءة يقتضي مقروءا فالتقدير : اقرأ ما يوحى إليك أو ما نزل عليك أو ما أمرت بقراءته وقوله : { باسم ربك } متعلق بمحذوف هو حال : أي اقرأ ملتبسا باسم ربك أو مبتدئا باسم ربك أو مفتتحا ويجوز أن تكون الباء زائدة والتقدير : اقرأ اسم ربك كقول الشاعر :
( سود المحاجر لا يقرأن بالسور )
قاله أبو عبيدة : وقال أيضا : الاسم صلة : أي اذكر ربك وقيل الباء بمعنى على : أي اقرأ على اسم ربك يقال افعل كذا بسم الله وعلى اسم الله قاله الأخفش وقيل الباء للاستعانة : أي مستعينا باسم ربك ووصف الرب بقوله : { الذي خلق } لتذكير النعمة لأن الخلق هو أعظم النعم وعليه يترتب سائر النعم قال الكلبي : يعني الخلائق (5/663)
2 - { خلق الإنسان من علق } يعني بني آدم والعلقة الدم الجامد وإذا جرى فهو المفسوح وقال : من علق بجمع علق لأن المراد بالإنسان الجنس والمعنى : خلق جنس الإنسان من جنس العلق وإذا كان المراد بقوله : الذي خلق كل المخلوقات فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفا له لما فيه من بديع الخلق وعجيب الصنع وإذا كان المراد بالذي خلق الذي الإنسان فيكون الثاني تفسيرا للأول والنكتة ما في الإبهام ثم التفسير من التفات الذهن وتطلعه إلى معرفة ما أبهم أولا ثم فسر ثانيا (5/664)
3 - { اقرأ وربك الأكرم } أي افعل ما أمرت به من القراءة وجملة { وربك الأكرم } مستأنفة لإزاحة ما اعتذر به صلى الله عليه و سلم من قوله : ما أنا بقارئ يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وهو أمي فقيل له اقرأ وربك الأكرم الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم قال الكلبي : يعني الحليم عن جهل العباد فلم يعجل بعقوبتهم وقيل إنه أمره بالقراءة أولا لنفسه ثم أمره بالقراءة ثانيا للتبليغ فلا يكون من باب التأكيد والأول أولى (5/665)
4 - { الذي علم بالقلم } أي علم الإنسان الخط بالقلم فكان بواسطة ذلك يقدر على أن يعلم كل مكتوب قال الزجاج : علم الإنسان الكتابة بالقلم قال قتادة : القلم نعمة من الله عز و جل عظيمة لولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ولولا هي ما استقامت أمور الدين ولا أمور الدنيا وسمي قلما لأنه يقلم : أي يقطع (5/665)
5 - { علم الإنسان ما لم يعلم } هذه الجملة بدل اشتمال من التي قبلها : أي علمه بالقلم من الأمور الكلية والجزئية ما لم يعلم به منها قيل المراد بالإنسان هنا آدم كما في قوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } وقيل الإنسان هنا رسول الله صلى الله عليه و سلم والأولى حمل الإنسان على العموم والمعنى : أن من علمه الله سبحانه من هذا الجنس بواسطة القلم فقد علمه ما لم يعلم (5/665)
وقوله : 6 - { كلا } ردع وزجر لمن كفر نعم الله عليه بسبب طغيانه وإن لم يتقدم له ذكر ومعنى { إن الإنسان ليطغى } أنه يجاوز الحد ويستكبر على ربه وقيل المراد بالإنسان هنا أبو جهل وهو المراد بهذا وما بعده إلى آخر السورة وأنه تأخر نزول هذا وما بعده عن الخمس الآيات المذكورة في أول هذه السورة وقيل كلا هنا بمعنى حقا قاله الجرجاني وعلل ذلك بأنه ليس قبله ولا بعده شيء يكون كلا ردا له (5/665)
وقوله : 7 - { أن رآه استغنى } علة ليطغى : أي ليطغى أن رأى نفسه مستغنيا أو لأن رأى نفسه مستغنيا والرؤية هنا بمعنى العلم ولو كانت البصرية لامتنع الجمع بين الضميرين في فعلها لشيء واحد لأن ذلك من خواص باب علم ونحوه قال الفراء : لم يقل رأى نفسه كما قيل قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تريد اسما وخبرا نحو الظن والحسبان فلا يقتصر فيه على مفعول واحد والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول : رأيتني وحسبتين ومتى تراك خارجا ومتى تظنك خارجا قيل والمراد هنا أنه استغنى بالعشيرة والأنصار والأموال قرأ الجمهور { أن رآه } بمد الهمزة وقرأ قنبل عن ابن كثير بقصرها قال مقاتل : كان أبو جهل إذا أصاب مالا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه فذلك طغيانه وكذا قال الكلبي : ثم هدد سبحانه وخوف (5/665)
فقال : 8 - { إن إلى ربك الرجعى } أي المرجع والرجعى والمرجع والرجوع مصادر يقال : رجع إليه مرجعا ورجوعا ورجعى وتقدم الجار والمجرور للقصر : أي الرجعى إليه سبحانه لا إلى غيره (5/666)
9 - { أرأيت الذي ينهى } (5/666)
10 - { عبدا إذا صلى } قال المفسرون : الذي ينهى أبو جهل والمراد بالعبد محمد صلى الله عليه و سلم وفيه تقبيح لصنعه وتشنيع لفعله حتى كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية (5/666)
11 - { أرأيت إن كان على الهدى } يعني العبد المنهي إذا صلى وهو محمد صلى الله عليه و سلم (5/666)
12 - { أو أمر بالتقوى } أي بالإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقي به النار (5/666)
13 - { أرأيت إن كذب وتولى } يعني أبا جهل كذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم وتولى عن الإيمان وقوله : { أرأيت } في الثلاثة المواضع بمعنى أخبرني لأن الرؤية لما كانت سببا للإخبار عن المرئي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلقها والخطاب لكل من يصلح له وقد ذكر هنا أرأيت ثلاث مرات وصرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية فتكون في موضع المفعول الثاني لها ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود على الذي ينهى الواقع مفعولا أول لأرأيت الأولى ومفعول أرأيت الأولى الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثانية وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أول ولا ثاني حذف الأول لدلالة مفعلو أرأيت الثالثة عليه فقد حذف الثاني من الأول والأول من الثالثة والاثنان من الثانية وليس طلب كل من رأيت للجملة الاستفهامية على سبيل التنازع لأنه يستدعي إضمارا والجمل لا تضمر إنما تضمر المفردات وإنما ذكر من باب الحذف للدلالة وأما جواب الشرط المذكور مع أرأيت في الموضعين الآخرين فهو محذوف تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى (5/666)
14 - { ألم يعلم بأن الله يرى } وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني ومعنى { ألم يعلم بأن الله يرى } أي يطلع على أحواله فيجازيه بها فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه ؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ وقيل أرأيت الأولى مفعولها الأول الموصول ومفعول الثاني وقيل كل واحدة من أرأيت بدل من الأولى و { ألم يعلم بأن الله يرى } الخبر (5/667)
15 - { كلا } ردع للناهي واللام في قوله : { لئن لم ينته } هي الموطئة للقسم : أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر { لنسفعا بالناصية } السفع الجذب الشديد والمعنى : لنأخذن بناصيته ولنجرنه إلى النار وهذا كقوله : { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } ويقال سفعت الشيئ : إذا قبضته وجذبته ويقال سفع بناصيته فرسه قال الراغب : السفع الأخذ بسفعة الفرس : أي بسواد ناصيته وباعتبار السواد قيل : به سفعة غضب اعتبارا بما يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب وقيل للصقر أسفع لما فيه من لمع السواد وامرأة سفعاء اللون انتهى وقيل هو مأخوذ من سفع النار والشمس : إذا غيرت وجهه إلى سواد ومنه قول الشاعر :
( أثافي سفعا في معرس مرجل ) (5/667)
وقوله : 16 - { ناصية } بدل من الناصية وإنما أبدل النكرة من المعرفة لوصفها بقوله : { كاذبة خاطئة } وهذا على مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا بشرط وصفها وأما على مذهب البصرين فيجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا شرط وأنشدوا :
( فلا وأبيك خير منك إني ... ليؤذيني التحمحم والصهيل )
قرأ الجمهور بجر { ناصية كاذبة خاطئة } والوجه ما ذكرنا وقرأ الكسائي في رواية عنه برفعها على إضمار مبتدأ أي هي ناصية وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي بنصبها على الذم قال مقاتل : أخبر عنه بأنه فاجر خاطئ فقال ناصية كاذبة خاطئة تأويلها : صاحبها كاذب خاطئ (5/667)
17 - { فليدع ناديه } أي أهل ناديه والنادي : المجلس الذي يجلس فيه القوم ويجتمعون فيه من الأهل والعشيرة والمعنى : ليدع عشيرته وأهله ليعينوه وينصروه ومنه قول الشاعر :
( واستب بعدك يا كليب المجلس )
أي أهله قيل إن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أتهددني وأنا أكثر الوادي ناديا ؟ فنزلت { فليدع ناديه * سندع الزبانية } أي الملائكة الغلاظ الشداد كذا قال الزجاج : قال الكسائي والأخفش وعيسى بن عمر : واحدهم زابن وقال أبو عبيدة : زبنية وقيل زباني وقيل هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه كعباديد وأبابيل وقال قتادة : هم الشرط في كلام العرب وأصل الزبن الدفع ومنه قول الشاعر :
( ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم )
والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه ومنه قول الشاعر :
( مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى ... زبانية غلب عظام حلومها )
قرأ الجمهور { سندع } بالنون ولم ترسم الواو كما في قوله : { يوم يدع الداع } وقرأ ابن أبي عبلة سيدعى على البنار للمفعول ورفع الزبانية على النيابة (5/667)
18 - { سندع الزبانية } (5/668)
ثم كرر الردع والزجر فقال : 19 - { كلا لا تطعه } أي لا تطعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة { واسجد } أي صل لله غير مكترث به ولا مبال بنهيه { واقترب } أي تقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة وقيل المعنى : إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء وقال زيد بن أسلم : واسجد أنت يا محمد واقترب أنت يا أبا جهل من النار والأولى أولى والسجودهذا الظاهر أن المراد به الصلاة وقيل سجود التلاوة ويدل على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم من السجود عند تلاوة هذه الآية كما سيأتي إن شاء الله
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن شداد قال : [ أتى جبريل محمدا صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد اقرأ ما أقرأ ؟ فضمه ثم قال : يا محمد اقرأ قال : وما أقرأ ؟ قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ { ما لم يعلم } ] وفي الصحيحين : وغيرهما من حديث عائشة [ فجاءه الملك فقال : اقرأ فقال : قلت ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم } ] الآية وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عنه قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ إنك لتعلم أن ما بها رجل أكثر ناديا مني فأنزل الله { فليدع ناديه * سندع الزبانية } فجاء النبي صلى الله عليه و سلم يصلي فقيل : ما يمنعك ؟ فقال : قد اسود ما بيني وبينه ] قال ابن عباس : والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا نعم قال : واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي ليطأن على رقبته قال : فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده فقيل له مالك ؟ فقال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ] قال : وأنزل الله { كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى } إلى آخر السورة : يعني أبا جهل { فليدع ناديه } يعني قومه { سندع الزبانية } يعني الملائكة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى } قال : أبو جهل بن هشام حين رمى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسلي على ظهره وهو ساجد لله عز و جل وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { لنسفعا } قال : لنأخذن وأخرج ابن جرير عنه أيضا { فليدع ناديه } قال : ناصره وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسجد في { إذا السماء انشقت } وفي { اقرأ باسم ربك الذي خلق } (5/668)
هي خمس آيات
وهي مكية عند أكثر المفسرين كذا قال الماوردي وقال الثعلبي : هي مدنية في قول أكثر المفسرين وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة
الضمير في أنزلناه للقرآن وإن لم يتقدم له ذكر أنزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ وكان نزول على النبي صلى الله عليه و سلم نجوما على حسب الحاجة وكان بين نزل أوله وآخره على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث وعشرون سنة وفي آية أخرى 1 - { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } وهي ليلة القدر وفي آية أخرى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وليلة القدر في شهر رمضان قال مجاهد : في ليلة القدر ليلة الحكم (5/669)
2 - { وما أدراك ما ليلة القدر } ليلة الحكم قيل سميت ليلة القدر لأن الله سبحانه يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة وقيل إنها سميت بذلك لعظيم قدرها وشرفها من قولهم : لفلان قدر : أي شرف ومنزلة كذا قال الزهري وقيل سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا وقال الخليل : سميت ليلة القدر لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة كقوله : { ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق
وقد اختلف في تعيين ليلة القدر على أكثر من أربعين قولا قد ذكرناها بأدلتها وبينا الراجح منها في شرحنا للمنتقى { وما أدراك ما ليلة القدر } هذا الاستفهام فيه تفخيم لشأنها حتى كأنها خارجة عن دراية الخلق لا يدريها إلا الله سبحانه قال سفيان : كل ما في القرآن من قوله : وما أدراك فقد أدراه وكل ما فيه وما يدريك فلم يدره وكذا قال الفراء والمعنى : أي شيء تجعله داريا بها ؟ وقد قدمنا الكلام في إعراب هذه الجملة في قوله : { وما أدراك ما الحاقة } (5/670)
ثم قال : 3 - { ليلة القدر خير من ألف شهر } قال كثير من المفسرين : أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر واختار هذا الفراء والزجاج ولك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير والنفع فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما في هذه الليلة وقيل أراد بقوله ألف شهر جميع الدهر لأن العرب تذكر الألف في كثير من الأشياء على طريق المبالغة وقيل وجه ذكر الألف الشهر أن العايد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد الله ألف شهر وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر فجعل الله سبحانه لأمة محمد عبادة ليلة خيرا من عبادة ألف شهر كانوا يعبدونها وقيل إن النبي صلى الله عليه و سلم رأى أعمار أمته قصيرة فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر لأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته (5/670)
وجملة 4 - { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم } مستأنفة مبينة لوجه فضلها موضحة للعلة التي صارت بها خيرا من ألف شهر وقوله : { بإذن ربهم } يتعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال : أي ملتبسين بإذن ربهم والإذن الأمر ومعنى تنزل : تهبط من السموات إلى الأرض والروح هو جبريل عند جمهور المفسرين : أي تنزل الملائكة ومعهم جبريل ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه وقيل الروح صنف من الملائكة هم أشرافهم وقيل هم جند من جنود الله من غير الملائكة وقيل الروح الرحمة وقد تقدم الخلاف في الروح عند قوله : { يوم يقوم الروح والملائكة صفا } قرأ الجمهور { تنزل } بفتح التاء وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميفع بضمها على البناء للمفعول وقوله : { من كل أمر } أي من أجل كل أمر من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة وقيل إن من بمعنى اللام : أي لكل أمر وقيل هي بمعنى الباء : أي بكل أمر قرأ الجمهور { أمر } وهو واحد الأمور وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي امرئ مذكر امرأة : أي من أجل كل إنسان وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة فيسلمون على كل إنسان فمن على هذا بمعنى على والأول أولى وقد تم الكلام عند قوله من كل أمر (5/671)
ثم ابتدأ فقال : 5 - { سلام هي } أي ما هي إلا سلامة وخير كلها لا شر فيها وقيل هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة قال مجاهد : هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى وقال الشعبي : هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر يمرون على كل مؤمن ويقولون السلام عليك أيها المؤمن وقيل يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض قال عطاء : يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته { حتى مطلع الفجر } أي حتى وقت طلوعه قرأ الجمهور { مطلع } بفتح اللام وقرأ الكسائي وابن محيصن بكسرها فقيل هما لغتان في المصدر والفتح أكثر نحو المخرج والمقتل وقيل بالفتح اسم مكان وبالكسر المصدر وقيل العكس وحتى متعلقة يتنزل على أنها غاية لحكم التنزل أي لمكثهم في محل تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر وقيل متعلقة بسلام بناء على أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر
وقد أخرج ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } قال : أنزل القرآن في ليلة القدر حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم جعل جبريل ينزل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم وأخرج عبد بن حميد عن أنس قال : العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضل من ألف شهر وأخرج الترمذي وضعفه وابن جرير والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الحسن بن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه و سلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت { إنا أعطيناك الكوثر } يا محمد يعني نهرا في الجنة ونزلت { إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر } يملكها بعدك بنو أمية قال القاسم فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما والمراد بالقاسم هو القاسم بن الفضل المذكور في إسناده قال الترمذي : إن يوسف هذا مجهول يعني يوسف ين سعد الذي رواه عن الحسن بن علي قال ابن كثير : فيه نظر فإنه قد روى عنه جماعة : منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء ويونس بن عبيد وقال فيه يحيى بن معين : هو مشهور وفي رواية عن ابن معين قال : هو ثقة ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن قال ابن كثير : ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدا قال المزي : هو حديث منكر وقول القاسم بن الفضل إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد ولا تنقص ليس بصحيح فإن جملة مدتهم من عند أن استقل بالملك معاوية وهي سنة أربعين إلى أن سلبهم الملك بنو العباس وهي سنة اثنين وثلاثين ومائة مجموعها اثنتان وتسعون سنة وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس نحو ما روي عن الحسن بن علي وأخرج الخطيب عن سعيد بن المسيب مرفوعا مرسلا نحوه وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { سلام } قال : في تلك الليلة تصفد مردة الشياطين وتغل عفاريت الجن وتفتح فيها أبواب السماء كلها ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب فلذا قال : { سلام هي حتى مطلع الفجر } قال : وذلك من غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر والأحاديث في فضل ليلة القدر كثيرة وليس هذا موضع بسطها وكذلك الأحاديث في تعيينها والاختلاف في ذلك (5/670)
هي ثمان آيات
وهي مدنية في قول الجمهور وقيل مكية وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة { لم يكن } بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة لم يكن بمكة وأخرج أبو نعيم في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم المزني حدثني فضل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله يستمع قراءة { لم يكن الذين كفروا } فيقول : أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى ] قال ابن كثير : حديث غريب جدا وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني أو المدني بنحوه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بن كعب : [ إن الله أمرني أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا } قال : وسماني لك ؟ قال : نعم فبكى ] وأخرج أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي حية البدري قال : [ لما نزلت { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة فقال أبي : وقد ذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال : نعم فبكى ]
المراد ب { الذين كفروا من أهل الكتاب } اليهود والنصارى { و } المراد ب { المشركين } مشركو العرب وهم عبدة الأوثان { منفكين } خبر كان يقال فككت الشيء فانفك : أي انفصل والمعنى : أنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ولا منتهين عنه { حتى تأتيهم البينة } وقيل الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية : أي لم يكونوا يبلغون نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة وقيل منفكين زائلين : أي لم تكن مدتهم لتزول حتى تأتيهم البينة يقال ما انفك فلان قائما : أي ما زال قائما وأصل الفك الفتح ومنه فك الخلخال وقيل منفكين بارحين : أي لم يكونوا ليبرحوا أو يفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة وقال ابن كيسان : المعنى لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه و سلم حتى يبعث فلما بعث حسدوه وجحدوه وهو كقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وعلى هذا فيكون قوله : { والمشركين } أنهم ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه و سلم حتى بعث فإنهم كانوا يسمونه الأمين فلما بعث عادوه وأساءوا القول فيه وقيل : { منفكين } هالكين من قولهم : انفك صلبه : أي انفصل فلم يلتئم فيهلك والمعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم وقيل إن المشركين هم أهل الكتاب فيكون وصفا لهم لأنهم قالوا المسيح ابن الله وعزيز ابن الله قال الواحدي : ومعنى الآية إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله عليه و سلم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلالة والآية والآية فيمن آمن من الفريقين قال : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء وسلكوا في تفسيرها طرقا لا تفضي بهم إلى الصوابج والوجه ما أخبرتك فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال قال : ويدل على أن البينة محمد صلى الله عليه و سلم أنه فسرها وأبدل منها فقال : { رسول من الله يتلو صحفا مطهرة } يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها وهو القرآن ويدل على ذلك أنه كان يتلو عن ظهر قلبه لا عن كتاب انتهى كلامه وقيل إن الآية حكاية لما كان يقوله أهل الكتاب والمشركون إنهم لا يفارقون دينهم حتى يبعث النبي الموعود به فلما بعث تفرقوا كما حكاه الله عنهم في هذه السورة والبينة على ما قاله الجمهور هو محمد صلى الله عليه و سلم لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه سراجا منيرا (5/673)
وقد فسر الله سبحانه هذه البينة المجملة بقوله : 2 - { رسول من الله } فاتضح الأمر وتبين أنه المراد بالبينة وقال قتادة وابن زيد : البينة هي القرآن كقوله : { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } وقال أبو مسلم : المراد بالبينة مطلق الرسل والمعنى : حتى تأتيهم رسل من الله وهم الملائكة يتلون عليهم صحفا مطهرة والأول أولى قرأ الجمهور { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } وقرأ ابن مسعود لم يكن المشركون وأهل الكتاب قال ابن العربي : وهي قراءة في معرض البيان لا في معرض التلاوة وقرأ الأعمش والنخعي : والمشركون بالرفع عطفا على الموصول وقرأ أبيفما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون قرأ الجمهور { رسول من الله } برفع رسول على أنه بدل كل من كل مبالغة أو بدل اشتمال قال الزجاج : رسول رفع على البدل من البينة وقال الفراء : رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر : أي هي رسول أو هو رسول وقرأ أبي وابن مسعود رسولا بالنصب على القطع وقوله : { من الله } متعلق بمحذوف هو صفة لرسول : أي كائن من الله ويجوز تعلقه بنفس رسول وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من صحف والتقدير : يتلو صحفا مطهرة منزلة من الله وقوله : { يتلو صحفا مطهرة } يجوز أن تكون صفة أخرى لرسول أو حالا من متعلق الجار والمجرور قبله ومعنى يتلو : يقرأ يقال تلا يتلو تلاوة والصحف جمع صحيفة وهي ظرف المكتوب ومعنى مطهرة : أنها منزهة من الزور والضلال قال قتادة : مطهرة من الباطل وقيل مطهرة من الكذب والشبهات والكفر والمعنى واحد والمعنى : أنه يقرأ ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها لأنه كان صلى الله عليه و سلم يتلو عن ظهر قلبه لا عن كتاب كما تقدم (5/673)
وقوله : 3 - { فيها كتب قيمة } صفة لصحفا ضميرها والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها والقيمة المستقيمة المستوية المحكمة من قول العرب : قام الشيء : إذا استوى وصح وقال صاحب النظم : الكتب بمعنى الحكم كقوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } أي حكم وقوله صلى الله عليه و سلم في قصة العسيف : لأقضين بينكما بكتاب الله ثم قضى بالرجم وليس الرجم في كتاب الله فالمعنى : لأقضين بينكما بحكم الله وبهذا يندفع ما قيل إن الصحف هي الكتب فكيف قال { صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة } وقال الحسن : يعني بالصحف المطهرة التي في السماء يعني في اللوح المحفوظ كما في قوله : { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } هذه الجملة مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر بل كان بعد وضوح الحق وظهور الصواب قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين حتى بعث الله محمدا فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا فآمن به بعضهم وكفر آخرون وخص أهل الكتاب وإن كان غيرهم مثلهم في التفرق بعد مجيء البينة لأنهم كانوا أهل علم فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف والاستثناء في قوله : { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } مفرغ من أعم الأوقات : أي وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة وهي بعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشريعة الغراء والمحجة البيضاء وقيل البينة : البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل كقوله : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم } قال القرطبي : قال العلماء : من أو السورة إلى قوله : { كتب قيمة } حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين (5/673)
وقوله : 4 - { وما تفرق } الخ فيمن لم يؤمنوا من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج (5/673)
وجملة 5 - { وما أمروا إلا ليعبدوا الله } في محل نصب على الحال مفيدة لتعريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرق بعد مجيء البينة : أي والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحدوه حال كونهم { مخلصين له الدين } أي جاعلين دينهم خالصا له سبحانه أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين وقيل إن اللام في ليعبدوا بمعنى أن : أي ما أمروا إلا بأن يعبدوا كقوله : { يريد الله ليبين لكم } أي أن يبين و { يريدون ليطفئوا نور الله } أي أن يطفئوا قرأ الجمهور { مخلصين } بكسر اللام وقرأ الحسن بفتحها وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص من عمل القلب وانتصاب { حنفاء } على الحال من ضمير مخلصين فتكون من باب التداخل ويجوز أن تكون من فاعل يعبدوا والمعنى : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام قال أهل اللغة : أصله أن يحنف إلى دين الإسلام : أي يميل إليه { ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } أي يفعلوا الصلوات في أوقاتها ويعطوا الزكاة عند محلها وخص الصلاة والزكاة لأنهما من أعظم أركان الدين قيل إن أريد بالصلاة والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا وهما من جملة ما وقع الأمر به فيها { وذلك دين القيمة } أي وذلك المذكور من بعادة الله وإخلاصها وإقامة الصلاة والزكاة { دين القيمة } أي دين الملة المستقيمة قال الزجاج : أي ذلك دين الملة المستقيمة فالقيمة صفة لموصوف محذوف قال الخليل : القيمة جمع القيم والقيم : القائم قال الفراء : أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته لاختلاف اللفظين وقال أيضا : هو من إضافة الشيء إلى نفسه ودخلت الهاء للمدح والمبالغة (5/673)
ثم بين سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا فقال : 6 - { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم } الموصول اسم إن والمشركين معطوف عليه وخبرها في نار جهنم و { خالدين فيها } حال من المستكن في الخبر ويجوز أن يكون قوله والمشركين مجرورا عطفا على أهل الكتاب ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة والإشارة بقوله : { أولئك } إلى من تقدم ذكرهم من أهل الكتاب والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها { هم شر البرية } أي الخليقة يقال برأ : أي خلق والبارئ الخالق والبرية الخليقة قرأ الجمهور { البرية } بغير همز في الموضعين وقرأ نافع وابن ذكوان فيهما بالهمز قال الفراء : إن أخذت البرية من البراء وهو التراب لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ وإن أخذتها من بريت القلم : أي قدرته دخلت وقيل إن الهمز هو الأصل لأنه يقال برأ الله الخلق بالهمز : أي ابتدعه واخترعه ومنه قوله : { من قبل أن نبرأها } ولكنها خففت الهمزة والتزم تخفيفها عند عامة العرب (5/673)
ثم بين حال الفريق الآخر فقال : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح { أولئك } المنعوتون بهذا { هم خير البرية } قال : والمراد أن أولئك شر البرية في عصره صلى الله عليه و سلم ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم وهؤلاء خير البرية في عصره صلى الله عليه و سلم ولا يبعد أن يكون في مؤمني الأمم السابقة من هو خير منهم (5/673)
8 - { جزاؤهم عند ربهم } أي ثوابهم عند خالقهم بمقابلة ما وقع منهم من الإيمان والعمل الصالح { جنات عدن تجري من تحتها الأنهار } والمراد بجنات عدن هي أوسط الجنات وأفضلها يقال عدن بالمكان يعدن عدنا : أي أقام ومعدن الشيء : مركزه ومستقره ومنه قول الأعشى :
( وإن يتضافوا إلى علمه ... يضافوا إلى راجح قد عدن )
وقد قدمنا في غير موضع أنه إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد مجموع قرار الأرض والشجر فجري الأنهار من تحتها باعتبار جزئها الظاهر وهو الشجر { خالدين فيها أبدا } لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها { رضي الله عنهم ورضوا عنه } الجملة مستأنفة لبيان ما تفضل الله به عليهم من الزيادة على مجر الجزاء وهو رضوانه عنهم حيث أطاعوا أمره وقبلوا شرائعه ورضاهم عنه حيث بلغوا من المطالب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا وأن تكون في محل نصب على الحال بإضمار قد { ذلك لمن خشي ربه } أي ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت التي وقعت له لا مجرد الخشية مع الأنهماك في معاصي الله سبحانه فإنها ليست بخشية على الحقيقة
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { منفكين } قال : برحين وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : أتعجبون من منزلة الملائكة من الله والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك وقرأوا إن شئتم { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : [ قلت يا رسول الله من أكرم الخلق على الله ؟ قال : يا عائشة أما تقرئين { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } ] وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : [ كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فأقبل علي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ونزلت { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } فكان أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم إذا أقبل قالوا : قد جاء خير البرية ] وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا [ على خير البرية ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : [ لما نزلت هذه الآية { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي : هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ] وأخرج ابن مردويه عن علي مرفوعا نحوه وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا أخبركم بخير البرية ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه ألا أخبركم بشر البرية ؟ قالوا بلى قال : الذي يسأل بالله ولا يعطي به ] قال أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبو هريرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره (5/673)
هي ثمان آيات
وهي مدنية في قول ابن عباس وقتادة ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال نزلت { إذا زلزلت } بالمدينة وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو قال : [ أتى رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اقرئني يا رسول الله قال : اقرأ ثلاثا من ذوات الرا فقال الرجل : كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني قال : اقرأ ثلاثا من ذوات حم فقال مثل مقالته الأولى فقال : اقرأ ثلاثا من المسبحات فقال مثل مقالته الأولى وقال : ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة فأقرأه { إذا زلزلت الأرض زلزالها } حتى فرغ منها قال الرجل : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفلح الرويجل أفلح الرويجل ] وأخرج الترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ إذا زلزلت الأرض عدلك له بنصف القرآن ومن قرأ : { قل هو الله أحد } عدلت له بثلث القرآن ومن قرأ : { قل يا أيها الكافرون } عدلت له بربع القرآن ] وأخرج الترمذي وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه
والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا زلزلت تعدل نصف القرآن و { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن و { قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن ] قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة وأخرج الترمذي عن أنس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرجل من أصحابه : هل زوجت يا فلان ؟ قال : لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج به قال : أليس معك { قل هو الله أحد } قال بلى قال : ثلث القرآن قال : أليس معك { إذا جاء نصر الله والفتح } قال بلى قال : ربع القرآن قال : أليس معك { قل يا أيها الكافرون } ؟ قال بلى قال : ربع القرآن قال : أليس معك { إذا زلزلت الأرض } قال بلى قال : ربع القرآن تزوج ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من قرأ في ليلة إذا زلزلت كان له عدل نصف القرآن ]
قوله : 1 - { إذا زلزلت الأرض زلزالها } أي إذا حركت حركة شديدة وجواب الشرط : تحدث والمراد تحركها عند قيام الساعة فإنها تضطرب حتى يتكسر كل شيء عليها قال مجاهد : وهي النفخة الأولى لقوله تعالى : { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة } وذكر المصدر للتأكيد ثم أضافه إلى الأرض فهو مصدر مضاف إلى فاعله والمعنى : زلزالها المخصوص الذي يستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها قرأ الجمهور { زلزالها } بكسر الزاي وقرأ الجحدري وعيسى بفتحها وهما مصدران بمعنى وقيل المكسور مصدر والمفتوح اسم قال القرطبي والزلزال بالفتح مصدر كالوسواس والقلقال (5/679)
2 - { وأخرجت الأرض أثقالها } أي ما في جوفها من الأموات والدفائن والأثقال جمع ثقل قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها قال مجاهد : أثقالها موتاها تخرجهم في النفخة الثانية وقد قيل للإنس والجن الثقلان وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير (5/680)
3 - { وقال الإنسان ما لها } أي قال كل فرد من أفراد الإنسان ما لها زلزلت ؟ لما يدهمه من أمرها ويبهره من خطبها وقيل المراد بالإنسان الكافر وقوله : ما لها مبتدأ وخبر وفيه معنى التعجيب : أي أي شيء لها أو لأي شيء زلزلت وأخرجت أثقالها ؟ (5/680)
وقوله : 4 - { يومئذ } بدل من { إذا } والعامل فيهما قوله : { تحدث أخبارها } ويجوز أن يكون العامل في إذا محذوفا والعامل في يومئذ تحدث والمعنى : يوم إذا زلزلت وأخرجت تخبر بأخبارها وتحدثهم بما عمل عليها من خير وشر وذلك إما بلسان الحال حيث يدل على ذلك دلالة ظاهرة أو بلسان المقال بأن ينطقها الله سبحانه وقيل هذا متصل بقوله : { وقال الإنسان ما لها } أي قال ما لها { تحدث أخبارها } متعجبا من ذلك وقال يحيى بن سلام : تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها وقيل تحدث بقيام الساعة وأنها قد أتت وأن الدنيا قد انقضت قال ابن جرير : تبين أخبارها بالرجفة والزلزلة وإخراج الموتى ومفعول تحدث الأول محذوف والثاني هو أخبارها : أي تحدث الخلق أخبارها (5/680)
5 - { بأن ربك أوحى لها } متعلق بتحدث ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها وقيل الباء زائدة وأن وما في حيزها بدل من أخبارها وقيل الباء سببية : أي بسبب إيحاء الله إليها قال الفراء : تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها واللام في أوحى لها بمعنى إلى وإنما أثرت على إلى لموافقة الفواصل والعرب تضع لام الصفة موضع إلى كذا قال أبو عبيدة وقيل إن أوحى يتعدى باللام تارة وبإلى أخرى وقيل إن اللام على بابها من كونها للعلة والموحى إليه محذوف وهو الملائكة والتقدير : أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض : أي لأجل ما يفعلون فيها والأولى أولى (5/681)
6 - { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } الظرف إما بدل من يومئذ الذي قبله وإما منصوب بمقدر هو اذكر وإما منصوب بما بعده والمعنى : يوم إذ يقع ما ذكر يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب { أشتاتا } : أي متفرقين والصدر : الرجوع وهو ضد الورود وقيل يصدرون من موضع الحساب إلى الجنة أو النار وانتصاب أشتاتا على الحال : والمعنى : أن بعضهم آمن وبعضهم خائف وبعضهم بلون أهل الجنة وهو البياض وبعضهم بلون أهل النار وهو السواد وبعضهم ينصرف إلى جهة اليمين وبعضهم إلى جهة الشمال مع تفرقهم في الأديان واختلافهم في الأعمال { ليروا أعمالهم } متعلق بيصدر وقيل فيه تقديم وتأخير : أي تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ليروا أعمالهم { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } قرأ الجمهور { ليروا } مبنيا للمفعول وهو من رؤية البصر : أي ليريهم الله أعمالهم وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة ونصر بن عاصم وطلحة بن مصرف على البناء للفاعل ورويت هذه القراءة عن نافع والمعنى : ليروا جزاء أعمالهم (5/681)
8 - { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } أي وزن نملة وهي أصغر ما يكون من النمل قال مقاتل : فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره يوم القيامة في كتابه فيفرح به (5/681)
8 - { و } كذلك { من يعمل } في الدنيا { مثقال ذرة شرا يره } يوم القيامة فيسوؤه ومثل هذه الآية قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } وقال بعض أهل اللغة : إن الذرة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض فما علق من التراب فهو الذرة وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء والأول أولى ومنه قول امرئ القيس :
( من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الأتب منها لأثرا )
ومن الأولى عبارة عن السعداء ومن الثانية عبارة عن الأشقياء وقال محمد بن كعب : فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا وفي نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر والأول أولى قال مقاتل : نزلت في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيتقل أن يعطيه التمرة والكسرة وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول : إنما أوعد الله النار على الكافرين قرأ الجمهور { يره و } في الموضعين بضم الهاء وصلا وسكونها وقفا وقرأ هشام بسكونها وصلا ووقفا ونقل أبو حيان عن هشام وأبي بكر سكونها وعن أبي عمرو ضمها مشبعة وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية وفي هذا النقل نظر والصواب ما ذكرنا وقرأ الجمهور { يره } مبنيا للفاعل في الموضعين وقرأ ابن عباس وابن عمر والحسن والحسين ابنا علي وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية عنهما والجحدري والسلمي وعيسى على البناء للمفعول فيهما : أي يريه الله إياه وقرأ عكرمة يراه على توهم أن من موصولة أو على تقدير الجزم بحذف بحذف الحركة المقدرة في الفعل
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { إذا زلزلت الأرض زلزالها } قال : تحركت من أسفلها { وأخرجت الأرض أثقالها } قال : الموتى { وقال الإنسان ما لها } قال : الكافر يقول مالها { يومئذ تحدث أخبارها } قال : قال لها ربك قولي { بأن ربك أوحى لها } قال : أوحى لها { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } قال : من كل من ههنا وههنا وأخرج ابن المنذر عنه { وأخرجت الأرض أثقالها } قال : الكنوز والموتى وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا ] وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : [ قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { يومئذ تحدث أخبارها } قال : أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا فهذا أخبارها ] وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الأرض لتجيء يوم القيامة بكل عمل عمل على ظهرها وقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { إذا زلزلت الأرض زلزالها } حتى بلغ { يومئذ تحدث أخبارها } ] وأخرج الطبراني عن ربيعة الخرشي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ تحفظوا من الأرض فإنها أمكم وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرا أو شرا إلا وهي مخبرة ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم في تاريخه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : [ بينما أبو بكر الصديق يأكل مع النبي صلى الله عليه و سلم إذ نزلت عليه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر فقال : يا أبو بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة ] وأخرج إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد والحاكم وابن مردويه عن أبي أسماء قال : [ بينا أبو بكر يتغدى مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ نزلت هذه الآية { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } فأمسك أبو بكر وقال : يا رسول الله ما عملنا من شر رأيناه فقال : ما ترون مما تكرهون فذاك مما تجزون ويؤخر الخير لأهله في الآخرة ] وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ أنزلت إذا زلزلت الأرض زلزالها وأبو بكر الصديق قاعد فبكى فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما يبكيك يا أبا بكر ؟ قال : يبكيني هذه السورة فقال : لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر لكم لخلق الله قوما يخطئون ويذنبون فيغفر لهم ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الخيل لثلاثة : لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر ] الحديث وقال : [ وسئل عن الحمر فقال : ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ] (5/681)
هي إحدى عشر آية
وهي مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء ومدنية في قول ابن عباس وأنس بن مالك وقتادة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة { والعاديات } بمكة وأخرج أبو عبيد في فضائله عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا زلزلت تعدل نصف القرآن والعاديات تعدل نصف القرآن ] وهو مرسل وأخرج محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا مثله وزاد [ وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ]
1 - { العاديات } جمع عادية وهي الجارية بسرعة من العدو : وهو المشي بسرعة فأبدلت الواو ياء لكسر ما قبلها كالغازيات من الغزو والمراد بها الخيل العادية في الغزو نحو العدو وقوله : { ضبحا } مصدر مؤكد لاسم الفاعل فإن الضبح نوع من السير ونوع من العدو يقال ضبح الفرس : إذا عجا بشدة مأخوذ من الضبع وهو الدفع وكأن الحاء بدل من العين قال أبو عبيدة والمبرد : الضبح من إضباعها في السير ومنه قول عنترة :
( والخيل تكدح في حياض الموت ضبحا )
ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال : أي ضابحات أو ذوات ضبح ويجوز أن يكون مصدرا لفعل محذوف : أي تضبح ضبحا وقيل الضبح : صوت حوافرها إذا عدلت وقال الفراء : الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت قيل كانت تكعم لئلا تصهل فيعلم العدو بهم فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوة وقيل الضبح : صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ليس بصهيل وقد ذهب الجمهور إلى ما ذكرنا من أن العاديات ضبحا هي الخيل وقال عبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي : هي الإبل ومنه قول صفية بنت عبد المطلب :
( فلا والعاديات غداة جمع ... بأيديها إذا صدع الغبار )
ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح للثعلب فاستعير للخيل ومنه قول الشاعر :
( تضبح في الكف ضباح الثعلب ) (5/684)
2 - { فالموريات قدحا } هي الخيل حين توري النار بسنابكها والإيراء إخراج النار والقد الصك فجعل ضرب الخيل بحوافرها كالقدح بالزناد قال الزجاج : إذا عدلت الخيل بالليل أصاب حوافرها الحجارة انقدح منها النيران والكلام في انتصاب قدحا كالكلام في انتصاب ضبحا والخلاف في كونها الخيل أو الإبل كالخلاف الذي تقدم في العاديات والراجح أنها الخيل كما ذهب إليه الجمهور وكما هو الظاهر من هذه الأوصاف ما في ذلك من الخلاف بين الصحابة (5/685)
3 - { فالمغيرات صبحا } أي التي تغير على العدو وقت الصباح يقال أغار يغير إغارة إذا باغت عدوه بقتل أو أسر أو نهب وأسند الإغارة إليها وهي لأهلها للإشعار بأنها عمدتهم في إغارتهم وانتصاب صبحا على الظرفية (5/685)
4 - { فأثرن به نقعا } معطوف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل إذ المعنى : واللاتي عدون فأثرن أو على الصفات أسماء موصولة فالكلام في قوة : واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن والنقع : الغبار الذي أثرته في وجه العدو عند الغزو وتخصيص إثارته بالصبح لأنه وقت الإغارة ولكونه لا يظهر أثر النقع في الليل الذي اتصل به الصبح وقيل المعنى : فأثرن بمكان عدوهن نقعا يقال ثار النقع وأثرته : أي هاج أو هيجته قرأ الجمهور { فأثرن } بتخفيف المثلثة وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالتشديد : أي فأظهرن به غبارا وقال أبو عبيدة : النقع رفع الصوت وأنشد قول لبيد :
( فمتى نقع صراخ صادق ... يجلبوها ذات جرس وزجل )
يقول حين سمعوا صراخا أجلبوا الحرب : أي جمعوا لها قال أبو عبيدة : وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم انتهى والمعروف عند جمهور أهل اللغة والمفسرون أن النقع الغبار ومنه قول الشاعر :
( يخرجن من مستطار النقع دامية ... كأن أذنابها أطراف أقلام )
وقول عبد الله بن رواحة :
( عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء )
وقول الآخر :
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
وهذا هو المناسب لمعنى الآية وليس لتفسير النقع بالصوت فيها كثير معنى فإن قولك أغارت الخيل على بني فلان صبحا فأثرن به صوتا قليل الجدوى مغسول المعنى بعيد من بلاغة القرآن المعجزة وقيل النقع : شق الجيوب وقال محمد بن كعب : النقع ما بين مزدلفة إلى منى وقيل إنه طريق الوادي قال في الصحاح : النقع الغبار والجمع أنقاع والنقع محبس الماء وكذلك ما اجتمع في البئر منه والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء (5/685)
5 - { فوسطن به جمعا } أي توسطن بذلك الوقت أو توسطن ملتبسات بالنقع جمعا من جموع الأعداء أو صرن بعدوهن وسط جمع الأعداء والباء إما للتعدية أو للحالية أو زائدة يقال وسطت المكان : أي صرت في وسطه وانتصاب جمعا على أنه مفعول به والفاءات في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل واحدة منها على ما قبلها قرأ الجمهور { فوسطن } بتخفيف السين وقرئ بالتشديد (5/686)
6 - { إن الإنسان لربه لكنود } هذا جواب القسم والمراد بالإنسان بعض أفراده وهو الكافر والكنود : الكفور للنعمة وقوه : لربه متعلق بكنود قدم لرعاية الفواصل ومنه قول الشاعر :
( كنود لنعماء الرجال ومن يكن ... كنودا لنعماء الرجال يبعد )
أي كفور لنعماء الرجال وقيل هو الجاحد للحق قيل إنها إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها وقيل الكنود مأخوذ من الكند وهو القطع كأنه قطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر يقال كند الحبل : إذا قطعه ومنه قول الأعشى :
( وصول حبال وكنادها )
وقيل الكنود البخيل وأنشد أبو زيد :
( إن نفسي لم تطب منك نفسا ... غير أني أمسي بدين كنود )
وقيل الكنود الحسود وقيل الجهول لقدره وتفسير الكنود بالكفور للنعمة أولى بالمقام والجاحد للنعمة كافر لها ولا يناسب المقام سائر ما قيل (5/686)
7 - { وإنه على ذلك لشهيد } أي وإن الإنسان على كنوده لشهيد يشهد على نفسه به لظهور أثره عليه وقيل المعنى : وإن الله جل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد وبه قال الجمهور وقال بالأول الحسن وقتادة ومحمد بن كعب (5/687)
وهو أرجح من قول الجمهور لقوله : 8 - { وإنه لحب الخير لشديد } فإن الضمير راجع إلى الإنسان والمعنى : إنه لحب المال قوي مجد في طلبه وتحصيله متهالك عليه يقال هو شديد لهذا الأمر وقوي له : إذا كان مطيقا له ومنه قوله تعالى : { إن ترك خيرا } ومنه قول عدي بن حاتم :
( ماذا ترجى النفوس من طلب الـ ... خير وحب الحياة كاذبها )
وقيل المعنى : وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل والأول أولى واللام في الحب متعلقة بشديد قال ابن زيد : سمى الله المال خيرا وعسى أن يكون شرا ولكن الناس يجدونه خيرا فسماه خيرا قال الفراء أصل نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير الآية كقوله : { في يوم عاصف } والعصوف للريح لا لليوم كأنه قال : في يوم عاصف للريح (5/684)
9 - { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور } الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام : أي يفعل ما يفعل من القبائح فلا يعلم وبعثر معناه نثر وبحث : أي نثر ما في القبور من الموتى وبحث عنهم وأخرجوا قال أبو عبيدة : بعثرت المتاع جعلت أسفله أعلاه قال الفراء : سمعت بعض العرب من بني أسد يقول : بحثر بالحاء مكان العين وقد تقدم الكلام على هذا في قوله : { وإذا القبور بعثرت } (5/687)
10 - { وحصل ما في الصدور } مأي ميز وبين ما فيها من الخير والشر والتحصيل التمييز كذا قال المفسرون وقيل حصل أبرز قرأ الجمهور { حصل } بضم الحاء وتشديد الصاد مكسورا مبنيا للمفعول وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم حصل بفتح الحاء والصاد وتخفيفها مبنيا للفاعل : أي ظهر (5/687)
11 - { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } أي إن رب المبعوثين بهم لخبير لا تخفى عليه منهم خافية فيجازيهم بالخير خيرا وبالشر شرا قال الزجاج : الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره ولكن المعنى : إن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم ومثله قوله تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } معناه : أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم قرأ الجمهور { إن ربهم } بكسر الهمزة وباللام في { لخبير } وقرأ أبو السماك بفتح الهمزة وإسقاط اللام من ليخبر
وقد أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد وابن مردويه عن ابن عباس قال [ بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خيلا فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر فنزلت { والعاديات ضبحا } ضبحت بأرجلها ] ولفظ ابن مردويه : ضبحت بمناخرها { فالموريات قدحا } قدحت بحوافرها الحجارة فأورت نارا { فالمغيرات صبحا } صبحت القوم بغارة { فأثرن به نقعا } أثارت بحوافرها التراب { فوسطن به جمعا } صبحت القوم جميعا وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عنه قال : [ بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية إلى العدو فأبطأ خبرها فشق ذلك عليه فأخبره الله خبرهم وما كان من أمهرم فقال : { والعاديات ضبحا } قال : هي الخيل ] والضبح نخير الخيل حين تنخر { فالموريات قدحا } قال : حين تجري الخيل توري نارا أصابت سنابكها الحجارة { فالمغيرات صبحا } قال : هي الخيل أغارت فصبحت العدو { فأثرن به نقعا } قال : هي الخيل أثرن بحوافرها يقول بعدو الخيل والنقع الغبار { فوسطن به جمعا } قال : الجمع العدو وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : تقاولت أنا وعكرمة في شأن العاديات فقال : قال ابن عباس : هي الخيل في القتال وضبحها حين ترخي مشافرها إذا عدت { فالموريات قدحا } أرت المشركين مكرهم { فالمغيرات صبحا } قال : إذا صبحت العدو { فوسطن به جمعا } قال : إذا توسطت العدو وقال أبو صالح : فقلت : قال علي هي الإبل في الحج ومولاي كان أعلم من مولاك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : بينما أنا في الحجر جالس إذا أتاني رجل يسأل عن العاديات ضبحا فقلت : الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب وهو جالس تحت ساقيه زمزم فسأله عن العاديات ضبحا فقال : سألت عنها أحدا قبلي ؟ قال : نعم سألت عنها ابن عباس فقال : هي الخيل حين تغير في سبيل الله فقال اذهب فادعه لي فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك والله إن كان لأول عزوة في الإسلام ليدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود فكيف تكون { العاديات ضبحا } إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى المزدلفة فإذا أووا إلى المزدلفة أوقدوا النيران والمغيرات صبحا : من المزدلفة إلى منى فذلك جمع وأما قوله : { فأثرن به نقعا } فهي نقع الأرض تطؤه بأخفافها وحوافرها قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود { والعاديات ضبحا } قال : الإبل أخرجوه عنه من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي قال إبراهيم : وقال علي بن أبي طالب : هي الإبل وقال ابن عباس : هي الخيل فبلغ عليا قول ابن عباس : فقال : ما كانت لنا خيل يوم بدر قال ابن عباس : إنما كانت تلك في سرية بعثت وأخرج عبد بن حميد عن عامر الشعبي قال : تمارى علي وابن عباس في العاديات ضبحا فقال ابن عباس : هي الخيل وقال علي : كذبت يابن فلانة والله ما كان معنا يوم بدر فارس إلا المقداد كان على فرس أبلق قال : وكان يقول هي الإبل فقال ابن عباس : ألا ترى أنها تثير نقعا فما شيء تثير إلا بحوافرها وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس { والعاديات ضبحا } قال : الخيل { فالموريات قدحا } قال : الرجل إذا أورى زنده { فالمغيرات صبحا } قال : الخيل تصبح العدو { فأثرن به نقعا } قال : التراب { فوسطن به جمعا } قال : العدو وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد { والعاديات ضبحا } قال : قال ابن عباس : القتال وقال ابن مسعود : الحج وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس { والعاديات ضبحا } قال : ليس شيء من الدواب يضبح إلا الكلب أو الفرس { فالموريات قدحا } قال : هو مكر الرجل قدح فأورى { فالمغيرات صبحا } قال : غارة الخيل صبحا { فأثرن به نقعا } قال غبارا وقع سنابك الخيل { فوسطن به جمعا } قال : جمع العدو وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { والعاديات ضبحا } قال : الخيل ضبحها زحيرها ألم تر أن الفرس إذا عدا قال : أح أح فذلك ضبحها وأخرج ابن المنذر عن علي قال : الضبح من الخيل الحمحمة ومن الإبل النفس وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود { والعاديات ضبحا } قال : هي الإبل في الحج { فالموريات قدحا } إذا سفت الحصى بمناسمها فضرب الحصى بعضه بعضا فيخرج منه النار { فالمغيرات صبحا } حين يفيضون من جمع { فأثرن به نقعا } قال : إذا سرن يثرن التراب وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : الكنود بلساننا أهل البلد الكفور وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { إن الإنسان لربه لكنود } قال لكفور وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب والحكيم الترمذي وابن مردويه عن أبي أمامة قال : الكنود الذي يمنع رفده وينزل وحده ويضرب عبده ورواه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والديلمي وابن عساكر مرفوعا وضعف إسناده السيوطي وفي إسناده جعفر بن الزبير وهو متروك والموقوف أصح لأنه لم يكن من طريقه وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { وإنه على ذلك لشهيد } قال : الإنسان { وإنه لحب الخير } قال : المال وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه { إذا بعثر ما في القبور } قال : بحث { وحصل ما في الصدور } قال : أبرز (5/688)
هي إحدى عشرة آية وقيل عشر آيات
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة القارعة بمكة
1 - { القارعة } من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع وتقرع أعداء الله بالعذاب والعرب تقول قرعتهم القارعة إذا وقع بهم أمر فظيع قال ابن أحمر :
( وقارعة ... من الأيام لولا سبيلهم لراحت عنك حينا )
وقال آخر :
( متى نقرع بمروءتكم نسؤكم ... ولم يوقد لنا في القدر نار ) (5/690)
والقارعة مبتدأ وخبرها قوله : 2 - { ما القارعة } وبالرفع قرأ الجمهور وقرأ عيسى بنصبها على تقدير : احذروا القارعة والاستفهام للتعظيم والتفخيم لشأنها كما تقدم بيانه في قوله : { الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة } وقيل معن الكلام على التحذير قال الزجاج : والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب وأنشد قول الشاعر :
( لجديرون بالوفاء إذا قال ... أخو النجدة السلاح السلاح )
والحمل على معنى التفخيم والتعظيم أولى ويؤيده وضع الظاهر موضع الضمير فإنه أدل على هذا المعنى (5/691)
ويؤيده أيضا قوله : 3 - { وما أدراك ما القارعة } فإنه تأكيد لشدة هولها ومزيد فظاعتها حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دارية أحد منهم وما الاستفهامية مبتدأ وأدراك خبرها وما القارعة مبتدأ وخبر والدملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني والمعنى : وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة ؟ (5/691)
ثم بين سبحانه متى تكون القارعة فقال : 4 - { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } وانتصاب الظرف بفعل محذوف تدل عليه القارعة : أي تقرعهم يوم يكون الناس الخ ويجوز أن يكون منصوبا بتقدير اذكر وقال ابن عطية ومكي وأبو البقاء : هو منصوب بنفس القارعة وقيل هو خبر مبتدأ محذوف وإنما التقدير : ستأتيكم القارعة يوم يكون وقرأ زيد بن علي برفع يوم على الخبرية للمبتدأ المقدر والفراش : الطير الذي ترآه يتساقط في النار والسراج والواحدة فراشة كذا قال أبو عبيدة وغيره قال الفراء : الفراش هو الطائر من بعوض وغيره ومنه الجراد قال وبه يضرب المثل في الطيش والهوج يقال : أطيش من فراشه وأنشد :
( فراشة الحلم فرعون العذاب وإن ... يطلب نداه فكلب دونه كلب )
وقول آخر :
( وقد كان أقوام رددت حلومهم ... عليهم وكانو كالفراش من الجهل )
والمراد بالمبثوث المتفرق المنتشر يقال بثه : إذا فرقه ومث هذا قوله سبحانه في آية أخرى { كأنهم جراد منتشر } وقال المبثوث ولم يقل المبثوثة لأن الكل جائز كما في قوله : { أعجاز نخل منقعر } و { أعجاز نخل خاوية } وقد تقدم بيان وجه ذلك (5/691)
5 - { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } أي كالصوف الملون بالألوان المختلفة الذي نفش بالندف والعهن عند أهل اللغة : الصوف المصبوغ بالألوان المختلفة وقد تقدم بيان هذا في سورة سأل سائل وقد ورد في الكتاب العزيز أوصاف للجبال يوم القيامة وقد قدمنا بيان الجمع بينها (5/692)
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس وتفرقهم فريقين على جهة الإجمال فقال : { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية } قد تقدم القول في الميزان في سورة الأعراف وسورة الكهف وسورة الأنبياء
وقد اختلف فيها هنا فقيل هي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله وبه قال الفراء وغيره وقيل هي جمع ميزان وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال وعبر عنه بلفظ الجمع كما يقال لكل حادثة ميزان وقيل المراد بالموازين الحجج والدلائل كما في قول الشاعر :
( لقد كنت قبل لقائكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه )
ومعنى عيشة راضية مرضية يرضاها صاحبها قال الزجاج : أي ذات رضى يرضاها صاحبها وقيل عيشة راضية : أي فاعلة للرضى وهو اللين والانقياد لأهلها والعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة (5/692)
7 - { فهو في عيشة راضية } (5/692)
8 - { وأما من خفت موازينه } أي رجحت سيئاته على حسناته أو لم تكن له حسنات يعتد بها (5/692)
9 - { فأمه هاوية } أي فمسكنه جهنم وسماها أمه لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه والهاوية من أسماء جهنم وسميت هاوية لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
( فالأرض معقلنا وكانت أمنا ... فيها مقابرنا وفيها نولد )
وقول الآخر :
( يا عمرو لو نالتك أرماحنا ... كنت كمن تهوي به الهاوية )
والمهوى والمهواة : ما بين الجبلين وتهاوى القوم في المهواة : إذا سقط بعضهم في إثر بعض قال قتادة : معنى فأمه هوية فمصيره إلى النار قال عكرمة : لأنه يهوي فيها على أم رأسه قال الأخفش : أمه مستقرة (5/692)
10 - { وما أدراك ما هيه } هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع بيان أنها خارجة عن المعهود بحيث لا تحيط بها علوم البشر ولا يدري كنهها (5/693)
ثم بينها سبحانه فقال : 11 - { نار حامية } أي قد انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية وارتفاع نار على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي هي نار حامية
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : { القارعة } من أسماء يوم القيامة وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { فأمه هاوية } قال : كقوله هوت أمه وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة { فأمه هاوية } قال : أم رأسه هاوية في جهنم وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه ما فعل فلان ما فعلت فلانة ؟ فإذا كان مات ولم يأتهم قالوا خولف به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية ] وأخرج ابن مردويه من حديث أبي أيوب الأنصاري نحوه وأخرج ابن المبارك من حديث أبي أيوب نحوه أيضا (5/693)
هي ثمان آيات
وهي مكية عند الجميع وروى البخاري أنها مدنية وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت بمكة { ألهاكم التكاثر } وأخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم ؟ قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم ؟ قال : أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر ] وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله وهو ضاحك في وجهه قيل يا رسول الله ومن يقوى على ألف آية ؟ فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ألهاكم التكاثر إلى آخرها ثم قال : والذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية ] وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن الشخير قال [ انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر وفي لفظ : وقد أنزلت عليه ألهاكم التكاثر وهو يقول : ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأنيت ] وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ولم يذكر فيه قراءة هذه السورة ولا نزولها بلفظ : [ يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاثة : ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأقنى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ] وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه عن جرير بن عبد الله قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني قارئ عليكم سورة ألهاكم التكاثر فمن بكى فله الجنة ] فقرأها فمنا من بكى ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا : قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي فلم نقدر عليه فقال : [ إني قارئها عليكم الثانية فمن بكى فله الجنة ومن لم يقدر أن يبكي فليتباكى ]
قوله : 1 - { ألهاكم التكاثر } أي شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد والتفاخر بكثرتها والتغالب فيها يقال : أهاه عن كذا وألهاه إذا شغله ومنه قول امرئ القيس :
( فألهيتها عن ذي تمائم محول )
وقال الحسن : معنى ألهاكم : أنساكم (5/693)
2 - { حتى زرتم المقابر } أي حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال وقال قتادة : إن التكاثر التفاخر بالقبائل والعشائر وقال الضحاك : ألهاكم التشاغل بالمعاش وقال مقاتل وقتادة أيضا وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان ألهاكم ذلك حتى ماتوا وقال الكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف وبني سهم تعادوا وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإسلام فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا وأعز عزيزا وأعظم نفرا وأكثر قائدا فكثر بنو عبد مناف بني سهم ثم تكاثروا بالأموات فكثرتهم بهم فنزلت { ألهاكم التكاثر } فلم ترضوا { حتى زرتم المقابر } مفتخرين الأموات وقيل نزلت في حيين من الأنصار والمقابر جمع مقبرة بفتح الباء وضمها وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة وقال سبحانه : { ألهاكم التكاثر } ولم يقل عن كذا بل أطلقه لأن الإطلاق أبلغ في الذم لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم كما تقرر في علم البيان والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن كل شيء يجب عليكم الاشتغال به من طاعة الله والعمل للآخرة وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره هذا على قول من قال : إن معنى { زرتم المقابر } متم وأما على قول من قال : إن معنى { زرتم المقابر } ذكرتم الموتى وعددتموهم للمفاخرة والمكاثرة فيكون ذلك على طريق التهكم بهم وقيل إنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون هذا قبر فلان وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك (5/694)
3 - { كلا سوف تعلمون } ردع وزجر لهم عن التكاثر وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة وفيه وعيد شديد قال الفراء : أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر (5/695)
ثم كرر الردع والزجر والوعيد فقال : 4 - { ثم كلا سوف تعلمون } وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول وقيل الأول عند الموت أو في القبر والثاني يوم القيامة قال الفراء : هذا التكرار على وجه التغليظ والتأكيد قال مجاهد : هو وعيد بعد وعيد وكذا قال الحسن ومجاهد (5/695)
5 - { كلا لو تعلمون علم اليقين } أي لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما بيقينا كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا وجواب لو محذوف : أي لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر أو لفعلتم ما ينفعكم من الخير وتركتم ملا لا ينفعكم مما أنتم فيه وكلا في هذا الموضع الثالث للزجر والردع كالموضعين الأولين وقال الفراء : هي بمعنى حقا وقيل هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا قال قتادة : اليقين هنا الموت وروي عنه أيضا أنه قال : هو البعث قال الأخفش : التقدير لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم (5/695)
وقوله : 6 - { لترون الجحيم } جواب قسم محذوف وفيه زيادة وعيد وتهديد : أي والله لترون الجحيم جواب قسم محذوف وفيه زيادة وعيد وتهديد : أي والله لترون الجحيم في الآخرة قال الرازي : وليس هذا جواب لو لأن جواب لو يكون منفيا وهذا مثبت ولأنه عطف عليه { ثم لتسألن } وهو مستقبل لا بد من وقوعه قال : وحذف جواب لو كثير والخطاب للكفار وقيل عام كقوله { وإن منكم إلا واردها } قرأ الجمهور { لترون } بفتح التاء مبنيا للفاعل وقرأ الكسائي وابن عامر بضمها مبنيا للمفعول (5/695)
ثم كرر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال 7 - { ثم لترونها عين اليقين } أي ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين وهي المشاهدة والمعاينة وقيل المعنى : لترون الجحيم بأبصاركم على البعد منكم ثم لترونها مشاهدة على القرب وقيل المراد بالأول رؤيتها قبل دخولها والثاني رؤيتها حال دخولها وقيل هو إخبار عن دوام بقائهم في النار : أي هي رؤية دائمة متصلة وقيل المعنى : لو تعلمون اليوم علم اليقين وأنتم في الدنيا لترون الجحيم بعين قلوبكم وهو أن تتصورا أمر القيامة وأهوالها (5/696)
8 - { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } أي عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة قال قتادة : يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه ولم يشكروا رب النعم حيث عبدوا غيره وأشركوا به قال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار وقال قتادة : إن الله سبحانه سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه وهذا هو الظاهر ولا وجه لتخصيص النعيم بفرد من الأفراد أو نوع من الأنواع لأن تعريفه للجنس أو الاستغراق ومجرد السؤال لا يستلزم تعذيب المسؤول على النعمة التي يسأل عنها فقد يسأل الله المؤمن عن النعم التي أنعم بها عليه فيم صرفها وبم عمل فيها ؟ ليعرف تقصيره وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر وقيل السؤال عن الأمن والصحة وقيل عن الصحة والفراغ وقيل عن الإدراك بالحواس وقيل عن ملاذ المأكون والمشروب وقيل عن الغداء والعشاء وقيل عن بارد الشراب وظلال المساكن وقيل عن اعتدال الخلق وقيل عن لذة النون والأولى العموم كما ذكرنا
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بردة في قوله : { ألهاكم التكاثر } قال : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان وفلان وقال الآخرون مثل ذلك تفاخروا بالأحياء ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر ومثل فلان وفعل الآخرون كذلك فأنزل الله { ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر } لقد كان لكم فيما زرتم عبرة وشغل وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ألهاكم التكاثر } قال : في الأموال والأولاد وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ألهاكم التكاثر يعني عن الطاعة { حتى زرتم المقابر } يقول : حتى يأتيكم الموت { كلا سوف تعلمون } يعني لو قد دخلتم قبوركم { ثم كلا سوف تعلمون } يقول : لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم { كلا لو تعلمون علم اليقين } قال : لو قد وقفتم على أعمالكم بين يدي ربكم { لترون الجحيم } وذلك أن الصراط يوضع وسط جهنم فناج مسلم ومخدوش مسلم ومكدوش في نار جهنم { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } يعني شبع البطون وبارد [ المشرب ] وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم وأخرج ابن مردويه عن عياض بن غنم مرفوعا نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال : صحة الأبدان والأسماع والأبصار وهو أعلم بذلك منهم وهو قوله { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال : الأمن والصحة وأخرج البيهقي عن علي بن أبي طالب قال : النعيم العافية وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : من أكل خبز البر وشرب ماء الفرات مبردا وكان له منزل يسكنه فذلك من النعيم الذي يسأل عنه وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الآية : أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبردا ولعل رفع هذا لا يصح فربما كان من قول أبي الدرداء وأخرج أحمد في الزهد وابن مردويه عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قال : [ ناس من أمتي يعقدون السمن والعسل بالنقي فيأكلونه ] وهذا مرسل وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية قال الصحابة : يا رسول الله إي نعيم نحن فيه ؟ وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه و سلم أن قل لهم : أليس تحتذون النعال وتشربون الماء البارد فهذا من النعيم وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وأحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن محمود بن لبيد قال : لما نزلت { ألهاكم التكاثر } فقرأ حتى بلغ { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قالوا : يا رسول الله أي نعيم نسأل عنه ؟ وإنما هما الأسودان : الماء والتمر وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر فعن أي نعيم نسأل ؟ قال : [ أما إن ذلك سيكون ] وأخرجه عبد بن حميد والترمذي وابن مردويه من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه من حديث الزبير بن العوام وأخرجه أحمد في الزهد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن حبان وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصح لك جسدك ونروك من الماء البارد ؟ ] وأخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر بن عبد الله قال : [ جاءنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر فأطعمناهم رطبا وسقيناهم ماء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا من النعيم الذي تسألون عنه ] وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي من حديث جابر بن عبد الله نحوه وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قالا : [ خرج النبي صلى الله عليه و سلم فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال : ما أخرجكما من بيوتكما الساعة ؟ قالا : الجوع يا رسول الله قال : والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوما فقاما معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت : مرحبا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أين فلان ؟ قالت : انطلق يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاري فنظر إلى النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه فقال : الحمد لله ما أحد اليوم أكم أضيافا مني فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر فقال : كلوا من هذا وأخذ المدية فقال له رسول الله : أياك والحلوب فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر وعمر : والذي نفسي بيده لنسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ] وفي الباب أحاديث اهـ (5/696)
هي ثلاث آيات
وهي مكية عند الجمهور وقال قتادة : هي مدنية وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة العصر بمكة وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي مزينة الدارمي وكانت له صحبة قال : كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر :
أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز و جل وعلى توحيده ويقال لليل عصر وللنهار عصر ومنه قول حميد بن ثور :
( ولم ينته العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تمنيا )
ويقال للغداة والعشي عصران ومنه قول الشاعر :
( وأمطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم )
وقال قتادة والحسن : المراد به في الآية العشي وهو ما بين زوال الشمس وغروبها ومنه قول الشاعر :
( يروح بنا عمرو وقد قصر العصر ... وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر )
وروي عن قتادة أيضا أنه آخر ساعة من ساعات النهار وقال مقاتل : إن المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها وقيل هو قسما بعصر النبي صلى الله عليه و سلم قال الزجاج : قال بعضهم : معناه ورب العصر والأول أولى (5/698)
2 - { إن الإنسان لفي خسر } هذا جواب القسم الخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال والمعنى : أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت وقيل المراد بالإنسان الكافر وقيل جماعة من الكفار : وهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب بن أسد والأول أولى لما في لفظ الإنسان من العموم ولدلالة الاستثناء عليه قال الأخفش : { في خسر } في هلكة وقال الفراء : عقوبة وقال ابن زيد : لفي شر قرأ الجمهور { والعصر } بسكون الصاد وقرأوا أيضا { خسر } بضم الخاء وسكون السين وقرأ يحيى بن سلام والعصر بكسر الصاد وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى : خسر بضم الخاء والسين ورويت هذه القراءة عن عاصم (5/699)
3 - { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح فإنهم في ربح لا في خسر لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها والاستثناء متصل ومن قال : إن المراد بالإنسان الكافر فقط فيكون منقطعا ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة ولا وجه لما قيل من أن المراد الصحابة أو بعضهم فإن اللفظ عام لا يخرج عنه أحد عن يتصف بالإيمان والعمل الصالح { وتواصوا بالحق } أي وصى بعضهم بعضا بالحق الذي يحق القيام به وهو الإيمان بالله والتوحيد والقيام بما شرعه الله واجتناب ما نهى عنه قال قتادة : بالحق : أي بالقرآن وقيل بالتوحيد والحمل على العموم أولى { وتواصوا بالصبر } أي بالصبر عن معاصي الله سبحانه والصبر على فرائضه وفي جعل التواصي بالصبر قرينا للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه { إن الله مع الصابرين } وأيضا التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ومزيد شرفه عليها وارتفاع طبقته عنها
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { والعصر } قال : الدهر وأخرج ابن جرير عنه قال : هو ساعة من ساعات النهار وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : هو ما قبل مغيب الشمس من العشي وأخرج الفريابي وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب أنه كان يقرأ والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه فيه إلى آخر الدهر وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : والعصر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهراهـ (5/699)
هي تسع آيات وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت { ويل لكل همزة لمزة } بمكة
الويل : هو مرتفع على الابتداء وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة دعاء عليهم وخبره 1 - { ويل لكل همزة لمزة } والمعنى : خزي أو عذاب أو هلكة أو واد في جهنم لكل همزة لمزة قال أبو عبيدة والزجاج : الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس وعلى هذا هما بمعنى : وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح : الهمزة الذي يغتاب الرجل في وجهه واللمزة : الذي يغتاب من خلفه وقال قتادة عكس هذا وروي عن قتادة ومجاهد أيضا أن اللمزة : الناس في أنسابهم وروي عن مجاهد أيضا أن الهمزة : الذي يهمز الناس بيده واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه وقال سفيان الثوري : يهمزهم بلسانه ويلمزهم بعينه وقال ابن كيسان : الهمزة : الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ واللمزة : الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه والأول أولى ومنه قول زياد الأعجم :
( تدلي بود إذا لاقيتي كذبا ... وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه )
وقول الآخر :
( إذا لقيتك عن سخط تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه )
وأصل الهمزة الكسر يقال : همز رأسه كسره ومنه قول العجاج :
( ومن همزنا رأسه تهشما )
وقيل أصل الهمز واللمز : الضرب والدفع يقال : همزه يهمزه همزا ولمزه يلمزه لمزا : إذا دفعه وضربه ومنه قول الشاعر :
( ومن همزنا عزه تبركعا ... على استه زوبعة أو زوبعا )
البركعة : القيام على أربع يقال بركعه فتبركع : أي صرعه فوقع على استه كذا في الصحاح وبناء فعلة يدل على الكثرة فقيه دلالة على أنه يعفل ذلك كثيرا وأنه قد صار ذلك عادة له ومثله ضحكة ولعنة قرأ الجمهور { همزة لمزة } بضم أولهما وفتح الميم فيهما وقرأ الباقر والأعرج بسكون الميم فيهما وقرأ أبو وائل والنخعي والأعمش { ويل لكل همزة لمزة } والآية تعم كل من كان متصفا بذلك ولا ينافيه نزولها على سبب خاص فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (5/701)
2 - { الذي جمع مالا وعدده } الموصول بدل من كل أو في محل نصب على الذم وهذا أرجح لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح وإنما وصفه سبحانه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال وظنه أنه الفضل فلأجل ذلك يستقصر غيره قرأ الجمهور { جمع } مخففا وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد وقرأ الجمهور { وعدده } بالتشديد وقرأ الحسن والكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية بالتخفيف والتشديد في الكلمتين يدل على التكثير وهو جمع الشيء بعد الشيء وتعديده مرة بعد أخرى قال الفراء : معنى عدده أحصاه وقال الزجاج : وعدده لنوائب الدهور يقال أعددت الشيء وعددته : إذا أمسكته قال السدي : أحصى عدده وقال الضحاك : أعد ماله لمن يرثه وقيل المعنى : فاخر بكثرته قراءة التخفيف في عدده : أنه جمع عشيرته وأقاربه قال المهدوي : من خفف وعدده فهو معطوف على المال : أي وجمع عدده (5/702)
وجملة 3 - { يحسب أن ماله أخلده } مستأنفة لتقرير ما قبلها ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال : أي يعمل عمل من يظن أن ماله يتركه حيا مخلدا لا يموت وقال عكرمة : يحسب أن ماله يزيد في عمره والإظهار في موضع الإضمار للتقريع والتوبيخ وقيل هو تعريض بالعمل الصالح وأنه الذي يخلد صاحبه في الحياة الأبدية لا المال (5/702)
4 - { كلا } ردع له عن ذلك الحسبان : أي ليس الأمر على ما يحسبه هذا الذي جمع المال وعدده واللام في { لينبذن في الحطمة } جواب قسم محذوف : أي ليطرحن في النار وليلقين فيها قرأ الجمهور { لينبذن } وقرأ علي والحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن : لينبذان بالتثنية : أي لينبذ هو وماله في النار وقرأ الحسن أيضا : لينبذن : أي لينبذن ماله من النار (5/702)
5 - { وما أدراك ما الحطمة } هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول وتبلغه الأفهام (5/703)
ثم بينها سبحانه فقال : 6 - { نار الله الموقدة } أي هي نار الله الموقدة بأمر الله سبحانه وفي إضافتها إلى الاسم الشريف تعظيم لها وتفخيم وكذلك في وصفها بالإيقاد : وسميت حطمة لأنها تحطم كل ما يلقى فيها وتهشمه ومنه :
( إنا حطمنا بالقضيب مصعبا ... يوم كسرنا أنفه ليغضبا )
قيل : هي الطبقة السادية من طبقات جهنم وقيل الطبقة الثانية منها وقيل الطبقة الرابعة (5/703)
7 - { التي تطلع على الأفئدة } أي يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها وخص الأفئدة مع كونها تغشى جميع أبدانهم لأنها محل العقائد الزائغة أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها : أي إنهم في حال من يموت وهم لا يموتون وقيل معنى { تطلع على الأفئدة } أنها تعلم بمقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب وذلك بأمارات عرفها الله بها (5/703)
8 - { إنها عليهم مؤصدة } أي مطبقة مغلقة كما تقدم بيانه في سورة البلد يقال أصدت الباب : إذا أغلقته ومنه قول قيس بن الرقيات :
( إن في القصر لو دخلنا غزالا ... مصيبا موصدا عليه الحجاب ) (5/703)
9 - { في عمد ممددة } في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم : أي كائنين في عمد ممددة موثقين فيها أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم في عمد أو صفة لمؤصدة : أي مؤصدة بعمد ممددة قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم روح ومعنى كون العمد ممددة : أنها مطولة وهي أرسخ من القصيرة وقيل العمد أغلال في جهنم وقيل القيود قال قتادة : المعنى هم في عمد يعذبون بها واختار هذا ابن جرير : قرأ الجمهور { في عمد } بفتح العين والميم قيل هو اسم جمع لعمود وقيل جمع له قال الفراء : هي جمع لعمود كأديم وأدم وقال أبو عبيدة : هي جمع عماد وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بضم العين والميم وجمع عمود قال الفراء : هما جمعان صحيحان لعمود واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور قال الجوهري : العمود عمود البيت : وجمع القلة أعمدة وجمع الكثرة عمد وعمد وقرئ بهما قال أبو عبيدة : العمود كل مستطيل من خشب أو حديد
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { ويل لكل همزة لمزة } قال : هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الإخوان وأخرج ابن جرير عنه { ويل لكل همزة } قال : طعان { لمزة } قال : مغتاب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله : { إنها عليهم مؤصدة } قال : مطبقة { في عمد ممددة } قال : عمد من نار وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : هي الأدهم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأبواب هي الممددة وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : أدخلهم في عمد فمدت عليهم في أعناقهم فشدت بها الأبواب (5/703)
هي خمس آيات وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت بمكة { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل }
الاستفهام في قوله : 1 - { ألم تر } لتقرير رؤيته صلى الله عليه و سلم بإنكار عدمها قال الفراء : المعنى ألم تخبر وقال الزجاج : ألم تعلم وهو تعجيب له صلى الله عليه و سلم بما فعله الله { بأصحاب الفيل } الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة وكيف منصوبة بالفعل الذي بعدها ومعلقة لفعل الرؤية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ويجوز أن يكون لكل من يصلح له والمعنى : قد علمت يا محمد أو علم الناس الموجودون في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل وما فعل الله بهم فما لكم لا تؤمنون ؟ والفيل هو الحيوان المعروف وجمعه أفيال وفيول وفيلة قال ابن السكيت : ولا تقول أفيلة وصاحبه فيال وسيأتي ذكر قصة أصحاب الفيل إن شاء الله (5/704)
2 - { ألم يجعل كيدهم في تضليل } أي ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوه بكيدهم والهمزة للتقرير كأنه قيل : قد جعل كيدهم في تضليل والكيد : هو إرادة المضرة بالغير لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا والسبي ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب (5/704)
3 - { وأرسل عليهم طيرا أبابيل } أي أقاطيع يتبع بعضها بعضا كالإبل المؤبلة قال أبو عبيدة : أبابيل جماعات في تفرقة يقال جاءت الخيل أبابيل : أي جماعات من ههنا وههنا قال النحاس : وحقيقته أنها جماعات عظام يقال فلان توبل على فلان : أي تعظم عليه وتكبر وهو مشتق من الإبل وهو من الجمع الذي لا واحد له وقال بعضهم : واحده أبول مثل عجول وقال بعضهم : أبيل قال الواحدي : ولم نر أحدا يجعل لها واحدا قال الفراء : لا واحد له من لفظه وزعم الرؤاسي وكان ثقة أنه سمع في واحدها : أبالة مشددا وحكى الفراء أيضا : أبالة بالتخفيف قال سعيد بن جبير : كانت طيرا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها قال قتادة : هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه وحجر في منقاره لا يصيب شيئا إلا هشمه وقيل كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع وقيل كان لها خراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب وقيل في صفتها غير ذلك والعرب تستعمل الأبابيل في الطير كما في قول الشاعر :
( تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم ... أبابيل طير تحت دجن مسجن )
وتستعملها في غير الطير كقول الآخر :
( كادت تهد من الأصوات راحلتي ... أن سألت الأرض بالجرد الأبابيل ) (5/705)
4 - { ترميهم بحجارة من سجيل } الجملة في محل نصب صفة لطير قرأ الجمهور { ترميهم } بالفوقية وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة بالتحتية واسم الجمع يذكر ويؤنث وقيل : الضمير في القراءة الثانية لله عز و جل قال الزجاج : { من سجيل } أي مما كتب عليهم العذاب به مشتقا من السجل قال في الصحاح قالوا : هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم قال عبد الرحمن بن أبزى : { من سجيل } من السماء وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط وقيل : من الجحيم التي هي سجين ثم أبدلت النون لاما ومنه قول ابن مقبل :
( ضربا تواصت به الأبطال سجيلا )
وإنما هو سجينا قال عكرمة : كانت ترميهم بحجارة معها فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة وقد قدمنا الكلام في سجيل في سورة هود (5/706)
5 - { فجعلهم كعصف مأكول } أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه وقيل المعنى : أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدواب وبقي منه بقايا أو أكلت حبه فبقي بدون حبه والعصف جمع عصفة وعصافة وعصيفة وقد قدمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن فارجع إليه
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح فأتاهم عبد المطلب فقال : إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا قالوا : لا نرجع حتى نهدمه وكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء عليها الطين فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة فكان لا يحك الإنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه وأخرج ابن المنذر والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عنه قال : أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم لما جاء بك إلينا ؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شيء ؟ فقال : أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن فجئت أخيف أهله فقال : إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع فأبى إلا أن يدخله وانطلق يسير نحوه وتخلف عبد المطلب فقام على جبل فقال : لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله : { ترميهم بحجارة من سجيل } فجعل الفيل يعج عجا { فجعلهم كعصف مأكول } وقصة أصحاب الفيل مبسوطة مطولة في كتب التاريخ والسير فلا نطول بذكرها وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { ترميهم بحجارة من سجيل } قال : حجارة مثل البندق وبها تضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة أحجار : حجران في رجليه وحجر [ في ] منقاره حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة فلم تعد عسكرهم وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء والضحاك عنه أن أبرهم الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة فأرسل الله عليهم طيرا أبابيل يريد مجتمعة لها خراطيم تحمل حصاة في منقارها وحصاتين في رجليها ترسل واحدة على رأس الرجل فيسيل لحمه ودمه ويبقى عظاما خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عنه أيضا { فجعلهم كعصف مأكول } يقول : كالتبن وأخرج ابن إسحاق في السيرة والواقدي وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان وأخرج الواقدي نحوه عن أسماء بنت أبي بكر وأخرج أبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه و سلم عام الفيل وأخرج ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقي عن قيس بن مخرمة قال : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل (5/706)
ويقال سورة لإيلاف وهي أربع آيات
وهي مكية عند الجمهور وقال الضحاك والكلبي : هي مدنية
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة { لإيلاف } بمكة وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ فضل الله قريشا بسبع خصال لم يعطها أحدا قبلهم ولا يعطيها أحدا بعدهم : أني فيهم وفي لفظ : النبوة فيهم والخلافة فيهم والحجابة فيهم والسقاية فيهم ونصروا على افيل وعبدوا الله سبع سنين وفي لفظ : عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم { لإيلاف قريش } ] قال ابن كثير : هو حديث غريب ويشهد له ما أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فضل الله قريشا بسبع خصال : فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون وفضلهم بأنها نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم وهي لإيلاف قريش وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة والسقاية ] وأخرج الخطيب في تاريخه عن سعيد بن المسيب مرفوعا نحوه وهو مرسل
اللام في قوله : 1 - { لإيلاف } قيل هي متعلقة بآخر السورة التي قبلها كأنه قال سبحانه : أهلكت أصحاب الفيل لأجل تألف قريش قال الفراء : هذه السورة متصلة بالسورة الأولى لأنه ذكر سبحانه أهل مكة بعظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة ثم قال : { لإيلاف قريش } أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها فلا يغار عليها في الجاهلية يقولون : هم أهل بيت الله عز و جل حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ويأخذ حجارتها فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه فأهلكهم الله عز و جل فذكرهم نعمته : أي فعل ذلك لإيلاف قريش : أي ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم وذكر نحو هذا ابن قتيبة قال الزجاج : والمعنى فجعلهم كعصف مأكول { لإيلاف قريش } أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف وقال في الكشاف : إن اللام متعلق بقوله : { فليعبدوا } أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى : أما لا فليعبدوه وقد تقدم صاحب الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد والمعنى : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة وقال الكسائي والأخفش : اللام لام التعجب : أي اعجبوا لإيلاف قريش وقيل هي بمعنى إلى قرأ الجمهور { لإيلاف } بالياء مهموزا من ألفت أؤلف [ إيلافا ] يقال : ألفت الشيء ألافا وألفا وألفته إيلافا بمعنى ومنه قول الشاعر :
( المنعمين إذا النجوم تغيرت ... والظاعنين لرحلة الإيلاف )
وقرأ ابن عامر لإلاف بدون الياء وقرأ أبو جعفر لإلف وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر فقال :
( زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف )
وقرأ عكرمة ليألف قريش بفتح اللام على أنها لام الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وفتح لام الأمر لغة معروفة وقرأ بعض أهل مكة إلاف قريش واستشهد بقول أبي طالب :
( تذود الورى من عصبة هاشمية ... إلا فهم في الناس خير إلاف )
وقريش هم : بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر فكل من كان من لود النضر فهو قرشي ومن لم يلده النضر فليس بقرشي وقريش يأتي منصرفا إن أريد به الحي وغير منصرف إن أريد به القبيلة ومنه قول الشاعر :
( وكفى قريش المعضلات وسادها )
وقيل إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر والأول أصح (5/707)
وقوله : 2 - { إيلافهم } بدل من إيلاف قريش و { رحلة } مفعول به لإيلافهم وأفردها ولم يقل رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس وقيل إن إيلافهم تأكيد للأول لا بدل والأول أولى ورجحه أبو البقاء وقيل إن رحلة منصوبة بمصدر مقدر : أي ارتحالهم رحلة { الشتاء والصيف } وقيل هي منصوبة على الظرفية والرحلة : الارتحال وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء لأنها بلاد حارة والرحلة الأخرى إلى الشام في الصيف لأنها بلاد باردة وروي أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف والأول أولى فإن ارتحال قريش للتجارة معلوم معروف في الجاهلية والإسلام قال ابن قتيبة : إنما كانت تعيش قريش بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة : رحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة في الصيف إلى الشام ولولا هاتان الرحلتان لم يكن بها مقام ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف (5/709)
3 - { فليعبدوا رب هذا البيت } أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم : أي إن لم يعدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة والبيت الكعبة وعرفهم سبحانه بأنه رب هذا البيت لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها فميز نفسه عنها وقيل لأنهم بالبيت تشرفوا على سائر العرب فذكر لهم ذلك تذكيرا لنعمته (5/710)
4 - { الذي أطعمهم من جوع } أي أطعمهم بسبب تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما وقيل إن هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه و سلم دعا عليهم فقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف فاشتد القحط فقالوا : يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون فدعا فأخصبوا وزال عنهم الجوع وارتفع القحط { وآمنهم من خوف } أي من خوف شديد كانوا فيه قال ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضا فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان : آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل
وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : { لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } ويحكم يا قريش اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لإيلاف قريش } قال : نعمتي على قريش { إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف { فليعبدوا رب هذا البيت } قال : الكعبة { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } قال : الجذام وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه { لإيلاف قريش * إيلافهم } قال : لزومهم { الذي أطعمهم من جوع } يعني قريشا أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال : { وارزق أهله من الثمرات } { وآمنهم من خوف } حيث قال إبراهيم { رب اجعل هذا البلد آمنا } وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في قوله : { لإيلاف قريش } الآية قال : نهاهم عن الرحلة وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيت وكفاهم المؤمنة وكان رحلتهم في الشتاء والصيف ولم يكن لهم راحلة في شتاء ولا صيف فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع وآمنهم من خوف فألفوا الرحلة وكان ذلك من نعمة الله عليهم وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : أمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف وقد وردت أحاديث في فضل قريش وإن الناس تبع لهم في الخير والشر وإن هذا الأمر يعني الخلافة لا يزال فيهم ما بقي منهم اثنان وهي في دواوين الإسلام (5/710)
سورة الماعون
ويقال سورة الدين ويقال سورة الماعون ويقال سورة اليتيم وهي سبع آيات
وهي مكية في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس ومدينة في قوله قتادة وآخرين وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت 1 - { أرأيت الذي يكذب بالدين } بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له والاستفهام لقصد التعجيب من حال من يكذب بالدين والرؤية : بمعنى المعرفة والدين : الجزاء والحساب في الآخرة قيل وفي الكلام حذف والمعنى : أرأيت الذي يكذب بالدين أمصيب هو أم مخطئ قال مقاتل والكلبي : نزلت في العاص بن وائل السهمي وقال السدي : في الوليد بن المغيرة وقال الضحاك : في عمرو بن عائذ وقال ابن جريح في أبي سفيان وقيل في رجل من المنافقين قرأ الجمهور { أرأيت } بإثبات الهمزة الثانية وقرأ الكسائي بإسقاطها قال الزجاج : لا يقال في رأيت ريت ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا وقيل الرؤية : هي البصرية فيتعدى إلى مفعول واحد وهو الموصول : أي أبصرت المكذب وقيل إنها بمعنى أخبرني فيتعدى إلى اثنين الثاني محذوف : أي من هو (5/711)
2 - { فذلك الذي يدع اليتيم } الفاء جواب شرط مقدر : أن إن تأملته أو طلبته فذلك الذي يدع اليتيم ويجوز أن تكون عاطفة على الذي يكذب : إما عطف ذات على ذات أو صفة على صفة فعلى الأول يكون اسم الإشارة مبتدأ وخبره الموصول بعده أو خبر لمبتدأ محذوف : أي فهو ذلك والموصول صفته وعلى الثاني يكون في محل نصب لعطله على الموصول الذي هو في محل نصب ومعنى يدع يدفع دفعا بعنف وجفوة : أي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا ومنه قوله سبحانه : { يوم يدعون إلى نار جهنم دعا } وقد قدمنا أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان (5/712)
3 - { ولا يحض على طعام المسكين } أي لا يحض نفسه ولا أهله ولا غيرهم على ذلك بخلا بالمال أو تكذيبا بالجزاء وهو مثل قوله في سورة الأحقاف { ولا يحض على طعام المسكين } (5/712)
4 - { فويل } يومئذ { للمصلين } الفاء جواب لشرط محذوف كأنه قيل إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين فويل للمصلين (5/712)
5 - { الذين هم عن صلاتهم ساهون } أي عذاب لهم أو هلاك أو واد في جهنم لهم كما سبق الخلاف في معنى الويل ومعنى ساهون : غافلون غير مبالين بها ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من قبائحهم ووضع المصلين موضع ضميرهم للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر قال الواحدي : نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثوابا إن صلوا ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها (5/712)
وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا وهو معنى قوله : 6 - { الذين هم يراؤون } أي يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا أو يراءون الناس بكل ما عملوه من أعمال البر ليثنوا عليهم قال النخعي : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتا وقال قطرب : هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله وقرأ ابن مسعود الذين هم عن صلاتهم لاهون (5/712)
7 - { ويمنعون الماعون } قال أكثر المفسرين : الماعون اسم لما يتعاوزه الناس بينهم : من الدلو والفأس والقدر وما لا يمنع كالماء والملح وقيل هو الزكاة : أي يمنعون زكاة أموالهم وقال الزجاج : وأبو عبيد والمبرد : الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة حتى الفأس والدلو والقدر والقداحة وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير وأنشدوا قول الأعشى :
( بأجود ... منه بماعونه إذا ما سماؤهم لم تغم )
قال الزجاج وأبو عبيد والمبرد أيضا : والماعون في الإسلام الطاعو والزكاة وأنشدوا قول الراعي :
( أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفا نسجد بكرة وأصيلا )
( عرب نرى لله من أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا )
( قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا )
وقيل الماعون الماء قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون الماء وأنشدني :
( تمج صبيرة الماعون صبا )
والصبيرة السحاب وقيل الماعون : هو الحق على العبد على العموم وقيل هو المستغل من منافع الأموال مأخوذ من المعن وهو القليل قال قطرب : أصل الماعون من القلة والمعن : الشيء القليل فسمى الله الصدقة والزكاة ونحو ذلك من المعمروف ماعونا لأنه قليل من كثير وقيل هو ما لا يبخل به كالماء والملح والنار
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أرأيت الذي يكذب بالدين } قال : يكذب بحكم الله { فذلك الذي يدع اليتيم } قال : يدفعه عن حقه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } قال : هم المنافقون يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا ويتركونها إذا غابوا ويمنعونهم العارية بغضا لهم وهي الماعون وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا { الذين هم عن صلاتهم ساهون } قال : هم المنافقون يتركون الصلاة في السر ويصلون في العلانية وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبي : أرأيت قول الله { الذين هم عن صلاتهم ساهون } أينا لا يسهو أينا لا يحدث نفسه ؟ قال : إنه ليس ذلك إنه إضاعة الوقت وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } قال : هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قال الحاكم والبيهقي : الموقوف أصح قال ابن كثير : وهذا يعني الموقوف أصح إسنادا قال : وقد ضعف البيهقي رفعه وصحح وقفه وكذلك الحاكم وأخرج ابن جرير وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي برزة الأسلمي قال : [ لما نزلت هذه الآية { الذين هم عن صلاتهم ساهون } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أكبر هذه الآية خير لكم من أن يعطى كل رجل منكم جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته وإن تركها لم يحف ربه ] وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف وشيخه مبهم لم يسم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هم الذين يؤخرونها عن وقتها وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن ابن مسعود قال : كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم عارية الدلو والقدر والفأس والميزان وما تتعاطون بينكم وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان المسلمون يستعيرون من المنافقين القدر والفأس وشبهه فيمنعونهم فأنزل الله { ويمنعون الماعون } وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن عساكر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قال : ما تعاون الناس بينهم الفأس والقدر والدلو وأشباهه وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قرة بن دعموص النميري [ أنهم وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله ما تعهد إلينا ؟ قال : لا تمنعوا الماعون قالوا : وما الماعون ؟ قال : في الحجر والحديدة وفي الماء قالوا : فأي الحديدة ؟ قال : قدوركم النحاس وحديد الفأس الذي تمتهنون به قالوا : وما الحجر ؟ قال : قدوركم الحجارة ] قال ابن كثير : غريب جدا ورفعه منكر وفي إسناده من لا يعرف وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن سعيد بن عياض عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : الماعون : الفأس والقدر والدلو وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في الآية قال : عارية متاع البيت وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال : الماعون الزكاة المفروضة { يراؤون } بصلاتهم { ويمنعون } زكاتهم (5/712)
هي ثلاث آيات
وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت سورة الكوثر بمكة
قرأ الجمهور 1 - { إنا أعطيناك } وقرأ الحسن وابن محيصن وطلحة والزعفراني أنطيناك بالنون قيل هي لغة العرب العاربة قال الأعشى :
( حباؤك خير حبا الملوك ... يصان الحلال وتنطى الحولا )
و { الكوثر } فوعل من الكثرة وصف به للمبالغة في الكثرة مثل النوفل من النفل والجوهر من الجهر والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثرا ومنه قول الشاعر :
( وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا )
فالمعنى على هذا : إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية وذهب أكثر المفسرين كما حكاه الواحدي إلى أن الكوثر نهر في الجنة وقيل هو حوض النبي صلى الله عليه و سلم في الموقف قاله عطاء وقال عكرمة : الكوثر النبوة وقال الحسن : هو القرآن وقال الحسن بن الفضل : هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع وقال أبو بكر بن عياش : هو كثرة الأصحاب والأمة وقال ابن كيسان : هو الإيثار وقيل هو الإسلام وقيل رفعة الذكر وقيل نور القلب وقيل الشفاعة وقيل المعجزات وقيل إجابة الدعوة وقيل لا إله إلا الله وقيل الفقه في الدين وقيل الصلوات الخمس وسيأتي بيان ما هو الحق (5/715)
2 - { فصل لربك } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها والمراد الأمر له صلى الله عليه و سلم بالدوام على إقامة الصلوات المفروضة { وانحر } البدن التي هي خيار أموال العرب قال محمد بن كعب : إن ناسا كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم أن تكون صلاته ونحره له وقال قتادة وعطاء وعكرمة : المراد صلاة العيد ونحر الأضحية وقال النحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذا النحر قاله محمد بن كعب وقيل هو أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى حذاء نحره وقيل هو أن يستقبل القبلة بنحره قاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول نتناحر : أي نتقابل : نحر هذا إلى نحر هذا أي قبالته ومنه قول الشاعر :
( أبا حكم ما أنت عمرا مجالد ... وسيد أهل الأبطح المتناحر )
أي المتقابل وقال ابن الأعرابي : هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب من قولهم : منازهم تتناحر تتقابل وروي عن عطاء أنه قال : أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره وقال سليمان التميمي المعنى : وارفع يديك بالدعاء إلى نحرك وظاهر الآية الأمر له صلى الله عليه و سلم بمطلق الصلاة ومطلق النحر وأن يجعلهما لله عز و جل لا لغيره وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص فهو في حكم التقييد له وسيأتي إن شاء الله (5/716)
3 - { إن شانئك هو الأبتر } أي إن مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم فيعم خيري الدنيا والآخرة أو الذي لا عقب له أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته وظاهر الآية العموم وأن هذا شأن كل من يبغض النبي صلى الله عليه و سلم ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما مر غيره مرة قيل كان أهل الجاهلية إذا مات الذكور من أولاد الرجل قالوا : قد بتر فلان فلما مات ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم إبراهيم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال : الأبتر من الرجال : الذي لا ولد له ومن الدواب : الذي لا ذنب له وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر وأصل البتر القطع يقال بترت الشيء بترا : قطعته
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال [ أغفى رسول الله صلى الله عليه و سلم إغفاءة فرفع رأسه مبتسما فقال : إنه أنزل علي آنفا سورة فقرأ { إنا أعطيناك الكوثر } حتى ختمها قال : هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته كعدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك ] وأخرج أيضا مسلم في صحيحه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله ] وقد روي عن أنس من طريق كلها مصرحة بأن الكوثر هو النهر الذي في الجنة وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن جرير وابن مردويه عن عائشة أنها سئلت عن قوله : { إنا أعطيناك الكوثر } قالت : هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه و سلم في بطنان الجنة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه نهر في الجنة وأخرج الطبراني في الأوسط عن حذيفة في قوله : { إنا أعطيناك الكوثر } قال : نهر في الجنة وحسن السيوطي إسناده وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أسامة بن زيد مرفوعا [ أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم إنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر فقال : أجل وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ ] وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رجلا قال : يا رسول الله ما الكوثر ؟ قال : هو نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله ] فهذه الأحاديث تدل على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة فيتعين المصير إليها وعدم التعويل على غيرها وإن كان معنى الكوثر : هو الخير الكثير في لغة العرب فمن فسره بما هو أعم مما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغوي كما أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عطاء بن السائب قال : قال محارب بن دثار : قال سعيد بن جبير في الكوثر : قلت حدثنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير فقال : صدق إنه لخير الكثير ولكن حدثنا ابن عمر قال نزلت { إنا أعطيناك الكوثر } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ] وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر هو الخير الذي أعطاه الله إياه قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه ناظر إلى المعنى اللغوي كما عرفناك ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد فسره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال : [ لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه و سلم { إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لجبريل : ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ فقال : إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة قال النبي صلى الله عليه و سلم : رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله { فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } ] وهو من طريق مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن علي وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : [ إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة فذاك النحر ] وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب في قوله : { فصل لربك وانحر } قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ثم وضعهما على صدره في الصلاة وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله وأخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في سننه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس { فصل لربك وانحر } قال : إذا صليت فرفعت رأسك من الركوع فاستو قائما وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : الصلاة المكتوبة والذبح يوم الأضحى وأخرج البيهقي في سننه عنه { وانحر } قال : يقول واذبح يوم النحر وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم ألا ترى إلى هذا الصابئ المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة قال : أنتم خير منه فنزلت : { إن شانئك هو الأبتر } ونزلت { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله : { فلن تجد له نصيرا } قال ابن كثير : وإسناده صحيح وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال : لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه و سلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا : إن هذا الصابئ قد بتر الليلة فأنزل الله { إنا أعطيناك الكوثر } إلى آخر السورة وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية فمات القاسم وهو أول ميت من أهله وولده بمكة ثم مات عبد الله فقال العاص بن وائل السهمي : قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله { إن شانئك هو الأبتر } وفي إسناده الكلبي وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { إن شانئك هو الأبتر } قال : أبو جهل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { إن شانئك } يقول : عدوك (5/716)
هي ست آيات
وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت سورة { يا أيها الكافرون } بمكة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : أنزلت { يا أيها الكافرون } بالمدينة وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ بهذه السورة وبقل هو الله أحد في ركعتي الطواف ] وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ بهما في ركعتي الفجر وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن مردويه عن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } ] وأخرج الحاكم وصححه عن أبي قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوتر ب { سبح } و { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } وأخرج محمد بن نصر والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن و { قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن وكان يقرأ بهما في ركعتي الفجر ] وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من قرأ يا أيها الكافرون كانت له عدل ربع القرآن ] وأخرج الطبراني في الصغير والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ { قل يا أيها الكافرون } فكأنما قرأ ربع القرآن ومن قرأ { قل هو الله أحد } فكأنما قرأ ثلث القرآن ] وأخرج أحمد وابن الضريس والبغوي وحميد بن زنجويه في ترغيبه عن شيخ أدرك النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خرجت مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر فمر برجل يقرأ { قل يا أيها الكافرون } فقال أما هذا فقد برئ من الشرك وإذا آخر يقرأ { قل هو الله أحد } فقال النبي صلى الله عليه و سلم : بها وجبت له الجنة ] وفي رواية [ أما هذا فقد غفر له ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الأنباري في المصاحف عن أبيه [ قال : يا رسول الله علمني ما أقول إذا أويت إلى فراشي قال اقرأ { قل يا أيها الكافرون } ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك ] وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن مردويه عن عبد الرحمن بن نوفل الأشجعي عن أبيه مرفوعا مثله وأخرج ابن مردويه عن البراء قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لنوفل بن معاوية الأشجعي : إذا أتيت مضجعك للنوم فاقرأ { قل يا أيها الكافرون } فإنك إذا قلتها فقد برئت من الشرك ] وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن الحارث بن جبلة وقال الطبراني عن جبلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة قال : [ قلت يا رسول الله علمني شيئا أقوله عند منامي قال : إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ { قل يا أيها الكافرون } حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك ] وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لمعاذ : اقرأ { قل يا أيها الكافرون } عند منامك فإنها براءة من الشرك ] وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تقرأون { قل يا أيها الكافرون } عند منامكم ] وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه عن خباب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أخذت مضجعك فاقرأ { قل يا أيها الكافرون } وإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأت فراشه قط إلا قرأ { قل يا أيها الكافرون } حتى يختم ] وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لقي الله
بسورتين فلا حساب عليه { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } ] وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس عن أبي مسعود الأنصاري قال : من قرأ { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } في ليلة فقد أكثر وأطاب
الألف واللام في 1 - { يا أيها الكافرون } للجنس ولكنها لما كانت الآية خطابا لمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك لأن من الكفار عند نزول هذه الآية من أسلم وعبد الله سبحانه وسبب نزول هذه السورة أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة (5/719)
فأمره الله سبحانه أن يقول لهم : 2 - { لا أعبد ما تعبدون } أي لا أفعل ما تطلبون مني من عبادة ما تعبدون من الأصنام قيل والمراد فيما يستقبل من الزمان لأن لا النافية لا تدخل في الغالب إلا على [ المضارع ] الذي في معنى الاستقبال كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال (5/720)
3 - { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي (5/721)
4 - { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي ولا أنا قط فيما سلف عابد ما عبدتم فيه والمعنى : أنه لم يعهد مني ذلك (5/721)
5 - { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته كذا قيل وهذا على قول ما قال إنه لا تكرار في هذه الآيات لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدمنا من أن لا لا تدخل إلا على مضارع ف معنى الاستقبال والدليل على ذلك أن لن تأكيد لما تنفيه لا قال الخليل في لن : إن أصله لا فالمعنى : لا أعبد ما تعبدون في الستقبل ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي ثم قال : { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي ولست في الحال بعابد معبودكم ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي وقيل بعكس هذا وهو أن الجملتين الأوليين للحال والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } كما لو قال القائل : أنا ضارب زيدا وأنا قاتل عمرا فإنه لا يفهم منه إلا الاستقبال قال الأخفش والفراء : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد قال الزجاج : نفى رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل وقيل إن كل واحد منهما يصلح للحال والاستقبال ولكنا نخص أحدهما بالحال والثالني بالاستقبال رفعا للتكرار وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف فإن جعل قوله : ولا أعبد ما تعبدون للاستقبال وإن كان صحيحا على مقتضى اللغة العربية ولكنه لا يتم جعل قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } وللاستقبال لأن الجملة إسمية تفيد [ الدوام ] والثبات في كل الأوقات فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام والثبات في كل الأوقات ولو كان حملها على الاستقبال صحيحا للزم مثله في قوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } وفي قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل إسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد وهو لفظ لا في كل واحد منها فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة وأما قول من قال : إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال فهو إقرار منه بالتكرار لأن حمل هذا على معنى وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه دليل وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب ومن مذاهبهم التي لا تجحد واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ويبرهن على ما هو متنازع فيه وأما ما كان من الوضوح والظهور الجلاء بحيث لا يشك فيه شاك ولا يرتاب فيه مرتاب فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر ومن ذلك قول الشاعر :
( يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار )
وقول آخر :
( هلا سألت جموع كف ... سدة يوم ولوا أين أينا )
وقول الآخر :
( يا علقمة يا علقمة يا علقمة ... خير تميم كلها وأكرمه )
وقول الآخر :
( ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم )
وقول الآخر :
( يا جعفر يا جعفر يا جعفر ... إن أك دحداحا فأنت أقصر )
وقول الآخر :
( أتاك أتاك الاحقوك احبس احبس )
وقد ثبت عن الصادق المصدوق وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة لأنه يجوز ذلك كما في قوله : سبحان ما سخركن لنا ونحوه والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ولا يختلف وقيل إنه أراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق وقيل إن ما في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة : أي لا أعبد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي الخ (5/721)
6 - { لكم دينكم } مستأنفة لتقرير قوله : { لا أعبد ما تعبدون } وقوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } كما أن قوله : { ولي دين } تقرير لقوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } في الموضعين : أي إن رضيتم بدينكم فقد رضيت بديني كما في قوله : { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } والمعنى : أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي كما تطمعون وديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم وقيل المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي لأن الدين الجزاء قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف وقيل ليست بمنسوخة لأنها أخبار والأخبار لا يدخلها النسخ قرأ الجمهور بإسكان الياء من قوله { ولي } وقرأ نافع وهشام وحفص والبزي بفتحها وقرأ الجمهور أيضا بحذف الياء من ديني وقفا ووصلا وأثبتها نصر بن عاصم وسلام ويعقوب وصلا ووقفا قالوا لأنها اسم فلا تحذف ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ وإن كانت اسما
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس [ أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء فقالوا : هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح قال : ما هي ؟ قالوا : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي فجاء الوحي من عند الله { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } إلى آخر السورة وأنزل الله { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } إلى قوله : { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن مينا مولى أبي البحتري قال [ لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا فأنزل الله { قل يا أيها الكافرون } إلى أخر السورة ] وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشا قالت : لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك فأنزل الله { قل يا أيها الكافرون } السورة كلها (5/723)
وتسمى سورة التوديع هي ثلاث آيات
وهي مدنية بلا خلاف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزل بالمدينة { إذا جاء نصر الله والفتح } وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال : [ هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع { إذا جاء نصر الله والفتح } حتى ختمها فعرف رسول الله صلى الله عليه و سلم أنها الوداع ] وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال [ لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعيت إلى نفسي ] وأخرج ابن مردويه عنه قال : [ لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعيت إلي نفسي وقرب إلي أجلي ] وأخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه أيضا قال : [ لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } نعيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه حين أنزلت فأخذ في أشد ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم حبيبة قالت [ لما أنزل { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : إن الله لم يبعث نبيا إلا عمر في أمته شطر ما عمر النبي الماضي قبله فإن عيسى ابن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل وهذه لي عشرون سنة وأنا ميت في هذه السنة فبكت فاطمة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أنت أول أهلي بي لحوقا فتبسمت ] وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : [ لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة وقال : إنه قد نعيت إلي نفسي فبكت ثم ضحكت وقالت : أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ؟ فقال : اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت ] وقد تقدم في تفسير سورة الزلزلة أن هذه السورة تعدل ربع القرآن
النصر : العون مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض : إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها ومنه قول الشاعر :
( إذا انصرف الشهر الحرام فودعي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر )
يقال نصره على عدوه ينصره نصرا : إذا أعانه والاسم النصرة واستنصره على عدوه : إذا سأله أن ينصره عليه قال الواحدي : قال المفسرون 1 - { إذا جاء } ك يا محمد { نصر الله } على من عاداك وهم قريش { والفتح } فتح مكة وقيل المراد نصره صلى الله عليه و سلم على قريش من غير تعيين وقيل نصره على من قاتله من الكفار وقيل هو فتح سائر البلاد وقيل هو ما فتحه الله عليهم من العلوم وعبر عن حصول النصر والفتح بالمجيء للإيذان بأنهما متوجهان إليه صلى الله عليه و سلم وقيل إذا بمعنى قد وقيل بمعنى إذ قال الرازي : الفرق بين النصر والفتح : أن الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان منغلقا والنصر كالسبب للفتح فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف عليه الفتح أو يقال النصر كمال الدين والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة أو يقال النصر الظفر والفتح الجنة هذا معنى كلامه ويقال الأمر أوضح من هذا وأظهر فإن النصر هو التأييد الذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم والاستعلاء عليهم والفتح هو فتح مساكن الأعداء ودخول منازلهم (5/724)
2 - { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } أي أبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به جماعات فوجا بعد فوج قال الحسن : لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة قال العرب : أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا : أي جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا واثنين اثنين فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام قال عكرمة ومقاتل : أراد باناس أهل اليمن وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين وانتصاب أفواجا على الحال من فاعل يدخلون ومحل قوله يدخلون في دين الله النصب على الحال إن كانت الرؤية بصرية وإن كانت بمعنى العلم فهو في محل نصب على أنه المفعول الثاني (5/725)
3 - { فسبح بحمد ربك } هذا جواب الشرط وهو العامل فيه والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله وقال مكي : العامل في إذا هو جاء ورجحه أبو حيان وضعف الأول بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها وقوله : { بحمد ربك } في محل نصب على الحال : أي فقل سبحان الله ملتبسا بحمده أو حامدا له وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس وبين الحمد له على جميل صنعه له وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر والفتح لأم القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منه بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم : هو مجنون هو ساحر هو شاعر هو كاهن ونحو ذلك ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بالاستغفار : أي اطلب منه المغفرة لذنبك هضما لنفسك واستقصارا لعملك واستدراكا لما فرط منك من ترك ما هو الأولى وقد كان صلى الله عليه و سلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ويكثر من الاستغفار والتضرع وإن كان قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقيل إن الاستغفار منه صلى الله عليه و سلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم وقيل إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيها لأمته وتعريضا بهم فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار وقيل إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلاة والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سرورا بالنعمة وفرحا بما هيأه الله من نصر الدين وكبت أعدائه ونزول الذلة بهم وحصول القهر لهم قال الحسن : أعلم الله رسوله صلى الله عليه و سلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح فكان يكثر أن يقول : سبحانك الله وبحمدك اغفر لي إنك أنت التواب قال قتادة ومقاتل : وعاش صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه السور سنتين وجملة { إنه كان توابا } تعليل لأمره صلى الله عليه و سلم بالاستغفار : أي من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم وتواب من صيغ المبالغة فقيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله { إذا جاء نصر الله والفتح } فقالوا : فتح المدائن والقصور قال : فأنت يا ابن عباس ما تقول ؟ قال : قلت مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه و سلم نعيت له نفسه وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناءه مثله ؟ فقال عمر : إنه من قدم علمتم فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عز و جل { إذا جاء نصر الله والفتح } ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت لا فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه الله له فقال : { إذا جاء نصر الله والفتح } فذلك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول وأخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة { إذا جاء نصر الله والفتح } حين أنزلت على رسول الله أن نفسه نعيت إليه وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر من قول : سبحان الله وبحمده وأستغفره وأتوب إليه فقلت : يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه فقال : خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه فقد رأيتها { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } ] وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك الله اغفر لي يتأول القرآن ] يعني إذا جاء نصر الله والفتح وفي الباب أحاديث وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : [ لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : جاء أهل اليمن هم أرق قلوبا الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية ] وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : [ بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة إذ قال : الله أكبر قد جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية ] وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا ] وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : [ تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم : { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } قال : ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا ] (5/726)
هي خمس آيات
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة قالوا : نزلت { تبت يدا أبي لهب } بمكة
معنى 1 - { تبت } هلكت وقال مقاتل : خسرت وقيل خابت وقال عطاء : ضلت وقيل صفرت من كل خير وخص اليدين بالتباب لأن أكثر العمل يكون بهما وقيل المراد باليدين نفسه وقد يعبر باليد عن النفس كما في قوله : { بما قدمت يداك } أي نفسك والعرب تعبر كثيرا ببعض الشيء عن كله كقولهم : أصابته بيد الدهر وأصابته يد المنايا كما في قول الشاعر :
( لما أكبت يد الرزايا ... عليه نادى ألا مخبر )
وأبو لهب اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم وقوله : { وتب } أي هلك قال الفراء : الأول دعاء عليه والثاني خبر كما تقول : أهلكه الله وقد هلك والمعنى : أنه قد وقع ما دعا به عليه ويؤيده قراءة ابن مسعود : وقد تب وقيل كلاهما إخبار أراد بالأول هلاك عمله وبالثاني هلاك نفسه وقيل كلاهما دعاء عليه ويكون في هذا شبه من مجيء العام بعد الخاص وإن كان حقيقة الدين غير مرادة وذكره سبحانه بكنيته لاشتهاره بها ولكون اسمه كما تقدم عبد العزى والعزى اسم صنم ولكون في هذه [ الكنية ] ما يدل على أنه ملابس للنار لأن اللهب هي لهب النار وإن كان إطلاق ذلك عليه في الأصل لكونه كان جميلا وأن وجهه يتلهب لمزيد حسنه كما تتلهب النار قرأ الجمهور { لهب } بفتح اللام والهاء وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن محيصن بإسكان الهاء واتفقوا على فتح الهاء في قوله : { ذات لهب } وروى صاحب الكشاف أنه قرئ تبت يدا أبو لهب وذكر وجه ذلك (5/728)
2 - { ما أغنى عنه ماله وما كسب } أي ما دفع عنه ما حل به من التباب وما نزل به من عذاب الله ما جمع من المال ولا ما كسب من الأرباح والجاه أو المراد بقوله : ماله ما ورثه من أبيه وبقوله : { وما كسب } الذي كسبه بنفسه قال مجاهد : وما كسب من ولد وولد الرجل من كسبه ويجوز أن تكون ما في قوله : { ما أغنى } استفهامية : أي أي شيء أغنى عنه ؟ وكذا يجوز في قوله : { وما كسب } أن تكون استفهامية : أي وأي شيء كسب ؟ ويجوز أن تكون مصدرية أي وكسبه والظاهر أن ما الأولى نافية والثانية موصولة (5/729)
ثم أوعده سبحانه بالنار فقال : 3 - { سيصلى نارا ذات لهب } قرأ الجمهور { سيصلى } بفتح الياء وإسكان الصاد وتخفيف اللام : أي سيصلى هو بنفسه وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة وابن مقسم والأشهب العقيلي وأبو السماك والأعمش ومحمد بن السميفع بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام ورويت هذه القراءة عن ابن كثير والمعنى سيصليه [ الله ] ومعنى { ذات لهب } ذات اشتعال وتوقد وهي نار جهنم (5/729)
4 - { وامرأته حمالة الحطب } معطوف على الضمير في يصلى وجاز ذلك للفصل : أي وتصلى امرأته نارا ذات لهب وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان وكانت تحمل الغضى والشوك فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى الله عليه و سلم كذا قال ابن زيد والضحاك والربيع بن أنس ومرة الهمداني وقال مجاهد وقتادة والسدي : إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس والعرب تقول : فلان يحطب على فلان : إذا نم به ومنه قول الشاعر :
( إني بني الأدرم حمالوا الحطب ... هم الوشاة في الرضا والغضب )
( عليهم اللعنة تترى والحرب )
وقال آخر :
( من البيض لم يصطد على ظهر لامة ... ولم يمش بين الناس بالحطب الرطب )
وجعل الحطب في هذا البيت رطبا لما فيه من التدخين الذي هو زيادة في الشر ومن الموافقة للمشي بالنميمة وقال سعيد بن جبير : معنى حمالة الحطب أنها حمالة الخطايا والذنوب من قولهم : فلان يحتطب على ظهره كما في قوله { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } وقيل المعنى : حمالة الحطب في النار قرأ الجمهور { حمالة } بالرفع على الخبرية على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب وأما على ما قدمنا من عطف وامرأته على الضمير في تصلى فيكون رفع حمالة على النعت لامرأته والإضافة حقيقية لأنها بمعنى المضي أو على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هي حمالة وقرأ عاصم بنصب { حمالة } على الذم أو على أنه حال من امرأته وقرأ أبو قلابة حاملة الحطب (5/729)
5 - { في جيدها حبل من مسد } الجملة في محل نصب على الحال من امرأته والجيد العنق والمسد الليف الذي تفتل منه الحبال ومنه قول النابغة :
( مقذوفة بدحيض النحض نازلها ... له صريف صريف القعواء بالمسد )
وقول الآخر :
( يا مسد الخوص تعوذ مني ... إن كنت لدنا لينا فإني )
وقال أبو عبيدة : المسد هو الحبل يكون من صوف وقال الحسن : هي حبال تكون من شجر ينبت باليمن تسمى بالمسد وقد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها قال الضحاك : وغيره : هذا في الدنيا كانت تعير النبي صلى الله عليه و سلم بالفقير وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها فخنفها الله به فأهلكها وهو في الآخر حبل من نار وقال مجاهد وعروة بن الزبير : هو سلسلة من نار تدخل في فيها وتخرج من أسفلها وقال قتادة : هو قلادة من ودع كانت لها قال الحسن : إنما كان خرزا في عنقها وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت : واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد فيكون ذلك عذابا في جسدها يوم القيامة والمسد الفتل يقال : مسد حبله يمسده مسدا : أجاد فتله اهـ
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال : [ لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } خرج النبي صلى الله عليه و سلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تبا لك إنما جمعتنا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة { تبت يدا أبي لهب وتب } ] وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { تبت يدا أبي لهب } قال : خسرت وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ابنه من كسبه ثم قرأت { ما أغنى عنه ماله وما كسب } قالت : وما كسب ولده وأخرج عبد الرزاق والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وما كسب } قال : كسبه ولده وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { وامرأته حمالة الحطب } قال : كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي صلى الله عليه و سلم ليعقره وأصحابه وقال : { حمالة الحطب } نقالة الحديث { حبل من مسد } قال : هي حبال تكون بمكة ويقال : المسد العصا التي تكون في البكرة ويقال : المسد قلادة من ودع وأخرج ابن أبي حاتم وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر قالت [ لما نزلت { تبت يدا أبي لهب } أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول :
( مذمما أبينا ... ودينه قلينا وأمره عصينا )
ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر فلما رآها أبو بكر قال يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنها لن تراني وقرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني قال : لا ورب البيت ما هجاك فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها ] وأخرجه البزار بمعناه وقال : لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد (5/729)
وهي أربع آيات
وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر ومدينة في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن خزيمة وابن أبي عاصم في السنة والبغوي في معجمه وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه البيهقي في الأسماء والصفات عن أبي بن كعب [ أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد } إلخ ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يوت إلا سيورث وإن الله لا يموت ولا يورث { ولم يكن له كفوا أحد } قال : لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء ] ورواه الترمذي من طريق أخرى عن أبي العالية مرسلا ولم يذكر أبيا ثم قال : وهذا أصح وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي عن جابر قال : [ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : انسب لنا ربك فأنزل الله { قل هو الله أحد } إلى آخر السورة ] وحسن السيوطي إسناده وأخرج الطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال : [ قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم : انسب لنا ربك فنزلت هذه السورة { قل هو الله أحد } ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس [ أن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب فقالوا : يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك فأنزل الله { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد } فيخرج منه الولد ولم يولد فيخرج منه شيء ] وأخرج أبو عبيد في فضائله وأحمد والنسائي في اليوم والليلة وابن منيع ومحمد بن نصر وابن مردويه والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ { قل هو الله أحد } فكأنما قرأ ثلث القرآن ] وأخرج ابن الضريس والبزار والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ { قل هو الله أحد } مائتي مرة غفر الله له ذنب مائتي سنة ] قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا الحسن بن أبي جعفر والأغلب بن تميم وهما يتقاربان في سوء الحفظ وأخرج أحمد والترمذي وابن الضريس والبيهقي في سننه عن أنس قال : [ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني أحب هذه السورة { قل هو الله أحد } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حبك أياها أدخلك الجنة ] وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن الأنباري في المصاحف عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أما يستطيع أحدكم أن يقرأ { قل هو الله أحد } ثلاث مرات في ليلة ؟ فأنها تعدل ثلث القرآن ] وإسناده ضعيف وأخرج محمد بن نصر وأبو يعلى عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قرأ { قل هو الله أحد } خمسين مرة غفر له ذنوب خمسين سنة ] وإسناده ضعيف وأخرج الترمذي وابن عدي والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ { قل هو الله أحد } مائتي مرة كتب الله له ألفا وخمسمائة حسنة ومحا عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين ] وفي إسناده حاتم بن ميمون ضعفه البخاري وغيره ولفظ الترمذي [ من قرأ في يوم مائتي مرة { قل هو الله أحد } محي عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين ] وفي إسناده حاتم بن ميمون المذكور وأخرج الترمذي ومحمد بن نصر وأبو يعلى وابن عدي والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أراد أن ينام على فراشه من الليل فنام على يمينه ثم قرأ { قل هو الله أحد } مائة مرة فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب : يا عبدي ادخل على يمينك الجنة ] وفي إسناده أيضا حاتم بن ميمون المذكور قال الترمذي بعد إخراجه : غريب من حديث ثابت وقد روي من غير هذا الوجه عنه وأخرج ابن سعيد وابن الضريس وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن أنس قال [ كان النبي صلى الله عليه و سلم بالشام وفي لفظ : بتبوك فهبط جبريل فقال : يا محمد إن معاوية بن معاوية المزني هلك أفتحب أن تصلي عليه ؟ قال : نعم فضرب بجناحه الأرض فتضعضع له كل شيء ولزق بالأرض ورفع له سريره فصلى عليه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : من أي شيء أوتي معاوية هذا الفضل صلى عليه صفان من الملائكة في كل صف ستة آلاف ملك ؟ قال : بقراءة { قل هو الله أحد } كان يقرأها قائما وقاعدا وجائيا وذاهبا ونائما ] وفي إسناده العلاء بن محمد الثقفي وهو متهم بالوضع وروي عنه من وجه آخر بأطول من هذا وفي إسناده هذا المتهم وفي الباب أحاديث في هذا المعنى وغيره وقد روي من غير الوجه أنها تعدل ثلث القرآن وفيها ما هو صحيح وفيها ما هو حسن فمن ذلك ما أخرجه مسلم والترمذي وصححه وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد ثم خرج نبي الله صلى الله عليه و سلم فقرأ
{ قل هو الله أحد } ثم دخل فقال بعضنا لبعض : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ثم خرج نبي الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني قلت سأقرأ عليكم ثلث القرءان ألا وإنها تعدل ثلث القرآن ] وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ] يعني { قل هو الله أحد } وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : [ أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ فشق ذلك عليهم وقالوا : أينا يطيق ذلك ؟ فقال : الله الواحد الصمد ثلث القرآن ] وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي الدرداء نحوه وقد روي نحو هذا بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود وحديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وروي نحو هذا عن غير هؤلاء بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف ولو لم يرد في فضل هذه السورة إلا حديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما [ أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث رجلا في سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب { قل هو الله أحد } فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال : أخبروه أن الله تعالى يحبه ] هذا لفظ البخاري في كتاب التوحيد وأخرج البخاري أيضا في كتاب الصلاة من حديث أنس قال [ كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء فكان كلما افتتح سورة فقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح { قل هو الله أحد } حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه فقالوا : إنك تفتتح بهذ السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى فإما أن تقرأ بها وإماأن تدعها وتقرأ بأخرى قال : ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم وكانوا يرون أنه من أفضلهم فكرهوا أن يؤمهم غيره فلما أتاهم النبي صلى الله عليه و سلم أخبروه الخبر فقال : يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة ؟ فقال : إني أحبها قال : حبك إياها أدخلك الجنة ] وقد روي بهذا اللفظ من غير وجه عند غير البخاري
قوله : 1 - { قل هو الله أحد } الضمير يجوز أن يكون عائدا إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول وأن المشركين قالوا : يا محمد انسب لنا ربك فيكون مبتدأ والله مبتدأ ثان وأحد خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول ويجوز أن يكون الله بدلا من هو والخبر أحد ويجوز أن يكون الله خبرا أول وأحد خبرا ثانيا ويجوز أن يكون أحد خبرا لمبتدأ محذوف : أي هو أحد ويجوز أن يكون هو ضمير شأن لأنه موضع تعظيم والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه والأول أولى قال الزجاج : هو كناية عن ذكر الله والمعنى : إن سألتم تبيين نسبته هو الله أحد قيل وهمزة أحد بدل من الواو وأصله واحد وقال أبو البقاء همزة أحد أصل بنفسها غير مقلوبة وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري : أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى ولا يقال رجل أحد ولا درهم أحد كما يقال رجل واحد ودرهم واحد قيل والواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد وفرق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد وأحد لا يدخل فيه ورد عليه أبو حيان بأنه يقال أحد وعشرون ونحوه فقد دخله العدد وهذا كما ترى ومن جملة القائلين بالقلب الخليل قرأ الجمهور { قل هو الله أحد } بإثبات قل وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي الله أحد بدون قل وقرأ الأعمش قل هو الله الواحد وقرأ الجمهور بتنوين { أحد } وهو الأصل وقرأ زيد بن علي وأبان بن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السماك وأبو عمرو في رواية عنه بحذف التنوين للخفة كما في قول الشاعر :
( عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف )
وقيل إن ترك التنوين لملاقاته لام التعريق فيكون الترك لأجل الفرار من التقاء الساكنين ويجاب عنه بأن الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأول منهما بالكسر (5/731)
2 - { الله الصمد } الإسم الشريف مبتدأ والصمد خبره والصمد هو الذي يصمد إليه في الحاجات : أي يقصد لكونه قادرا على قضائها فهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض لأنه مصمود إليه : أي مقصود إليه قال الزجاج : الصمد السند الذي انتهى إليه [ السؤدد ] فلا سيد فوقه قال الشاعر :
( ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد )
وقيل معنى الصمد : الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزول وقيل معنى الصمد ما ذكر بعده من أنه الذي لم يلد ولم يولد وقيل هو المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد وقيل هو المقصود في الرغائب والمستعان به في المصائب وهذان القولان يرجعان إلى معنى القول الأول وقيل هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقيل هو الكامل الذي لا عيب فيه وقال الحسن وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الله بن بريدة وعطاء وعطية العوفي والسدي : الصمد هو المصمت الذي لا جوف له ومنه قول الشاعر :
( شهاب حروب لا تزال جياده ... عوابس يعلكن الشكيم المصمدا )
وهذا لا ينافي القول الأول الجواز أن يكون هذا أصل معنى الصمد ثم استعمل في السيد المصمود إليه في الحوائج ولهذا أطبق على القول الأول أهل اللغة وجمهور أهل التفسير ومنه قول الشاعر :
( علوته بحسام ثم قلت له ... خذها حذيف فأنت السيد الصمد )
وقال الزبرقان بن بدر :
( سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ... ولا رهينة إلا سيد صمد )
وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل عن استحقاق الألوهية وحذف العاطف من هذه الجملة لأنها كالنتيجة للجملة الأولى وقيل إن الصمد صفة للاسم الشريف والخبر هو ما بعده والأولى أولى لأن السياق يقتضي استقلال كل جملة (5/735)
3 - { لم يلد ولم يولد } أي لم يصدر عنه ولد ولم يصدر هو عن شيء لأنه لا يجانسه شيء ولاستحالة نسبة العدم إليه سابقا ولاحقا قال قتادة : إن مشركي العرب قالوا : الملائكة بنات الله وقالت اليهود : عزيز ابن الله وقال النصارى : المسيح ابن الله فأكذبهم الله فقال : { لم يلد ولم يولد } قال الرازي : قدم ذكر نفي الولد مع أن الولد مقدم للاهتمام لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين : إن الملائكة بنات الله واليهود : عزيز ابن الله والنصارى : المسيح ابن الله ولم يدع أحد أن له والدا فلهذا السبب بدأ بالأهم فقال : { لم يلد } ثم أشار إلى الحجة فقال : { ولم يولد } كأنه قيل الدليل على امتناع الولد اتفاقنا على أنه ما كان ولدا لغيره وإنما عبر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لم يلد ولم يولد في الماضي ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذلك في المستقبل لأنه ورد جوابا عن قولهم : ولد الله كما حكى الله عنهم بقوله : { ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله } فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد النفي فيما مضى وردت الآية لدفع قولهم هذا (5/736)
4 - { ولم يكن له كفوا أحد } هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها لأنه سبحانه إذا كان متصفا بالصفات المتقدمة كان متصفا بكونه لم يكافئه أحد ولا يماثله ولا يشاركه في شيء وأخر اسم كان لرعاية الفواصل وقوله : له متعلق بقوله : كفوا قدم عليه لرعاية الاهتمام لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته وقيل إنه في محل نصب على الحال والأل أولى وقد رد المبرد على سيبويه بهذه الآية لأن سيبويه قال : إنه إذا تقدم الظرف كان هو الخبر وههنا لم يجعل خبرا مع تقدمه وقد رد على المبرد بوجهين : أحدهما أن سيبويه لم يجعل ذلك حتما بل جوزه والثاني أنا لا نسلم كون الظرف هنا ليس بخبر بل يجوز أن يكون خبرا ويكون كفوا منتصبا على الحال وحكي في الكشاف عن سيبويه على أن الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر واقتصر في هذه الحكاية على نقل أول كلام سيبويه ولم ينظر إلى آخره فإنه قال في آخر كلامه : والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير انتهى وقرأ الجمهور { كفوا } بضم الكاف والفاء وتسهيل الهمزة وقرأ الأعرج وسيبويه ونافع في رواية عنه بإسكان الفاء وروي ذلك عن حمزة مع إبداله الهمزة واو وصلا ووفقا وقرأ نافع في رواية عنه كفأ بكسر الكاف وفتح الفاء من غير مد وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس كذلك مع المد وأنشد قول النابغة :
( لا تقذفني بركن لا كفاء له )
والكفء في لغة العرب النظير يقول هذا كفؤك : أي نظيرك والاسم الكفاءة بالفتح
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والمحاملي في أماليه والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن بريد لا أعلمه إلا رفعه قال : { الصمد } الذي لا جوف له ولا يصح رفع هذا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : { الصمد } الذي لا جوف له وفي لفظ : ليس له أحشاء وأخرج ابن أبي عاصم وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس مثله وأخرج ابن المنذر عنه قال : { الصمد } الذي لا يطعم وهو المصمت : وقال : أو ما سمعت النائحة وهي تقول :
( لقد بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد )
وكان لا يطعم عند القتال وقد روي عنه أن الذي يصمد إليه في الحوائج وأنه أنشد البيت واستدل به على هذا المعنى وهو أظهر في المدح وأدخل في الشرف وليس لوصفه بأنه لا يطعم عند القتال كثير معنى وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : { الصمد } السيد الذي قد كمل في سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته والحليم الذي قد كمل في حمله والغني الذي قد كمل في غناه والجبار الذي قد كمل في جبروته والعالم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله سبحانه هذه صفة لا تنبغي إلا له ليس له كفو وليس كمثله شيء وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال : { الصمد } هو السيد الذي قد انتهى سؤدده فلا شيء أسود منه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال { الصمد } الذي تصمد إليه الأشنياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء وأخرج ابن جرير من طرق عنه في قوله : { ولم يكن له كفوا أحد } قال : ليس له كفو ولا مثل (5/736)
هي خمس آيات
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة وأخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق قال السيوطي : صحيحة عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين في المصحف يقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يتعوذ بهما وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما قال البزار : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن زر بن حبيش قال [ أتيت المدينة فلقيت أبي بن كعب فقلت له : أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه فقال : أما والذي بعث محمدا بالحق لقد سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك قال : قيل لي : قل فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وأخرج الطبراني عن ابن مسعود [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن هاتين السورتين فقال : قيل لي فقلت فقولوا كما قلت ] وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ] وأخرج ابن الضريس وابن الأنباري والحاكم وصححه وابن مردويه في الشعب عن عقبة بن عامر قال [ قلت يا رسول الله : أقرئني سورة يوسف وسورة هود قال : يا عقبة اقرأ بقل أعوذ برب الفلق فإنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله وأبلغ منها فإذا استطعت أن لا تفوتك فافعل ] وأخرج ابن سعد والنسائي والبغوي والبيهقي عن أبي حابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يا أبا حابس أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون ؟ قال بلى يا رسول الله قال : { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } هما المعوذتان ] وأخرج الترمذي وحسنه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعوذ من عين الجان ومن عين الإنس فلما نزلت سورة المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك ] وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن ابن مسعود [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يكره عشر خصال ومنها أنه كان يكره الرقى إلا بالمعوذتين ] وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من أحب السور إلى الله { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ] وأخرج النسائي وابن الضريس وابن حبان في صحيحه وابن الأنباري وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : [ أخذ بمنكبي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : اقرأ قلت : ما اقرأ بأبي أنت وأمي ؟ قال : { قل أعوذ برب الفلق } ثم قال : اقرأ بأبي أنت وأمي ما اقرأ ؟ قال : { قل أعوذ برب الناس } ولم تقرأ بمثلهما ] وأخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده عليه رجاء بركتهما ] وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من طريق مالك بالإسناد المذكور وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن زيد بن أرقم قال [ سحر النبي صلى الله عليه و سلم رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وقال : إن رجلا من اليهود سحرك والسحر في بئر فلان فأرسل عليا فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه و سلم كأنما نشط من عقال ] وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث عائشة مطولا وكذلك أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس وقد ورد في فضل المعوذتين وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم لهما في الصلاة وغيرهما أحاديث وفيما ذكرناه كفاية وأخرج الطبراني في الصغير عن علي بن أبي طالب قال [ لدغت النبي صلى الله عليه و سلم عقرب وهو يصلي فلما فرغ قال : لعن الله العقرب لا تدع مصليا ولا غيره ثم دعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ : قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ]
1 - { الفلق } الصبح يقال : هو أبين من فلق الصبح وسمي فلقا لأنه يفلق عنه الليل وهو فعل بمعنى مفعول : قال الزجاج : لأن الليل ينفلق عنه الصبح ويكون بمعنى مفعول يقال : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح وهذا قول جمهور المفسرين ومنه قول ذي الرمة :
( حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق ... هادئة في أخريات الليل منتصب )
وقول الآخر :
( يا ليلة لم أتمها بت مرتفقا ... أرعى النجوم لي أن نور الفلق )
وقيل هو سجن في جهنم وقيل هو اسم من أسماء جهنم وقيل شجرة في النار وقيل هو الجبال والصخور لأنها تفلق بالمياه أي تشقق وقيل هو التفليق بين الجبال لأنها تنشق من خوف الله قال النحاس : يقال لكل ما اطمأن من الأرض فلق ومنه قول زهير :
( ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فلقا )
والراكس : بطن الوادي ومثله قول النابغة :
( ودوني راكس فالضواجع )
وقيل هو الرحم تنفلق بالحيوان وقيل هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شيء من نبات وغيره قاله الحسن والضحاك قال القرطبي : هذا القول يشهد له الانشقاق فإن الفلق الشق فلقت الشيء فلقا : شققته والتفليق مثله يقال فلقته فانفلق وتفلق فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق قال الله سبحانه { فالق الإصباح } وقال { فالق الحب والنوى } انتهى والقول الأول أولى لأن المعنى وإن كان أعم منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه وقيل طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقبا لطلوع صباح النجاح وقيل غير هذا مما هو مجرد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير (5/738)
2 - { من شر ما خلق } متعلق بأعوذ : أي من شر كل ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته فيعم جميع الشرور وقيل هو إبليس وذريته وقيل جهنم ولا وجه لهذا التخصيص كما أنه لا وجه لتخصيص من خصص هذا العموم بالمضار البدنية وقد حرف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه وتقويما لباطله فقرأوا بتنوين شر على أن ما نافية والمعنى : من شر لم يخلقه ومنهم عمرو بن عبيد وعمرو بن عائذ (5/740)
3 - { ومن شر غاسق إذا وقب } الغاسق الليل والغسق الظلمة يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم قال الفراء : يقال غسق الليل وأغسق إذا أظلم ومنه قول قيس بن الرقيات :
( إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهم والأرقا )
وقال الزجاج : قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار والغاسق البارد والغسق البرد ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من أماكنها وينبعث أهل الشر على العبث والفساد كذا قال وهو قول بارد فإن أهل اللغة على خلافه وكذا جمهور المفسرين ووقوبه : دخول ظلامه ومنه قول الشاعر :
( وقب العذاب عليهم فكأنهم ... لحقتهم نار السموم فأخمدوا )
أي دخل العذاب عليهم ويقال وقبت الشمس : إذا غابت وقيل الغاسق الثريا وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين وإذا طلعت ارتفع ذلك وبه قال ابن زيد وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق وقال الزهري : هو الشمس إذا غربت وكأنه لاحظ معنى الوقوب ولم يلاحظ معنى الغسوق وقيل هو القمر إذا خسف وقيل إذا غاب وبهذا قال قتادة وغيره واستدلوا بحديث أخرجه أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت [ نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما إلى القمر لما طلق فقال : يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب ] قال الترمذي : بعد إخراجه حسن صحيح وهذا لا ينافي قول الجمهور لأن القمر آية الليل ولا يوجد له سلطان إلا فيه وهكذا يقال في جواب من قال إنه الثريا قال ابن الأعرابي : في تأويل هذا الحديث : وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر وقيل الغاسق : الحية إذا لدغت وقيل الغاسق : كل هاجم يضر كائنا ما كان من قولهم غسقت القرحة : إذا جرى صديدها وقيل الغاسق هو السائل وقد عرفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأول ووجه تخصيصه أن الشر فيه أكثر والتحزر من الشرور فيه أصعب ومنه قولهم : الليل أخفى للويل (5/741)
4 - { ومن شر النفاثات في العقد } النفاثات هن السواحر : أي ومن شر النفوس النفاثات أو النساء النفاثات والنفث النفخ كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر قيل مع ريق وقيل بدون ريق وقيل بدون ريق والعقد جمع عقدة وذلك أنهن كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها ومنه قول عنترة :
( فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يعقد فخق له العقود )
وقول متمم بن نويرة :
( نفث في الخيط شبيه الرقى ... من خشية الجنة والحاسد )
قال أبو عبيدة : النفاثات هن بنات لبيد الأعصم اليهودي سحرن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ الجمهور النفاثات جمع نفاثة على المبالغة وقرأ يعقوب وعبد الرحمن بن ساباط وعيسى بن عمر النافثات جمع نافثة وقرأ الحسن النافثات بضم النون وقرأ أبو الربيع النفاثات بدون ألف (5/741)
5 - { ومن شر حاسد إذا حسد } الحسد : تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود ومعنى إذا حسد : إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه وحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود قال عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال :
( قل للحسود إذا تنفس طعنة ... يا ظالماوكأنه مظلوم )
ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه و سلم إلى الاستعاذة من شر كل مخلوقاته على العموم ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شره ومزيد ضره وهو الغاسق والنفاثات والحاسد فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشر حقيقيون بإفراد كل واحد منهم بالذكر
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال [ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ { قل أعوذ برب الفلق } فقال : يا ابن عبسة أتدري ما الفلق ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : بئر في جهنم ] وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اقرأ { قل أعوذ برب الفلق } هل تدري ما الفلق ؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم ] وأخرج ابن مردويه والدليمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله عز و جل : { قل أعوذ برب الفلق } فقال : هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون وإن جهنم لتتعوذ بالله منه ] وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الفلق جب في جهنم ]
وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لكان المصير إليها وجبا والقول بها متعينا وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الفلق سجن في جهنم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : الفلق الصبح وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : الفلق الخلق وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { ومن شر غاسق إذا وقب } وقال : النجم هو الغاسق وهو الثريا وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع وقد قدمنا تأويل ما ورد أن الغاسق القمر وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد ] وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { ومن شر غاسق إذا وقب } قال : الليل إذا أقبل وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { ومن شر النفاثات في العقد } قال : الساحرات وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو ما خالط السحر من الرقى وأخرج النسائي وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه ] وأخرج ابن سعد وابن ماجه والحاكم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : [ جاء النبي صلى الله عليه و سلم يعودني فقال : ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل ؟ فقلت : بلى بأبي أنت وأمي قال : بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك { من شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد } فرقى بها ثلاث مرات ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ومن شر حاسد إذا حسد } قال : نفس ابن آدم وعينه اهـ (5/742)
هي ست آيات
والخلاف في كونها مكية أو مدنية كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزل بمكة { قل أعوذ برب الناس } وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال : أنزل بالمدينة { قل أعوذ برب الناس } وقد قدمن افي سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة وما ورد في فضلها فارجع إليه
قرأ الجمهور 1 - { قل أعوذ } بالهمزة وقرئ بحذفها ونقل حركتها إلى اللام وقرأ الجمهور بترك الإمالة في { الناس } وقرأ الكسائي بالإمالة ومعنى { رب الناس } : مالك أمرهم ومصلح أحوالهم وإنما قال رب الناس مع أنه رب جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم ولكون الاستعاذة وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم (5/743)
وقوله : 2 - { ملك الناس } عطف بيان جيء به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والسلطان القاهر (5/744)
3 - { إله الناس } هو أيضا عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته وملكه قد انضم إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالاتحاد والإعدام وأيضا الرب قد يكون ملكا وقد لا يكون ملكا كما يقال رب الدار وبرب المتاع ومنه قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } فبين أنه ملك الناس ثم الملك قد يكون إلها وقد لا يكون فبين أنه إله لأن اسم الإله خاص به لا يشاركه فيه أحد وأيضا بدأ باسم الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلا كاملا فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك فذكر أنه ملك الناس ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه وأنه عبد مخلوق وأن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار ولأن التكرير يقتضي مزيد من شرف الناس (5/744)
4 - { من شر الوسواس } قال الفراء : هو بفتح الواو بمعنى الاسم : أي الموسوس وبكسرها المصدر : أي الموسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة وقيل هو بالفتح اسم بمعنى الوسوسة والوسوسة : هي حديث النفس يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة : أي حدثته حديثا وأصلها الصوت الخفي ومنه قيل لأصوات الحلى وسواس ومنه قول الأعشى :
( تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت )
قال الزجاج : الوسواس هو الشيطان : أي ذي الوسواس ويقال إن الوسواس ابن لإبليس وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله : { فوسوس لهما الشيطان } ومعنى { الخناس } كثير الخنس وهو التأخير يقال خنس يخنس : إذا تأخر ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( فإن دخسوا بالشر فاعف تكرما ... وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل )
قال مجاهد : إذا ذكر الله خنس وانقبض وإذا لم يذكر انبسط على القلب ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء ومنه قوله تعالى : { فلا أقسم بالخنس } يعنى النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم وقيل الخناس اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس (5/744)
5 - { الذي يوسوس في صدور الناس } الموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتا للوسواس ويجوز أن يكون منصوبا على الذم ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير مبتدأ وقد تقدم معنى الوسوسة قال قتادة : إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له وإذا ذكر العبد ربه خنس قال مقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت (5/745)
ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان : جني وإنسي فقال : 6 - { من الجنة والناس } أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس وأما شيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه : { شياطين الإنس والجن } ويجوز أن يكون متعلقا بيوسوس : أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس ويجوز أن يكون بيانا للناس قال الرازي وقال قوم : من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله : { في صدور الناس } لأن القدر المشترك بين الجن والإنس يسمى إنسانا والإنسان أيضا يسمى إنسانا فيكون لفظ الإنسان واقعا على الجنس والنوع بالاشتراك والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم : من أنتم ؟ قالوا : ناس من الجن وأيضا قد سماهم الله رجالا في قوله : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ومن الجنة والناس كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس وقيل المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس وقيل المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها في قوله : { يوم يدع الداع } ثم بين بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلي بالنسيان وأحسن من هذا أن يكون قوله : { والناس } معطوفا على الوسواس : أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس قال الحسن : أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس وأما شيطان الإنس فيأتي علانية وقال قتادة : إن من الجن شياطين وإن من الإنس شياطين فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس وواحد الجنة جني كما أن واحد الإنس إنسي والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة
وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه فإن ذكر الله خنس وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسيه التقم قلبه قذلك الوسواس الخناس ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : الشيطان جاث على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس وإذا ذكر الله خنس وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة والبيهقي عنه قال : ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس فذلك قوله : { الوسواس الخناس } وقد ورد في معنى هذا غيره وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان وإن لم يكن على طريق الاستعاذة ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة
وإلى هنا انتهى هذا التفسير المبارك بقلم مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله له ذنوبه وكان الفراغ منه في ضحوه يوم السبت لعله الثامن والعشرون من شهر رجب أحد شهور سنة تسع وعشرين بعد مائتين وألف سنة من الهجرة النبوية
اللهم كما مننت علي بإكمال هذا التفسير وأعنتني على تحصيله وتفضلت علي بالفراغ منه فامنن علي بقبوله واجعله لي ذخيرة خير عندك وأجزل لي المثوبة بما لاقيته من التعب والنصب في تحريره وتقريره وانفع به من شئت من عبادك ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي فإن هذا هو المقصد الجليل من التصنيف واجعله خالصا لك وتجاوز عني إذا خطر لي من خواطر السوء ما فيه شائبة تخالف الإخلاص واغفر لي ما لا يطابق مرادك فإني لم أقصد في جميع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه فإن أخطأت فأنت غافر الخطيئات ومسبل ذيل الستر على الهفوات يا بارئ البريات وأحمدك لا أحصي حمدا لك وأشكرك لا أحصي شكرك أنت كما أثنيت على نفسي وأصلي وأسلم على رسولك وآله اهـ
تم سماعا على مؤلفه حفظ الله عزته يوم الاثنين صبح اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1241هـ
كتبه
يحيى بن علي الشوكاني
غفر الله لهما (5/745)