33 - { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } الظرف متعلق بقول مقدر : أي يقال ذلك اليوم للذين كفروا { أليس هذا بالحق } وهذه الجملة هي المحكمة بالقول والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار وفي الاكتفاء بمجرد الإشارة من التهويل للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفى كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدل عليه { قالوا بلى وربنا } اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره { قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ وتهكم عظيم (5/39)
لما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال : 34 - { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } والفاء جواب شرط محذوف : أي إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين ولم ينجع في الكافرين فاصبر كما صبروا أولوا العزم : أي أرباب الثبات والحزم فإنك منهم قال مجاهد : أولوا العزم من الرسل خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم وهم أصحاب الشرائع وقال أبو العالية : هم نوح وهود وإبراهيم فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم وقال السدي هم ستة إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم وقيل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى وقال ابن جريح : إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس وقال الشعبي والكلبي : هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة وقيل هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقيل إن الرسل كلهم أولو العزم وقيل هم اثنا عشر نبيا إلى بني إسرائيل وقال الحسن : هم أربعة : إبراهيم وموسى وداود وعيسى { ولا تستعجل لهم } أي لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار لما أمره سبحانه بالصبر ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } أي كأنهم يوم يشاهدونه في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من ساعات الأيام لما يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء المقيم قرأ الجمهور { بلاغ } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هذا الذي وعظتهم به بلاغ أو تلك الساعة بلاغ أو هذا القرآن بلاغ أو هو مبتدأ والخبر لهم الواقع بعد قوله : { ولا تستعجل } أي لهم بلاغ وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وزيد بن علي بلاغا بالنصب على المصدر : أي بلغ بلاغا وقرأ أبو مجلز بلغ بصيغة الأمر وقرئ بلغ بصيغة الماضي { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } قرأ الجمهور فهل يهلك على البناء للمفعول وقرأ ابن محيصن على البناء للفاعل والمعنى : أنه لا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة الواقعون في معاصي الله قال قتادة : لا يهلك على الله إلا هالك مشرك قيل وهذه الآية أقوى آية في الرجاء قال الزجاج : تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن منيع والحاكم وصححه ابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن مسعود قال : هبطوا يعني الجن على النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا أنصتوا قالوا صه وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فأنزل الله : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } إلى قوله : { ضلال مبين } وأخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه عن الزبير { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن } قال : بنخلة ورسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي العشاء الآخرة { كادوا يكونون عليه لبدا } وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } الآية قال كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه و سلم رسلا إلى قومهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم نحوه أيضا قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مرتين وكانوا أشراف الجن بنصيبين وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال : سألت ابن مسعود من آذن النبي صلى الله عليه و سلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ قال : آذنته بهم شجرة وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال : قلت لابن مسعود : هل صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم منكم أحدا ليلة الجن ؟ قال : ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل استطير ما فعل ؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء فأخبرناه فقال : إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وأخرج أحمد عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لية الجن وقد روي نحو هذا من طرق والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعت منه صلى الله عليه و سلم مع الجن حضر إحداهما ابن مسعود ولم يحضر في الأخرى وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله صلى الله عليه و سلم مرة بعد مرة وأخذوا عنه الشرائع وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : { أولو العزم من الرسل } النبي صلى الله عليه و سلم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأخرج ابن مردويه عنه قال : هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن عائشة قالت : ظل رسول الله صلى الله عليه و سلم صائما ثم طوى ثم ظل صائما ثم طوى ثم ظل صائما قال : يا عائشة إن الدين لا ينبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله (5/39)
وتسمى سورة القتال وسورة الذين كفروا وهي تسع وثلاثون آية وقيل ثمان وثلاثون
وهي مدنية قال الماوردي : في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا : إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه فنزل قوله تعالى : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك } وقال الثعلبي : إنها مكية وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير وهو غلط من القول فالسورة مدنية كما لا يخفى وقد أخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال : نزلت سورة القتال بالمدينة وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه قال : نزلت سورة محمد مدنية وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال : نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمران أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ بهم في المغرب { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله }
قوله : 1 - { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } هم كفار قريش كفروا بالله وصدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وهو دين الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه كذا قال مجاهد والسدي وقال الضحاك : معنى عن سبيل الله : عن بيت الله بمنع قاصديه وقيل هم أهل الكتاب والموصول مبتدأ وخبره { أضل أعمالهم } أي أبطلها وجعلها ضائعة قال الضحاك : معنى أضل أعمالهم أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه و سلم وجعل الدائرة عليهم في كفرهم وقيل أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وهذه وإن كانت باطلة من أصلها لكن المعنى أنه سبحانه حكم ببطلانها (5/41)
ولما ذكر فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين قال : 2 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } ظاهر هذا العموم فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات ولا يمنع من ذلك خصوص سببها فقد قيل إنها نزلت في الأنصار وقيل في ناس من قريش وقيل في مؤمني أهل الكتاب ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيها على شرفه وعلو مكانه وجملة { وهو الحق من ربهم } معترضة بين المبتدأ وهو قوله : { والذين آمنوا } وبين خبره وهو قول : { كفر عنهم سيئاتهم } ومعنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله وقوله : { من ربهم } في محل نصب على الحال ومعنى كفر عنهم سيئاتهم : أي السيئات التي عملوها فيما مضى فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح { وأصلح بالهم } أي شأنهم وحالهم قال مجاهد : شأنهم وقال قتادة : حالهم وقيل أمرهم والمعاني متقاربة قال المبرد : البال الحال هاهنا قيل والمعنى : أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم وأرشدهم إلى أعمال الخير وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال ونحو ذلك وقال النقاش : إن المعنى أصلح نياتهم ومنه قول الشاعر :
( فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا ) (5/43)
والإشارة بقوله : 3 - { ذلك } إشارة إلى ما مر مما أوعد به الكفار ووعد به المؤمنين وهو مبتدأ خبره ما بعده وقيل إنه خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر ذلك بـ سبب { أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } فالباطل الشرك والحق التوحيد والإيمان والمعنى : أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم بسبب اتباعهم للحق الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان وعمل الطاعات { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } أي مثل ذلك الضرب بين للناس أمثالهم : أي أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة قال الزجاج : { كذلك يضرب } بين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين : يعني أن من كان كافرا أضل الله عمله ومن كان مؤمنا كفر الله سيئاته (5/43)
4 - { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } لما بين سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار والمراد بالذين كفروا المشكرين ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب وانتصاب فضرب على أنه مصدر لفعل محذوف قال الزجاج : أي فاضربوا الرقاب ضربا وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها وقيل هو منصوب على الإغراء قال أبو عبيدة : هو كقولهم : يا نفس صبرا وقيل التقدير : اقصدوا ضرب الرقاب وقيل إنما خص ضرب الرقاب لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل وهي حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأحسن أعضائه { حتى إذا أثخنتموهم } أي بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل فيهم وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب لا لبيان غاية القتل وهو مأخوذ من الشيء الثخين : أي الغليظ وقد مضى تحقيق معناه في سورة الأنفال { فشدوا الوثاق } الوثاق بالفتح ويجيء بالكسر : اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط قال الجوهري : وأوثقه في الوثاق : أي شده قال : والوثاق بكسر الواو لغة فيه قرأ الجمهور { فشدوا } بضم الشين وقرأ السلمي بكسرها وإنما أمر سبحانه بشد الوثاق لئلا ينفلتوا والمعنى : إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق { فإما منا بعد وإما فداء } أي فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر منا أو تفدوا فداء والمن : الإطلاق بغير عوض والفداء : ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم قرأ الجمهور { فداء } بالمد وقرأ ابن كثير { فهدى } بالقصر وإنما قدم المن على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق ولهذا كانت العرب تفتخر به كما قال شاعرهم :
( ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم )
ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال : { حتى تضع الحرب أوزارها } أوزار الحرب التي لا تقوم إلا بها من السلام والكراع أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز والمعنى : أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور إلى غاية هي أن لا يكون حرب مع الكفار قال مجاهد : المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام وبه قال الحسن والكلبي قال الكسائي : حتى يسلم الخلق : قال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر وقيل المعنى : حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة وروي عن الحسن وعطاء أنهما قالا : في الآية تقديم وتأخير والمعنى : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق
وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فقيل إنها منسوخة في أهل الأوثان وأنه لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم والناسخ لها قوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم } وقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريح وكثير من الكوفيين : قالوا : والمائدة آخر ما نزل فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن تؤخذ منه الجزية وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة وقيل إن هذه الآية ناسخة لقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } روي ذلك عن عطاء وغيره وقال كثير من العلماء : إن الآية محكمة والإمام مخير بين القتل والأسر وبعد الأسر مخير بين المن والفداء وبه قال مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم وهذا هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك وقال سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم } محل ذلك الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر ذلك وقيل في محل نصب على المفعولية بتقدير فعل : أي افعلوا ذلك ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه ما تقدم : أي ذلك حكم الكفار ومعنى لو يشاء الله لانتصر منهم : أي قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب { ولكن } أمركم بحربهم { ليبلو بعضكم ببعض } أي ليتخير بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين في سبيله والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم ويعذب الكفار بأيديهم { والذين قتلوا في سبيل الله } قرأ الجمهور { قاتلوا } مبنيا للفاعل وقرأ أبو عمرو وحفص { قتلوا } مبنيا للمفعول وقرأ الحسن بالتشديد مبنيا للمفعول أيضا وقرأ الجحدي وعيسى بن عمر وأبو حيوة قتلوا على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف والمعنى على القراءة الأولى والرابعة : أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع وعلى القراءة الثانية والثالثة : أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضع الله سبحانه أجرهم قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد (5/43)
ثم ذكر سبحانه ما لهم عنده من جزيل الثواب فقال : 5 - { سيهديهم } أي سيهديهم الله سبحانه إلى الرشد في الدنيا ويعطيهم الثواب في الآخرة { ويصلح بالهم } أي حالهم وشأنهم وأمرهم قال أبو العالية : قد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطريق المفضية إليها وقال ابن زياد : يهديهم إلى محاجة منكر ونكير (5/46)
6 - { ويدخلهم الجنة عرفها لهم } أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تفرقوا إلى منازلهم قال الواحدي : هذا قول عامة المفسرين وقال الحسن : وصف الله لهم الجنة في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها وقيل فيه حذف : أي عرفوا طرقها ومساكنها وبيوتها وقيل هذا التعريف بدليل يدلهم عليها وهو الملك الموكل بالعلد يسير بين يديه حتى يدخله منزله كذا قال مقاتل وقيل معنى { عرفها لهم } طيبها بأنواع الملاذ مأخوذ من العرف وهو الرائحة (5/46)
ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله : 7 - { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } أي إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار ويفتح لكم ومثله قوله : { ولينصرن الله من ينصره } قال قطرب : إن تنصروا نبي الله ينصركم { ويثبت أقدامكم } أي عند القتال وتثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب وقيل على الإسلام وقيل على الصراط (5/46)
8 - { والذين كفروا فتعسا لهم } الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره فتعسوا بدليل ما بعده ودخلت الفاء تشبيها للمبتدأ بالشرط وانتصاب تعسا على المصدر للفعل المقدر خبرا قال الفراء : مثل سقيا لهم ورعيا وأصل التعس الانحطاط والعثار قال ابن السكيت : التعس أن يجر على وجهه والنكس أن يجر على رأسه قال : والتعس أيضا الهلاك قال الجوهري : وأصله الكب وهو ضد الانتعاش ومنه قول مجمع بن هلال :
( تقول وقد أفردتها من حليلها ... تعست كما أتعستني يا مجمع )
قال المبرد : أي فمكروها لهم وقال ابن جريح : بعدا لهم وقال السدي : خزيا لهم وقال ابن زيد : شقاء لهم وقال الحسن : شتما لهم وقال ثعلب : هلاكا لهم وقال الضحاك : خيبة لهم : وقال أبو العالية : شقوة لهم حكاه النقاش وقال الضحاك : رغما لهم وقال ثعلب أيضا : شرا لهم وقال أبو العالية : شقوة لهم واللام في لهم للبيان كما في قوله : { هيت لك } وقوله : { وأضل أعمالهم } معطوف على ما قبله داخل معه في خبرية الموصول (5/46)
والإشارة بقوله : 9 - { ذلك } إلى ما تقدم مما ذكره الله من التعس والإضلال : أي الأمر ذلك أو ذلك الأمر { بأنهم كرهوا ما أنزل الله } على رسوله من القرآن أو ما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد والبعث { فأحبط } الله { أعمالهم } بذلك السبب والمراد بالأعمال ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة وإن كانت باطلة من الأصل لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه (5/46)
ثم خوف سبحانه الكفار وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم فقال : 10 - { أفلم يسيروا في الأرض } أي ألم يسيروا في أرض عاد وثموط وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } أي آخر أمر الكافرين قبلهم فإن آثار العذاب في ديارهم باقية ثم بين سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال : { دمر الله عليهم } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر والتدمير والهلاك : أي أهلكهم واستأصلهم يقال دمره ودمر عليه بمعنى ثم توعد مشركي مكة فقال : { وللكافرين أمثالها } أي لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرة قال الزجاج وابن جرير : الضمير في أمثالها يرجع إلى عاقبة الذين من قبلهم وإنما جمع لأن العواقب متعددة بحسب تعدد الأمم المعذبة وقيل أمثال العقوبة وقيل الهلكة وقيل التدميرة والأول أولى لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله (5/47)
والإشارة بقوله : 11 - { ذلك } إلى ما ذكر من أن للكافرين أمثالها { بأن الله مولى الذين آمنوا } أي بسبب أن الله ناصرهم { وأن الكافرين لا مولى لهم } أي لا ناصر يدفع عنهم وقرأ ابن مسعود ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا قال قتادة : نزلت يوم أحد (5/47)
12 - { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } قد تقدم تفسير الآية في غير موضع وتقدم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } أي يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم ساهون عن العاقبة لاهون بما هم فيه { والنار مثوى لهم } أي مقام يقيمون به ومنزل ينزلونه ويستقرون فيه والجملة في محل نصب على الحال أو مستأنفة
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } قال : هم أهل مكة قريش نزلت فيهم { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال : هم أهل المدينة الأنصار { وأصلح بالهم } قال : أمرهم وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { أضل أعمالهم } قال : كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملا وأخرج النحاس عنه أيضا في قوله : { فإما منا بعد وإما فداء } قال : فجعل الله النبي والمؤمنين بالخيار في الأسار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادوهم وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : هذا منسوخ نسختها : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن قال : أتي الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله فقال ابن عمر : ليس بهذا أمرنا إنما قال الله { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء } وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر وابن مردويه عن ليث قال : قلت لمجاهد : بلغني أن ابن عباس قال : لا يحل قتل الأساري لأن الله قال : { فإما منا بعد وإما فداء } فقال مجاهد : لا تعبأ بهذا شيئا أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكلهم ينكر هذا ويقول هذه منسوخة إنما كانت في الهدنة التي كانت بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين المشركين فأما اليوم فلا يقول الله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ويقول : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } فإن كان من مشركي العرب لم يقبل شيئ منهم إلا الإسلام فإن لم يسلموا فالقتل وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استحيوهم وإن شاءوا فادوهم إذا لم يتحولوا عن دينهم فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا ونهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل الصغير والمرأة والشيخ الفاني وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماما مهديا وحكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير وتوضع الجزية وتضع الحرب أوزارها ] وأخرج ابن سعد وأحمد والنسائي والبغوي والطبراني وابن مردويه عن سلمة بن نفيل عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث قال : [ لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس { وللكافرين أمثالها } قال : لكفار قومك يا محمد مثل ما دمرت به القرى فأهلكوا بالسيف (5/47)
خوف سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشد منهم فقال : 13 - { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم } قد قدمنا أن { كأين } مركبة من الكاف وأي وأنها بمعنى كم الخبرية : أي وكم من قرية وأنشد الأخفش قول الوليد :
( وكأين رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل )
ومعنى الآية : وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك التي أخرجوك منها أهلكناهم { فلا ناصر لهم } فبالأولى من هو أضعف منهم وهم قريش الذين هم أهل قرية النبي صلى الله عليه و سلم وهي مكة فالكلام على حذف المضاف كما في قوله : { واسأل القرية } قال مقاتل : أي أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا رسولهم (5/49)
ثم ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمن وحال الكافر فقال : 14 - { أفمن كان على بينة من ربه } والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر كنظائره ومن مبتدأ والخبر { كمن زين له سوء عمله } وأفرد في هذا باعتبار لفظ من وجمع في قوله : { واتبعوا أهواءهم } باعتبار معناها والمعنى : أنه لا يستوي من كان على يقين من ربه ولا يكون كمن زين له سوء عمله وهو عبادة الأوثان والإشراك بالله والعمل بمعاصي الله واتبعوا أهواءهم في عبادتها وانهمكوا في أنواع الضلالات بلا شبهة توجب الشك فضلا عن حجة نيرة (5/49)
ثم لما بين سبحانه الفرق بين الفرقين في الاهتداء والضلال بين الفرق في مرجعهما ومآلهما فقال : 15 - { مثل الجنة التي وعد المتقون } والجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة وبيان ما فيها ومعنى مثل الجنة وصفها العجيب الشأن وهو مبتدأ وخبره محذوف قال النضر بن شمي : تقديره ما يسمعون وقدره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة قال : والمثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة وجملة { فيها أنهار من ماء غير آسن } الخ مفسرة للمثل وقيل إن مثل زائدة وقيل إن مثل الجنة مبتدأ والخبر فيها أنهار وقيل خبره كمن هو خالد والآسن المتغير يقال أسن الماء يأسن أسونا : إذا تغيرت رائحته ومثله الآجن ومنه قول زهير :
( قد أترك القرن مصفرا أنامله ... يميد في الرمح ميد المالح الأسن )
قرأ الجمهور { آسن } بالمد وقرأ حميد وابن كثير بالقصر وهما لغتان كحاذر وحذر وقال الأخفش : إن الممدود يراد به الاستقبال والمقصود يراد به الحال { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } أي لم يحمض كما تغير ألبان الدنيا لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر { وأنهار من خمر لذة للشاربين } أي لذيذة لهم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون يقال شراب لذ ولذيذ وفيه لذة بمعنى ومثل هذه الآية قوله : { بيضاء لذة للشاربين } قرأ الجمهور { لذة } بالجر صفة لخمر وقرئ بالنصب على أنه مصدر أو مفعول له وقرئ بالرفع صفة لأنهار { وأنهار من عسل مصفى } أي مصفى مما يخالطه من الشمع والقذى والعكر والكدر { ولهم فيها من كل الثمرات } أي لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل الثمرات : أي من كل صنف من أصنافها ومن زائدة للتوكيد { ومغفرة من ربهم } لذنوبهم وتنكير مغفرة للتعظيم : أي ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم { كمن هو خالد في النار } هو خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : أم من هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالدا فيها كمن هو خالد في النار أو خبر لقوله مثل الجنة كما تقدم ورجح الأول الفراء فقال : أراد أمن كان في هذا النعيم كما هو خالد في النار وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطي هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار فقوله { كمن } بدل من قوله { أفمن زين له سوء عمله } وقال ابن كيسان : ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم وليس مثل أهل الجنة في النعيم كمثل أهل النار في العذاب الأليم قوله : { وسقوا ماء حميما } عطف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية لكنه راعى في الأولى لفظ من وفي الثانية معناها والحميم الماء الحار الشديد الغليان فإذا شربوه قطع أمعاءهم وهو معنى قوله : { فقطع أمعاءهم } لفرط حرارته والأمعاء جمع معي وهي ما في البطون من الحوايا (5/49)
16 - { ومنهم من يستمع إليك } أي من هؤلاء الكفار الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام { من يستمع إليك } وهم المنافقون أفرد الضمير باعتبار لفظ من وجمع في قوله : { حتى إذا خرجوا من عندك } باعتبار معناها والمعنى : أن المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله صلى الله عليه و سلم ومواطن خطبه التي يمليها على المسلمين حتى إذا خرجوا من عنده { قالوا للذين أوتوا العلم } وهم علماء الصحابة وقيل عبد الله بن عباس وقيل عبد الله بن مسعود وقيل أبو الدرداء والأول أولى : أي سألوا أهل العلم فقالوا لهم { ماذا قال آنفا } أي ماذا قال النبي الساعة على طريقة الاستهزاء والمعنى : أنا لم نلتفت إلى قوله وآنفا يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات ومنه أمر آنف : أي مستأنف وروضة أنف : أي لم يرعها أحد وانتصابه على الظرفية : أي وقتا مؤتنفا أو حال من الضمير في قال قال الزجاج : هو من استأنفت الشيء : إذا ابتدأته وأصله مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه مستعار من الجارحة ومنه قول الشاعر :
( ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع )
والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المذكورين من المنافقين { الذين طبع الله على قلوبهم } فلم يؤمنوا ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير { واتبعوا أهواءهم } في الكفر والعناد (5/50)
ثم ذكر حال أضدادهم فقال : 17 - { والذين اهتدوا زادهم هدى } أي والذين اهتدوا إلى طريق الخير فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به زادهم هدى بالتوفيق وقيل زادهم النبي صلى الله عليه و سلم : وقيل زادهم القرآن وقال الفراء : زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى وقيل زادهم نزول الناسخ هدى وعلى كل تقدير فالمواد أنه زادهم إيمانا وعلما وبصيرة في الدين { وآتاهم تقواهم } أي ألهمهم إياها وأعانهم عليها والتقوى قال الربيع : هي الخشية وقال السدي : هي ثواب الآخرة وقال مقاتل : هي التوفيق للعمل الذي يرضاه وقيل العمل بالناسخ وترك المنسوخ وقيل ترك الرخص والأخذ بالعزائم (5/51)
18 - { فهل ينظرون إلا الساعة } أي القيامة { أن تأتيهم بغتة } أي فجأة وفي هذا وعيد للكفار شديد وقوله : { أن تأتيهم بغتة } بدل من الساعة بدل اشتمال وقرأ أبو جعفر الرواسي { وإذا لم تأتهم } بإن الشرطية { فقد جاء أشراطها } أي أماراتها وعلاماتها وكانوا قد قرأوا في كتبهم أن النبي صلى الله عليه و سلم آخر الأنبياء فبعثته من أشراطها قاله الحسن والضحاك والأشراط جمع شرط بسكون الراء وفتحها وقيل المراد بأشراطها هنا : أسبابها التي هي دون معظمها وقيل أراد بعلامات الساعة انشقاق القمر والدخان كذا قال الحسن وقال الكلبي : كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام ومنه قول أبي زيد الأسود :
( فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو )
{ فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } ذكراهم مبتدأ وخبره فأنى لهم : أي أنى لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة كقوله : { يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى } وإذا جاءتهم اعتراض بين المبتدأ والخبر (5/51)
19 - { فاعلم أنه لا إله إلا الله } أي إذا علمت أن مدار الخير هو التوحيد والطاعة ومدار الشر هو الشرك والعمل بمعاصي الله فاعلم أنه لا إله غيره ولا رب سواه والمعنى : اثبت على ذلك واستمر عليه لأنه صلى الله عليه و سلم قد كان عالما بأنه لا إليه إلا الله قبل هذا وقيل ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا وقيل المعنى : فاذكر أنه لا إله إلا الله فعبر عن الذكر بالعلم { واستغفر لذنبك } أي استغفر الله أن يقع منك ذنب أو استغفر الله ليعصمك أو استغفره مما ربما يصدر منك من ترك الأولى وقيل الخطاب له والمراد الأمة ويأبى هذا قوله : { وللمؤمنين والمؤمنات } فإن المراد به استغفاره لذنوب أمته بالدعاء لهم بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم { والله يعلم متقلبكم } في أعمالكم { ومثواكم } في الدار الآخرة وقيل متقلبكم في أعمالكم نهارا ومثواكم في ليلكم نياما وقيل متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم في الأرض : أي مقامكم فيها قال ابن كيسان متقلبكم من ظهر إلى بطن في الدنيا ومثواكم في القبور
وقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول الجاهلية ] فأنزل الله { وكأين من قرية } الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أنهار من ماء غير آسن } قال : غير متغير وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار منها ] وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده والبيهقي عن كعب قال : نهر النيل نهر العسل في الجنة ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة ونهر سيحان نهر الماء في الجنة وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا } قال : كنت فيمن يسأل وأخرج عبد بن حميد من وجه آخر عنه في الآية قال : أنا منهم وفي هذا منقبة لابن عباس جليلة لأنه كان إذا ذاك صبيا غير بالغ فإن النبي صلى الله عليه و سلم مات وهو في سن البلوغ فسؤال الناس له عن معاني القرآن في حياة النبي صلى الله عليه و سلم ووصف الله سبحانه للمسؤولين بأنهم الذين أوتوا العلم وهو منهم من أعظم الأدلة على سعة علمه ومزيد فقهه في كتاب الله وسنة رسوله مع كون أترابه وأهل سنه إذ ذاك يلعبون مع الصبيان وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا خرجوا من عنده قالوا لابن عباس : ماذا قال آنفا ؟ فيقول كذا وكذا وكان ابن عباس أصغر القوم فأنزل الله الآية فكان ابن عباس من الذين أوتوا العلم وأخرج ابن أبي شيبة وابن عساكر عن ابن بريدة في الآية قال : هو عبد الله بن مسعود وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : هو عبد الله بن مسعود وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } قال : لما أنزل القرآن آمنوا به فكان هدى فلما تبين الناسخ من المنسوخ زادهم هدى وأخرج ابن المنذر عنه { فقد جاء أشراطها } قال : أول الساعات وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالوسطى والسبابة ] ومثله عند البخاري من حديث سهل بن سعد وفي الباب أحاديث كثيرة فيها بيان أشراط الساعة وبيان ما قد وقع منها وما لم يكن قد وقع وهي تأتي في مصنف مستقل فلا نطيل بذكرها وأخرج الطبراني وابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الاستغفار ثم قرأ { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة في قوله : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ] وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن سرجس قال : [ أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأكلت معه من طعام فقلت : غفر الله لك يا رسول الله قال : ولك فقيل : أتستغفر لك يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم ولكم وقرأ { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ] وقد ورد أحاديث في استغفاره صلى الله عليه و سلم لنفسه ولأمته وترغيبه في الاستغفار وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { والله يعلم متقلبكم } في الدنيا { ومثواكم } في الآخرة (5/52)
سأل المؤمنون ربهم عز و جل أن ينزل على رسوله صلى الله عليه و سلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار حرضا منهم على الجهاد ونيل ما أعد الله للمجاهدين من جزيل الثواب فحكى الله عنهم ذلك بقوله : 20 - { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } أي هلا نزلت { فإذا أنزلت سورة محكمة } أي غير منسوخة { وذكر فيها القتال } أي فرض الجهاد قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين وفي قراءة ابن مسعود فإذا أنزلت سورة محدثة أي محدثه النزول قرأ الجمهور { فإذا أنزلت } وذكر على بناء الفعلين للمفعول وقرأ زيد بن علي وابن عمير نزلت وذكر على بناء الفعلين للفاعل ونصب القتال { رأيت الذين في قلوبهم مرض } أي شك وهم المنافقون { ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } أي ينظرون إليك نظر من شخص بصره عند الموت لجبنهم عن القتال وميلهم إلى الكفار قال ابن قتيبة والزجاج : يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم وينظرون إليك نظرا شديدا كما ينظر الشاخص بصره عند الموت { فأولى لهم } قال الجوهري : وقولهم أولى لك تهديد ووعيد وكذا قال مقاتل والكلبي وقتادة قال الأصمعي : معنى قولهم في التهديد أولى لك أي وليك وقاربك ما تكره وأنشد قول الشاعر :
( فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث )
أي قارب أن يزيد قال ثعلب : ولم يقل في أحسن مما قاله الأصمعي وقال المبرد : لمن هم بالغضب ثم أفلت أولى لك : أي قاربت الغضب وقال الجرحاني : هو مأخوذ من الويل : أي فويل لهم وكذا قال في الكشاف قال قتادة أيضا : كأنه قال العقاب أولى لهم (5/54)
وقوله : 21 - { طاعة وقول معروف } كلام مستأنف : أي أمرهم طاعة أو طاعة وقول معروف خير لكم قال الخليل وسيبويه : إن التقدير والطاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم من غيرهما وقيل إن طاعة خبر أولى وقيل إن طاعة صفة لسورة وقيل إن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ مؤخر والأول أولى { فإذا عزم الأمر } عزم الأمر جد الأمر : أي جد القتال ووجب وفرض وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه مجازا وجواب إذا قيل هو فلو صدقوا الله وقيل محذوف تقديره كرهوه قال المفسرون معناه إذا جد الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا { فلو صدقوا الله } في إظهار الإيمان والطاعة { لكان خيرا لهم } من المعصية والمخالفة (5/54)
22 - { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } هذا خطاب للذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتقريع قال الكلبي : أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم وقال كعب { أن تفسدوا في الأرض } أي بقتل بعضكم بعضا وقال قتادة : إن توليتم عن طاعة كتاب الله عز و جل أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء وتقطعوا أرحامكم وقال ابن جريح : إن توليتم عن الطاعة وقيل أعرضتم عن القتال وفارقتم أحكامه قرأ الجمهور { توليتم } مبنيا للفاعل وقرأ علي بن أبي طالب بضم التاء والواو وكسر اللام مبنيا للمفعول وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب ومعناها فهل عسيتم إن ولي عليكم ولاة جائرين أن تخرجوا عليهم في الفتنة وتحاربوهم وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل وقرأ الجمهور { وتقطعوا } بالتشديد على التكثير وقرأ أبو عمرو في رواية عنه وسلام وعيسى ويعقوب بالتخفيف من القطع يقال : عسيت أن أفعل كذا وعسيت بالفتح والكسر لغتان ذكره الجوهري وغيره وخبر عسيتم هو أن تفسدوا والجملة الشرطية بينهما اعتراض (5/55)
والإشارة بقوله : 23 - { أولئك } إلى المخاطبين بما تقدم وهو مبتدأ وخبره : { الذين لعنهم الله } : أي أبعدهم من رحمته وطردهم عنها { فأصمهم } عن استماع الحق { وأعمى أبصارهم } عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد والبعث وحقية سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم (5/55)
والاستفهام في قوله : 24 - { أفلا يتدبرون القرآن } للإنكار والمعنى : أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة والحجج الظاهرة والبراهين القاطعة التي تكفي من له فهم وعقل وتزجره عن الكفر بالله والإشراك به والعمل بمعاصيه { أم على قلوب أقفالها } أم هي المنقطعة : أي بل أعلى قلوب أقفالها فهم لا يفهمون ولا يعقلون قال مقاتل : يعني الطبع على القلوب والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر والشرك لأن الله سبحانه قد طبع عليها والمراد بهذه القلوب قلوب هؤلاء المخاطبين قرأ الجمهور { أقفالها } بالجمع وقرئ { أقفالها } بكسر الهمزة على أنه مصدر كالإقبال (5/55)
25 - { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } أي رجعوا كفارا كما كانوا قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد ما عرفوا نعته عندهم وبه قال ابن جرير : وقال الضحاك والسدي : هم المنافقون قعدوا عن القتال وهذا أولى لأن السياق في المنافقين { من بعد ما تبين لهم الهدى } بما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه و سلم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة { الشيطان سول لهم } أي زين لهم خطاياهم وسهل لهم الوقوع فيها وهذه الجملة خبر إن ومعنى { وأملى لهم } أن الشيطان مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر وقيل إن الذي أملى لهم هو الله عز و جل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة قرأ الجمهور { أملى } مبنيا للفاعل وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو جعفر وشيبة على البناء للمفعول قيل وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله أو الشيطان كالقراءة الأولى وقد اختار القول بأن الفاعل الله الفراء والمفضل والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره قريبا (5/56)
والإشارة بقوله : 26 - { ذلك } إلى ما تقدم من ارتدادهم وهو مبتدأ وخبره { بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله } وهم المشركون { سنطيعكم في بعض الأمر } وهذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومخالفة ما جاء به وقيل المعنى : إن المنافقين قالوا لليهود : سنطيعكم في بعض الأمر وقيل إن القائلين اليهود والذين كرهوا ما أنزل الله : المنافقون وقيل إن الإشارة بقوله ذلك إلى الإملاء وقيل إلى التسويل والأول أولى ويؤيده كون القائلين المنافقين والكارهين اليهود قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم } ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السر بينهم قال الله سبحانه : { والله يعلم إسرارهم } قرأ الجمهور بفتح الهمزة جمع سر واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ الكوفيون وحمزة والنسائي وحفص عن عاصم وابن وثاب والأعمش بكسر الهمزة على المصدر : أي إخفاءهم (5/56)
27 - { فكيف إذا توفتهم الملائكة } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وكيف في محل رفع على أنها خبر مقدم والتقدير : فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة أو في محل نصب بفعل محذوف : أي فكيف يصنعون أو خبر لكان مقدرة : أي فكيف يكونون والظرف معمول للمقدر قرأ الجمهور { توفتهم } وقرأ الأعمش توفاهم وجملة { يضربون وجوههم وأدبارهم } في محل نصب على الحال من فاعل توفتهم أو من مفعوله : أي ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم وفي الكلام تخويف وتشديد والمعنى : أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه وقيل ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل ذلك يوم القيامة والأول أولى (5/56)
والإشارة بقوله : 28 - { ذلك } إلى التوفي المذكور على الصفة المذكورة وهو مبتدأ وخبره { بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } أي بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي وقيل كتمانهم ما في التوراة من نعت نبيا صلى الله عليه و سلم والأول أولى لما في الصيغة من العموم { وكرهوا رضوانه } أي كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة { فأحبط } الله { أعمالهم } بهذا السبب والمراد بأعمالهم الأعمال التي صورتها صورة الطاعة وإلا فلا عمل لكافر أو ما كانوا قد عملوا من الخير قبل الردة (5/57)
29 - { أم حسب الذين في قلوبهم مرض } يعني المنافقين المذكورين سابقا وأم هي المنقطعة : أي بل أحسب المنافقون { أن لن يخرج الله أضغانهم } الإخراج بمعني الإظهار والأضغان جمع ضغن وهو ما يضمر من المكروه واختلف في معناه فقيل هو الغش وقيل الحسد وقيل الحقد قال الجوهري : الضغن والضغينة الحقد وقال قطرب : هو في الآية العداوة وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر (5/57)
30 - { ولو نشاء لأريناكهم } أي لأعلمناكهم وعرفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية تقول العرب : سأريك ما أصنع : أي سأعلمك { فلعرفتهم بسيماهم } أي بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها قال الزجاج : المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة وما بعدها معطوف على جواب لو وكررت في المعطوف للتأكيد وأما اللام في قوله : { ولتعرفنهم في لحن القول } فهي جواب قسم محذوف قال المفسرون : لحن القول فحواه ومقصده ومغزاه وما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه قال أبو زيد : لحنت له اللحن : إذا قلت له قولا يفقهه عنك ويخفى على غيره ومنه قول الشاعر :
( منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الكلام ما كان لحنا )
أي أحسنه ما كان تعريضا بعهمه المخاطب ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض { والله يعلم أعمالكم } لا تخفى عليه منها خافية فجازيكم بها وفيه وعيد شديد (5/57)
31 - { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } أي لنعاملنكم معاملة المختبر وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد وصبر على دينه ومشاق ما كلف به قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها ومعنى { ونبلو أخباركم } نظهرها ونكشفها امتحانا لكم ليظهر للناس من أطاع أمره الله به ومن عصى ومن لم يتمثل وقرأ الجمهور { ونبلو } بنصب الواو عطفا على قوله { حتى نعلم } وروى ورش عن يعقوب إسكانها على القطع عما قبله
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم بحقو الرحمن فقال مه قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : نعم أترضي أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت بلى قال : فذلك لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اقرأوا إن شئتم { فهل عسيتم } الآية إلى قوله { أم على قلوب أقفالها } ] والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جدا وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } قال : هم أهل النفاق وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم } قال : أعمالهم خبثهم والحسد الذي في قلوبهم ثم دل الله تعالى النبي صلى الله عليه و سلم بعد على المنافقين فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله : { ولتعرفنهم في لحن القول } قال : ببغضهم علي بن أبي طالب (5/57)
قوله : 32 - { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } المراد بهؤلاء هم المنافقون وقيل أهل الكتاب وقيل هم المطمعون يوم بدر من المشركين ومعنى صدهم عن سبيل الله : منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه و سلم { و } ومعنى { شاقوا الرسول } عادوه وخالفوه { من بعد ما تبين لهم الهدى } أي علموا أنه صلى الله عليه و سلم نبي من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة والحجج القاطعة { لن يضروا الله شيئا } بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر وما ضروا إلا أنفسهم { وسيحبط أعمالهم } أي يبطلها والمراد بهذه الأعمال ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام وصلة الأرحام وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير وإن كانت باطلة من الأصل لأن الكفر مانع وقيل المراد بالأعمال المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى الله عليه و سلم (5/59)
ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال : 33 - { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر فقال : { ولا تبطلوا أعمالكم } قال الحسن : أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي وقال الزهري : بالكبائر وقال الكلبي وابن جريج : بالرياء والسمعة وقال مقاتل : بالمن والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائنا ما كان من غير تخصيص بنوع معين (5/59)
ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرين على الكفر والصد عن سبيل الله فقال : 34 - { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم } فقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيا وظاهر الآية العموم وإن كان السبب خاصا (5/59)
ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف فقال : 35 - { فلا تهنوا } أي تضعفوا عن القتال والوهن الضعف { وتدعوا إلى السلم } أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء منكم فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف قال الزجاج : منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وتدعوا بتشديد الدال من ادعى القوم وتداعوا قال قتادة : معنى الآية : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها
واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فقيل إنها محكمة وإنها ناسخة لقوله : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } وقيل منسوخة بهذه الآية ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداء ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون فالآيتان محكمتان ولم يتواردوا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص وجملة { وأنتم الأعلون } في محل نصب على الحال أو مستأنفة مقررة لما قبلها من النهي : أي وأنتم الغالبون بالسيف والحجة قال الكلبي : أي آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات وكذا جملة قوله : { والله معكم } في محل نصب على الحال : أي معكم بالنصر والمعونة عليهم { ولن يتركم أعمالكم } أي لن ينقصكم شيئا من [ ثواب ] أعمالكم يقال وتره وترا : إذا نقصه حقه وأصله من وترت الرجل : إذا قتلت له قريبا أو نهبت له مالا ويقال فلان مأتور : إذا قتل له قتيل ولم يؤخذ بدمه قال الجوهري : أي لن ينقصكم في أعمالكم كما تقول دخلت البيت وأنت تريد في البيت قال الفراء : هو مشتق من الوتر وهو الدخل وقيل مشتق من الوتر وهو الفرد فكأن المعنى : لون يفردكم بغير ثواب (5/59)
36 - { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } أي باطل وغرور لا أصل لشيء منها ولا ثبات له ولا اعتداء به { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } أي إن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة والأجر والثواب على الطاعة { ولا يسألكم أموالكم } أي لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات بل أمركم بإخراج القليل منها وهو الزكاة وقيل المعنى : لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله لأنه أملك لها وهو المنعم عليكم بإعطائها وقيل لا يسألكم أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة كما في قوله : { ما أسألكم عليه من أجر } والأول أولى (5/60)
37 - { إن يسألكموها } أي أموالكم كلها { فيحفكم } قال المفسرون : يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها يقال أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد والمحفي المستقصي في السؤال والإحفاء الاستقصاء في الكلام ومنه إحفاء الشارب : أي استئصاله وجواب الشرط قوله : { تبخلوا } أي إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها وتمتنعوا من الامتثال { ويخرج أضغانكم } معطوف على جواب الشرط ولهذا قرأ الجمهور يخرج بالجزم وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بالرفع على الاستئناف وروي عنه أنه قرأ بفتح الياء وضم الراء ورفع أضغانكم وروي عن يعقوب الحضرمي أنه قرأ بالنون وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا والأضغان : الأحقاد والمعنى : أنها تظهر عند ذلك قال قتادة : قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان (5/60)
38 - { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير { فمنكم من يبخل } بما يطلب منه ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال : { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } أي يمنعها الأجر والثواب ببخله وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أخرى وقيل إن أصله أن يتعدى بعلى ولا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى الإمساك { والله الغني } المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم { وأنتم الفقراء } إلى الله وإلى ما عنده من الخير والرحمة وجملة { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } معطوفة على الشرطية المتقدمة وهي وإن تؤمنوا والمعنى : وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم { ثم لا يكونوا أمثالكم } في التولي عن الإيمان والتقوى قال عكرمة : هم فارس والروم وقال الحسن : هم العجم وقال شريح بن عبيد : هم أهل اليمن وقيل الأنصار وقيل الملائكة وقيل التابعون وقال مجاهد : هم من شاء الله من سائر الناس قال ابن جرير : والمعنى { ثم لا يكونوا أمثالكم } في البخل بالإنفاق في سبيل الله
وقد أخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } فخافوا أن يبطل الذنب العمل ولفظ عبد بن حميد : فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك حتى نزلت هذه الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجوناه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { يتركم } قال : لما نزلت { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } قالوا من هؤلاء ؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : هم الفرس هذا وقومه وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد تفرد به وفيه مقال معروف وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : [ تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس ] وفي إسناده أيضا مسلم بن خالد الزنجي وأخرج ابن مردويه من حديث جابر نحوه (5/61)
هي تسع وعشرون آية وهي مدنية
قال القرطبي : بالإجماع وقد أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الفتح بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج ابن إسحاق والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة ومروان قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية لأن المراد بالسورة المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مغفل قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب : هلكت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك فقال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت : لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت علي سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } ] وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } الآية إلى قوله : { فوزا عظيما } مرجعه من الحديبية وهم مخالطهم الحزن والكآبة وقد نحروا الهدي بالحديبية فقال : [ لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعها ]
قوله : 1 - { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } اختلف في تعيين هذا الفتح فقال الأكثر : هو صلح الحديبية والصلح قد يسمى فتحا قال الفراء : والفتح قد يكون صلحا ومعنى الفتح في اللغة : فتح المنغلق والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام قال الشعبي : لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وبويع بيعة الرضوان وأطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس وقال قوم : إنه فتح مكة وقال آخرون : إنه فتح خيبر والأول أرجح ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية وقيل هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح وقيل هو ما فتح له من النبوة والدعوة إلى الإسلام وقيل فتح الروم وقيل المراد بالفتح في هذه الآية الحكم والقضاء كما في قوله : { افتح بيننا وبين قومنا بالحق } فكأنه قال : إنا قضينا لك قضاء مبينا : أي ظاهرا واضحا مكشوفا (5/62)
2 - { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } اللام تعلقة بفتحنا وهي لا العلة قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس : يعني المبرد عن اللام في قوله : { ليغفر لك الله } فقال : هي لام كي معناها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة وقال صاحب الكشاف : إن اللام لم تكن علة للمغفرة ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين وأعراض العاجل والآجل وهذا كلام غير جيد فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح فكيف يصح أن تكون معللة وقال الرازي في توجيه التعليل : إن المراد بقوله : { ليغفر لك الله } التعريف بالمغفرة تقديره : إنا فتحنا لك لتعرف أنك مغفور لك معصوم وقال ابن عطية : المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك فكأنها لام الصيرورة وقال أبو حاتم : هي لام القسم وهو خطأ فإن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها
واختلف في معنى قوله : { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } فقيل ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة وما تأخر بعدها قاله مجاهد وسفيان والثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم وقال عطاء : ما تقدم من ذنبك : يعني ذنب أبويك آدم وحواء وما تأخر من ذنوب أمتك وما أبعد هذا عن معنى القرآن وقيل ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده وهذا كالذي قبله وقيل ما تقدم من ذنب يوم بدر ما تأخر من ذنب يوم حنين وهذا كالقولين الأولين في البعد وقيل لو كان ذنب قديم أو حديث لغرنا لك وقيل غي ذلك مما لا وجه له والأول أولى ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى وسمي ذنبا في حقه لجلالة قدره وإن لم يكن ذنبا في حق غيره { ويتم نعمته عليك } بإظهار دينك على الدين كله وقيل بالجنة وقيل بالنبوة والحكمة وقيل بفتح مكة والطائف وخيبر والأولى أن يكون المعنى : ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو الإسلام ومعنى يهديك يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه (5/64)
3 - { وينصرك الله نصرا عزيزا } أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل (5/65)
4 - { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } أي السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } أي ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيمانا منضما إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل قال الكلبي : كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم وقال الربيع بن أنس : خشية مع خشيتهم وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم { ولله جنود السموات والأرض } يعني الملائكة والإنس والجن والشياطين يدبر أمرهم كيف يشاء ويسلط بعضهم على بعض ويحوط بعضهم ببعض { وكان الله عليما } كثير العلم بليغه { حكيما } في أفعاله وأقواله (5/65)
4 - { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } هذه اللام متعلقة بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره يبتلي بتلك الجنود من يشاء فيقبل الخير من أهله والشر ممن قضى له به ليدخل ويعذب وقيل متعلقة بقوله : { إنا فتحنا } كأنه قال : إنا فتحنا لك ما فتحنا ليدخل ويعذب وقيل متعلقة بينصرك : أي نصرك الله بالمؤمنين ليدخل ويعذب وقيل متعلقة بيزدادوا : أي يزدادوا ليدخل ويعذب والأول أولى { ويكفر عنهم سيئاتهم } أي يسترها ولا يظهرها ولا يعذبهم بها وقدم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى { وكان ذلك عند الله فوزا عظيما } أي ظفرا بكل مطلوب ونجاة من كل غم وجلبا لكل نفع ودفعا لكل ضر وقوله : { عند الله } متعلق بمحذوف على أنه حال من فوزا لأنه صفة في الأصل فلما قدم صار حالا : أي كائنا عند الله والجملة معترضة بين جزاء المؤمنين وجزاء المنافقين والمشركين (5/65)
ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم فقال : 6 - { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } وهو معطوف على يدخل : أي يعذبهم في الدنيا بما يصل إليها من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام وقهر المخالفين له وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر وفي الآخرة بعذاب جهنم وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشد منهم عذابا وأحق منهم بما وعدهم الله به ثم وصف الفريقين فقال : { الظانين بالله ظن السوء } وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه و سلم يغلب وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام
ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله : { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } { عليهم دائرة السوء } أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم والمعنى : أن العذاب والهلاك الذي يتوقعونه للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم قال الخليل وسيبويه : السوء هنا الفساد قرأ الجمهور { السوء } بفتح السين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمها { وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } لما بين سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بين ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة وعذاب جهنم (5/65)
7 - { ولله جنود السموات والأرض } من الملائكة والإنس والجن والشياطين { وكان الله عليما حكيما } كرر هذه الآية لقصد التأكيد وقيل المراد بالجنود هنا جنود العذاب كما يفيده التعبير بالعزة هنا مكان العلم هنالك
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها حتى بلغنا كراع الغميم إذ الناس يوجفون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم على راحلته عند كراع الغميم فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } فقال رجل : إي رسول الله أو فتح هو ؟ قال : إي والذين نفس محمد بيده إنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهما وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا أنه أنزل عليه { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وأخرج البخاري وغيره عن أنس في قوله : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } قال : الحديبية وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } قال : فتح مكة ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي حتى ترم قدماه فقيل : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبدا شكورا ] وفي الباب أحاديث وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } قال : السكينة هي الرحمة وفي قوله : { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } قال : إن الله بعث نبيه صلى الله عليه و سلم بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة فلما صدوا بها زادهم الصيام فلما صدقوا به زادهم الزكاة فلما صدقوا بها زادهم الحج فلما صدقوا بها زادهم الجهاد ثم أكمل لهم دينهم فقال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } قال ابن عباس : [ فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله ] وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } قال : تصديقا مع تصديقهم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : لما أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } مرجعه من الحديبية قال : [ لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي مما على الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا : هنيئا مريئا يا رسول الله قد بين الله لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } حتى بلغ { فوزا عظيما } ] (5/66)
قوله : 8 - { إنا أرسلناك شاهدا } أي على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم { ومبشرا } بالجنة للمطيعين { ونذيرا } لأهل المعصية (5/68)
9 - { لتؤمنوا بالله ورسوله } قرأ الجمهور { لتؤمنوا } بالفوقية وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتحتية فعلى القراءة الأولى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولأمته وعلى القراءة الثانية المراد المبشرين والمنذرين وانتصاب شاهدا ومبشرا ونذيرا على الحال المقدرة { وتعزروه وتوقروه وتسبحوه } الخلاف بين القراء في هذه الثلاثة والأفعال كالخلاف في لتؤمنوا كما سلف ومعنى تعزروه : تعظموه وتفخموه قاله الحسن والكلبي والتعزيز : التعظيم والتوقير وقال قتادة : تنصروه وتمنعوا منه وقال عكرمة : تقاتلوا معه بالسيف ومعنى توقروه : تعظموه وقال السدي : تسودوه قيل والضميران في الفعلين للنبي صلى الله عليه و سلم وهنا وقف تام ثم يبتدئ وتسبحوه : أي تسبحوا الله عز و جل { بكرة وأصيلا } أي غدوة وعيشة وقيل الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة عز و جل فيكون معنى تعزروه وتوقروه : تثبتون له التوحيد وتنفون عنه الشركاء وقيل تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله وفي التسبيح وجهان أحدهما التنزيه له سبحانه من كل قبيح والثاني الصلاة (5/68)
10 - { إن الذين يبايعونك } يعني بيعة الرضوان بالحديبية فإنهم بايعوا تحت الشجرة على قتال قريش { إنما يبايعون الله } أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه و سلم هي بيعة له كما قال : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة وجملة { يد الله فوق أيديهم } مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التخييل في محل نصب على الحال والمعنى : أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت وقال الكلبي : المعنى إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة وقيل بيده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء وقال ابن كسيان : قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } أي فمن نقض ما عقد من البيعة فإنما ينقض على نفسه لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } أي ثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله قرأ الجمهور { عليه } بكسر الهاء وقرأ حفص والزهري بضمها { فسيؤتيه أجرا عظيما } وهو الجنة قرأ الجمهور { فسيؤتيه } بالتحتية وقرأ نافع وقرأ كثير وابن عامر بالنون واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم واختار القراءة الثانية الفراء (5/68)
11 - { سيقول لك المخلفون من الأعراب } هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية قال مجاهد وغيره : يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع الدئل وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة وقيل تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين سافر إلى مكة عام الفتح بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه والمخلف المتروك { شغلتنا أموالنا وأهلونا } أي منعنا عن الخروج معك ما لنا من الأموال والنساء والذراري وليس لنا من يقوم بهم ويخلفنا عليهم { فاستغفر لنا } ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم فضحهم الله سبحانه بقوله : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } وهذا هو صنيع المنافقين والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم ويجوز أن تكون بدلا من الجملة الأولى ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يجيب عنهم فقال : { قل فمن يملك لكم من الله شيئا } أي فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير وشر ثم بين ذلك فقال : { إن أراد بكم ضرا } أي إنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل قرأ الجمهور { ضرا } بفتح الضاد وهو مصدر ضررته ضرا وقرأ حمزة والكسائي بضمها وهو اسم ما يضر وقيل هما لغتان { أو أراد بكم نفعا } أي نصرا وغنيمة وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدفع عنه الضر ويجلب لهم النفع ثم أضرب سبحانه عن ذلك وقال : { بل كان الله بما تعملون خبيرا } أي إن تخلفكم ليس لما زعمتم بل كان الله خبيرا بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك بل للشك والنفاق وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله (5/69)
12 - { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } وهذه الجملة مفسرة لقوله : { بل كان الله بما تعملون خبيرا } لما فيها من الإبهام : أي بل ظننتم أن العدو يستأصل المؤمنين بالمرة فلا يرجع منهم أحد إلى أهله فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباظلة { وزين ذلك في قلوبكم } أي وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فقبلتموه قرأ الجمهور { وزين } مبينا للمفعول وقرئ مبينا للفاعل { وظننتم ظن السوء } أن الله سبحانه لا ينصر رسوله وهذا الظن إما هو الظن الأول والتكرير للتأكيد والتوبيخ والمراد به ما هو أعم من الأول فيدخل الظن الأول تحته دخولا أوليا { وكنتم قوما بورا } أي هلكى قال الزجاج : هالكين عند الله وكذا قال مجاهد : قال الجوهري : البور الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه قال أبو عبيد { قوما بورا } هلكى وهو جمع بائر مثل حائل وحول وقد بار فلان : أي هلك وأباره الله أهلكه (5/69)
13 - { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا } هذا الكلام مستأنف من جهة الله سبحانه غير داخل تحت ما أمر الله سبحانه رسوله أن يقوله : أي ومن لم يؤمن بهما كما صنع هؤلاء المخلفون فجزاؤهم ما أعده الله من عذاب السعير (5/70)
14 - { ولله ملك السماوات والأرض } يتصرف فيه كيف يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلفه وإنما تعبدهم بما تعبدهم ليثيب من أحسن ويعاقب من أساء ولهذا قال : { يغفر لمن يشاء } أن يغفر له { ويعذب من يشاء } أن يعذبه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } { وكان الله غفورا رحيما } أي كثير المغفرة والرحمة بليغها يخص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده (5/70)
15 - { سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها } المخلفون هؤلاء المذكورون سابقا والظرف متعلق بقوله سيقول والمعنى : سيقولون عند انطلاقكم أيها المسلمون { إلى مغانم } يعني مغانم خيبر { لتأخذوها } لتحوزها { ذرونا نتبعكم } أي اتركونا نتبعكم ونشهد معكم غزوة خيبر وأصل القصة أنه لما انصرف النبي صلى الله عليه و سلم ومن معه من المسلمين من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر وخص بغنائمها من شهد الحديبية فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون : ذرونا نتبعكم فقال الله سبحانه : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } أي يغيروا كلام الله والمراد بهذا الكلام الذي أرادوا أن يبدلوه هو مواعيد الله لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر وقال مقاتل : يعني أمر الله لرسوله أن لا يسير معه أحد منهم وقال ابن زيد : هو قوله تعالى : { فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } واعترض هذا ابن جرير وغيره بأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة والأول أولى وبه قال مجاهد وقتادة ورجحه ابن جرير وغيره قرأ الجمهور { كلام الله } وقرأ حمزة والكسائي { كلم الله } قال الجوهري : الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة مثل نبقة ونبق ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يمنعهم من الخروج معه فقال : { قل لن تتبعونا } هذا النفي هو في معنى النهي والمعنى : لا تتبعونا { كذلكم قال الله من قبل } أي من قبل رجوعنا من الحديبية أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة ليس لغيرهم فيها نصيب { فسيقولون } يعني المنافقين عند سماع هذا القول وهو قوله لن تتبعونا { بل تحسدوننا } أي بل ما يمنعكم من خروجنا معكم إلا الحسد لئلا نشارككم في الغنيمة وليس ذلك بقول الله كما تزعمون ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله : { بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا } أي لا يعلمون إلا علما قليلا وهو علمهم بأمر الدنيا وقيل لا يفقهون من أمر الدين إلا فقها قليلا وهو ما يصنعونه نفاقا بظواهرهم دون بواطنهم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وتعزروه } يعني الإجلال { وتوقروه } يعني التعظيم يعني محمدا صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه في قوله : { وتعزروه } قال : تضربوا بين يديه بالسيف وأخرج ابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال : [ لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { وتعزروه } قال لأصحابه : ما ذاك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : لتنصروه ] وأخرج أحمد وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : [ بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة فمن وفى وفى الله له ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ] وفي الصحيحين من حديث جابر [ أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشر مائة ] وفيهما عنه أنهم كانوا أربع عشرة مائة وفي البخاري من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة فقال له : إن جابرا قال كانوا أربع عشرة مائة قال رحمه الله : وهم هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة (5/70)
قوله : 16 - { قل للمخلفين من الأعراب } هم المذكورون سابقا { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } قال عطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني : هم فارس وقال كعب والحسن : هم الروم وروي عن الحسن أيضا أنه قال : هم فارس والروم وقال سعيد بن جبير : هم هوازن وثقيف وقال عكرمة : هوازان وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين وقال الزهري ومقاتل : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة وحكى هذا القول الواحدي عن أكثر المفسرين { تقاتلونهم أو يسلمون } أي يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما وهذا حكم الكفار الذين لا تؤخذ منهم الجزية قال الزجاج : التقدير أو هم يسلمون وفي قراءة أبي أو يسلموا أي حتى يسلموا { فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا } وهو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة { وإن تتولوا } أي تعرضوا { كما توليتم من قبل } وذلك عام الحديبية { يعذبكم عذابا أليما } بالقتل والأسر والقهر في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة لتضاعف جرمكم (5/72)
17 - { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } أي ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار حرج في التخلف عن الغزو لعدم استطاعتهم قال مقاتل : عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية والحرج : الإثم { ومن يطع الله ورسوله } فيما أمرا به ونهياه عنه { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } قرأ الجمهور { يدخله } بالتحتية واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد وقرأ نافع وابن عامر بالنون { ومن يتول يعذبه عذابا أليما } أي ومن يعرض عن الطاعة يعذبه الله عذابا شديد الألم (5/72)
ثم ذكر سبحانه الذين أخلصوا نياتهم وشهدوا بيعة الرضوان فقال : 18 - { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } أي رضي الله عنهم وقت تلك البيعة وهي بيعة الرضوان وكانت بالحديبية والعامل فيها { تحت } إما يبايعونك أو محذوف على أنه حال من المفعول وهذه الشجرة المذكورة هي شجرة كانت بالحديبية وقيل سدرة وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا وروي أنه بايعهم على الموت وقد تقدم ذكر عدد أهل هذه البيعة قريبا والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير { فعلم ما في قلوبهم } معطوف على يبايعونك قال الفراء : أي علم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء وقال قتادة وابن جريح : من الرضى بأمر البيعة على أن لا يفروا وقال مقاتل : من كراهة البيعة على الموت { فأنزل السكينة عليهم } معطوف على رضى والسكينة : الطمأنينة وسكون النفس كما تقدم وقيل الصبر { وأثابهم فتحا قريبا } هو فتح خيبر عند انصرافهم من الحديبية قاله قتادة وابن أبي ليلى وغيرهما وقيل فتح مكة والأول أولى (5/73)
19 - { ومغانم كثيرة يأخذونها } أي وأثابكم مغانم كثيرة أو وآتاكم وهي غنائم خيبر والالتفات لتشريفهم بالخطاب { وكان الله عزيزا حكيما } أي غالبا مصدرا أفعاله وأقواله على أسلوب الحكمة (5/73)
20 - { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } في هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة يأخذونها في أوقاتها التي قدر وقوعها فيها { فعجل لكم هذه } أي غنائم خيبر قاله مجاهد وغيره وقيل صلح الحديبية { وكف أيدي الناس عنكم } أي وكف أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح وقيل كف أيدي أهل خيبر وأنصارهم عن قتالكم وقذف في قلوبهم الرعب وقال قتادة : كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه و سلم إلى الحديبية وخيبر ورجح هذا ابن جرير قال : لأن كف أيدي الناس بالحديبية مذكور في قوله : { وهو الذي كف أيديهم عنكم } وقيل كف أيدي الناس عنكم : يعني عيينة بين حصن الفزاري وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر عند حصار النبي صلى الله عليه و سلم لهم { ولتكون آية للمؤمنين } اللام يجوز أن تتعلق بفعل محذوف يقدر بعده : أي فعل ما فعل من التعجيل والكف لتكون آية أو على علة محذوفة تقديرها وعد فعجل وكف لتنتفعوا بذلك ولتكون آية وقيل إن الواو مزيدة واللام لتعليل ما قبله : أي وكف لتكون والمعنى : ذلك الكف آية يعلم بها صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم في جمع ما يعدكم به { ويهديكم صراطا مستقيما } أي يزيدكم بتلك الآية هدى أو يثبتكم على الهداية إلى الطريق الحق (5/73)
21 - { وأخرى لم تقدروا عليها } معطوف على هذه : أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى لم تقدروا عليها وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد كفارس والروم ونحوهما كذا قال الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى وقال الضحاك وابن زيد وابن أبي إسحاق : هي خيبر وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها ولم يكونوا يرجونها وقال قتادة : فتح مكة وقال عكرمة : حنين والأول أولى { قد أحاط الله بها } صفة ثانية لأخرى قال الفراء : أحاط الله بها لكم حتى تفتحوها وتأخذوها والمعنى أنه أعدها لهم وجعلها كالشيء الذي قد أحيط به من جميع جوانبه فهو محصور لا يفوت منه شيء فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال فهي محبوسة لهم لا تفوتهم وقيل معنى أحاط : علم أنها ستكون لهم { وكان الله على كل شيء قديرا } لا يعجزه شيء ولا تختص قدرته ببعض المقدورات دون بعض (5/74)
22 - { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار } قال قتادة يعني كفار قريش بالحديبية وقيل أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر والأول أولى { ثم لا يجدون وليا } يواليهم على قتالكم { ولا نصيرا } ينصرهم عليكم (5/74)
23 - { سنة الله التي قد خلت من قبل } أي طريقته وعادته التي قد مضت في الأمم من نصر أوليائه على أعدائه وانتصاب سنة على المصدرية بفعل محذوف : أي بين الله سنة الله أو هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة { ولن تجد لسنة الله تبديلا } أي لن تجد لها تغييرا بل هي مستمرة ثابتة (5/74)
24 - { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } أي كف أيدي المشركين عن المسلمين وأيدي المسلمين عن المشركين لما جاءوا يصدقون رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن معه عن البيت عام الحديبية وهي المراد ببطن مكة وقيل إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه و سلم من قبل جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه و سلم فأخذهم المسلمون ثم تركوهم وفي رواية اختلاف سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله { وكان الله بما تعملون بصيرا } لا يخفى عليه من ذلك شيء
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { أولي بأس شديد } يقول : فارس وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم الأكراد وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : فارس والروم وأخرج الفريابي وابن مردويه عنه قال : هوازن وبني حنيفة وأخرج الطبراني قال السيوطي بسند حسن عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال إذ جاء أعمى فقال : [ كيف لي وأنا ذاهب البصر ؟ فنزلت { ليس على الأعمى حرج } الآية ] قال هذا في الجهاد وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال : [ بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى فقال الناس هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو [ مكث ] كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف ] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن نافع قال : بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة قيل على أي شيء كتنم تبايعونه يومئذ ؟ قال : على الموت وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال : بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة ] وأخرج مسلم من حديثه مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { فأنزل السكينة عليهم } قال : إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه { فعجل لكم هذه } يعني الفتح وأخرج ابن مردويه عنه أيضا { فعجل لكم هذه } يعني خيبر { وكف أيدي الناس عنكم } يعني أهل مكة أن يستحلوا حرم الله ويستحل بكم وأنتم حرم { ولتكون آية للمؤمنين } قال سنة لمن بعدكم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أيضا في قوله : { وأخرى لم تقدروا عليه } قال : هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا { وأخرى لم تقدروا عليها } قال : هي خيبر وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبال التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } وفي صحيح مسلم وغيره : أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة بن الأكوع يوم الحديبية وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو النعيم في الدلائل في سبب نزول الآية [ أن ثلاثين شابا من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح فثاروا في وجوههم فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ الله بأسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم فقام إليهم المسلمون فأخذوهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا ؟ فقالوا لا فخلى سبيلهم فنزلت هذه الآية ] (5/74)
قوله : 25 - { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } يعني كفار مكة ومعنى صدهم عن المسجد الحرام : أنهم منعوهم أن يطوفوا به ويحلوا عن عمرتهم { والهدي معكوفا } قرأ الجمهور بنصب { الهدي } عطفا على الضمير المنصوب في صدوكم وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفا على المسجد ولا بد من تقدير مضاف : أي عن نحر الهدي وقرئ بالرفع على تقدير وصد الهدي وقرأ الجمهور بفتح الهاء من الهدي وسكون الدال وروي عن أبي عمرو عاصم بكسر الدال وتشديد الياء : وانتصاب معكوفا على الحال من الهدي : أي محبوسا قال الجوهري عكفه : أي حبسه ووقفه ومنه { والهدي معكوفا } ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس وقال أبو عمرو بن العلاء : معكوفا مجموعا وقوله : { أن يبلغ محله } أي عن أن يبلغ محله أو هو مفعول لأجله والمعنى : صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله أو هو بدل من الهدي بدل اشتمال ومحله منحره وهو حيث يحل نحره من الحرم وكان الهدي سبعين بدنة ورخص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية محلا للنحر وللعلماء في هذا كلام معروف في كتب الفروع { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم } يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة ومعنى : لم تعلموهم لم تعرفوهم وقيل لم تعلموا أنهم مؤمنون { أن تطئوهم } يجوز أن يكون بدلا من رجال ونساء ولكنه غلب الذكور وأن يكون بدلا من مفعول تعلموهم والمعنى أن تطأوهم بالقتل والإيقاع بهم يقال وطئت القوم : أي أوقعت بهم وذلك أنهم لو كسبوا مكة وأخذوها عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار وعند ذلك لا يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة وتلحقهم سبة وهو معنى قوله : { فتصيبكم منهم } أي من جهتهم { معرة } أي مشقة بما يلزمهم في قتلهم من كفارة وعيب وأصل المعرة : العيب مأخوذة من العر وهو الجرب وذلك أن المشركين سيقولون : إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم قال الزجاج : لولا أن تقتلوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات فتصيبكم منهم معرة : أي إثم وكذا قال الجوهري [ وبه ] قال ابن زيد وقال الكلبي ومقاتل وغيرهما : المعرة كفارة قتل الخطأ كما في قوله { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } وقال ابن إسحاق : المعرة غرم الدية وقال قطرب : المعرة الشدة وقيل الغم و { بغير علم } متعلق بأن تطأوهم : أي غير عالمين وجواب لولا محذوف والتقدير : لأذن الله لكم أو لما كف أيديكم عنهم واللام في { ليدخل الله في رحمته من يشاء } متعلقة بما يدل عليه الجواب المقدر أي ولكن لم يأذن لكم أو كف أيديكم ليدخل الله في رحمته بذلك من يشاء من عباده وهم المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا في مكة فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار ويفك أسرهم ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب وقيل اللام متعلقة بمحذوف غير ما ذكر وتقديره : لو قلتموهم لأدخلهم الله في رحمته والأول أولى وقيل إن من يشاء عباده ممن رغب في الإسلام من المشركين { لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما } التزيل : التميز : أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم لغذبنا الذين كفروا وقيل التزيل : التفرق : أي لو تفرق هؤلاء من هؤلاء وقيل لو زال المؤمنون من بين أظهرهم والمعاني متقاربة والعذاب الأليم هو القتل والأسر والقهر (5/76)
والظرف في قوله : 26 - { إذ جعل الذين كفروا } منصوب بفعل مقدر : أي اذكر وقت جعل الذين كفروا { في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } وقيل متعلق بعذبنا والحمية : الأنفة يقال فلان ذو حمية : أي ذو أنفة وغضب : أي جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم والجعل بمعنى الإلقاء وحمية الجاهلية بدل من الحمية قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان قال أهل مكة : قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا فتتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفنا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فهذه الحمية هي حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم وقال الزهري حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه و سلم بالرسالة قرأ الجمهور { لو تزيلوا } وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وابن عون لو تزايلوا والتزايل التباين { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } أي أنزل الطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية وقيل ثبتهم على الرضى والتسليم { وألزمهم كلمة التقوى } وهي لا إله إلا الله كذا قال الجمهور وزاد بعضهم محمد رسول الله وزاد بعضهم وحده لا شريك له وقال الزهري في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير فخص الله بهذه الكلمة المؤمنين وألزمهم بها والأول أولى لأن كلمة التوحيد هي التي يتقي بها الشرك بالله وقيل كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد والثبات عليه { وكانوا أحق بها وأهلها } أي وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة من الكفار والمستأهلين لها دونهم لأن الله سبحانه أهلهم لدينه وصحبة رسوله صلى الله عليه و سلم (5/78)
27 - { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله سبحانه أرى نبيه صلى الله عليه و سلم في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصروا فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك فلما رجعوا من الحديبية ولم يدخلوا مكة قال المنافقون : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام فأنزل الله هذه الآية وقيل إن الرؤيا كانت بالحديبية وقوله بالحق صفة لمصدر محذوف : أي صدقا ملتبسا بالحق وجواب القسم المحذوف المدلول عليه باللام الموطئة هو قوله : { لتدخلن المسجد الحرام } أي في العام القابل وقوله : { إن شاء الله } تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يجب أن يقولوه كما في قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } قال ثعلب : إن الله استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون وقيل كان الله سبحانه علم أنه يموت بعض هؤلاء الذين كانوا معه في الحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى قاله الحسن بن الفضل وقيل معنى إن شاء الله : كما شاء الله وقال أبو عبيدة : إن بمعنى إذ : يعني إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك وانتصاب { آمنين } على الحال من فاعل لتدخلن وكذا { محلقين رؤوسكم ومقصرين } أي آمنين من العدو ومحلقا بعضكم ومقصرا بعضكم والحلق والتقصير خاص بالرجال والحلق أفضل من التقصير كما يدل على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره صلى الله عليه و سلم للمحلقين في المرة الأولى والثانية والقائل يقول له وللمقصرين فقال في الثالثة وللمقصرين وقوله : { لا تخافون } في محل نصب على الحال أو مستأنف وفيه زيادة تأكيد لما قد فهم من قوله آمنين { فعلم ما لم تعلموا } أي ما لم تعلموا من المصلحة في الصلح لما في دخولكم في عام الحديبية من الضرر على المستضعفين من المؤمنين وهو معطوف على صدق : أي صدق رسوله الرؤيا فعلم ما لم تعلموا به { فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } أي فجعل من دون دخولكم مكة كما أرى رسوله فتحا قريبا قال أكثر المفسرين : هو صلح الحديبية وقال ابن زيد والضحاك : فتح خيبر وقال الزهري : لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية ولقد دخل في تلك السنتين في الإسلام مثل من كان قد دخل فيه قبل ذلك بل أكثر فإن المسلمين كانوا في سنة ست وهي سنة الحديبية ألفا وأربعمائة وكانوا فس سنة ثمان عشرة آلاف (5/78)
28 - { هو الذي أرسل رسوله بالهدى } أي إرسالا ملتبسا بالهدى { ودين الحق } وهو الإسلام { ليظهره على الدين كله } أي يعليه على كل الأديان كما يفيده تأكيد الجنس وقيل ليظهر رسوله والأول أولى وقد كان ذلك بحمد الله فإن دين الإسلام قد ظهر على جميع الأديان وانقهر له كل أهل الملل { وكفى بالله شهيدا } الباء زائدة كما تقدم في غير موضع : أي كفى الله شهيدا على هذا الإظهار الذي وعد المسلمين به وعلى صحة نبوة نبيه صلى الله عليه و سلم (5/79)
29 - { محمد رسول الله } محمد مبتدأ ورسول الله خبره أو هو خبر مبتدأ محذوف ورسول الله بدل منه وقيل محمد مبتدأ ورسول الله نعت له { والذين معه } معطوف على المبتدأ وما بعده الخبر والأول أولى والجملة مبنية لما هو من جملة المشهود به والذين معه قيل هم أصحاب الحديبية والأولى الحمل على العموم { أشداء على الكفار } أي غلاظ عليهم كما يغلظ الأسد على فريسته وهو جمع شديد { رحماء بينهم } أي متوادون متعاطفون وهو جمع رحيم والمعنى : أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة ولمن وافقه الرحمة والرأفة قرأ الجمهور برفع { أشداء } و { رحماء } على أنه خبر للموصول أو خبر لمحمد وما عطف عليه كما تقدم وقرأ الحسن بنصبهما على الحال أو المدح ويكون الخبر على هذه القراءة { تراهم ركعا سجدا } أي تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين وعلى قراءة الجمهور هو خبر آخر أو استئناف : أعني قوله تراهم { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } أي يطلبون ثواب الله لهم ورضاه عنهم وهذه الجملة خبر ثالث على قراءة الجمهور أو في محل نصب على الحال من ضمير تراهم وهكذا { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } السيما العلامة وفيها لغتان المد والقصر : أي تظهر علامتهم في جباهم من أثر السجود في الصلاة وكثرة التعبد بالليل والنهار وقال الضحاك : إذا سهر الرجل أصبح مصفرا فجعل هذا هو السيما وقال الزهري : مواضع السجود أشد وجوههم بياضا يوم القيامة وقال مجاهد : هو الخشوع والتواضع وبالأول : أعني كونه ما يظهر في الجباه من كثرة السجود قال سعيد بن جبير ومالك وقال ابن جرير : هو الوقار وقال الحسن : إذا رأيتهم مرضى وما هم بمرضى وقيل هو البهاء في الوجه وظهور الأنوار عليه وبه قال سفيان الثوري : والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم من هذه الصفات الجليلة وهو مبتدأ وخبره قوله : { مثلهم في التوراة } أي وصفهم الذي وصفوا به في التوراة ووصفهم الذي وصفوا به { في الإنجيل } وتكرير ذكر المثل لزيادة تقريره وللتنبيه على غرابته وأنه جار مجرى الأمثال في الغرابة { كزرع أخرج شطأه } الخ كلامه مستأنف : أي هم كزرع الخ وقيل هو تفسير لذلك على أنه إشارة مبهمة لم يرد به ما تقدم من الأوصاف وقيل هو خبر لقوله : { ومثلهم في الإنجيل } أي ومثلهم في الإنجيل كزرع قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل : يعني كمثلهم في القرآن فيكون الوقف على الإنجيل وإن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ثم تبتدئ ومثلهم في الإنجيل كزرع قرأ الجمهور { شطأه } بسكون الطاء وقرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتحها وقرأ أنس نصر بن عاصم ويحيى بن وثاب شطاه كعصاه وقرأه الجحدي وابن أبي إسحاق شطه بغير همزة وكلها لغات قال الأخفش والكسائي : شطأه : أي طرفه قال الفراء : شطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج قال الزجاج : { أخرج شطأه } : أي نباته وقال قطرب : الشطأ سوي السنبل وروي عن الفراء أيضا أنه قال : هو السنبل وقال الجوهري : شطأ الزرع والنبات والجمع أشطاء وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه { فآزره } أي قواه وأعانه وشده قيل المعنى : إن الشطأ قوى الزرع وقيل إن الزرع قوي الشطأ ومما يدل على أن الشطأ خروج النبات قول الشاعر :
( أخرج الشطأ على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر )
قرأ الجمهور فآزره بالمد وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس بالقصر وعلى قراءة الجمهور قول امرئ القيس :
( بمحنية قد آزر النضال نبتها ... بجر جيوش غانمين وخيب )
قال الفراء : آزرت فلانا أزرا إذا قويته { فاستغلظ } أي صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان دقيقا { فاستوى على سوقه } أي فاستقام على أعواده والسوق جمع ساق وقرأ قنبل { سوقه } بالهمزة الساكنة { يعجب الزراع } أي يعجب هذا الزرع زارعه لقوته وحسن منظره وهذا مثل ضربه الله سبحانه لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وأنهم يكونون في الابتداء قليلا ثم يزدادون ويكثرون ويقوون كالزرع فإنه يكون في الابتداء ضعيفا ثم يقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه قال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم في الإنجيل أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ثم ذكر سبحانه علة تكثيره لأصحاب نبيه صلى الله عليه و سلم وتقويته لهم فقال : { ليغيظ بهم الكفار } أي كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين واللام متعلقة بمحذوف : أي فعل ذلك ليغيظ { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } أي وعد سبحانه هؤلاء الذين مع محمد صلى الله عليه و سلم أن يغفر ذنوبهم ويجزل أجرهم بإدخالهم الجنة التي هي أكبر نعمة وأعظم منة
وقد أخرج أحمد والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها وأخرج الحسن بن سفيان وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن قانع والبارودي والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند جيد عن أبي جمعة حنيذ بن سبع قال : [ قابلت رسول الله صلى الله عليه و سلم أول النهار كافرا وقابلت معه آخر النهار مسلما وفينا نزلت { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتان ] وفي رواية عند ابن أبي حاتم : [ كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم } قال : حين ردوا النبي صلى الله عليه و سلم { أن تطئوهم } بقلتكم إياهم { لو تزيلوا } يقول : [ لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذابا أليما بقلتكم إياهم ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن حنيف أنه قال : يوم صفين اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية : يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين المشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : [ يا ابن الخطاب إني رسول الله ولم يضيعني الله أبدا فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال : يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ قال بلى قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلانهم في النار ؟ قال بلى قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبدا فنزلت سورة الفتح فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عمر فأقرأه إياها قال : يا رسول الله أفتح هو ؟ قال : نعم ] وأخرج الترمذي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير والدارقطني في الإفراد وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم { وألزمهم كلمة التقوى } قال : لا إله إلا الله وفي إسناده الحسن بن قزعة قال الترمذي بعد إخراجه : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه وكذا قال أبو زرعة وأخرج ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع مرفوعا مثله وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد عن المسور بن مخرمة ومروان نحوه وروي عن جماعة من التابعين نحو ذلك وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } قال : هو دخول محمد البيت والمؤمنين محلقين ومقصرين وقد ورد في الدعاء للمحلقين والمقصرين في الصحيحين وغيرهما أحاديث منها ما قدمنا الإشارة إليه وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيهما من حديث أبي هريرة أيضا وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { سيماهم في وجوههم } قال : أما إنه ليس الذي يرونه ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال : هو السمت الحسن وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه قال السيوطي بسند حسن عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } قال : النور يوم القيامة وأخرج البخاري في تاريخه وابن نصر عن ابن عباس في الآية قال : بياض يغشى وجوههم يوم القيامة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس { ذلك مثلهم في التوراة } يعني نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق الله السموات والأرض وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس { كزرع أخرج شطأه } قال : نباته فروخه (5/79)
هي ثماني عشرة آية وهي مدنية
قال القرطبي : بالإجماع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بالمدينة
قوله : 1 - { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } قرأ الجمهور { تقدموا } بضم المثناة الفوقية وتشديد الدال مكسورة وفيه وجهان : أحدهما أنه متعد وحذف مفعوله لقصد التعميم أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل كقولهم هو يعطي ويمنع والثاني أنه لازم نحو وجه وتوجه ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك ويعقوب تقدموا بفتح التاء والقاف والدال قال الواحدي : قد هاهنا بمعنى تقدم وهو لازم قال أبو عبيدة : العرب تقول لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب : أي لا تعجل بالأمر دونه والنهي لأن المعنى : لا تقدموا قبل أمرهما ونهيهما وبين يدي الإمام عبارة عن الإمام لا ما بين يدي الإنسان ومعنى الآية : لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ولا تعجلوا به وقيل المراد معنى بين يدي فلان بحضرته لأن ما يحضره الإنسان فهو بين يديه { واتقوا الله } في كل أموركم ويدخل تحتها الترك للتقدم بين يدي الله ورسوله دخولا أوليا ثم علل ما أمر به من التقوى بقوله : { إن الله سميع } لكل مسموع { عليم } بكل معلوم (5/83)
2 - { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام لأن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ومزيد اللغط والأول أولى والمعنى لا ترفعوا أصواتكم إلى حد يكون فوق ما يبلغه صوت النبي صلى الله عليه و سلم قال المفسرون : المراد من الآية تعظيم النبي صلى الله عليه و سلم وتوقيره وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أي لا تجهروا بالقول إذا كلمتموه كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضا قال الزجاج : أمرهم الله بتجليل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار وقيل المراد بقوله : { ولا تجهروا له بالقول } لا تقولوا يا محمد ويا أحمد ولكن يا نبي الله ويا رسول الله توقيرا له والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف : أي جهرا مثل جهر بعضكم لبعض وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف فإن ذلك كفر وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور : الأول عن التقدم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام والثاني عن رفع الصوت البالغ إلى حد يكون فوق صوته سواء كان في خطابه أو في خطاب غيره والثالث ترك [ الجفاء ] في مخاطبته ولزوم الأدب في مجاورته لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب احترامه وتوقيره ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله : { أن تحبط أعمالكم } قال الزجاج : أن تحبط أعمالكم التقدير لأن تحبط أعمالكم أي فتحبط فاللام المقدرة لا المصيرورة كذا قال وهذه العلة يصح أن تكون للنهي : أي نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط أو كراهة أن تحبط أو علة للمنهي : أي لا تفعلوا الجهر فإنه يؤدي إلى الحبوط فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الوجه الأول وجملة { وأنتم لا تشعرون } في محل نصب على الحال وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم قال الزجاج : وليس المراد وأنتم لا تشعرون يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكف كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم (5/84)
ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به فقال : 3 - { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } أصل الغض النقص من كل شيء ومنه نقص الصوت { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } قال الفراء : أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبيثه وبه قال مقاتل ومجاهد وقتادة وقال الأخفش : اختصها للتقوى وقيل طهرها من كل قبيح وقيل وسعها وسرحها من منحت الأديم : إذا وسعته وقال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد منحته واللام في للتقوى متعلقة بمحذوف : أي صالحة للتقوى كقولك أنت صالح لكذا أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب كقولك جئتك لأداء الواجب : أي ليكون مجيئي سببا لأداء الواجب { لهم مغفرة وأجر عظيم } أي أولئك لهم فهو خبر آخر لاسم الإشارة ويجوز أن يكون مستأنفا لبيان ما أعد الله لهم في الآخرة (5/85)
4 - { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } هم جفاة بني تميم كما سيأتي بيانه ووراء الحجرات خارجها وخلفها : والحجرات جمع حجرة كالغرفات جمع غرفة والظلمات جمع ظلمة وقيل الحجرات جمع حجرة والحجر جمع حجرة فهو جمع الجمع : والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهي فعيلة بمعنى مفعولة قرأ الجمهور { الحجرات } بضم الجيم وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بفتحها تخفيفا وقرأ ابن أبي عبلة بإسكانها وهي لغات ومن في من وراء لابتدائه الغاية ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى { أكثرهم لا يعقلون } لغلبة الجهل عليهم وكثرة الجفاء في طباعهم (5/85)
5 - { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم } أي لو انتظروا خروجك ولم يعجلوا بالمناداة لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ورعاية جانبه الشريف والعمل بما يستحقه من التعظيم والتجليل وقيل إنهم جاءوا شفعاء في أسارى فأعتق رسول الله صلى الله عليه و سلم نصفهم وفادى نصفهم ولو صبروا لأعتق الجميع ذكر معناه مقاتل { والله غفور رحيم } كثير المغفرة والرحمة بليغهما لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب (5/85)
6 - { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } قرأ الجمهور { فتبينوا } من التبين وقرأ حمزة والكسائي { فتبينوا } من التثبت والمراد من التبين التعرف والتفحص ومن التثبت الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر قال المفسرون : إن هذه الآية نزلت في الويد بن عقبة بن أبي معيط كما سيأتي بيانه إن شاء الله وقوله : { أن تصيبوا قوما بجهالة } مفعول له : أي كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا أو لئلا تصيبوا لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يثبت فيه هو الغالب وهو جهالة لأنه لم يصدر عن علم والمعنى : ملتبسين بجهالة بحالهم { فتصبحوا على ما فعلتم } بهم من إصابتهم بالخطأ { نادمين } على ذلك مغتمين له مهتمين به (5/86)
ثم وعظهم الله سبحانه فقال : 7 - { واعلموا أن فيكم رسول الله } فلا تقولوا قولا باطلا ولا تتسرعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين وأن وما في حيزها سادة مسد مفعولي اعلموا وجملة { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } في محل نصب على الحال من ضمير فيكم أو مستأنفة والمعنى : لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار الباطلة وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب لوقعتم في العنت وهو التعب والجهد والإثم والهلاك ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } أي جعله أحب الأشياء إليكم أو محبوبا لديكم فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع في الأخبار وعدم التثبت فيها قيل والمراد بهؤلاء من عدا الأولين لبيان براءتهم عن أوصاف الأولين والظاهر أنه تذكير للكل بما يقتضيه الإيمان وتوجبه محبته التي جعلها الله في قلوبهم { وزينه في قلوبكم } أي حسنه بتوفيقه حتى جروا على ما يقتضيه في الأقوال والأفعال { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } أي جعل كل ما هو من جنس الفسوق ومن جنس العصيان مكروها عندكم وأصل الفسق الخروج عن الطاعة والعصيان جنس ما يعصى الله به وقيل أراد بذلك الكذب خاصة والأول أولى { أولئك هم الراشدون } أي الموصوفون بما ذكرهم الراشدون والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب مع الرشادة : وهي الصخرة (5/86)
8 - { فضلا من الله ونعمة } أي لأجل فضله وإنعامه والمعنى : أنه حبب إليكم ما حبب وكره ماكره لأجل فضله وإنعامه أو جعلكم راشدين لأجل ذلك وقيل النصب بتقدير فعل : أي تبتغون فضلا ونعمة { والله عليم } بكل معلوم { حكيم } في كل ما يقضي به بين عباده ويقدر لهم
وقد أخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن الزبير قال : [ قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس فقل أبو بكر ما أردت إلا خلافي فقال عمر : ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } حتى انقضت الآية ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه وأخرج ابن مردويه عن عائشة في الآية قالت : لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم وأخرج البخاري في تاريخه عنها قالت : كان أناس يتقدمون بين يدي رمضان بصيام : يعني يوما أو يومين فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } وأخرج الطبراني وابن مردويه عنها أيضا أن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا } الآية وأخرج البزار وابن عدي والحاكم وابن مردويه عن أبي بكر الصديق قال : أنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } قلت : يا رسول الله : والله لا أكلمك إلا كأخي السرار وفي إسناده حصين بن عمر وهو ضعيف ولكنه يؤيده ما أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال : لما نزلت { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } قال أبو بكر : والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : [ لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } إلى قوله : { وأنتم لا تشعرون } وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه و سلم حبط عملي أنا من أهل النار وجلس في بيته حزينا ففقده رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا : فقدك رسول الله صلى الله عليه و سلم مالك ؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فأخبروه بذلك فقال : لا بل هو من أهل الجنة فلما كان يوم اليمامة قتل ] وفي الباب أحاديث بمعناه وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية : قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس : وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة في قوله : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : منهم ثابت بن قيس بن شماس وأخرج أحمد وابن جرير وأبو القاسم والغوي والطبراني وابن مردويه قال السيوطي : بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس [ أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد اخرج إلينا فلم يجبه فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال ذاك الله فأنزل الله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } ] قال ابن منيع : لا أعلم روى الأقرع مسندا غير هذا وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } قال : جاء رجل فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ذاك الله وأخرج ابن راهويه ومسدد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي : بإسناد حسن عن زيد بن أرقم قال : اجتمع ناس من العرب فقالوا : انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به وإن يك ملكا نعش بجناحه فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بما قالوا فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه يا محمد يا محمد فأنزل الله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بأذني وجعل يقول : لقد صدق الله قولك يا زيد لقد صدق الله قولك يا زيد وفي الباب أحاديث وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه قال السيوطي بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا لإبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله فدعا سروات قومه فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله إلى من سخطة فانطلقوا فنأتي رسول الله وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا هذا الحارث ؟ فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم ؟ قالوا إليك قال ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسزل رسول الله صلى الله عليه و سلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله فنزل : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ } إلى قومه : { حكيم } قال ابن كثير : هذا من أحسن ما روي في سبب نزول الآية وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية وأنه المراد بها وإن اختلفت القصص (5/86)
قوله : 9 - { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } قرأ الجمهور اقتتلوا باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله { هذان خصمان اختصموا } والضمير في قوله بينهما عائد إلى الطائفتين باعتبار اللفظ وقرأ ابن أبي عبلة اقتتلتا اعتبارا بلفظ طائفتان وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير [ اقتتلا ] وتذكير الفعل في هذه القراءة باعتبار الفريقين أو الرهطين والبغي : التعدي بغير حق والامتناع من الصلح الموافق للصواب والفيء : الرجوع والمعنى : أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله ويأخذوا على يد الطائفة [ الظالمة ] حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها للأخرى ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال : { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } أي واعدلوا إن الله يحب العادلين ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء قال الحسن وقتادة والسدي { فأصلحوا بينهم } بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضى بما فيه لهما وعليهما { فإن بغت إحداهما } وطلبت ما ليس لها ولم ترجع إلى الصلح { فقاتلوا التي تبغي } حتى ترجع إلى طاعة الله والصلح الذي أمر الله به (5/89)
وجملة 10 - { إنما المؤمنون إخوة } مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإصلاح والمعنى : أنهم راجعون إلى أصل واحد وهو الإيمان قال الزجاج : الدين يجمعهم فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب لأنهم لآدم وحواء { فأصلحوا بين أخويكم } يعنى كل مسلمين تخاصما وتقاتلا وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوقهما بطريق الأولى قرأ الجمهور { بين أخويكم } على التثنية وقرأ زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود والحسن وحماد بن سلمة وابن سيرين إخوانكم بالجمع وروي عن أبي عمر ونصر بن عاصم وأبي العالية والجحدري ويعقوب أنهم قرءوا { بيوت أخواتكم } بالفوقية على الجمع أيضا قال أبو علي الفارسي في توجيه قراءة الجمهور : أراد بالأخوين الطائفتين لأن لفظ التثنية قد يرد ويراد به الكثرة وقال أبو عبيدة : أي أصلحوا بين كل أخوين { واتقوا الله } في كل أموركم { لعلكم ترحمون } بسبب التقوى والترجي باعتبار المخاطبين : أي راجين أن ترحموا وفي هذه الآية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرر بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين وعلى فساد قول من فال بعدم الجواز مستدلا بقوله صلى الله عليه و سلم : [ قتال المسلم كفر ] فإن المراد بهذا الحديث وما ورد في معناه قتال المسلم الذي لم يبغ قال ابن جرير : لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حق ولا أبطل باطل ولوجد أهل النفاق والفجور سببا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم بأن يتحزبزا عليهم ولكف المسلمين أيديهم عنهم وذلك مخالف لقوله صلى الله عليه و سلم : [ خذوا على أيدي سفهائكم ] قال ابن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين وعمدة في حرب المتأولين وعليها عول الصحابة وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة وإياها عنى النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ تقتل عمارا الفئة الباغية ] وقوله صلى الله عليه و سلم في شأن الخوارج : [ يخرجون على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ] (5/90)
11 - { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم } السخرية : الاستهزاء : وحكى أبو زيد : سخرت به وضحكت به وهزأت به وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به وضحكت منه وضحكت به وهزأت منه وهزأت به كل ذلك يقال والاسم السخرية والسخرى وقرئ بهما في { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } ومعنى الآية : النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض وعلل هذا النهي بقوله : { عسى أن يكونوا خيرا منهم } أي أن يكون المسخور بهم عند الله خيرا من الساخرين بهم ولما كان لفظ قوم مختصا بالرجال لأنهم القوم على النساء أفرد النساء بالذكر فقال : { ولا نساء من نساء } أي ولا يسخر نساء من نساء { عسى أن يكن } المسخور بهن { خيرا منهن } يعني خيرا من الساخرات منهن وقيل أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر { ولا تلمزوا أنفسكم } اللمز العيب وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } قال ابن جرير : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة والهمز لا يكون إلا باللسان ومعنى { لا تلمزوا أنفسكم } لا يلمز بعضكم بعضا كما في قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } وقوله : { فسلموا على أنفسكم } قال مجاهد و قتادة وسعيد بن جبير
: لا يطعن بعضكم على بعض وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضا { ولا تنابزوا بالألقاب } التنابز : التفاعل من النبز بالتسكين وهو المصدر والنبز بالتحريك اللقب والجمع أنباز والألقاب جمع لقب وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان والمراد هنا لقب السوء والتنابز بالألقاب أن يلقب بعضهم بعضا قال الواحدي : قال المفسرون : هو أن يقول لأخيه المسلم يا فاسق يا منافق أو يقول لمن أسلم يا يهودي يا نصراني قال عطاء : هو كل شيء أخرجت به أخاك من الإسلام كقولك يا كلب يا حمار يا خنزير قال الحسن ومجاهد : كان الرجل يعير بكفره فيقال له يا يهودي يا نصراني فنزلت وبه قال قتادة وأبو العالية وعكرمة { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي بئس الاسم الذي يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان والاسم هنا بمعنى الذكر قال ابن زيد : أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته وقيل المعنى : أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبذ فهو فاسق قال القرطبي : إنه يستثنى من هذا من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه فجوزته الأئمة واتفق على قوله أهل اللغة اه { ومن لم يتب } عما نهى الله عنه { فأولئك هم الظالمون } لارتكابهم ما نهى الله عنه وامتناعهم من التوبة فظلموا من لقبوه وظلمهم أنفسهم بما لزمهم من الإثم (5/91)
12 - { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن } الظن هنا : هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظن يظنه حتى يعلم وجهه لأن من الظن ما يجب اتباعه فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظن كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم ولكن هذا الظن الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به فارتفع عن الشك والتهمة قال الزجاج : هو أن يظن بأهل الخير سواءا فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : هو أن يظن بأخيه المسلم سوءا ولا بأس به ما لم يتكلم به فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم وحكى القرطبي عن أكثر العلماء : أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح وجملة { إن بعض الظن إثم } تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظن وهذا البعض هو ظن السوء بأهل الخير والإثم هو ما يستحقه الظان من العقوبة ومما يدل على تفييد هذا الظن المأمور باجتنابه بظن السوء قوله تعالى : { وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا } فلا يدخل في الظن المأمور باجتنابه بشيء من الظن المأمور باتباعه في مسائل الدين فإن الله قد تعبد عباده باتباعه وأوجب العمل به جمهور أهل العلم ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة كيادا للدين وشذوذا عن جمهور المسلمين وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال : { ولا تجسسوا } التجسس : البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم قرأ الجمهور تجسسوا بالجيم ومعناه ما ذكرنا وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء قال الأخفش : ليس يبعد أحدهما من الآخر لأن التجسس بالجيم : البحث عما يكتم عنك والتحسس بالحاء : طلب الأخبار والبحث عنها وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث ومنه قيل رجل جاسوس : إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه وقيل إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه وبالجيم أن يكون رسولا لغيره قاله ثعلب : { ولا يغتب بعضكم بعضا } أي لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوءه والغيبة : أن تذكر الرجل بما يكرهه كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره فقيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ فقال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ] { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه ذكر معناه الزجاج وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفى فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية وتستكرهه الجبلة البشرية فضلا عن كونه محرما شرعا { فكرهتموه } قال الفراء : تقديره فقد كرهتموه فلا تفعلوا والمعنى : فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا قال الرازي : الفاء في تقدير جواب كلام كأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذن وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : عرض عليكم ذلك فكرهتموه { واتقوا الله } بترك ما أمركم باجتنابه { إن الله تواب رحيم } لمن اتقاه عما فرط منه من الذنب ومخالفة الأمر
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قيل للنبي صلى الله عليه و سلم [ لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق إليه قال : إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه و سلم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فنزلت فيهم { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } الآية ] وقد روي نحو هذا من وجوه أخر وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجت في نفسي من هذه الآية إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : إن الله أمر النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض فإذا أجابوا حكم فيهم بحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } االآية قال : كان قتال بالنعال والعصي فأمرهم أن يصلحوا بينهما وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة في هذه الآية : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } قال : نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلال وسليمان وعمار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم } قال : لا يطعن بعضكم على بعض وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب وأهل السنن الأربع وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة { ولا تنابزوا بالألقاب } قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا واحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يكرهه فنزلت { ولا تنابزوا بالألقاب } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : التنابز بالألقاب : أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في الآية قال : إذا كان الرجل يهوديا فأسلم فيقول : يا يهودي يا نصراني يا مجوسي ويقول للرجل المسلم : يا فاسق وأخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن } قال : نهى الله المؤمن ان يظن بالمؤمن سوءا وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { ولا تجسسوا } قال : نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن زيد بن وهب قال : أتى ابن مسعود فقيل هذا فلان تفطر لحيته خمرا فقال ابن مسعود : إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذه وقد وردت أحاديث في النهي عن تتبع عورات المسلمين والتجسس عن عيوبهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { ولا يغتب بعضكم بعضا } الآية قال : حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة والأحاديث في تحريم الغيبة كثيرة جدا معروفة في كتب الحديث (5/92)
قوله : 13 - { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } هما آدم وحواء والمقصود أنهم متاوون لاتصالهم بنسب واحد وكونه يجمعهم أب واحد وأم واحدة وأنه لا موضع للتفاخر بينهم بالأنساب وقيل المعنى : أن كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء { وجعلناكم شعوبا وقبائل } الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو الحي العظيم : مثل مضر وربيعة والقبائل دونها كبني بكر من ربيعة وبني تميم من مضر قال الواحدي : هذا قول جماعة من المفسرين سموا شعبا لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة والشعب من أسماء الأضداد : يقال شعبته : إذا جمعته : وشعبته إذا فرقته ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة فأما الشعب بالكسر فهو الطريق في الجبل قال الجوهري : الشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم والجمع الشعوب وقال مجاهد : الشعوب البعيد من النسب والقبائل دون ذلك وقال قتادة : الشعوب النسب والأقرب وقيل إن الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان وقيل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب وحكى أبو عبيد أن الشعب أكثر من القبيلة ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة ومما يؤيد ما قاله الجمهور من أن الشعب أكثر من القبيلة قول الشاعر :
( قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب )
قرأ الجمهور { لتعارفوا } بتخفيف التاء وأصله لتتعارفوا فحذفت إحدى التاءين وقرأ البزي بتشديدها على الإدغام وقرأ الأعمش بتاءين واللام متعلقة بخلقناكم : أي خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا وقرأ ابن عباس لتعرفوا مضارع عرف والفائدة في التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى نسبه ولا يعتري إلى غيره والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة لا للتفاخر بأنسابهم ودعوى أن هذا الشعب أفضل من هذا الشعب وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة وهذا البطن أشرف من هذا البطن ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلام من النهي عن التفاخر فقال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } أي إن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى فمن تلبس بها فهو المستحق لأن يكون أكرم ممن لم يلتبس بها وأشرف وأفضل فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالأنساب فإن ذلك لا يوجب كرما ولا يثبت شرفا ولا يقتضي فضلا قرأ الجمهور { إن أكرمكم } بكسر إن وقرأ ابن عباس بفتحها : أي لأن أكرمكم { إن الله عليم } بكل معلوم ومن ذلك أعمالكم { خبير } بما تسرون وما تعلنون لا [ تخفى ] عليه من ذلك خافية (5/95)
ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له وكان أصل التقوى الإيمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان ليثبت لهم الشرف والفضل فقال : 14 - { قالت الأعراب آمنا } وهو بنو أسد أظهروا الإسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يرد عليهم فقال : { قل لم تؤمنوا } أي لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة { ولكن قولوا أسلمنا } أي استسلمنا خوف القتل والسبي أو للطمع في الصدقة وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر ولم تؤمن قلوبهم ولهذا قال سبحانه { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم بل مجرد قول باللسان من دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها أو في محل نصب على الحال وفي لما ممعنى التوقع قال الزجاج : الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي وبذلك يحقن الدم فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } أي لم تصدقوا وإنما أسلمتم تعوذا من القتل { وإن تطيعوا الله ورسوله } طاعة صحيحة صادرة عن نيات خالصة وقلوب مصدقة غير منافقة { لا يلتكم من أعمالكم شيئا } يقال لات يلت : إذا نقص ولاته يليته ويلوته : إذا نقصه والمعنى : لا ينقصكم من أعمالكم شيئا قرأ الجمهور { يلتكم } من لاته يليته كباع يبيعه وقرأ أبو عمرو { لا يلتكم } بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي والكسر في المضارع واختار قراءة أبي عمرو وأبو حاتم لقوله : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } وعليها قول الشاعر :
( أبلغ بني أسد عني مغلغلة ... جهر الرسالة لا ألتا ولا كذبا )
واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور وعليها قول رؤبة بن العجاج :
( وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت )
وهما لغتان فصيحتان { إن الله غفور } أي بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب { رحيم } بليغ الرحمة لهم (5/96)
ثم لما ذكر سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لمن يؤمنوا ولا دخل الإيمان في قلوبهم بين المؤمنين المستحقين لإطلاق اسم الإيمان عليهم فقال : 15 - { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } يعني إيمانا صحيحا خالصا عن مواطأة القلب واللسان { ثم لم يرتابوا } [ أي ] لم يدخل قلوبهم شيء من الريب ولا خالطهم شك من الشكوك { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } أي في طاعته وابتغاء مرضاته ويدخل في الجهاد الأعمال الصالحة التي أمر الله بها فإنها من جملة ما يجاهد المرء نفسه حتى يقوم به ويؤيده كما أمر الله سبحانه والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الجامعين بين الأمور المذكورة وهو مبتدأ وخبره قوله : { هم الصادقون } أي الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان والدخول في عداد أهله لا من عداهم ممن أظهر الإسلام بلسانه وادعى أنه مؤمن ولم يطمئن بالإيمان قلبه ولا وصل إليه معناه ولا عمل بأعمال أهله وهم الأعراب الذين تقدم ذكرهم وسائر أهل النفاق (5/97)
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولا آخر لما ادعوا أنهم مؤمنون فقال : 16 - { قل أتعلمون الله بدينكم } التعليم هاهنا بمعنى الإعلام ولهذا دخلت الباء في بدينكم : أي أخبرونه بذلك حيث قلتم آمنا { والله يعلم ما في السموات وما في الأرض } فكيف يخفى عليه بطلان ما تدعونه من الإيمان والجملة في محل النصب على الحال من مفعول تعلمون { والله بكل شيء عليم } لا تخفى عليه من ذلك خافية وقد علم ما تبطنونه من الكفر وتظهرونه من الإسلام لخوف الضراء ورجاء النفع (5/97)
ثم أخبر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المن عليه منهم بما يدعونه من الإسلام فقال : 17 - { يمنون عليك أن أسلموا } أي يعدون إسلامهم منة عليك حيث قالوا جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان { قل لا تمنوا علي إسلامكم } أي لا تعدوه منة علي فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب وليها ثوابا لمن أنعم بها عليه ولهذا قال : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } أي أرشدكم إليه وأراكم طريقه سواء وصلتم إلى المطرب أم تصلوا إليه وانتصاب إسلامكم إما على أنه مفعول به على تضمين يمنون معنى يعدون أو بنزع الخافض : أي لأن أسلموا وهكذا قوله : { أن هداكم للإيمان } فإنه يحتمل الوجهين { إن كنتم صادقين } فيما تدعونه والجواب محذوف يدل عليه ما قبله : أي إن كنتم صادقين فلله المنة عليكم قرأ الجمهور { أن هداكم } بفتح أن وقرأ عاصم بكسرها (5/97)
18 - { إن الله يعلم غيب السموات والأرض } أي ما غاب فيهما { والله بصير بما تعملون } لا يخفى عليه من ذلك شيء فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا قرأ الجمهور { تعملون } على الخطاب وقرأ ابن كثير على الغيبة
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن أبي مليكة قال : لما كان يوم الفتح رقي بلال فأذن على الكعبة فقال بعض الناس : أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة وقال بعضهم : إن يسخط الله هذا يغيره فنزلت { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } وأخرج ابن المنذر عن ابن جريح نحوه وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه والبيهقي في سننه عن الزهري قال : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا : يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا ؟ فنزلت هذه الآية وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب أن هذه الآية { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } هي مكية وهي للعرب خاصة الموالي : أي قبيلة لهم وأي شعاب وقوله : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فقال : أتقاكم للشرك وأخرج البخاري وابن جرير عن ابن عباس قال : الشعوب القبائل العظام والقبائل البطون وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : الشعوب الجماع والقبائل الأفخاذ التي يتعارفون بها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي هريرة قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الناس أكرم ؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا نعم قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ] وقد وردت أحاديث في الصحيح وغيره أن التقوى هي التي يتفاضل بها العباد وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { قالت الأعراب آمنا } قال أعراب بني أسد وخزيمة وفي قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } مخافة القتل والسبي وأخرج ابن جرير عن قتادة أنها نزلت في بني أسد وأخرج ابن المنذر الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند حسن عن عبد الله بن أبي أوفى : أن ناسا من العرب قالوا : يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك بنو فلان فأنزل الله { يمنون عليك أن أسلموا } وأخرج النسائي والبزار وابن مردويه عن ابن عباس نحوه وذكر أنهم بنو أسد (5/98)
سورة ق
هي خمس وأربعون آية
وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا آية وهي قوله : { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } وهي أول المفصل على الصحيح وقيل من الحجرات وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة ق بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وقد أخرج مسلم وغيره عن قطبة بن مالك قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الفجر في الركعة الأولى { ق والقرآن المجيد } ] وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن أبي واقد الليثي قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في العيد بقاف واقتربت ] وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجه والبيهقي عن أم هشام ابنة حارثة قالت : ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس وهو في صحيح مسلم
قوله : 1 - { ق والقرآن المجيد } الكلام في إعراب هذا كالكلام الذي قدمنا في قوله : { ص والقرآن ذي الذكر } وفي قوله : { حم * والكتاب المبين } واختلف في معنى ق فقال الواحدي : قال المفسرون : هو اسم جبل يحيط بالدنيا من زبرجد والسماء مقببة عليه وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة قال الفراء : كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في ق لأنه اسم وليس بهجاء قال : ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كقول القائل : قلت لها قفي فقالت قاف أي أنا واقفة وحكى الفراء والزجاج : أن قوما قالوا معنى ق : قضي الأمر وقضي ما هو كائن كما قيل في حم : حم الأمر وقيل هو اسم من أسماء الله أقسم به وقال قتادة : هو اسم من أسماء القرآن وقال الشعبي : فاتحة السورة وقال أبو بكر الوراق معناه : قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما وقيل غير ذلك مما هو أضعف منه والحق أنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه كما حققنا ذلك في فاتحة سورة البقرة ومعنى المجيد : أنه ذو مجد وشرف على سائر الكتب المنزلة وقال الحسن : الكريم وقيل الرفيع القدر وقيل الكبير القدر وجواب القسم قال الكوفيون هو قوله : { بل عجبوا } وقال الأخفش : جوابه محذوف كأنه قال : ق والقرآن المجيد لتبعثن يدل عليه { أإذا متنا وكنا ترابا } وقال ابن كيسان جوابه { ما يلفظ من قول } وقيل هو { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } بتقدير اللام : أي لقد علمنا وقيل هو محذوف وتقديره أنزلناه إليك لتنذر كأنه قيل ق والقرآن المجيد أنزلناه إليك لتنذر به الناس قرأ الجمهور قاف بالسكون وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم بكسر الفاء وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء : وقرأ هارون ومحمد بن السميفع بالضم (5/99)
2 - { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } { بل } للإضراب عن الجواب على اختلاف الأقوال وأن في موضع نصب على تقدير : لأن جاءهم والمعنى : بل عجب الكفار لأن جاءهم منذر منهم وهو محمد صلى الله عليه و سلم ولم يكتفوا بمجرد الشك والرد بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة وقيل هو إضراب عن وصف القرآن بكونه مجيدا وقد تقدم تفسير هذا فس سورة ص ثم فسر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله : { فقال الكافرون هذا شيء عجيب } وفيه زيادة تصريح وإيضاح قال قتادة : عجبهم أن دعوا إلى إله واحد وقيل تعجبهم من البعث (5/101)
فيكون لف هذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من قوله : { أإذا متنا } الخ والأول أولى قال الرازي : الظاهر أن قولهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر ثم قالوا : { أإذا متنا } وأيضا قد وجد هاهنا بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم : { ذلك رجع بعيد } فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب بقولهم : { هذا شيء عجيب } عائدا إلى قولهم : أئذا لكان كالتكرار فإن قيل التكرار الصريح يلزم من قولك هذا شيء عجيب أنه يعود إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قولهم : وعجبوا أن جاءهم فقوله : { هذا شيء عجيب } يكون تكرارا فنقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير لأنه لما قال بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجبا كقوله : { أتعجبين من أمر الله } ويقال في العرف : لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتعجبكم فقالوا : { هذا شيء عجيب } فكيف لا نعجب منه ويدل على ذلك قوله هاهنا { فقال الكافرون } بالفاء فإنها تدل على أنه مترتب على ما تقدم قرأ الجمهور { أإذا متنا } بالاستفهام وقرأ ابن عامر في رواية عنه وأبو جعفر والأعمش والأعرج بهمزة واحدة فيحتمل الاستفهام كقراءة الجمهور وهمزة الاستفهام مقدرة ويحتمل أن معناه الإخبار والعامل في الظرف مقدر : أي أيبعثنا أو أنرجع إذا متنا لدلالة ما بعده عليه هذا على قراءة الجمهور وأما على القراءة الثانية فجواب إذا محذوف : أي رجعنا وقيل ذلك رجع والمعنى : استنكارهم للبعث بعد موتهم ومصيرهم ترابا ثم جزموا باستبعادهم للبعث فقالوا : { ذلك } أي للبعث { رجع بعيد } أي بعيد عن العقول أو الأفهام أو العادة أو الإمكان يقال رجعته أرجعه رجعا ورجع هو يرجع رجوعا (5/101)
ثم رد سبحانه ما قالوه فقال : 4 - { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شيء من ذلك ومن أحاط علمه بكل شيء حتى انتهى إلى علم ما يذهب من أجساد الموتى في القبور لا يصعب عليه البعث ولا يستبعد منه وقال السدي : النقص هنا الموت يقول : قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى لأن من مات دفن فكأن الأرض تنقص من الأموات وقيل المعنى : من يدخل في الإسلام من المشركين والأول أولى { وعندنا كتاب حفيظ } أي حافظ لعدتهم وأسمائهم ولكل شيء من الأشياء وهو اللوح المحفوظ : أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شيء (5/101)
ثم أضرب سبحانه عن كلامهم الأول وانتقل إلى ما هو أشنع منه فقال : 5 - { بل كذبوا بالحق } فإنه تصريح منهم بالتكذيب بعد ما تقدم عنهم من الاستعباد والمراد بالحق هنا القرآن قال الماوردي في قول الجميع وقيل هو الإسلام وقيل محمد وقيل النبوة الثابتة بالمعجزات { لما جاءهم } أي وقت مجيئه إليهم من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر قرأ الجمهور بفتح اللام وتشديد الميم وقرأ الجحدري بكسر اللام وتخفيف الميم { فهم في أمر مريج } أي مختلط مضطرب يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن : قاله الزجاج وغيره وقال قتادة مختلف وقال الحسن ملتبس والمعنى متقارب وقيل فاسد والمعاني متقاربة ومنه قولهم : مرجب أمانات الناس : أي فسدت ومرج الدين والأمر اختلط (5/102)
6 - { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } الاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي كيف غفلوا عن النظر إلى السماء فوقهم { كيف بنيناها } وحعلناها على هذه الصفة مرفوعة بغير عماد تعتمد عليه { وزيناها } بما جعلنا فيها من المصابيح { وما لها من فروج } أي فتوق وشقوق وصدوع وهو جمع فرج ومنه قول امرئ القيس :
( يسد به فرجا من دبر )
قال الكسائي ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق (5/102)
7 - { والأرض مددناها } أي بسطناها { وألقينا فيها رواسي } أي جبالا ثوابت وقد تقدم تفسير هذا في سورة الرعد { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } أي من كل صنف حسن وقد تقدم تفسير هذا في سورة الحج (5/102)
8 - { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } هما علتان لما تقدم منتصبان بالفعل الأخير منها أو بمقدر : أي فعلنا ما فعلنا للتبصير والتذكير قاله الزجاج وقال أبو حاتم : انتصبا على المصدرية أي جعلنا ذلك تبصرة وذكرى والمنيب الراجع إلى الله بالتوبة المتدبر في بديع صنعه وعجائب مخلوقاته وفي سياق هذه الآية تذكير لمنكري البعث وإيقاظ لهم عن سنة الغفلة وبيان لإمكان ذلك وعدم امتناعه فإن القادر على مثل هذه الأمور يقدر عليه (5/102)
وهكذا قوله : 9 - { ونزلنا من السماء ماء مباركا } أي نزلنا من السحاب ماء كثير البركة لانتفاع الناس به في غالب أمورهم { فأنبتنا به جنات } أي أنبتنا بذلك الماء بساتين كثيرة { وحب الحصيد } أي ما يقتات ويحصد من الحبوب والمعنى : وحب الزرع الحصيد وخص الحب لأنه المقصود كذا قال البصريون وقال الكوفيون : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع حكاه الفراء : قال الضحاك : حب الحصيد البر والشعير وقيل كل حب يحصد ويدخر ويقتات (5/102)
10 - { والنخل باسقات لها طلع نضيد } هو معطوف على جنات : أي وأنبتنا به النخل وتخصيصها بالذكر مع دخولها في الجنات للدلالة على فضلها على سائر الأشجار وانتصاب باسقات على الحال وهي حال مقدرة لأنها وقت الإنبات لم تكن باسقة قال مجاهد وعكرمة وقتادة : الباسقات الطوال وقال سعيد بن جبير : مستويات وقال الحسن وعكرمة والفراء : موافير حوامل يقال للشاة إذا بسقت ولدت والأشهر في لغة العرب الأول يقال بسقت النخلة بسوقا : إذا طالت ومنه قول الشاعر :
( لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات )
( كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجنات )
وجملة { لها طلع نضيد } في محل نصب على الحال من النخل الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل يقال طلع الطلع طلوعا والنضيد المتراكب الذي نضد بعضه على بعض وذلك قبل أن ينفتح فهو نضيد في أكمامه فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد (5/103)
11 - { رزقا للعباد } انتصابه على المصدرية : أي رزقناهم رزقا أو على العلة : أي أنبتنا هذه الأشياء للرزق { وأحيينا به بلدة ميتا } أي أحيينا بذلك الماء بلدة مجدبة لا ثمار فيها ولا زرع وجملة { كذلك الخروج } مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحيا الله به الأرض الميتة قرأ الجمهور { ميتا } على التخفيف وقرأ أبو جعفر وخالد بالتثقيل (5/103)
ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة فقال 12 - { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس } هم قوم شعيب كما تقدم بيانه وقيل هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم من قوم عيسى وقيل هم أصحاب الأخدود والرسل : إما موضع نسبوا إليه أو فعل وهو حفر البئر يقال رس : إذا حفر بئرا (5/103)
13 - { نوح وعاد وفرعون } أي فرعون وقومه { وإخوان لوط } جعلهم إخوانه لأنهم كانوا أصهاره وقيل هم من قوم إبراهيم وكانوا من معارف لوط (5/103)
14 - { وأصحاب الأيكة } تقدم الكلام على الأيكة واختلاف القراء فيها في سورة الشعراء مستوفى ونبيهم الذي بعثه الله إليهم شعيب { وقوم تبع } هو تبع الحميري الذي تقدم ذكره في قوله : { أهم خير أم قوم تبع } واسمه سعد أبو كرب وقيل أسعد ؟ قال قتادة : ذم الله قوم تبع ولم يذمه { كل كذب الرسل } التنوين عوض عن المضاف إليه : أي كل واحد من هؤلاء كذب رسوله الذي أرسله الله إليه وكذب ما جاء به من الشرع واللام في الرسل تكون للعهد ويجوز أن تكون للجنس : أي كل طائفة من هذه الطوائف كذبت جميع الرسل وإفراد الضمير في كذب باعتبار لفظ كل وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه قيل له : لا تحزن ولا تكر غمك لتكذيب هؤلاء لك فهذا شأن من تقدمك من الأنبياء فإن قومهم كذبوهم ولم يصدقهم إلا القليل منهم { فحق وعيد } أي وجب عليهم وعيدي وحقت عليهم كلمة العذاب وحل بهم ما قدره الله عليهم من الخسف والمسخ والإهلاك بالأنواع التي أنزلها الله بهم من عذابه (5/103)
15 - { أفعيينا بالخلق الأول } الاستفهام للتقريع والتوبيخ والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث الذي أنكرته الأمم : أي أفعجزنا بالخلق حين خلقناهم أولا ولم يكونوا شيئا فكيف نعجز عن بعثهم يقال عييت بالأمر : إذا عجزت عنه ولم أعرف وجهه قرأ الجمهور بكسر الياء الأول بعدها ياء ساكنة قرأ ابن أبي عبلة بتشديد الياء من غير إشباع ثم ذكر أنهم في شك من البعث فقال : { بل هم في لبس من خلق جديد } أي في شك وحيرة واختلاط من خلق مستأنف وهو بعث الأموات ومعنى الإضراب أنهم غير منكرين لقدرة الله على الخلق الأول { بل هم في لبس من خلق جديد }
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ق } قال : هو اسم من أسماء الله وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : خلق الله من وراء هذه الأرض بحرا محيطا ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له ق السماء الدنيا مرفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثاني مرفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سموات قال : وذلك قوله : { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } قال ابن كثير : لا يصح سنده عن ابن عباس وقال أيضا : وفيه انقطاع وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عنه أيضا قال : هو جبل وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك ذلك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم يحرك القرية دون القرية وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا { والقرآن المجيد } قال : الكريم وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : القرآن المجيد ليس شيء أحسن منه ولا أفضل وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } قال : أجسادهم وما يذهب منها وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : ما تأكل من لحومهم وعظامهم وأشعارهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال : المريج الشيء المتغير وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن قطبة قال : [ سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الصبح ق فلما أتى على هذه الآية { والنخل باسقات } فجعلت أقول : ما بسوقها ؟ قال : طولها ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { والنخل باسقات } قال الطول وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { لها طلع نضيد } قال : متراكم بعضه على بعض وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { أفعيينا بالخلق الأول } يقول لم يعيينا الخلق الأول وفي قوله : { بل هم في لبس من خلق جديد } في شك من البعث (5/104)
قوله : 16 - { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر بعضه القدرة الربانية والمراد بالإنسان الجنس وقيل آدم والوسوسة هي في الأصل الصوت الخفي والمراد بها هنا ما يختلج في سره وقلبه وضميره : أي نعلم ما يخفي ويكن في نفسه ومن استعمال الوسوسة في الصوت الخفي قول الأعشى :
( تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت )
فاستعمل لما خفي من حديث النفس { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه وهما وريدان من عن يمين وشمال وقال الحسن : الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان : أي نحن أقرب إليه من حبل وريده والإضافة بيانية : أي حبل هو الوريد وقيل الحبل هو نفس الوريد فهو من باب مسجد الجامع (5/105)
ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال : 17 - { إذ يتلقى المتلقيان } الظرف منتصب بما في أقرب من معنى الفعل ويجوز أن يكون منصوبا بمقدر هو اذكر والمعنى : أنه أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان وهما الملكان الموكلان به ما يلفظ به وما يعمل به : أي يأخذان ذلك ويثبتانه والتلقي الأخذ : أي نحن أعلم بأحواله غير محتاجين إلى الحفظة الموكلين به وإنما جعلنا ذلك إلزاما للحجة وتوكيدا للأمر قال الحسن وقتادة ومجاهد : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك وقال مجاهد أيضا : وكل الله بالإنسان ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ويكتبان أثره { عن اليمين وعن الشمال قعيد } إنما قال قعيد ولم يقل قعيدان وهما اثنان لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كذا قال سيبويه كقول الشاعر :
( نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف )
وقول الفرزدق :
( وأتى وكان وكنت غير عذور )
أي وكان غير عذور وكنت غير عذور وقال الأخفش والفراء : إن لفظ قعيد يصلح للواحد والاثنين والجمع ولا يحتاج إلى تقدير في الأول قال الجوهري وغيره من أئمة اللغة والنحو : فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس (5/106)
18 - { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } أي ما يتكلم من كلام فيلفظه ويرميه من فيه إلا لديه : أي أن ذلك اللافظ رقيب : أي ملك يرقب قوله ويكتبه والرقيب : الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر فكاتب الخير هو ملك اليمين وكاتب الشر ملك الشمال والعتيد : الحاضر المهيأ قال الجوهري : العتيد الحاضر المهيأ يقال عتده تعتيدا وأعتده اعتدادا : أي أعده ومنه { وأعتدت لهن متكئا } والمراد هنا أنه معد للكتابة مهيؤ لها (5/106)
19 - { وجاءت سكرة الموت بالحق } لما بين سبحانه أن جميع أعماله محفوظة مكتوبة ذكر بعده ما ينزل بهم من الموت والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله ومعنى بالحق : أنه عند الموت يتضح له الحق ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد وقيل الحق هو الموت وقيل في الكلام تقديم وتأخير : أي وجاءت سكرة الحق بالموت وكذا قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود والسكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين وقيل الباء للملابسة كالتي في قوله : { تنبت بالدهن } أي ملتسة بالحق : أي بحقيقة الحال والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الموت والحيد الميل : أي ذلك الموت الذي كنت تميل عنه وتفر منه يقال : حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة : مال عنه وعدل ومنه قول طرفة :
( أبو منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض )
وقال الحسن : تحيد تهرب (5/106)
20 - { ونفخ في الصور } عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه وهذه هي النفخة الآخرة للبعث { ذلك يوم الوعيد } أي ذلك الوقت الذي يكون فيه النفخ في الصور يوم الوعيد الذي أوعد الله به الكفار قال مقاتل : يعني بالوعيد العذاب في الآخرة وخصص الوعيد مع كون اليوم هو يوم الوعد والوعيد جميعا لتهويله (5/107)
21 - { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } أي جاءت كل نفس من النفوس معها من يسوقها ومن يشهد لها أو عليها
واختلف في السائق والشهيد فقال الضحاك : السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم : يعني الأيدي والأرجل وقال الحسن وقتادة : سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها وقال ابن مسلم : السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها وقال مجاهد : السائق والشهيد ملكان وقيل السائق الملك والشهيد العمل وقيل السائق كاتب السيئات والشهيد كاتب الحسناب ومحل الجملة النصب على الحال (5/107)
22 - { لقد كنت في غفلة من هذا } أي يقال له : لقد كنت في غفلة من هذا أي يقال له : لقد كنت في غفلة من هذا والجملة في محل نصب على الحال من نفس أو مستأنفة كأنه قيل ما يقال له قال الضحاك : المراد بهذا المشركون لأنهم كانوا في غفلة من عواقب أمورهم وقال ابن زيد : الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم : أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة وقال أكثر المفسرين : المراد به جميع الخلق برهم وفاجرهم واختار هذا ابن جرير قرأ الجمهور بفتح التاء من { كنت } وفتح الكاف في { غطاءك } و { بصرك } حملا على ما في لفظ كل من التذكير وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرف بالكسر في الجميع على أن المراد النفس { فكشفنا عنك غطاءك } الذي كان في الدنيا : يعني رفعنا الحجاب الذي كان بينك وبين أمور الآخرة ورفعنا ما كنت فيه من الغفلة عن ذلك { فبصرك اليوم حديد } أي نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك من الدنيا قال السدي : المراد بالغطاء أنه كان في بطن أمه فودل وقيل إنه كان في القبر فنشر والأول أولى والبصر قيل هو بصر القلب وقيل بصر العين وقال مجاهد : بصرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك وبه قال الضحاك (5/107)
23 - { وقال قرينه هذا ما لدي عتيد } أي قال الملك الموكل به هذا ما عندي من كتاب عملك عتيد حاضر قد هيأته كذا قال الحسن وقتادة والضحاك وقال مجاهد : إن الملك يقول للرب سبحانه هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله وروي عنه أنه قال : إن قرينه من الشياطين يقول ذلك : أي هذا ما قد هيأته لك بإغوائي وإضلالي وقال ابن زيد : إن المراد هنا قرينه من الإنس وعتيد مرفوع على أنه صفة لما إن كانت موصوفة وإن كانت موصولة فهو خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف (5/108)
24 - { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد } هذا خطاب من الله عز و جل للسائق والشهيد قال الزجاج : هذا أمر للملكين الموكلين به وهما السائق والشاهد : كل كفار للنعم عنيد مجانب للإيمان (5/108)
25 - { مناع للخير } لا يبذل خيرا { معتد } ظالم لا يقر بتوحيد الله { مريب } شاك في الحق من قولهم أراب الرجل : إذا صار ذا ريب وقيل هو خطاب للملكين من خزنة النار وقيل هو خطاب لواحد على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل وتكريره قال الخليل والأخفش : هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين يقولون : ارحلاها وازجراها وخذاه وأطلقاه للواحد قال الفراء : العرب تقول للواحد قوما عنا وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره اثنان : فجرى كلام الرجل للواحد على ذلك ومنه قولهم للواحد في الشعر كما قال امرؤ القيس :
( خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب )
وقوله :
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
وقول الآخر :
( فإن تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعواني أحم عرضا ممنعا )
قال المازني : قوله : { ألقيا } يدل على ألق ألق قال المبرد : هي تثنية على التوكيد فناب ألقيا مناب ألق ألق قال مجاهد وعكرمة : العنيد المعاند للحق وقيل المعرض عن الحق يقال عند يعند بالكسر عنودا : إذا خالف الحق (5/108)
26 - { الذي جعل مع الله إلها آخر } يجوز أن يكون بدلا من كل أو منصوبا على الذم أو بدلا من كفار أو مرفوعا بالابتداء أو الخير { فألقياه في العذاب الشديد } تأكيد للأمر الأول أو بدل منه (5/109)
27 - { قال قرينه ربنا ما أطغيته } هذه الجملة مستأنفة لبيان ما يقوله القرين والمراد بالقرين هنا الشيطان الذي قيض لهذا الكافر أنكر أن يكون أطغاه ثم قال : { ولكن كان في ضلال بعيد } أي عن الحق فدعوته فاستجاب لي ولو كان من عبادك المخلصين لم أقد عليه وقيل إن قرينه الملك الذي كان يكتب سيئاته وإن الكافر يقول : رب إنه أعجلني فيجيبه بهذا كذا قال مقاتل وسعيد بن جبير والأول أولى (5/109)
وبه قال الجمهور : 28 - { قال لا تختصموا لدي } هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال الله ؟ فقيل : { قال لا تختصموا لدي } يعني الكافرين وقرناءهم نهاهم سبحانه عن الاختصام في موقف الحساب وجملة { وقد قدمت إليكم بالوعيد } في محل نصب على الحال : أي والحال أن قدمت إليكم بالوعيد بإرسال الرسل وإنزال الكتب والباء في بالوعيد مزيدة للتأكيد أو على تضمين قدم معنى تقدم (5/109)
29 - { ما يبدل القول لدي } أي لا خلف لوعدي بل هو كائن لا محالة وقد قضيت عليكم بالعذاب فلا تبديل له وقيل هذا القول هو قوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } (5/109)
30 - { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } قرا الجمهور { نقول } بالنون وقرأ نافع و أبو بكر بالياء وقرأ الحسن أقول وقرأ الأعمش يقال والعامل في الظرف ما يبدل القول لدي أو محذوف أي اذكر أو أنذرهم وهذا الكلام على طريقة التمثيل والتخييل ولا سؤال ولا جواب كذا قيل ولأولى أنه على طريقة التحقيق ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع قال الواحدي قال المفسرون : أراها الله تصديق قوله : { لأملأن جهنم } فلما امتلأت قال لها : { هل امتلأت وتقول هل من مزيد } أي قد امتلأت ولم يبقى في موضع لم يمتلىء وبهذا قال عطاء و مجاهد و مقاتل بن سليمان وقيل إن هذا الإستفهام بمعنى الإستزاده : أي إنها تطلب الزيادة على من قد صار فيها وقيل : إن المعنى أنها طلبت أن يزداد في سعتها لتضايقها بأهلها والمزيد إما مصدر كالمحيد أو اسم مفعول كالمنيع فالأول بمعنى هل من زيادة والثاني بمعنى هل من شيء تزيدونيه (5/109)
ثم لما فرغ من بيان حال الكافرين شرع في بيان حال المؤمنين فقال : 31 - { وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد } أي قربت الجنة للمتقين تقريبا غير بعيد أو مكان غير بعيد منهم بحيث يشاهدونها في الموقف وينظرون ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن يكون انتصاب { غير بعيد } على الحال وقيل المعنى : أنها زينت قلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب فصارت قريبة من قلوبهم والأول أولى (5/110)
والإشارة بقوله : 32 - { هذا ما توعدون } إلى الجنة بتقدير القول : أي ويقال لهم هذا ما توعدون قرأ الجمهور { توعدون } بالفوقية وقرأ ابن كثير بالتحتية { لكل أواب حفيظ } هو بدل من للمتقين بإعادة الخافض أو متعلق بقول محذوف هو حال : أي مقولا لهم لكل أواب والأواب الرجاع إلى الله تعالى بالتوبة عن المعصية وقيل هو المسبح وقيل هو الذاكر لله في الخلة قال الشعبي ومجاهد : هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها وقال عبيد بن عمير هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله فيه والحفيظ : هو الحافظ لذنوبه حتى يتوب منها وقال قتادة : هو الحافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته قاله مجاهد وقيل هو الحافظ لأمر الله وقال الضحاك : هو الحافظ لوصية الله له بالقبول (5/110)
33 - { من خشي الرحمن بالغيب } الموصول في محل جر بدلا أو بيانا لكل أواب وقيل يجوز أن يكون بدلا بعد بدل من المتقين وفيه نظر لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد ويجوز أن يكون في محل رفع على الاستئناف والخبر ادخلوها بتقدير يقال لهم ادخلوها والخشية بالغيب أن يخاف الله ولم يكن رآه وقال الضحاك والسدي : يعني الخلوة حيث لا يراه أحد قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب وبالغيب متعلق بمحذوف هو حال أو صفة لمصدر خشي { وجاء بقلب منيب } أي راجع إلى الله مخلص لطاعته وقيل المنيب المقبل على الطاعة وقيل السليم (5/110)
34 - { ادخلوها } هو بتقدير القول : أي يقال لهم ادخلوها والجمع باعتبار معنى من : أي ادخلوا الجنة { بسلام } أي بسلامة من العذاب وقيل بسلام من الله وملائكته وقيل بسلامة من زوال النعم وهو متعلق بمحذوف هو حال : أي ملتبسين بسلام والإشارة بقوله : { ذلك } إلى زمن ذلك اليوم كما قال أبو البقاء وخبره { يوم الخلود } وسماه يوم الخلود لأنه لا انتهاء له بل هو دائم أبدا (5/111)
35 - { لهم ما يشاؤون فيها } أي في الجنة ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم من فنون النعم وأنواع الخير { ولدينا مزيد } من النعم التي لم تخطر لهم على بال ولا مرت لهم في خيال
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ نزل الله من ابن آدم أربع منازل : هو أقرب إليه من حبل الوريد وهو يحول بين المرء وقلبه وهو آخذ بناصية كل دابة وهو معهم أينما كانوا ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { من حبل الوريد } قال : عروق العنق وأخرج ابن المنذر عنه قال : هو نياط القلب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال : إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام اسرج الفرس يا غلام اسقني الماء وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحكيم الترمذي وأبو نعيم والبيهقي في الشعب عن عمرو بن ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول ] وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس مرفوعا مثله وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن مردويه والبيهقي في البعث وابن عساكر عن عثمان بن عفان أنه قرأ { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } قال : سائق يسوقها إلى أمر الله وشهيد يشهد عليها بما عملت وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة في الآية قال : السائق الملك والشهيد العمل وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : السائق من الملائكة والشهيد شاهد عليه من نفسه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { لقد كنت في غفلة من هذا } قال : هو الكافر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا { فكشفنا عنك غطاءك } قال : الحياة بعد الموت وأخرج ابن جرير عنه أيضا و { قال قرينه } قال شيطانه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { لا تختصموا لدي } قال : إنهم اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وما أنا بظلام للعبيد } قال : ما أنا بمعذب من لم يجترم وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } قال : وهل في من مكان يزداد في وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة ] وأخرجا أيضا من حديث أبي هريرة نحوه وفي الباب أحاديث وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { لكل أواب حفيظ } قال : حفظ ذنوبه حتى رجع عنها وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن أنس في قوله : { ولدينا مزيد } قال : يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة وأخرج البيهقي في الرؤية والديلمي عن علي في الآية قال : يتجلى لهم الرب عز و جل وفي الباب أحاديث (5/111)
خوف سبحانه أهل مكة بما اتفق للقرون الماضية 36 - { قبلهم } أي قبل قريش ومن وافقهم { من قرن } أي من أمة { هم أشد منهم بطشا } أي قوة كعاد وثمود وغيرهما { فنقبوا في البلاد } أي ساروا وتقلبوا فيها وطافوا بقاعها وأصله من النقب وهو الطريق قال مجاهد : ضربوا وطافوا وقال النضر بن شميل : دوروا وقال المؤرج : تباعدوا والأول أولى ومنه قول امرئ القيس :
( وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب )
ومثله قول الحارث بن حلزة :
( نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال )
وقرأ ابن عباس والحسن وأبو العالية وأبو عمرو في رواية { نقبوا } بفتح القاف مخففة والنقب هو الخرق والطريق في الجبل وكذا المنقب والمنقبة كذا قال ابن السكيت وجمع النقب نقوب وقرأ السلمي ويحيى بن يعمر بكسر القاف مشددة على الأمر للتهديد : أي طوفوا فيها وسيروا في جوانبها وقرأ الباقون بفتح القاف مشددة على الماضي { هل من محيص } أي هل لهم من مهرب يهربون إليه أو مخلص يتخلصون به من العذاب قال الزجاج : لم يروا محيصا من الموت والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا : أي عدل وحاد والجملة مستأنفة لبيان أنه لا مهرب لهم وفي هذا إنذار لأهل مكة أنهم مثل من قبلهم القرون لا يجدون من الموت والعذاب مفرا (5/113)
37 - { إن في ذلك لذكرى } أي فيما ذكر من قصتهم تذكرة وموعظة { لمن كان له قلب } أي عقل قال الفراء : وهذا جائز في العربية تقول ما لك قلب وما قلبك معك : أي مالك عقل وما عقلك معك وقيل المراد القلب نفسه لأنه إذا كان سلميا أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي وقيل لمن كان له حياة ونفس مميزة فعبر عن ذلك بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها ومنه قول امرئ القيس :
( أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري النفس تفعل )
{ أو ألقى السمع } أي استمع ما يقال له يقال ألقى سمعك إلي : أي استمع مني والمعنى : أنه ألقى السمع إلى ما يتلى عليه من الوحي الحاكي لما جرى على تلك الأمم قرأ الجمهور { ألقى } مبنيا للفاعل وقرأ السلمي وطلحة والسدي على البناء للمفعول ورفع السمع { وهو شهيد } أي حاضر الفهم أو حاضر القلب لأن من لا يفهم في حكم الغائب وإن حضر بجسمه فهو لم يحضر بفهمه قال الزجاج : أي وقلبه حاضر فيما يسمع قال سفيان : أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب قال مجاهد وقتادة : هذه الآية في أهل الكتاب وكذا قال الحسن وقال محمد بن كعب وأبو صالح : إنها في أهل القرآن خاصة (5/113)
38 - { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام } قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف وغيرها { وما مسنا من لغوب } اللغوب : التعب والإعياء تقول غب يلغب بالضم لغوبا قال الواحدي : قال جماعة المفسير إن اليهود قالوا : خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت (5/114)
فأكذبهم الله تعالى بقوله : 39 - { وما مسنا من لغوب * فاصبر على ما يقولون } تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم وأمر لهم بالصبر على ما يقوله المشركون : أي هون عليك ولا تحزن لقولهم وتلق ما يرد عليك منه بالصبر { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } أي نزه الله عما لا يليق به بجنابه العالي ملتبسا بحمده وقت الفجر ووقت العصر وقيل المراد صلاة الفجر وصلاة العصر وقيل الصلوات الخمس وقيل صل ركعتين قبل طولع الشمس وركعتين قبل غروبها والأول أولى (5/114)
40 - { ومن الليل فسبحه } من للتبعيض : أي سبحه بعض الليل وقيل هي صلاة الليل وقيل ركعتا الفجر وقيل صلاة العشاء والأول أولى { وأدبار السجود } أي وسبحه أعقاب الصلوات قرأ الجمهور { أدبار } بفتح الهمزة جمع دبر وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بكسرها على المصدر من أدبر الشيء إدبارا : إذا ولى وقال جماعة من الصحابة والتابعين : إدبار السجود الركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وقد اتفق القراء السبعة في { إدبار النجوم } أنه بكسر الهمزة كما سيأتي (5/114)
41 - { واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب } أي استمع ما يوحى إليك من أحوال القيامة : يوم ينادي المناد وهو إسرافيل أو جبريل وقيل استمع النداء أو الصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة : أعني النفخة الثانية في الصور من إسرافيل وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي أهل المحشر ويقول : هلموا للحساب فالنداء على هذا في المحشر قال مقاتل : هو إسرافيل ينادي بالحشر فيقول : يا أيها الناس هلموا للحساب { من مكان قريب } بحيث يصل النداء إلى كل فرد من أفراد أهل المحشر قال قتادة : كنا نحدث أنه ينادي من صخرة بيت المقدس قال الكلبي : وهي أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلا وقال كعب : بثمانية عشر ميلا (5/114)
42 - { يوم يسمعون الصيحة بالحق } هو بدل من يوم ينادي : يعني صيحة البعث وبالحق متعلق بالصيحة { ذلك يوم الخروج } أي يوم الخروج من القبور قال الكلبي : معنى بالحق بالبعث قال مقاتل : يعني أنها كائنة حقا (5/114)
43 - { إنا نحن نحيي ونميت } أي نحيي في الآخرة ونميت في الدنيا لا يشاركنا في ذلك مشارك والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث { وإلينا المصير } فنجازي كل عامل بعمله (5/115)
44 - { يوم تشقق الأرض عنهم } قرأ الجمهور بإدغام التاء في الشين وقرأ الكوفيون بتخفيف الشين على حذف إحدى التاءين تخفيفا وقرأ زيد بن علي : تتشقق بإثبات التاءين على الأصل وقرئ على البناء للمفعول وانتصاب { سراعا } على أنه حال من الضمير في عنهم والعامل في الحال تشقق وقيل العامل في الحال هو العامل في يوم : أي مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم { ذلك حشر } أي بعث وجمع { علينا يسير } هين (5/115)
ثم عزى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم فقال : 45 - { نحن أعلم بما يقولون } يعني من تكذيبك فيما جئت به ومن إنكار البعث والتوحيد { وما أنت عليهم بجبار } أي بمسلك يجبرهم ويقهرهم على الإيمان والآية منسوخة بآية السيف { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } أي من يخاف وعيدي لعصاتي بالعذاب وأما من عداهم فلا تشتغل بهم ثم أمره الله سبحانه بعد ذلك بالقتال
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { وما مسنا من لغوب } قال : من نصب وأخرج الطبراني في الأوسط وابن عساكر عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس } صلاة الصبح { وقبل الغروب } صلاة العصر وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : [ بت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر ثم خرج إلى الصلاة فقال : يابن عباس ركعتان قبل صلاة الفجر إدبار النجوم وركعتان بعد المغرب إدبار السجود ] وأخرج مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن إدبار النجوم وإدبار السجود فقال : إدبار السجود ركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل الغداة ] وأخرج محمد بن نصر في الصلاة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب : إدبار السجود ركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم ركعتان قبل الفجر وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن نصر وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن علي بن أبي طالب مثله وأخرج البخاري وغيره عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أمره أن يسبح في أدبار الصلوات كلها وأخرج ابن جرير عنه { واستمع يوم يناد المناد } قال : هي الصيحة وأخرج الواسطي عنه أيضا { من مكان قريب } قال : من صخرة بيت المقدس وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عنه أيضا { ذلك يوم الخروج } قال : يوم يخرجون إلى البعث من القبور وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : قالوا : يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } (5/115)
سورة الذاريات
هي ستون آية وهي مكية قال القرطبي في قول الجميع
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة الذاريات بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله
قوله : 1 - { والذاريات ذروا } يقال ذرت الريح التراب تذروه ذروا وأذرته تذريه ذريا أقسم سبحانه بالرياح التي تذري التراب وانتصار ذروا على المصدرية والعامل فيها اسم الفاعل والمفعول محذوف قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام تاء الذاريات في ذال ذروا وقرأ الباقون بدون إدغام وقيل المقسم به مقدر وهو رب الذاريات وما بعدها والأول أولى (5/116)
2 - { فالحاملات وقرا } هي السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر وانتصاب وقرا على أنه مفعول به كما يقال حمل فلان عدلا ثقيلا قرأ الجمهور { وقرا } بكسر الواو اسم ما يوقر : أي يحمل وقرئ بفتحها على أنه مصدر والعامل فيه اسم الفاعل أو على تسمية المحمول بالمصدر مبالغة (5/117)
3 - { فالجاريات يسرا } هي السفن الجارية في البحر بالرياح جريا سهلا وانتصاب يسرا على المصدرية أو صفة لمصدر محذوف أو على الحال : أي جريا ذا يسر وقيل هي الرياح وقيل السحاب والأول أولى واليسر : السهل في كل شيء (5/117)
4 - { فالمقسمات أمرا } هي الملائكة التي تقسم الأمور قال الفراء : تأتي بأمر مختلف : جبريل بالغلظة وميكائيل صاحب الرحمة وملك الموت يأتي بالموت وقيل تأتي بأمر مختلف من الجدب والخصب والمطر والموت والحوادث وقيل هي السحب التي يقسم الله بها أمر العباد وقيل إن المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات الرياح فإنها توصف بجميع ذلك لأنها تذرو التراب وتحمل السحاب وتجري في الهواء وتقسم الأمطار وهو ضعيف جدا وانتصاب أمرا على المفعول به وقيل على الحال : أي مأمورة والأول أولى (5/117)
5 - { إنما توعدون لصادق } هذا جواب القسم : أي إنما توعدون من الثواب والعقاب لكائن لا محالة وما يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف وأن تكون مصدرية ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها كونها أمورا بديعة مخالفة لمقتضى العادة فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود به (5/117)
6 - { وإن الدين لواقع } (5/117)
7 - { والسماء ذات الحبك } قرأ الجمهور { الحبك } بضم الحاء والباء وقرئ بضم الحاء وسكون الباء وبكسر الحاء وفتح الباء وبكسر الحاء وضم الباء قال ابن عطية : هي لغات والمراد بالسماء هنا هي المعروفة وقيل المراد بها السحاب والأول أولى
واختلف المفسرون في تفسير الحبك فقال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم : المعنى ذات الخلق المستوي الحسن قال ابن الأعرابي : كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته واحتبكته وقال الحسن وسعيد بن جبير : ذات الزينة وروي عن الحسن أيضا أنه قال : ذات النجوم وقال الضحاك : ذات الطرائق وبه قال الفراء يقال لما تراه من الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك قال الفراء : الحبك بكسر : كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة والماء إذا مرت به الريح ويقال لدرع الحديد حبك ومنه قول الشاعر :
( كأنما ... جللها الحواك طنفسة في وشيها حباك )
أي طرق وقيل الحبك الشدة والمعنى : والسماء ذات الشدة والمحبوك الشديد الخلق من فرس أو غيره ومنه قول الشاعر :
( قد غدا يحملني في أنفه ... لاحق الأطلين محبوك ممر )
وقال الآخر :
( مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد )
قال الواحدي بعد حكاية القول الأول : هذا قول الأكثرين (5/117)
8 - { إنكم لفي قول مختلف } هذا جواب القسم بالسماء ذات الحبك : أي إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف متناقض في محمد صلى الله عليه و سلم بعضكم يقول إنه شاعر وبعضكم يقول إنه ساحر وبعضكم يقول إنه مجنون ووجه تخصيص القسم بالسماء المتصفة بتلك الصفة تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء واستعمال الحبك في الطرائق هو الذي عليه أهل اللغة وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه على أنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحلك إلى هذا وذلك بأن يقال : إن ما في السماء من الطرائق يصح أن يكون سببا لمزيد حسنها واستواء خلقها وحصول الزينة فيها ومزيدة القوة لها وقيل إن المراد بكونهم في قول مختلف أن بعضهم ينفي الحشر وبعضهم يشك فيه وقيل كونهم يقرون أن الله خالقهم ويعبدون الأصنام (5/118)
9 - { يؤفك عنه من أفك } أي يصرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه و سلم وبما جاء به أو عن الحق وهو البعث والتوحيد من صرف وقيل يصرف عن ذلك الاختلاف من صرفه الله عنه بالعصمة والتوفيق يقال أفكه يأفكه إفكا : أي قبله عن الشيء وصرفه عنه ومنه قوله تعالى : { قالوا أجئتنا لتأفكنا } وقال مجاهد : يؤفن عنه من أفن والأفن فساد العقل وقيل يحرمه من حرم وقال قطرب : يجدع عنه من جدع وقال اليزيدي : يدفع عنه من دفع (5/118)
10 - { قتل الخراصون } هذا دعاء عليهم وحكى الواحدي عن المفسرين جميعا أن المعنى : لعن الكذابون قال ابن الأنباري : والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعن لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك قال الفراء : معنى قتل لعن والخراصون الكذابون الذي يتخرصون فيما لا يعلمون فيقولون : إن محمدا مجنون كذاب شاعر ساحر قال الزجاج : الخراصون هم الكذابون والخرص : حرز ما على النخل من الرطب تمرا والخراص : الذي يخرصها وليس هو المراد هنا (5/118)
ثم قال : 11 - { الذين هم في غمرة ساهون } أي في غفلة وعمى جهالة عن أمور الآخرة ومعنى ساهون : لاهون غافلون والسهو : الغفلة عن الشيء وذهابه عن القلب وأصل الغمرة ما ستر الشيء وغطاه ومنها غمرات الموت (5/119)
12 - { يسألون أيان يوم الدين } أي يقولون متى يوم الجزاء تكذيبا منهم واستهزاء (5/119)
ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال : 13 - { يوم هم على النار يفتنون } أي يحرقون ويعذبون يقال فتنت الذهب : إذا أحرقته لتختبره وأصل الفتنة الاختبار قال عكرمة : ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن وانتصاب يوم بمضمر : أي الجزاء : يوم هم على النار ويجوز أن يكون بدلا من يوم الدين والفتح للبناء لكونه مضافا إلى الجملة وقيل هو منصوب بتقدير أعني وقرأ ابن أبي عبلة برفع يوم على البدل من يوم الدين (5/119)
وجملة 14 - { ذوقوا فتنتكم } هي بقتدير القول : أي يقال لهم ذوقوا عذابكم قاله ابن زيد وقال مجاهد : حريقكم ورجح الأول الفراء وجملة { هذا الذي كنتم به تستعجلون } من جملة ما هو محكي بالقول : أي هذا ما كنتم تطلبون تعجيله استهزاء منكم وقيل هي بدل من فتنتكم (5/119)
15 - { إن المتقين في جنات وعيون } لما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة : أي هم في بستانين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها الواصفون (5/119)
16 - { آخذين ما آتاهم ربهم } أي قابلين ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة وجملة { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } تعليل لما قبلها : أي لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به وترك ما نهو عنه (5/119)
ثم بين إحسانهم الذي وصفهم به فقال : 17 - { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } الهجوع : النوم بالليل دون النهار والمعنى : كانوا قليلا ما ينامون منالليل وما زائدة ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة : أي كانوا قليلا من من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت :
( قد حصت البيضة رأسي ... فما أطعم نوما غير تهجاع )
والتهجاع : القليل من النوم ومن ذلك قول عمرو بن معدي كرب :
( أمن ريحانة الداعي السميع ... يهيجني وأصحابي هجوع )
وقيل ما نافية : أي ما كانوا ينامون قليلا من الليل فكيف بالكثير منه وهذا ضعيف جدا وهذا قول من قال : إن المعنى كان عددهم قليلا ثم ابتدأ فقال : { ما يهجعون } وبه قال ابن الأنباري وهو أضعف مما قبله وقال قتادة في تفسير هذه الآية كانوا يصلون بين العشاءين وبه قال أبو العالية وابن وهب (5/116)
18 - { وبالأسحار هم يستغفرون } أي يطلبون أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم قال الحسن : مدوا الصلاة إلى الأسحار ثم أخذوا بالأسحار الاستغفار وقال الكلبي ومقاتل ومجاهد : هم بالأسحار الاستغفار وقال الكلبي ومقاتل ومجاهد : هم بالأسحار يصلون وذلك أن صلاتهم طلب منهم للمغفرة وقال الضحاك : هي صلاة الفجر (5/120)
ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال : 19 - { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } أي يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقا للسائل والمحروم تقربا إلى الله عز و جل وقال محمد بن سيرين وقتادة : الحق هنا الزكاة المفروضة والأول أولى فيحمل على صدقة النفل وصلة الرحم وقرى الضيف لأن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا بالمدينة وسيأتي في سورة سأل سائل { في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم } بزيادة معلوم والسائل هو الذي يسأل الناس لفاقته
واختلف في تفسير المحروم فقيل هو الذي يتعفف عن السؤال حتى يحسبه الناس غنيا فلا يتصدقون عليه وبه قال قتادة والزهري وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية : هو الذي لا سهم له في الغنيمة ولا يجري عليه من الفيء شيء وقال زيد بن أسلم : هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو ماشيته قال القرطبي : هو الذي أصابته الجائحة وقيل الذي لا يكتسب وقيل هو الذي لا يجد غنى يغنيه وقيل هو الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه وقيل هو المملوك وقيل الكلب وقيل غير ذلك قال الشعبي : لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ والذي ينبغي التعويل عليه ما يدل عليه المعنى اللغوي والمحروم في اللغة الممنوع من الحرمان وهو المنع فيدخل تحته من حرم الرزق من الأصل ومن أصيب ماله بجائحة أذهبته ومن حرم العطاء ومن حرم الصدقة لتعففه (5/120)
ثم ذكر سبحانه ما نصبه من الدلائل الدالة على توحيده وصدق وعده ووعيده فقال : 20 - { وفي الأرض آيات للموقنين } أي دلائل واضحة وعلامات ظاهرة من الجبال والبر والبحر والأشجار والأنهار والثمار وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذبة لما جاءت به رسل الله ودعتهم إليه وخص الموقنين بالله لأنهم الذين يعترفون بذلك ويتدبرون فيه فينتفعون به (5/120)
21 - { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } أي وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرسل فإنه خلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى أن ينفخ فيه الروح ثم تختلف بعد ذلك صورهم وألوانهم وطبائعهم وألسنتهم ثم نفس خلقهم على هذه الصفة العجيبة الشأن من لحم ودم وعظم وأعضاء وحواس ومجاري ومنافس ومعنى { أفلا تبصرون } أفلا تنظرون بعين البصيرة فتستدلون بذلك على الخالق الرزاق المتفرد بالألوهية وأنه لا شريك له وال ضد ولا ند وأن وعده الحق وقوله الحق وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه وقيل المراد بالأنفس الأرواح : أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات (5/120)
22 - { وفي السماء رزقكم } أي سبب رزقكم وهو المطر فإنه سبب الأرزاق قال سعيد بن جبير والضحاك : الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج وقيل المراد بالسماء السحاب : أي وفي السحاب رزقكم وقيل المراد بالسماء المطر وسماه سماء لأنه ينزل من جهتها ومنه قول الشاعر :
( إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا )
وقال ابن كيسان : يعني وعلى رب السماء رزقكم ونظيره { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وهو بعيد وقال سفيان الثوري : أي عند الله في السماء رزقكم وقيل المعنى : وفي السماء تقدير رزقكم قرأ الجمهور { رزقكم } بالإفراد وقرأ يعقوب وابن محيصن ومجاهد أرزاقكم بالجمع { وما توعدون } من الجنة والنار قاله مجاهد قال عطاء : من الثواب والعقاب وقال الكلبي : من الخير والشر قال ابن سيرين : ما توعدون من أمر الساعة وبه قال الربيع والأولى الحمل على ما هو أعم من هذه الأقوال فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء والقضاء والقدر ينزل منها والجنة والنار فيها (5/121)
ثم أقسم سبحانه بنفسه فقال : 23 - { فورب السماء والأرض إنه لحق } أي ما أخبركم به في هذه الآيات قال الزجاج : هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات قال الكلبي : يعني ما قص في الكتاب وقال مقاتل : يعني من أمر الساعة وقيل إن ما في قوله : { وما توعدون } مبتدأ وخبره فورب السماء والأرض إنه لحق فيكون الضمير لما ثم قال سبحانه { مثل ما أنكم تنطقون } قرأ الجمهور بنصب { مثل } على تقدير : كمثل نطقكم وما زائدة كذا قال بعض الكوفيون إنه منصوب بنزع الخافض وقال الزجاج والفراء يجوز أن ينتصب على التوكيد : أي لحق حقا مثل نطقكمظ وقال المازني : إن مثل مع ما بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح وقال سيبويه : هو مبني لإضافته إلى غير متمكن واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر والأعمش { مثل } بالرفع على أنه صفة لحق لأن مثل نكرة وإن أضيفت فهي لا تتعرف بالإضافة كغير ورجح قول المازني أبو علي الفارسي قال ومثله قول حميد :
( وويحا لمن لم يدر ما هن ويحما )
فبني ويح مع ما ولم يلحقه التنوين ومعنى الآية تشبيه تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده وهذا كما تقول : إنه لحق كما أنك هاهنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى : أنه في صدقه ووجوده وهذا كما تقول : إنه لحق كما أنك هاهنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى : أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري والدارقطني في الأفراد والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله : { والذاريات ذروا } قال : الرياح { فالحاملات وقرا } قال : السحاب { فالجاريات يسرا } قال : السفن { فالمقسمات أمرا } قال : الملائكة وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد وابن مردويه وابن عساكر عن عمر بن الخطاب مثله ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي إسناده أبو بكر بن سبرة هو لين الحديث وسعيد بن سلام وليس من أصحاب الحديث كذا قال البزار قال ابن كثير : فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس مثل قول علي وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس { والسماء ذات الحبك } قال : حسنها واستواؤها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه في الآية قال : ذات البهاء والجمال وإن بنيانها كالبرد المسلسل وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عمر مثله وأخرج ابن منيع عن علي قال : هي السماء السابعة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يؤفك عنه من أفك } قال : يضل عنه من ضل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { قتل الخراصون } قال : لعن المرتابون وأخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : هم الكهنة { الذين هم في غمرة ساهون } قال : في غفلة لاهون وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الغمرة الكفر والشك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : في ضلالتهم يتمادون وفي قوله : { يوم هم على النار يفتنون } قال : يعذبون وأخرج هؤلاء عنه أيضا في قوله : { آخذين ما آتاهم ربهم } قال : الفرائض { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } قال : قبل أن تنزل الفرائض يعملون وأخرج هؤلاء أيضا والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } قال : ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في الآية يقول : قليلا ما كانوا ينامون وأخرج أبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس في الآية قال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر { وبالأسحار هم يستغفرون } قال : يصلون وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس { في أموالهم حق } قال : سوى الزكاة يصل بها رحما أو يقري بها ضيفا أو يعين بها محروما وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي ليس له سهم من فيء المسلمين وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : المحروم هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس فأمر الله المؤمنين برفده وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت : هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه وأخرج الترمذي والبيهقي في سننه عن فاطمة بنت قيس [ أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية قال : إن في المال حقا سوى الزكاة وتلا هذه الآية { ليس البر أن تولوا وجوهكم } إلى قوله : { وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة } ] وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الزبير في قوله : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } قال : سبيل الغائط والبول (5/121)
قوله : 24 - { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } ذكر سبحانه قصة إبراهيم ليبين أنه أهلك بسبب التكذيب من أهلك وفي الاستفهام تنبيه على أن هذا الحديث ليس مما قد علم به رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه إنما علمه بطريق الوحي وقيل إن هل بمعنى قد كما في قوله : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } والضيف مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة وقد تقدم الكلام على قصة ضيف إبراهيم في سورة هود وسورة الحجر والمراد بكونهم مكرمين : أنهم مكرمون عند الله سبحانه لأنه ملائكة جاءوا إليه في صورة بني آدم كما قال تعالى في وصفهم في آية أخرى { بل عباد مكرمون } وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وقال مقاتل ومجاهد : أكرمهم إبراهيم وأحسن إليهم وقام على رؤوسهم وكان لا يقوم على رؤوس الضيف وأمر امراته أن تخدمهم وقال الكلبي : أكرمهم بالعجل (5/123)
25 - { إذ دخلوا عليه } العامل في الظرف حديث : أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه أو العامل فيه ضيف لأنه مصدر أو العامل فيه المكرمين أو العامل فيه فعل مضمر : أي اذكر { فقالوا سلاما } أي نسلم عليك سلاما { قال سلام } أي قال إبراهيم سلام قرأ الجمهور بنصب { سلاما } الأول ورفع الثاني فنصب الأول على المصدرية بتقدير الفعل كما ذكرنا والمراد به التحتية ويحتمل أن يكون المعنى : فقالوا كلاما حسناص لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو فيكون على هذا مفعولا به وأما الثاني فرفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر : أي عليكم سلام وعدل به إلى الرفع لقصد إفادة الجملة الإسمية للدوام والثبات بخلاف الفعلية فإنه لمجرد التجدد والحدوث ولهذا قال أهل المعاني : إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة وقرئ بالرفع في الموضعين وقرئ بالنصب فيهما وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما بكسر السين وقرء سلم فيهما { قوم منكرون } ارتفاع قوم على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي أنتم قوم منكرون قيل إنه قال هذا في نفسه ولم يخاطبهم به لأن ذلك يخالف الإكرام قيل إنه انكرهم لكونهم ابتدأوا بالسلام ولم يكن ذلك معهودا عند قومه وقيل لأنه رأى فيهم ما يخالف بعض الصور البشرية وقيل لأنه رآهم على غير صورة الملائكة الذي يعرفهم وقيل غير ذلك (5/124)
26 - { فراغ إلى أهله } قال الزجاج : أي عدل إلى أهله وقيل ذهب إليهم في خفية من ضويفه والمعنى متقارب وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات يقا راغ وارتاغ بمعنى طلب وماذا يريغ : أي يريد ويطلب وأراغ إلى كذا : مال إليه سرا وحاد { فجاء بعجل سمين } أي فجاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في سورة هود { بعجل حنيذ } وفي الكلام حذف تدل عليه الفاء الفصيحة : أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به (5/124)
27 - { فقربه إليهم } أي قرب العجل إليهم ووضعه بين أيدهم ف { قال ألا تأكلون } الاستفهام للإنكار وذلك أنه لما قربه إليهم لما قربه غليهم لم يأكلوا منه قال في الصحاح : العجل ولد القر والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة وقيل العجل في بعض اللغات الشاة (5/124)
28 - { فأوجس منهم خيفة } أي أحسن في نفسه خوفا منهم لما لم يأكلوا مما قربه إليهم وقيل معنى أوجس أضمر وإنما وقع له ذلك لما لم يتحرموا بطعامه ومن أخلاق الناس أن من أكل من طعام إنسان صار آمنا منه فظن إبراهيم أنهم جاءوا للشر ولم يأتوا للخير وقيل إنه وقع في قلبه أنهم ملائكة فلما رأوا ما ظهر عليه من أمارات الخوف { قالوا لا تخف } وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه من جهة الله سبحانه { وبشروه بغلام عليم } أي بشروه بغلام يولد له كثير العلم عند أن يبلغ مبالغ الرجال والمبشر به عند الجمهور هو إسحاق وقال مجاهد وحده : إنه إسماعيل وهو مردود بقوله : { وبشرناه بإسحاق } وقد قدمنا تحقيق هذا المقام بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره (5/125)
29 - { فأقبلت امرأته في صرة } لم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان وإنما هو كقولك : أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي كذا قال الفراء وغيره والصرة الصيحة والضجة وقيل الجماعة من الناس قال الجوهري : الصرة : الضجة والصيحة والصرة : الجماعة والصرة الشدة من كرب أو غيره والمعنى : أنها أقبلت في صيحة أو في ضجة أو في جماعة من الناس يستمعون كلام الملائكة ومن هذا قول امرئ القيس :
( فألحقه بالهاديات ودونه ... جراجرها في صرة لم تزيل )
وقوله : { في صرة } في محل نصب على الحال { فصكت وجهها } أي ضربت بيدها على وجهها كما جرت بذلك عادة النساء عند التعجب قال مقاتل والكلبي : جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبا ومعنى الصك : ضرب الشيء بالشيء العريض يقال صكه : أي ضربه { وقالت عجوز عقيم } أي كيف ألد وأنا عجوز عقيم استبعدت ذلك لكبر سنها ولكونها عقيما لا تلد (5/125)
30 - { قالوا كذلك قال ربك } أي كما قلنا لك وأخبرناك قال : ربك فلا تشكي في ذلك ولا تعجبي منه فإن ما أراده الله كائن لا محالة ولم نقل ذلك من جهة أنفسنا وقد كانت إذ ذاك بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم ابن مائة سنة وقد سبق بيان هذا مستوفى وجملة { إنه هو الحكيم العليم } تعليل لما قبلها : أي حكيم في أفعاله وأقواله عليم بكل شيء (5/125)
وجملة 31 - { قال فما خطبكم أيها المرسلون } مستأنفة جوبا عن سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم بعد هذا القول من الملائكة والخطب الشأن والقصة والمعنى : فما شأنكم وما قصتكم أيها المرسلون من جهة الله وما ذاك الأمر الذي لأجله أرسلكم سوى هذه البشارة (5/125)
32 - { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } يريدون قوم لوط (5/125)
33 - { لنرسل عليهم حجارة من طين } أي لنرجمهم بحجارة من طين متحجر وانتصاب { مسومة } على الصفة لحجارة أو على الحال في الضمير المستكن في الجار والمجرور أو من الحجارة لكونها وصفة بالجار والمجرور (5/125)
34 - ومعنى { مسومة } معلمة بعلامات تعرف بها قيل كانت مخططة بسواد وبياض وقيل بسواد وحمرة وقيل معروفة بأنها حجارة العذاب وقيل مكتوب على كل حجر من يهلك بها وقوله { عند ربك } ظرف لمسومة أي : معلمة عنده { للمسرفين } المتمادين في الضلالة المتجاوزين الحد في الفجور وقال مقاتل : للمشركين والشرك أسرف الذنوب وأعظمها (5/125)
35 - { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } هذا كلام من جهة الله سبحانه : أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من قومه المؤمنين به (5/126)
36 - { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } أي غير أهل بيت يقال بيت شريف ويراد به أهله قيل وهم أهل بيت لوط والإسلام : الانقياد والاستسلام لأمر الله سبحانه فكل مؤمن مسلم ومن ذلك قوله : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } وقد أوضح الفرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الإسلام والإيمان في الحديث في الصحيحين وغيرهما الثابت من طرق أنه [ سئل عن الإسلام فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان وسئل عن الإيمان فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره ] فالمرجع في الفرق بينهما هو هذا الذي قاله الصادق والمصدوق ولا التفات إلى غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مختلة متناقضة وأما ما في الكتاب العزيز من اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان فذلك باعتبار المعاني اللغوية والاستعمالات العربية والواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجاب سؤال السائل له عن ذلك بها (5/126)
37 - { وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم } أي وتركنا في تلك القرى علامة ودلالة تدل على ما أصابهم من العذاب كل من يخاف عذاب الله ويخشاه من أهل ذلك الزمان ومن بعدهم وهذه الآية هي آثار العذاب في تلك القرى فإنها ظاهرة بينة وقيل هي الحجارة التي رجموا بها وإنما خص الذين يخافون العذاب الأليم لأنهم الذين يتعظون بالمواعظ ويتفكرون في الآيات دون غيرهم ممن لا يخاف ذلك وهم المشركون المكذبون بالبعث والوعد والوعيد
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { في صرة } قال : في صيحة { فصكت وجهها } قال : لطمت وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } قال : لوط وابنتيه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كانوا ثلاثة عشر (5/126)
قوله : 38 - { وفي موسى } معطوف على قوله فيها بإعادة الخافض والتقدير : وتركنا في قصة موسى آية أو معطوف على { وفي الأرض } والتقدير : وفي الأرض وفي موسى آيات قاله الفراء وابن عطية والزمخشري قال أبو حيان : وهو بعيد جدا ينزه القرآن عن مثله ويجوز أن يكون متعلقا بجعلنا مقدرا للدلالة { وتركنا عليه } قيل ويجوز أن يعطف على وتركنا على طريقة قول القائل :
( علفتها تبنا وماء باردا )
والتقدير : وتركنا فيها آية وجعلنا في موسى آية قال أبو حيان : ولا حاجة إلى إضمار وجعلنا لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور وتركنا والوجه الأول هو الأولى وما عداه متكلف متعسف لم تلجئ إليه حاجة ولا دعت إليه ضرورة { إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين } الظرف متعلق بمحذوف هو نعت الآية : أي كائنة وقت أرسلناه أو بآية نفسها والأول أولى والسلطان المبين الحجة الظاهرة الواضحة وهي العصا وما معها من الآيات (5/127)
39 - { فتولى بركنه } التولي : الإعراض والركن : الجانب قاله الأخفش والمعنى : أعرض بجانبه كما في قوله : { أعرض ونأى بجانبه } قال الجوهري : ركن الشيء جانبه الأقوى وهو يأوي إلى ركن شديد : أي عز ومنعة وقال ابن زيد ومجاهد وغيرهما : الركن جمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم ومنه قوله تعالى : { أو آوي إلى ركن شديد } أي عشيرة ومنعة وقيل الركن : نفس القوة وبه قال قتادة وغيره ومنه قول عنترة :
( فما أوهي مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني )
{ وقال ساحر أو مجنون } أي قال فرعون : في حق موسى هو ساحر أو مجنون فردد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحرا أو مجنونا وهذا من اللعين مغالطة وإيهام لقومه فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر ولا يفعله من به جنون وقيل إن أو بمعنى الواو لأنه قد قال ذلك جميعا ولم يتردد قاله المؤرج والفراء كقوله : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } (5/128)
40 - { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } أي طرحناهم في البحر وجملة { وهو مليم } في محل نصب على الحال : أي آت بما يلام عليه حين ادعى الربوبية وكفر بالله وطغى في عصيانه (5/128)
41 - { وفي عاد } أي وتركنا في قصة عاد آية { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } وهي التي لا خير فيها ولا بركة لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا إنما هي ريح الإهلاك والعذاب (5/128)
ثم وصف سبحانه هذه الريح فقال : 42 - { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } أي ما تذر من شيء مرت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا جعلته كالشيء الهالك البالي قال الشاعر :
( تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة البالي )
وقال قتادة : إنه الذي ديس من يابس النبات وقال السدي وأبو العالية : إنه التراب المدقوق وقال قطرب : إنه الرماد وأصل الكلمة من رم العظم : إذا بلي فهو رميم والرمة : العظام البالية (5/128)
43 - { وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } أي وتركنا في قصة ثمود آية وقت قلنا لهم عيشوا متمتعين بالدنيا إلى حين وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في قوله : { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } (5/128)
44 - { فعتوا عن أمر ربهم } أي تكبروا عن امتثال أمر الله { فأخذتهم الصاعقة } وهي كل عذاب مهلك قرأ الجمهور { الصاعقة } وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي { الصاعقة } وقد مر الكلام على الصاعقة في البقرة وفي مواضع { وهم ينظرون } أي يرونها عيانا والجملة في محل نصب على الحال وقيل إن المعنى : ينتظرون ما وعدوه من العذاب والأول أولى (5/128)
45 - { فما استطاعوا من قيام } أي لم يقدروا على القيام قال قتادة : من نهوض : يعني لم ينهضوا من تلك الصرعة والمعنى : أنهم عجزوا عن القيام فضلا عن الهرب ومثله قوله : { فأصبحوا في دارهم جاثمين } { وما كانوا منتصرين } أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم (5/129)
46 - { وقوم نوح من قبل } أي من قبل هؤلاء المهلكين فإن زمانهم متقدم على زمن فرعون وعاد وثمود { إنهم كانوا قوما فاسقين } أي خارجين عن طاعة الله قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو بخفض { قوم } أي وفي قوم نوح آية وقرأ الباقون بالنصب : أي وأهلكنا قوم نوح أو هو معطوف على مفعول أخذتهم الصاعقة أو على مفعول نبذناهم : أي نبذناهم ونبذنا قوم نوح أو يكون العامل فيه اذكر (5/129)
47 - { والسماء بنيناها بأيد } أي بقوة وقدرة قرأ الجمهور بنصب السماء على الاشتغال والتقدير : وبنينا السماء بنيناها وقرأ أبو السماك وابن مقسم برفعها على الابتداء { وإنا لموسعون } الموسع ذو الوسع والسعة والمعنى : إنا لذوا سعة بخلقها وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك وقيل لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والقدرة وقيل إنا لموسوعون الرزق بالمطر قال الجوهري : وأوسع الرجل : صار ذا سعة وغنى (5/129)
48 - { والأرض فرشناها } قرأ الجمهور بنصب { الأرض } على الاشتغال وقرأ أبو السماك وابن مقسم برفعها كما تقدم في قوله : { والسماء بنيناها } ومعنى فرشناها : بسطناها كالفراش { فنعم الماهدون } أي نحن يقال مهدت الفراش : بسطته ووطأته وتمهدي الأمور : تسويتها وإصلاحها (5/129)
49 - { ومن كل شيء خلقنا زوجين } أي صنفين ونوعين من ذكر وأنثى وبر وبحر وشمس وقمر وحلو ومر وسماء وأرض وليل ونهار ونور وظلمة وجن وإنس وخير وشر { لعلكم تذكرون } أي خلقنا ذلك هكذا لتذكروا فتعرفوا أنه خالق كل شيء وتستدلوا بذلك على توحيده وصدق وعده ووعيده (5/129)
50 - { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } أي قل لهم يا محمد : ففروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي وجملة { إني لكم منه نذير مبين } تعليل للأمر بالفرار وقيل معنى { ففروا إلى الله } اخرجوا من مكة وقال الحسين بن الفضل / احترزوا من كل شيء غير الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه وقيل فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن وقيل فروا من الجهل إلى العلم ومعنى { إني لكم منه } أي من جهته منذر بين الإنذار (5/129)
51 - { ولا تجعلوا مع الله إلها آخر } نهاهم عن الشرك بالله بعد أمرهم بالفرار إلى الله وجملة { إني لكم منه نذير مبين } تعليل للنهي (5/129)
52 - { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم بيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة وأن ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم و { كذلك } في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر كذلك ثم فسر ما أجمله بقوله : { ما أتى } الخ أو في محل نصب نعتا لمصدر محذوف : أي أنذركم إنذارا كإنذار من تقدمني من الرسل الذين أنذروا قومهم والأول أولى (5/130)
53 - { أتواصوا به } الاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب من حالهم : أي هل أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتوطأوا عليه { بل هم قوم طاغون } إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان : أي لم يتواصوا بذلك بل جمعهم الطغيان وهو مجاوزة الحد في الكفر (5/130)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بالإعراض عنهم فقال : 54 - { فتول عنهم } أي أعرض عنهم وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق فقد فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته { فما أنت بملوم } عند الله بعد هذا لأنك قد أديت ما عليك وهذا منسوخ بآية السيف (5/130)
ثم لما أمره بالإعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن فقال : 55 - { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } قال الكلبي : المعنى عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم وقال مقاتل : عظ كفار مكة فإن الذكرى تنفع من كان في علم الله أنه يؤمن وقيل ذكرهم بالعقوبة وأيام الله وخص المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون به (5/130)
وجملة 56 - { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } مستأنفة مقررة لما قبلها لأن كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله صلى الله عليه و سلم للتذكير وينشطهم للإجابة قيل هذا خاص في من سبق من علم الله سبحانه أنه يعبده فهو عموم مراد به الخصوص قال الواحدي : قال المفسرون : هذا خاص لأهل طاعته يعني من أهل من الفريقين قال : وهذا قول الكلبي والضحاك واختيار الفراء وابن قتيبة قال القشيري : والآية دخلها التخصيص بالقطع لأن المجانين لم يؤمروا بالعبادة ولا أراجها منهم وقد قال : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة فالآية محمولة على المؤمنين منهم ويدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب [ وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون ] وقال مجاهد : إن المعنى : إلا ليعرفوني قال الثعلبي : وهذا قول حسن لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده وروي عن مجاهد أنه قال : المعنى إلا لآمرهم وأنهاهم ويدل عليه قوله : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } واختار هذا الزجاج وقال زيد بن أسلم : هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة وخلق الأشقياء للمعصية وقال الكلبي : المعنى إلا ليوحدون فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده في الشدة دون النعمة كما في قوله : { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين } وقال جماعة : إلا ليخضعوا لي ويتذللوا ومعنى العبادة في اللغة : الذل والخضوع والانقياد وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته منقاد لما قدره عليه خلقهم على ما أراد ورزقهم كما قضى لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا ولا ضررا ووجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم (5/130)
57 - { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } هذه الجملة فيها بيان استغنائه سبحانه عن عباده وأنه لا يريد منهم منفعة كما تريده السادة من عبيدهم بل هو الغني المطلق الرازق المعطي وقيل المعنى : ما أريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم ولا يطعموا أحدا من خلقي ولا يطعموا أنفسهم وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله فمن أطعم عيال الله فهو كمن أطعمه وهذا كما ورد في قوله صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله عبدي استطعمتك فلم تطعمني ] أي لم تطعم عبادي ومن في قوله : { من رزق } زائدة لتأكيد العموم (5/131)
ثم بين سبحانه أنه هو الرزاق لا غيره فقال : 58 - { إن الله هو الرزاق } لا رزاق سواه ولا معطي غيره فهو الذي يرزق مخلوقاته ويقوم بما يصلحهم فلا يشتغلوا بغير ما خلقوا له من العبادة { ذو القوة المتين } ارتفاع المتين على أنه وصف للرزاق أو لذو أو خبر مبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر قرأ الجمهور { الرزاق } وقرأ ابن محيصن الرازق وقرأ الجمهور { المتين } بالرفع وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بالجر صفة للقوة والتذكير لكون تأنيثها غير حقيقي قال الفراء : كان حقه المتينة فذكرها لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل يقال حبل متين : أي محكم الفتل ومعنى المتين : الشديد القوة هنا (5/131)
59 - { فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم } أي ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فإن لهم ذنوبا : أي طويل الشر لا ينقضي وأصل الذنوب في اللغة الدلوا العظيمة ومن استعمال الذنوب في النصيب من الشيء قول الشاعر :
( لعمرك والمنايا طارقات ... لكل بني أب منها ذنوب )
وما في الآية مأخوذ من مقاسمه السقاة الماء بالدلو الكبير فهو تمثيل جعل الذنوب مكان الحظ والنصيب قاله ابن قتيبة { فلا يستعجلون } أي لا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب كما في في قولهم : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } (5/131)
60 - { فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } قيل هو يوم القيامة وقيل يوم بدر والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر في قوله : { فتولى بركنه } عن ابن عباس قال : بقومه وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله : { الريح العقيم } قال : الشديدة التي لا تلقح شيئا وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : لا تلقح الشجر ولا تثير السحاب وفي قوله : { إلا جعلته كالرميم } قال : كالشيء الهالك وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : الريح العقيم النكباء وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { والسماء بنيناها بأيد } قال : بقوة وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر عنه في قوله : { فتول عنهم فما أنت بملوم } قال : أمره الله أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدا صلى الله عليه و سلم ثم قال : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } فنسختها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال : ليقروا بالعبودية طوعا أو كرها وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال : على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي وشقوتي وسعادتي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا في قوله : { المتين } يقول : الشديد وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ذنوبا } قال : دلوا (5/132)
سورة الطور
هي تسع وأربعون آية وقيل ثمان وأربعون
وهي مكية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت الطور بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جبير بن مطعم قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في المغرب بالطور ] وأخرج البخاري وغيره عن أم سلمة [ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور ]
قوله : 1 - { والطور } قال الجوهري : هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى قال مجاهد السدي : الطور بالسريانية الجبل والمراد به طور سيناء قال مقاتل بن حيان : هما طوران : يقال لأحدهما طور سيناء وللآخر طور زيتا لأنهما ينبتان التين والزيتون وقيل هو جبل مدين وقيل إن الطور كل جبل ينبت وما لا ينبت فليس بطور أقسم سبحانه بهذا الجبل تشريفا له وتكريما (5/132)
2 - { وكتاب مسطور } المسطور : المكتوب والمراد بالكتاب القرآن وقيل هو اللوح المحفوظ وقيل جميع الكتب المنزلة وقيل ألواح موسى وقيل ما تكتبه الحفظة قاله الفراء وغيره ومثله { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } وقوله : { وإذا الصحف نشرت } (5/133)
3 - { في رق منشور } متعلق بمسطور : أي مكتوب في رق قرأ الجمهور { في رق } بفتح الراء وقرأ أبو السماك بكسرها قال الجوهري : الرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق ومنه قوله تعالى : { في رق منشور } قال المبرد : الرق ما رق من الجلد ليكتب فيه والمنشور المبسوط قال أبو عبيدة : وجمعه رقوق ومن هذا قول المتلمس :
( فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور )
وأما الرق بالكسر فهو المملوك يقال عبد رق وعبد مرقوق (5/134)
4 - { والبيت المعمور } في السماء السابعة وقيل في سماء الدنيا وقيل هو الكعبة فعلى القولين الأولين يكون وصفه بالعمارة باعتبار من يدخل إليه من الملائكة ويعبد الله فيه وعلى القول الثالث يكون وصفه بالعمارة حقيقة أو مجازا باعتبار كثرة من يتعبد فيه من بني آدم (5/134)
5 - { والسقف المرفوع } يعني السماء سماها سقفا لكونها كالسقف للأرض ومنه قوله { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } وقيل هو العرش (5/134)
6 - { والبحر المسجور } أي الموقد من السجر : وهو إيقاد النار في النور ومنه قوله : { وإذا البحار سجرت } وقد روي أن البحار تسجر يوم القيامة فتكون نارا وقيل المسجور المملوء قيل إنه من أسماء الأضداد يقال بحر مسجور : أي مملوء وبحر مسجور : أي فارغ وقيل المسجور الممسوك ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه وقال أبو العالية : المسجور الذي ذهب ماؤه وقيل المسجور المفجور ومنه { وإذا البحار فجرت } وقال الربيع بن أنس : هو الذي يختلط فيه العذب بالمالح والأول أولى وبه قال مجاهد والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش وغيرهم (5/134)
7 - { إن عذاب ربك لواقع } هذا جواب القسم : أي كائن لا محالة لمن يستحقه (5/134)
8 - { ما له من دافع } يدفعه ويرده عن أهل النار وهذه الجملة خبر ثان لإن أو صفة لواقع ومن مزيدة للتأكيد ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها أنها عظيمة دال على كمال القدرة الربانية (5/134)
9 - { يوم تمور السماء مورا } العامل في الظرف لواقع : أي إنه لواقع في هذا اليوم ويجوز أن يكون العامل فيه دافع والمور : الاضطراب والحركة قال أهل اللغة : مار الشيء يمور مورا : إذا تحرك وجاء وذهب قاله الأخفش وأبو عبيدة : وأنشد بيت الأعشى :
( كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل )
وليس في البيت ما يدل على ما قالاه إلا إذا كانت هذه المشية المذكورة في البيت يطلق المور عليها لغة وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض وقال مجاهد : تدور دورا وقيل تجري جريا ومنه قول الشاعر :
( وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل )
ويطلق المور على الموج ومنه ناقة موارة اليد أي سريعة تموج في مشيها موجا ومعنى الآية أن العذاب يقع بالعصاة ولا يدفعه عنهم دافع في هذا اليوم الذي تكون فيه السماء هكذا وهو يوم القيامة وقيل إن السماء هاهنا الفلك وموره : اضطراب نظمه واختلاف سيره (5/134)
10 - { وتسير الجبال سيرا } أي تزول عن أماكنها وتسير عن مواضعها كسير السحاب وتكون هباء منبثا قيل ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدالة على غرابتها وخروجهما عن المعهود وقد تقدم تفسير هذا في سورة الكهف (5/135)
11 - { فويل يومئذ للمكذبين } ويل كلمة تقال للهالك واسم واد في جهنم وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة : أي إذا وقع ما ذكر من مور السماء وسير الجبال فويل لهم (5/135)
ثم وصف المكذبين بقوله : 12 - { الذين هم في خوض يلعبون } أي في تردد في الباطل واندفاع فيه يلهون لا يذكرون حسابا ولا يخافون عقابا والمعنى : أنهم يخوضون في أمر محمد صلى الله عليه و سلم بالتكذيب والاستهزاء وقيل يخوضون في أسباب الدنيا ويعرضون عن الآخرة (5/135)
13 - { يوم يدعون إلى نار جهنم دعا } الدع الدفع بعنف وجفوة : يقال دعته أدعه دعا : أي دفعته والمعنى : أنهم يدفعون إلى النار دفعا عنيفا شديدا قال مقاتل : تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون إلى جهنم دفعا على وجوههم قرأ الجمهور بفتح الدال وتشديد العين وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء وزيد بن علي وابن السميفع بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة : أي يدعون إلى النار من الدعاء ويوم إما بدل من يوم تمور : أو متعلق بالقول المقدر في الجملة التي بعد هذه (5/135)
وهي 14 - { هذه النار التي كنتم بها تكذبون } أي يقال لهم ذلك يوم يدعون إلى نار جهنم دعا : أي هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا والقائل لهم بهذه المقالة هم خزنة النار (5/135)
ثم وبخهم سبحانه أو أمر ملائكته بتوبيخهم فقال : 15 - { أفسحر هذا } الذي ترون وتشاهدون كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ولكتبه المنزلة وقدم الخبر هنا على المبتدأ لأنه الذي وقع الاستفهام عنه وتوجه التوبيخ إليه { أم أنتم لا تبصرون } أي أم أنتم عمي عن هذا كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا (5/135)
16 - { اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا } أي إذا لم يمكنكم إنكارها وتحققتم أن ذلك ليس بسحر ولم يكن في أبصاركم خلل فالآن ادخلوها وقاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا وافعلوا ما شئتم فالأمران { سواء عليكم } في عدم النفع قيل أيضا تقول لهم الملائكة هذا القول وسواء خبر مبتدأ محذوف : أي الأمران سواء ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف : أي سواء عليكم الصبر وعدمه وجملة { إنما تجزون ما كنتم تعملون } تعليل للاستواء فإن الجزاء بالعمل إذا كان واقعا حتما كان الصبر وعدمه سواء (5/136)
17 - { إن المتقين في جنات ونعيم } لما فرغ سبحانه من ذكر حال المجرمين ذكر حال المتقين وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة ويجوز أن تكون من جملة ما يقال للكفار زيادة في غمهم وحسرتهم والتنوين { في جنات ونعيم } للتفخيم (5/136)
18 - { فاكهين بما آتاهم ربهم } يقال رجل فاكه : أي ذو فاكهة كما قيل لابن وتامر والمعنى : أنهم ذوو فاكهة من فواكه الجنة وقيل ذوو نعمة وتلذذ بما صاروا فيه مما أعطاهم الله عز و جل مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقد تقدم بيان معنى هذا قرأ الجمهور { فاكهين } بالألف والنصب على الحال وقرأ خالد فاكهون بالرفع على أنه خبر بعد خبر وقرأ ابن عباس فكهين بغير ألف والفكه : طيب النفس كما تقدم في الدخان ويقال للأشر والبطر ولا يناسب التفسير به هنا { ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } معطوف على آتاهم أو على خبر إن أو الجملة في محل نصب على الحال بإضمار قد (5/136)
19 - { كلوا واشربوا هنيئا } أي يقال لهم ذلك والهنيء : ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر قال الزجاج : أي ليهنئكم ما صرتم إليه هناء والمعنى : كلوا طعاما هنيئا واشربوا شرابا هنيئا وقد تقدم تفسي هنيئا في سورة النساء وقيل معنى هنيئا : أنكم لا تموتون (5/136)
20 - { متكئين على سرر مصفوفة } انتصابه على الحال من فاعل كلوا أو من مفعول آتاهم أو من مفعول وقاهم أو من المضير المستكن في الظرف أو من الضمير في فاكهين قرأ الجمهور { على سرر } بضم الراء الأولى وقرأ أبو السماك بفتحها والسرر جمع سرير والمصفوفة المتصل بعضها ببعض حتى تصير صفا { وزوجناهم بحور عين } أي قرناهم بها قال يونس بن حبيب : تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت بامرأة وليس من كلام العرب زوجته بامرأة قال وقول الله تعالى : { وزوجناهم بحور عين } أي قرناهم بهن وقال الفراء : زوجته بامرأة لغة أزدشنوءة وقد تقدم تفسير الحور العين في سورة الدخان قرأ الجمهور { بحور عين } من غير إضافة وقرأ عكرمة بإضافة الحور إلى العين
وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس { والطور } قال : جبل وأخرج ابن مردويه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الطور جبل من جبال الجنة ] وكثير ضعيف جدا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { في رق منشور } قال : في الكتاب وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقول الساعة ] وفي الصحيحين وغيرهما : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة : [ ثم رفع إلي البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ] وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا عن البيت المعمو فقال : ذلك الضراح بيت فوق سبع سموات تحت العرض يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا إلى يوم القيامة وأخرج ابن جرير نحوه عن ابن عباس وأخرج ابن مردويه عن عبد الله ابن عمرو رفعه قال : إن البيت المعمو لبحيال الكعبة لو سقط منه شيء لسقط عليها يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا ثم لا يعودون إليه وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحوه وضعف إسناده السيوطي وأخرج ابن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب في قوله : { والسقف المرفوع } قال : السماء وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله : { والبحر المسجور } قال : بحر في السماء تحت العرش وأخرج ابن جرير عن ابن عمر مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المسجور المحبوس وأخرج ابن المنذر عنه قال : المسجور المرسل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { يوم تمور السماء مورا } قال : تحرك وفي قوله : { يوم يدعون } قال : يدفعون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا : يوم يدعون { إلى نار جهنم دعا } قال : يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { كلوا واشربوا هنيئا } أي لا تموتون فيها فعندها قالوا : { أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين } (5/136)
لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم ذكر حال طائفة منهم على الخصوص فقال : 21 - { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } والموصول مبتدأ وخبره ألحقنا بهم ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر : أي وأكرمنا الذين آمنوا ويكون ألحقنا مفسرا لهذا الفعل المقدر قرأ الجمهور { واتبعتهم } بإسناد الفعل إلى الذرية وقرأ أبو عمرو { أتبعناهم } بإسناد الفعل إلى المتكلم كقوله ألحقنا وقرأ الجمهور { ذريتهم } بالإفراد وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بالجمع إلا أن أبا عمرو قرأ بالنصب على المفعولية لكونه قرأ : وأتبعناهم ورويت قراءة الجمع هذه عن نافع والمشهور عنه كقراءة الجمهور وقرأ الجمهور { ألحقنا بهم ذريتهم } بالإفراد وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمور ويعقوب على الجمع وجملة { واتبعتهم ذريتهم } معطوف على آمنوا أو معترضة وبإيمان متعلق بالاتباع ومعنى هذه الآية : أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه وإن كانوا دونه في العمل لتقر عينه وتطيب نفسه بشرط أن يكونوا مؤمنين فيختص ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرية وهم البالغون دون الصغار فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم فبدليل آخر غير هذه الآية وقيل إن الذرية تطلق على الكبار والصغار كما هو المعنى اللغوي فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذريتهم وكبارهم ويكون قوله : بإيمان في محل نصب على الحال : أي بإيمان من الآباء وقيل إن الضمير في بهم راجع إلى الذرية المذكورة أولا : أي ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم وقيل المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار فقط وظاهر الآية العموم ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صح ذلك فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب { وما ألتناهم من عملهم من شيء } قرأ الجمهور بفتح اللام من { ألتنا } وقرأ ابن كثير بكسرها : أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا فضمير المفعول عائد إلى الذين آمنوا وقيل المعنى : وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئا لقصر أعمارهم والأول أولى وقد قدمنا تحقيق معنى لاته وآلاته في سورة الحجرات وقرأ ابن هرمز آلتناهم بالمد وهو لغة قال في الصحاح : يقال ما آلته من عام وأن كل إنسان مرتهن بعمله فإن قام به على الوجه الذي أمره الله به فكه وإلا أهلكه وقيل هو بمعنى راهن والمعنى : كل امرئ بما كسب دائم ثابت وقيل هذا خاص بالكفار لقوله : { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين } (5/138)
ثم ذكر سبحانه ما أمدهم به من الخير فقال : 22 - { وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون } أي زدناهم على ما كان لهم من النعيم بفاكهة متنوعة ولحم من أنواع اللحمان مما تشتهيه أنفسهم ويستطيبونه (5/139)
23 - { يتنازعون فيها كأسا } أي يتعاطون ويتناولون كأسا والكأس إناء الخمر ويطلق على كل إناء مملوء من خمر أو غيره فإذا فرغ لم يسم كأسا { لا لغو فيها ولا تأثيم } قال الزجاج : لا يجري بينهم ما يلغى ولا ما فيهم إثم كما يجري بين من يشرب الخمر في الدنيا والتأثيم تفعيل من الإثم والضمير في فيها راجع إلى الكأس وقيل لا لغو فيها : أي في الجنة ولا يجري فيها ما فيه إثم والأول أولى قال ابن قتيبة : لا تذهب بعقولهم فيلغوا كما يكون من خمر الدنيا ولا يكون منهم ما يؤثمهم وقال الضحاك : لا تأثيم : أي لا كذب قرأ الجمهور { لا لغو فيها ولا تأثيم } بالرفع والتنوين فيهما وقرأ ابن كثير وابن محيصن بفتحهما من غير تنوين قال قتادة : اللغو الباطل وقال مقاتل بن حيان : لا فضول فيها وقال سعيد بن المسيب : لا رفث فيها وقال ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها والجملة في محل نصب على الحال صفة لكأسا (5/139)
24 - { ويطوف عليهم غلمان لهم } أي يطوف عليهم بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك مماليك لهم وقيل أولادهم { كأنهم } في الحسن والبهاء { لؤلؤ مكنون } أي مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي قال الكسائي : كننت الشيء : سترته وصنته من الشمس وأكننته : جعلته في الكن ومنه كننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة (5/140)
25 - { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } أي يسأل بعضهم بعضا في الجنة عن حاله وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة فيحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم وما كانوا فيه من الكد والنكد بطلب المعاش وتحصيل ما لا بد منه من الرزق وقيل يقول بعضهم لبعض : بم صرتم في هذه المنزلة الرفيعة ؟ وقيل إن التساؤل بينهم عند البعث من القبور والأول أولى لدلالة السياق على أنهم قد صاروا الجنة (5/140)
وجملة : 26 - { قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل ؟ فقيل : قالوا إنا كنا قبل : أي قبل الآخرة وذلك في الدنيا في أهلنا خائفين وجلين من عذاب الله أو كنا خائفين من عصيان الله (5/140)
27 - { فمن الله علينا } بالمغفرة والرحمة أو بالتوفيق لطاعته { ووقانا عذاب السموم } يعني عذاب جهنم والسموم من أسماء جهنم كذا قال الحسن ومقاتل وقال الكلبي وأبو عبيدة : هو عذاب النار وقال الزجاج : سموم جهنم ما يوجد من حرها قال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد يكون بالليل والحرور بالليل وقد يكون بالنهار وقد يستعمل السموم في لفح البرد وفي لفح الشمس والحر أكثر ومنه قول الشاعر :
( اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا ألومه )
وقيل سميت الريح سموما لأنها تدخل المسام (5/140)
28 - { إنا كنا من قبل ندعوه } أي نوحد الله ونعبده : أو نسأله أن يمن علينا بالمغفرة والرحمة { إنه هو البر الرحيم } قرأ الجمهور بكسر الهمزة على الاستئناف وقرأ نافع والكسائي بفتحها : أي لأنه والبر كثير الإحسان وقيل اللطيف والرحيم كثير الرحمة لعباده (5/140)
29 - { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } أي اثبت على ما أنت عليه من الوعظ والتذكير والباء متعلقة بمحذوف هو الحال : أي ما أنت ملتبسا بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل والنبوة بكاهن ولا مجنون وقيل متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام : أي ما أنت حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا محنون وقيل الباء سببية متعلقة بمضمون الجملة المنفية والمعنى : انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك كما تقول ما أنا بمعسر بحمد الله وقيل الباء للقسم متوسطة بين اسم ما وخبرها والتقدير : ما أنت ونعمة الله بكاهن ولا مجنون والكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي : أي ليس ما تقوله كهانو فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله بإبلاغع والمقصود من الآية رد ما كان يقوله المشركون : إنه كاهن أو مجنون (5/140)
30 - { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } أم هي المنقطعة وقد تقدم الخلاف هل هي مقدرة ببل والهمزة أو ببل وحدها قال الخليل : هي هنا للاستفهام قال سيبويه : خوطب العباد بما جرى في كلامهم قال النحاس : يريد سيبويه أن أم في كلام العرب للخروج من حديث إلى حديث ونتربص في محل رفع صفة لشاعر وريب المنون : صرف الدهر والمعنى : ننتظر به حوادث الأيام فيموت كما مات غيره أو يهلك كما هلك من قبله والمنون يكون بمعنى الدهر ويكون بمعنى المنية قال الأخفش : المعنى نتربص إلى ريب المنون فحذف حرف الجر كما تقول : قصدت زيدا وقصدت إلى زيد ومن هذا قول الشاعر :
( تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت خليلها )
وقول أبي ذؤيب الهذلي :
( أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع )
قال الأصمعي : المنون راحد لا جمع له قال الفراء : يكون واحدا وجمعا وقال الأخفش : هو جمع لا واحد له (5/141)
ثم أمره سبحانه أن يجيب عنهم فقال : 31 - { قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } أي انتظروا موتي أو هلاكي فإني معكم من المتربصين لموتكم أو هلاككم قرأ الجمهور نتربص بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين قرأ زيد بن علي على البناء للمفعول (5/141)
32 - { أم تأمرهم أحلامهم بهذا } أي بل أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض أن الكاهن هو المفرط في الفطنة والذكاء والمجنون : هو ذاهب العقل فضلا عن أن يكون له فطنة وذكاء قال الواحدي : قال المفسرون كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول فأزرأ الله بحلومهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل { أم هم قوم طاغون } أي بل أطغوا وجاوزوا الحد في العناد فقالوا ما قالوا وهذه الإضرابات من شيء إلى شيء مع الاستفهام كما هو مدلول أم المنقطعة تدل على أن ما تعقبها أشنع مما تقدمها وأكثر جرأة وعنادا (5/141)
33 - { أم يقولون تقوله } أي اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله والتقول لا يستعمل إلا في الكذب في الغالب وإن كان أصله تكلف القول ومنه اقتال عليه ويقال اقتال عليه : بمعنى تحكم عليه ومنه قول الشاعر :
( ومنزلة في دار صدق وغبطة ... وما اقتال في حكم علي طبيب )
ثم أضرب سبحانه عن قوله : { تقوله } وانتقل إلى ما هو أشد شناعة عليهم فقال :
{ بل لا يؤمنون } أي سبب صدور هذه الأقوال المتناقضة عنهم كونهم كفارا لا يؤمنون بالله ولا يصدقون ما جاء به رسوله صلى الله عليه و سلم (5/142)
ثم تحداهم سبحانه وألزمهم الحجة فقال : 34 - { فليأتوا بحديث مثله } أي مثل القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه { إن كانوا صادقين } فيما زعموا من قولهم : إن محمدا صلى الله عليه و سلم تقوله وجاء به من جهة نفسه مع أنه كلام عربي وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم والممارسون لجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر
وقد أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال : [ إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر به عينه ثم قرأ { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم } الآية ] وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وقرأ ابن عباس { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم } ] الآية وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { والذين آمنوا } الآية ] وإسناده هكذا قال عبد الله بن أحمد : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي بن أبي طالب قال : [ سألت خديجة النبي صلى الله عليه و سلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هما في النار فلما رأى الكراهة في وجهها قال : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت : يا رسول الله فولدي منك قال : في الجنة قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ { والذين آمنوا } ] الآية وقال الإمام أحمد في المسند : حدثنا يزيد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب من أين لي هذا فيقول باستغفار ولدك لك ] وإسناده صحيح وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم عن ابن عباس { وما ألتناهم } قال : ما نقصناهم وأخرج ابن أبي حاتم عنه { لا لغو فيها } يقول : باطل { ولا تأثيم } يقول كذب وأخرج البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان بما كانوا في الدنيا فيقول أحدهما : يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا ] وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت : لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إنه هو البر } قال : اللطيف وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عنه أن قريشا لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه و سلم قال قائل منهم احبسوه في وثاق وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء : زهير والنابغة إنما هو كأحدهم فأنزل الله في ذلك { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ريب المنون } قال : الموت (5/142)
قوله : 35 - { أم خلقوا من غير شيء } أم هذه هي المنقطعة كما تقدم فيما قبلها وكما سيأتي فيما بعدها : أي بل أخلقوا على هذه الكيفية البديعة والصنعة العجيبة من غير خالق لهم قال الزجاج : أي أخلقوا باطلا لغير شيء لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون وجعل من بمعنى اللام قال ابن كيسان : أم خلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون وقيل المعنى : أم خلقوا من غير أب ولا أم فهم كالجماد لا يفهمون ولا تقوم عليهم حجة { أم هم الخالقون } أي بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم فلا يؤمرون ولا ينهون مع أنهم يقرون أن الله خالقهم وإذا أقروا لزمتهم الحجة (5/143)
36 - { أم خلقوا السموات والأرض } وهم لا يدعون ذلك فلزمتهم الحجة ولهذا أضرب عن هذا وقال { بل لا يوقنون } أي ليسوا على يقين من الأمر بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده (5/144)
37 - { أم عندهم خزائن ربك } أي خزائن أرزاق العباد وقيل : مفاتيح الرحمة قال مقاتل : يقول : أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا ؟ وكذا قال عكرمة : وقال الكلبي : خزائن المطر والرزق { أم هم المصيطرون } أي المسلطون الجبارون قال في الصحاح : المسيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب عمله وأصله من السطر لأن الكتاب يسطر وقال أبو عبيدة : سطرت علي : اتخذتني خولا لك قرأ الجمهور { المصيطرون } بالصاد الخالصة وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام بالسين الخالصة ورويت هذه القراءة عن حفص وقرأ خلاد بصاد مشمة زايا (5/144)
38 - { أم لهم سلم يستمعون فيه } أي بل أيقولون إن لهم سلما منصوبا إلى السماء يصعدون به ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحي إليهم ويصلون به إلى علم الغيب كما يصل إليه محمد صلى الله عليه و سلم بطريق الوحي وقوله فيه صفة لسلم وهي للظرفية على بابها وقيل هي بمعنى على : أي يستمعون عليه كقوله : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } قاله الأخفش وقال أبو عبيدة : يستمعون به وقال الزجاج : المعنى : أنهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه و سلم بالوحي وقيل هي في محل نصب على الحال : أي صاعدين فيه { فليأت مستمعهم } إن ادعى ذلك { بسلطان مبين } أي بحجة واضحة ظاهرة (5/144)
39 - { أم له البنات ولكم البنون } أي بل أتقولون لله البنات ولكم النون سفه سبحانه أحلامهم وضلل عقولهم ووبخهم : أي أيضيفون إلى الله البنات وهي أضعف الصنفين ويجعلون لأنفسهم البنين وهم أعلاهما وفيه إشعار بأن من كان هذا رأيه فهو بمحل سافل في الفهم والعقل فلا يستبعد منه إنكار البعث وجحد التوحيد (5/144)
ثم رجع سبحانه إلى هطاب رسوله صلى الله عليه سلم فقال : 40 - { أم تسألهم أجرا } أي بل أتسألهم أجرا يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة { فهم من مغرم مثقلون } أي من التزام غرامة تطلبها منهم مثقلون : أي مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل قال قتادة : يقول : هل سألت هؤلاء القوم أجرا فجهدهم فلا يستطيعون الإسلام (5/144)
41 - { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } أي بل أيدعون أن عندهم علم الغيب وهو ما في اللوح المحفوظ فهم يكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب قال قتادة هذا جواب لقولهم : { نتربص به ريب المنون } يقول الله : أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون قال ابن قتيبة : معنى يكتبون يحكمون بما يقولون (5/144)
42 - { أم يريدون كيدا } أي مكرا برسول الله صلى الله عليه و سلم فيهلكونه بذلك المكر { فالذين كفروا هم المكيدون } أي الممكور بهم المجزيون بكيدهم فضرر كيدهم يعود عليهم { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } وقد قتلهم الله في يوم بدر وأذلهم في غير موطن ومكر سبحانه بهم { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } (5/145)
43 - { أم لهم إله غير الله } أي بل يدعون أن لهم إلها غير الله يحفظهم ويرزقهم وينصرهم ثم نزه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنعاء فقال : { سبحان الله عما يشركون } أي عن شركهم به أو عن الذين يجعلونهم شركاء له (5/145)
ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم فقال : 44 - { وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم } الكسف جمع كسفة : وهي القطعة من الشيء وانتصاب ساقطا على الحال أو على أنه المفعول الثاني والمركوم : المجعول بعضه عن بعض والمعنى : أنهم إن يروا كسفا من السماء ساقطا عليهم لعذابهم لم ينتهوا عن كفرهم بل يقولون هو سحاب متراكم بعضه على بعض وقد تقدم اختلاف القراء في كسفا قال الأخفش : من قرأ { كسفا } يعني بكسر الكاف وسكون السين جعله واحدا ومن قرأ { كسفا } يعني بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعا (5/145)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يتركهم فقال : 45 - { فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } أي أتركهم وخل عنهم حتى يلاقوا يوم موتهم أو يوم قتلهم ببدر أو يوم القيامة قرأ الجمهور { يلاقوا } وقرأ أبو حيوة يلقوا وقرأ الجمهور : { يصعقون } على البناء للفاعل : وقرأ ابن عامر وعاصم على البناء للمفعول والصعقة : الهلاك على ما تقدم بيانه (5/145)
46 - { يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا } هو بدل من يومهم : أي لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدنيا { ولا هم ينصرون } أي ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع بل هو واقع بهم لا محالة (5/145)
47 - { وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك } أي لهؤلاء الذي ظلموا أنفسه بالكفر والمعاصي عذابا في الدنيا دون عذاب يوم القيامة : أي قبله وهو قتلهم يوم بدر وقال ابن زيد : هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد وقال مجاهد : هو الجوع والجهد سبع سنين وقيل عذاب القبر وقيل المراد بالعذاب هو القحط وبالعذاب الذي يأتي بعده هو قتلهم يوم بدر { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ما يصيرون إليه من عذاب الله وما أعده لهم في الدنيا والآخرة (5/145)
48 - { واصبر لحكم ربك } إلى أن يقع لهم العذاب وعدناهم به { فإنك بأعيننا } أي بمرأى ومنظر منا وفي حفظنا وحمايتنا فلا تبال بهم قال الزجاج : إنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك فلا يصلون إليه { وسبح بحمد ربك حين تقوم } أي نزه ربك عما لا يليق به متلبسا بحمد ربك على إنعامه عليك حين تقوم من مجلسك قال عطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص : يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول : سبحانه الله وبحمده أو سبحانك الله وبحمدك عند قيامه من كل مجلس يجلسه وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع بن أنس : حين تقوم إلى الصلاة قال الضحاك يقول : الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحانه الله بكرة وأصيلا وفيه نظر لأن التكبير يكون بعد القيام لا حال القيام ويكون التسبيح بعد التكبير وهذا غير معنى الآية فالأول أولى وقيل المعنى : صل لله حين تقوم من منامك وبه قال أبو الجوزاء وحسان بن عطية وقال الكلبي : واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر (5/146)
49 - { ومن الليل فسبحه } أمره الله سبحانه أن يسبحه في بعض الليل قال مقاتل : أي صل المغرب والعشاء وقيل : ركعتي الفجر { وإدبار النجوم } أي وقت إدبارها من آخر الليل وقيل صلاة الفجر واختاره ابن جرير وقيل هو التسبيح في إدبار الصلوات قرأ الجمهور { إدبار } بكسر الهمزة على أنه مصدر وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميفع ويعقوب والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع : أي أعقاب النجوم وأدبارها : إذا غربت ودبر الأمر : آخره وقد تقدم الكلام على هذا في سورة ق ؟
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أم هم المصيطرون } قال : المسلطون وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : أم هم المنزلون وأخرجا عنه أيضا { عذابا دون ذلك } قال : عذاب القبر قبل يوم القيامة وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بآخرة إذا قام من المجلس يقول : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فقال رجل : يا رسول الله : إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى قال : كفارة لما يكون في المجلس ] وأخرجه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج الترمذي وابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ] قال الترمذي حسن صحيح وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وسبح بحمد ربك حين تقوم } قال : حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { ومن الليل فسبحه } قال : الركعتان قبل صلاة الصبح وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس { وإدبار النجوم } قال : ركعتي الفجر (5/146)
سورة النجم
هي إحدى وستون آية وقيل ثنتان وستون آية
وهي مكية جميعها في قول الجمهور وروي عن ابن عباس وعكرمة أنها مكية إلا آية منها وهي قوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } الآية وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة النجم بمكة وأخرج أيضا عن ابن الزبير مثله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : أو سورة أنزلت فيها سجدة والنجم فسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : أول سورة استعلن بها النبي صلى الله عليه و سلم يقرأها : والنجم وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال : [ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود ] وأخرج ابن مردويه عن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ النجم فلما بلغ السجدة سجد فيها ] وأخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبي صلى الله عليه و سلم فلم يسجد فيها وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها وأخرج أيضا عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة
قوله 1 - { والنجم إذا هوى } التعريف للجنس والمراد جنس النجوم وبه قال جماعة من المفسرين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
( أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء )
وقيل : المراد به الثريا وهو اسم غلب فيها تقول العرب النجم وتريد به الثريا وبقه قال مجاهد وغيره وقال السدي : النجم هنا هو الزهرة لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها وقيل النجم هنا النبت الذي لا ساق له كما في قوله : { والنجم والشجر يسجدان } قاله الأخفش وقيل النجم محمد صلى الله عليه و سلم وقيل النجم القرآن وسمي نجما لكونه نزل منجما مفرقا والعرب تسمي التفريق تنجيما والمفرق : المنجم وبه قال مجاهد والفراء وغيرهما والأول أولى قال الحسن : المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة وقيل المراد بها النجوم التي ترجم بها الشياطين ومعنى هويه : سقوطه من علو يقال هوى النجم يهوي هويا : إذا سقط من علو إلى سفل وقيل غروبه وقيل طلوعه والأول أولى وبه قال الأصمعي وغيره ومنه قول زهير :
( تسيح بها الأباعر وهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء )
ويقال هوى في السير : إذا مضى ومنه قول الشاعر :
( بينما نحن بالبلاكث فالقا ... ع سراعا والعيس تهوي هويا )
( خطرت خطرة على القلب من ذكـ ... راك وهنا فما استطعت مضيا )
ومعنى الهوي على قول من فسر النجم بالقرآن : أنه نزل من أعلى إلى أسفل وأما على قول من قاله إنه الشجر الذي لا ساق له أو أنه محمد صلى الله عليه و سلم فلا يظهر للهوي معنى صحيح والعامل في الظرف فعل القسم المقدر (5/147)
2 - { ما ضل صاحبكم وما غوى } أي ما ضل محمد صلى الله عليه و سلم عن الحق والهدى ولا عدل عنه والغني : ضد الرشد أي ما صار غاويا ولا تكلم بالباطل وقيل ما خاب فيما طلب والغني : الخيبة ومنه قول الشاعر :
( فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما )
وفي قوله : { صاحبكم } إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله والخطاب لقريش (5/149)
3 - { وما ينطق عن الهوى } أي ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره فعن على بابها وقال أبو عبيدة : إن عن بمعنى الباء : أي بالهوي قال قتادة : أي ما ينطق بالقراءة عن هواه (5/149)
4 - { إن هو إلا وحي يوحى } أي ما هو الذي ينطق به إلا وحي من الله يوحيه إليه وقوله : { يوحى } صفة لوحي تفيد الاستمرار التجددي وتفيد نفي المجاز : أن هو وحي حقيقة لا لمجرد التسمية (5/149)
5 - { علمه شديد القوى } القوى جمع قوة والمعنى : أنه علمه جبريل الذي هو شديد قواه هكذا قال أكثر المفسرين إن المراد جبريل وقال الحسن : هو الله عز و جل والأول أولى وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف (5/149)
6 - { ذو مرة فاستوى } المرة : القوة والشدة في الخلق وقيل ذو صحة جسم وسلامة من الآفات ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ] وقيل ذو حصافة عقل ومتانة رأي قال قطرب : العرب تقول لكل من هو جزل الرأي حصيف العقل ذو مرة ومنه قول الشاعر :
( قد كنت قبل لقائكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه )
والتفسير للمرة بهذا أولى لأن القوة والشدة قد أفادها قوله : { شديد القوى } قال الجوهري : المرة إحدى الطبائع الأربع والمرة : القوة وشدة العقل والفاء في قوله : { فاستوى } للعطف على علمه يعني جبريل : أي ارتفع وعاد إلى مكانه في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه و سلم قاله سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقيل معنى استوى قام في صورته التي خلقه الله عليها لأنه كان يأتي النبي صلى الله عليه و سلم في صورة الآدميين وقيل : المعنى فاستوى القرآن في صدره صلى الله عليه و سلم وقال الحسن : فاستوى يعني الله عز و جل على العرش (5/149)
7 - { وهو بالأفق الأعلى } هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى والمراد بالأفق الأعلى : جانب المشرق وهو فوق جانب المغرب وقيل المعنى : فاستوى عاليا والأفق : ناحية السماء وجمعه آفاق قال قتادة ومجاهد : هو الموضع الذي تطلع منه الشمس وقيل : هو يعني جبريل والنبي صلى الله عليه و سلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة (5/150)
8 - { ثم دنا فتدلى } أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى : أي قرب من الأرض فتدلى فنزل على النبي صلى الله عليه و سلم بالوحي وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : ثم تدلى فدنى قال ابن الأنباري وغيره قال الزجاج : معنى دنا فتدلى واحد : أي قرب وزاد في القرب كما تقول فدنا مني فلان وقرب ولو قلت : قرب مني ودنا جاز قال الفراء : الفاء في فتدلى بمعنى الواو والتقدير : ثم تدلى جبريل ودنا ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أن تقدم أيهما شئت قال الجمهور : والذي دنا فتدلى هو جبريل وقيل هو النبي صلى الله عليه و سلم المعنى : دنا منه أمره وحكمه والأول أولى قيل ومن قال : إن الذي استوى هو جبريل ومحمد فالمعنى عنده : ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى : أي هوى للسجود وبه قال الضحاك (5/150)
9 - { فكان قاب قوسين أو أدنى } أي فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه و سلم أو ما بين محمد وربه قاب قوسين : أي قدر قوسين عربيين والقاب والقيب والقاد والقيد : المقدار ذكر معناه في الصحاح قال الزجاج : أي فيما تقدرون أنتم والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا وقيل أو بمعنى الواو : أي وأدنى وقيل بمعنى بل : أي بل أدنى وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة { فكان قاب قوسين } قدر ذراعين والقوس : الذراع يقاس بها كل شيء وهي لغة بعض الحجازيين وقيل هي لغة أزد شنوءة وقال الكسائي : فكان قاب قوسين أراد قوسا واحدة (5/150)
10 - { فأوحى إلى عبده ما أوحى } أي فأوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم ما أوحى وفيه تفخيم للوحي الذي أوحي إليه والوحي : إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوحا وهو السرعة والضمير في عبده يرجع إلى الله كما في قوله { ما ترك على ظهرها من دابة } وقيل المعنى : فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى وبالأول قال الربيع والحسن وابن زيد وقتادة وقيل فأوحى الله إلى عبده محمد قيل وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل إلى محمد أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل أو إلى محمد ولم يبينه لنا فليس لنا أن نتعرض لتفسيره وقال سعيد بن جبير : الذي أوحي إليه هو { ألم نشرح لك صدرك } الخ و { ألم يجدك يتيما فآوى } الخ وقيل أوحى الله إليه إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك وقيل إن ما للعموم لا للإبهام والمراد كل ما أوحى به إليه والحمل على الإبهام أولى لما فيه من التعظيم { ما كذب الفؤاد ما رأى } أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه و سلم ما رآه بصره ليلة المعراج يقال كذبه : إذا قال له الكذب ولم يصدقه قال المبرد : معنى الآية أنه رأى شيئا فصدق فيه (5/151)
قرأ الجمهور 11 - { ما كذب } مخففا قرأ هشام وأبو جعفر بالتشديد وما في ما رأى موصولة أو مصدرية في محل نصب بكذب مخففا ومشددا (5/151)
12 - { أفتمارونه على ما يرى } قرأ الجمهور { أفتمارونه } بالألف من المماراة وهي المجادلة والملاحاة وقرأ حمزة والكسائي { أفتمارونه } بفتح التاء وسكون الميم : أي أفتجدونه واختار أبو عبيد القراءة الثانية قال : لأنهم لم يماروه وإنما جحدوه يقال مراه حقه : أي جحده ومريته أنا : جحدته قال ومنه قول الشاعر :
( لأن هجوت أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا )
أي جحدته قال المبرد : يقال أمرأه عن حقه وعلى خلقه : إذا منعه منه ودفعه وقيل على بمعنى عن وقرأ ابن مسعود والشعبي ومجاهد والأعرج أفتمرونه بضم التاء من أمريت : أي أتريبونه وتشكون فيه قال جماعة من المفسرين : المعنى على قراءة الجمهور أفتجادلونه وذلك أنهم جادلوه حين أسري به فقالوا : صف لنا مسجد بيت المقدس أي أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه (5/151)
واللام في قوله : 13 - { ولقد رآه نزلة أخرى } هي الموطئة للقسم : أي والله لقد رآه نزلة أخرى والنزلة المرة من النزول قانتصابها على الظرفية أو منتصبة على المصدر الواقع موقع الحال : أي رأى جبريل نازلا نزلة أخرى أو على أنه صفة مصدر مؤكد محذوف : أي رآه رؤية أخرى قال جمهور المفسرين : المعنى أنه رأى محمد جبريل مرة أخرى وقيل رأى محمد ربه مرة أخرى بفؤاده (5/152)
14 - { عند سدرة المنتهى } الظرف منتصب برآه والسدر هو شجر النبق وهذه السدرة هي في السماء السادسة كما في الصحيح وروي أنها في السماء السابعة والمنتهى : مكان الانتهاء أو هو مصدر ميمي والمراد به الانتهاء نفسه قيل إليها ينتهي علم الخلائقولا يعلم أحد منهم ما وراءها وقيل ينتهي إليها ما يعرج به من الأرض وقيل تنتهي علم الخلائق ولا يعلم أحد منهم ما وراءها وقيل ينتهي إليها ما يعرج به من الأرض وقيل تنتهي إليها أرواح الشهداء وقيل غير ذلك وإضافة الشجرة إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه (5/152)
15 - { عندها جنة المأوى } أي عند تلك السدرة جنة تعرف بجنة المأوى وسميت جنة المأوى لأنه أولى إليها آدم وقيل إنها أرواح المؤمنين تأوي إليها قرأ الجمهور { جنة } برفع جنة على أنها مبتدأ وخبرها الظرف المتقدم وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب ومجاهد وأبو سبرة الجهني جنه فعلا ماضيا من جن يجن : أي ضمه المبيت أو سترة إيواء الله له قال الأخفش : أدركه كما تقول جنه الليل أي ستره وأدركه والجملة في محل نصب على الحال (5/152)
16 - { إذ يغشى السدرة ما يغشى } العامل في الظرف رآه أيضا وهو ظرف زمان والذي قبله ظرف مكان والغشيان بمعنى التغطية والستر وبمعنى الإتيان يقال : فلان يغشاني كل حين : أي أتيني وفي الإبهام في قوله : { ما يغشى } من التفخيم ما لا يخفى وقيل يغشاها جراد من ذهب وقيل طوائف من الملائكة وقال مجاهد : رفرف أخضر وقيل رفرف من طيور خضر وقيل غشيها أمر الله والمجيء بالمضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا للصورة البديعة أو للدلالة على الاستمرار التجددي (5/152)
17 - { ما زاغ البصر } أي ما مال بصر النبي صلى الله عليه و سلم عما رآه { وما طغى } أي ما جاوز ما رأى وفي هذا وصف أدب النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك المقام حيث لم يلتفت ولم يمل بصره ولم يمده إلى غير ما رأى وقيل ما جاوز ما أمر به (5/152)
18 - { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } أي والله لقد رأى تلك الليلة من أيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف قيل رأى رفرفا سد الأفق وقيل رأى جبريل في حلة خضراء قد ملأ ما بين السماء والأرض له ستمائة جناح كذا في صحيح مسلم وغيره وقال الضحاك : رأى سدرة المنتهى وقيل هو كل ما رآه تلك الليلة في مسراه وعوده ومن للتبعيض ومفعول رأى الكبرى ويجوز أن يكون المفعول محذوفا أي رأى شيئا عظيما من آيات ربه ويجوز أن تكون من زائدة (5/152)
19 - { أفرأيتم اللات والعزى } (5/153)
20 - { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } لما قص الله سبحانه هذه الأقاصيص قال للمشركين : موبخا لهم ومقرعا { أفرأيتم } أي أخبروني عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها قدرة توصف بها وهل أوحت إليكم شيئا كما أوحى الله إلى محمد أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع ثم ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب وعظم اعتقادهم فيها قال الواحدي وغيره : وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى وهي تأنيث الأعز بمعنى العزيزة ومناة من منى الله الشيء إذا قدره قرأ الجمهور { اللات } بتخفيف التاء فقيل هو مأخوذ من اسم الله سبحانه كما تقدم وقيل أصله لات يليت فالتاء أصيلة وقيل هي زائدة وأصله لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها أو يلتوون عليها ويطوفون بها واختلف القراء هل يوقف عليها بالتاء أو بالهاء ؟ فوقف عليها الجمهور بالتاء ووقف عليها الكسائي بالهاء واختار الزجاج والفراء الوقف بالتاء لاتباع رسم المصحف فإنها تكتب بالتاء وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو الجوزاء وأبو صالح وحميد اللات بتشديد التاء ورويت هذه القراءة عن ابن كثير فقيل هو اسم رجل كان يلت السويق ويطعمه الحاج فلما كان رجلا في رأس جبل يتخذ من لبنها وسمنها حيسا ويطعم الحاج وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وقال الكلبي : كان رجلا من ثقيف له صرمة غنم وقيل إنه عامر بن الظرب العدواني وكان هذا الصنم لثقيف وفيه يقول الشاعر :
( لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر )
قال في الصحاح : واللات اسم صنم لثقيف وكان بالطائف وبعض العرب يقف عليها بالتاء وبعضهم بالهاء { والعزى } صنم قريش وبني كنانة قال مجاهد : هي شجرة كانت بغطفان وكانوا يعبدونها فبعث إليها النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد فقطعها وقيل كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة وقال سعيد بن جبير : العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه وقال قتادة : هي بيت كان يبطن نخلة { ومناة } صنم بني هلال وقال ابن هشام : صنم هذيل وخزاعة وقال قتادة : كانت للأنصار قرأ الجمهور { مناة } بألف من دون همزة وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي بالمد والهمز فأما قراءة الجمهور فاشتقاقها من منى يمنى أي صب لأن دماء النسائك كانت تصب عندها يتقربون بذلك إليها وأما على القراءة الثانية فاشتقاقها من النوء وهو المطر لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء وقيل هما لغتان للعرب ومما جاء على القراءة الأولى قول جرير :
( أزيد مناة توعد بابن تيم ... تأمل أين تاه بك الوعيد )
ومما جاء على القراءة الأخرى قول الحارثي :
( ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة ... على السر فيما بيننا ابن تميم )
وقف جمهور القراء عليها بالتاء اتباعا لرسم المصحف ووقف ابن كثير وابن محيصن عليها بالهاء قال في الصحاح : ومناة اسم صنم كان بين مكة والمدينة والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء وهي لغة قوله : { الثالثة الأخرى } هذا وصف لمناة وصفها بأنها ثالثة وبأنها أخرى والثالثة لا تكون إلا أخرى قال أبو البقاء : فالوصف بالأخرى للتأكيد وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى والعرب إنما تصف به الثانية فقال الخليل : إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآية كقوله : { مآرب أخرى } وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير والتقدير : أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة وقيل إن وصفها بالأخرى لقصد التعظيم لأنها كانت عند المشركين عظيمة وقيل إن ذلك للتحقير والذم وإن المراد المتأخرة الوضيعة كما في قوله : { قالت أخراهم لأولاهم } أي وضعاؤهم لرؤسائهم (5/153)
ثم كرر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها فقال : 21 - { ألكم الذكر وله الأنثى } أي كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث وتجعلون لأنفسهم ما تحبون من الذكور قيل وذلك قوله إن الملائكة بنات الله وقيل المراد كيف تجعلون اللات والعزى ومناة وهي إناث في زعمكم شركاء لله ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث (5/154)
ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية والقسمة المفهومة من الاستفهام قسمة جائرة فقال : 22 - { تلك إذا قسمة ضيزى } قرأ الجمهور { ضيزى } بياء ساكنة بغير همزة وقرأ ابن كثير بهمزة ساكنة والمعنى : أنها قسمة خارجة عن الصواب جائرة عن العدل مائلة عن الحق قال الأخفش : يقال ضاز في الحكم : أي جار وضازه حقه يضيزه ضيزا : أي نقصه وبخسه قال : وقد يهمز وأنشد :
( فإن تنأ عنا نتقصك وإن تغب ... فمحقك مضئوز وأنفك راغم )
وقال الكسائي : ضاز يضيز ضيزا وضاز يضوز ضوزا : إذا تعدى وظلم وبخس وانتقص ومنه قول الشاعر :
( ضازت بنو أسد بحأكمهم ... إذ يجعلون الرأس كالذنب )
قال الفراء : وبعض العرب يقول : ضئزى بالهمز وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع العرب تهمز ضيزى قال البغوي : ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت إنما تكون في الأسماء مثل ذكرى قال المؤرج : كرهوا ضم الضاد في ضيزى وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو فكسروا الضاد لهذه العلة كما قالوا في جمع أبيض بيض وكذا قال الزجاج وقيل هي مصدر كذكرى فيكون المعنى : قسمة ذات جور وظلم (5/154)
ثم رد سبحانه عليهم بقوله : 23 - { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } أي ما الأوثان أو الأصنام باعتبار ما تدعونه من كونها آلهة إلا أسماء محضة ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها لأنها لا تبصر ولا تسمع ولا تعقل ولا تفهم ولا تضر ولا تنفع فليست إلا مجرد أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم قلد الآخر فيها الأول وتبع في ذلك الأبناء الآباء وفي هذا من التحقير لشأنها ما لا يخفى كما تقول في تحقير رجل : ما هو إلا اسم إذا لم يكن مشتملا على صفة معتبرة ومثل هذه الآية قوله تعالى { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } يقال : سميته زيدا وسميته بزيد فقوله سميتموها صفة لأصنام والضمير يرجع إلى الأسماء لا إلى الأصنام : أي جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء وقيل إن قوله هي راجع إلى الأسماء الثلاثة المذكورة والاول أولى { ما أنزل الله بها من سلطان } أي ما أنزل بها من حجة ولا برهان قال مقاتل : لم ينزل لنا كتابا لكم فيه حجة كما تقولون إنها آلهة ثم أخبر عنهم بقوله : { إن يتبعون إلا الظن } أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم وتحقيرا لشأنهم فقال : { وما تهوى الأنفس } أي تميل إليه وتشتهيه من غير التفات إلى ما هو الحق الذي يجب الاتباع له قرأ الجمهور { يتبعون } بالتحتية على الغيبة وقرأ عيسى بن عمر وأيوب وابن السميفع بالفوقية على الخطاب ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود وابن عباس وطلحة وابن وثاب { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } أي البيان الواضح الظاهر بأنها ليس بآلهة والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يتبعون ويجوز أن يكون اعتراضا والأول أولى والمعنى : كيف يتبعون ذلك والحال أن قد جاءهم ما فيه هدى لهم من عند الله على لسان رسوله الذي بعثه الله بين ظهرانيهم وجعله من أنفسهم (5/155)
24 - { أم للإنسان ما تمنى } أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة التي للإنكار فأضرب عن اتباعهم الظن الذي هو مجرد التوهم وعن اتباعهم هوى الأنفس وما تميل إليه وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم (5/156)
ثم علل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله : 25 - { فلله الآخرة والأولى } أي أن أمور الآخرة والدنيا بأسرها لله عز و جل فليس لهم معه أمر من الأمور ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة وأطماعهم الفارغة (5/156)
ثم أكد ذلك وزاد في إبطال ما يتمنونه فقال : 26 - { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا } وكم هنا هي الخبرية المفيدة للتكثير ومحلها الرفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ولما في كم من معنى التكثير جمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك والمعنى : التوبيخ لهم بما يتمنون ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له فكيف بهذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم وهو معنى قوله : { إلا من بعد أن يأذن الله } لهم بالشفاعة { لمن يشاء } أن يشفعوا له { ويرضى } بالشفاعة له لكونه من أهل التوحيد وليس للمشركين في ذلك حظ ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ولا يرضاها لكونهم ليسوا من المستحقين لها
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { والنجم إذا هوى } قال : إذا انصب وأخرج ابن المنذر عنه قال : هو الثريا إذا تدلت وأخرج عنه أيضا قال : أقسم الله أن ما ضل محمد ولا غوى وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ذو مرة } قال : ذو خلق حسن وأخرج أحمد بن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته فسد الأفق وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد فذلك قوله : { وهو بالأفق الأعلى } { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قال : خلق جبريل ] وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح ] وأخرج أحمد عنه أيضا وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { وهو بالأفق الأعلى } قال : مطلع الشمس وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود في قوله : { فكان قاب قوسين أو أدنى } قال : [ رأى النبي صلى الله عليه و سلم جبريل له ستمائة جناح ] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ
في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عنه في قوله : { ما كذب الفؤاد ما رأى } قال : [ رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم جبريل عليه حلقا رفرف أخضر قد ملأ ما بين السماء والأرض ] وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ثم دنا فتدلى } قال : هو محمد صلى الله عليه و سلم دنا فتدلى إلى ربه وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال دنا ربه فتدلى وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { فكان قاب قوسين } قال : دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : القاب القيد والقوسين الذراعين وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه و سلم اقترب من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى ألم تر إلى القوس ما أقربها من الوتر وأخرج النسائي وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { فأوحى إلى عبده ما أوحى } قال : عبده محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج مسلم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله : { ما كذب الفؤاد ما رأى }
{ ولقد رآه نزلة أخرى } قال : رأى محمد ربه بقلبه مرتين وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : رأى محمد ربه وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى ربه بعينه وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال : رأى محمد ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا قال : لقد رأى النبي صلى الله عليه و سلم ربه عز و جل وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد ؟ وقد روي نحو هذا عنه من طرق وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي ذر قال [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم هل رأيت ربك ؟ قال : نور أنى أراه ؟ ] وأخرج مسلم وابن مردويه عنه [ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم هل رأيت ربك ؟ قال : رأيت نورا ] وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه بقلبه ولم يره ببصره وأخرج مسلم عن أبي هريرة في قوله :
{ ولقد رآه نزلة أخرى } قال جبريل وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال : [ لما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ] { إذ يغشى السدرة ما يغشى } قال : فراش من ذهب وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال [ الجنة في السماء السابعة العليا والنار في الأرض السابعة السفلى ] وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان اللات رجلا يلت السويق للحاج وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أن العزى كانت ببطن نخلة وأن اللات كان بالطائف وأن مناة كانت بقديد وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { ضيزى } قال : جائرة لا حق لها (5/156)
27 - { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } أي أن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما بعده من الدار الآخرة وهم الكفار يضمون الى كفرهم مقالة شنعاء وجهالة جهلاء وهي أنهم يسمون الملائكة المنزهين عن كل نقص تسمية الأنثى وذلك أنهم زعموا أنها بنات الله فجعلوهم إناثا وسموهم بنات (5/158)
28 - { وما لهم به من علم } هذه الجملة في محل نصل على الحال : أي يسمونهم هذه التسمية والحال أنهم غير عالمين بما يقولون فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم ولا بلغ غليهم ذلك من طريق من الطرق التي يخبر المخبرون عنها بل قالوا ذلك جهلا وضلالة وجرأة وقرئ { ما لهم به } أي بالملائكة أو التسمية { إن يتبعون إلا الظن } أي ما يتبعون في هذه المقالة إلا مجرد الظن والتوهم ثم أخبر سلحانه عن الظن وحكمه فقال : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } أي إن جنس الظن لا يغني من الحق شيئا من الإغناء والحق هنا العلم وفيه دليل على أن مجرد الظن لا يقوم مقام العلم وأن الظان غير عالم وهذا في الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم وهي المسائل العلمية لا فيما يكتفي فيه بالظن وهي المسائل العلمية وقد قدمنا تحقيق هذا ولا بد من هذا التخصيص فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد ونحو ذلك ظنية فالعمل بها عمل بالظن وقد وجب علينا العمل به في مثل هذه الأمور فكانت أدلة وجوبه العمل به فيها مخصصة لهذا العموم وما ورد في معناه من الذم لمن عمل بالظن والنهي عن اتباعه (5/158)
29 - { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } أي أعرض عمن أعرض عن ذكرنا والمراد بالذكر هنا القرآن أو ذكر الآخرة أو ذكر الله على العموم وقيل المراد بالذكر هنا الإيمان والمعنى : اترك مجادلتهم فقد بلغت إليهم ما أمرت به وليس عليك إلا البلاغ وهذا منسوخ بآية السيف { ولم يرد إلا الحياة الدنيا } أي لم يرد سواها ولا طلب غيرها بل قصر نظره عليها فإنه غير متأهل للخير ولا مستحق للاعتناء بشأنه (5/159)
ثم صغر سبحانه شأنهم وحقر أمرهم فقال : 30 - { ذلك مبلغهم من العلم } أي إن ذلك التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مبلغهم من العلم ليس لهم غيره ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين قال الفراء : أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة وقيل الإشارة بقوله : { ذلك } إلى جعلهم للملائكة بنات الله وتسميتهم لهم تسمية الأنثى والأول أولى والمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك الذي يندرج تحته الظن الفاسد والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم واتباعهم مجرد الظن وقيل معترضة بين المعلل والعلة وهي قوله : { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض والمعنى : أنه سبحانه أعلم بمن حاد عن الحق وأعرض عنه ولم يهتد إليه وأعلم بمن اهتدى فقبل الحق وأقبل إليه وعمل به فهو مجاز كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وإرشاد له بأن لا يتعب نفسه في دعوة من أصر على الضلالة وسبقت له الشقاوة فإن الله قد علم حال هذا الفريق الضال كما علم حال الفريق الراشد (5/159)
ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته وعظيم ملكه فقال : 31 - { ولله ما في السموات وما في الأرض } أي هو المالك لذلك والمتصرف فيه لا يشاركه فيه أحد واللام في { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } متعلقة بما دل عليه الكلام كأنه قال هو مالك ذلك يضل من يشاء ويهدي من يشاء ليجزي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه وقيل إن قوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض } معترضة والمعنى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ليجزى وقيل هي لام العاقبة : أي وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي الله كلا منهما بعمله وقال مكي : إن اللام متعلقة بقوله : { لا تغني شفاعتهم } وهو بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى قرأ الجمهور { ليجزي } بالتحتية وقرأ زيد بن علي بالنون ومعنى { بالحسنى } أي بالمثوبة الحسنى وهي الجنة أو بسبب أعمالهم الحسنى (5/159)
ثم وصف هؤلاء المحسنين فقال : 32 - { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأول في قوله : { الذين أحسنوا } وقيل بدل منه وقيل بيان له وقيل منصوب على المدح بإضمار أعني أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم يجتنبون كبائر الإثم قرأ الجمهور كبائر على الجمع وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب { كبير } على الإفراد والكبائر : كل ذنب توعد الله عليه بالنار أو ذم فاعله ذما شديدا ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل وكما اختلفوا في تحقيق معناها وما هيتها اختلفوا في عددها والفواحش جمع فاحشة : وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا ونحوه وقال مقاتل : كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار والفواحش كل ذنب فيه الحد وقيل الكبائر الشرك والفواحش الزنا وقد قدمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة والاستثناء بقوله : { إلا اللمم } منقطع وأصل اللمم في اللغة ما قل وضغر ومنه : ألم بالمكان قل لبثه فيه وألم بالطعام قل أكله منه قال المبرد : أصل اللم أن تلم بالشيء من غير أن تركبه : يقال ألم بكذا إذا قاربه ولم يخالطه قال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب ومنه قول جرير :
( بنفسي من تجنبه عزيز ... علي ومن زيارته لمام )
وقول الآخر :
( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا )
قال الزجاج : أصل للمم والإلمام ما يعلمه الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه يقال ألممت به : إذا زرته وانصرفت عنه ويقال ما فعلته إلا لماما وإلماما : أي الحين بعد الحين ومنه إلمام الخيال قال الأعمش :
( ألم خيال من قبيلة بعد ما ... وهي حبلها من حبلنا فتصرما )
قال في الصحاح : ألم الرجل من ألمم وهو صغائر الذنوب ويقال هو مقاربة المعصية من غير مواقعة وأنشد غيره :
( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل أن تملينا فما ملك القلب )
وقد اختلفت أقوال أهل العمل في تفسير هذا اللم المذكور في الآية فالجمهور على أنه صغائر الذنوب وقيل هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة وقيل هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب وبه قال مجاهد والحسن والزهري وغيرهم ومنه :
( إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك إلا ألما )
اختار هذا القول الزجاج والنحاس وقيل هو ذنوب الجاهلية فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام وقال نفطويه : هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة قال : والعرب تقول : ما تأتينا إلا إلماما : أي في الحين بعد الحين قال : ولا يكون أن يلم ولا يفعل لأن الفعرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل لا إذا هم ولم يفعل والراجح الأول وجملة { إن ربك واسع المغفرة } تعليل لما تضمنه الاستثناء : أي إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة فليس يخلو عن كونه ذنبا يفتقر إلى مفغرة الله ويحتاج إلى رحمته وقيل إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه ثم ذكر سبحانه إحاطة عمله بأحوال عباده فقال / { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } أي خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم وقيل المراد آدم فإنه خلقه من طين { وإذ أنتم أجنة } أي هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة والأجنة جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن سمي بذلك لاجتنانه : أس استتاره ولهذا قال : { في بطون أمهاتكم } فلا يسمى من خرج عن البطن جنينا والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها { فلا تزكوا أنفسكم } أي لا تمدحوها ولا تبرؤوها عن الآثام ولا تثنوا عليها فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع وجملة { هو أعلم بمن اتقى } مستأنفة مقررة للنهي : أي هو أعلم بمن اتقى عقوبة الله وأخلص العمل له قال الحسن : وقد علم سبحانه من كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة (5/159)
ثم لما بين سبحانه جهالة المشركين على العموم خص بالذم بعضهم فقال : 33 - { أفرأيت الذي تولى } أي تولى عن الخير وأعرض عن اتباع الحق (5/161)
34 - { وأعطى قليلا وأكدى } أي أعطى عطاء قليلا أو أعطى شيئا قليلا وقطع ذلك وأمسك عنه وأصل أكدى من الكدية وهي الصلابة يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر قد أكدى ثم استعملته العرب لمن أعطى فلم يتم ولمن طلب شيئا فلم يبلغ آخره ومنه قول الحطيئة :
( فأعطى قليلا ثم أكدى عطاؤه ... ومن يبذل المعروف في الناس يحمد )
قال الكسائي وأبو زيد ويقال كديت أصابعه : إذا محلت من الحفر وكدت يده : إذا كلت فلم تعمل شيئا وكدت الأرض : إذا قل نباتها وأكديت الأرض : إذ قل نباتها وأكديت الرجل عن الشيء وددته وأكدى الرجل : إذا قل خيره قال الفراء : معنى الآية : أمسك من العطية وقطع وقال المبرد : منع منعا شديدا قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم على دينه فعيره بعض المشركين فترك ورجع إلى شركه قال مقاتل : كان الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فأعطى قليلا من لسانه من الخير ثم قطعه وقال الضحاك : نزلت في النضر بن الحارث وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل (5/161)
35 - { أعنده علم الغيب فهو يرى } الاستفهام للتقريع والتوبيخ والمعنى : أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب فهو يعلم ذلك (5/162)
36 - { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } (5/162)
37 - { أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى } أي ألم يخبر ولم يحدث بما في صحف موسى : يعني أسفاره وهي التوراة وبما في صحف إبراهيم الذي وفى : أي تمم وأكمل ما أمر به قال المفسرون : أي بلغ قومه ما أمر به وأداه إليهم وقيل بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه (5/162)
ثم بين سبحانه ما في صحفهما فقال : 38 - { ألا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى ومعناه : لا تؤخذ نفس بذنب غيرها وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر وخبرها الجملة بعدها ومحل الجملة الجر على أنها بدل من صحف موسى وصحف إبراهيم أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف وقد مضى تفسي هذه الآية في سورة الأنعام (5/162)
39 - { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } عطف على قوله : { ألا تزر } وهذا أيضا مما في صحف موسى والمعنى : ليس له أجر سعيه وجزاء عمله ولا ينفع أحدا عمل أحد وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه : { ألحقنا بهم ذريتهم } وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد ومشروعية دعاء الأحياء للأموات ونحو ذلك ولم يصب من قال : إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور فإن الخاص لا ينسخ العام بل يخصصه فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم (5/162)
40 - { وأن سعيه سوف يرى } أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة (5/162)
41 - { ثم يجزاه } أي يجزى الإنسان سعيه يقال جزاه الله بعمله وجزاه على عمله فالضمير المرفوع عائد إلى الإنسان والمنصوب إلى سعيه وقيل إن الضمير المنصوب راجع إلى الجزاء المتأخر وهو قوله : { الجزاء الأوفى } فيكون الضمير راجعا إلى متأخر عنه هو مفسر له ويجوز أن يكون الضمير المنصوب راجعا إلى الجزاء الذي هو مصدر يجزاه ويجعل الجزاء الأوفى تفسيرا للجزاء المدلول عليه بالفعل كما في قوله : { اعدلوا هو أقرب } قال الأخفش : يقال جزيته الجزاء وجزيته بالجزاء سواه لا فرق بينهما (5/162)
42 - { وأن إلى ربك المنتهى } أي المرجع والمصير إليه سبحانه لا إلى غيره فيجازيهم بأعمالهم وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } قال : الكبائر ما سمى الله فيه النار والفواحش : ما كان فيه حد الدنيا وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله : { إلا اللمم } قال : زنا العينين : النظر وزنا الشفتين : التقبيل وزنا اليدين : البطش وزنا الرجلين : المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم وأخرج مسدد وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه سئل عن قوله : { إلا اللمم } قال : هي النظرة والغمزة والقبلة والمباشرة فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا وأخرج سعيد بن منصور والترمذي وصححه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال في قوله : { إلا اللمم } هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب منها قال : وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( إن تغفر الله تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما )
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { إلا اللمم } يقول : إلا ما قد سلف وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة في قوله : { إلا اللمم } قال : اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود فذلك الإلمام وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس قال : اللمم كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة يكفره الصلاة وهو دون كل موجب فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وأخر عقوبته إلى الآخرة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال : [ كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله عند ذلك { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } الآية كلها ] وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وأعطى قليلا وأكدى } قال : قطع نزلت في العاص بن وائل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : أطاع قليلا ثم انقطع وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والشيرازي في الألقاب والديلمي قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أتدرون ما قوله : { وإبراهيم الذي وفى } قالوا الله ورسوله أعلم قال : وفى عمل يومه بأربع ركعات كان يصليهن وزعم أنها صلاة الضحى ] وفي إسناده جعفر بن الزبير وهو ضعيف وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : سهام الإسلام ثلاثون سهما لم يتممها أحد قبل إبراهيم عليه السلام قال الله : { وإبراهيم الذي وفى } وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : يقول إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى الرؤيا والذي في صحف موسى { ألا تزر وازرة وزر أخرى } إلى آخر الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } إلى آخر الآية ] وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت { والنجم } فبلغ { وإبراهيم الذي وفى } قال : وفى { ألا تزر وازرة وزر أخرى } إلى قوله : { من النذر الأول } وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه قال : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فأنزل الله بعد ذلك { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } فأدخل الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قرأ { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى } استرجع واستكان ] وأخرج الدارقطني في الإفراد والبغوي في تفسيره عن أبي بن كعب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وأن إلى ربك المنتهى } قال : لا فكرة في الرب ] (5/162)
قوله : 43 - { وأنه هو أضحك وأبكى } أي هو الخالق لذلك والقاضي بسببه قال الحسن والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقيل أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه وقال سهل بن عبد الله : أضحك المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط (5/165)
44 - { وأنه هو أمات وأحيا } أي قضى أسباب الموت والحياة ولا يقدر على ذلك غيره وقيل خلق نفس الموت والحياة كما في قوله : { خلق الموت والحياة } وقيل أمات الآباء وأحيا الأبناء وقيل أمات في الدنيا وأحيا للبعث وقيل المراد بهما النوم واليقظة وقال عطاء : أمات بعدله وأحيا بفضله وقيل أمات الكافر وأحيا المؤمن كما في قوله : { أو من كان ميتا فأحييناه } (5/165)
45 - { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } (5/165)
46 - { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى } المراد بالزوجين الذكر والأنثى من كل حيوان ولا يدخل في ذلك آدم وحواء فإنهما لم يخلفا من النطفة : والنطفة الماء القليل ومعنى { إذا تمنى } إذ تصب في الرحم وتدفق فيه كذا قال الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح وغيرهم يقال منى الرجل وأمنى : أي صب المني وقال أبو عبيدة { إذا تمنى } إذا تقدر : يقال منيت الشيء : إذا قدرته ومنى له أي قدر له ومنه قول الشاعر :
( حتى تلاقي ما يمني لك الماني )
والمعنى : أنه يقدر منها الولد (5/165)
47 - { وأن عليه النشأة الأخرى } أي إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث وفاء بوعده قرأ الجمهور { النشأة } بالقصر بوزن الضربة وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمد بوزن الكفالة وهما على القراءتين مصدران (5/165)
48 - { وأنه هو أغنى وأقنى } أي أغنى من شاء وأفقر من شاء ومثله قوله : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } وقوله : { يقبض ويبسط } قال ابن زيد واختاره ابن جرير وقال مجاهد وقتادة والحسن : أغنى : مول وأقنى : أخدم وقيل معنى أقنى : أعطى القنية وهي ما يتأثل من الأموال وقيل معنى أقنى أرضى بما أعطى : أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه قال الجوهري : قنى الرجل قنى مثل غنى غنى : أي أعطاه ما يقتني وأقناه أرضاه والقنى الرضى : قال أبو زيد : تقول العرب من أعطى مائة من البقر فقد أعطى القنى ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطى الغنى ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطى المنى قال الأخفش وابن كيسان : أقنى أفقر وهو يؤيد القول الأول (5/165)
49 - { وأنه هو رب الشعرى } هي كوكب خلف الجوزاء كانت خزاعة تعبدها والمراد بها الشعرى التي يقال لها العبور وهي أشد ضياء من الشعرى التي يقال لها الغميصاء وإنما ذكر سبحانه أنه رب الشعرى مع كونه ربا لكل الأشياء للرد على من كان يعبدها وأول من عبدها أبو كبشة وكان من أشراف العرب وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم ابن أبي كبشة تشبيها له به لمخالفته دينهم كما خالفهم أبو كبشة ومن ذلك قول أبي سفيان يوم الفتح : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة (5/166)
50 - { وأنه أهلك عادا الأولى } وصف عادا بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود قال ابن زيد : قيل لها عادا الأولى لأنهم أول أمة أهلكت بعد نوح وقال ابن إسحاق هما عادان فالأولى أهلكت بالصرصر والأخرى أهلكت بالصيحة وقيل عاد الأولى قوم هود وعاد الأخرى إرم قرأ الجمهور { عادا الأولى } بالتنوين والهمز وقرأ نافع وابن كثير وابن محيصن بنقل حركة الهمزة على اللام وإدغام التنوين فيها (5/166)
51 - { وثمود فما أبقى } أي وأهلك ثمودا كما أهلك عادا فما أبقى أحدا من الفريقين وثمود هم قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود (5/166)
52 - { إنهم كانوا هم أظلم وأطغى } أي أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية أو أظلم وأطغى من مشركي العرب وإنما كانوا كذلك لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم كما في قوله : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } (5/166)
53 - { والمؤتفكة أهوى } الائتفاك الانقلاب : والمؤتفكة مدائن قوم لوط وسميت المؤتكفة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها تقول أفكته إذا قلبته ومعنى أهوى أسقط : أي أهواها جبريل بعد أن رفعها قال المبرد : جعلها تهوي (5/166)
54 - { فغشاها ما غشى } أي ألبسها ما ألبسهم من الحجارة التي وقعت عليها كما في قوله : { فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } وفي هذه العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به وتعظيم له وقيل إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة : أي فغشاها من العذاب ما غشى على اختلاف أنواعه (5/166)
55 - { فبأي آلاء ربك تتمارى } هذا خطاب للإنسان المكذب : أي فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكك وتتمري وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم تعريضا لغيره وقيل لكل من يصلح له وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء : أي نعما مع كون بعضها نقما لا نعما لأنها مشتملة على العبر والمواعظ ولكون فيها انتقام من العصاة وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين قرأ الجمهور تتمارى من غير إدغام وقرأ يعقوب وابن محيصن بإدغام إحدى التاءين في الأخرى (5/166)
56 - { هذا نذير من النذر الأولى } أي هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدمين قبله فإنه أنذركم كما أنذروا قومهم كذا قال ابن جريح ومحمد بن كعب وغيرهما وقال قتادة : يريد القرآن وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى وقيل هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك كذا قال أبو مالك وقال أبو صالح : إن الإشارة بقوله : هذا إلى ما في صحف موسى وإبراهيم والأول أولى (5/167)
57 - { أزفت الآزفة } أي قربت الساعة ودنت سماها آزفة لقرب قيامها وقيل لدنوها من الناس كما في قوله : { اقتربت الساعة } أخبرهم بذلك ليستعدوا لها قال في الصحاح : أزفت الآزفة : يعني القيامة وأزف الرجل عجل ومنه قول الشاعر :
( أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد ) (5/167)
58 - { ليس لها من دون الله كاشفة } أي ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلا الله سبحانه وقيل كاشفة بمعنى انكشاف والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية وقيل كاشفة بمعنى كاشف والهاء للمبالغة كرواية والأول أولى وكاشفة صفة لموصوف محذوف كما ذكرنا والمعنى : أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها وأهوالها أحد غير الله كذا قال عطاء والضحاك وقتادة وغيرهم (5/167)
ثم وبخهم الله سبحانه فقال : 59 - { أفمن هذا الحديث تعجبون } المراد بالحديث القرآن : أي كيف تعجبون منه تكذيبا (5/167)
60 - { وتضحكون } منه استهزاء مع كونه غير محل للتكذيب ولا موضع للاستهزاء { ولا تبكون } خوفا وانزجارا لما فيه من الوعيد الشديد (5/167)
وجملة 61 - { وأنتم سامدون } في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة لتقرير ما فيها والسمود : الغفلة والسهو عن الشيء وقال في الصحاح : سمد سمودا رفع رأسه تكبرا فهو سامد قال الشاعر :
( سوامد الليل خفاف الأزواد )
وقال ابن الأعرابي : السمود اللهو والسامد اللاهي يقال للقينة أسمدينا : أي ألهينابالغناء وقال المبرد : سامدون خامدون قال الشاعر :
( رمى الحدثان نسوة آل عمرو ... بمقدار سمدن له سمودا )
( فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا ) (5/167)
62 - { فاسجدوا لله واعبدوا } لما وبخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن والضحك منه والسخرية به وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره أمر عباده المؤمنين بالسجود لله والعبادة له والفاء جواب شرط محذوف : أي إذا كان الأمر من الكفار كذلك فاسجدوا لله واعبدوا فإنه المستحق لذلك منكم وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى الله عليه و سلم سجد عند تلاوة هذه الآية وسجد معه الكفار فيكون المراد بها سجود التلاوة وقيل سجود الفرض
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وأنه هو أغنى وأقنى } قال : أعطى وأرضى وأخرج ابن جرير عنه { وأنه هو رب الشعرى } قال : هو الكوكب الذي يدعى الشعرى وأخرج الفاكهي عنه أيضا قال : نزلت هذه الآية في خزاعة وكانوا يعبدون الشعرى وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : { هذا نذير من النذر الأولى } قال : محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الآزفة من أسماء القيامة وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل قال : لما نزلت هذه الآية { أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون } فما ضحك النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك إلا أن يتبسم ولفظ عبد بن حميد : فما رؤي النبي صلى الله عليه و سلم ضاحكا ولا متبسما حتى ذهب من الدنيا وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { سامدون } قال : لاهون معرضون عنه وأخرج الفريابي وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه { وأنتم سامدون } قال : الغناء باليمانية كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا وأخرج الفريابي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه ايضا في قوله : { سامدون } قال : كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه و سلم شامخين ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال : خرج علي بن أبي طالب علينا وقد أقيمت الصلاة ونحن قيام ننتظره ليتقدم فقال : ما لكم سامدون لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنتظرون ؟ (5/168)
سورة القمر
ويقال سورة اقتربت وهي خمس وخمسون آية
وهي مكية كلها في قول الجمهور وقال مقاتل : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله { أم يقولون نحن جميع منتصر } إلى قوله : { والساعة أدهى وأمر } قال القرطبي : ولا يصح وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والنحاس والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها نزلت بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : اقتربت تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه قال البيهقي : منكر وأخرج ابن الضريس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه [ من قرأ اقتربت الساعة في كل ليلتين بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ] وأخرج ابن الضريس نحوه عن ليث بن معن عن شيخ من همدان رفعه وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر
قوله : 1 - { اقتربت الساعة وانشق القمر } أي قربت ولا شك أنها قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة ويمكن أن يقال إنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة فكل آت قريب { وانشق القمر } أي وقد انشق القمر وكذا قرأ حذيفة بزيادة قد والمراد الانشقاق الواقع في أيام النبوة معجزة لرسول الله صلى الله عليه و سلم وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف قال الواحدي : وجماعة المفسرين على هذا إلا ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال : المعنى سينشق القمر والعلماء كلهم على خلافه قال : وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة قال ابن كيسان : في الكلام تقديم وتأخير : أي انشق القمر واقترب الساعة وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة وقيل معنى وانشق القمر : وضح الأمر وظهر والعرب تضرب بالقمر المثل فيما وضح وقيل انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه وطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فاقا لانفلاق الظلمة عنه قال ابن كثير : قد كان الانشقاق في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة قال : وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه و سلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات قال الزجاج : زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة (5/169)
والأمر بين في اللغظ وأجماع أهل العلم لأن قوله : 2 - { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } يدل على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة انتهى ولم يأت من خالف الجمهور وقال إن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلا بمجرد استبعاد فقال : لأنه لو انشق في زمن النبوة لم يبق أحد إلا رآه لأنه آية والناس في الآيات سواء ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلا ولا شرعا ولا عادة ومع هذا فقد نقل إلينا بطريق التواتر وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد ويضرب به في وجه قائله
والحاصل أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه انشق ولم يخبرنا بأنه سينشق وإن نظرنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوة وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ واستبعاد من استبعد وسيأتي ذكر بعض ما ورد في ذلك إن شاء الله { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } قال الواحدي : قال المفسرون : لما انشق القمر قال المشركون سحرنا محمد فقال الله : { وإن يروا آية } يعني انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق والإيمان بها ويقولوا سحر قوي شديد يعلوا كل سحر من قولهم استمر الشيء إذا قوي واستحكم وقد قال بأن معنى مستمر : قوي شديد جماعة من أهل العلم قال الأخفش : هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله وبه قال أبو العالية والضحاك واختاره النحاس ومنه قول لقيط :
( حتى استمر على شر لا يزنه ... صدق العزيمة لا رثا ولا ضرعا )
وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة : { سحر مستمر } أي ذاهب من قولهم مر الشيء واستمر إذا ذهب وبه قال قتادة ومجاهد وغيرهما واختاره النحاس وقيل معنى مستمر : دائم مطرد ومنه قول الشاعر :
( ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قديم بمستمر )
أي بدائم باق وقيل مستمر باطل روي هذا عن أبي عبيدة أيضا وقيل يشبه بعضه بعضا وقيل قد مر من الأرض إلى السماء وقيل هو من المرارة : يقال مر الشيء صار مرا : أي مستبشع عندهم وفي هذه الآية أعظم دليل على أن الانشقاق قد كان كما قررنا سابقا (5/170)
ثم ذكر سبحانه تكذيبهم فقال : 3 - { وكذبوا واتبعوا أهواءهم } أي وكذبوا رسول الله وما عاينوا من قدرة الله واتبعوا أهواءهم وما زينه لهم الشيطان الرجيم وجملة { وكل أمر مستقر } مستأنفة لتقرير بطلان ما قالواه من التكذيب واتباع الأهواء : أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية فالخير يستقر بأهل الخير والشر يستقر بأهل الشر قال الفراء : يقول يستقر قرار تكذيبهم وقرار قول المصدقين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب قال الكلبي : المعنى لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف قرأ الجمهور { مستقر } بكسر القاف وهو مرتفع على أنه خبر المبتدأ وهو كل وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بجر مستقر على أنه صفة لأمر وقرأ شيبة بفتح القاف ورويت هذه القراءة عن نافع قال أبو حاتم : ولا وجه لها وقيل لها وجه بتدير مضاف محذوف : أي وكل أمر ذو استقرار أو زمان استقرار أو مكان استقرار على أنه مصدر أو ظرف زمان أو ظرف مكان (5/171)
4 - { ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر } أي ولقد جاء كفار مكة أو الكفار على العموم من الأنباء وهي أخبار الأمم المكذبة المقصوصة علينا في القرآن { ما فيه مزدجر } أي ازدجار على أنه مصدر ميمي يقال زجرته : إذا نهيته عن السوء ووعظته ويجوز أن يكون اسم مكان والمعنى : جاءهم ما فيه موضع ازدجار : أي أنه في نفسه موضع لذلك وأصله مزتجر وتاء الافتعال تقلب دالا مع الزاء والدال والذال كما تقرر في موضعه وقرأ زيد بن علي مزجر بقلب تاء الافتعال زايا وإدعام الزاي في الزاي ومن في قوله : { من الأنباء } للتبعيض وهي ما دخلت عليه في محل نصب على الحال (5/171)
وارتفاع 5 - { حكمة بالغة } على أنها خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ما بدل كل من كل أو بدل اشتمال والمعنى : أن القرآن حكمة قد بلغت الغاية ليس فيها نقص ولا خلل وقرئ بالنصب على أنها حال من ما : أي حال كون ما فيه مزدجر حكمة بالغة { فما تغن النذر } ما يجوز أن تكون استفهامية وأن تكون نافية : أي أي شيء تغني النذر أو لم تغن النذر شيئا والفاء لترتيب عدم الإناء على مجيء الحكمة البالغة والنذر جمع نذير بمعنى المنذر أو بمعنى الإنذار على أنه مصدر (5/172)
ثم أمره سبحانه بالإعراض عنهم فقال : 6 - { فتول عنهم } أي أعرض عنهم حيث لم يؤثر فيهم الإنذار وهي منسوخة لآية السيف { يوم يدع الداع إلى شيء نكر } انتصب الظرف إما بفعل مقدر : أي اذكر وإما يبخرجون المذكور بعده وإما بقوله : { فما تغن } ويكون قوله : { فتول عنهم } اعتراض أو بقوله : { يقول الكافرون } (5/172)
أو بقوله : 7 - { خشعا } وسقطت الواو من يدع اتباعا للفظ وقد وقعت في الرسم هكذا وحذفت الياء من الداع للتخفيف واكتفاء بالكسرة والداع هو إسرافيل والشيء النكر : الأمر الفظيع الذي ينكرونه استعظاما له لعدم تقدم العهد لهم بمثله قرأ الجمهور بضم الكاف وقرأ ابن كثير بسكونها تخفيفا وقرأ مجاهد وقتادة بكسر الكاف وفتح الراء على صيغة الفعل المجهول { خشعا أبصارهم } قرأ الجمهور { خشعا } جمع خاشع وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو { خاشعا } على الإفراد ومنه قول الشاعر :
( وشباب حسن أوجههم من ... إياد بن نزار بن معد )
وقرأ ابن مسعود خاشعة قال الفراء : الصفة إذا تقدمت على الجماعة جاز فيها التذكير والتأنيث والجمع : يعني جمع التكسير لا جمع السلامة لأنه يكون من الجمع بين فاعلين ومثل قراءة الجمهور قول امرئ القيس :
( وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد )
وانتصاب خشعا على الحال من فاعل يخرجون أو من الضمير في عنهم والخشوع في البصر الخضوع والذلة وأضاف الخضوع والذلة وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن العز والذل يتبين فيها { يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر } أي يخرجون من القبور وواحد الأجداث جدث وهو القبر كأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض جراد منتشر : أي منبث في الأقطار مختلط بعضه ببعض (5/172)
8 - { مهطعين إلى الداع } الإهطاع : الإسراع أي قال كونهم مسرعين إلى الداعي وهو إسرافيل ومنه قول الشاعر :
( بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع )
أي مسرعين إليه وقال الضحاك : مقبلين وقال قتادة : عامدين وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت والأول أولى وبه قال أبو عبيدة وغيره وجملة { يقول الكافرون هذا يوم عسر } في محل نصب على الحال من ضمير مهطعين والرابط مقدر أو مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا يكون حينئذ والعسر : الصعب الشديد وفي إسناد هذا القول إلى الكفار دليل على أن اليوم ليس بشديد على المؤمنين (5/173)
ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدك من الأنباء المجملة فقال : 9 - { كذبت قبلهم قوم نوح } أي كذبوا نبيهم وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقوله : { فكذبوا عبدنا } تفسير لما قبله من التكذيب المبهم وفيه مزيد تقرير وتأكيد : أي فكذبوا عبدنا نوحا وقيل المعنى : كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا نوحا بتكذيبهم للرسل فإنه منهم ثم بين سبحانه أنهم لم يقتصروا على مجرد التكذيب فقال : { وقالوا مجنون } أي نسبوا نوحا إلى الجنون وقوله : { وازدجر } معطوف على قالوا : أي وزجر عن دعوى النبوة وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر والدال معطوف على قالوا : أي وزجر عن دعوى النبوة وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر : أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه والأول أولى قال مجاهد : هو من كلام الله سبحانه أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسب بأنواع الأذى قال الرازي : وهذا أصح لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه و سلم بذكر من تقدمه (5/173)
10 - { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } أي دعا ربه على قومه بأني مغلوب من جهة قومي لتمردهم عن الطاعة وزجرهم لي عن تبليغ الرسالة فانتصر لي : أي انتقم لي منهم طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم لما أيس من إجابتهم وعلم تمردهم وعتوهم وإصرارهم على ضلالتهم قرأ الجمهور { أني } بفتح الهمزة : أي بأني وقرأ ابن أبي إسحاق والأعمش بكسر الهمزة ورويت هذه القراءة عن عاصم على تقدير إضمار القول : أي فقال (5/173)
ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به فقال : 11 - { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } أي منصب انصبابا شديدا والهمر : الصب بكثرة يقال : همر الماء والدمع يهر همرا وهمورا : إذا كثر ومنه قول الشاعر :
( أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر )
ومنه قول امرئ القيس يصف عينا :
( راح تمر به الصبا ثم انتحى ... فيه بشؤبوب جنوب منهمر )
قرأ الجمهور { فتحنا } مخففا وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد (5/174)
12 - { وفجرنا الأرض عيونا } أي جعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة والأصل فجرنا عيون الأرض قرأ الجمهور { فجرنا } بالتشديد وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة وعاصم في رواية عنه بالتخفيف قال عبيد بن عمير : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون { فالتقى الماء على أمر قد قدر } أي التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم : أي كائنا على حال قدرها الله وقضى بها وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يرد أحدهما على الآخر بل كان ماء السماء وماء الأرض على سواء قال قتادة : قدر لهم إذ كفروا أن يغرقوا وقرأ الجحدري فالتقى الماآن وقرأ الحسن فالتقى الماوان ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب ومحمد بن كعب (5/174)
13 - { وحملناه على ذات ألواح ودسر } أي وحملنا نوحا على سفينة ذات ألواح وهي الأخشاب العريضة { ودسر } قال الزجاج : هي المسامير التي تشد بها الألواح واحدها دسار وكل شيء أدخل في شيء يشده فهو الدسر وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب وابن زيد وسعيد بن جبير وغيرهم وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة : الدسر ظهر السفينة التي يضربها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء : أي تدفعه والدسر الدفع وقال الليث : الدسار خيط تشد به ألواح السفينة قال في الصحاح : الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ويقال هي المسامير (5/174)
14 - { تجري بأعيننا } أي بمنظر ومرأى منا وحفظ لها كما في قوله : { واصنع الفلك بأعيننا } وقيل بأمرنا وقيل بوحينا وقيل بالأعين النابعة من الأرض وقيل بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها { جزاء لمن كان كفر } قال الفراء : فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به وجحد أمره وهو نوح عليه السلام فإنه كان لهم نعمة كفروها فانتصاب جزاء على العلة وقيل على المصدرية بفعل مقدر : أي جازيناهم جزاء قرأ الجمهور { كفر } مبنيا للمفعول والمراد به نوح وقيل هو الله سبحانه فإنهم كفروا به وجحدوا نعمته وقرأ يزيدي بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد وعيسى كفر بفتح الكاف والفاء مبنيا للفاعل : أي جزاء وعقابا لمن كفر بالله (5/174)
15 - { ولقد تركناها آية } أي السفينة تركها الله عبرة للمعتبرين وقيل المعنى : ولقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وموعظة { فهل من مدكر } أصله مذتكر فأبدلت التاء دالا مهملة ثم أبدلت المعجمة مهملة لتقاربهما وأدغمت الدال في الذال والمعنى : هل من معتظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها (5/175)
16 - { فكيف كان عذابي ونذر } أي إنذاري قال الفراء : الإنذار والنذر مصدران والاستفهام للتهويل والتعجيب : أي كانا على كيفية هائلة عجيبة لا يحيط بها الوصف وقيل نذر جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار (5/175)
17 - { ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه وقيل هيأناه للتكذر والاتعاظ { فهل من مدكر } أي متعظ بمواعظه ومعتبر بعبره وفي الآية الحث على درس القرآن والاستكثار من تلاوته والمسارعة في تعلمه ومدكر أصله مذتكر كما تقدم قريبا
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس [ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ] وروي عنه من طريق أخرى عند مسلم والترمذي وغيرهم قال : فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر } وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : [ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقتين : فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اشهدوا ] وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه قال : رأيت القمر منشقا شقتين مرتين : مرة بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه و سلم : شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء وذكر أن هذا سبب نزول الآية وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم عنه أيضا قال : رأيت القمر وقد انشق وأبصرت الجبل بين فرجتي القمر وله طرق عنه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } قال : كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم انشق فرقتين : فرقة من دون الجبل وفرقة خلفه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اشهد وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم عن أبي في قوله : { وانشق القمر } قال : انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى صار فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقال الناس : سحرنا محمد فقال رجل : إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن عبد الرحمن السلمي قال : [ خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } ألا وإن الساعة قد اقتربت ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق اليوم المضمار وغدا السباق ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مهطعين } قال : ناظرين وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } قال كثير : لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتقى الماآن وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا { على ذات ألواح ودسر } قال : الألواح ألواح السفينة والدسر : معاريضها التي تشد بها السفينة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله : { ودسر } قال : المسامير وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : الدسر كلكل السفينة وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا في قوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } قال : لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلموا بكلام الله وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس { فهل من مدكر } قال : هل من متذكر (5/175)
قوله : 18 - { كذبت عاد } هم قوم عاد { فكيف كان عذابي ونذر } أي فاسمعوا كيف كان عذابي لهم وإنذاري إياهم ونذر مصدر بمعنى إنذار كما تقدم تحقيقه والاستفهام للتهويل والتعظيم (5/177)
19 - { إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا } هذه الجملة مبينة لما أجمله سابقا من العذاب والصرصر شدة البرد : أي ريح شديدة البرد وقيل الصرصر شدة الصوت وقد تقدم بيان في سورة حم السجدة { في يوم نحس مستمر } أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه وقد كانوا يتشاءمون بذلك اليوم قال الزجاج : قيل في يوم الأربعاء في آخر الشهر قرأ الجمهور { في يوم نحس } بإضافة يوم إلى نحس مع سكون الحاء وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة أو على تقدير مضاف أي في يوم عذاب نحس وقرأ الحسن بتنوين يوم على أن نحس صفة له وقرأ هارون بكسر الحاء قال الضحاك : كان ذلك اليوم مرا عليهم وكذا حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا : هو من المرارة وقيل هو من المرة بمعنى القوة : أي في يوم قوي الشؤم مستحكمه كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه والظاهر أنه من الاستمرار لا من المرارة ولا من المرة : أي دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم (5/177)
وجملة 20 - { تنزع الناس } في محل نصب على أنها صفة لريحا أو حال منها ويجوز أن يكون استئنافا : أي تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها قال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض فترمي بهم على رؤوسهم فتدق أعناقهم وتبين رؤوسهم من أجسادهم وقيل تنزع الناس من البيوت وقيل من قبورهم لأنهم حفروا حفائر ودخلوها { كأنهم أعجاز نخل منقعر } الأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء والمنقعر : المنقطع المنقلع من أصله يقال قعرت النخلة : إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس وذلك أن الريح قلعت رؤوسهم أولا ثم كتبتهم على وجوههم وتذكير منقعر مع كونه صفة لأعجاز نخل وهي مؤنثة اعتبارا باللفظ ويجوز تأنيثه اعتبارا بالمعنى كما قال { أعجاز نخل خاوية } قال المبرد : كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا أو إلى المعنى تأنيثا وقيل إن النخل والنخيل يذكر هذا الباب إن شئت رددته إلى اللغظ تذكيرا أو إلى المعنى تأنيثا وقيل إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث (5/177)
21 - { فكيف كان عذابي ونذر } قد تقدم تفسيره قريبا (5/178)
وكذلك قوله : 22 - { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } (5/178)
ثم لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه بتكذيب ثمود فقال : 23 - { كذبت ثمود بالنذر } يجوز أن يكون جمع نذير : أي كذبت بالرسل المرسلين إليهم ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإنذار : أي كذبت بالإنذار الذي أنذروا به وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيبا للرسل لأن من كذب واحدا من الأنبياء الذي أنذروا به وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيبا للرسل لأن من كذب واحدا من الأنبياء فقد كذب سائرهم لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع (5/178)
24 - { فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه } الاستفهام للإنكار : أي كيف نتبع بشرا كائنا من جنسنا منفردا وحده لا متابع له على ما يدعوا إليه قرأ الجمهور بنصب بشرا على الاشتغال : أي أنتبع بشرا واحدا وقرأ أبو السماك والداني وأبو الأشهب وابن السميفع بالرفع على الابتداء وواحدا صفته ونتبعه خبره وروي عن أبي السماك أنه قرأ برفع بشرا ونصب واحدا على الحال { إنا إذا لفي ضلال } أي إنا إذا اتبعناه لفي خطأ وذهاب عن الحق { وسعر } أي عذاب وعناء وشدة كذا قال الفراء وغيره وقال أبو عبيدة : هو جمع سعير وهو لهب النار والسعر : الجنون يذهب كذا وكذا لما يلتهب به من الحدة وقال مجاهد : وسعر وبعد عن الحق وقال السدي : في احتراق وقيل المراد به هنا الجنون من قولهم : ناقة مسعورة : أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة ومنه قول الشاعر يصف ناقة :
( تخال بها سعرا إذا السعر هزها ... ذميل وإيقاع من السير متعب ) (5/178)
ثم كرروا الإنكار والاستبعاد فقالوا : 25 - { أألقي الذكر عليه من بيننا } أي كيف خص من بيننا بالوحي والنبوة وفينا من هو أحق بذلك منه ؟ ثم أضربوا عن الاستنكار وانتقلوا إلى الجزم بكونه كذابا أشرا فقالوا : { بل هو كذاب أشر } والأشر : المرح والنشاط أو البطر والتكبر وتفسيره بالبطر والتكبر أنسب بالمقام ومنه قول الشاعر :
( أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى )
قرأ الجمهور { أشر } كفرح وقرأ أبو قلابة وأبو جعفر بفتح الشين وتشديد الراء على أنه أفعل تفضيل ونقل الكسائي عن مجاهد أنه قرأ بضم الشين مع فتح الهمزة (5/178)
ثم أجاب سبحانه عليهم بقوله : 26 - { سيعلمون غدا من الكذاب الأشر } والمراد بقوله غدا وقت نزول العذاب بهم في الدنيا أو في يوم القيامة جريا على عادة الناس في التعبير بالغد عن المستقبل من الأمر وإن بعد كما في قولهم : إن مع اليوم غدا وكما في قول الحطيئة :
( للموت فيها سهام غير مخطئة ... من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا )
ومنه قول أبي الطماح :
( ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقيل اضطراب النفس بين الجوانح )
( وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح )
قرأ الجمهور { سيعلمون } بالتحتية إخبار من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدة وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة بالفوقية على أنه خطاب من صالح لقومه (5/179)
وجملة 27 - { إنا مرسلو الناقة } مستأنفة لبيان ما تقدم إجماله من الوعيد : أي إنا مخرجوها من الصخرة على حسب ما اقترحوه { فتنة لهم } أي ابتلاء وامتحانا وانتصاب فتنة على العلة { فارتقبهم } أي انتظر ما يصنعون { واصطبر } على ما يصيبك من الأذى منهم (5/179)
28 - { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } أي بين ثمود وبين الناقة لها يوم ولهم يوم كما في قوله : { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } وقال : نبئهم بضمير العقلاء تغليبا { كل شرب محتضر } الشرب بكسر الشين الخظ من الماء ومعنى محتضر : أنه يحضره من هو له فالناقة تحضره يوما وهم يحضرونه يوما قال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون قرأ الجمهور { قسمة } بكسر القاف بمعنى مقسوم وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها (5/179)
29 - { فنادوا صاحبهم } أي نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضونه على عقرهم { فتعاطى فعقر } أي تناول الناقة بالعقر فعقرها أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر قال محمد بن إسحاق : كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكسر عرقوبها ثم نحرها والتعاطي : تناول الشيء بتكلف (5/179)
30 - { فكيف كان عذابي ونذر } قد تقدم تفسير في هذه السورة (5/180)
ثم بين ما أجمله من العذاب فقال : 31 - { إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة } قال عطاء : يريد صيحة جبريل وقد مضى بيان هذا في سورة هود وفي الأعراف { فكانوا كهشيم المحتظر } قرأ الجمهور بكسر الظاء والهشيم : حطام الشجر ويابسه والمتحظر : صاحب الحظيرة وهو الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الريح يقال احتظر على غنمه : إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض قال في الصحاح : والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية بفتح الظاء : أي كهشيم الحظيرة فمن الذي يعمل الحظيرة وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية بفتح الظاء : أي كهشيم الحظيرة فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة وهي فعيلة بمعنى مفعولة ومعنى الآية أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة وداسته الغنم بعد سقوطه ومنه قول الشاعر :
( أثرن عجاجه كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم )
وقال قتادة : هو العظام النخرة المحترقة وقال سعيد بن جبير : هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح وقال سفيان الثوري : هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصي قال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما ومنه قول الشاعر :
( ترى جيف المطي بجانبيه ... كأن عظامها خشب الهشيم ) (5/180)
32 - { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } قد تقدم تفسير هذا في هذه السورة (5/180)
ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله كما كذبهم غيرهم فقال : 33 - { كذبت قوم لوط بالنذر } وقد تقدم تفسير النذر قريبا (5/180)
ثم بين سبحانه ما عذبهم به فقال : 34 - { إنا أرسلنا عليهم حاصبا } أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى قال أبو عبيدة وانضر بن شميل : الحاصب : الحجارة في الريح قال في الصحاح : الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء ومنه قول الرزدق :
( مستقبلين شمال الشام يضربها ... بحاصب كنديف القطن منتور )
{ إلا آل لوط نجيناهم بسحر } يعني لوطا ومن تبعه والسحر آخر الليل وقيل هو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار وانصرف سحر لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة ولو قصد معينا لامتنع كذا قال الزجاج والأخفش وغيرهما (5/180)
وانتصاب 35 - { نعمة من عندنا } على العلة أو على المصدرية : أي إنعاما منا على لوط ومن تبعه { كذلك نجزي من شكر } أي مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها (5/180)
36 - { ولقد أنذرهم بطشتنا } أي أنذر لوط قومه بطشة الله بهم وهي عذابه الشديد وعقوبته البالغة { فتماروا بالنذر } أي شكوا في الإنذار ولم يصدقوه وهو تفاعلوا من المرية وهي الشك (5/181)
37 - { ولقد راودوه عن ضيفه } أي أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة ليفجروا بهم كما هو دأبهم يقال راودته عن كذا مراودة وروادا : أي أردته وراد الكلام يردوه رودا : أي طلبه وقد تقدم تفسير المراودة مستوفى في سورة هود { فطمسنا أعينهم } أي صيرنا أعينهم ممسوحة لا يرى لها شق كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب وقيل أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها قال الضحاك طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل فرجعوا { فذوقوا عذابي ونذر } قد تقدم تفسيره في هذه السورة (5/181)
38 - { ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر } أي أتاهم صباحا عذاب مستقر بهم نازل عليهم لا يفارقهم ولا ينفك عنهم قال مقاتل : استقر بهم العذاب بكرة وانصراف بكرة لكونه لم يرد بها وقتا بعينه كما سبق في بسحر (5/181)
39 - { فذوقوا عذابي ونذر } (5/181)
40 - { فذوقوا عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } قد تقدم تفسير هذا في هذه السورة ولعل وجه تكرير تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الاشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا } قال : باردة { في يوم نحس } قال أيام شداد وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يوم الأربعاء يوم نحس مستمر ] وأخرجه عنه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا وأخرجه ابن مردويه عن علي مرفوعا وأخرجه ابن مردويه أيضا عن أنس مرفوعا وفيه [ قيل : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : أغرق الله فيه فرعون وقومه وأهلك فيه عادا وثمودا ] وأخرج ابن مردويه والخطيب بسند قال السيوطي : ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر ] وأخرج ابن المنذر عنهم { كأنهم أعجاز نخل } قال : أصول النخل { منقعر } قال : منقلع وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : أعجاز سواد النخل وأخرج ابن المنذر عنه أيضا { وسعر } قال شقاء وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال { كهشيم المحتظر } قال : كحظائر من الشجر محترقة وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : كالعظام المحترقة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال : كالحشيش تأكله الغنم (5/181)
41 - { النذر } يجوز أن يكون جمع نذير ويجوز أن يكون مصدر بمعنى الإنذار كما تقدم وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى (5/182)
وهذا أولى لقوله : 42 - { كذبوا بآياتنا كلها } فإنه بيان لذلك والمراد بها الآيات التسع التي تقدم ذكرها { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } أي أخناهم بالعذاب أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء (5/182)
ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال : 43 - { أكفاركم خير من أولئكم } والاستفهام للإنكار والمعنى النفي : أي ليس كفاركم يا أهل مكة أو يا معشر العرب خير من كفار مكة من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم فكيف تطمعون في السلامة من العذاب وأنتم شر منهم ثم أضرب سبحانه عن ذلك وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر هو أشد من التبكيت بالوجه الأول فقال : { أم لكم براءة في الزبر } والزبر هي الكتب المنزلة على الأنبياء والمعنى : إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء (5/182)
ثم أضرب عن هذا التبكيت وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر فقال : 44 - { أم يقولون نحن جميع منتصر } أي جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوتنا أو أمرنا مجتمع لا نغلب وأفرد نتصرا اعتبارا بلفظ جميع قال الكلبي : المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا (5/182)
فرد الله سبحانه عليهم بقوله : 45 - { سيهزم الجمع } أي جمع كفار مكة أو كفار العرب على العموم قرأ الجمهور { سيهزم } بالتحتية مبنيا للمفعول وقرأ ورش عن يعقوب { سيهزم } بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالتحتية مبنيا للفاعل وقرئ بالفوقية مبنيا للفاعل { ويولون الدبر } قرأ الجمهور { يولون } بالتحتية وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب والمراد بالدبر الجنس وهو في معنى الإدبار وقد هزمهم الله يوم بدر وولوا الأدبار وقتل رؤساء الشرك وأساطير الكفر فلله الحمد (5/182)
46 - { بل الساعة موعدهم } أي موعد عذابهم الأخروي وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب وإنما هو مقدمة من مقدماته وطليعة من طلائعه ولهذا قال : { والساعة أدهى وأمر } أي وعذاب الساعة أعظم في الضر وأفظع مأخوذ من الدهاء وهو النكر والفظاعة ومعنى أمر : أشد مرارة من عذاب الدنيا يقال دهاه أمر كذا : أي أصابه دهوا ودهيا (5/183)
47 - { إن المجرمين في ضلال وسعر } أي في ذهاب عن الحق وبعد عنه وقد تقدم في هذه السورة تفسير وسعر فلا نعيده (5/183)
48 - { يوم يسحبون في النار على وجوههم } والظرف منتصب بما قبله : أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون أو بقول مقدر بعده : أي يوم يسحبون يقال لهم : { ذوقوا مس سقر } أي قاسوا حرها وشدة عذابها وسقر علم لجهنم وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين مس في سين سقر (5/183)
49 - { إنا كل شيء خلقناه بقدر } قرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال وقرأ أبو السماك بالرفع والمعنى : أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبسا بقدر قدره وقضاء قضاه سبق في علنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه والقدر التقدير وقد قدمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى (5/182)
50 - { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } أي إلا مرة واحدة أو كلمة واحدة كلمح بالبصر في سرعته واللمح : النظر على العجلة والسرعة وفي الصحاح لمحه وألمحه : إذا أبصره بنظر خفيف والاسم اللمحة قال الكلبي : وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر (5/183)
51 - { ولقد أهلكنا أشياعكم } أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم وقيل أتباعكم وأعوانكم { فهل من مدكر } يتذكر ويتعظ بالمواعظ ويعلم أن ذلك حق فيخاف العقوبة وأن يحل به ما حل بالأمم السالفة (5/183)
52 - { وكل شيء فعلوه في الزبر } أي جميع ما فعلته الأمم من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ وقيل في كتب الحفظة (5/183)
53 - { وكل صغير وكبير مستطر } أي كل شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم مسطور في اللوح المحفوظ صغيره وكبيره وجليله وحقيره يقال : سطر يسطر سطرا كتب وأسطر مثله (5/183)
54 - { إن المتقين في جنات ونهر } أي في بساتين مختلفة وجنان متنوعة وأنها متدفقة قرأ الجمهور { ونهر } بفتح الهاء على الإفراد وهو جنس يشمل أنهار الجنة وقرأ مجاهد والأعرج وأبو السماك بسكون الهاء وهما لغتان وقرأ أبو مجلز وأبو نهشل والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة نهر بضم النون والهاء على الجمع (5/183)
55 - { في مقعد صدق } أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة { عند مليك مقتدر } أي قادر على ما يشاء لا يعجزه شيء وعند هاهنا كناية عن الكرامة وشرف المنزلة وقرأ عثمان البتي في مقاعد صدق
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { أكفاركم خير من أولئكم } يقول : ليس كفاركم خير من قوم نوح وقوم لوط وأخرج ابن أبي شيبة وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه في قوله : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } قال : كان ذلك يوم بدر قالوا : { نحن جميع منتصر } فنزلت هذه الآية وفي البخاري وغيره عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال وهو في قبة له يوم بدر : [ أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا فأخذ أبو بكر بيده وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع ويقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } ] وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة قال : [ جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم يخاصمونه في القدر فنزلت { يوم يسحبون في النار على وجوههم } ] وأخرج مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل شيء بقد حتى العجز والكيس ] وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { وكل صغير وكبير مستطر } قال : مسطور في الكتاب اهـ (5/183)
سورة الرحمن
هي ست وسبعون آية
وهي مكية قال القرطبي : كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر قال : قال ابن عباس إلا آية منها وهي قوله : { يسأله من في السموات والأرض } الآية وقال ابن مسعود ومقاتل هي مدنية كلها والأول أصح ويدل عليه ما أخرجه النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة الرحمن بمكة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : أنزل بمكة سورة الرحمن وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة الرحمن علم القرآن بمكة وأخرج أحمد وابن مردويه قال السيوطي : بسند حسن عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمنر والمشركون يسمعون { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ويؤيد القول الثاني ما أخرجه ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة الرحمن بالمدينة ويمكن الجمع بين القولين بأنه نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة وأخرج الترمذي وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال : مالي أراكم سكوتا لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كلما أتيت على قوله : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } قالوا : لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ] قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد وحكي عن الإمام أحمد أنه كان يستنكر روايته عن زهير وقال البزار : لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه وأخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الإفراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه من حديث ابن عمر وصحح السيوطي إسناده وقال البزار : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد وأخرج البيهقي في الشعب عن علي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لكل شيء عروس وعروس القرآن الرحمن ]
قوله : 1 - { الرحمن } (5/184)
قوله : 2 - { الرحمن * علم القرآن } ارتفاع الرحمن على أنه مبتدأ وما بعده من الأفعال أخبار له ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف : أي الله الرحمن قال الزجاج : معنى { علم القرآن } يسره قال الكلبي : علم القرآن محمد وعلمه محمد أمته وقيل جعله علامة لما يعبد الناس به قيل نزلت هذه الآية جوابا لأهل مكة حين قالوا إنما يعلمه بشر وقيل جوابا لقولهم : وما الرحمن ؟ ولما كانت هذه السورة لتعداد نعمه التي أنعم بها على عباده قدم النعمة التي هي أجلها قدرا وأكثرها نفعا وأتمها فائدة وأعظمها عائدة وهي نعمة تعليم القرآن فإنها مدار سعادة الدارين وقطب رحى الخيرين وعماد الأمرين (5/186)
ثم امتن بعد هذه النعمة بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور ورجع جميع الأشياء فقال : 3 - { خلق الإنسان } ثم امتن ثالثا بتعليمه البيان الذي يكون به التفاهم ويدر عليه التخاطب وتتوقف عليه مصالح المعاش والمعاد لأنه لا يمكن إبراز ما في الضمائر ولا إظهار ما يدور في الخلد إلا به قال قتادة والحسن : المراد بالإنسان هاهنا محمد صلى الله عليه و سلم وبالبيان الحلال من الحرام والهدى من الضلال وهو بعيد وقال الضحاك : البيان الخير والشر وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه مما يضره وقيل البيان الكتابة بالقلم والأولى حمل الإنسان على الجنس وحمل البيان على تعليم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به (5/186)
4 - { علمه البيان } (5/186)
5 - { الشمس والقمر بحسبان } أي يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها ويدلان بذلك على عدد الشهور والسنين قال قتادة وأبو مالك : يجريان بحسبان في منازلهم لا يعدوانهم ولا يحيدان عنها وقال ابن زيد وابن كيسان : يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال والأعمال ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب لأن الدهر يكون كله ليلا أو نهارا وقال الضحاك : معنى بحسبان : بقدر وقال مجاهد : بحسبان كحسبان الرحى : يعني قطبهما الذي يدوران عليه قال الأخفش : الحسبان جماعة الحساب مثل شهب وشهبان وأما الحسبان بالضم فهو العذاب كما مضى في سورة الكهف (5/186)
6 - { والنجم والشجر يسجدان } النجم ما لا ساق له من النبات والشجر ما له ساق قال الشاعر :
( لقد أنجم القاع الكثير عضاهه ... وتم به حيا تميم ووائل )
وقال زهير :
( مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الجنوب لضاحي ما به حبك )
والمراد بسجودهما انقيادهما لله تعالى انقياد الساجدين من المكلفين وقال الفراء : سجودهما أنها يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حين ينكسر الفيء وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما كما في قوله : { يتفيأ ظلاله } وقال الحسن ومجاهد : المراد بالنجم نجم السماء وسجوده طلوعه ورجح هذا ابن جرير وقيل سجوده أفوله وسجود الشجر : تمكينها من الاجتناء لثمارها قال النحاس : أصل السجود الاستسلام والانقياد لله وهذه الجملة والتي قبلها خبران آخران للرحمن وترك الرابط فيهما لظهوره كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدا له (5/186)
7 - { والسماء رفعها } قرأ الجمهور بنصب السماء على الاشتغال وقرأ أبو السماك بالرفع على الابتداء والمعنى : أنه جعل السماء مرفوعة فوق الأرض { ووضع الميزان } المراد بالميزان العدل : أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به كذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم (5/187)
قال الزجاج : المعنى أنه أمرنا بالعدل ويدل عليه : قوله : 8 - { أن لا تطغوا في الميزان } أي لا تجاوزوا العدل وقال الحسن والضحاك : المراد به آلة الوزن ليتوصل بها إلى الإنصاف والانتصاف وقيل الميزان القرآن لأن فيه بيان ما يحتاج إليه وبه قال الحسين بن الفضل والأول أولى (5/187)
ثم أمر سبحانه بإقامة العدل بعد إخباره للعباد بأنه وضعه لهم فقال : 9 - { وأقيموا الوزن بالقسط } أي قوموا وزنكم بالعدل وقيل المعنى : أقيموا لسان الميزان بالعدل وقيل المعنى : أنه وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال وأن في قوله : ألا تطغوا مصدرية : أي لئلا تطغوا ولا نافية : أي وضع الميزان لئلا تطغوا وقيل هي مفسرة لأن في الوضع معنى القول والطغيان مجاوزة الحد فمن قال الميزان العدل قال طغيانه الجور ومن قال الميزان الآلة التي يوزن بها قال طغيانه البخس { ولا تخسروا الميزان } أي لا تنقصوه : أمر سبحانه أولا بالتسوية ثم نهى عن الطغيان الذي هو المجاوزة للحد بالزيادة ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس قرأ الجمهور { تخسروا } بضم التاء وكسر السين من أخسر وقرأ بلال بن أبي برزة وأبان بن عثمان وزيد بن علي بفتح التاء والسين من خسر وهما لغتان : يقال أخسرت الميزان وخسرته (5/187)
ثم لما ذكر سبحانه أنه رفع السماء ذكر أنه وضع الأرض فقال : 10 - { والأرض وضعها للأنام } أي بسطها على الماء لجميع الخلق مما له روح وحياة ولا وجه لتخصيص الأنام بالإنس والجن قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال وقرأ أبو السماك بالرفع على الابتداء (5/187)
وجملة 11 - { فيها فاكهة } في محل نصب على أنها حال من الأرض مقدرة وقيل مستأنفة لتقرير مضمون الجملة التي قبلها والمراد بها كل ما يتفكه به من أنواع الثمار ثم أفرد سبحانه النخل بالذكر لشرفه ومزيد فائدته على سائر الفواكه فقال : { والنخل ذات الأكمام } الأكمام جمع كم بالكسر وهو وعاء التمر قال الجوهري : والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء التنور والجمع كمام وأكمة وأكمام قال الحسن : ذات الأكمام : أي ذات الليف فإن النخلة تكمم بالليف وكمامها ليفها وقال ابن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتق وقال عكرمة : ذات الأحمال (5/187)
12 - { والحب ذو العصف والريحان } الحب هو جميع ما يقتات من الحبوب والعصف قال السدي والفراء : هو بقل الزرع وهو أول ما ينبت به قال ابن كيسان : يبدوا أولا ورقا وهو العصف ثم يبدو له ساق ثم يحدث الله فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب قال الفراء : والعرب تقول خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك وكذا قال الصحاح وقال الحسن : العصف التبن وقال مجاهد : هو ورق الشجر والزرع وقيل هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رأسه ويبس ومنه قوله : { كعصف مأكول } وقيل هو الزرع الكثير يقال قد أعصف الزرع ومكان معصف : أي كثير الزرع ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
( إذا جمادى منعت قطرها ... إن جناني عطن معصف )
والريحان الورق في قول الأكثر وقال الحسن وقتادة والضحاك وابن زيد : إنه الريحان الذي يشم وقال سعيد بن جبير هو ما قام على ساق وقال الكلبي : إن العصف هو الورق الذي لا يؤكل والريحان هو الحب المأكول وقال الفراء أيضا : العصف المأكول من الزرع والريحان ما لا يؤكل وقيل الريحان كل بقلة طيبة الريح قال ابن الأعرابي : يقال شيء ريحاني وروحاني : أي له روح : وقال في الصحاح الريحان نبت معروف والريحان الرزق تقول : خرجت أبتغي ريحان الله قال النمر بن تولب :
( سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر )
وقيل العصف رزق البهائم والريحان رزق الناس قرأ الجمهور { والحب ذو العصف والريحان } برفع الثلاثة عطفا على فاكهة وقرأ ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة بنصبهما عطفا على الأرض أو على إضمار فعل : أي وخلق الحب ذا العصف والريحان وقرأ حمزة والكسائي والريحان بالجر عطفا على العصف (5/188)
13 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } الخطاب للجن والإنس لأن لفظ الأنام يعمهما وغيرهما ثم خصص بهذا الخطاب من يعقل وبهذا قال الجمهور من المفسرين : ويدل عليه قوله فيما سيأتي : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } ويدل على هذا ما قدمنا في فاتحة هذه السورة أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأها على الجن والإنس وقيل الخطاب للإنس وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية كما قدمنا في قوله : { ألقيا في جهنم } والآلاء النعم قال القرطبي : وهو قول جميع المفسرين واحدها إلى مثل معى وعصا وقال ابن زيد : إنها القدرة : أي فبأي قدرة ربكما تكذبان وبه قال الكلبي وكرر سبحانه هذه الآية في هذه السورة تقريرا للنعمة وتأكيدا للتذكير بها على عادة العرب في الاتساع قال القتيبي : إن الله عدد في هذه السورة نعماءه وذكر خلقه آلاءه ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه الآية وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها كما تقول لمن تتابع له إحسانك وهو يكفره : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ؟ أفتنكرهذا ؟ ألم تكن خاملا فعززتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تكن راجلا فحملتك ؟ أفتنكر هذا ؟ والتكرير حسن في مثل هذا ومنه قول الشاعر :
( لا تقتلي رجلا إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك )
قال الحسين بن الفضل : التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة (5/188)
14 - { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير وهو السماء والأرض وما فيهما ذكر خلق العالم الصغير والمراد بالإنسان هنا آدم قال القرطبي : باتفاق من أهل التأويل ولا يبعد أن يراد الجنس لأن بني آدم مخلوقين في ضمين خلق أبيهم آدم والصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة وقيل هو طين خلط برمل وقيل هو الطين المنتن يقال : صل اللحم وأصل إذا أنتن وقد تقدم بيانه في سورة الحجر والفخار الخزف الذي طبخ بالنار والمعنى : أنه خلق الإنسان من طين يشبه في يبسه الخزف (5/189)
15 - { وخلق الجان من مارج من نار } يعني خلق أبا الجن أو جنس الجن من مارج من نار والمارج اللهب الصافي من النار وقيل الخالص منها وقيل لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت وقال الليث : المارج الشعلة الصادعة ذات اللهب الشديد قال المبرد : المارج النار المرسلة التي لا تمنع قال أبو عبيدة : المارد خلط النار من مرج إذا اختلط واضطرب قال الجوهري : مارج من نار نار لا دخان لها خلق منها الجان (5/189)
16 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى (5/189)
17 - { رب المشرقين ورب المغربين } قرأ الجمهور رب بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هو رب المشرقين والمغربين وقيل مبتدأ وخبره { مرج البحرين } وما بينهما اعتراض والأول أولى والمراد بالمشرقين مشرقا الشتاء والصيف وبالمغربين مغرباهما (5/189)
18 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن في ذلك من النعم ما لا يحصى ولا يتيسر لمن أنصف من نفسه تكذيب فرد من أفراده (5/190)
19 - { مرج البحرين يلتقيان } المرج التخلية والإرسال يقال : مرجت الدابة : إذا أرسلتها وأصله الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى والمعنى : أنه أرسل كل واحد منهما (5/190)
يلتقيان : أي يتجاوران لا فضل بينهما في مرأى العين ومع ذلك فلم يختلطا ولهذا قال : 20 - { بينهما برزخ } أي حاجز يحجز بينهما { لا يبغيان } أي لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يدخل فيه ويختلط به قال الحسن وقتادة : هما بحر فارس والروم وقال ابن جريح : هما البحر المالح والأنهار العذبة وقيل بحر المشرق والمغرب وقيل بحر اللؤلؤ والمرجان وقيل بحر السماء وبحر الأرض قال سعيد بن جبير : يلتقيان في كل عام وقيل يلتقى طرفاهما وقوله : { يلتقيان } في محل نصب على الحال من البحرين وجملة { بينهما برزخ } يجوز أن تكون مستأنفة وأن تكون حالا (5/190)
21 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن هذه الآية وأمثالها لا يتيسر تكذيبها بحال (5/190)
22 - { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } قرأ الجمهور { يخرج } بفتح الياء وضم الراء مبنيا للفاعل وقرأ نافع وأبو عمرو بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول واللؤلؤ : الدر والمرجان : الخرز الأحمر المعروف وقال الفراء : اللؤلؤ العظام والمرجان ما صغر قال الواحدي : وهو قول جميع أهل اللغة وقال مقاتل والسدي ومجاهد : اللؤلؤ صغاره والمرجان كباره وقال : { يخرج منهما } وإنما يخرج ذلك من المالح لا من الع1ب لأنه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما كذا قال الزجاج وغيره وقال أبو علي الفارسي : هو من باب حذف المضاف : أي من أحدهما كقوله : { على رجل من القريتين عظيم } وقال الأخفش : زعم قول أنه يخرج اللؤلؤ من العذب وقيل هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان وقيل هما بحر السساء وبحر الأرض فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خاجا منهما (5/190)
23 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه ولا يقدر على إنكاره (5/190)
24 - { وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام } المراد بالجوار : السفن الجارية في البحر والمنشآت : المرفوعات التي رفع بعض خشبها على بعض وركب حتى ارتفعت وطالت حتى صارت في البحر كالأعلام وهي الجبال والعلم : الجبل الطويل وقال قتادة : المنشآت المخلوقات للجري وقال الأخفش : المنشاآت المجريات وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة الشورى قرأ الجمهور { الجوار } بكسر الراء وحذف الياء لالتقاء الساكنين وقرأ ابن مسعود والحسن وأبو عمرو في رواية عنه برفع الراء تناسيا للحذف وقرأ يعقوب بإثبات الياء وقرأ الجمهور { المنشآت } بفتح الشين وقرأ حمزة وأبو بكر في رواية عنه بكسر الشين (5/190)
25 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن ذلك من الوضوح والظهور بحيث لا يمكن تكذيبه ولا إنكاره
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { الشمس والقمر بحسبان } قال : بحسبان ومنازل يرسلان وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه { والأرض وضعها للأنام } قال : للناس وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : للخلق وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : كل شيء فيه روح وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { والنخل ذات الأكمام } قال : أوعية الطلع وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { والحب ذو العصف } قال : التبن { والريحان } قال خضرة الزرع وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : { العصف } ورق الزرع إذا يبس { والريحان } ما أنبتت الأرض من الريحان الذي يشم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : { العصف } الزرع أول ما يخرج بقلا { والريحان } حين يتوي على سوقه ولم يسنبل وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : كل ريحان في القرآن فهو رزق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : كل ريحان في القرآن فهو رزق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { فبأي آلاء ربكما تكذبان } قال : يعني بأي نعمة الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : يعني الجن والإنس وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { من مارج من نار } قال : من لهب النار وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : خالص النار وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { رب المشرقين ورب المغربين } قال : للشمس مطلع في الشتاء ومغرب في الشتاء ومطلع في الصيف ومغرب في الصيف غير مطلعها في الشتاء وغير مغربها في الشتاء وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : مشرق الفجر ومشرق الشفق ومغرب الشمس ومغرب الشفق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { مرج البحرين يلتقيان } قال : أرسل البحرين { بينهما برزخ } قال : حاجز { لا يبغيان } لا يختلطان وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : بحر السماء وبحر الأرض وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { بينهما برزخ لا يبغيان } قال : بينهما من البعد ما لا ينبغي كل واحد منهما على صاحبه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } قال : إذا مطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها فما وقع فيها من قطر السماء فهو اللؤلؤ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن علي بن أبي طالب قال : المرجان عظام اللؤلؤ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : اللؤلؤ : ما عظم منه والمرجان : اللؤلؤ الصغار وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود قال : المرجان الخرز الأحمر (5/191)
قوله : 26 - { كل من عليها فان } أي كل من على الأرض من الحيوانات هلك وغلب العقلاء على غيرهم فعبر عن الجميع بلفظ من وقيل أراد من عليها من الجن والإنس (5/193)
27 - { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده وقد تقدم في سورة البقرة بيان معنى هذا وقيل : معنى { يبقى وجه ربك } تبقى حجته التي يتقرب بها إليه والجلال : العظمة والكبرياء واستحقاق صفات المدح يقال جل الشيء : أي عظم وأجللته : أي أعظمته وهو اسم من جل ومعنى ذو الإكرام : أنه يكرم عن كل شيء لا يليق به وقيل إنه ذو الإكرام لأوليائه والخطاب في قوله ربك للنبي صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له قرأ الجمهور { ذو الجلال } على أنه صفة لوجه وقرأ أبي وابن مسعود : ذي الجلال على أنه صفة لرب (5/193)
28 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } وجه النعمة في فناء الخلق أن الموت سبب النقلة إلى دار الجزاء والثواب وقال مقاتل : وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ومع الموت تستوي الأقدام (5/193)
29 - { يسأله من في السموات والأرض } أي يسألونه جميعا لأنهم محتاجون إليه لا يستغني عنه أحد منهم قال أبو صالح : يسأله أهل السموات المغفرة ولا يسألونه الرزق وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعا وقال مقاتل : يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل لهم الملائكة أيضا الرزق والمغفرة وكذا قال ابن جريح وقيل يسألونه الرحمة قال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض والحاصل أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال أو لسان الحال ما يطلبونه من خيري الدارين أو من خيري إحداهما { كل يوم هو في شأن } انتصاب كل بالاستقرار الذي تضمنه الخبر والتقدير : استقر سبحانه في شأن كل وقت من الأوقات واليوم عبارة عن الوقت والشأن هو الأمر ومن جملة شؤونه سبحانه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبونه منه على اختلاف حاجاتهم وتباين أغراضهم قال المفسرون : من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويفقر ويعز ويذل ويمرض ويشفي ويعطي ويمنع ويغفر ويعاقب إلى غير ذلك مما لا يحصى وقيل المراد باليوم المذكور هو يوم الدنيا ويوم الآخرة قال ابن بحر : الدهر كله يومان : أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة وقيل المراد كل يوم من أيام الدنيا (5/193)
30 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن اختلاف شؤونه سبحانه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها ولا يتيسر لمكذب تكذيبها (5/193)
31 - { سنفرغ لكم أيها الثقلان } هذا وعيد شديد من الله سبحانه للجن والإنس قال الزجاج والكسائي وابن الأعرابي وأبو علي الفارسي : إن الفراغ هاهنا ليس هو الفراغ من شغل ولكن تأويله القصد : أي سنقصد لحسابكم قال الواحدي حاكيا عن المفسرين : إن هذا تهديد منه سبحانه لعباده ومن هذا قول القائل لمن يريد تهديده : إذن أتفرغ لك أي أقصد قصدك وفرغ يجيء بمعنى قصد وأنشد ابن الأنباري قول الشاعر :
( الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت له عذابا )
يريد وقد قصدت وأنشد النحاس قول الشاعر :
( فرغت إلى العبد المقيد في الحجل )
أي قصدت وقيل : إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على المعصية ثم قال : سنفرغ لكم مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه وبه قال الحسن ومقاتل وابن زيد ويكون الكلام على طريق التمثيل قرأ الجمهور { سنفرغ } بالنون وضم الراء وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية مفتوحة مع ضم الراء : أي سيفرغ الله وقرأ الأعرج بالنون مع فتح الراء قال الكسائي : هي لغة تميم وقرأ عيسى الثقفي بكسر النونو وفتح الراء وقرأ الأعمش وإبراهيم بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول وسمي الجن والإنس ثقلين لعظم شأنهما بالنسبة إلى غيرهما من حيوانات الأرض وقيل سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا كما في قوله : { وأخرجت الأرض أثقالها } وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب وجمع في قوله لكم ثم قال أية الثقلان لأنهما فريقان وكل فريق جمع قرأ الجمهور { أيها الثقلان } بفتح الهاء وقرأ أهل الشام بضمها (5/193)
32 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جملتها ما في هذا التهديد من النعم فمن ذلك أنه ينزجر به المسيء عن إساءته ويزداد به المحسن إحسانا فيكون ذلك سببا للفوز بنعيم الدار الآخرة الذي هو النعيم في الحقيقة (5/194)
33 - { يا معشر الجن والإنس } قدم الجن هنا لكون خلق أبيهم متقدما على خلق آدم ولوجود جنسهم قبل جنس الإنس { إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض } أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره { فانفذوا } منها وخلصوا أنفسكم يقال نفذ الشيء من الشيء : إذا خلص منه كما يخلص السهم { لا تنفذون إلا بسلطان } أي لا تقدرون على النفظ إلا بقوة وقهر ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة والسلطان : القوة التي يتسلط بها صاحبها على الأمر والأمر بالنفوذ : أمر تعجيز قال الضحاك : بينما الناس في أسواقهم إذ انفتحت السماء ونزلت الملائكة فهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة فذلك قوله : { لا تنفذون إلا بسلطان } قال ابن المبارك : إن ذلك يكون في الآخرة وقال الضحاك أيضا : معنى الآية : إن استطعتم أن تهربوا من الموتب فاهربوا وقيل إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان : أي ببينة من الله وقال تادة : معناها لا تنفذوا إلا بملك وليس لكم ملك وقيل الباء بمعنى إلى : أي لا تنفذون إلا إلى سلطان (5/194)
34 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ومن جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد فإنها تزيد المحسن إحسانا وتكف المسيء عن إساءته مع أن من حذركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم من دون مهلة (5/195)
35 - { يرسل عليكما شواظ من نار } قرأ الجمهور { يرسل } بالتحتية مبنيا للمفعول وقرأ زيد بن علي بالنون ونصب شواظ والشواظ : اللهب الذي لا دخان معه وقال مجاهد : الشواظ اللهب الأخضر المتقطع من النار وقال الضحاك : هو الدخال الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب وقال الأخفش وأبو عمرو : هو النار والدخان جميعا قرأ الجمهور { شواظ } بضم الشين وقرأ ابن كثير بكسرها وهما لغتان وقرأ الجمهور { ونحاس } بالرفع عطفا على شواظ وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو بخفضه عطفا على نار وقرأ الجمهور { نحاس } بضم النون وقرأ مجاهد وعكرمة وحميد وأبو العالية بكسرها وقرأ مسلم بن جندب والحسن ونحس والنحاس : الصفر المذاب يصب على رؤوسهم قاله مجاهد وقتادة وغيرهما وقال سعيد بن جبير : هو الدخان الذي لا لهب له وبه قال الخليل وقال الضحاك : هو دردي الزيت المغلي وقال الكسائي : هو النار التي لها ريح شديدة وقيل هو المهل { فلا تنتصران } أي لا تقدران على الامتناع من عذاب الله (5/195)
36 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جملتها هذا الوعيد الذي يكون به الانزجار عن الشر والرغوب في الخير (5/195)
37 - { فإذا انشقت السماء } أي انصدعت بنزول الملائكة يوم القيامة { فكانت وردة كالدهان } أي كوردة حمراء قال سعيد بن جبير وقتادة : المعنى فكانت حمراء وقيل فكانت كلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة أو الصفرة قال الفراء وأبو عبيدة : تصير السماء كالأديم لشدة حر النار وقال الفراء أيضا : شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل وشبه الورد في ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه والدهان جمع دهن وقيل المعنتى تصير السماء في حمرة الورد وجريان الدهن : أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم وتصير مثل الدهن لذوبانها وقيل الدهان الجلد الأحمر وقال الحسن كالدهان : أي كصبيب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانا وقال زيد بن أسلم : إنها تصير كعصير الزيت قال الزجاج : إنها اليوم خضراء وسيكون لها لون أحمر قال الماوردي : وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق (5/195)
38 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من حملتها ما في هذا التهديد والتخويف من حسن العاقبة بالإقبال على الخير والإعراض عن الشر (5/196)
36 - { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } أي يوم تنشق السماء لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجن عن ذنبه لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم والجمع بين هذه الآية وبين مثل قوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } أن ما هنا يكون في موقف والسؤال في موقف آخر من مواقف القيامة : وقيل إنهم لا يسألون هنا سؤال استفهام عن ذنوبهم لأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال وحفظها على العباد ولكن يسألون سؤال توبيخ وتقريع ومثل هذه الآية قوله : { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } قال أبو العالية : المعنى لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم وقيل إن عدم السؤال هو عند البعث والسؤال هو في موقف الحساب (5/196)
40 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جملتها هذا الوعيد الشديد لكثرة ما يترتب عليه من الفوائد (5/196)
41 - { يعرف المجرمون بسيماهم } هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال السيما : العلامة قال الحسن : سيماهم سواد الوجوه وزرقة الأعين كما في قوله : { ونحشر المجرمين يومئذ زرقا } وقال : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وقيل سيماهم ما يعلوهم من الحزن والكآبة { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } الجار والمجرور في محل رفع على أنه النائب والنواصي شعور مقدم الرؤوس والمعنى : أنها تجعل الأقدام مضمونة إلى النواصي وتلقيهم الملائكة في النار قال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره وقيل تسحبهم الملائكة إلى النار تارة تأخذ بنواصيهم وتجرهم على وجوههم وتارة تأخذ بأقدامهم وتجرهم على رؤوسهم (5/196)
42 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب وتضطرب لهوله الأحشاء (5/196)
43 - { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } أي يقال لهم عند ذلك هذه جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها مع أنكم كنتم تكذبون بها وتقولون إنها لا تكون والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام فقيل يقال لهم هذه جهنم تقريعا لهم وتوبيخا (5/196)
44 - { يطوفون بينها } أي بين جهنم فتحرقهم { وبين حميم آن } فتنصب على وجوههم والحميم : الماء الحار والآن : الذي قد انتهى حره وبلغ غايته كذا قال الفراء : قال الزجاج : أنى يأنى أنى فهو آن : إذا انتهى في النضج والحرارة ومنه قول النابغة الذبياني :
( وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن )
وقيل هو واد من أودية جهنم فيه صديد أهل النار فيغمسون فيه قال قتادة : يطوفون مرة في الحميم ومرة بين الجحيم (5/196)
45 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جلمتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف وما يحصل به من الترغيب في الخير والترهيب عن الشر
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { ذو الجلال والإكرام } قال ذو الكبرياء والعظمة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { يسأله من في السموات } قال : مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده والبزار وابن جرير والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن منده وابن مردويه وأبو نعيم وابن عساكر عن عبد الله بن منيب قال : [ تلا علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية : { كل يوم هو في شأن } فقلنا : يا رسول الله وما ذلك الشأن ؟ قال : أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين ] وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجه وابن أبي عاصم والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قال : [ من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين ] زاد البزار ويجيب داعيا وقد رواه البخاري تعليقا وجعله من كلام أبي الدرداء وأخرج البزار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قال : يغفر ذنبا ويفرج كربا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } قال : هذا وعيد من الله لعباده وليس بالله شغل وفي قوله : { لا تنفذون إلا بسلطان } يقول : لا تخرجون من سلطاني وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يرسل عليكما شواظ من نار } قال : لهب النار { ونحاس } قال : دخان النار وأخرج ابن جرير عنه أيضا ونحاس : قال الصفر يعذبون به وأخرج ابن أبي حاتم عنه { فكانت وردة } يقول حمراء { كالدهان } قال : هو الأديم الأحمر وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { فكانت وردة كالدهان } قال : مثل لون الفرس الورد وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ولكن يقول لهم لم عملتم كذا وكذا وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عنه أيضا في قوله : { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } قال : تأخذ الزبانية بناصيته وقدميه ويجمع فيكسر كما يكسر الحطب في التنور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وبين حميم آن } قال : هو الذي انتهى حره (5/197)
لما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم : فقال : 46 - { ولمن خاف مقام ربه جنتان } مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب كما في قوله : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } فالمقام مصدر بمعنى القيام وقيل المعنى خاف قيام ربه عليه وهو إشرافه على أحواله واطلاعه على أفعاله وأقواله كما في قوله : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } قال مجاهد والنخعي : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه
واختلف في الجنتين فقال مقاتل : يعني جنة عدن وجنة النعيم وقيل إحداهما التي خلقت له والأخرى ورثها وقيل إحداهما منزله والأخرى منزله أزواجه وقيل إحداهما أسافل القصور والأخرى أعاليها وقيل جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني وقيل جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية وقيل جنة للعقيدة التي يعتقدها وأخرى للعمل الذي يعمله وقيل جنة بالعمل وجنة لتركه شهوته وقال الفراء : إنما هي جنة واحدة والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي قال النحاس : وهذا القول من أعظم الغلظ على كتاب الله فإن الله يقول : { جنتان } ويصفهما بقوله فيهما الخ (5/198)
47 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جملتها هذه النعمة العظيمة وهي إعطاء الخائف من مقام ربه جنتين متصفتين بالصفات الجليلة العظيمة (5/199)
48 - { ذواتا أفنان } هذه صفة للجنتان وما بينهما اعتراض والأفنان الأغصان واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا وبهذا قال مجاهد وعكرمة وعطية وغيرهم وقال الزجاج : الأفنان الألوان واحدها فن وهو الضرب من كل شيء وبه قال عطاء وسعيد بن جبير وجمع عطاء بين القولين فقال في كل غصن فنون من الفاكهة ومن إطلاق الفنن على الغصن قول النابغة :
( دعاء حمامة تدعو هديلا ... مفجعة على فنن تغني )
وقول الآخر :
( ما هاج شوقك من هدير حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما )
وقيل معنى { ذواتا أفنان } ذواتا فضل وسعة على ما سواهما قاله قتادة وقيل الأفنان : ظل الأغصان على الحيطان روي هذا عن مجاهد وعكرمة (5/199)
49 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب ولا بموضع للإنكار (5/199)
50 - { فيهما عينان تجريان } هذا أيضا صفة أخرى لجنتان : أي في كل واحدة منهما عين جارية قال الحسن : إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين قيل كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافا مضاعفة (5/199)
51 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة (5/199)
52 - { فيهما من كل فاكهة زوجان } هذا صفة ثالثة لجنتان والزوجان الصنفان والنوعان والمعنى : أن في الجنتين من كل نوع يتفكه به ضربين يستلذ بكل نوع من أنواعه قيل أحد الصنفين رطب والآخر يابس لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب (5/199)
53 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن في مجرد تعداد هذه النعم ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير والترهيب عن فعل الشر ما لا يخفى على من يفهم وذلك نعمة عظمى ومنة كبرى فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه (5/199)
54 - { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق } انتصاب متكئين على الحال من فاعل قوله : { ولمن خاف } وإنما جمع حملا على معنى من وقيل عاملها محذوف والتقدير : يتنعمون متكئين وقيل منصوب على المدح والفرش جمع فرش والبطائن : هي التي تحت الظهائر وهي جمع بطانة قال الزجاج : هي ما يلي الأرض والإستبرق : ما غلظ من الديباج وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر ؟ قيل لسعيد بن جبير : الطائن من إستبرق فما الظواهر ؟ قال : هذا بما قال الله فيه : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } قيل إنما اقتصر على ذكر البطائن لأنه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر وقال الحسن : بطائنها من إستبرق وظهائرها من نور جامد وقال الحسن : البطائن هي الظهائر وبه قال الفراء : وقال : قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأن كل واحد منهما يكون وجها والعرب تقول هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه وأنكر ابن قتيبة هذا وقال لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين { وجنى الجنتين دان } مبتدأ وخبره والجنى : ما يجتنى من الثمار قيل إن الشجرة تدنو حتى يجنيها من يريد جناها ومنه قول الشاعر :
( هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه )
قرأ الجمهور { فرش } بضمتين وقرأ أبو حيوة بضمة وسكون وقرأ الجمهور { جنى } بفتح الجيم وقرأ عيسى بن عمر بكسرها وقرأ عيسى أيضا بكسر النون على الإمالة (5/200)
55 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإنها كلها بموضع لا يتيسر لمكذب أن يكذب بشيء منها لما تشتمل عليه من الفوائد العاجلة والآجلة (5/200)
56 - { فيهن قاصرات الطرف } أي في الجنتين المذكورتين قال الزجاج : وإنما قال فيهن لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما فيهما من النعيم وقيل فيهن : أي في الفرش التي بطائنها من إستبرق ومعنى { قاصرات الطرف } أنهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم وقد تقدم تفسير هذا في سورة الصافات { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } قال الفراء : الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية يقال طمث الجارية : إذا افترعها قال الواحدي : قال المفسرون لم يطأهن ولم يغشهم ولم يجامعهم قبلهم أحد قال مقاتل : لأنهن خلقن في الجنة والضمير في قبلهم يعود إلى الأزواج المدلول عليه بقاصرات الطرف وقيل يعود إلى متكئين والجملة في محل رفع صفة لقاصرات لأن إضافتها لفظية وقيل الطمث المس : أي لم يمسهن قاله أبو عمرو وقال المبرد : أي لم يذللهن والطمث التذليل ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق :
( دفعن إلي لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام )
قرأ الجمهور { يطمثهن } بكسر الميم وقرأ الكسائي بضمها وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرف بفتحها وفي هذه الآية بل في كثير من آيات هذه السورة دليل أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه وعملوا بفرائضه وانتهوا عن مناهيه (5/200)
57 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن في مجرد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة ومنة عظيمة لأن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة والفرار من الأعمال الطالحة فكيف بالوصول إلى هذه النعم والتنعم بها في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال (5/201)
58 - { كأنهن الياقوت والمرجان } هذا صفة لقاصرات أو حال منهن شبههن سبحانه في صفاء اللون من حمرته بالياقوت والمرجان والياقوت هو الحجر المعروف والمرجان قد قدمنا الكلام فيه في هذه السورة على الخلاف في كونه صغار الدر أو الأحمر المعروف قال الحسن : هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان وإنما خص المرجان على القول بأنه صغار الدر لأن صفاءها أشد من صفاء كبار الدر (5/201)
59 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن نعمه كلها لا يتيسر تكذيب شيء منها كائنة ما كانت فكيف بهذه النعم الجليلة والمنن الجزيلة (5/201)
60 - { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها والمعنى ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة كذا قال ابن زيد وغيره قال عكرمة : هل جزاء من قال : لا إله إلا الله إلا الجنة وقال الصادق : هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد قال الرازي : في هذه الآية وجوه كثيرة حتى قيل : إن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قوله : إحداها قوله تعالى : { فاذكروني أذكركم } وثانيها { وإن عدتم عدنا } وثالثها { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } قال محمد بن الحنفية : هي للبر والفاجر : البر في الآخرة والفاجر في الدنيا (5/201)
61 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جملتهم الإحسان إليكم في الدنيا والآخرة بالخلق والرزق والإرشاد إلى العمل الصالح والزجر عن العمل الذي لا يرضاه (5/201)
62 - { ومن دونهما جنتان } أي ومن دون تينك الجنتين الموصوفتين بالصفات المتقدمة جنتان أخريان لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة ومعنى من دونهما : أي من أمامهما ومن قبلهما : أي هما أقرب منهما وأدنى إلى العرش وقيل الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى قال ابن جريح : هي أربع جنات : جنتان منهما للسابقين المقربين { فيهما من كل فاكهة زوجان } وعينان تجريان وجنتان لأصحاب اليمين { فيهما فاكهة ونخل ورمان } و { فيهما عينان نضاختان } قال ابن زيد : إن الأوليين من ذهب للمقربين والأخريين من ورق لأصحاب اليمين (5/201)
63 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإنها كلها حق ونعم لا يمكن جحدها (5/202)
64 - { مدهامتان } وما بينهما اعتراض قال أبو عبيدة والزجاج : من خضرتهما قد اسودتا من الري وكل ما علاه السواد ريا فهو مدهم قال مجاهد : مسودتان والدهمة في اللغة : السواد يقال فرس أدهم وبعير أدهم : إذا اشتدت ورقته حتى ذهب البياض الذي فيه (5/202)
65 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن جميعها نعم ظاهرة واضحة لا تجحد ولا تنكر (5/202)
66 - { فيهما عينان نضاختان } النضخ فوران الماء من العين والمعنى : أن في الجنتين المذكورتين عيني فوارتين قال أهل اللغة : والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة قال الحسن ومجاهد : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر وقال سعيد بن جبير : إنها تنضخ بأنواع الفواكه والماء (5/202)
67 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإنها ليس بموضع للتكذيب ولا بمكان للجحد (5/202)
68 - { فيهما فاكهة ونخل ورمان } هذا من صفات الجنتين المذكورتين قريبا والنخل والرمان وإن كانا من الفاكهة لكنهما خصصا بالذكر لمزيد حسنهما وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه كما حكاه الزجاج والأزهري وغيرهما وقيل إنما خصهما لكثرتهما في أرض العرب وقيل خصهما لأن النخل فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء وقد ذهب إلى أنهما من جملة الفاكهة جمهور أهل العلم ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد (5/202)
69 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن من جملتها هذه النعم التي في جنات النعيم ومجرد الحكاية لها أثر في نفوس السامعين وتجذبهم إلى طاعة رب العالمين (5/202)
70 - { فيهن خيرات حسان } قرأ الجمهور { خيرات } بالتخفيف وقرأ قتادة وابن السميفع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي وابن مقسم والنهدي بالتشديد فعلى القراءة الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين يقال امرأة خيرة وأخرى شرة أو جمع خيرة مخفف خيرة وعلى القراءة الثانية جمع خيرة بالتشديد قال الواحدي : قال المفسرون : الخيرات النساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه قيل وهذه الصفة عائدة إلى الجنان الأربع ولا وجه لهذا فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهن { قاصرات الطرف } { كأنهن الياقوت والمرجان } وبين الصفتين بون بعيد (5/202)
71 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن شيئا منها كائنا ما كان لا يقبل التكذيب (5/202)
72 - { حور مقصورات في الخيام } أي محبوسات ومنه القصر لأنه يحبس من فيه والحور جمع حوراء وهي شديدة بياض العين شديدة سوادها وقد تقدم بيان معنى الحوراء والخلاف فيه وقيل معنى مقصورات : أنهن قصرن على أزواجهن لا يردن غيرهم وحكاه الواحدي عن المفسرين والأول أولى وبه قال أبو عبيدة ومقاتل وغيرهما قال في الصحاح : قصرت الشيء أصره قصرا حبسته والمعنى : أنهن خدرن في الخيام والخيام جمع خيمة وقيل جمع خيم والخيم جمع خيمة وهي أعواد تنصب وتظلل بالثياب فتكون أبرد من الأخبية قيل الخيمة من خيام الجنة درة مجوفة فرسخ في فرسخ وارتفاع حو على البدلية من خيرات (5/203)
73 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } (5/203)
74 - { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } قد تقدم تفسيره في صفة الجنتي الأولين (5/203)
75 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإنها كلها نعم لا تكفر ومنن لا تجحد (5/203)
76 - { متكئين على رفرف خضر } انتصاب متكئين على الحال أو المدح كما سبق قال أبو عبيدة الرفاف البسط وبه قال الحسن مقاتل والضحاك وغيرهم وقال ابن عيينة : هي الزرابي وقال ابن كيسان : هي المرافق وروي عن أبي عبيدة أنه قال : هي حاشية الثوب وقال الليث : ضرب من الثياب الخضر وقيل الفرش المرتفعة وقيل كل ثوب عريض قال في الصحاح : والرفرف ثياب خضر يتخذ منها المحابس والواحدة رفرفة وقال الزجاج : قالوا الرفرف هنا رياض الجنة وقالوا الرفرف الوسائد وقالوا الرفرف المحابس اهـ ومن القائلين بأنها رياض الجنة سعيد بن جبير واشتقاق الرفرف من رف يرف : إذا ارتفع ومنه رفرفة الطائر وهي تحريك جناحيه في الهواء قرأ الجمهور { رفرف } على الإفراد وقرأ عثمان بن عفان والحسن والجحدري رفاف على الجمع { وعبقري حسان } العبقري الزرابي والطنافس الموشية قال أبو عبيدة : كل وش من البسط عبقري وهو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي قال الفراء : العبقري الطنافس الثمان وقيل الزرابي وقيل البسط وقيل الديباج قال ابن الأنباري : الأصل فيه أن عبقر قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق قال الخليل : العبقري عند العرب كل جليل فاضل فاخر من الرجال والنساء ومنه قول زهير :
( تخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا )
قال الجوهري : العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن قال لبيد : كهرل وشبان كجنة عبقري ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا عبقري وهو واحد وجمع قرأ الجمهور { عبقري } وقرأ عثمان بن عفان والحسن والجحدري عباقري وقرئ عباقر وهما نسبة إلى عباقر اسم بلد وقال قطرب : ليس بمنسوب وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي قرأ الجمهور { خضر } بضم الخاء وسكون الضاد وقرئ بضمهما وهي لغة قليلة (5/203)
77 - { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن كل واحد منها أجل من أن يتطرق إليه التكذيب وأعظم من أن يجحده جاحد أو ينكره منكر وقد قدمنا في أول هذه السورة وجه تكرير هذه الآية فلا نعيده (5/204)
78 - { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } تبارك تفاعل من البركة قال الرازي : وأصل التبارك من التبرك وهو الدوام والثبات ومنه برك البعثر وبركة الماء فإن الماء يكون دائما والمعنى : دام اسمه وثبت أو دام الخير عنده لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير أو يكون معناه علا وارتفع شأنه وقيل معناه : تنزيه الله سبحانه وتقديسه وإذا كان هذا التبارك منسوبا إلى اسمه عز و جل فلما ظنك بذاته سبحانه ؟ وقيل الاسم بمعنى الصفة وقيل هو مقحم كما في قول الشاعر :
( إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر )
وقد تقدم تفسير ذي الجلا والإكرام في هذه السورة قرأ الجمهور { ذي الجلال } على أنه صفة للرب سبحانه وقرأ ابن عامر { ذو الجلا } على أنه صفة لاسم
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } قال : وعد الله المؤمني الذي خافوا مقامه فأدوا فرائضه الجنة وأخرج ابن جرير عنه في الآية يقول : خاف ثم اتقى والخائف : من ركب طاعة الله وترك معصيته وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أنها نزلت في أبي بكر وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب مثله وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في الآية قال : لمن خافه في الدنيا وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن منيع والحاكم والترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الثانية { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فقلت : وإن زنى وإن سرق فقال الثالثة { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فقلت : وإن زنى وإن سرق قال : نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء ] وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فقال أبو الدرداء : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ قال :
وإن زنى وإن سرق وإن رغم أنف أبي الدرداء ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء في قوله : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } قال : لأبي الدرداء : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق وأخرج ابن مردويه عن ابن شهاب قال : كنت عند هشام بن عبد الملك فقال : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ { ولمن خاف مقام ربه جنتان } قال أبو هريرة : وإن زنى وإن سرق ؟ فقلت : إنما كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض فلما نزلت الفرائض ذهب هذا ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ جنان الفردوس أربع جنات : جنتان من ذهب حليتهما وأبنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليتهما وأبنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } وفي قوله : { من دونهما جنتان } قال : جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي موسى في قوله : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } قال : جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ذواتا أفنان } قال : ذواتا أفنان قال : ذواتا ألوان وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : فن غصونها يمس بعضها بعضا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا قال : الفن الغصن وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله : { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق } قال : أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه قيل له بطائنها من إستبرق فما الظواهر ؟ قال : ذلك مما قال الله { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه في قوله : { وجنى الجنتين دان } قال : جناها ثمرها والداني : القريب منك يناله القائم والقاعد وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في
البعث عنه أيضا في قوله : { فيهن قاصرات الطرف } يقول : عن غير أزواجهن { لم يطمثهن } يقول : لم يدن منهن أو لم يدمهن وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم [ في قوله : { كأنهن الياقوت والمرجان } قال : تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وإنه يكون عليها سبعون ثوبا وينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك ] وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السدي والترمذي وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها وذلك أن الله يقول : كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه ] وقد رواه الترمذي موقوفا وقال هو أصح وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب وضعفه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ في قوله : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } قال : ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ] وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره والديلمي في مسند الفردوس وابن النجار في تاريخه عن أنس مرفوعا مثله وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا في الآية قال : [ هل جزاء من أنعمنا عليه بالإسلام إلا أن أدخله الجنة ] وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي بن أبي طالب مرفوعا مثل حديث ابن عمر وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } قال : هل جزاء من قال لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي والبيهقي في الشعب وضعفه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنزل الله علي هذه الآية في سورة الرحمن للكافر والمسلم : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ] وأخرجه ابن مردويه موقوفا على ابن عباس وأخرج هناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { مدهامتان } قال : هما خضراوان وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : قد اسودتا من الخضرة من الري من الماء وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عبد الله بن الزبير نحوه وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله : { مدهامتان } قال : خضراوان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { نضاختان } قال : فائضتان وأخرج عبد بن حميد عنه قال : ينضخان بالماء وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { خيرات حسان } قال : لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها من الله لك يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك لا مراحات ولا طماحات ولا بخرات ولا دفرات حور عين كأنهن بيض مكنون وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { حور } قال : بيض { مقصورات } قال : محبوسات { في الخيام } قال : في بيوت اللؤلؤ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال : الحور سود الحدق وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الخيام در مجوف ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم [ الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن ] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { متكئين على رفرف } قال : فضول المحابس والفرش والبسط وأخرج عبيد بن حميد عن علي بن أبي طالبقال : هي فضول المحابس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في البعث من طرق عن ابن عباس { رفرف خضر } قال : المحابس { وعبقري حسان } قال : الزرابي وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : الرفرف الرياض والعبقري الزرابي (5/204)
سورة الواقعة
هي سبع وتسعون أو ست وتسعون آية
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } وقال الكلبي : إنها مكية إلا أربع آيات منها وهي { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } وقوله : { ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين } وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة الواقعة بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من قرأ سورة الواقعة ليلة لم تصبه فاقة أبدا ] وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم ] وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ علموا نسائكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى ] وقد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم : [ شيبتني هود الواقعة ] اهـ
قوله : 1 - { إذا وقعت الواقعة } الواقعة اسم للقيامة كالآزفة وغيرها وسميت واقعة لأنها كائنة لا محالة أو لقرب وقوعها أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد وانتصاب إذا بمضمر : أي أذكر وقوع الواقعة (5/207)
أو بالنفي المفهو من قوله : 2 - { ليس لوقعتها كاذبة } أي لا يكون عند وقوعها تكذيب والكاذبة مصدر كالعاقبة : أي ليس لمجيئها وظهورها كذب أصلا وقيل إذا شرطية وجوابها مقدر : أي إذا وقعت كان كيت وكيت والجواب هذا هو العامل فيها وقيل إنها شرطية والعامل فيها الفعل الذي بعدها واختار هذا أبو حيان وقد سبقه إلى هذا مكي فقال : والعامل وقعت قال المفسرون : والواقعة هنا هي النفخة الآخرة ومعنى الآية : أنها إذا وقعت النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب بها أصلا أو لا يكون هناك نفس تكذب على الله وتكذب بما أخبر عنه من أمور الآخرة قال الزجاج : ليس لوقعتها كاذبة : أي لا يردها شيء وبه قال الحسن وقتادة وقال النووي : ليس لوقعتها أحد يكذب بها وقال الكسائي : ليس لها تكذيب : أي لا ينبغي أن يكذب بها أحد (5/208)
3 - { خافضة رافعة } قرأ الجمهور برفعهما على إضمار مبتدأ : أي هي خافضة رافعة وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بنصبهما على الحال قال عكرمة والسدي ومقاتل : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفعت الصوت فأسمعت من نأى : أي أسمعت القريب والبعيد وقال قتادة : خفضت أقواما في عذاب الله ورفعت أقواما إلى طاعة الله وقال محمد بن كعب : خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين والعرب تستعمل الخفض والرفع في المكان والمكانة والعز والإهانة ونسبة الخفض والرفع إليها على طريق المجاز والخافض الرافع في الحقيقة هو الله سبحانه (5/209)
4 - { إذا رجت الأرض رجا } أي إذا حركت حركة شديدة يقال رجه يرجه رجا إذا حركه والرجة الاضطراب وارتج البحر اضطرب قال المفسرون : ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها وينكسر كل شيء من الجبال وغيرها قال قتادة ومقاتل ومجاهد : معنى رجت زلزلت والظرف متعلق بقوله خافضة رافعة أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال لأنه عند ذلك يرتفع ما هو منخفض وينخفض ما هو مرتفع وقيل إنه بدل من الظرف والأول ذكره الزجاج فيكون معنى وقوع الواقعة هو رج الأرض وبس الجبال (5/209)
5 - { وبست الجبال بسا } البس : الفت يقال : بس الشيء إذا فته حتى يصير فتاتا ويقال بس السويق : إذا لته بالسمن أو بالزيت قال مجاهد ومقاتل : المعنى أن الجبال فتت فتا وقال السدي : كسرت كسرا وقال الحسن : فلعت من أصلها وقال مجاهد أيضا : بست كما يبس الدقيق بالسمن أو بالزيت والمعنى : أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت وقال أبو زيد : البس السوق والمعنى على هذا : سيقت الجبال سوقا قال أبو عبيد : بس الإبل وأبسها لغتان : إذا زجرها وقال عكرمة : المعنى هدت هدا (5/209)
6 - { فكانت هباء منبثا } أي غبارا متفرقا منتشرا قال مجاهد : الهباء الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار وقيل هو الرهج الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب وقيل ما تطاير من النار إذا اضطرمت على سورة الشرر فإذا وقع لم يكن شيئا وقد تقدم بيانه في الفرقان عند تفسير قوله : { فجعلناه هباء منثورا } قرأ الجمهور { منبثا } بالمثلثة وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة بالتاء المثناة من فوق : أي منقطعا من قولهم بته الله : أي قطعه (5/209)
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس واختلافهم فقال : 7 - { وكنتم أزواجا ثلاثة } والخطاب لجميع الناس أو للأمة الحاضرة والأزواج الأصناف والمعنى : وكنتم في ذلك اليوم أصنافا ثلاثة (5/210)
ثم فسر سبحانه هذه الأصناف فقال : 8 - { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } أي أصحاب اليمين وهم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم أو الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة أصحاب الميمنة مبتدأ وخبره : ما أصحاب الميمن : أي أي شيء هم في حالهم وصفتهم والاستفهام للتعظيم والتفخيم وتكرير المبتدأ هنا بلغظه مغن عن الضمير الرابط كما في قوله : { الحاقة * ما الحاقة } { القارعة * ما القارعة } ولا يجوز مثل هذا إلا في مواضع التفخيم والتعظيم (5/210)
9 - { و } الكلام في { أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } كالكلام في أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة والمراد الذي يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار أو يأخذون صحائف أعمالهم بشمالهم والمراد تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل : فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة وحسن الحال وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة وسوء الحال وقال السدي : أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبة وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا عن شماله وقال زيد بن أسلم : أصحاب الميمنة هم الذين آخذوا من شق آدم الأيمن وأصحاب المشأمة هم الذين أخذوا من شقه الأيسر وقال ابن جريح : أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات وقال الحسن والربيع : أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة وأصحاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم بالأعمال القبيحة وقال المبرد : أصحاب الميمنة أصحاب التقدم وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك : أي اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين ومنه قول ابن الدمينة :
( أبنيتي أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك ) (5/210)
ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث فقال : 10 - { والسابقون السابقون } والتكرير فيه للتفخيم والتعظيم كما مر في القسمين الأولين كما تقول أنت أنت وزيد زيد والسابقون مبتدأ وخبره السابقون وفيه تأويلان : أحدهما أنه بمعنى السابقون هم إلى الإيمان السابقون إلى الجنة والأول أولى لما فيه من الدلالة على التفخيم والتعظيم قال الحسن وقتادة : هم السابقون إلى الإيمان من كلامه وقال محمد بن كعب : إنهم الأنبياء وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين وقال مجاهد : هم الذين سبقوا إلى الجهاد وبه قال الضحاك : وقال سعيد بن جبير : هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر وقال الزجاج : المعنى والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله (5/210)
11 - { أولئك المقربون } (5/211)
قيل ووجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأولين هو أن يقترن به ما بعده وهو قوله : 12 - { أولئك المقربون * في جنات النعيم } فالإشارة هي إليهم : أي المقربون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته أو الذين قربت درجاتهم وأعليت مراتبهم عند الله وقوله في جنات النعيم متعلق بالمقربون : أي مقربون عند الله في جنات النعيم ويجوز أن يكون خبرا ثانيا لأولئك وأن يكون حالا من الضمير في المقربون : أي كائنين فيها قرأ الجمهور { في جنات } بالجمع وقرأ طلحة بن مصرف في جنة بالإفراد وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال : دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل (5/211)
وارتفاع 13 - { ثلة من الأولين } على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم ثلة والثلة الجماعة التي لا يحصر عددها قال الزجاج : معنى ثلة معنى فرقة من ثللت الشيء : إذا قطعته والمراد بالأولين هم الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه و سلم (5/211)
14 - { وقليل من الآخرين } أي من هذه الأمة وسموا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم وكثرة من أجابهم قال الحسن : سابقو من مضى أكثر من سابقينا قال الزجاج : الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي صلى الله عليه و سلم ولا يخالف هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم [ إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثم قال : ثلث أهل الجنة ثم قال : نصف أهل الجنة ] لأن قوله { ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين } إنما هو تفضيل للسابقين فقط كما سيأتي في ذكر أصحاب اليميمن أنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة والمقابلة بين الثلتين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال : هذه الثلة أكثر من هذه الثلة كما يقال : هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور (5/211)
ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين فقال : 15 - { على سرر موضونة } قرأ الجمهور { سرر } بضم السين والراء الأولى وقرأ أبو السماك وزيد بن علي بفتح الراء وهي لغة كما تقدم والموضوعة المنسوجة والوضن : النسج المضاعف قال الواحدي : قال المفسرون : منسوجة بقضبان الذهب وقيل مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد وقيل إن الموضونة المصفوفة وقال مجاهد : الموضونة المرمولة بالذهب (5/211)
وانتصاب 16 - { متكئين عليها } على الحال وكذا انتصاب { متقابلين } والمعنى : مستقرين على سرر متكئين عليها متقابلين لا ينظر بعضهم قفا بعض (5/211)
17 - { يطوف عليهم ولدان مخلدون } الجملة في محل نصب على الحال من المقربين أو مستأنفة لبيان بعض ما أعد الله لهم من النعيم والمعنى يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون ولا يتغيرون بل شكلهم شكل الولدان دائما قال مجاهد : المعنى لا يموتون وقال الحسن والكلبي : لا يهرمون ولا يتغيرون قال الفراء : والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يمشط إنه لمخلد وقال سعيد بن جبير : مخلدون مقرطون قال الفراء : ويقال مخلدون مقرطون يقال خلد جاريته : إذا حلاها بالخلدة وهي القرطة وقال عكرمة : مخلدون منعمون ومنه قول امرئ القيس :
( وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال )
وقيل مستورين بالحلية وروي نحوه عن الفراء ومنه قول الشاعر :
( ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان )
وقيل مخلدون ممنطقون قيل وهم ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة وقيل هم أطفال المشركين ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة للقيام بهذه الخدمة والأكواب : هي الأقداح المستديرة الأفواه التي لا آذان لها ولا عرى وقد مضى بيان معناها في سورة الزخرف والأباريق : هي ذات العرى والخراطيم واحدها إبريق وهو الذي يبرق لونه من صفائه (5/212)
18 - { وكأس من معين } أي من خمر جارية أو ماء جار والمراد به هاهنا الخمر الجارية من العيون وقد تقدم بيان معنى الكأس في سورة الصافات (5/212)
19 - { لا يصدعون عنها } أي لا تتصدع رؤوسهم من شربها كما تتصدع من شرب خمر الدنيا والصداع هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه وقيل معنى لا يصدعون لا يتفرقون كما يتفرق الشراب ويقوي هذا المعنى قراءة مجاهد { يصدعون } بفتح الياء وتشديد الصاد والأصل يتصدعون : أي يتفرقون والجملة مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم من النعيم أو في محل نصب على الحال وجملة { ولا ينزفون } معطوفة على الجملة التي قبلها وقد تقدم اختلاف القراء في هذا الحرف من سورة الصافات وكذلك تقدم تفسيره : أي لا يسكرون فتذهب عقولهم من أنزف الشارب : إذا نفد عقله أو شرابه ومنه قول الشاعر :
( لعمرى لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا ) (5/212)
20 - { وفاكهة مما يتخيرون } أي يختارونه يقال : تخيرت الشيء إذا أخذته خيره قرأ الجمهور { وفاكهة } بالجر (5/212)
21 - { و } كذا { لحم } عطفا على أكواب : أي يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمتفكه به وقرأ زيد بن علي وأبو علي وأبو عبد الرحمن برفعها على الابتداء والخبر مقدر : أي ولهم فاكهة ولحم ومعنى { مما يشتهون } مما يتمنونه وتشتهيه أنفسهم (5/212)
22 - { وحور عين } (5/213)
23 - { وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون } قرأ الجمهور { حور عين } برفعهما عطفا على ولدان أو على تقدير مبتدأ : أي نساؤهم حور عين أو على تقدير خبر : أي ولهم حور عين وقرأ حمزة والكسائي : بجرهما عطفا على أكواب قال الزجاج : وجائز أن يكون معطوفا على جنات : أي هم في جنات وفي حور على تقدير مضاف محذوف : أي وفي معاشرة حور قال الفراء : في توجيه العطف على أكواب إنه يجوز الجر على الاتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى لأن الحور لا يطاف بهن كما في قول الشاعر :
( إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا )
والعين لا تزجج وإنما تكحل ومن هذا قول الشاعر :
( علفتها تبنا وماء باردا )
وقول الآخر :
( متقلدا سيفا ورمحا )
قال قطرب : هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى قال : ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور : ويكون لهم في ذلك لذة وقرأ الأشهب العقيلي والنخعلي وعيسى بن عمر بنصبهما على تقدير إضمار فعل كأنه قيل : ويزوجزن حورا عينا أو ويعطون ورجح أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور ثم شبههن سبحانه باللؤلؤ المكنون وهو الذي لم تمسه الأيدي ولا وقع عليه الغبار فهو أشد ما يكون صفاء (5/213)
وانتصاب جزاء في قوله 24 - { جزاء بما كانوا يعملون } على أنه مفعول له : أي يفعل بهم ذلك كله للجزاء بأعمالهم ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لفعل محذوف : أي يجزون جزاء وقد تقدم تفسير الحور العين في سورة الطور وغيرها (5/213)
25 - { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما } اللغو الباطل من الكلام والتأثيم النسبة إلى الإثم قال محمد بن كعب : لا يؤثم بعضهم بعضا وقال مجاهد : لا يسمعون شتما ولا مأثما والمعنى : أنه لا يقول بعضهم لبعضهم أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم (5/213)
26 - { إلا قيلا سلاما سلاما } القيل القول والاستثناء منقطع : أي لكن يقولون قيلا أو يسمعون قيلا وانتصاب سلاما سلاما على أنه بدل من قيلا أو صفة له أو هو مفعول به لقيلا : أي إلا أن يقولوا سلاما سلاما واختار هذا الزجاج : أو على أنه منصوب بفعل هو محكي بقيلا : أي إلا قيا سلموا سلاما سلاما والمعنى في الآية : أنهم لا يسمعون إلا تحية بعضهم لبعض قال عطاء : يحيي بعضهم بعضا بالسلام وقيل إن الاستثناء متصل وهو بعيد لأن التحية ليست مما يندرج تحت اللغو والتأثيم قرئ سلام سلام بالرفع قال مكي : ويجوز الرفع على معنى سلام عليكم مبتدأ وخبر
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إذا وقعت الواقعة } قال : يوم القيامة { ليس لوقعتها كاذبة } قال : ليس لها مرد يرد { خافضة رافعة } قال : تخفض ناسا وترفع آخرين وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه { خافضة رافعة } قال : أسمعت القريب والبعيد وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب { خافضة رافعة } قال : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ورفعت أولياء الله إلى الجنة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إذا رجت الأرض رجا } قال : زلزلت { وبست الجبال بسا } قال : فتتت { فكانت هباء منبثا } قال : شعاع الشمس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { فكانت هباء منبثا } قال : الهباء الذي يطير من النار إذا أضرمت يطير منها الشرر فإذا وقع لم يكن شيئا وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : الهباء ما يثور مع شعاع الشمس وانبثاثه تفرقه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : الهباء المنبث رهج الدواب والهباء المنثور غبار الشمس الذي تراه في شعاع الكوة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { وكنتم أزواجا } قال : أصنافا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وكنتم أزواجا ثلاثة } قال : هي التي في سورة الملائكة { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله : { والسابقون السابقون } قال : يوشع بن نون سبق إلى موسى ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى وعلي بن أبي طالب سبق إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعلي بن أبي طالب وكل رجل منهم سابق أمته وعلي أفضلهم سبقا وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا هذه الآية { وأصحاب اليمين } { وأصحاب الشمال } فقبض بيديه قبضتين فقال : هذه في الجنة ولا أبالي وهذه في النار ولا أبالي ] وأخرج أحمد أيضا عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوا بذلوا وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم ] وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت { ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين } شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثلث الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس { على سرر موضونة } قال : مصفوفة وأخرج سعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه قال : مرمولة بالذهب وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا ] وأخرج أحمد والترمذي والضياء عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة فقال أبو بكر : يا رسول الله إن هذه الطير لناعمة قال : آكلها أنعم منها وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها ] وفي الباب أحاديث وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { كأمثال اللؤلؤ المكنون } قال : الذي في الصدف وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { لا يسمعون فيها لغوا } قال : باطلا { ولا تأثيما } قال : كذبا (5/213)
لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال السابقين وما أعده لهم من النعيم المقيم ذكر أحوال أصحاب اليمين فقال : 27 - { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } قد قدمنا وجه إعراب هذا الكلام وما في هذه الجملة الاستفهامية من التفخيم والتعظيم وهي خبر المبتدأ وهو أصحاب اليمين (5/215)
وقوله : 28 - { في سدر مخضود } خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف : أي هم في سدر مخضود والسدر نوع من الشجر والمخضود الذي خضد شوكه : أي قطع فلا شوك فيه قال أمية بن الصلت يصف الجنة :
( إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود )
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان : إن السدر المخضود الموقر حملا (5/216)
29 - { وطلح منضود } قال أكثر المفسرين : إن الطلح في الآية هو شجر الموز وقال جماعة : ليس هو شجر الموز ولكنه الطلح المعروف وهو أعظم أشجار العرب قال الفراء وأبو عبيدة : هو شجر عظام لها شوك قال الزجاج : الطلح هو أم غيلان ولها نور طيب فخوطبوا ووعدوا ما يحبون إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا قال : ويجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه قال السدي : طلح الجنة يشبه طلح الدنيا : لكن له ثمر أحلى من العسل والمنضود : المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل ليس له سوق بارزة قال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيد ثمر كله كلما أخذت ثمرة عاد مكانها أحسن منها (5/216)
30 - { وظل ممدود } أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس قال أبو عبيدة : والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع ممدود ومنه قوله : { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } والجنة كلها ظل لا شمس معه قال الربيع بن أنس : يعني ظل العرش ومن استعمال العرب للممدود في الدائم الذي لا ينقطع قول لبيد :
( غلب الغزاء وكان غير مغلب ... دهر طويل دائم ممدود ) (5/216)
31 - { وماء مسكوب } أي منصب يجري بالليل والنهار أينما شاءوا لا ينقطع عنهم فهو مسكوب يسكبه الله في مجاريه وأصل السكب الصب يقال سكبه سكبا : أي صبه (5/216)
32 - { وفاكهة كثيرة } أي ألوان متنوعة متكثرة (5/216)
33 - { لا مقطوعة } في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات { ولا ممنوعة } أي لا تمتنع على ما أرادها في أي وقت على أي صفة بل هي معدة لمن أرادها لا يحول بينه وبينها حائل قال ابن قتيبة : يعني أنها غير محظورة عليها كما يحظر على بساتين الدنيا (5/216)
34 - { وفرش مرفوعة } أي مرفوع بعضها فوق بعض أو مرفوعة على الأسرة وقيل إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة وارتفاعها كونها على الأرائك أو كونها مرتفعات الأقدار في الحسن والكمال (5/216)
35 - { إنا أنشأناهن إنشاء } أي خلقناهن خلقا جديدا من غير توالد وقيل المراد نساء بني آدم والمعنى : أن الله سبحانه أعادهن بعد الموت إلى حال الشباب والنساء وإن لم يتقدم لهن ذكر لكنهن قد دخلن في أصحاب اليمين وأما على قول من قال : إن الفرش المرفوعة عين النساء فمرجع الضمير ظاهر (5/216)
36 - { فجعلناهن أبكارا } { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } (5/213)
37 - { عربا أترابا } العرب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها قال المبرد : هي العاشقة لزوجها ومنه قول لبيد :
( وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى ضوؤها البصرا )
وقال زيد بن أسلم : هي الحسنة الكلام قرأ الجمهور بضم العين والراء وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بإسكان الراء وهما لغتان في جمع فعول والأتراب : هن اللواتي على ميلاد واحد وسن واحد وقال مجاهد : أترابا أمثالا وأشكالا وقال السدي أترابا في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد (5/217)
قوله : 38 - { لأصحاب اليمين } متعلق بأنشأناهن أو بجعلنا أو بأترابا والمعنى : أن الله أنشأهن لأجلهم أو خلقهن لأجلهم أو هن مساويات لأصحاب اليمين في السن أو هو خبر لمبتدأ محذوف : أي هن لأصحاب اليمين (5/217)
39 - { ثلة من الأولين } (5/217)
40 - { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } هذا راجع إلى قوله : { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } أي هم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وقد تقدم تفسير الثلة عند ذكر السابقين والمعنى : أنهم جماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة من الأولين وهم من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه و سلم وجماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة منالآخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك ثلة من الأولين يعني من سابقي هذه الأمة وثلة من الآخرين من هذه الأمة من آخرها (5/217)
ثم لما فرغ سبحانه مما أعده لأصحاب اليمين شرع في ذكر أصحاب الشمال وما أعده لهم فقال : 41 - { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } الكلام في إعراب هذا وما فيه من التفخيم كما سبق في أصحاب اليمين (5/217)
قوله : 42 - { في سموم وحميم } إما خبر ثان لأصحاب الشمال أو خبر مبتدأ محذوف والسموم : حر النار والحميم : الماء الحار الشديد الحرارة وقد سبق بيان معناه وقيل السموم : الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن (5/217)
43 - { وظل من يحموم } اليحموم يفعول من الأحم : وهو الأسود والعرب تقول أسود يحموم : إذا كان شديد السواد والمعنى : أنهم يفزعون إلى الظل فيجدونه ظلا من دخان جهنم شديد السواد وقيل وهو مأخوذ من الحم وهو الشحم المسود بالحتراق النار وقيل مأخوذ من الحمم وهو الفحم قال الضحاك : النار سوداء وكل ما فيها أسود (5/217)
ثم وصف هذا الظل بقوله : 44 - { لا بارد ولا كريم } أي ليس كغيره من الظلال التي تكون باردة بل هو حار لأنه من دخان نار جهنم قال سعيد بن المسيب : ولا كريم : أي ليس فيه حسن منظر وكل ما لا خير فيه ليس بكريم قال الضحاك : ولا كريم ولا عذاب قال الفراء : العرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه وصفا تنوي به الذم تقول : ما هو بسمين ولا بكريم وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة (5/218)
ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي استحقوا بها العذاب فقال : 45 - { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } وهذه الجملة تعليل لما قبلها : أي إنهم كانوا قبل هذا العذاب النازل بهم مترفين في الدنيا : أي منعمين بما لا يحل لهم والمترف المتنعم وقال السدي : مشركين وقيل متكبرين والأول أولى (5/218)
46 - { وكانوا يصرون على الحنث العظيم } الحنث الذنب : أي يصرون على الذنب العظيم قال الواحدي : قال أهل التفسير : عني به الشرك : أي كانوا لا يتوبون عن الشرك وبه قال الحسن والضحاك وابن زيد وقال قتادة ومجاهد : هو الذنب العظيم الذي لا يتوبون عنه وقال الشعبي : هو اليمين المغموس (5/218)
47 - { وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } الهمزة في الموضعين للإنكار والاستبعاد وقد تقدم الكلام على هذا في الصافات وفي سورة الرعد والمعنى : أنهم أنكروا واستبعدوا أن يبعثوا بعد الموت وقد صاروا عظاما وترابا والمراد أنه صار لحمهم وجلودهم ترابا وصارت عظامهم نخرة بالية والعامل في الظرف ما يدل عليه مبعوثون لأن ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله : أي انبعث إذا متنا ؟ الخ (5/218)
48 - { أو آباؤنا الأولون } معطوف على الضمير في المبعوثون لوقوع الفصل بينهما بالهمزة والمعنى : أن بعث آبائهم الأولين أبعد لتقدم موتهم وقرئ وآباؤنا (5/218)
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم ويرد استبعادهم فقال : 49 - { قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون } أي قل لهم يا محمد إن الأولين من الأمم والآخرين منهم الذي أنتم من جملتهم لمجموعون بعد البعث (5/218)
50 - { إلى ميقات يوم معلوم } وهو يوم القيامة (5/218)
51 - { ثم إنكم أيها الضالون المكذبون } هذا وما بعده من جملة ما هو داخل تحت القول وهو معطوف على إن الأولين ووصفهم سبحانه بوصفين قبيحين وهما الضلال عن الحق والتكذيب له (5/218)
52 - { لآكلون من شجر من زقوم } أي لآكلون في الآخرة من شجر كريه المنظر كريه الطعم وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات ومن الأولى لابتداء الغاية والثانية بيانية ويجوز أن تكون الأولى مزيدة والثانية بيانية وأن تكون الثانية مزيدة والأولى للابتداء (5/218)
53 - { فمالئون منها البطون } أي مالئومن من شجر الزقوم بطونكم لما يلحقكم من شدة الجوع (5/219)
54 - { فشاربون عليه من الحميم } الضمير في عليه عائد إلى الزقوم والحميم الماء الذي قد بلغ حره إلى الغاية والمعنى : فشاربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحار ويجوز أن يعود الضمير إلى شجر لأنه يذكر ويؤنث ويجوز أن يعود إلى الأكر المدلول عليه بقوله : لآكلون وقرئ من شجرة بالإفراد (5/219)
55 - { فشاربون شرب الهيم } قرأ الجمهور { شرب الهيم } بفتح الشين وقرأ نافع وعاصم وحمزة بضمها وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرها وهي لغات قال أبو زيد : سمعت العرب تقول بضم [ الشين ] وفتحها وكسرها قال المبرد : الفتح على أصل المصدر والضم اسم المصدر والهيم : الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها وهذه الجملة بيان لما قبلها : أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى بشرب الماء ومفرد الهيم أهيم والأنثى هيماء قال قيس بن الملوح :
( يقال به داء الهيام أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائيا )
وقال الضحاك وابن عيينة والأخفش وابن كيسان : الهيم الأرض السهلة ذات الرمل والمعنى : أنهم يشربون كما تشرب هذه الأرض الماء ولا يظهر له فيها أثر قال في الصحاح : الهيام بالضم : أشد العطش والهيام كالجنون من العشق والهيام : داء يأخذ الإبل تهيم في الأرض لا ترعى يقال ناقة هيماء والهيماء أيضا : المفازة لا ماء بها والهيام بالفتح : الرمل الذي لا يتماسك في اليد للينه والجميع هيم مثل قذال وقذل والهيام بالكسر الإبل العطاش (5/219)
56 - { هذا نزلهم يوم الدين } قرأ الجمهور { نزلهم } بضمتين وروي عن أبي عمرو وابن محيصن بضمة وسكون وقد تقدم أن النزل ما يعد للضيف ويكون أول ما يأكله ويوم الدين يوم الجزاء وهو يوم القيامة والمعنى : أن ما ذكر من شجر الزقوم وشراب الحميم هو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة وفي هذا تهكم به لأن النزل هو ما يعد للأضياف تكرمه لهم ومثل هذا قوله : { فبشرهم بعذاب أليم }
وقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولون : إن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم [ أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ذكر في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها : قال : وما هي ؟ قال : السدر فإن لها شوكا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أليس الله يقول : { في سدر مخضود } ؟ يخضه الله شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يتفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما منها لوم يشبه الآخر ] وأخرج ابن أبي داود والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن عيينة بن عبد السلمي قال : [ كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه و سلم فجاء أعرابي فقال : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم أسمعت تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكا منها : يعني الطلح فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصية التيس الملبود : يعني الخصي منها فيها سبعون لونا من الطعام لا يشبه لون آخر ] وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { سدر مخضود } قال : خضده وقره من الحمل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عنه قال : المخضود الذي لا شوك فيه وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا قال : المخضود الموقر الذي لا شوك فيه وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله : { وطلح منضود } قال : هو الموز وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي هريرة مثله وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أنه قرأ وطلع منضود وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن قيس بن عباد قال : قرأت على علي بن أبي طالب { وطلح منضود } فقال علي : ما بال الطلح أما تقرأ وطلع ؟ ثم قال : { طلع نضيد } فقيل له : يا أمير المؤمنين أنحكها في المصحف ؟ قال : لا يهاج القرآن اليوم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { منضود } قال : بعضه على بعض وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرأوا إن شئتم { وظل ممدود } ] وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث أنس وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما نحوه من حديث أبي سعيد وأخرج أحمد
والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وفرش مرفوعة } قال : ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام قال الترمذي بعد إخراجه هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد انتهى ورشدين ضعيف وأخرج الفريابي وهناد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { إنا أنشأناهن إنشاء } قال : إن المنشئات التي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا ] قال الترمذي : بعد إخراجه غريب وموسى ويزيد ضعيفان وأخرج الطيالسي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وابن قانع والبيهقي في البعث عن سلمة بن يزيد الجعفي سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول في قوله : { إنا أنشأناهن إنشاء } قال : الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : خلقهن غير خلقهن الأول وأخرج ابن أبي حاتم عنه { أبكارا } قال : عذارى وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { عربا } قال : عواشق { أترابا } يقول : مستويات وأخرج ابن أبي حاتم عنه { عربا } قال : عواشق لأزواجهن وأزواجهن لهن عاشقون { أترابا } قال : في سن واحد ثلاثا وثلاثين سنة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : العروب الملقة لزوجها وأخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } قال : جميعهما من هذه الأمة ] وأخرج أبو داود الطيالسي ومسدد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي بكرة : في قوله : { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } قال : هما جميعا من هذه الأمة أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف [ عن ابن عباس في قوله : { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هما جميعا من أمتي ] وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : الثلتان جميعا من هذه الأمة وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وظل من يحموم } قال : من دخان أسود وفي لفظ : من دخان جهنم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { شرب الهيم } قال : الإبل العطاش (5/219)
قوله : 57 - { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } التفت سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتا لهم وإلزاما للحجة : أي فهلا تصدقون بالبعث أو بالخلق قال مقاتل : خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك فهلا تصدقون بالبعث ؟ (5/222)
58 - { أفرأيتم ما تمنون } أي ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف ومعنى أفرأيتم : أخبروني (5/222)
ومفعولها الأول ما تمنون والثاني الجملة الاستفهامية وهي 59 - { أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } أي تقدرونه وتصورونه بشرا أم نحن المقدرون المصورون له وأم هي المتصلة وقيل هي المنقطعة والأول أولى قرأ الجمهور { تمنون } بضم الفوقية من أمنى يمني وهما لغتان وقيل معناهما مختلف يقال أمني إذا أنزل عن جماع ومعنى إذا أنزل عن احتلام وسمي المني منيا لأنه يمني : أي يراق (5/222)
60 - { نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين } قرأ الجمهور { قدرنا } بالتشديد وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير بالتخفيف وهما لغتان يقال قدرت الشيء وقدرته : أي قسمناه عليكم ووقتناه لكل فرد من أفرادكم وقيل قضينا وقيل كتبنا والمعنى متقارب قال مقاتل : فمنكم من يموت كبيرا ومنكم من يموت صغيرا وقال الضحاك : معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء { وما نحن بمسبوقين } بمغلوبين بل قادرين (5/222)
61 - { على أن نبدل أمثالكم } أي نأتي بخلق مثلكم قال الزجاج : إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لم يسبقنا سابقا ولا يفوتنا قال ابن جرير : المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم وما نحن بمسبوقين في آجالكم : أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم { وننشئكم في ما لا تعلمون } من الصور والهيئات قال الحسن أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم وقيل المعنى : ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا وقال سعيد بن المسيب : فيما لا تعلمون : يعني في حواصل طيور سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف وبرهوت واد باليمن وقال مجاهد { في ما لا تعلمون } يعني في أي خلق شئنا ومن كان قادرا على هذا فهو قادر على البعث (5/222)
62 - { ولقد علمتم النشأة الأولى } وهي ابتداء الخلق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم تكونوا قبل ذلك شيئا وقال قتادة والضحاك : يعني خلق آدم من تراب { فلولا تذكرون } أي فهلا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة وتقيسونها على النشأة الأولى وقرأ الجمهور { النشأة } بالقصر وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو بالمد وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت (5/223)
63 - { أفرأيتم ما تحرثون } أي خبروني ما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيه البذر (5/223)
64 - { أأنتم تزرعونه } أي تنبتونه وتجعلونه زرعا فيكون فيه السنبل الحب { أم نحن الزارعون } أي المنبتون له الجاعلون له زرعا لا أنتم قال المبرد : يقال زرعه الله : أي أنماه فإذا أقررتم بهذا فكيف تنكرون البعث (5/223)
65 - { لو نشاء لجعلناه حطاما } أي لو نشاء لجعنا ما تحرثون حطاما : أي متحطما متكسرا والحطام : الهشم الذي لا ينتفع به ولا يحصل منه حب ولا شيء مما يطلب من الحرث { فظلتم تفكهون } أي صرتم تعجبون قال الفراء : تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم قال في الصحاح : وتفكه تعجب يقال تندم قال الحسن وقتادة وغيرهما : معنى الآية : تعجبون من ذهابها وتندمون مما حل بكم وقال عكرمة : تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله وقال أبو عمرو والكسائي : هو التلهف على ما فات قرأ الجمهور { فظلتم } بفتح الظاء مع لام واحدة وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية عنه بكسر الظاء وقرأ ابن عباس والجحدري فظلتم بلامين : أولاهما مكسورة على الأصل وروي عن الجحدري فتحها وهي لغة وقرأ الجمهور تفكهون وقرأ أبو حزام العكلي تفكنون بالنون مكان الهاء : أي تندمون قال ابن خالويه : تفكه تعجب وتفكن تندم وفي الصحاح التفكن التندم (5/223)
66 - { إنا لمغرمون } قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر وقرأ أبو بكر والمفضل وزر بن حبيش بهمزتين على الاستفهام والجنلة بتقدير القول : أي تقولون إنا لمغرمون : أي ملزمون غرما بما هلك من زرعنا والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض قاله الضحاك وابن كيسان وقيل [ معناه ] إنا لمعذبون قاله قتادة وغيره وقال مجاهد وعكرمة : لمولع بنا ومنه قول النمر بن تولب :
( سلا عن تذكره تكتما ... وكان رهينا بها مغرما )
يقال أغرم فلان بفلان : أي أولع وقال مقاتل : مهلكون قال النحاس : مأخوذ من الغرام وهو الهلاك ومنه قول الشاعر :
( ويوم النسار ويوم الجبا ... ر كان عليكم عذابا مقيما )
والظاهر من السياق المعنى الأول : أي إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه ومصيره حطاما (5/223)
ثم أضربوا عن قولهم هذا وانتقلوا فقالوا : 67 - { بل نحن محرومون } أي حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا والمحروم الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه وهو المحارف (5/224)
68 - { أفرأيتم الماء الذي تشربون } فتسكنون به ما يلحقكم من العطش وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء ومنافعه لأنه أعظم فوائده وأجل منافعه (5/224)
69 - { أأنتم أنزلتموه من المزن } أي السحاب قال في الصحاح : قال أبو زيد : المزنة السحابة البيضاء والجمع مزن والمزنة المطر قال الشاعر :
( ألم تر أن الله أنزل مزنة ... وعفر الظبا في الكنائس تقمع )
ومما يدل على أنه السحاب قول الشاعر :
( نحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل )
وقول الآخر :
( فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها )
{ أم نحن المنزلون } له بقدرتنا دون غيرنا فإذا عرفتم ذلك فكيف لا تقرون بالتوحيد وتصدقون بالبعث (5/224)
ثم بين لهم سبحانه لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال : 70 - { لو نشاء جعلناه أجاجا } الأجاج الماء الشديد الملوحة الذي لا يمكن شربه وقال الحسن : هو الماء المر الذي لا ينتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما { فلولا تشكرون } أي فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا تشربون منه وتنتفعون به (5/224)
71 - { أفرأيتم النار التي تورون } أي أخبروني عنها ومعنى تورون : تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب يقال أوريت النار إذا قدحتها (5/224)
72 - { أأنتم أنشأتم شجرتها } التي يكون منها الزنود وهي المرخ والعفار تقول العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار { أم نحن المنشئون } لها بقدرتنا دونكم ومعنى الإنشاء الخلق وعبر عنه بالغنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة وعجيب القدرة (5/224)
73 - { نحن جعلناها تذكرة } أي جعلنا هذه النار التي في الدنيا تذكرة لنار جهنم الكبرى قال مجاهد وقتادة : تبصرة للناس في الظلام وقال عطاء : موعظة ليتعظ بها المؤمن { ومتاعا للمقوين } أي منفعة للذين ينزلون بالقواء وهي الأرض القفر كالمسافرين وأهل البوادي النازلين في المقفرة يقال أرض قواء بالمد والصر : أي مقفرة ومنه قول النابغة :
( يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد )
وقال عنترة :
( حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقر بعد أم الهيثم )
وقول الآخر :
( ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق )
ويقال أقوى إذا سافر : أي نزل القوى وقال مجاهد المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة وتذكر نار جهنم وقال ابن زيد : للجائعين في إصلاح طعامهم يقال : أقويت منذ كذا وكذا : أي ما أكلت شيئا وبات فلان القوي : أي بات جائعا ومنه قول الشاعر :
( وإني لأختار القوي طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم )
وقال قطرب : [ القوى ] من الأضداد يكون بمعنى الفقر ويكون بمعنى الغنى يقال أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأول وهو الظاهر (5/224)
74 - { فسبح باسم ربك العظيم } الفاء لترتيب ما بعدها من ذكر الله سبحانه وتنزيهه على ما قبلها مما عدده من النعم التي أنعم بها على عباده وجحود المشركين لها وتكذيبهم بها
وقد أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في الشعب وضعفه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يقولن أحدكم زرعت ولكن يقول حرثت ] قال أبو هريرة : ألم تسمعوا الله يقول { أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { تفكهون } قال : تعجبون وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { المزن } السحاب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس { نحن جعلناها تذكرة } قال : تذكرة للنار الكبرى { ومتاعا للمقوين } قال : للمسافرين (5/225)
قوله : 75 - { فلا أقسم } ذهب جمهور المفسرين إلى أن لا مزيدة للتوكيد والمعنى : فأقسم ويؤيد هذا قوله بعد : { وإنه لقسم } وقال جماعة من المفسرين : إنها للنفي وإن المنفي بها محذوف وهو كلام الكفار الجاحدين قال الفراء : هي نفي والمعنى : ليس الأمر كما تقولون ثم استأنف فقال أقسم وضعف هذا بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز كما قال أبو حيان وغيره وقيل إنها لام الابتداء والأصل فلا اقسم فأشعت الفتحة فتولد منها ألف كقول الشاعر :
( أعوذ بالله من العقراب )
وقد قرأ هكذا فلأقسم بدون ألف الحسن وحميد وعيسى بن عمر وعلى هذا القول وهذه القراءة يقدر مبتدأ محذوف والتقدير : فلأنا أقسم بذلك وقيل إن لا هنا بمعنى ألا التي للتنبيه وهو بعيد وقيل لا هنا على ظاهرها وإنها لنفي القسم : أي فلا أقسم على هذا لأن الأمر أوضح من ذلك (5/226)
وهذا مدفوع بقوله : 76 - { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } مع تعيين المقسم به والمقسم عليه ومعنى قوله : { بمواقع النجوم } مساقطها وهي مغاربها كذا قال قتادة وغيره وقال عطاء بن أبي رباح : منازلها وقال الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة وقال الضحاك : هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا وقيل المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما من اللوح المحفوظ وبه قال السدي وغيره وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن قرأ الجمهور { مواقع } على الجمع وقرأ ابن مسعود والنخعي وحمزة والكسائي وابن محيصن وورش عن يعقوب بموقع على الإفراد قال المبرد : موقع هاهنا مصدر فهو يصلح للواحد والجمع ثم أخبر سبحانه عن تعظيم هذا القسم وتفخيمه فقال : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } هذه الجملة معترضة بين المقسم به والمقسم عليه وقوله : { لو تعلمون } جملة معترضة بين جزأي الجملة المعترضة فهو اعتراض في اعتراض قال الفراء والزجاج : هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن والضمير في إنه على القسم الذي يدل عليه أقسم والمعنى أن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون (5/226)
ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال : 77 - { إنه لقرآن كريم } أي كرمه الله وأعزه ورفع قدره على جكميع الكتب وكرمه عن أن يكون سحرا أو كهانة أو كذبا وقيل إنه كريم لما فيه من كرم الأخلاق ومعالي الأمور وقيل لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه وحكى الواحدي عن أهل المعاني أن وصف القرآن بالكريم لأن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين قال الأزهري : الكريم اسم جامع لما يحمد والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة (5/227)
78 - { في كتاب مكنون } أي مستور مصون وقيل محفوظ عن الباطل وهو اللوح المحفوظ قاله جماعة وقيل هو كتاب وقال عكرمة : هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه وقال السدي : هو الزبور وقال مجاهد وقتادة : هو المصحف الذي في أيدينا (5/227)
79 - { لا يمسه إلا المطهرون } قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون : أي لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة وقيل هم الملائكة والرسل من بني آدم ومعنى لا يمسه المس الحقيقي وقيل معناه : لا ينزل به إلا المطهرون وقيل معناه : لا يقرأه وعلى كون المراد بالكتاب المكنون هو القرآن فقيل { لا يمسه إلا المطهرون } من الأحداث والأنجاس كذا قال قتادة وغيره : وقال الكلبي المطهرون من الشرك وقال الربيع بن أنس : المطهرون من الذنوب والخطايا وقال محمد بن الفضل وغيره : معنى لا يمسه : أي المؤمنون وقال الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مس المصحف وبه قال علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي وروي عن ابن عباس والشعبي وجماعة منهم أبو حنيفة أنه يجوز للمحدث مسه وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه قرأ الجمهور { المطهرون } بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول وقرأ سلمان الفارسي بكسر الهاء على أنه اسم فاعل : أي المطهرون أنفسهم وقرأ نافع بن عمرو في رواية عنهما عيسى بن عمر بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة اسم مفعول من أطهر وقرأ الحسن وزيد بن علي وعبد الله بن عوف بتشديد الطاء وكسر الهاء وأصله المتطهرون (5/227)
80 - { تنزيل من رب العالمين } قرأ الجمهور بالرفع وقرئ بالنصب فالرفع على أنه صفة أخرى لقرآن أو خبر مبتدأ محذوف والنصب على الحال (5/228)
81 - { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } الإشارة إلى القرآن المنعوت بالنعوت السابقة والمدهن والمداهن المنافق كذا قال الزجاج وغيره وقال عطاء وغيره : هو الكذاب وقال مقاتل بن سليمان وقتادة : مدهنون كافرون كما في قوله : { ودوا لو تدهن فيدهنون } وقال الضحاك : مدهنون معرضون وقال مجاهد : ممالئون للكفار على الكفر وقال أبو كيسان : المدهن الذي لا يعقل حق الله عليه ويدفعه بالعلل والأول أولى لأن أصل المدهن الذي ظاهره خلاف باطنه كأنه يشبه الدهن في سهولته قال المؤرج : المدهن المنافق الذي يلين ليخفي كفره والإدهان والمداهنة : التكذيب والكفر والنفاق وأصله اللين وأن يسر خلاف ما يظهر وقال في الكشاف مدهنون : أي متهاونون به كمن يدهن في الأمر : أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به انتهى قال الراغب : والإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجد : كما جعل التقريد وهو نزع القراد عبارة عن ذلك ويؤيد ما ذكره قول أبي قيس بن الأسلت :
( الحزم والقوة خير من الـ ... إدهان والعهه والهاع ) (5/228)
82 - { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } في الكلام مضاف محذوف كما حكاه الواحدي عن المفسرين : أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون بنعمة الله فتضعون التكذيب موضع الشكر وقال الهيثم : إن أزدشنوءة يقولون ما رزق فلان : أي ما شكر وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف بل معنى الرزق الشكر ووجه التعبير بالرزق عن الشكر أن الشكر يفيض زيادة الرزق فيكون الشكر رزقا تعبيرا بالسبب عن المسبب ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله وأنزل عليهم المطر : سقينا بنوء كذا ومطرنا بنوء كذا قل الأزهري : معنى الآية وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرزاق وقرأ علي وابن عباس وتجعلون شكركم وقرأ الجمهور { أنكم تكذبون } بالتشديد من التكذيب وقرأ علي وعاصم في رواية عنه بالتخفيف من الكذب (5/228)
83 - { فلولا إذا بلغت الحلقوم } أي فهلا إذا بلغت الروح أو النفس الحلقوم عند الموت ولم يتقدم لها ذكر لأن المعنى مفهوم عندهم إذا جاءوا بمثل هذه العبارة ومنه قول حاتم طي :
( أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ) (5/229)
84 - { وأنتم حينئذ تنظرون } إلى ما هو فيه ذلك الذي بلغت نفسه أو روحه الحلقوم قال الزجاج : وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال ترون الميت قد صار إلى أن تخرج نفسه والمعنى أنهم في تلك الحال لا يمكنهم الدفع عنه ولا يستطيعون شيئا ينفعه أو يخفف عنه ما هو فيه (5/229)
85 - { ونحن أقرب إليه منكم } أي بالعلم والقدرة والرؤية وقيل أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه أقرب إليه منكم { ولكن لا تبصرون } أي لا تدركون ذلك لجهلكم بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد أو لا تبصرون ملائكة الموت الذين يحضرون الميت ويتولون قبضه (5/229)
86 - { فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها } يقال دان السلطان رعيته : إذا ساسهم واستعبدهم قال الفراء : دنته ملكته وأشد للحطيئة :
( لقد دنت أمر بنيك حتى ... تركتهم أدق من الطحين )
أي ملكت ويقال دانه : إذا أذله واستعبده وقيل معنى مدينين محاسبين وقيل مجزيين ومنه قول الشاعر :
( ولم ... يبق سوى العدوا ن دناهم كما دنوا )
والمعنى الأول أصق بمعنى الآية : أي فهلا إن كنتم غير مربوبين وملوكين ترجعونها : أي النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه (5/229)
87 - { إن كنتم صادقين } ولن ترجعوها فبطل زعمكم إنكم غير مربوبين ولا مملوكين والعامل في قوله إذا بلغت هو قوله ترجعونها ولولا الثانية تأكيد للأولى قال الفراء : وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد (5/229)
ثم ذكر سبحانه طبقات الخلق عند الموت وبعده فقال : 88 - { فأما إن كان من المقربين } أي السابقين من الثلاثة الأصناف المتقدم تفصيل أحوالهم (5/229)
89 - { فروح وريحان وجنة نعيم } وقرأ الجمهور { روح } بفتح الراء ومعناه الراحة من الدنيا والاستراحة من أحوالهم وقال الحسن : الروح الرحمة وقال مجاهد : الروح الفرح وقرأ ابن عباسء وعائشة والحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري { فروح } بضم الراء ورويت هذه القراءة عن يعقوب قيل وسعيد بن جبير ومقاتل قال مقاتل : هو الرزق بلغة حمير يقال خرجت أطلب ريحان الله : أي رزقه ومنه قول النمر بن تولب
( سلامالإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر )
وقال قتادة : إنه الجنة وقال الضحاك : هو الرحمة وقال الحسن : هو الريحان المعروف الذي يشم قال قتادة والربيع بن خثيم : هذا عند الموت والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث وكذا قال أبو الجوزاء وأبو العالية ومعنى وجنة نعيم أنها ذات تنعم وارتفاع روح وما بعده على الابتداء والخبر محذوف : أي فله روح (5/229)
90 - { وأما إن كان } ذلك المتوفى { من أصحاب اليمين } وقد تقدم ذكر وتفصيل أحوالهم وما أعده الله لهم من الجزاء (5/230)
91 - { فسلام لك من أصحاب اليمين } أي لست ترى فيهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم بهم فإنه يسلمون من عذاب الله وقيل المعنى : سلام لك منهم : أي أنت سالم من الاغتمام بهم وقيل المعنى : إنهم يدعون لك ويسلمون عليك وقيل إنه صلى الله عليه و سلم يحيي بالسلام إكراما وقيل هو إخبار من الله سبحانه بتسليم بعضهم على بعض وقيل المعنى : سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين (5/230)
92 - { وأما إن كان من المكذبين الضالين } أي المكذبين بالبعث الضالين عن الهدى وهم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم وتفصيل أحوالهم (5/230)
93 - { فنزل من حميم } أي فله نزل يعد لنزوله من حميم وهو الماء الذي قد تناهت حرارته وذلك بعد أن يأكل من الزقوم كما تقدم بيانه (5/230)
94 - { وتصلية جحيم } يقال أصلاه النار وصلاه : أي إذا جعله في النار وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أو إلى المكان قال المبرد : وجواب الشرط في هذه الثلاثة المواضع محذوف والتقدير : مهما يكن من شيء فروح الخ وقال الأخفش : إن الفاء في المواضع الثلاثة هي جواب أما وجواب حرف الشرط قرأ الجمهور { وتصلية } بالرفع عطفا علي فنزل وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفا على حميم : أي فنزل من حميح ومن تصلية جحيم (5/230)
95 - { إن هذا لهو حق اليقين } الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة أو إلى المذكور قريبا من أحوال المتفرقين لهو حق اليقين : أي محض اليقين وخالصه وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشيء إلى نفسه قال المبرد : هو كقولك عن اليقين ومحض اليقين هذا عند الكوفيين وجوزوا ذلك لاختلاف اللفظ وأما البصريون فيجعلون المضاف إليه محذوفا والتقدير : حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين (5/230)
والفاء في 96 - { فسبح باسم ربك العظيم } لترتيب ما بعدها على ما قبلها : أي نزهه عما لا يليق بشأنه والباء متعلقة بمحذوف : أي فسبح ملتبسا باسم ربك للتبرك به وقيل المعنى : فصل بذكر ربك وقيل الباء زائدة والاسم بمعنى الذات وقيل هي للتعدية لأن سبح يتعدى بنفسه تارة ويتعدى بالحرف أخرى والأول أولى
وقد أخرج النسائي وابن جرير ومحمد بن نصر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين وفي لفظ : ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ { فلا أقسم بمواقع النجوم } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه { فلا أقسم بمواقع النجوم } قال القرآن { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } قال : القرآن وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : نجوم القرآن حين ينزل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في المعرفة من طرق عن ابن عباس أيضا { لا يمسه إلا المطهرون } قال : الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أنس { لا يمسه إلا المطهرون } قال : الملائكة وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن علقمة قال : أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف فقلنا له : لو توضأت يا أيا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا وكذا قال : إنما قال الله { في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون } وهو الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا وأخرج عبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : لا تمس القرآن إلا على طهر وأخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال : قرأ في صحيفة عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ولا يمس القرآن إلا طاهر ] وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمرو وعثمان بن أبي العاص وفي أسانيدها نظر وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان لا يمس المصحف إلا متوضئا وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ثم خرج إلينا فقلنا : لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن فقال : سلوني فإني لن أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا { لا يمسه إلا المطهرون } وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يمس القرآن إلا طاهر ] وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعثه إلى اليمن كتب له في عهده : أن لا يمس القرآن إلا طاهر ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أنتم مدهنون } قال : مكذبون وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال [ مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا : هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا فنزلت هذه الآية { فلا أقسم بمواقع النجوم } حتى بلغ { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } ] وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في الصحيحين من حديث ومعنى هذه القرىءة الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم والريحان : الرزق في الجنة قاله مجاهد زيد بن خالد الجهني ومن حديث أبي سعيد الخدري وفي الباب أحاديث وأخرج أحمد وابن منيع وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } قال : شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عائشة قالت : ما فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم من القرآن إلا آيات يسيرة قوله : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } قال : شكركم وأخرج ابن مردويه عن علي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ { وتجعلون رزقكم } ] وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وتجعلون شكركم قال : يعني الأنواء وما مطر قوم إلا أصبح كافرا كانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون وأخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قرأ وتجعلون شكركم وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأها كذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { غير مدينين } قال : غير محاسبين وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن خيثم { فأما إن كان من المقربين } الآية قال : هذا له عند الموت { وجنة نعيم } تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث { وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم } قال : هذا عند الموت { وتصلية جحيم } قال : تخبأ له الجحيم إلى يوم البعث وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فروح } قال : رائحة { وريحان } قال : استراحة وأخرج ابن جرير عنه قال : يعني بالريحان المستريح من الدنيا { وجنة نعيم } يقول : مغفرة ورحمة وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : الريحان الرزق وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله : { فسلام لك من أصحاب اليمين } قال : تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { إن هذا لهو حق اليقين } قال : ما قصصنا عليك في هذه السورة وأخرج عنه أيضا { فسبح باسم ربك العظيم } قال : فصل لربك وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر الجهني قال [ لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم { فسبح باسم ربك العظيم } قال : اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت { سبح اسم ربك الأعلى } قال : اجعلوها في سجودكم ] (5/230)
سورة الحديد
هي تسع وعشرون آية
وهي مدنية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحديد بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء ونهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الحجامة يوم الثلاثاء ] وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعا [ لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء ] وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن العرباض بن سارية [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية ] وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يذكر العرباض بن سارية فهو مرسل وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات وكان يقول :
إن فيهن آية أفضل من ألف آية ] قال يحيى : فنراها الآية التي في آخر الحشر وقال ابن كثير في تفسيره : والآية المشارة إليها والله أعلم هي قوله : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } الآية والمسبحات المذكورة هي : الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن
قوله : 1 - { سبح لله ما في السموات والأرض } أي نزهه ومجده قال المقاتلان : يعني كل شيء من ذي روح وغيره وقد تقدم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجن وبلسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل موجود يدل على الصانع وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال : لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة فلم قال : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } وإنما هو تسبيح مقال واستدل بقوله : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص داود فائدة وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارة كما في قوله : { وسبحوه } وباللام أخرى كهذه الآية وأصله أن يكون متعديا بنفسه لأن معنى سبحته : بعدته عن السوء فإذا استعمل باللام فهي إما مزيدة للتأكيد كما في شكرته وشكرت له أو هي للتعليل : أي افعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصا له وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضيا كهذه الفاتحة وفي بعضها مضارعا وفي بعضها أمرا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت بل هي مسبحة أبدا في الماضي وستكون مسبحة أبدا في المستقبل { وهو العزيز } أي القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد ولا يمانعه ممانع كائنا ما كان { الحكيم } الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب (5/233)
2 - { له ملك السموات والأرض } يتصرف فيه وحده ولاينفذ غير تصرفه وأمره وقيل أراد خزائن المطر والنبات وسائر الأرزاق { يحيي ويميت } الفعلان في محل رفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف أو في محل نصب على الحال من ضمير له أو كلام مستأنفة لبيان بعض أحكام الملك والمعنى : أنه يحيي في الدنيا ويميت الأحياء وقيل يحيي النطف وهي موات ويميت الأحياء وقيل يحيي الأموات للبعث { وهو على كل شيء قدير } لا يعجزه شيئ كائنا ما كان (5/234)
3 - { هو الأول } قبل كل شيء { والآخر } بعد كل شيء : أي الباقي بعد فناء خلقه { والظاهر } العالي الغالب على كل شيء أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة { والباطن } أي العالم بما بطن ومن قولهم فلان يبطن أمر فلان : أي يعلم داخلة أمره ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار والعقول وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سيأتي فيتعين المصير إلى ذلك { وهو بكل شيء عليم } لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات (5/235)
4 - { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } هذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفى { يعلم ما يلج في الأرض } أي يدخل فيها من مطر وغيره { وما يخرج منها } من نبات وغيره { وما ينزل من السماء } من مطر وغيره { وما يعرج فيها } أي يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد وقد تقدم تفسير هذا في سورة سبأ { وهو معكم أين ما كنتم } أي بقدرته وسلطانه وعلمه وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من بر وبحر { والله بما تعملون بصير } لا يخفى عليه من أعمالكم شيء (5/235)
5 - { له ملك السموات والأرض } هذا التكرير للتأكيد { وإلى الله ترجع الأمور } لا إلى غيره قرأ الجمهور { ترجع } مبينا للمفعول وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر على البناء للفاعل (5/235)
6 - { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } قد تقدم تفسير هذا في سورة آل عمران وفي مواضع { وهو عليم بذات الصدور } أي بضمائر الصدور ومكنوناتها لا يخفى عليه من ذلك خافية
وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم تسأله خادما فقال : [ قوله : اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم وربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر ] وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعا مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة وتفسيرها وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا : هذا الله كان قبل كل شيء فماذا كان قبل الله ؟ فإن قالوا لكم ذلك فقولوا : هو الأول قبل كل شيء والآخر فليس بعده شيء وهو الظاهر فوق كل شيء وهو الباطن دون كل شيء وهو بكل شيء عليم ] وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري قال ما هو ؟ قلت : والله لا أتكلم به قال : فقال لي : أشيء من شك ؟ قال وضحك قال : ما نجا من ذلك أحد قال حتى أنزل الله { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } الآية قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئا فقل : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابي عباس في قوله : { وهو معكم أين ما كنتم } قال : عالم بكم أينما كنتم (5/235)
7 - قوله { آمنوا بالله ورسوله } أي صدقوا بالتوحيد وبصحة الرسالة وهذا خطاب لكفار العرب ويجوز أن يكون خطابا للجميع ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه أو الازدياد منه ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } أي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة فإن المال مال الله والعباد خلفاء الله في أمواله فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه وقيل جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم فلا تبخلوا به كذا قال الحسن وغيره وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبيل الخير قبل أن ينتقل عنهم ويصير إلى غيرهم والظاهر أن معنى الآية الترغيب في الإنفاق في الخير وما يرضاه الله على العموم وقيل هو خاص بالزكاة المفروضة ولا وجه لهذا الخصوص ثم ذكر سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال : { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } أي الذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله وبين الإنفاق في سبيل الله لهم أجر كبير وهو الجنة (5/233)
8 - { وما لكم لا تؤمنون بالله } هذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع : أي أي عذر لكم وأي مانع من الإيمان وقد أزيحت عنكم العلل وما مبتدأ ولكم خبره ولا تؤمنون في محل نصب على الحال من الضمير في لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار وقيل المعنى : أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا ؟ وجملة { والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم } في محل نصب على الحال من ضمير لا تؤمنون على التداخل ولتؤمنوا متعلق بيدعوكم : أي يدعوكم للإيمان والمعنى : أي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ؟ وجملة { وقد أخذ ميثاقكم } في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضا : أي والحال أن قد أخذ الله ميثاقكم حين أخبرجكم من ظهر أبيكم آدم أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان قرأ الجمهور { وقد أخذ } مبنيا للفاعل وهو الله سبحانه لتقدم ذكره وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول { إن كنتم مؤمنين } بما أخذ عليكم من الميثاق أو بالحجج والدلائل أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب فهذا من أعظم أسبابه وأوضح موجباته (5/237)
9 - { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات } أي واضحات ظاهرات وهي الآية القرآنية وقيل المعجزات والقرآن أعظمها { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } أي ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات أو بالدعوة { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } أي لكثير الرأفة والرحمة بليغهما حيث أنزل كتبه وبعث رسله لهداية عباده فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه (5/237)
والاستفهام في قوله : 10 - { وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله } للتقريع والتوبيخ والكلام في إعراب هذا كالكلام في إعراب قوله : { وما لكم لا تؤمنون بالله } وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } هو الإنفاق في سبيل الله كما بينا ذلك والمعنى : أي عذر لكم وأي شيء يمنعكم من ذلك والأصل في أن لا تنفقوا وقيل إن أن زائدة وجملة { ولله ميراث السموات والأرض } في محل نصب على الحال من فاعل ألا تنفقوا أو من مفعوله والمعنى : أي شيء يمنعكم من الإنفاق في ذلك الوجه والحال أن كل ما في السموات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث ولا يبقى لهم منه شيء وهذا أدخل في التوبيخ وأكمل في التقريع فإن كون تلك الأموال تخرج عن أهلها وتصير لله سبحانه ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة وهم خلفاؤه في التصرف فيها ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح } قيل المراد بالفتح فتح مكة وبه قال أكثر المفسرين وقال الشعبي والزهري : فتح الحديبية قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك وكذا قال مقاتل وغيره وفي الكلام حذف والتقدير : لا يستوي من أنفق من قبل الفتح { وقاتل } ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل فحذف لظهوره ولدلالة ما سيأتي عليه وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقل وأضعف وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال والجود بالنفس أقصى غاية الجود والإشارة بقوله : { أولئك } إلى من باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره { أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } أي أرفع منزلة وأعلى رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عطاء : درجات الجنة تتفاضل فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها قال الزجاج : لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم وكانت بصائرهم أيضا أنفذ
وقد أرشد صلى الله عليه و سلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صح عنه [ لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ
مد أحدهم ولا نصيفه ] وهذا خطاب منه صلى الله عليه و سلم للمتأخرين وصحبه كما يرشد إلى ذلك السبب
الذي ورد فيه هذا الحديث { وكلا وعد الله الحسنى } أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى
وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها قرأ الجمهور { وكلا } بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر وقرأ ابن
عامر بالرفع على الابتداء والجملة بعده خبره والعائد محذوف أو على أنه خبر محذوف ومثل هذا قول
الشاعر :
( قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع )
{ والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه من ذلك شيء (5/233)
ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال : 11 - { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الل فإنه كمن يقرضه والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا قد أقرض ومنه قول الشاعر :
( إذا جوزيت قرضا فأجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل )
قال الكلبي { قرضا } أي صدقة { حسنا } أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى قال مقاتل : حسنا طيبة به نفسه وقد تقدم تفسير الآية في سورة البقرة { فيضاعفه له } قرأ ابن عامر وابن كثير فيضعفه بإسقاط الألف إلا أن ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة فيضاعفه بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفاء ورفع الباقون قال ابن عطية : الرفع على العطف على يقرض أو الاستئناف والنصب لكون الفاء في جواب الاستفهام وضعف النصب أبو علي الفارسي قال لأن السؤال لم يقع عن القرض وإنما وقع عن فاعل القرض وإنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى كأن قوله : { من ذا الذي يقرض الله } بمنزلة قوله أيقرض الله أحد { وله أجر كريم } وهو الجنة والمضاعفة هنا هي كون الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال [ خرجنا مع رسول الله عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يوشك أن يأتي قوم [ تحرقون ] أعمالكم مع أعمالهم قلنا من هم يا رسول الله ؟ أقريش ؟ قال : لا ولكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال : لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه إلا أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } الآية ] وهذا الحديث قال ابن كثير : هو غريب بهذا الإسناد وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية وأخرج أحمد عن أنس قال : [ كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال : دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ] والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بلفظ : [ لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك أحدهم ولا نصيفه ] لفظ [ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ] وأخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما عن حديث أبي سعيد الخدري وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره (5/238)
قوله : 12 - { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } العامل في الظرف مضمر وهو أذكر أو كريم أو فيضاعفه أو العامل في لهم وهو الاستقرار والخطاب لكل من يصلح له وقوله : { يسعى نورهم } في محل نصب على الحال من مفعول ترى والنور هو الضياء الذي يرى { بين أيديهم وبأيمانهم } وذلك على الصراط يوم القيامة وهو دليلهم إلى الجنة قال قتادة : إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نورة إلا موضع قدميه وقال الضحاك ومقاتل : وبأيمانهم كتبهم التي أعطوها فكتبهم بأيمانهم ونورهم بين أيديهم قال الفراء : الباء بمعنى في : أي في أيمانهم أو بمعنى عن قال الضحاك أيضا : نورهم هداهم وبأيمانهم كتبهم واختار هذا ابن جرير الطبري : أي يسعى أيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم قرأ الجمهور { بأيمانهم } جمع يمين وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة بأيمانهم بكسر الهمزة على أن المراد بالإيمان ضد الكفر وقيل هو القرآن والجار والمجرور في الموضعين في محل نصب على الحال من نورهم : أي كائنا بين أيديهم وبأيمانهم { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } بشراكم مبتدأ وخبره جنات على تقدير مضاف : أي دخول جنات والجملة مقول قول مقدر : أي يقال لهم هذا والقائل لهم هم الملائكة قال مكي : وأجاز الفراء نصب جنات على الحال ويكون اليوم خبر بشراكم وهذا بعيد جدا خالدين فيها حال مقدرة والإشارة بقوله : { ذلك } إلى النور والبشرى وهو مبتدأ وخبره { هو الفوز العظيم } أي لا يقادر قدره حتى كأنه لا فوز غيره ولا اعتداد بما سواه (5/240)
13 - { يوم يقول المنافقون والمنافقات } يوم بدل من يوم الأول ويجوز أن يكون العامل فيه الفوز العظيم ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر : أي اذكر { للذين آمنوا } اللام للتبليغ كنظائرها قرأ الجمهور { انظرونا } أمرا بوصل الهمزة وضم الفاء من النظر بمعنى الانتظار : أي انتظرونا يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار : أي أمهلونا وأخبرونا يقال أنظرته واستنظرته : أي أمهلته واستمهلته قال الفراء : تقول العرب أنظرني : أي انتظرني وأنشد قول عمرو بن كلثوم :
( أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا )
وقيل معنى انظرونا : انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنورهم { نقتبس من نوركم } أي نستضيء منه والقبس : الشعلة من النار والسراج فلما قالوا ذلك { قيل ارجعوا وراءكم } أي قال لهم المؤمنون أو الملائكة زجرا لهم وتهكما بهم : أي ارجعوا وراءكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور { فالتمسوا نورا } أي اطلبوا هنالك نورا لأنفسكم فإنه من هنالك يقتبس وقيل المعنى : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة وقيل أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكما بهم { فضرب بينهم بسور } السور : هو الحاجز بين الشيئين والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار أو بين أهل الجنة وأهل انار قال الكسائي : والباء في بسور زائدة ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال : { له باب باطنه فيه الرحمة } أي باطن ذلك السور وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة فيه الرحمة وهي الجنة { وظاهره } وهو الجانب الذي يلي أهل النار { من قبله العذاب } أي من جهته عذاب جهنم وقيل إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور وقيل إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين (5/240)
ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك فقال : 14 - { ينادونهم ألم نكن معكم } أي موافقين لكم في الظاهر نصلي بصلاتكم في مساجدكم ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم والجملة مستأنفة كأنه قيل : فماذا قال المنافقون بعد ضرب السور بينهم وبين المنؤمنين ؟ فقال : { ينادونهم } ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال : { قالوا بلى } أي كنتم معنا في الظاهر { ولكنكم فتنتم أنفسكم } بالنفاق وإبطان الكفر قال مجاهد أهلكتموها بالنفاق وقيل بالشهوات واللذات { وتربصتم } بمحمد صلى الله عليه و سلم وبمن معه من المؤمنين حوادث الدهر وقيل تربصتم بالتوبة والأول أولى { وارتبتم } أي شككتم في أمر الدين ولم تصدقوا ما نزل من القرآن ولا بالمعجزات الظاهرة { وغرتكم الأماني } الباطلة التي من [ جملتها ] ما كنتم فيه من التربض وقيل هو طول الأمل وقيل ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين وقال قتادة : الأماني هنا غرور الشيطان وقيل الدنيا وقيل هو طمعهم في المغفرة وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأماني { حتى جاء أمر الله } وهو الموت وقيل نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه و سلم وقال قتادة : هو إلقاؤهم في النار { وغركم بالله الغرور } قرأ الجمهور { الغرور } بفتح الغين وهو صفة على فعول والمراد به الشيطان : أي خدعكم بحلم الله وإمهاله الشيطان وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع وسماك بن حرب بضمها وهو مصدر (5/241)
15 - { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون { ولا من الذين كفروا } بالله ظاهرا وباطنا { مأواكم النار } أي منزلكم الذي تأوون إليه النار { هي مولاكم } أي هي أولى بكم والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان ثم استعمل فيمن يلازمه وقيل معنى مولاكم : مكانكم عن قرب من الولي وهو القرب وقيل إن الله [ يركب ] في النار الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار وقيل المعنى : هي ناصركم على طريقة قول الشاعر :
( تحية بينهم ضرب وجيع )
{ وبئس المصير } الذي تصيرون إليه وهو النار
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود { يسعى نورهم بين أيديهم } قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويوقد أخرى وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم فأظلم الله على المنافقين فقالوا حينئذ { انظرونا نقتبس من نوركم } فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون : { ارجعوا وراءكم } من حيث جئتم من الظلمة { فالتمسوا } هنالك النور وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون { انظرونا نقتبس من نوركم } وقال المؤمنون { ربنا أتمم لنا نورنا }
فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا ] وفي الباب أحاديث وآثار وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت : أنه كان على سور بيت المقدس فبكى فقيل له ما يبكيك ؟ فقال : هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه رأى جهنم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله في القرآن { فضرب بينهم بسور } هو السور الذي ببيت المقدس الشرقي { باطنه فيه الرحمة } المسجد { وظاهره من قبله العذاب } يعني وادي جهنم وما يليه
ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال ولا سيما بعد زيادة قوله : باطنه في الرحمة المسجد فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين وأي معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس ويجعله في الدار الآخرة سورا مضروبا بين المؤمنين والمنافقين فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرحمة بالمسجد وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد ويجعل المنافقين خارجه فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس فإن كان مثل هذا التفسير ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبلناه وآمنا به وإلا فلا كرامة ولا قبول وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { ولكنكم فتنتم أنفسكم } قال : بالشهوات واللذات { وتربصتم } قال : بالتوبة { وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله } قال : الموت { وغركم بالله الغرور } قال : الشيطان (5/242)
قوله : 16 - { ألم يأن للذين آمنوا } يقال أنى لك يأنى أنى : إذا حان قرأ الجمهور { ألم يأن } وقرأ الحسن وأبو السماك ألما يأن وأنشد ابن السكيت :
( ألما يأن لي أن تجلى عمايتي ... وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا )
و { أن تخشع قلوبهم } فاعل يأن : أي ألم يحضر خشوع قلوبهم ويجيء وقته ومنه قول الشاعر :
( ألم يأن لي قلب أن أترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا )
هذه الآية نزلت في المؤنين قال الحسن : يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه وقيل إن الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد قال الزجاج : نزلت في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع فأما من وصفهم الله بالرقة والخشوع فطبقة فوق هؤلاء وقال السدي وغيره : المعنى ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر وأسروا الكفر أن تخشع قلوبهم { لذكر الله } وسيأتي في آخر البحث ما يقوي قول من قال إنها نزلت في المسلمين والخشوع لين القلب ورقته والمعنى : أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعا ورقة ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر ولا يخشع له { وما نزل من الحق } معطوف على ذكر الله والمراد بما نزل من الحق القرآن فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان أو خطور بالقلب وقيل المراد بالذكر هو القرآن فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير أو باعتبار تغير المفهومين قرأ الجمهور { نزل } مشددا مبنيا للفاعل وقرأ نافع وحفص بالتخفيف مبنيا للفاعل وقرأ ابن مسعود أنزل مبنيا للفاعل { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جريا على ما تقدم وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالفوقية على [ الخطاب ] التفاتا وبها قرأ عيسى وابن إسحاق والجملة معطوفة على تخشع : أي ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم ولا يكونوا والمعنى : النهي لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن { فطال عليهم الأمد } أي طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم قرأ الجمهور الأمد بتخفيف الدال وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها : أي الزمن الطويل وقيل المراد بالأمد على القراءة الأولى الأجل والغاية يقال أمد فلان كذا : أي غايته { فقست قلوبهم } بذلك السبب فلذلك حرفوا وبدلوا فهنى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه و سلم أن يكونوا مثلهم { وكثير منهم فاسقون } أي خارجون عن طاعة الله لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم وحرفوا وبدلوا ولم يؤمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه و سلم وقيل هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم وقيل هم الذين ابتعدوا الرهبانية وهم أصحاب الصوامع (5/244)
17 - { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها ويلين القلوب بعد قسوتها { قد بينا لكم الآيات } التي من جملتها هذه الآيات { لعلكم تعقلون } أي كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ وتعلموا بموجب ذلك (5/245)
18 - { إن المصدقين والمصدقات } قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الوضعين من الصدقة وأصله المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد وقرأ أبي المتصدقين والمتصدقات بإثبات التاء على الأصل وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد فيهما من التصديق : أي صدقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما جاء به { وأقرضوا الله قرضا حسنا } معطوف على اسم الفاعل في المصدقين لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حل محل الفعل فكأنه قال : إن الذين تصدقوا وأقرضوا كذا قال أبو علي الفارسي وغيره وقيل جملة وأقرضوا معترضة بين اسم إن وخبرها وهو { يضاعف } وقيل هي صلة لموصول محذوف : أي والذين أقرضوا والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية وصحة قصد واحتساب أجر قرأ الجمهور { يضاعف لهم } بفتح العين على البناء للمفعول والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور أو ضمير يرجع إلى المصدقين على حذف مضاف : أي ثوابهم وقرأ الأعمش يضاعفه بكسر العين وزيادة الهاء وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب { يضاعف } بتشديد العين وفتحها { ولهم أجر كريم } وهو الجنة والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف (5/245)
19 - { والذين آمنوا بالله ورسله } جميعا والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول وخبره قوله : { هم الصديقون والشهداء } والجملة خبر الموصول قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله فهو صديق قال المقاتلان : هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم وقال مجاهد : هذه الآية للشهداء خاصة وهم الأنبياء الذي يشهدون للأمر وعليهم واختار هذا الفراء والزجاج وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله وكذا قال ابن جرير وقيل هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ والظاهر أن معنى الآية : إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعا بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الدرجة عند الله وقيل إن الصديقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله وصدقوا جميع رسله والقائمون لله سبحانه بالتوحيد ثم بين سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال : { لهم أجرهم ونورهم } والضمير الأول راجع إلى الموصول والضميران الأخيران راجعان إلى الصديقين والشهداء فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد والمعنى : لهم الأجر والنور الموعودان لهم ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم ذكر حال الكافرين وعقابهم
فقال : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } أي جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول باعتبار ما في صلته من اتصافهم بالكفر والتكذيب وهذا مبتدأ وخبره { أصحاب الجحيم } يعذبون بها ولا أجر لهم ولا نور بل عذاب مقيم وظلمة دائمة
وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن فأنزل الله : { ألم يأن للذين آمنوا } الآية ] وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال : أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم ولقد أنزل علي في ضحككم آية { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } قالوا : يا رسول الله فما كفارة ذلك ؟ قال : تبكون بقدر ما ضحكتم ] وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { ألم يأن للذين آمنوا } إلا أربع سنين وأخرج نحوه عنه ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق أخرى وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عنه أيضا قال : لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض : أي شيء أحدثنا أي شيء صنعنا ؟ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن { ألم يأن للذين آمنوا } الآية وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي رواد أن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت هذه الآية { ألم يأن للذين آمنوا } وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } قال : يعني أنه يلين القلوب بعد قسوتها وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ مؤمنوا أمتي شهداء ثم تلا النبي صلى الله عليه و سلم : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } ] وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال : كل مؤمن صديق وشهيد وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : [ إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد ثم تلا هذه الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } قال : هذه مفصولة { والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } ] وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني : قال [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا ؟ قال : من الصديقين والشهداء ] (5/245)
قوله : 20 - { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } لما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني وما وقع منهم من الكفر والتكذيب وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرها بين لهم حقارتهم وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة واللعب هو الباطل اللهو كل شيء يتلهى به ثم يذهب قال قتادة : لعب ولهو أكل وشرب قال مجاهد : كل لعب لهو وقيل اللعب ما رغب في الدنيا واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها وقيل اللعب الاقتناء واللهو النساء وقد تقدم تحقيق هذا في سورة الأنعام والزينة التزين بمتاع الدنيا من دون عمل للآخرة { وتفاخر بينكم } قرأ الجمهور بتنوين { تفاخر } والظرف صفة له أو معمول له وقرأ السلمي بالإضافة : أي يفتخر به بعضكم على بعض وقيل يتفاخرون بالخلقة والقوة وقيل بالأنساب والأحساب كما كانت عليه العرب { وتكاثر في الأموال والأولاد } أي يتكاثرون بأموالهم وأولادهم وتيطاولون بذلك على الفقراء ثم بين سبحانه لهذه الحاية شبها وضرب لها مثلا فقال : { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } أي كمثل مطر أعجب الزراع نباته والمراد بالكفار هنا الزراع لأنهم يكفرون البذر : أي يغطونه بالتراب ومعنى نباته : النبات الحاصل به { ثم يهيج } أي يجف بعد خضرته وييبس { فتراه مصفرا } أي متغيرا عما كان عليه من الخضرة : والرونق إلى لون الصفرة والذبول { ثم يكون حطاما } أي فتاتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه وقد تقدم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف والمعنى : أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته وكثرة نضارته ثم لا يلبث أن يصير هشيما تبنا كأن لم يكن وقرئ مصفارا والكاف في محل نصب على الحال أو في محل رفع على أنها خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا وسرعة زوالها ذكر ما أعده للعصاة في الدار الآخرة فقال : { وفي الآخرة عذاب شدي } وأتبعه بما أعده لأهل الطاعة فقال : { ومغفرة من الله ورضوان } والتنكير فيهما للتعظيم قال قتادة : عذاب شديد لأعداء الله ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته قال الفراء : التقدير عذاب شديد لأعداء الله ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته قال الفراء : التقدير في الآية إما عذاب شديد وإما مغفرة فلا يوقف على شديد ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا فقال : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } لمن اغتر بها ولم يعمل لآخرته قال سعيد بن جبير : متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه وهذه الجملة مقررة للمثل المتقدم ومؤكدة له (5/247)
ثم نذب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح فإن ذلك سبب إلى الجنة فقال : 21 - { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } أي سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي وقيل المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام قاله مكحول وقيل المراد الصف الأول ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا بل هو من جملة ما تصدق عليه صدقا شموليا أو بدليا { وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } أي كعرضهما وإذا كان هذا قدر عرضها فما ظنك بطولها قال الحسن : يعني جميع السموات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها وقيل المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة وقال ابن كيسان : عنى به جنة واحدة من الجنات والعرض أقل من الطول ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله ومن ذلك قول الشاعر :
( كأن بلاد الله وهي عريضة ... إلى الخائف المطلوب كفة حابل )
وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى فقال : { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرد الإيمان بالله ورسله ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه واجتنب ما نهاه الله عنه وهذ أدلة كثيرة في الكتاب والسنة والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة وهو مبتدأ وخبره { فضل الله يؤتيه من يشاء } أي يعطيه من يشاء 'طاءه إياه تفضلا وإحسانا { والله ذو الفضل العظيم } فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع والخير كله بيده وهو الكريم المطلق والجواد الذي لا يبخل (5/248)
ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره وثبت في أم الكتاب فقال : 22 - { ما أصاب من مصيبة في الأرض } من قحط مطر وضعف نبات ونقص ثمار قال مقاتل : القحط وقلة النبات والثمار وقيل الجوائح في الزرع { ولا في أنفسكم } قال قتادة : بالأوصاب والأسقام وقال مقاتل : إقامة الحدود وقال ابن جريح : ضيق المعاش { إلا في كتاب } في محل نصب على الحال من مصيبة : أي إلا حال كونها مكتوبة في كتاب وهو اللوح المحفوظ وجملة { من قبل أن نبرأها } في محل جر صفة لكتاب والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة أو إلى الأنفس أو إلى الأرض أو إلى جميع ذلك ومعنى نبرأها نخلقها { إن ذلك على الله يسير } أي أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير (5/249)
23 - { لكي لا تأسوا على ما فاتكم } أي اختبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم منالدنيا { ولا تفرحوا بما آتاكم } منها : أي أعطاكم منها فإن ذلك يزول عن قريب وكل زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله ولا يحزن على فواته ومع أن الكل بقضاء الله وقدره فلن يعدو امرأ ما كتب له وما كان حصوله كائنا لا محالة فليس بمستحق للفرح بحصوله ولا للحزن على فوته وقيل والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز وإلا فليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح قرأ الجمهور { بما آتاكم } بالمد : أي أعطاكم وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو بالقصر : أي جاءكم واختار القراءة الأولى أبو حاتم واختار القراءة الثانية أبو عبيد { والله لا يحب كل مختال فخور } أي لا يحب من اتصف بهاتين الصفتين وهما الاختيال والافتخار قيل هو ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر وقيل إن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها وقيل المختال الذي ينظر إلى نفسه والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله (5/249)
24 - { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } الموصول في محل رفع بالابتداء وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله والخبر مقدر : أي الذي يبخلون فالله غني عنهم ويدل على ذلك قوله : { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } وقيل الموصول في محل جر بدل من مختال وهو بعيد فإن هذا البخال بما في اليد وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور لا لغة ولا شرعا وقيل هو في محل جر نعت له وهو أيضا بعيد قال سعيد بن جبير : الذين يبخلون بالعلم ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئا وقال زيد بن أسلم : إنه البخل بأداء حق الله وقيل إنه البخل بالصدقة وقال طاوس : إنه البخل بما في يديه وقيل أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه و سلم في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مآكلهم قاله السدي والكلبي : قرأ الجمهور { بالبخل } بضم الباء وسكون الخاء وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي بفتحتين وهي لغة الأنصار وقرأ أبو العالية وابن السميفع بفتح الباء وإسكان الخاء وقرأ نصر بن عاصم بضمهما وكلها لغات { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه محمود عند خلقه لا يضره ذلك قرأ الجمهور { هو الغني } بإثبات ضمير الفصل وقرأ نافع وابن عامر { فإن الله هو الغني الحميد } بحذف الضمير
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم } يقول في الدين والدنيا { إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } قال نخلقها : { لكي لا تأسوا على ما فاتكم } من الدنيا { ولا تفرحوا بما آتاكم } منها وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أيضا في قوله : { لكي لا تأسوا على ما فاتكم } الآية قال : ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال : يريد مصائب المعاش ولا يريد مصائب الدين إنه قال : { لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } وليس هذا من مصائب الدين أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة (5/250)
قوله : 25 - { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة { وأنزلنا معهم الكتاب } المراد الجنس فيدخل فيه كتاب كل رسول { والميزان ليقوم الناس بالقسط } قال قتادة ومقاتل بن حيان : الميزان العدل والمعنى : أمرناهم بالعدل كما في قوله : { والسماء رفعها ووضع الميزان } وقوله : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } وقال ابن زيد : هو ما يوزن به ويتعامل به ومعنى { ليقوم الناس بالقسط } ليتبعوا ما أمروا به من العدل فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة والقسط العدل وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل ومعنى إنزاله : إنزال أسبابه وموجباته وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها فيكون إنزاله بمعنى إرشاد الناس إليه وإلهامهم الوزن به ويكون الكلام من باب - علفتهما تبنا وماء باردا - { وأنزلنا الحديد } أي خلقناه كما في قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } والمعنى : أنه خلقه من المعادن وعلم الناس صنعته وقيل إنه نزل مع آدم { فيه بأس شديد } لأنه تتخذ منه آلات الحرب قال الزجاج : يمتنع به ويحارب والمعنى : أنه تتخذ منه آلة للدفع وآلة للضرب قال مجاهد : فيه جنة وسلاح ومعنى { ومنافع للناس } أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه مثل السكين والفأس والإبرة وآلات الزراعة والنجارة والعمارة { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } معطوف على قوله : ليقوم الناس : أي لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم وقيل معطوف على علة مقدرة كأنه قيل ليتعملوه وليعلم الله والأول أولى والمعنى : أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله فمن نصر دينه ورسله فمن نصر دينه ورسله علمه ناصرا ومن عصي علمه بخلاف ذلك وبالغيب في محل نصب على الحال من فاعل ينصره أو من مفعوله : أي غائبا عنهم أو غائبين عنه { إن الله قوي عزيز } أي قادر على كل شيء غالب لكل شيء وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله بل كلفهم بذلك لنتفعوا به إذا امتثلوا ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين (5/251)
26 - { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم } لما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالا أشار هنا إلى نوع تفصيل فذكر رسالته لنوح وإبراهيم وكرر القسم للتوكيد { وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } أي جعلنا فيهم النبوة والكتب المنزلة على الأنبياء منهم وقيل جعل بعضهم أنبياء وبعضهم يتلون الكتاب { فمنهم مهتد } أي فمن الذرية من اهتدى بهدى نوح وإبراهيم وقيل المعنى : فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى { وكثير منهم فاسقون } خارجون عن الطاعة (5/252)
27 - { ثم قفينا على آثارهم برسلنا } أي اتبعنا على آثار الذرية أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى وإلياس وداود وسليمان وغيرهم { وقفينا بعيسى ابن مريم } أي أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه و { آتيناه الإنجيل } وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه وقد تقدم ذكر استقاقه في سورة آل عمران قرأ الجمهور { الإنجيل } بكسر الهمزة وقرأ الحسن بفتحها { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } الذين اتبعوه هم الحواريون جعل الله في قلوبهم مودة لبعضهم البعض ورحمة يتراحمون بها بخلاف اليهود فإنهم ليسوا كذلك وأصل الرأفة اللين والرحمة الشفقة وقيل الرأفة أشد الرحمة { ورهبانية ابتدعوها } انتصاب رهبانية على الاشتغال : أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها وليس بمعطوفة على ما قبلها وقيل معطوفة على ما قبلها : أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم والأول أولى ورجحه أبو علي الفارسي وغيره وجملة { ما كتبناها عليهم } صفة ثانية لرهبانية أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم والمعنى : ما فرضناها عليهم والرهبانية بفتح الراء وضمها وقد قرئ بهما وهي بالفتح الخوف من الرهب وبالضم منسوبة إلى الرهبان وذلك لأنهم غلوا في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح وتعلقوا بالكهوف والصوامع لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما { إلا ابتغاء رضوان الله } الاستثناء منقطع : أي ما كتبناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله وقال الزجاج : ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة قال : ويكون { إلا ابتغاء رضوان الله } بدلا من الهاء والألف في كتبناها والمعنى : ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله { فما رعوها حق رعايتها } أي لم رعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم وبل صيعوها وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين الملوك الذي غيروا وبدلوا وتركوا الترهب ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم وهم المرادون بقوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } الذي يستحقونه بالإيمان وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى أمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم لما بعثه الله { وكثير منهم فاسقون } خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به ووجه الذم لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة وأن الله يرضاها فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه دينا وأما على القول بأن الاستثناء متصل وأن التقدير : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها فوجه الذم ظاهر (5/252)
ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم فقال : 28 - { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } بترك ما نهاكم عنه { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه و سلم { يؤتكم كفلين من رحمته } أي نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل وأصل الكفل الحظ والنصيب وقد تقدم الكلام على تفسيره في سورة النساء { ويجعل لكم نورا تمشون به } يعني على الصراط كما قال : { نورهم يسعى بين أيديهم } وقيل المعنى : ويجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به { ويغفر لكم } ما سلف من ذنوبكم { والله غفور رحيم } أي بليغ المغفرة والرحمة (5/325)
29 - { لئلا يعلم أهل الكتاب } اللام متعلقة بما تقدم من الأمر بالإيمان والتقوى والتقدير : اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب { ألا يقدرون على شيء من فضل الله } ولا في قوله : لئلا زائدة للتوكيد قاله الفراء والأخفش وغيرهما وأن في قوله : أن لا يقدرون هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها ما بعدها والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم والمعنى : ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له وجملة { وأن الفضل بيد الله } معطوفة على الجملة التي قبلها : أي ليعلموا أنهم لا يقدرون وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه وقوله : { يؤتيه من يشاء } خبر ثان لأن أو هو الخبر والجار والمجرور في محل نصب على الحال { والله ذو الفضل العظيم } هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها والمراد بالفضل هنا ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف وقال الكلبي : هو رزق الله وقيل نعم الله التي لا تحصى وقيل هو الإسلام وقد قيل إن لا في لئلا غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه والمعنى : لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه والأول أولى وقرأ ابن مسعود لكيلا يعلم وقرأ خطاب بن عبد الله لأن يعلم وقرأ عكرمة ليعلم وقرئ ليلا بقلب الهمزة ياء وقرئ بفتح اللام
وقد أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق ابن مسعود قال : [ قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عبد الله قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرات قال : هل تدري أي عرق الإسلام أوثق ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا بالعمل وإن كان يزحف على استه واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها : فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } هم الذين آمنوا بي وصدقوني { وكثير منهم فاسقون } الذين جحدوني وكفروا بي ] وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل فكان منهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل فقيل لملوكهم ما نجو شيئا أشد من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرأوان { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } { فأولئك هم الفاسقون } مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم فادعوهم فليقرأوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منهما فقالوا ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم وليس أحد من القبائل إلا له حميح فيهم ففعلوا ذلك فأنزل الله : { رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفنى من فني منهم قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فلما بعث النبي صلى الله عليه و سلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } أجرين بإيمانهم بعيسى ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم { ويجعل لكم نورا تمشون به } القرآن واتباعهم النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري في قوله : { كفلين } قال : ضعفين وهي بلسان الحبشة وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { يؤتكم كفلين من رحمته } قال : الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءا من رحمة الله (5/253)
سورة المجادلة
هي ثنتان وعشرون آية
وهي مدنية قال القرطبي : في قول الجميع إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي وقال الكلبي : نزلت جميعها بالمدينة غير قوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } نزلت بمكة وأخرج ابن الضريس والنحاس وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة المجادلة بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن الزبير مثله
قوله : 1 - { قد سمع الله } قرأ أبو عمرو والكسائي بإدغام الدال في السين وقرأ الباقون بالإظهار قال الكسائي : من بين الدال عند السين فلسانه أعجمي وليس بعربي { قول التي تجادلك في زوجها } أي تراجعك الكلام في شأنه { وتشتكي إلى الله } معطوف على تجادلك والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله أنه كان كلما قال لها قدر حمت عليه قالت : والله ما ذكر طلاقا ثم تقول أشكوا إلى الله فاقتي ووحدتي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكوا إليك فهذا معنى قوله : { وتشتكي إلى الله } قال الواحدي : قال المفسرون : نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فاشتد به لممه ذات يوم فظاهر منها ثم ندم على ذلك وكان الظهار طلاقا في الجاهلية وقيل هي خولة بنت حكيم وقيل اسمها جميلة والأول أصح وقيل هي بنت خويلد وقال الماوردي : إنها نسبت تارة إلى أبيها وتارة إلى جدها وأحدهما أبوها والآخر جدها فهي خولة بنت ثعلبة بن خويلد وجملة { والله يسمع تحاوركما } في محل نصب على الحال أو مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها : أي والله يعلم تراجعكما في الكلام { إن الله سميع بصير } يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة (5/255)
ثم بين سبحانه شأن الظهار في نفسه وذكر حكمه فقال : 2 - { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } قرأ الجمهور { يظهرون } بالتشديد مع فتح حرف المضارعة وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { يظاهرون } بفتح الياء وتشديد الظاء وزيادة ألف وقرأ أبو العالية وعاصم وزر بن حبيش يظاهرون بضم الياء وتخفيف الظاء وكسر الهاء وقد تقدم مثل هذا في سورة الأحزاب وقرأ أبي يتظاهرون بفك الإدغام ومعنى الظهار أن يقول لامرأته : أنت علي كظهر أمي : أي ولا خلاف في كون هذا ظهارا واختلفوا إذا قال : أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم فذهب جماعة منهم أبو حنيفة ومالك إلى أنه ظهار وبه قال الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وقال جماعة منهم قتادة والشعبي : إنه لا يكون ظهارا بل يختص الظهار بالأم وحدها واختلفت الرواية عن الشافعي فروي عنه كالقول الأول وروي عنه كالقول الثاني وأصل الظهار مشتق من الظهر
واختلفوا إذا قال لامرأته أنت علي كرأسي أمي أو يدها أو رجلها أو نحو ذلك ؟ هل يكون ظهارا أم لا وهكذا إذا قال أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهارا وروي عن أبي حنيفة أنه إذا شبهها بعضو من أمه يحل له النظر إليه لم يكن ظهارا وروي عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلا في الظهر وحده
واختلفوا إذا شبهامرأته بأجنبية فقيل يكون ظهارا وقيل لا والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع وجملة { ما هن أمهاتهم } في محل رفع على أنها خبر الموصول أي ما نساؤهم بأمهاتهم فذلك كذب منهم وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم قرأ الجمهور { أمهاتهم } بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال ما عمل ليس وقرأ أبو عمرو والسلمي بالرفع على عدم الإعمال وهي لغة نجد وبني أسد ثم بين سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة فقال : { إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } أي ما أمهاتهم إلا النساء اللائي ولدنهم ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم فقال : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } أي وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا منكرا من القول : أي فظيعا من القول ينكره الشرع والزور الكذب وانتصاب منكرا وزورا على أنهما صفة لمصدر محذوف : أي قولا منكرا وزورا { وإن الله لعفو غفور } أي بليغ العفو والمغفرة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر (5/257)
3 - { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } لما ذكر سبحانه الظهار إجمالا ووبخ فاعليه شرع في تفصيل أحكامه والمعنى : والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور ثم يعودون لما قالوا : أي إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي كما في قوله : { أن تعودوا لمثله } أي إلى مثله قال الأخفش : لما قالوا وإلى ما قالوا يتعاقبان قال : { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } وقال : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } وقال : { بأن ربك أوحى لها } وقال : { وأوحي إلى نوح } وقال الفراء : اللام بمعنى [ عن ] والمعنى : ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء وقال الزجاج : المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا قال الأخفش أيضا : الآية فيها تقديم وتأخير والمعنى : والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع { فتحرير رقبة } لما قالوا : أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا فالجار في قوله : { لما قالوا } متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ وهو فعليهم
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال : الأول أنه العزم على الوطء وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه وروي عن مالك وقيل هو الوطء نفسه وبه قال الحسن وروي أيضا عن مالك وقيل هو أن ممسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق وبه قال الشافعي وقيل هو الكفارة والمعنى : أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة وبه قال الليث بن سعد وروي عن أبي حنيفة وقيل هو تكرير الظهار بلفظه وبه قال أهل الظاهر وروي عن بكير بن الأشج وأبي العالية والفراء والمعنى : ثم يعودون إلى قول ما قالوا والموصول مبتدأ وخبره { فتحرير رقبة } على تقدير فعليهم تحرير رقبة كما تقدم أو فالواجب عليهم إعتاق رقبة يقال حررته : أي جعلته حرا والظاهر أنها تجزئ أي رقبة كانت وقيل يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه وبالثاني قال مالك والشافعي واشترطا أيضا سلامتها من كل عيب { من قبل أن يتماسا } المراد بالتماس هنا الجماع وبه قال الجمهور فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفر وقيل إن المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة وبه قال مالك وهو أحد قول الشافعي والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ وخبره { توعظون به } أي تؤمرون به أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة قال الزجاج : معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به : أي إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار { والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فهو مجازيكم عليها (5/258)
ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة فقال : 4 - { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه ولا تمكن من قيمتها فعليه صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما فإن أفطر استأنفة إن كان الإفطار لغير عذر وإن كان لعذر من سفر أو مرض فقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي والشافعي ومالك : إنه يبني ولا يستأنف وقال أبو حنيفة : إنه يستأنف وهو مروي عن الشافعي ومعنى { من قبل أن يتماسا } هو ما تقدم قريبا فلو وطئ ليلا أو نهارا عمدا أو خطأ استأنف وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي : لا يستأنف إذا وطئ ليلا لأنه ليس محلا للصوم والأول أولى { فمن لم يستطع } يعني صيام شهرين متتابعين { فإطعام ستين مسكينا } أي فعليه أن يطعم ستين مسكينا لكل مسكين مدان وهما نصف صاع وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال الشافعي وغيره : لكل مسكين مد واحد والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة أو يدفع إليهم ما يشبعهم ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم واحد وبعضهم في يوم آخر والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من الأحكان وهو مبتدأ وخبره مقدر : أي ذلك واقع { لتؤمنوا بالله ورسوله } ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل نصب والتقدير : فعلنا ذلك لتؤمنوا : أي لتصدقوا أن الله أمر به وشرعه : أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدوها ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور والإشارة بقوله : { وتلك } إلى الأحكام المذكورة وهو مبتدأ وخبره { حدود الله } فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة { وللكافرين } الذين لا يقفون عند حدود الله ولا يعملون بما حده الله لعباده { عذاب أليم } وهو عذاب جهنم وسماه كفرا تغليظا وتشديدا
وقد أخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } وهو أوس بن الصامت وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : كان أول من ظاهر في الإسلام أوس وكانت تحته ابنة عم له يقال لها خولة بنت خويلد فظاهر منها فأسقط في يده وقال : ما أراك إلا قد حرمت علي فانطلقي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فاسأليه فأتت النبي صلى الله عليه و سلم فوجدت عنده ماشطة رأسه فأخبرته فقال : يا خولة ما أمرنا في أمرك بشيء فأنزل الله على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا خولة أبشري ؟ قالت : خيرا قال : خيرا فقرأ عليها { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } الآيات وأخرج أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال : [ حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت : في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة قالت : كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب فقال : أنت علي كظهر أمي ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قلت : كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فما برحت حتى نزل القرآن فتغشى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي : يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك ثم قرأ علي { قد سمع الله قول التي تجادلك } إلى قوله : { عذاب أليم } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مريه فليعتق رقبة قلت : يا رسول الله ما عنده ما يعتق قال : فليصم شهرين متتابعين قلت : والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام قال : فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر قلت : والله ما ذاك عنده قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فأنا سأعينه بعرق من تمر فقلت : وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر فقال : قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا قالت ففعلت ] وفي الباب أحاديث وأخرج ابن المنذر والبيهقي
في سننه عن ابن عباس في قوله : { ثم يعودون لما قالوا } قال : هو الرجل يقول لامرأته : أنت علي كظهر أمي فإذا قال ذلك فليس يحل له أن يقربها بنكاح ولا غيره حتى يكفر بعتق رقبة { فمن } فإن { لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } والمس النكاح { فمن } فإن { لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } وإن هو قال لها : أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث فإن حنص فلا يقربها حتى يكفر ولا يقع في الظهار طلاق وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال ثلاث فيه مد : كفارة اليمين وكفارة الظهار وكفارة الصيام وأخرج البزار والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : [ أتى رجل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني ظاهرت من امرأتي فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ألم يقل الله من قبل أن يتماسا قال : قد فعلت يا رسول الله قال : أمسك عنها حتى تكفر ] وأخرج عبد الرزاق وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن ابن عباس أن رجلا قال : [ يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها من قبل أن أكفر فقال : وما حملك على ذلك ؟ قال : رأيت
خلخالها في ضوء القمر قال : فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ] وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والطبراني والبغوي في معجمه والحاكم وصححه عن سلمة بن صخر الأنصاري قال : [ كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي ختى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشفت لي منها شيء فوثبت عليها فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري فقلت : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره بأمري فقالوا : لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا القرآن أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقالة يبقى علينا عارها ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك قال : فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته خبري فقال : أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك قال : أنت بذاك ؟ قلت أنا بذاك قال أنت بذاك ؟ قلت أنا بذاك وها أنا ذا فأمض في حكم الله فإني صابر لذلك قال : أعتق رقبة فضربت عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها قال : فصم شهرين متتابعين فقلت : هل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : فأطعم ستين مسكينا قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشا ما لنا عشاء قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليه فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم السعة والبركة أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي فدفعوها إليه ] (5/259)
قوله : 5 - { إن الذين يحادون الله ورسوله } لما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين والمحادة المشاقة والمعاداة والمخالفة ومثله قوله : { إن الذين يحادون الله ورسوله } قال الزجاج : المحادة أن تكون في حد يخالف صاحبك وأصلها الممانعة ومنه الحديد ومنه الحداد للبواب { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } أي أذلوا وأخزوا يقال : كبت الله فلانا إذا أذله والمردود بالذل يقال له مكبوت قال المقاتلان : أخزوا كما أخرى الذين من قبلهم من أهل الشرك وكذا قال قتادة وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا وقال ابن زيد : عذبوا وقال السدي : لعنوا وقال الفراء : أغيظوا والمراد بمن قبلهم : كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه وقيل المعنى : على المضي وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر وجملة { وقد أنزلنا آيات بينات } في محل نصب على الحال من الواو في كبتوا : أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسله من الأمم المتقدمة وقيل المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه وقيل هي المعجزات { وللكافرين عذاب مهين } أي للكافرين بكل ما يجب الإيمان به فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولا أوليا والعذاب المهين : الذي يهين صاحبه ويذله ويذهب بعزه (5/262)
6 - { يوم يبعثهم الله جميعا } الظرف منتصب بإضمار اذكر أو بمهين أو بما تعلق به اللام من الاستقرار أو بأحصاه المذكور بعده وانتصاب جميعا على الحال : أي مجتمعين في حالة واحدة أو يبعثهم كلهم لا يبقى منهم أحد غير مبعوث { فينبئهم بما عملوا } أي يخبرهم بما عملوه في الدنيا من الأعمال القبيحة توبيخا لهم وتبكيتا ولتكميل الحجة عليهم وجملة { أحصاه الله ونسوه } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف ينبئهم بذلك على كثرته واختلاف أنواعه فقيل أحصاه الله جميعا ولم يفته منه شيء والحال أنهم قد نسوه ولم يحفظوه بل وجدوه حاضرا مكتوبا في صحائفهم { والله على كل شيء شهيد } لا يخفى عليه شيء من الأشياء بل هو مطلع وناظر (5/262)
ثم أكد سبحانه بيان كونه عالما بكل شيء فقال : 7 - { ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } أي ألم تعلم أن علمه محيط بما فيهما بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما وجملة { ما يكون من نجوى ثلاثة } الخ مستأنفة لتقرير شمول علمه وإحاطته بكل المعلومات قرأ الجمهور { يكون } بالتحتية وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة بالفوقية وكان على القراءتين تامة ومن مزيدة للتأكيد ونجوى فاعل كان والنجوى السرار يقال : قوم نجوى : أي ذو نجوى وهي مصدرية والمعنى : ما يوجد من تناجي ثلاثة أو من ذوي نجوى ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين فعلى الوجه الأول انخفاض ثلاثة بإضافة نجوى إليه وعلى الوجهين الآخرين يكون انخفاضها على البدل من نجوى أو الصفة لها قال الفراء : ثلاثة نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت نجوى إليها ولو نصبت على إضمار فعل جاز وهي قراءة ابن أبي عبلة ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى { إلا هو رابعهم } هذه الجملة في موضع نصب على الحال وكذا قوله : { إلا هو سادسهم } { إلا هو معهم } أي ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ومعنى رابعهم جاعلهم أربعة وكذا سادسهم جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى { ولا خمسة } أي ولا نجوى خمسة وتخصيص العددين بالذكر لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع وخمسة في موضع قال الفراء : العدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافية { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم } أي ولا أقل من العدد المذكور : كالواحد والاثنين ولا أكثر منه : كالستة والسبعة إلا هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شيء قرأ الجمهور { ولا أكثر } بالجر بالفتحة عطفا على لفظ نجوى وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بن عمر وسلام بالرفع عطفا على محل نجوى وقرأ الجمهور { ولا أكثر } بالمثلثة وقرأ الزهري وعكرمة بالموحدة قال الواحدي : قال المفسرون : إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله هذه الآيات ومعنى { أين ما كانوا } إحاطة عمله بكل تناج يكون منهم في أي مكان من الأمكنة { ثم ينبئهم } أي يخبرهم { بما عملوا يوم القيامة } توبيخا لهم وتبكيتا وإلزاما للحجة { إن الله بكل شيء عليم } لا يخفى عليه شيء كائنا ما كان (5/263)
8 - { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } هؤلاء الذين نهوا ثم عادوا لما نهوا عنه هم من تقدم ذكره من المنافقين واليهود قال مقاتل : كان بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين اليهود مواعدة فإذا مر بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا فنهاهم الله فلم ينتهوا فنزلت وقال ابن زيد : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه و سلم فيسأله الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك { ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } قرأ الجمهور { يتناجون } بوزن يتفاعلون (5/264)
واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله فيما بعد : 9 - { إذا تناجيتم فلا تتناجوا } وقرأ حمزة وخلف وورش عن يعقوب { ويتناجون } بوزن يفتعلون وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد نحو تخاصموا واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين ومعصية الرسول مخالفته قرأ الجمهور { ومعصية } بالإفراد وقرأ الضحاك وحميد ومجاهد ومعصيات بالجمع { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } قال القرطبي : إن المراد بها اليهود كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و سلم فيقولون السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا فيقول النبي صلى الله عليه و سلم : عليكم وفي رواية أخرى وعليكم { ويقولون في أنفسهم } أي فيما بينهم { لولا يعذبنا الله بما نقول } أي هلا يعذبنا بذلك ولو كان محمد نبيا لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به وقيل المعنى : لو كان نبيا لاستجيب له فينا حيث يقول وعليكم ووقع علينا الموت عند ذلك { حسبهم جهنم } عذابا { يصلونها } يدخلونها { فبئس المصير } أي المرجع وهو جهنم { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما فيه إثم وعدوان ومعصية لرسول الله كما يفعله اليهود والمنافقون ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال : { وتناجوا بالبر والتقوى } أي بالطاعة وترك المعصية وقيل الخطاب للمنافقين والمعنى : يا أيها الذين آمنوا ظاهرا أو بزعمهم واختار هذا الزجاج وقيل الخطاب لليهود والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى والأول أولى ثم خوفهم سبحانه فقال : { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } فيزيكم بأعمالكم (5/264)
ثم بين سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان فقال : 10 - { إنما النجوى } يعني بالإثم والعدوان ومعصية الرسول { من الشيطان } لا من غيره : أي من تزيينه وتسويله { ليحزن الذين آمنوا } أي لأجل أن يوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها { وليس بضارهم شيئا } أو وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضار المؤمنين شيئا من الضرر { إلا بإذن الله } أي بمشيئته وقيل بعلمه { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي يكلون أمرهم إليه ويفوضونه في جميع شؤونهم ويستعيذون بالله من الشيطان ولا يبالون بما يزينه من النجوى
وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب قال السيوطي بسند جيد عن ابن عمر : إن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه و سلم : السام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري والترمذي وصححه عن أنس [ أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فقال : السام عليكم فرد عليه القوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هل تدرون ما قال هذا ؟ قالوا : الله أعلم سلم يا نبي الله قال : لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه علي فردوه قال : قلت السام عليكم ؟ قال : نعم قال النبي صلى الله عليه و سلم عند ذلك : إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك قال : عليك ما قلت قال : { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : [ دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة : عليكم السام واللعنة فقال : يا عائشة إن الله يحب الفحش ولا المتفحش قلت : ألا تسمعهم يقولون السام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو ما سمعتني أقول وعليكم فأنزل الله { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حيوه : سام عليك فنزلت وأخرج ابن مردويه عنه قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فأنغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ويقولون قتل القوم وإذا رأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم تناجوا وأظهروا الحزن فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم ومن المسلمين فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } الآية ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دوب الثالث فإن ذلك يحزنه ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه و سلم بطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أنداء نتحدث فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ؟ ألم تنهوا عن النجوى ؟ قلنا : يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقا منه فقال : ألا أخبركم مما هو أخوف عليكم عندي منه ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : [ الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ] قال ابن كثير : هذا إسناد غريب وفيه بعض الضعفاء (5/265)
قوله : 11 - { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } يقال فسح له يفسح فسحا : أي وسع له ومنه قولهم بلد فسيح أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضا بالتوسعة في المجلس وعدم التضايق فيه قال قتادة ومجاهد والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه و سلم فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال لتحصيل الشهادة { فافسحوا يفسح الله لكم } أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة أو في كل ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغيرهما قرأ الجمهور { تفسحوا في المجالس } وقرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم { في المجالس } على الجمع لأن لكل واحد منهم مجلسا وقرأ قتادة والحسن وداود بن أبي هند وعيسى بن عمر تفاسحوا قال الواحدي : والوجه التوحيد في المجلس لأنه يعني به مجلس النبي صلى الله عليه و سلم وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو يوم الجمعة وأن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم وغيرهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا ] { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } قرأ الجمهو بكسر الشين فيها وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضمها فيهما وهما لغتان بمعنى واحد يقال نشز : أي ارتفع ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف والمعنى : إذا قيل لكم انهضوا فانهضوا قال جمهور المفسرين : أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير وقال مجاهد والضحاك وعكرمة : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا وقال الحسن : انهضوا إلى الحرب وقال ابن زيد : هذا في بيت النبي صلى الله عليه و سلم كان رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه و سلم فقال الله تعالى : { وإذا قيل انشزوا } عن النبي صلى الله عليه و سلم { فانشزوا } فإن له حوائج فلا تمكثوا وقال قتادة : المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف والظاهر حمل الآية على العموم والمعنى : إذا قيل لكم انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تتثاقلوا ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصا فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجا أوليا وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجلس اندراجا أوليا وقد قدمنا أن معنى نشز ارتفع وهكذا يقال نشز ينشز : إذا تنحى عن موضعه ومنه امرأة ناشز : أي متنحية عن زوجها وأصله مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى ذكر معناه النحاس { يرفع الله الذين آمنوا منكم } في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما { والذين أوتوا العلم درجات } أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات وقيل المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك الذين أوتوا العلم وقيل المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة ولا دليل يدل على تخصيص الآية بالبعض دون البعض وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله وقد دل على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية { والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشر فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا (5/266)
12 - { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } المناجاة المساررة والمعنى : إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم فقدموا بين يدي مساررتكم له صدقة قال الحسن : نزلت بسبب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه و سلم يناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى لتقطعهم عن استخلائه وقال زيد بن أسلم : نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه و سلم ويقولون إنه أذن يسمع كل ما قيل له وكان لا يمنع أحدا من مناجاته وكان ذلك يشق على المسلمين لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة فخخف الله عنهم بالآية التي بعد هذه والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى وهو مبتدأ وخبره
{ خير لكم وأطهر } لما فيه من طاعة الله وتقييد الأمر بكون امتثاله خيرا لهم من عدم الامتثال وأطهر لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب { فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } يعني من كان منهم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة (5/267)
13 - { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } أي أخفتم الفقر والعيلة لأن تقدموا ذلك والإشفاق : الخوف من المكروه والاستفهام للتقرير وقيل المعنى : أبخلتم وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين قال مقاتل بن حيان : إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ وقال الكلبي : ما كان ذلك إلا ليلة واحدة وقال قتادة : ما كان إلا ساعة من النهار { فإذ لم تفعلوا } ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ولم يفعل وأما من لم يجد فقد تقدم الترخيص له بقوله : { فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } { وتاب الله عليكم } بأن رخص لكم في الترك وإذ على بابها في الدلالة على المضي وقيل هي بمعنى إذا وقيل بمعنى إن وتاب معطوف على لم تفعلوا : أي وإذا لم تفعلوا وإذ تاب عليكم { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } والمعنى : إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى فاثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما تؤمرون به وتنهون عنه { والله خبير بما تعملون } لا يخفى عليه من ذلك شيء فهو مجازيكم وليس في الآية ما يدل على تقصير المؤمنين في امتثال هذا الأمر أما الفقراء منهم فالأمر واضح وأما من عداهم من المؤمنين فإنهم لم يكلفوا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة فمن ترك المناجاة فلا يكون مقصرا في امتثال الأمر بالصدقة على أن في الآية ما يدل على أن الأم للندب كما قدمنا وقد استدل بهذه الآي من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل وليس هذا الاستدلال بصحيح فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل وأيضا قد فعل ذلك البعض فتصدق بين يدي نجواه كما سيأتي
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : أنزت هذه الآية { إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } يوم جمعة ورسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلى الله عليه و سلم عليهم ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فعرف النبي صلى الله عليه و سلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك عليه فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه فنزلت هذه الآية وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : ذلك في مجلس القتال { وإذا قيل انشزوا } قال : إلى الخير والصلاة وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } قال : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال : يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات وأخرج ابن المنذر عنه قال : ما خص الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إذا ناجيتم الرسول } الآية قال : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما قال ذلك ظن كثير من الناس وكفوا عن المسألة فأنزل الله بعد هذا { أأشفقتم } الآية فوسع الله عليهم ولم يضيق وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والنحاس وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : [ لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } قال لي النبي صلى الله عليه و سلم : ما ترى دينار ؟ قلت لا يطيقونه قال فنصف دينار ؟ قلت لا يطيقونه قال فكم ؟ قلت شعيرة قال إنك لزهيد قال : فنزلت : { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } الآية فبي خفف الله عن هذه الأمة ] والمراد بالشعير هنا وزن شعيرة من ذهب وليس المراد واحدة من حب الشعير وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وما كانت إلا ساعة : يعني آية النجوى وأخرج سعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت : { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } الآية وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي : بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاص وقال : [ نزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } فقدمت شعيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك لزهيد فنزلت الآية الأخرى { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } ] (5/268)
قوله : 14 - { ألم تر إلى الذين تولوا قوما } أي والوهم قال قتادة : هم المنافقون تولوا اليهود وقال السدي ومقاتل : هم اليهود تولوا المنافقين ويدل على الأول قوله : { غضب الله عليهم } فإن المغضوب عليهم اليهود ويدل على الثاني قوله : { ما هم منكم ولا منهم } فإن هذه صفة المنافقين كما قال الله فيهم { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } وجملة { ما هم منكم ولا منهم } في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة { ويحلفون على الكذب } أي يحلفون أنهم مسلمون أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود والجملة عطف على تولوا داخلة في حكم التعجيب من فعلهم وجملة { وهم يعلمون } في محل نصب على الحال : أي والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه وأنه كذب لا حقيقة له (5/270)
15 - { أعد الله لهم عذابا شديدا } بسبب هذا التولي والحلف على الباطل { إنهم ساء ما كانوا يعملون } من الأعمال القبيحة (5/271)
16 - { اتخذوا أيمانهم جنة } قرأ الجمهور { أيمانهم } بفتح الهمزة جمع يمين وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقيا من القتل فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم وقرأ الحسن وأبو العالية إيمانهم بكسر الهمزة أي جعلوها تصديقهم جنة من القتل فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ولم تأمن قلوبهم { فصدوا عن سبيل الله } أي منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط وتهوين أمر المسلمين وتضعيف شوكتهم وقيل المعنى : فصدوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام { فلهم عذاب مهين } أي يهينهم ويخزيهم قيل هو تكرير لقوله { أعد الله لهم عذابا شديدا } للتأكيد وقيل الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة ولا وجه للقول بالتكرر فإن العذاب الموصوف بالشدة غير العذاب الموصوف بالإهانة (5/271)
17 - { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } أي لن تغني عنهم من عذابه شيئا من الإغناء قال مقاتل قال المنافقون : إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة فنزلت الآية { أولئك } الموصوفون بما ذكر { أصحاب النار } لا يفارقونها { هم فيها خالدون } لا يخرجون منها (5/271)
18 - { يوم يبعثهم الله جميعا } الظرف منصوب بقوله : مهين أو بمقدر : أي اذكر { فيحلفون له كما يحلفون لكم } أي يحلفون لله يوم القيامة على الكذب كما يحلفون لكم في الدنيا وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون على الكذب { ويحسبون أنهم على شيء } أي يحسبون الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا { ألا إنهم هم الكاذبون } أي الكاملون في الكذب المتهالكون عليه البالغون فيه إلى حد لم يبلغ غيرهم إليه بإقدامهم عليه وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرحمن (5/271)
19 - { استحوذ عليهم الشيطان } أي غلب عليهم واستعلى واستولى قال المبرد : استحوذ على الشيء حواه وأحاط به وقيل قوي عليهم وقيل جمعهم يقال أحوذ الشيء : أي جمعه وضم بعضه إلى بعض والمعاني متقاربة لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليهم واستولى وأحاط بهم { فأنساهم ذكر الله } أي أوامره والعمل بطاعته فلم يذكروا شيئا من ذلك وقيل زواجره في النهي عن معاصيه وقيل لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات وهو مبتدأ وخبره { حزب الشيطان } أي جنوده وأتباعه ورهطه { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } أي الكاملون في الخسران حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة وكذبوا على الله وعلى نبيه وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة (5/272)
20 - { إن الذين يحادون الله ورسوله } تقدم معنى المحادة لله ولرسوله في أول هذه السورة والجملة تعليل لما قبلها { أولئك في الأذلين } أي أولئك المحادون لله ورسوله المتصفون بتلك الصفات المتقدمة من حملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة لأنه لما حادوا الله ورسوله صاروا من الذل بهذا المكان قال عطاء : يريد الذل في الدنيا والخزي في الآخرة (5/272)
21 - { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم في الأذلين : أي كتب في اللوح المحفوظ وقضى في سابق علمه : لأغلبن أنا ورسلي بالحجة والسيف قال الزجاج : معنى غلبة الرسل على نوعين : من بعث منهم بالحرب فهو غالب في الحر ومن بعث منهم بغير الحرب فهو غالب بالحجة قال الفراء : كتب بمعنى قال وقوله : أنا توكيد ثم ذكر مثل قول الزجاج : { إن الله قوي عزيز } فهو قوي على نصر أوليائه غالب لأعدائه لا يغلبه أحد (5/272)
22 - { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له : أي يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقهما وجملة يوادون في محل نصب على أنها المفعول الثاني لتجد إن كان متعديا إلى مفعولين أو في محل نصب على الحال إن كان متعديا إلى مفعول واحد أو صفة أخرى لقوما : أي جامعون بين الإيمان والموادة لمن حاد الله ورسوله { ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } أي ولو كان المحادون لله ورسوله آباء الموادين الخ فإن الإيمان يزجر عن ذلك ويمنع منه ورعايته أقوى من رعاية الأبوة والبنوة والأخوة والعشيرة { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } يعني الذي لا يوادون من حاد الله ورسوله ومعنى { كتب في قلوبهم الإيمان } خلقه وقيل أثبته وقيل جعله وقيل جمعه والمعاني متقاربة { وأيدهم بروح منه } أي قواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا وسمى نصره لهم روحا لأن به يحيا أمرهم وقيل هو نور القلب وقال الربيع بن أنس : بالقرآن والحجة وقيل بجبريل وقيل بالإيمان وقيل برحمة قرأ الجمهور { كتب } مبنيا للفاعل ونصب { الإيمان } على المفعولية وقرأ زر بن حبيش والمفضل عن عاصم على البناء للمفعول ورفع الإيمان على النيابة وقرأ زر بن حبيش عشيراتهم بالجمع ورويت هذه القراءة عن عاصم { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } على الأبد { رضي الله عنهم } أي قبل أعمالهم وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة { ورضوا عنه } أي فرحوا بما أعطاهم عاجلا وآجلا { أولئك حزب الله } أي جنده الذين يمتثلون أوامره ويقاتلون أعداءه وينصرون أولياءه وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم وتكريم فخيم { ألا إن حزب الله هم المفلحون } أي الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة الكاملون في الفالح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح
وقد أخرج أحمد والبزار وابن المنذر وابن حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم جالسا في ظل حجرة من حجرة وعنده نفر من المسلمين فقال : إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعين شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فقال : ذرني آتيك بهم فحلفوا واعتذروا فأنزل الله { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم } الآية والتي بعدها ] وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عبد الله بن شوذب قال : جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتقصد لأبي عبيدة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت : { لا تجد قوما يؤمنون بالله } الآية (5/272)
سورة الحشر
هي أربع وعشرون آية
وهي مدنية قال القرطبي في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن اب عباس قال : نزلت سورة الحشر بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر قال : سورة النضير : يعني أنها نزلت في بني النضير كما صرح بذلك في بعض الروايات
قوله : 1 - { سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } قد تقدم تفسير هذا في سورة الحديد (5/273)
2 - { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } هم بنو النضير وهم رهط من اليهود من ذرية هارون نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انظارا منهم لمحمد صلى الله عليه و سلم فغدروا بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد أن عاهدوه وصاروا عليه مع المشركين فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رضوا بالجلاء قال الكلبي : كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة وآخر حشر إجلاء عمر لهم وقيل إن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام وقيل آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر وهي الشام قال عكرمة : من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام فليقرأ هذه الآية وأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم : اخرجوا قالوا إلى أين ؟ قال إلى أرض المحشر قال ابن العربي : الحشر أول وأوسط وآخر فالأول إجلاء بني النضير والأوسط إجلاء أهل خيبر والآخر يوم القيامة
وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري فقال : هم بنو قريظة وهو غلط فإن بني قريظة ما حشروا بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لسعد : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة واللام في لأول الحشر متعلقة بأخرج وهي لام التوقيت كقوله : { لدلوك الشمس } { ما ظننتم أن يخرجوا } هذا خطاب للمسلمين : أي ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم لعزتهم ومنعتهم وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة وعقار ونخيل واسعة وأهل عدد وعدة { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وقوله مانعتهم خبر مقدم وحصونهم مبتدأ مؤخر والجملة خبر أنهم ويجوز أن يكون مانعتهم خبر أنهم وحصونهم فاعل مانعتهم ورجح الثاني أبو حيان والأول أولى { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } أي أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك وقيل هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف قاله ابن جريح والسدي وأبو صالح فإن قتله أضعف شوكتهم وقيل إن الضمير في أتاهم ولم يحتسبوا للمؤمنين : أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا والأول أولى لقوله : { وقذف في قلوبهم الرعب } فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير لا في قلوب المسلمين قال أهل اللغة : الرعب الخوف الذي يرعب الصدر : أي يملؤه وقذفه إثباته فيه وقيل كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم : [ نصرت بالرعب مسيرة شهر ] { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج قال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم قال الزجاج : معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك قرأ الجمهور { يخربون } بالتخفيف وقرأ الحسن والسلمي ونصر بن عاصم وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد قال أبو عمرو : إنما اخترت القراءة بالتشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابا وإنما خربوها بالهدم وليس ما قاله بمسلم فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد قال سيبويه : إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير : لما صالحهم النبي صلى الله عليه و سلم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها وقال الزهري أيضا : يخربون بيوتهم بنقض المعاهدة وأيدي المؤمنين بالمقاتلة وقال أبو عمرو : بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه أو في محل نصب على الحال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } أي اتعظوا وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر قال الواحدي : ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها (5/274)
3 - { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا } أي لولا أن كتب الله عليهم الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه وقضي به عليهم لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا كما فعل ببني قريظة والجلاء مفارقة الوطن يقال بنفسه جلاء وأجلاه غير إجلاء والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا من جهتين : إحداهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد الثاني أن الجلاء لا يكون إلا [ لجماعة ] والإخراج يكون لجماعة ولواحد كذا قال الماوردي { ولهم في الآخرة عذاب النار } هذه الجملة مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب وإن نجوا من عذاب الدنيا (5/276)
والإشارة بقوله : 4 - { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة { بأنهم شاقوا الله ورسوله } أي بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله بعدم الطاعة والميل مع الكفار ونقض العهد { ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب } اقتصر هاهنا على مشاقة الله لأن مشاقته مشاقة لرسوله قرأ الجمهور { يشاق } بالإدغام وقرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميفع يشاق بالفك (5/276)
5 - { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } قال مجاهد : إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل فنهاهم بعضهم وقالوا : إنما هي مغانم للمسلمين وقال الذين قطعوا : بل هو غيظ للعدو فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل وتحليل من قطعه من الإثم فقال : { ما قطعتم من لينة } قال قتادة والضحاك : إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات وقال محمد بن إسحاق : إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة فقال بنو النضير وهم أهل كتاب : يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر ؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض فشق ذلك على رسول الله صلى الله علي وسلم ووجد المسلمون في أنفسهم فنزلت الآية ومعنى الآية : أي شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله والضمير في تركتموها عائد إلى ما لتفسيرها باللينة وكذا في قوله : { قائمة على أصولها } ومعنى على أصولها : أنها باقية على ما هي عليه
واختلف المفسرون في تفسير اللينة فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل : إنها النخل كله إلا العجوة وقال مجاهد : إنها النخل كله ولم يستثن عجوزة ولا غيرها وقال الثوري : هي كرام النخل وقال أبو عليدة : إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني وقال جعفر بن محمد : إنها العجوة خاصة وقيل هي ضرب من النخل يقال لتمره اللون تمره أجود التمر وقال الأصمعي : هي الدقل وأصل اللينة لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وجمع اللينة لين وقيل ليان وقرأ ابن مسعود ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوما على أصولها أي قائمة على سوقها وقرئ على أصلها قائما على أصوله { وليخزي الفاسقين } أي ليذل الخارجين عن الطاعة وهم اليهود ويغيظهم في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاءوا من القطعو الترك ازدادوا غيظا قال الزجاج : وليخزي الفاسقين أذن في ذلك يدل على المحذوف قوله : { فبإذن الله } وقد استدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد وعلى تصويب المجتهدين والبحث مستوفى في كتب الأصول (5/276)
6 - { وما أفاء الله على رسوله منهم } أي ما رده عليه من أموال الكفار يقال قد يفيء إذا رجع والضمير في منهم عائد إلى بني النضير { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } يقال وجف الفرس والبعير يجف الفرس والبعير يجف وجفا : وهو سرعة السعير وأوجفه صاحبه : إذا حمله على السير السريع قول تميم بن مقبل :
( مذ [ أو بد ] بالبيض الحديد صقالها ... عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا )
وقال نصيب :
( ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم يوجف الركب )
وما في { فما أوجفتم } نافية والفاء جواب الشرط إن كانت ما في قوله : { ما أفاء الله } شرطية وإن موصولة فالفاء زائدة ومن في قوله : { من خيل } زائدة للتأكيد والركاب ما يركب من الإبل خاصة والمعنى : أن ما رد الله على رسوله من أموال بني النضير لم والركاب ما يركب من الإبل خاصة والمعنى : أن مما رد الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا ولا تجشمتم لها شقة ولا لقيتم بها حربا ولا مشقة وإنما كانت من المدينة على ميلين فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه و سلم خاصة لهذا السبب فإنه افتتحها صلحا وأخذ أموالها وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت الآية { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } من أعدائه وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه و سلم دون أصحابه لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب بل مشوا إليها مشيا ولم يقاسوا فيها شيئا من شدائد الحروب { والله على كل شيء قدير } يسلط من يشاء على من أراد ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } (5/277)
7 - { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة والتكرير لقصد التقرير والتأكيد ووضع أهل القرى موضع قوله : منهم أي من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه و سلم صلحا ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب قيل والمراد بالقرى : بنو النضير وقريظة وفدك وخيبر وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها ؟ هل معناهما متفق أو مختلف فقيل معناهما متفق كما ذكرنا وقيل مختلف وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل قال ابن العربي : لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات أما الآية الأولى وهي قوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم } فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه و سلم له وهي أموال بني النضير وما كان مثلها وأما الآية الثانية وهي قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } فهذا كلام مبتدأ غير الأول بمستحق غير الأول وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال واقتضت آية الأنفال وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال وعريت الآية الثانية وهي قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال فنشأ الخلاف من هاهنا فطائفة قالت هي ملحقة بالأولى وهي مال الصلح وطائفة قالت هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة أو محكمة هذا معنى حاصل كلامه وقال مالك : إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه و سلم والآية الثانية هي في بني قريظة ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الغنيمة وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه و سلم وهي بعده لصالح المسلمين { فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } المراد بقوله : لله أنه يحكم فيه بما يشاء وللرسول يكون ملكا له ولذي القربى وهو بنو هاشم وبنو المطلب لأنهم قد منعوا من الصدقة فجعل لهم حقا في الفيء قيل تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه و سلم وخمسه يقسم أخماسا للرسول خمس ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس وقيل يقسم أسداسا السادس سهم الله سبحانه ويصرف إلى وجوه القرب كعمارة المساجد ونحو ذلك
{ كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } أي كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء والدولة اسم للشيء يتداوله القوم بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة قال مقاتل : المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم قرأ الجمهور { يكون } بالتحتية { دولة } بالنصب : أي كيلا يكون الفيء دولة وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام وأبو حيان { تكون } بالفوقية { دولة } بالرفع : أي كيلا تقع أو توجد دولة وكان تامة وقرأ الجمهور دولة بضم الدال وقرأ أبو حيوة والسلمي بفتحها قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي هما لغتان بمعنى واحد وقال أبو عمرو بن العلاء : الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال وبالضم الفعل وكذا قال أبو عبيدة ثم لما بين لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه ولا تأخذوه قال الحسن والسدي : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه وما منعكم منه فلا تطلبوه وقال ابن جريح : ما آتاكم من طاعتي فافعلوا وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه و سلم من أمر أو نهي أو قول أو فعل وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللغظ لا بخصوص السبب وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرسول وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه وخوفهم شدة عقوبته فقال : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } فهو معاقب من لم يأخذها ما آتاه الرسول ولم يترك ما نهاه عنه
وقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت : كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة : يعني السلاح فأنزل الله فيهم { سبح لله ما في السموات وما في الأرض } إلى قوله : { لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا } فقاتلهم النبي صلى الله عليه و سلم حتى صالحهم على الإجلاء وجلاهم إلى الشام وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا وكان الله قد كتب عليهم ذلك ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأما قوله : { لأول الحشر } فكان إجلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : [ من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ : اخرجوا قالوا إلى أين ؟ قال إلى أرض المحشر ] وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن هلم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم وأن يسيروا إلى أذرعات الشام وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة ولها يقول حسان :
( لهان ... على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير )
فأنزل الله : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } ] وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : اللينة النخلة { وليخزي الفاسقين } قال : استنزلوهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحك في صدورهم فقال المسلمون : قد قطعنا بعضا وتركنا بعضا فلنسألن رسول الله صلى الله عليه و سلم هل لنا فيما قطعنا أجر وهل علينا فيما تركنا من وزر ؟ فأنزل الله : { ما قطعتم من لينة } الآية وفي الباب أحاديث والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ومما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يحكم فيه ما أراد ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها قال : والإيجاف أن يوضعوا السير وهي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فكان من ذلك خيبر وفدك وقرى عرينة وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعمد لينبع فأتاها رسول الله صلى الله عليه و سلم فاحتواها كلها فقال ناس : هلا قسمها الله فأنزل الله عذره فقال : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله والنصف الآخر للمسلمين فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثيبة والوطيح وسلالم و [ وحدوه ] وكان الذي للمسلمين الشق والشق ثلاثة عشر سهما ونطاة خمسة أسهم ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه و سلم من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري وأخرج أبو داود وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم صفايا في النضير وخيبر وفدك فأما بنو النضير فكانت حسبا لنوائبه وأما فدك فكانت لابن السبيل وأما خيبر فجزأها ثلاث أجزاء : قسم منها جزءين بين المسلمين وحبس جزءا لنفسه ولنفقة أهله فما فضل عن نفقة أهله ردها على فقراء المهاجرين وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة وابن زنجويه في الأموال وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال : ما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : [ لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت ابن مسعود فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت قال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في كتاب الله ؟ قالت : لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئا من هذا قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته أما قرأت { ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالت بلى قال : فإنه قد نهى عنه ] (5/278)
قوله : 8 - { للفقراء } قيل هو بدل من { لذي القربى } وما عطف عليه ولا يصح أن يكون بدلا من الرسول وما بعده لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفقر وقيل التقدير { كي لا يكون دولة } ولكن يكون للفقراء وقيل التقدير : اعجبوا للفقراء وقيل التقدير : والله شديد العقاب للفقراء : أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء وقيل هو عطف على ما مضى بتقدير الواو كما تقول المال لزيد لعمر ولبكر والمراد ب { المهاجرين } الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رغبة في الدين ونصرة له قال قتادة : هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين ومعنى { أخرجوا من ديارهم } أن كفار مكة أخرجوهم منها واضطروهم إلى الخروج وكانوا مائة رجل { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } أي يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا وبالرضوان في الآخرة { وينصرون الله ورسوله } بالجهاد للكفار وهذه الجملة معطوفة على يبتغون ومحل الجملتين النصب على الحال الأولى مقارنة والثانية مقدرة : أي ناوين لذلك ويجوز أن تكون حالا مقارنة لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله والإشارة بقوله : { أولئك } إليهم من حيث اتصافهم بتلك الصفات وهو مبتدأ وخبره { هم الصادقون } أي الكاملون في الصدق الراسخون فيه (5/282)
ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال : 9 - { والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم } المراد بالدار المدينة وهي دار الهجرة ومعنى تبوئهم الدار والإيمان أنهم اتخذوها مباءة : أي تمكنوا منها تمكنا شديدا والتبوأ في الأصل إنما يكون للمكان ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلا للحال منزلة المحل وقيل إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور والتقدير : واعتقدوا الإيمان أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي ويجوز أن يكون على حذف مضاف : أي تبوأوا الدار وموضع الإيمان ويجوز أن يكون تبوأوا مضمنا لمعنى لزموا والتقدير : لزموا الداء والإيمان ومعنى من قبلهم : من قبل هجرة المهاجرين فلا بد من تقدير مضاف لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين والموصول مبتدأ وخبره { يحبون من هاجر إليهم } وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم { ولا يجدون في صدورهم حاجة } أي لا يجد الأنصار في صدورهم حسدا وغيظا وحزازة { مما أوتوا } أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء بل طابت أنفسهم بذلك وفي الكلام مضاف محذوف : أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة أو أثر حاجة وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة وكان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم النبي صلى الله عليه و سلم بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في أموالهم ثم قال : إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبين المهاجرين وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكن وإن أحببتم أعطيتهم ذلك وخرجوا من دياركم فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين وطابت أنفسهم { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } الإيثار خصصته والمعنى : ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا { ولو كان بهم خصاصة } أي حاجة وفقر والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت وهي الفرج التي تكون فيه وجملة لو كان بهم خصاصة في محل نصب على الحال وقيل إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر فالخصاصة الانفراد بالحاجة ومنه قول الشاعر :
( إن الربيع إذا يكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثري المقتر )
{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } قرأ الجمهور { يوق } بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف وقرأ الجمهور { شح نفسه } بضم الشين وقرأ ابن عمر وابن أبي عبلة بكسرها والشح : البخل مع حرص كذا في الصحاح وقيل الشح أشد من البخل قال مقاتل : شح نفسه : حرص نفسه قال سعيد بن جبير : شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه فقد وقي شح نفسه قال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده والشح أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع وقال ابن عيينة : الشح الظلم وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعا من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك كما تفيده إضافة الشح إلى النفس والإشارة بقوله : { فأولئك } إلى من باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره { هم المفلحون } والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب (5/282)
ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم فقال : 10 - { والذين جاؤوا من بعدهم } وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة وقيل هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوة ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوة إلى يوم القيامة لأنه يصدق على الكل أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأولين والأنصار والموصول مبتدأ وخبره { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ويجوز أن يكون الموصول معطوفا على قوله : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } فيكون يقولون في محل نصب على الحال أو مستأنف لا محل له والمراد بالأخوة هنا أخوة الدين أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار { ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } أي غشا وبغضا وحسدا أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق فيدخل في ذلك الصحابة دخولا أوليا لكونهم أشرف المؤمنين ولكون السياق فيهم فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية فإن وجد في قلبه غلا لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه و سلم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور فاشتروا الضلالة بالهدى واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر والله من ورائهم محيط { ربنا إنك رؤوف رحيم } أي كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك
وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ؟ أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال : ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله فقال رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة الأنصاري : أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تدخريه شيئا قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه و سلم ففعلت ثم غدا الضيف على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل فيهما { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت فيهم { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلا قال : إني أخاف أن أكون قد هلكت قال : وما ذاك ؟ قال : إني سمعت الله يقول : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود : ليس ذلك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل وإن الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل وإنه لشر إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له وأخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : من أدى زكاة ماله فقد وقي شح نفسه وأخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما محق الإسلام محق الشح شيء قط وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ] وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الشح وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان وبقيت منزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ثم قرأ { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن عائشة قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية { والذين جاؤوا من بعدهم } وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه { للفقراء المهاجرين } الآية ثم قال : هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت ؟ قال لا ثم قرأ عليه { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } الآية ثم قال : هؤلاء الأنصار أفأنت منهم ؟ قال لا ثم قرأ عليه { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية ثم قال : أفمن هؤلاء أنت ؟ قال أرجو قال : ليس من هؤلاء من سب هؤلاء (5/284)
لما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة لتعجيب المؤمنين من حالهم فقال : 11 - { ألم تر إلى الذين نافقوا } والخطاب لرسول الله أو لكل من يصلح له والذين نافقوا هم عبد الله بن أبي وأصحابه وجملة { يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } مستأنفة لبيان المتعجب منه والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار وجعلهم إخوانا لهم لكون الكفر قد جمعهم وإن اختلف نوع كفرهم فهو إخوان في الكفر واللام في لإخوانهم هي لام التبليغ وقيل هو من قول بني النضير لبني قريظة والأول أولى لأن بني النضير وبني قريظة هم يهود والمنافقون غيرهم واللام في قوله : { لئن أخرجتم } هي الموطئة للقسم : أي والله لئن أخرجتم من دياركم { لنخرجن معكم } هذا جواب القسم : أي لنخرجن من ديارنا في صحبتكم { ولا نطيع فيكم } أي في شأنكم ومن أجلكم { أحدا } ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم وإن طال الزمان وهو معنى قوله : { أبدا } ثم لما وعدوهم بالخروج معهم وعدوهم بالنصرة لهم فقالوا : { وإن قوتلتم لننصرنكم } على عدوكم ثم كذبهم سبحانه فقال : { والله يشهد إنهم لكاذبون } فيما وعدوهم به من الخروج معهم والنصرة لهم (5/286)
ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به فصل ما كذبوا فيه فقال : 12 - { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } وقد كان الأمر كذلك فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود وهم بنو النضير ومن معهم ولم ينصروا من قوتل من اليهود وهم بنو قريظة وأهل خيبر { ولئن نصروهم } أي لو قدر وجود نصرهم إياهم لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده قال الزجاج : معناه لو قصدوا نصر اليهود { ليولن الأدبار } منهزمين { ثم لا ينصرون } يعني اليهود لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم وهم المنافقون وقيل يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك بل يذلهم الله ولا ينفعهم نفاقهم وقيل معنى الآية : لا ينصورنهم طائعين ولئن نصروهم مكرهين ليولن الأدبار وقيل معنى لا ينصرونهن : لا يدومون على نصرهم والأول أولى ويكون من باب قوله : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } (5/287)
13 - { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } أي لأنتم يا معاشر المسلمين أشد خوفا وخشية في صدور المنافقين أو صدور اليهود أو صدور الجميع من الله : أي من رهبة الله والرهبة هنا بمعنى المرهوبية لأنها مصدر من المبني للمفعول وانتصابها على التمييز { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } أي ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم لشيء من الأشياء ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم فهو أحق بالرهبة منه دونكم (5/287)
ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم وضعف نكايتهم فقال : 14 - { لا يقاتلونكم جميعا } يعني لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ولا يقدرون على ذلك { إلا في قرى محصنة } بالدروب والدور { أو من وراء جدر } أي من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم قرأ الجمهور { جدر } بالجمع وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وابن كثير وأبو عمرو { جدار } بالإفراد واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم لأنها موافقة لقوله قرى محصنة وقرأ بعض المكيين جدر بفتح الجيم وإسكان الدال وهي لغة في الجدار { بأسهم بينهم شديد } أي بعضهم غليظ فظ على بعض قلوبهم مختلفة ونياتهم متباينة قال السدي : المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد وقال مجاهد : بأسهم بينهم شديد بالكلام والوعيد ليفعلن كذا والمعنى : أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس وإذا لاقوا عدوا ذلوا وخضعوا وانهزموا وقيل المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من الرعب والأول أولى لقوله : { تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى } فإنه يدل على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم الموصوف بالشدة ومعنى شتى متفرقة قال مجاهد : يعني اليهود والمنافقين تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى وروي عنه أيضا أنه قال : المراد المنافقون وقال الثوري : هم المشركون وأهل الكتاب قال قتادة : تحسبهم جميعا : أي مجتمعين على أمر ورأي وقلوبهم شتى متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم مختلفة شهادتهم مختلفة أهواؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق وقرأ ابن مسعود وقلوبهم أشت أي أشد اختلافا { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } أي ذلك الاختلاف والتشتت بسب أنهم قوم لا يعقلون شيئا ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه (5/287)
15 - { كمثل الذين من قبلهم } أي مثلهم كمثل الذين من قبلهم والمعنى : أن مثل المنافقين واليهود كمثل الذين من قبلهم من كفار المشركين { قريبا } يعني في زمان قريب وانتصاب قريبا إلى الظرفية : أي يشبهونهم في زمن قريب وقيل العامل فيه ذاقوا : أي ذاقوا في زمن قريب ومعنى { ذاقوا وبال أمرهم } أي سوء عاقبة كفرهم في الدنيا بقتلهم يوم بدر وكاذن ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر قاله مجاهد وغيره وقيل المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم قاله قتادة وقيل قتل بني قريظة قاله الضحاك وقيل هو عام في كل من انتقم الله منه بسبب كفره والأول أولى { ولهم عذاب أليم } أي في الآخرة (5/288)
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا آخر فقال : 16 - { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } أي مثلهم في تخاذلهم وعدم تناصرهم فهو إما خبر مبتدأ محذوف أو خبر آخر للمبتدأ المقدر قبل قوله : { كمثل الذين من قبلهم } على تقدير حذف حرف العطف كما تقول : أنت عاقل أنت عامل أنت كريم وقيل المثل الأول خاص باليهود والثاني خاص بالمنافقين وقيل المثل الثاني بيان للمثل الأول ثم بين سبحانه وجه الشبه فقال : { إذ قال للإنسان اكفر } أي أغراه بالكفر وزينه له وحمله عليه والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان وقيل هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر فأطاعه { فلما كفر قال إني بريء منك } أي فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان وقبولا لتزيينه قال الشيطان إني بريء منك وهذ يكون منه يوم القيامة وجملة { إني أخاف الله رب العالمين } تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره وقيل المراد بالإنسان هنا أو جهل والأول أولى قال مجاهد : المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم قيل وليس قول الشيطان { إني أخاف الله } على حقيقته إنما هو على وجه التبري من الإنسان فهو تأكيد لقوله : { إني بريء منك } قرأ الجمهو { إني } بإسكان الياء وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتحها (5/288)
17 - { فكان عاقبتهما أنهما في النار } قرأ الجمهور { عاقبتهما } بالنصب على أنه حبر كان واسمها أنهما في النار وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد بالرفع على أنها اسم كان والخبر ما بعده والمعنى فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار { خالدين فيها } قرأ الجمهور { خالدين } بالنصب على الحال وقرأ ابن مسعود والأعمش وزيد بن علي وابن أبي عبلة خالدان على أنه خبر أن والظرف متعلق به { وذلك جزاء الظالمين } أي الخلود في النار جزاء الظالمين ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا (5/289)
ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة فقال : 18 - { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } أي لتنظر أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة والعرب تكفي من المستقبل بالغد وقيل ذكر الغد تنبيها على قرب الساعة { واتقوا الله } كرر الأمر بالتقوى للتأكيد { إن الله خبير بما تعملون } لا تخفى عليه من ذكر خافية فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر (5/289)
19 - { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } أي تركوا أمره أو ما قدروه حق قدره أو لم يخافوه أو جميع ذلك { فأنساهم أنفسهم } أي جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من العذاب ولم يكفوا عن المعاصي التي توقعهم فيه ففي الكلام مضاف محذوف : أي أنساهم حظوظ أنفسهم قال سفيان : نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم وقيل نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد { أولئك هم الفاسقون } أي الكاملون في الخروج عن طاعة الله (5/289)
20 - { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } في الفضل والرتبة والمراد الفريقان على العموم فيدخل في فريق أهل النار من نسي الله منهم دخولا أوليا ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولا أوليا لأن السياق فيهم وقد تقدم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة وفي سورة السجدة وفي سورة ص ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة بعد نفي التساوي بينهم وبين أهل النار فقال : { أصحاب الجنة هم الفائزون } أي الظافرون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ألم تر إلى الذين نافقوا } قال : عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي وإخوانهم بنو النضير وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم في الدلائل عنه أن رهطا من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعير فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : { تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى } قال : هم المشركون وأخرج عبد الرزاق وابن راهويه وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب أن رجلا كان يتعبد في صومعة وأن امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فرقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاءوا فأخذوه فذهوبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : إني أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له فذلك قوله : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } الآية قلت : وهذا لا يدل على أن هذ الإنسان هو المقصود بالآية بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا وليس فيه ما يدل على أنه المقصود بالآية وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { كمثل الشيطان } قال : ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر (5/289)
لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار وبين عدم استوائهم في شيء من الأشياد ذكر تعظيم كتابه الكريم وأخبر عن جلالته وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب وترق له الأفئدة فقال : 21 - { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } أي من شأنه وعظمته وجودة ألفاظه وقوة مبانيه وبلاغته واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة وضخامة الجرم خاشعا متصدعا : أي متشققا من خشية الله سبحانه حذرا من عقابه وخوفا من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله وهذا تمثيل وتخييل يقتضي علوا شأن القرآن وقوة تأثيره في القلوب ويدل على هذا قوله : { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } فيما يجب عليهم التفكر فيه لتعظوا بالمواعظ وينزجروا بالزواجر وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن ولا اتعظوا بمواعظه ولا انزجروا بزواجره والخاشع الذليل المتواضع وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم : أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت ولتصدع من نزوله عليه وقد أنزلناه عليك وثبتناك له وقويناك عليه فيكون على هذا من باب الامتنان على النبي صلى الله عليه و سلم لأن الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي (5/291)
ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته فقال : 22 - { هو الله الذي لا إله إلا هو } وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك { عالم الغيب والشهادة } أي عالم ما غاب من الإحساس وما حضر وقيل عالم السر والعلانية وقيل ما كان وما يكون وقيل الآخرة والدنيا وقدم الغيب على الشهادة لكونه متقدما وجودا { هو الرحمن الرحيم } قد تقدم تفسير هذين الاسمين (5/291)
23 - { هو الله الذي لا إله إلا هو } كرره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقا بذلك { الملك القدوس } أي الطاهر من كل عيب المنزه عن كل نقص والقدس بالتحريك في لغة أهل الحجاز السطل لأنه يتطهر به ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء قرأ الجمهور { القدوس } بضم القاف وقرأ أبو ذر وأبو السماك بفتحها وكان سيبويه يقول سبوح قدوس بفتح أولهما وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابيا فصيحا يقرأ القدوس بفتح القاف قال ثعلب : كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر وقد يفتحان { السلام } أي الذي سلم من كل نقص وعيب وقيل المسلم على عباده في الجنة كما قال : { سلام قولا من رب رحيم } وقيل الذي سلم الخلق من ظلمه وبه قال الأكثر وقيل المسلم لعباده وهو مصدر وصف به للمبالغة { المؤمن } أي الذي وهب لعباده الأمن من عذابه وقيل المصدق لرسله لإظهار المعجزات وقيل المصدق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب يقال أمنه من الأمن وهو ضد الخوف ومنه قول النابغة :
( والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند )
وقال مجاهد : المؤمن الذي وجد نفسه بقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } قرأ الجمهور { المؤمن } بكسر الميم اسم فاعل من آمن بمعنى أمن وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بفتحها بمعنى المؤمن به على الحذف كقوله : { واختار موسى قومه } وقال أبو حاتم : لا تجوز هذه القراءة لأن معناه أنه كان خائفا فأمنه غيره { المهيمن } أي الشهيد على عباده بأعمالهم الرقيب عليهم كذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل : يقال هيمن يهيمن فهو مهيمن : إذا كان رقيبا على الشيء قال الواحدي : وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤيمن من آمن يؤمن فيكون بمعنى المؤمن والأول أولى وقد قدمنا الكلام على المهيمن في سورة المائدة { العزيز } الذي لا يوجد له نظير وقيل القاهر وقيل الغالب غير المغلوب وقيل القوي { الجبار } جبروت الله عظمته والعرب تسمي الملك الجبار ويجوز أن يكون من جبر إذا أغنى الفقير وأصله الكسير ويجوز أن يكون من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد فهو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم وبه قال السدي ومقاتل واختاره الزجاج والفراء قال : هو من أجبره على الأمر : أي قهره قال : ولم أسمع فعالا من أفعل إلا في جبار من أجبر ودراك من أدرك وقيل الجبار الذي لا تطاق سطوته { المتكبر } أي الذي تكبر عن كل نقص وتعظم عما لا يليق به وأصل التكبر الامتناع وعدم الانقياد ومنه قول حميد بن ثور :
( عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت ... بها كبرياء الصعب وهي ذلول )
والكبر في صفات الله مدح وفي صفات المخلوقين ذم قال قتادة : هو الذي تكبر عن كل سوء قال ابن الأنباري : المتكبر ذو الكبرياء وهو الملك ثم نزه سبحانه نفسه عن شرك المشركين فقال : { سبحان الله عما يشركون } أي عما شركونه أو عن إشراكهم به (5/291)
24 - { هو الله الخالق } أي المقدر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته { البارئ } أي المنشء المخترع للأشياء الموجد لها وقيل المميز لبعضها من بعض { المصور } أي الموجد للصور المركب لها على هيئات مختلفة فالتصوير مترتب على الخلق والبراية وتابع هلما ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل قال النابغة :
( الخالق البارئ المصور في الـ ... أرحام ماء حتى يصير دما )
وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي المصور بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول به للبارئ : أي الذي برأ المصور : أي ميزه { له الأسماء الحسنى } قد تقدم بيانها والكلام فيها عند تفسير قوله : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } { يسبح له ما في السموات والأرض } أي ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما فيهما { وهو العزيز الحكيم } أي الغالب لغير الذي لا يغالبه مغالب الحكيم في كل الأمور التي يقضي بها
وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } قال : يقول لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع قال : كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون وأخرج الديلمي عن ابن مسعود وعلي مرفوعا في قوله : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } إلى آخر السورة قال : هي رقية الصداع رواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف حال رجالهما وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال : قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأ على الأعمش ثم ساق الإسناد مسلسلا هكذا إلى ابن مسعود فقال : فإني قرأت على النبي صلى الله عليه و سلم فلما بلغت هذه الآية قال لي : ضع يد على رأسك فإن جبريل لما نزل بها قال لي ضع يدل على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت قال الذهبي : هو باطل وأخرجه ابن السني في عمل يوم وليلة وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر رجلا إذا آوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سورة الحشر وقال : إن مت مت شهيدا وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من تعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات ثم قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكا يطردون عنه شياطين الإنس والجن إن كان ليلا حتى يصبح وإن كان نهارا حتى يمسي ] وأخرج أحمد والدرامي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالل السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة ] قال الترمذي بعد أخراجه : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأخرج ابن عدي وابن مردويه والخطيب والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له الجنة ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { عالم الغيب والشهادة } قال : السر والعلانية وفي قوله : { المؤمن } قال : المؤمن خلقه من أن يظلمهم وفي قوله : { المهيمن } قال : الشاهد (5/292)
سورة الممتحنة
هي ثلاث عشرة آية
وهي مدنية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الممتحنة بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله والممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل أضيف الفعل إليها مجازا كما سميت سورة براءة الفاضحة لكشفها عيوب المنافقين وقيل الممتحنة بفتح الحاء اسم مفعول أضافه إلى المرأة التي نزلت فيها وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط لقوله سبحانه : { فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن }
قال المفسرون : نزلت : 1 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى مشركي قريش بمسير النبي صلى الله عليه و سلم إليهم وسيأتي ذكر القصة آخر البحث إن شاء الله وقوله : { عدوي } هو المفعول الأول { وعدوكم } معطوف عليه والمفعول الثاني أولياء وأضاف سبحانه العدو إلى نفسه تعظيما لجرمهم والعدو مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة والآية تدل على النهي عن موالات الكفار بوجه من الوجوه { تلقون إليهم بالمودة } أي توصلون إليهم المودة على أن الباء زائدة أو هي سببية والمعنى : تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه و سلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم قال الزجاج : تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه و سلم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم والجملة في محل نصب على الحال من ضمير تتخذوا ويجوز أن تكون مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته أو لتفسير موالاتهم إياهم ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء وجملة { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } في محل نصب على الحال من فاعل تلقون أو من فاعل لا تتخذوا ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار قرأ الجمهور { بما جاءكم } بالباء الموحدة وقرأ الجحدري وعاصم في رواية عنه لما جاءكم باللام : أي لأجل ما جاءكم من الحق على حذف المكفور به : أي كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق أو على جعل ما هو سبب للإيمان سببا للكفر توبيخا لهم { يخرجون الرسول وإياكم } الجملة مستأنفة لبيان كفرهم أو في محل نصب على الحال وقوله : { أن تؤمنوا بالله ربكم } تعليل للإخراج : أي يخرجونكم لأجل إيمانكم أو كراهة أن تؤمنوا { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } جواب الشرط محذوف أي إن كنتم كذلك فلا تلقوا إليهم بالمودة أو إن كنتم كذلك فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وانتصاب جهادا وابتغاء على العلة : أي إن كنتم خرجتم لأجل الجهاد في سبيلي ولأجل ابتغاء مرضاتي وجملة { تسرون إليهم بالمودة } مستأنفة للتقريع والتوبيخ : أي تسرون إليهم الأخبار بسبب المودة وقيل هي بدل من قوله : تلقون : ثم أخبر سبحانه بأنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء فقال : { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } والجملة في محل نصب على الحال : أي بما أضمرتم وما أظهرتم والباء في بما زائدة : يقال علمت كذا وعلمت بكذا هذا على أن أعلم مضارع وقيل هو أفعل تفضيل : أي أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } أي من يفعل ذلك الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء ويلقي إليهم بالمودة فقد أخطأ طريق الحق والصوب وضل عن قصد السبيل (5/294)
2 - { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء } أي إن يلقوكم ويصادوفكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة ومنه المثاقفة وهي طلب مصادفة الغرة في المسابقة وقيل المعنى : إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم والمعنيان متقاربان { ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } أي يبسطوا إليكم أيديهم بالضرب ونحوه وألسنتهم بالشتم ونحوه { وودوا لو تكفرون } هذا معطوف على جواب الشرط أو على جملة الشرط والجزاء ورجح هذا أبو حيان والمعنى : أنهم تمنوا ارتدادهم وودوا رجوعهم إلى الكفر (5/296)
3 - { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } أي لا تنفعكم القرابات على عمومها ولا الأولاد وخصهم بالذكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنو عليهم والمعنى : أن هؤلاء لا ينفعونكم حتى توالوا الكفار لأجلهم كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم وجملة { يوم القيامة يفصل بينكم } مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم ومعنى { يفصل بينكم } يفرق بينكم فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار وقيل المراد بالفصل بينهم أنه يفر كل منهم من الآخر من شدة الهول كما في قوله : { يوم يفر المرء من أخيه } الآية قيل ويجوز أن يتعلق يوم القيامة بما قبله : أي لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة فيوقف عليه ويبتدأ بقوله : { يفصل بينكم } والأولى أن يتعلق بما بعده كما ذكرنا { والله بما تعملون بصير } لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم فهو مجازيكم على ذلك قرأ الجمهور { يفصل } بضم الياء وتخفيف الفاء وفتح الصاد مبنيا للمفعول واختار هذه القراءة أبو عبيد وقرأ عاصم بفتح الياء وكسر الصاد مبنيا للفاعل وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة وقرأ علقمة بالنون وقرأ قتادة وأبو حيوة بضم الياء وكسر الصاد مخففة
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن علي بن أبي طالب قال : [ بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا والزبير والمقداد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب قالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه و سلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ما هذا يا حاطب ؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال النبي صلى الله عليه و سلم : صدق فقال عمر : دعني أضرب عنقه فقال : إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ونزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } ] وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة متضمنة لبيان هذه القصة وأن هذه الآيات إلى قوله : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } نازلة في ذلك (5/296)
لما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين والذم لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلا حين تبرأ من قومه فقال : 4 - { قد كانت لكم أسوة حسنة } أي خصلة حميدة تقتدون بها : يقال لي به أسوة في هذا الأمر : أي اقتداء فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء به في ذلك إلا في استغفاره لأبيه قرأ الجمهور { أسوة } بكسر الهمزة : وقرأ عاصم بضمها وهما لغتان وأصل الأسوة بالضم والكسر القدوة ويقال هو أسوتك : أي مثلك وأنت مثله : وقوله في إبراهيم والذين معه متعلق بأسوة أو بحسنة أو هو نعت لأسوة أو حال من الضمير المستتر في حسنة أو خبر كان ولكم للبيان والذين معه هم أصحابه المؤمنون وقال ابن زيد : هم الأنبياء قال الفراء : يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه والظرف في قوله : { إذ قالوا لقومهم } هو خبر كان أو متعلق به : أي وقت قولهم لقومهم الكفار { إنا برآء منكم } جمع بريء مثل شركاء وشريك وظرفاء وظريف قرأ الجمهور { براء } بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين ككرماء في كريم وقرأ عيسى بن عمر وابن ابي إسحاق بكسر الباء وهمزة واحدة بعد ألف ككرام في جمع كريم وقرأ أبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف
{ ومما تعبدون من دون الله } وهي الأصنام { كفرنا بكم } أي بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا } أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم { حتى تؤمنوا بالله وحده } وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة والبغضاء محبة { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } هو استثناء متصل من قوله في إبراهيم بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء : أي قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم إلا قوله لأبيه أو من أسوة حسنة وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة كأنه قيل : قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله إلا قوله لأبيه أو من التبري والقطيعة التي ذكرت : أي لم يواسله إلا قوله ذكر هذا ابن عطية أو ه ومنقطع : أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك فلا تأتسوا به فتستغفرون للمشركين فإنه كان عن موعدة وعدها إيها أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظن أنه قد أسلم { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } وقد تقدم تحقيق هذا في سورة براءة { وما أملك لك من الله من شيء } هذا من تمام القوم المستثنى : يعني ما أغني عنك وما أدفع عنك من عذاب الله شيئا والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرن فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا القيد فإنه إظهار للعجز وتفويض للأمر إلى الله وذلك من خصال الخير { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه ومما فيه أسوة حسنة يقتدي به فيها وقيل هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول والتوكل هو تفويض الأمور إلى الله والإنابة الرجوع والمصير المرجع وتقدير الجار والمجرور لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله (5/298)
5 - { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } قال الزجاج : لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا { واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز } أي الغالب الذي لا يغالب { الحكيم } ذو الحكمة البالغة (5/299)
6 - { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة } أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة وكرر هذا للمبالغة والتأكيد وقيل إنهذا نزل بعد الأول بمدة { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } بدل من قوله لكم بدل بعض من كل والمعنى : أن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } أي يعرض عن ذلك فإن الله هو الغني عن خلقه الحميد إلى أوليائه (5/299)
7 - { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وحسن إسلامهم ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودة وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله وقيل المراد بالمودة هنا تزويج النبي صلى الله عليه و سلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان ولا وجه لهذا التخصيص وإن كان من جملة ما صار سببا إلى المودة فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولكنها لم تحصل المودة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده { والله قدير } أي بليغ القدرة كثيرها { والله غفور رحيم } أي بليغهما كثيرهما (5/299)
ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادتهم فصل القول فيمن يجوز بره منهم ومن لا يجوز فقال : 8 - { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم } أي لا ينهاكم عن هؤلاء { أن تبروهم } هذا بدل من الموصول بدل اشتمال وكذا قوله : { وتقسطوا إليهم } يقال أقسطت إلى الرجل : إذا عاملته بالعدل قال الزجاج : المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد { إن الله يحب المقسطين } أي العادلين ومعنى الآية : أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل قال ابن زيد : كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتار ثم نسخ قال قتادة : نسختها { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقيل هذا الحكم كان ثابتا في الصلح بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين قريش فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وقيل هي خاصة في حلفاء النبي صلى الله عليه و سلم ومن بينه وبينه عهد قاله الحسن وقال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف وقال مجاهد : هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا وقيل هي خاصة بالنساء والصبيان وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة (5/299)
ثم بين سبحانه من لا يحل بره ولا العدل في معاملته فقال : 9 - { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم } وهم صناديد الكفر من قريش { وظاهروا على إخراجكم } أي عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم وقوله : { أن تولوهم } بدل اشتمال من الموصول كما سلف { ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } أي الكاملون في الظلم لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوا لله ولرسوله ولكتابه وجعلوهم أولياء لهم
وقد أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس { إلا قول إبراهيم لأبيه } قال : نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه وقوله : { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة } قال : في صنيع إبراهيم كله إلا في الاستغفار لأبيه وهو مشرك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } قال : لا تسلطهم علينا فيفتنونا وأخرج ابن مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : أول من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب وفيه نزلت هذه الآية : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن فلما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل ذا الخمار مرتدا فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين قال : وهو فيمن قال الله فيه : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي ابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال : كانت المودة التي جعل بينهم تزويج النبي صلى الله عليه و سلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين : فصار معاوية خال المؤمنين وفي صحيح مسلم عن ابن عباس [ أن أبا سفيان قال : يا رسول الله ثلاث أعطنيهن قال : نعم قال : تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال نعم قال : ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك قال : نعم قال : وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها ] الحديث وأخرج الطيالسي وأحمد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : ضباب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته فأنزل الله : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه و سلم وفي البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر قالت : [ أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألت النبي صلى الله عليه و سلم أأصلها ؟ فأنزل الله : { لا ينهاكم الله } الآية فقال : نعم صلي أمك ] (5/300)
لما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البر والإقساط للفريقين الأول دون الفريق الثاني ذكر حكم من يظهر الإيمان فقال : 10 - { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } من بين الكفار وذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين وأمر بامتحانهن فقال : { فامتحنوهن } أي فاختبروهن وقد اختلف فيما كان يمتحن به فقيل [ كن يستحلفن ] بالله ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لالتماس دنيا بل حبا لله ولرسوله ورغبة في دينه فإذا حلفت كذلك أعطى النبي صلى الله عليه و سلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها إليه وقيل الامتحان هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقيل ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول الله صلى الله عليه و سلم الآية وهي : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } إلى آخرها
واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا ؟ على قولين فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد وبه قال الأكثر وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص { الله أعلم بإيمانهن } هذه الجملة معترضة لبيان أن حقيقة حالهن لا يعلمها إلا الله سبحانه ولم يتعبدكم بذلك وإنما تعبدكم بامتحانهن حتى يظهر لكم ما يدل على صدق دعواهن في الرغوب في الإسلام { فإن علمتموهن مؤمنات } أي علمتم ذلك بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرته به { فلا ترجعوهن إلى الكفار } أي إلى أزواجهن الكافرين وجملة { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } تعليل للنهي عن إرجعاهن وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها والتكرير لتأكيد الحرمة أو الأول لبيان زوال النكاح والثاني لامتناع النكاح الجديد { وآتوهم ما أنفقوا } أي وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن مثل ما أنفقوا عليهن من المهور قال الشافعي : وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع منها بلا عوض { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } لأنهن قد صرن من أهل دينكم { إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن وذلك بعد انقضاء عدتهن كما تدل عليه أدلة وجوب العدة
{ ولا تمسكوا بعصم الكوافر } قرأ الجمهور { تمسكوا } بالتخفيف من الإمساك واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : { فأمسكوهن بمعروف } وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد من التمسك والعصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به والمراد هنا عصمة عقد النكاح والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين قال النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر وكان الكفار يزوجون المسلمين والمسلمون يتزوجون المشركات ثم نسخ ذلك بهذه الآية وهذا خاص بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب وقيل عامة في جميع الكوافر مخصصة بإخراج الكتابيات منها وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثني أو كتابي لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدة وقال بعض أهل العلم : يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولا بها وأما إذا كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام إذ لا عدة عليها { واسألوا ما أنفقتم } أي اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار { وليسألوا ما أنفقوا } قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار هاتوا مهرها ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت ردوا مهرها على زوجها الكافر { ذلكم حكم الله } أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين حكم الله وقوله : { يحكم بينكم } في محل نصب على الحال أو مستأنفة { والله عليم حكيم } أي بليغ العلم لا تخفى عليه خافية بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله (5/301)
قال القرطبي : وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } لما نزلت الآية المتقدمة قال المسلمون : رضينا بحكم الله وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله : 11 - { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } مما دفعتم إليهم من مهور النساء المسلمات وقيل المعنى : وإن انفلت منكم أحد من نسائكم إلى الكفار بأن ارتدت المسلمة { فعاقبتم } قال الواحدي : قال المفسرون : فعاقبتم فغنمتم قال الزجاج : تأويله وكانت العقبى لكم : أي كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } من مهر المهاجرة التي تزوجوها وادفعوه إلى الكفار ولا تؤتوه زوجها الكافر قال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها بعد الفتح وحاصل معناها أن من أزواجكم يجوز أن يتعلق بفاتكم أي من جهة أزواجكم ويراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء ثم يجوز في شيء أن يراد به المهر ولكن لا بد على هذا من مضاف محذوف : أي من مهر أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته ويجوز أن يراد بشيء النساء :
ي نوع وصنف منهن وهو ظاهر قوله : { من أزواجكم } وقوله : { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } والمعنى : أنهم يعطون من ذهبت زوجته إلى المشركين فكفرت ولم يرد عليه المشركون مهرها كما حكم الله مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها من الغنيمة { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } أي احذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم فإن الإيمان الذي أنتم متصفون به يوجب على صاحبه ذلك (5/303)
12 - { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } أي قاصدات لمبايعتك على الإسلام و { على أن لا يشركن بالله شيئا } من الأشياء كائنا ما كان هذا كان يوم فتح مكة فإن نساء أهل مكة آتين رسول الله صلى الله عليه و سلم يبايعنه فأمره الله أن يأخذ عليهن أن لا يشركن { ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن } وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } أي لا يلحقن بأزواجهم ولدا ليس منهم قال الفراء : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها وليس المراد هنا أنها تنسب ولدها من الزنا إلى زوجها لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا { ولا يعصينك في معروف } أي في كل أمر هو طاعة لله قال عطاء : في كل بر وتقوى وقال المقاتلان : عنى بالمعروف النهي عن النوح وتمزيق الثياب وجز الشعر وشق الجيب وخمش الوجوه والدعاء بالويل وكذا قال قتادة وسعيد بن المسيب ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم ومعنى القرآن أوسمع مما قالوه قيل ووجه التقييد بالمعروف مع كونه صلى الله عليه و سلم لا يأمر إلا به التنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق { فبايعهن } هذا جواب إذا والمعنى إذا بايعنك على هذه الأمور فبايعهن ولم يذكر في بيعتهن الصلاة والزكاة والصيام والحج لوضوح كون هذه الأمور ونحوها من أركان الدين وشعائر الإسلام وإنما خص الأمور المذكور لكثرة وقوعها من النساء { واستغفر لهن الله } أي اطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة لهن منك { إن الله غفور رحيم } أي بليغ المغفرة والرحمة لعباده (5/303)
13 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم } هم جميع طوائف الكفر وقيل اليهود خاصة وقيل المنافقون خاصة وقال الحسن : اليهود والنصارى والأول أولى لأن جميع طوائف الكفر تتصف بأن الله سبحانه غضب عليها { قد يئسوا من الآخرة } من لابتداء الغاية : أي أنهم لا يوقنون بالآخرة البتة بسبب كفرهم { كما يئس الكفار من أصحاب القبور } أي كيأسهم من بعث موتاهم لاعتقادهم عدم البعث وقيل كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من الآخرة لأنهم قد وقفوا على الحقيقة وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة فتكون من على الوجه الأول ابتدائية وعلى الثانية بيانية والأول أولى
وقد أخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } حتى بلغ { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك وأخرجه أيضا من حديثهما بأطول من هذا وفيه كانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فامتحنوهن } قال : كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فإذا علموا أن ذلك حقا منهن لم يرجعن إلى الكفار وأعطى بعلها في الكفار الذين عقد لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم صداقها الذي أصدقها وأحلهن للمؤمنين إذا آتوهن أجورهن وأخرج ابن مردويه عنه قال : نهزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح فكان من أسلم من نسائهم فسئلت ما أخرجك ؟ فإن كانت خرجت فرارا من زوجها ورغبة عنه ردت وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت ورد على زوجها مثل ما أنفق وأخرج ابن أبي أسامة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وانب مردويه بسند حسن كما قال السيوطي عن ابن عباس في قوله : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } قال : كان إذا جاءت المرأة النبي صلى الله عليه و سلم حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض وبالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله وأخرج ابن منيع من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أسلم عمر بن الخطاب وتأخرت امرأته في المشركين فأنزل الله : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري والترمذي وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } إلى قوله : { غفور رحيم } فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد بايعتك كلاما والله ما مست يده يد امرأة قط من المبايعات ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعيد وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أميمة بنت رقيقة قالت : [ أتيت النبي صلى الله عليه و سلم في نساء لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا حتى بلغ { ولا يعصينك في معروف } فقال : فيما استطعتن وأطقتن فقلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا ؟ قال : إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ] وفي الباب أحاديث وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ بايعوني على أن لا تشركون بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرأ آية النساء فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ] وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريح عن ابن عباس في قوله : { ولا يأتين ببهتان يفترينه } قال : كانت الحرة تولد لها الجارية فتجعل مكانها غلاما وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن { ولا يعصينك في معروف } قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم سلمة الأنصارية قالت : [ قالت امرأة من النسوة ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه ؟ قال : لا تنحن قلت : يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي لا بد لي من قضائهن فأبى علي فعاودته مرارا فأذن لي في قضائهن فلم أنح بعد ولم يبق من النسوة إلا وقد ناحت غيري ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أم عطية قالت : [ بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئا ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت : يا رسول الله إن فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها فلم يقل لها شيئا فذهبت ثم رجعت فقالت : ما وفت منا امرأة إلا أم سليم وأم العلاء وبنت أبي سبرة امرأة معاذ أو بنت أبي سبرة وامرأة معاذ ] وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن النوح وأخرج أبو إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن عمرو وزيد بن الحارث يودان رجلا من اليهود فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم } الآية وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله : { قد يئسوا من الآخرة } قال : فلا يؤمنون بها ولا يرجونها كما يئس الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : هم الكفار أصحاب القبور الذين يئسوا من الآخرة وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله (5/304)
سورة الصف
هي أربع عشرة آية
وهي مدنية قال الماوردي : في قول الجمع وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الصف بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة الصف بمكة ولعل هذا لا يصح عنه ويؤيد كونها مدنية ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فلم يقم أحد منا فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلينا رجلا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف كلها وأخرجه ابن أبي حاتم وقال في آخره : فنزلت فيهم هذه السورة وأخرجه أيضا الترمذي وابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين والبيهقي في الشعب والسنن
قوله : 1 - { سبح لله ما في السموات وما في الأرض } قد تقدم الكلام على هذا ووجه التعبير في بعض السور بلفظ المضارع وفي بعضها بلفظ الأمر الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها وقد قدمنا نحو هذا في أول سورة الحديد { وهو العزيز الحكيم } أي الغالب الذي لا يغالب : الحكيم في أفعاله وأقواله (5/307)
2 - { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه ولم مركبة من اللام الجارة وما الاستفهامية وحذفت ألفها تخفيفا لكثرة استعمالها كما في نظائرها (5/308)
ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال : 3 - { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } أي عظم ذلك في المقت وهو البغض والمقت والمقاتة مصدران يقال رجل مقيت وممقوت : إذا لم يحبه الناس قال الكسائي : { أن تقولوا } في موضع رفع لأن كبر فعل بمعنى بئس ومقتا منتصب على التمييز وعلى هذا فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالنكرة وأن تقولوا هو المخصوص بالذم ويجيء فيه الخلاف هل رفعه بالابتداء وخبره الجملة المتقدمة عليه أو خبره محذوف أو هو خبر مبتدأ محذوف لو قيل إنه قصد بقوله كبر التعجب وقد عده ابن عصفور من أفعال التعجب وقيل إنه ليس من أفعال الذم ولا من أفعال التعجب بل هو مسند إلى أن تقولوا ومقتا تمييز محول عن الفاعل (5/308)
4 - { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا : وددنا أن الله يخبرنا بأحب الأعمال إليه حتى نعمله ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا فأنزل الله { إن الله يحب الذين يقاتلون } الآية وانتصاب صفا على المصدرية والمفعول محذوف : أي يصفون أنفسهم صفا وقيل هو مصدر في موضع الحال : أي صافين أو مصفوفين قرأ الجمهور { يقاتلون } على البناء للفاعل وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول وقرئ يقتلون بالتشديد وجملة { كأنهم بنيان مرصوص } في محل نصب على الحال من فاعل يقاتلون أو من الضمير في صفا على تقدير أنه مؤول بصافين أو مصفوفين ومعنى مرصوص : ملتزق بعضه ببعض يقال رصصت البناء أرصه رصا : إذا ضممت بعضه إلى بعض قال الفراء : مرصوص بالرصاص قال المبرد : هو مأخوذ من رصصت البناء : إذا لا يمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة وقيل هو من الرصيص وهو ضم الأشياء بعضها إلى بعض والتراص : التلاصق (5/308)
5 - { وإذ قال موسى لقومه } لما ذكر سبحانه أنه يحب المقاتلين في سبيله بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد وجاهدا في سبيل الله وحل العقاب بمن خالفهما والظرف متعلق بمحذوف هو اذكر : أي اذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد صلى الله عليه و سلم أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما { يا قوم لم تؤذونني } هذا مقول القول : أي لم تؤذونني بمخالفة ما [ آمركم ] به من الشرائع التي افترضها الله عليكم أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص ومن ذلك رميه بالأدرة وقد تقدم بيان هذا في سورة الأحزاب وجملة { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } في محل نصب على الحال وقد لتحقق العلم أو لتأكيده وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار والمعنى : كيف تؤذونني مع علمكم بأني رسول الله والرسول يحترم ويعظم ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي وتفيدكم العلم بها علما يقينا { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } أي لما أصروا على الزيغ واستمروا عليه أزاغ الله قلوبهم عن الخدى وصرفها عن قبول الحق وقيل فلما زغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب قال مقاتل : لما عدولوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء بما ارتكبوا { والله لا يهدي القوم الفاسقين } هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها قال الزجاج : لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق والمعنى : أنه لا يهدي كل متصف بالفسق وهؤلاء من جملتهم (5/308)
6 - { وإذ قال عيسى ابن مريم } معطوف على { وإذ قال موسى } معمول لعامله أو معمول لعامل مقدر معطوف على عامل الظرف الأول { يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة } أي أني رسول الله إليكم بالإنجيل مصدقا لما بين يدي من التوراة لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة بل هي مشتملة على التبشير بي فكيف تنفرون عني وتخالفونني وانتصاب مصدقا على الحال { و } كذا { مبشرا } والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال والمعنى : أني أرسلت إليكم حال كوني مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا بمن يأتي بعدي وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير فلا مقتضى لتكذيبي وأحمد اسم نبينا صلى الله عليه و سلم وهو علم منقول من الصفة وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل فيكون معناها أنه أكثر حمدا لله من غيره أو من المفعول فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره قرأ نافع وابن كثر وأبو عمرو والسلمي وزر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم { من بعدي } بفتح الياء وقرأ الباقون بإسكانها { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } أي لما جاءهم عيسى بالمعجزات قالوا هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر وقيل المراد محمد صلى الله عليه و سلم أي لما جاءهم بذلك قالوا هذه المقالة والأول أولى قرأ الجمهور { سحر } وقرأ حمزة والكسائي { ساحر } (5/309)
7 - { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام } أي لا أحد أكثر ظلما منه حيث يفتري على الله الكذب والحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي هو خير الأديان وأشرفها لأن من كان كذلك فحقه أن لا يفتري على غيره الكذب فكيف يفتريه على ربه قرأ الجمهور { وهو يدعى } من الدعاء مبنيا للمفعول وقرأ طلحة بن مصرف يدعي بفتح الياء وتشديد الدال من الادعاء مبنيا للفاعل وإنما عدي بإلى لأنه ضمن معنى الانتماء والانتساب { والله لا يهدي القوم الظالمين } هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها والمعنى : لا يهدي من اتصف بالظلم والمذكورون من جملتهم (5/309)
8 - { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } الإطفاء : الإخماد وأصله في النار واستعير لما يجري مجراها من الظهرو والمراد بنور الله القرآن : أي يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول أو الإسلام أو محمد صلى الله عليه و سلم أو الحجج والدلائل أو جميع ما ذكر ومعنى بأفواههم : بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن { والله متم نوره } بإظهاره في الآفاق وإعلائه على غيره قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم { متم نوره } بالإضافة والباقون بتنوين متم { ولو كره الكافرون } ذلك فإنه كائن لا محالة والجملة في محل نصب على الحال قال ابن عطية : واللام في ليطفئوا لام مؤكدة دخلت على المفعول لأن التقدير : يريدون أن يطفئوا وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم كقولك : لزيد ضربت ولرؤيتك قصدت وقيل هي لام العلة والمفعول محذوف : أي يريدون إبطال القرآن أو دفع الإسلام أو هلاك الرسول ليطفئوا وقيل إنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة بنفسها قال الفراء : العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر وإليه ذهب الكسائي ومثل هذا قوله : { يريد الله ليبين لكم } (5/310)
وجملة 9 - { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } مستأنفة مقررة لما قبلها والهدى القرآن أو المعجزات ومعنى دين الحق الملة الحقة وهي ملة الإسلام ومعنى ليظهره : ليجعله ظاهرا على جميع الأديان عاليا عليها غالبا لها ولو كره المشركون ذلك فإنه كائن لا محالة قال مجاهد : ذلك إذا نزل عليسى لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام والدين مصدر يعبر به عن الأديان المتعددة وجواب لو في الموضعين محذوف والتقدير أتمه وأظهره
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : وددنا لو أن الله أخبرنا بأحب الأعمال فنعمل به فأخر الله نبيه صلى الله عليه و سلم أن أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } قال : هذه الآية في القتال وحده وهم قوم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و سلم فيقول الرجل : قاتلت وضربت بسيفي ولم يفعلوا فنزلت وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عنه أيضا قال : قالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه فأخبرهم الله فقال : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } فكرهوا ذلك فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { كأنهم بنيان مرصوص } قال : مثبت لا يزول ملصق بعضه على بعض وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن لي أسماء : أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب : والعاقب الذي ليس بعده نبي ] (5/310)
قوله : 10 - { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } جعل العمل المذكور بمنزلة [ التجارة ] لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار قرأ الجمهور { تنجيكم } بالتخفيف من الإنجاء وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حيوة بالتشديد من التنجية (5/311)
ثم بين سبحانه هذه التجارة التي دل عليها فقال : 11 - { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } وهو خبر في معنى الأمر للإيذان بوجوب الامتثال فكأنه قد وقع فأخبر بوقوعه وقدم ذكر الأموال على الأنفس لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد قرأ الجمهور تؤمنون وقرأ ابن مسعود آمنوا وجاهدوا على الأمر قال الأخفش : تؤمنون عطف بيان لتجارة والأولى أن تكون الجملة مستأنفة مبينة لما قبلها والإشارة بقوله { ذلكم } إلى ما ذكر من الإيمان والجهاد وهو مبتدأ وخبره { خير لكم } أي هذا الفعل خير لكم من أموالكم وأنفسكم { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم ممن يعلم فإنكم تعلمون أنه خير لكم لا إذا كنتم من أهل الجهل فإنكم لا تعلمون ذلك (5/311)
12 - { يغفر لكم ذنوبكم } هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر ولهذا جزم قال الزجاج والمبرد : قوله تؤمنون معنى آمنوا ولذلك جاء يغفر لكم مجزوما وقال الفراء : يغفر لكم جواب الاستفهام فجعله مجزوما لكونه جواب الاستفهام وقد غلطه أهل العلم قال الزجاج : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا وقال الرازي في توجيه قول الفراء : إن هل أدلكم في معنى الأمر عنده يقال هل أنت ساكت : أي اسكت وبيانه أن هل بمعنى الاستفهام ثم يتدرج إلى أن يصير عرضا وحثا والحث كالإغراء والإغراء أمر وقرأ زيد بن علي تؤمنوا وتجاهدوا على إضمار لام الأمر وقبل إن يغفر لكم مجزوم بشرط مقدر : أي إن تؤمنوا يغفر لكم وقرأ بعضهم بالإدغام في يغفر لكم والأول ترك الإدغام لأن الراء حرف متكرر فلا يحسن إدغامه في اللام { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } قد تقدم بيانه كيفية جري الأنار من تحت الجنات { ومساكن طيبة في جنات عدن } أي في جنات إقامة { ذلك الفوز العظيم } أي ذلك المذكور في المغفرة وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو الفزو الذي لا فوز بعده والظفر الذي لا ظفر يماثله (5/312)
13 - { وأخرى تحبونها } قال الأخفش والفراء : أخرى معطوفة على تجارة فهي في محل خفض : أي وهل أدلكم على خلصة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وقيل هي في محل رفع : أي ولكم خصلة أخرى وقيل في محل نصب : أي ويعطيكم خصلة أخرى ثم بين سبحانه هذه الآخرة فقال : { نصر من الله وفتح قريب } أي هي نصر من الله لكم وفتح قريب قال الكلبي : يعني النصر على قريش وفتح مكة وقال عطاء : يريد فتح فارس والروم { وبشر المؤمنين } معطوف على محذوف : أي قل يا أهيا الذين آمنوا وبشر أو على تؤمنون لأنه في معنى الأمر والمعنى : وبشر يا محمد المؤمنين بالنصر والفتح أو بشرهم بالنصر في الدنيا والفتح وبالجنة في الآخرة أو وبشرهم بالجنة في الآخرة (5/312)
ثم حض سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال : 14 - { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } أي دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع { أنصار الله } بالتنوين وترك الإضافة وقرأ الباقون بالإضافة والرسم يحتمل القراءتين معا واختار أبو عيد قراءة الإضافة لقوله { نحن أنصار الله } بالإضافة { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله } أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى { من أنصاري إلى الله } قالوا { نحن أنصار الله } والكاف في كما قال نعت مصدر محذوف تقديره : كونوا كونا كما قال وقيل الكاف في محل نصب على إضمار الفعل وقيل هو كلام محمول على معناه دون لفظه والمعنى : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله وقوله : { إلى الله } قيل إلى بمعنى مع : أي من أنصاري مع الله وقيل التقدير : من أنصاري فيما يقرب إلى الله وقيل التقدير : من أنصاري متوجها إلى نصرة الله وقد تقدم الكلام على هذا في سورة آل عمران والحواريون هم أنصار المسيح وخلص أصحابه وأول من آمن به وقد تقدم بيانهم { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } أي آمنت طائفة بعيسى وكفرت به طائفة وذلك لأنهم لما اختلفوا بعد رفعه تفرقوا وتقاتلوا { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم } أي قوينا المحقين منه على المبطلين { فأصبحوا ظاهرين } أي عالين غالبين وقيل المعنى : فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعا
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قالوا : لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فنزلت { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } فكرهوا فنزيت { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } إلى قوله : { بنيان مرصوص } وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } قال : قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلا فبايعوه عند العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه وأخرج ابن إسحاق وابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للنفر الذين لقوه بالعقبة : أخرجوا إليه اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم ] وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للنقباء : إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل قومي قالوا نعم ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { فأيدنا الذين آمنوا } قال : فقوينا الذين آمنوا وأخرج ابن أبي حاتم عنه فأيدنا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وأمته على عدوهم فأصبحوا اليوم ظاهرين (5/312)
سورة الجمعة
هي إحدى عشرة آية
وهي مدنية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة الجمعة بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله وأخرج مسلم وأهل السنن عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في الجمعة سورة الجمعة و { إذا جاءك المنافقون } وأخرج مسلم وأهل السنن عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون
قوله : 1 - { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض } قد تقدم تفسير هذا في أول سورة الحديد وما بعدها من المسبحات { الملك القدوس العزيز الحكيم } قرأ الجمهور بالجر في هذه الصفات الأربع على أنها نعت لله وقيل على البدل والأول أولى وقرأ أبو وائل بن محارب وأبو العالية ونصر بن عاصم ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ وقرأ الجمهور { القدوس } بضم القاف وقرأ زيد بن علي بفتحها وقد تقدم تفسيره (5/314)
2 - { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } المراد بالأميين العرب من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها لأنهم لم يكونوا أهل كتاب والأمي في الأصل الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب وكان غالب العرب كذلك وقد مضي بيان معنى الأمي في سورة البقرة ومعنى منهم من أنفسهم ومن جنسهم ومن جملتهم وما كان حي من أحياء العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة ووجه الامتنان بكونه منهم أن ذلك أقرب إلى الموافقة لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه { يتلو عليهم آياته } يعني القرآن مع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلم ذلك من أحد والجملة صفة لرسولا وكذا قوله : { ويزكيهم } قال ابن جريح ومقاتل : أي يطهرهم من دنس الكفر والذنوب وقال السدي : يأخذ زكاة أموالهم وقيل يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان { ويعلمهم الكتاب والحكمة } هذه صفة ثالثة لرسولا والمراد بالكتاب القرآن وبالحكمة السنة كذا قال الحسن وقيل الكتاب الخط بالقلم والحكمة الفقه في الدين كذا قال مالك بن أنس { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } أي وإن كانوا من قبل بعثته فيهم في شرك وذهاب عن الحق (5/315)
3 - { وآخرين منهم } معطوف على الأميين : أي بعث في الأميين وبعث في آخرين منهم { لما يلحقوا بهم } ذلك الوقت وسيلحقون بهم من بعد أو هو معطوف على المفعول الأول في يعلمهم أي ويعلم آخرين أو على مفعول يزكيهم : أي يزكيهم ويزكي آخرين منهم والمراد بالآخرين من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة وقيل المراد بهم من أسلم من غير العرب وقال عكرمة : هم التابعون وقال مجاهد : هم الناس كلهم وكذا قال ابن زيد والسدي : وجملة { لما يلحقوا بهم } صفة لآخرين والضمير في منهم ولهم راجع إلى الأميين وهذا يؤيد أن المراد بالآخرين هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة يوم القيامة وهو صلى الله عليه و سلم وإن كان مرسلا إلى جميع الثقلين فتخصيص العرب هاهنا لقصد الامتنان عليهم وذلك لا ينافي عموم الرسالة ويجوز أن يراد بالآخرين العجم لأنهم وإن لم يكونوا من العرب فقد صاروا بالإسلام منهم والمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم { وهو العزيز الحكيم } أي بليغ العزة والحكمة (5/315)
والإشارة بقوله : 4 - { ذلك } إلى ما تقدم ذكره وقال الكلبي : يعني الإسلام وقال قتادة : يعني الوحي والنبوة وقيل إلحاق العجم بالعرب وهو مبتدأ وخبره { فضل الله يؤتيه من يشاء } أي يعطيه من يشاء من عباده { والله ذو الفضل العظيم } الذي لا يساويه فضل ولا يداينه (5/316)
5 - { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا فقال : { مثل الذين حملوا التوراة } أي كلفوا القيام بها والعمل بما فيها { ثم لم يحملوها } أي لم يعملوا بموجبها ولا أطاعوا ما أمروا به فيها { كمثل الحمار يحمل أسفارا } هي جمع سفر وهو الكتاب الكبير لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ قال ميمون بن مهران : الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل ؟ فهكذا اليهود وقال الجرحاني : هو يعني حملوا من الحمالة بمعنى الكفالة : أي ضمنوا أحكام التوراة وقوله : { يحمل } في محل نصب على الحال أو صفة للحمار إذ ليس المراد حمارا معينا فهو في حكم النكرة كما في قول الشاعر :
( ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثم وقلت لا يعنيني )
{ بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } أي بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله على أن التمييز محذوف والفاعل المفسر به مضمر ومثل القوم هو المخصوص بالذم أو مثل القوم فاعل بئس والمخصوص بالذم الموصول بعده على حذف مضاف : أي مثل الذين كذبوا ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم فيكون في محل جر والمخصوص بالذم محذوف والتقدير : بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء { والله لا يهدي القوم الظالمين } يعني على العموم فيدخل فيهم اليهود دخولا أوليا (5/316)
6 - { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس } المراد بالذين هادوا تهودوا وذلك أن اليهود ادعوا الفضيلة على الناس وأنهم أولياء الله من دون الناس كما في قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } فأمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم لما ادعوا هذه الدعوى الباطلة { فتمنوا الموت } لتصيروا إلى ما تصيرون إليه من الكرامة في زعمكم { إن كنتم صادقين } في هذا الزعم فإن من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه الدار قرأ الجمهور { فتمنوا } بضم الواو وقرأ ابن السميفع بتفحها تخفيفا وحكى الكسائي إبدال الواو همزة (5/316)
ثم أخبر الله سبحانه أنهم لا يفعلون ذلك أبدا بسبب ذنوبهم فقال : 7 - { ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم } أي بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي والتحريف والتبديل { والله عليم بالظالمين } يعني على العموم وهؤلاء اليهود داخلون فيهم دخولا أوليا (5/317)
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم بأن الفرار من الموت لا ينجيهم وأنه نازل بهم فقال : 8 - { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } لا محالة ونازل بكم بلا شك والفاء في قوله فإنه داخلة لتضمن الاسم معنى الشرط قال الزجاج : لا يقال إن زيدا فمنطلق وهاهنا قال : فإنه ملاقيكم لما في معنى الذي من الشرط والجزاء : أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه وقيل إنها مزيدة وقيل إن الكلام قد تم عند قوله تفرون منه ثم ابتدأ فقال فإنه ملاقيكم { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة } وذلك يوم القيامة { فينبئكم بما كنتم تعملون } من الأعمال القبيحة ويجازيكم عليها
وقد أخرج ابن المنذر والحاكم والبيهقي في الشعب عن عطاء بن السائب عن ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم } أول سورة الجمعة وأخرج ابخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ] وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : [ كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه و سلم حين نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا ؟ فوضع يده على سلمان الفارسي وقال : والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء ] وأخرجه أيضا مسلم من حديه مرفوعا بلفظ [ لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال من فارس أو قال : من أبناء فارس ] وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس ] وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالا ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب ثم قرأ { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } قال : الدين وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } قال : اليهود وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { أسفارا } قال : كتبا (5/317)
قوله : 9 - { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة } أي وقع النداء لها والمراد به الأذان إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم نداء سواه وقوله : { من يوم الجمعة } بيان لإذا وتفسير لها وقال أبو البقاء : إن من بمعنى في كما في قوله : { أروني ماذا خلقوا من الأرض } أي في الأرض قرأ الجمهور { الجمعة } بضم الميم وقرأ عبد الله بن الزبير والأعمش بإسكانها تخفيفا وهما لغتان وجمعها جمع وجمعات قال الفراء : يقال الجمعة بسكون الميم وبفتحها وبضمها وهي صفة لليوم : أي يوم يجمع الناس : قال الفراء أيضا وأبو عبيد : والتخفيف أخف وأقيس نحو : غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر وفتح الميم لغة عقيل وقيل إنما سميت جمعة لأن الله جمع فيها خلق آدم وقيل لأن الله فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمعت فيها جميع المخلوقات وقيل لاجتماع الناس فيها للصلاة { فاسعوا إلى ذكر الله } قال عطاء : يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة وقال الفراء : المضي والسعي والذهاب في معنى واحد ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود { فاسعوا إلى ذكر الله } وقيل المراد القصد قال الحسن : والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه قصد بالقلوب والنيات وقيل هو العمل كقوله : { من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } وقوله : { إن سعيكم لشتى } وقوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } قال القرطبي : وهذا قول الجمهور ومنه قول زهير :
( سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم )
وقال أيضا :
( سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تنزل ما بين العشيرة بالدم )
أي فاعملوا على المضي إلى ذكر الله واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه ويؤيد هذا القول قول الشاعر :
( أسعى على جل بني مالك ... كل امرئ في شأنه ساعي )
{ وذروا البيع } أي اتركوا المعاملة به ويلحق به سائر المعاملات قال الحسن : إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى السعي إلى ذكر الله وترك البيع وهو مبتدأ وخبره { خير لكم } أي خير لكم من فعل البيع وترك السعي لما في الامتثال من الأجر والجزاء وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجبا للعقوبة { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم من أهل العلم فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم (5/318)
10 - { فإذا قضيت الصلاة } أي إذا فعلتم الصلاة وأديتموها وفرغتم منها { فانتشروا في الأرض } للتجارة والتصرف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم { وابتغوا من فضل الله } أي من رزقه الذي ينفضل به على عباده بما يحصل لهم من الأرباح في المعاملات والمكاسب وقيل المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر بعمل الطاعات واجتناب ما لا يحل { واذكروا الله كثيرا } أي ذكرا كثيرا بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي وكذا اذكروه بما يقربكم إليه من الأذكار كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك { لعلكم تفلحون } أي كي تفوزا بخير الدارين وتظفروا به (5/319)
11 - { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما } سبب نزول هذه الآية أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة فأقبلت عير من الشام والنبي صلى الله عليه و سلم يخطب يوم الجمعة فانفتل الناس إليه حتى لم يبق إلا إثنا عشر رجلا في المسجد ومعنى { انفضوا إليها } تفرقوا خارجين إليها وقال المبرد : مالوا إليها والضمير للتجارة وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو لأنها كانت أهم عندهم وقيل التقدير : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه كما في قول الشاعر :
( نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف )
وقيل إنه اقتصر على ضمير التجارة لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموما مع الحاجة إليها فكيف بالانفضاض إلى اللهو وقيل غير ذلك { وتركوك قائما } أي على المنبر : ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا فقال : { قل ما عند الله } يعني من الجزاء العظيم وهو الجنة { خير من اللهو ومن التجارة } اللذين ذهبتم إليهما وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي صلى الله عليه و سلم لأجلها { والله خير الرازقين } فمنه اطلبوا الرزق وإليه ترسلوا بعمل الطاعة فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال : [ قلت يا رسول الله لأي شيء سمي يوم الجمعة ؟ قال : لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم وفيه الصعقة والبعثة وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها بدعوة استجاب له ] وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن سلمان قال : [ قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتدري ما يوم الجمعة ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قالها ثلاث مرات ثم قال في الثالثة : هو اليوم الذي جمع الله في أباكم آدم أفلا أحدثكم عن يوم الجمعة ] الحديث وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ] وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم
وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها وفي الساعة التي فيها وأنه يستجاب الدعاء فيها وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن خرشة بن الحر قال : رأى معي عمر بن الخطاب لوحا مكتوبا فيه { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فقال : من أملى عليك هذا ؟ قلت أبي بن كعب قال : إن أبيا أقرأنا للمنسوخ اقرأها فامضوا إلى ذكر الله وروى هؤلاء ما عدا أبا عبيد عن ابن عمر قال : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وما نقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلا فامضوا إلى ذكر الله وأخرجه عنه أيضا الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وأخرجوا كلهم أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقرأ فامضوا إلى ذكر الله قال : ولو كان فاسمعوا لسعيت حتى يسقط ردائي وأخرج عبد بن حميد عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس { فاسعوا إلى ذكر الله } قال : فامضوا وأخرج عبد بن حميد عنه أن السعي العمل وأخرج عبد بن حميد
عن محمد بن كعب : [ أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب فيدعونه ويقومون فنزلت الآية { وذروا البيع } فحرم عليهم ما كان قبل ذلك ] وأخرج ابن جرير عن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } قال : ليس لطلب دنيا ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله ] وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : لم تؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : [ بينما النبي صلى الله عليه و سلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى لم يبق منهم إلا إثنا عشر رجلا أنا فيهم [ و ] أبو بكر وعمر فأنزل الله : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } إلى آخر السورة وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال : جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية وتركوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما على المنبر وبقي في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا ] وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى عن جماعة من الصحابة وغيرهم (5/319)
سورة المنافقين
هي إحدى عشرة آية
وهي مدنية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة المنافقين بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط قال السيوطي بسند حسن عن أبي هريرة قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها على المؤمنين وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين ] وأخرج البزار والطبراني عن أبي عنية الخولاني مرفوعا نحوه
قوله : 1 - { إذا جاءك المنافقون } أي إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك وجواب الشرط قالوا وقيل محذوف وقالوا حال والتقدير : جاءوك قائلين كيت وكيت فلا [ تقبل ] منهم (5/321)
وقيل الجواب 2 - { اتخذوا أيمانهم جنة } وهو بعيد { قالوا نشهد إنك لرسول الله } أكدوا شهادتهم بإن واللام للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم من خلوص اعتقادهم والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ومعنى نشهد نحلف فهو يجري مجرى القسم ولذلك يلتقى بما يلتقى به القسم ومن هذا قول قيس بن ذريح :
( وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا )
ومثل نشهد نعلم فإنه يجري مجرى القسم كما في قول الشاعر :
( ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها )
وجمله { والله يعلم إنك لرسوله } معترضة مقررة لمضمون ما قبلها وهو ما أظهروه من الشهادة وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } أي في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد لا إلى منطوق كلامهم وهو الشهادة بالرسالة فإنه حق والمعنى : { والله يشهد إنهم لكاذبون } فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدال على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب وموافقة باطن لظاهر { اتخذوا أيمانهم جنة } أي جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم وإن محمدا لرسول الله وقاية تقيهم منكم وسترة يستترون بها من القتل والأسر والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه وقد تقدم قول من قال إنها جواب الشرط قرأ الجمهور { أيمانهم } بفتح الهمزة وقرأ الحسن بكسرها وقد تقدم تفسير هذا في سورة المجادلة { فصدوا عن سبيل الله } أي منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوة وهذا معنى الصد الذي بمعنى الصرف ويجوز أن يكون من الصدود : أي أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه { إنهم ساء ما كانوا يعملون } من النفاق والصد (5/322)
وفي ساء معنى التعجب والإشارة بقوله : 3 - { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من الكذب والصد وقبح الأعمال وهو مبتدأ وخبره { بأنهم آمنوا } أي بسبب أنهم آمنوا في الظاهر نفاقا { ثم كفروا } في الباطن أو أظهروا الإيمان للمؤمنين وأظهروا الكفر للكافرين وهذا صريح في كفر المنافقين وقيل نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا والأول أولى كما يفيده السياق { فطبع على قلوبهم } أي ختم عليها بسبب كفرهم قرأ الجمهور { فطبع } على البناء للمفعول والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه ويدل على هذا قراءة الأعمش فطبع الله على قلوبهم { فهم لا يفقهون } ما فيه من صلاحهم ورشادهم وهو الإيمان (5/323)
4 - { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } أي هيئاتهم ومناظرهم يعني أن لهم أجساما تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق { وإن يقولوا تسمع لقولهم } فتحسب أن قولهم حق وصدق لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وقد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين فصيحا جسيما جميلا وكان يحضر مجلس النبي صلى الله عليه و سلم فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه و سلم مقالته قال الكلبي : المراد عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وقيل لكل من يصلح له ويدل عليه قراءة من قرأ يسمع على البناء للمفعول وجملة { كأنهم خشب مسندة } مستأنفة لتقرير ما تقدم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف شبهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه و سلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم وهم كذلك لخلوهم عن الفهم النافع والعلم الذي ينتفع به صاحبه قال الزجاج : وصفهم بتمام الصور ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب قرأ الجمهور { خشب } بضمتين وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل بإسكان الشين وبها قرأ البراء بن عازب واختارها أبو عبيد لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن واختار القراءة الأولى أبو حاتم وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب بفتحتين ومعنى مسندة أنها أسندت إلى غيرها من قولهم : أسندت كذا إلى كذا والتشديد للتكثير ثم عابهم الله سبحانه بالجبن فقال : { يحسبون كل صيحة عليهم } أي يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان : أحدهما أنه عليهم ويكون قوله : { هم العدو } جملة مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون والوجه الثاني أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله : { هم العدو } ويكون قوله : { عليهم } متعلقا بصيحة وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر وكان حقه أن يقال : هو العدو والوجه الأول أولى قال مقاتل والسدي : أي إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب ومن هذا قول الشاعر :
( مازلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر علهم ورجالا )
وقيل كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال : { فاحذرهم } أن يتمكنوا من فرصة منك أو يطلعوا على شيء من أسرارك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ثم دعا عليهم بقوله : { قاتلهم الله أنى يؤفكون } أي لعنهم الله وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب كقولهم : قاتله الله من شاعر أو ما أشعره وليس بمراد هنا بل المراد ذمهم وتوبيخهم وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته عز و جل أن يلعنهم ويخزيهم أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولو ذلك ومعنى { أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق ويميلون عنه إلى الكفر قال قتادة : معناه يعدلون عن الحق وقال الحسن معناه يصرفون عن الرشد (5/323)
5 - { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله } أي إذا قال لهم القائل من المؤمنين قد نزل فيكم ما نزل من القرآن فتوبوا إلى الله ورسوله وتعالوا يستغفر لكم رسول الله { لووا رؤوسهم } أي حركوها استهزاء بذلك قال مقاتل : عطفوا رؤوسهم رغبة من الاستغفار قرأ الجمهور { لووا } بالتشديد وقرأ نافع بالتخفيف واختار القراءة الأولى أبو عبيد { ورأيتهم يصدون } أي يعرضون عن قول من قال لهم : تعالوا يستغفر لكم رسول الله أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وجملة { وهم مستكبرون } في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى وهي يصدون لأن الرؤية بصرية فيصدون في محل نصب على الحال والمعنى : ورأيتهم صادين مستكبرين (5/324)
6 - { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم } أي الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق واستمرارهم على الكفر قرأ الجمهور { أستغفرت } بهمزة مفتوحة من غير مد وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة أم عليها وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف { لن يغفر الله لهم } أي ما داموا على النفاق { إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } أي الكاملين في الخروج عن الطاعة والانهماك في معاصي الله ويدخل فيهم المنافقون دخولا أوليا (5/325)
ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال : 7 - { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } أي حتى يتفرقوا عنه يعنون بذلك فقراء المهاجرين والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم أو لعدم مغفرة الله لهم قرأ الجمهور { ينفضوا } من الانفضاض وهو التفرق وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم : إذا فنيت أزوادهم يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال : { ولله خزائن السموات والأرض } أي إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء { ولكن المنافقين لا يفقهون } ذلك ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز و جل وأنه الباسط القابض المعطي المانع (5/325)
ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال : 8 - { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبي رأس المنفاقين وعنى بالأعز نفسه ومن معه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن معه ومراده بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من سامعون له مطيعون ثم رد الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } أي القوة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين على المنافقين فاجعل العزة للعادلين من عبادك وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين { ولكن المنافقين لا يعلمون } بما فيه النفع فيفعلونه وبما فيه الضر فيجتنبونه بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم والطبع على قلوبهم
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال : [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه { لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } من حوله وقال : { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا : كذب زيد رسول الله فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في إذا جاءك المنافقون فدعاهم النبي صلى الله عليه و سلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم وهو قوله : { كأنهم خشب مسندة } قال : كانوا رجالا أجمل شيء ] وأخرج عنه بأطول من هذا ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان وأخرج ابن المنذر عنه { اتخذوا أيمانهم جنة } قال : حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنبوا بأيمانهم من القتل والحرب وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { كأنهم خشب مسندة } قال نخل قيام وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا قال نزلت هذه الآية { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } في عسيف لعمر بن الخطاب وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرآ { لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : [ كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في غزاة قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال المهاجري ياللمهاجرين وقال الأنصاري ياللأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه و سلم : ما بال دعوة الجاهلية ؟ قالوا رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : دعوها فإنها منتنة فسمع ذلك عبد الله بن أبي فقال : أو قد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] زاد الترمذي [ فقال له ابنه عبد الله : والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله العزيز ففعل ] (5/325)
لما ذكر سبحانه قبائح المنافقين رجع إلى خطاب المؤمنين مرغبا لهم في ذكره فقال : 9 - { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } فحذرهم عن أخلاق المنافقين الذي ألهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله ومعنى لا تلهكم : لا تشغلكم والمراد بالذكر فرائض الإسلام قاله الحسن وقال الضحاك : الصلوات الخمس وقيل قراءة القرآن وقيل هو خطاب للمنافقين ووصفهم بالإيمان لكونهم آمنوا ظاهرا والأول أولى { ومن يفعل ذلك } أي يلتهي بالدنيا عن الدين { فأولئك هم الخاسرون } أي الكاملون في الخسران (5/327)
10 - { وأنفقوا من ما رزقناكم } الظاهر أن المراد الإنفاق في الخر على عمومه ومن للتبعيض أي أنفقوا بعض ما رزقناكم في سبيل الخير وقيل المراد الزكاة المفروضة { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } بأن تنزل به أسبابه ويشاهد حضور علاماته وقدم المفعول على الفاعل للاهتمام { فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب } أي يقول عند نزول ما نزل به مناديا لربه هلا أمهلتني وأخرت موتي إلى أجل قريب : أي أمد قصير { فأصدق } أي فأتصدق بمالي { وأكن من الصالحين } قرأ الجمهور { فأصدق } بإدغام التاء في الصاد وانتصابه على أنه جواب التمني وقيل إن لا في لولا زائدة والأصل لو أخرتني وقرأ أبي وابن مسعود وسعيد بن جبير فأتصدق بدون إدغام على الأصل وقرأ الجمهور { وأكن } بالجزم على محل على موضع فأصدق لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن وكذا قال أبو علي الفارسي وابن عطية وغيرهم وقال سيبويه حاكيا عن الخليل : إنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني وجعل سيبويه هذا نظير قول زهير :
( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان حاثيا )
فخفض ولا سابق عطفا على مدرك الذي هو خبر ليس على توهم زيادة الباء فيه وقرأ أبو عمرو وابن محيصن ومجاهد { وأكن } بالنصب عطفا على فأصدق ووجهها واضح ولكن قال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان وأكن بغير واو وقرأ عبيد بن عمير وأكون بالرفع على الاستئناف : أي وأنا أكون قال الضحاك : لا ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤد زكاة إلا سأل الرجعة وقرأ هذه الآية (5/327)
ثم أجاب الله سبحانه عن هذا المتمني فقال : 11 - { ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها } أي إذا حضر أجلها وانقضى عمرها { والله خبير بما تعملون } لا يخفى عليه شيء منه فهو مجازيكم بأعمالكم قرأ الجمهور { تعملون } بالفوقية على الخطاب وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالتحتية على الخبر
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم } الآية قال : [ هم عباد من أمتي الصالحون منهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعن الصلوات الخمس المفروضة ] وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كان له مال يبلغه حج بيت الله أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكافر فقال : سأتلوا عليكم بذلك قرآنا { يا أيها الذين آمنوا } إلى آخر السورة ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { فأصدق وأكن من الصالحين } قال : أحج (5/328)
هي ثمان عشرة آية
وهي مدنية في قول الأكثر وقال الضحاك : هي مكية وقال الكلبي : هي مدنية ومكية وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة التغابن بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة التغابن بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم جفاء أهله وولده فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } إلى آخر السورة وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار نحوه وأخرج ابن حبان في الضعفاء والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن ] قال ابن كثير : وهو غريب جدا بل منكر وأخرج البخاري في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال : ما مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن
قوله : 1 - { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض } أي ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب { له الملك وله الحمد } يختصان به ليس لغيره منهما شيء وما كان لعباده منهما فهو من فيضه وراجع إليه { وهو على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء (5/328)
2 - { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } أي فبعضكم كافر وبعضكم مؤمن قال الضحاك : فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار بن ياسر ونحوه ممن أكره على الكفر وقال عطاء : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب قال الزجاج : إن الله خلق الكافر وكفره فعل له وكسب مع أن الله خالق الكفر وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب مع أن الله خالق الإيمان والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه لأن وجود خلاف المقدر عجز ووجود خلاف المعلوم جهل قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال وهو الذي عليه جمهور الأمة وقدم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن { والله بما تعملون بصير } لا تخفى عليه من ذلك خافية فهو مجازيكم بأعمالكم (5/329)
ثم لما ذكر سبحانه إلى خلق العالم الصغير أتبعه بخلق العالم الكبير فقال : 3 - { خلق السموات والأرض بالحق } أي بالحكمة البالغة وقيل خلق ذلك خلقا يقينا لا ريب فيه وقيل الباء بمعنى اللام : أي خلق ذلك لإظهار الحق وهو أن يجزي المحسن بإحسانة والمسيء بإساءته ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير فقال : { وصوركم فأحسن صوركم } قيل المراد آدم خلقه بيده كرامة له كذا قال مقاتل وقيل المراد جميع الخلائق وهو الظاهر : أي أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم وأجمل شكل والتصوير : التخطيط والتشكيل قرأ الجمهور { فأحسن صوركم } بضم الصاد وقرأ زيد بن علي والأعمش وأبو زيد بكسرها { وإليه المصير } في الدار الآخرة لا إلى غيره (5/330)
4 - { يعلم ما في السموات والأرض } لا تخفى عليه من ذلك خافية { ويعلم ما تسرون وما تعلنون } أي ما تخفونه وما تظهرونه والتصريح به مع اندراجه [ فيما ] قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد { والله عليم بذات الصدور } هذه الجملة مقررة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم وهي تذييلية (5/330)
5 - { ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل } وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود والخطاب لكفار العرب { فذاقوا وبال أمرهم } بسبب كفرهم والوبال : الثقل والشدة والمراد بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا { ولهم عذاب أليم } وذلك في الآخرة وهو عذاب النار (5/330)
والإشارة بقوله : 6 - { ذلك } إلى ما ذكر من العذاب في الدارين وهو مبتدأ وخبره { بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } أي بسبب أنها كانت تأتيهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة { فقالوا أبشر يهدوننا } أي قال كل قوم منهم لرسولهم هذا القول منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك وأراد بالبشر الجنس ولهذا قال يهدوننا { فكفروا وتولوا } أي كفروا بالرسل وبما جاءوا به وأعرضوا عنهم ولم يتدبروا فيما جاءوا به وقيل كفروا بهذا القول الذي قالوه للرسل { واستغنى الله } عن إيمانهم وعبادتهم وقال مقاتل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه من المعجزات وقيل استغنى بسلطانه عن طاعة عباده { والله غني حميد } أي غير مختاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال والحال
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول : أشقي أم سعيد ؟ فيكتب ما هو لاق وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله : { وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير } ] وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا والعبد يولد كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة ثم يدركه ما كتب له فيموت شقيا وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيدا ] (5/330)
قوله : 7 - { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } الزعم : هو القول بالظن ويطلق على الكذب قال شريح : لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا و { أن لن يبعثوا } قائم مقام مفعول زعم وأن هي المخففة من الثقيلة لا المصدرية لئلا يدخل ناصب على ناصب والمراد بالكفار كفار العرب والمعنى : زعم كفار العرب أن الشأن لن يبعثوا أبدا ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يرد عليهم ويبطل زعمهم فقال : { قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن } بل هي التي لإيجاب النفي فالمعنى : بل تبعثون ثم أقسم على ذلك وجواب القسم لتبعثن : أي لتخرجن من قبوركم لتبؤن { بما عملتم } أي لتخربن بذلك إقامة للحجة عليكم ثم تجزون به { وذلك } البعث والجزاء { على الله يسير } إذ الإعادة أيسر من الابتداء (5/331)
8 - { فآمنوا بالله ورسوله } الفاء هي الفصيحة الدالة على شرط مقدر : أي إذا كان الأمر هكذا فصدقوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم { والنور الذي أنزلنا } وهو القرآن لأنه نور يهتدي به من [ ظلمة ] الضلال { والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم فهو مجازيكم على ذلك (5/332)
9 - { يوم يجمعكم ليوم الجمع } العامل في الظرف لتنبؤن قاله النحاس وقال غيره : العامل فيه خبير وقيل العامل فيه محذوف هو اذكر وقال أبو البقاء : العامل فيه ما دل عليه الكلام : أي تتفاوتون يوم يجمعكم قرأ الجمهور { يجمعكم } بفتح الياء وضم العين وروي عن أبي عمرو إسكانها ولا وجه لذلك إلا التخفيف وإن لم يكن هذا موضعا له كما قرئ في { وما يشعركم } بسكون الراء وكقول الشاعر :
( فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل )
بإسكان باء أشرب وقرأ زيد بن علي والشعبي ويعقوب ونصر وابن أبي إسحاق والجحدري نجمعكم بالنون ومعنى { ليوم الجمع } ليوم القيامة فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء ويجمع فيه بين كل عامل وعمله وبين كل نبي وأمته وبين كل مظلوم وظالمه { ذلك يوم التغابن } يعني أن يوم القيامة هو يوم التغابن وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضا فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر وأهل الطاعة أهل المعصية ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار فنزلوا منازلهم التي كانوا سينزلونها لو لم يفعلوا ما يوجب النار فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشر والجيد بالرديء والنعيم بالعذاب وأهل الجنة على العكس من ذلك يقال غبنت فلانا : إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة كذا قال المفسرون فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته } أي من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته قرأ الجمهور { يكفر } { ويدخله } بالتحتية وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما وانتصاب { خالدين فيها أبدا } على أنها حال مقدرة والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر من التكفير والإدخال وهو مبتدأ وخبره { الفوز العظيم } أي الظفر الذي لا يساويه ظفر (5/332)
10 - { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير } المراد بالآيات إما التنزيلية أو ما هو أعم منها ذكر سبحانه حال السعداء وحال الأشقياء هاهنا لبيان ما تقدم من التغابن وأنه سيكون بسبب التفكير وإدخال الجنة للطائفة الأولى وبسبب إدخال الطائفة الثانية النار وخلودهم فيها (5/333)
11 - { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } أي ما أصاب كل أحد من مصيبة من المصائب إلا بإذن الله : أي بقضائه وقدره قال الفراء إلا بإذن الله : أي بأمر الله وقيل إلا بعلم الله قيل وسبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } أي من يصدق ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما قدره الله عليه يهد قلبه للصبر والرضا بالقضاء قال مقاتل بن حيان يهد قلبه عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضائه ويسترجع وقال سعيد بن جبير يهد قلبه عند المصيبة فيقول { إنا لله وإنا إليه راجعون } وقال الكلبي هو إذا ابتلي صبر وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظلم غفر قرأ الجمهور { يهد } بفتح الياء وكسر الدال : أي يهده الله وقرأ قتادة و السلمي و الضحاك و أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول وقرأ طلحة بن مصرف و الأعرج و سعيد بن جبير و ابن هرمز و الأزرق نهد بالنون وقرأ مالك بن دينار و عمرو بن دينار و عكرمة يهدأبهمزة ساكنة ورفع قلبه : أي يطمئن ويسكن { والله بكل شيء عليم } أي بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية (5/333)
12 - { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } أي هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله { فإن توليتم } أي أعرضتم عن الطاعة { فإنما على رسولنا البلاغ المبين } ليس عليه غير ذلك وقد فعل وجواب الشرط محذوف والتقدير فلا بأس على الرسول وجملة { فإنما على رسولنا } تعليل للجواب المحذوف (5/333)
ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل فقال : 13 - { الله لا إله إلا هو } أي هو المستحق للعبودية دون غيره فوحدوه ولا تشركوا به { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي يفوضوا أمورعم إليه ويعتمدوا عليه لا على غيره
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قيل له : ما سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول في زعموا ؟ قال : سمعته يقول : بئس مطية الرجل وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه كره زعموا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يوم التغابن من أسماء يوم القيامة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في قوله : { ذلك يوم التغابن } قال : غبن أهل الجنة أهل النار وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود في قوله : { ما أصاب من مصيبة } قال : هي المصيبات تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يهد قلبه } قال : يعني يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه (5/333)
قوله : 14 - { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم } يعني أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا وهو أن رجالا من مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم فلا يطيعوهم في شيء مما يريدونه منهم مما فيه مخالفة لما يريده الله والضمير في { فاحذروهم } يعود إلى العدو أو إلى الأزواج والأولاد لكن لا على العموم بل إلى المتصفين بالعداوة منهم وإنما جاز جمع الضمير على الوجه الأول لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة ثم أرشدهم الله إلى التجاوز فقال : { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا } أي تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها وتتركوا التثريب عليها وتستروها { فإن الله غفور رحيم } بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم وقيل كان الرجل الذي ثبطه أزواجه وأولاده عن الهجرة إذا رأى الناس قد سبقوه إليها وفقهوا في الدين هم أن يعاقب أزواجه وأولاده فأنزل الله { وإن تعفوا } الآية والآية تعم وإن كان السبب خاصا كما عرفناك غير مرة قال مجاهد : والله ما عاودهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوهم إياه
أن (5/334)
ثم أخبر الله سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال : 15 - { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي بلاء واختبار ومحنة يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله فلا تطيعوهم في معصية الله { والله عنده أجر عظيم } لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله وولده (5/335)
ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة فقال : 16 - { فاتقوا الله ما استطعتم } أي ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه : { اتقوا الله حق تقاته } ومنهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد وقد أوضحنا الكلام في قوله : { اتقوا الله حق تقاته } ومعنى { واسمعوا وأطيعوا } أي اسمعوا ما تؤمرون به وأطيعوا الأوامر قال مقاتل اسمعوا : اقبلوا ما تسمعون لأنه لا فائدة في مجرد السماع { وأنفقوا خيرا لأنفسكم } أي أنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ولا تبخلوا بها وقوله : { خيرا لأنفسكم } منتصب بفعل مضمر دل عليه أنفقوا كأنه قال : ائتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم أو قدموا خيرا لها كذا قال سيبويه : وقال الكسائي والفراء : هو نعت لمصدر محذوف : أي إنفاقا خيرا وقال أبو عبيدة : هو خبر لكان المقدرة : أي يكن الإنفاق خيرا لكم وقال الكوفيون : هو منتصب على الحال وقيل هو مفعول به لأنفقوا : أي فأنفقوا خيرا والظاهر : في الآية الإنفاق مطلقا من غير تقييد بالزكاة الواجبة وقيل المراد زكاة الفريضة وقيل النافلة وقيل النفقة في الجهاد { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } أي ومن يوق شح نفسه فيفعل ما أمر به من الإنفاق ولا يمنعه ذلك منه فأولئك هم الظافرون بكل خير الفائزون بكل مطلب وقد تقدم تفسير هذه الآية (5/335)
17 - { إن تقرضوا الله قرضا حسنا } فتصرفون أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس { يضاعفه لكم } فيجعل الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقد تقدم تفسير هذه الآية واختلاف القراءة في في قراءتها في سورة البقرة وسورة الحديد { ويغفر لكم } أي يضم لكم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم { والله شكور حليم } يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة (5/335)
18 - { عالم الغيب والشهادة } أي ما غاب وما حضر لا تخفى عليه منه خافية وهو { العزيز الحكيم } أي الغالب القاهر ذو الحكمة الباهرة وقال ابن الأنباري : الحكيم هو المحكم لخلق الأشياء
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فنزلت إلى قوله : { فإن الله غفور رحيم } وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه وابن مردويه عن بريدة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق ثم صعد المنبر فقال : صدق الله { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما ] وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله استقرضت عبدي فأبى أن يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول : وادهراه وادهراه وأنا الدهر ثم تلا أبو هريرة { إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم } ] (5/335)
هي إحدى عشرة آية وقيل اثنتا عشرة
وهي مدنية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس وابن النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الطلاق بالمدينة
قوله : 1 - { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } نادى النبي صلى الله عليه و سلم أولا تشريفا له ثم خاطبه مع أمته أو الخطاب له خاصة والجمع للتعظيم وأمته أسوته في ذلك والمعنى : إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه { فطلقوهن لعدتهن } أي مستقبلات لعدتهن أو في قبل عدتهن أو لقبل عدتهن وقال الجرجاني : إن اللام في لعدتهن بمعنى في : أي في عدتهن وقال أبو حيان : هو على حذف مضاف : أي لاستقبال عدتهن واللام للتوقيت نحو لقيته لليلة بقيت من شهر كذا والمراد أن يطلقوهن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن فإذا طلقوهن هكذا فقد طلقوهن لعدتهن وسيأتي بيان هذا من السنة في آخر البحث إن شاء الله { وأحصوا العدة } أي احفظوها واحفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق حتى تتم العدة : وهي ثلاثة قروء والخطاب للأزواج وقيل للزوجات وقيل للمسلمين على العموم والأول أولى لأن الضمائر كلها لهم { واتقوا الله ربكم } فلا تعصوه فيما أمركم ولا تضاروهن { لا تخرجوهن من بيوتهن } أي التي كنا فيها عند الطلاق ما دمن في العدة وأضاف البيوت إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي وبيان كمال استحقاقهن للسكنى في مدة العدة وثله قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } وقوله : { وقرن في بيوتكن } ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق وهن فيها نهى الزوجات عن الخروج أيضا فقال : { ولا يخرجن } أي لا يخرجن من تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري كما سيأتي بيان ذلك وقيل المراد لا يخرجن من أنفسهن إلا إذا أذن لهن الأزواج فلا بأس والأول أولى { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } هذا الاستثناء هو من الجملة الأولى : أي لا تخرجوهن من بيوتهن لا من الجملة الثانية قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا الزنا وذلك أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها وقال الشافعي وغيره : هي البذاء في اللسان والاستطالة بها على من هو ساكن معها في ذلك البيت ويؤيد هذا ما قال عكرمة : إن في مصحف أبي إلا أن يفحشن عليكم وقيل المعنى : إلا أن يخرجن تعديا فإن خروجهن على هذا الوجه فاحشة وهو بعيد والإشارة بقوله : { وتلك } إلى ما ذكر من الأحكام وهو مبتدأ وخبره { حدود الله } والمعنى : أن هذه الأحكام التي بينها لعباده هي حدوده التي حدها لهم لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها { ومن يتعد حدود الله } أي يتجاوزها إلى غيرها أو يخل بشيء منها { فقد ظلم نفسه } بإيرادها مورد الهلاك وأوقعها في مواقع الضرر بعقوبة الله له على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه وجملة { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها وتعليله قال القرطبي : قال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة والمعنى : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد إلى المراجعة سبيلا وقال مقاتل بعد ذلك : أي بعد طلقة أو طلقتين أمرا بالمراجعة قال الواحدي : الأمر الذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين قال الزجاج : وإذا طلقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى لقوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } (5/336)
2 - { فإذا بلغن أجلهن } أي قاربن انقضاء أجل العدة وشارفن آخرها { فأمسكوهن بمعروف } أي راجعوهن بحسن معاشرة ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن { أو فارقوهن بمعروف } أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيلمكن نفوسهن مع إيفائهن بما هو لهن عليكم من الحقوق وترك المضارة لهن { وأشهدوا ذوي عدل منكم } على الرجعة وقيل على الطلاق وقيل عليها قطعا للتنازع وحسما لمادة الخصومة والأمر للندب كما في قوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقيل إنه للوجوب وإليه ذهب الشافعي قال : الإشهاد واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة وإليه ذهب أحمد بن حنبل وفي قول للشافعي : إن الرجعة لا تفتقلا إلى الإشهاد كسائر الحقوق وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد { وأقيموا الشهادة لله } هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به تقربا إلى االه وقد نقدم تفسير هذا في سورة البقرة وقيل الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة : أي اشهود عند الرجعة فيكون قوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أمرا بنفس الإشهاد ويكون قوله : { وأقيموا الشهادة } أمرا بأن تكون خالصة لله والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدم من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة لله وهو مبتدأو خبره { يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } وخص المؤمن بالله واليوم الآخر لأنه المنتفع بذلك دون غيره { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } أي من يتق عذاب الله بامتثال أوامر واجتناب نواهيه والوقوف على حدوده التي حدها لعباده وعدم مجاوزتها يجعل له مخرجا مما وقع فيه من الشدائد والمحن (5/338)
3 - { ويرزقه من حيث لا يحتسب } أي من وجه لا يخطر بباله ولا يكون في حسابه قال الشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة : أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة وأنه يكون كأحد الخطاب بعد العدة وقال الكلبي : ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجا من النار إلى الجنة وقال الحسن : مخرجا مما نهى الله عنه وقال أبو العالية : مخرجا من كل شيء ضاق على الناس وقال الحسين بن الفضل : ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجا من العقوبة ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب : أي يبارك له فيما أتاه وقال سهل بن عبد الله : ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجا من عقوبة أهل البدع ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب وقيل غير ذلك وظاهر الآية العموم ولا وجه للتخصيص بنوع خاص ويدخل ما فيه السياق دخولا أوليا { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي ومن وثق بالله فيما نابه كفاه ما أهمه { إن الله بالغ أمره } قرأ الجمهور { بالغ أمره } بتنوين بالغ ونصب أمره وقرأ حفص بالإضافة وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند وأبو عمرو في رواية عنه بتنوين بالغ ورفع أمره على أنه فاعل بالغ أو على أن أمره مبتدأ مؤخر وبالغ خير مقدم قال الفراء في توجيه هذه القراءة : أي أمره بالغ والمعنى على القراءة الأولى والثانية : أن الله سبحانه بالغ ما يريده من الأمر لا يفوته شيء ولا يعجزه مطلوب وعلى القراءة الثانية : أن الله نافذ أمره لا يرده شيء وقرأ المفضل بالغا بالنصب على الحال ويكون خبر إن قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدرا } أي تقديرا وتوقيتا أو مقدارا فقد جعل سبحانه للشدة أجلا تنتهي إليه وللرخاء أجلا ينتهي إليه وقال السدي : هو قدر الحيض والعدة (5/339)
4 - { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } وهن الكبار الاتي قد انقطع حيضهن وأيسن منه { إن ارتبتم } أي شككتم وجهلتم كيف عدتهن { فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض أي فعدتهن ثلاثة أشهر وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } أي انتهاء عدتهن وضع الحمل وظاهر الآية أن عدة الحوامل بالوضع سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة مستوفى وحققنا البحث في هذه الآية وفي الآية الأخرى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وقيل معنى { إن ارتبتم } إن تيقنتم ورجح ابن جرير أنه بمعنى الشك وهو الظاهر قال الزجاج : إن ارتبتم في حيضها وقد نقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها وقال مجاهد : إن ارتبتم : يعني لم تعلموا عدة الآيسة والتي لم تحض فالعدة هذه وقيل المعنى : إن ارتبتم في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض أم لا بل استحاضة فالعدة ثلاثة أشهر { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } أي من يتقه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة وقال الضحاك : من يتق الله فليطلق للسنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة وقال مقاتل : من يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة (5/339)
والإشارة بقوله : 5 - { ذلك } إلى ما ذكر من الأحكام : أي ذلك المذكور من الأحكام { أمر الله أنزله إليكم } أي حكمه الذي حكم به بين عباده وشرعه الذي شرعه لهم ومعنى { أنزله إليكم } أنزله في كتابه على رسوله وبينه لكم وفصل أحكامه وأوضح حلاله وحرامه { ومن يتق الله } بترك ما لا يرضاه { يكفر عنه سيئاته } التي اقترفها لأن التقوى من أسباب المغفرة للذنوب { ويعظم له أجرا } أي يعطه من الأجر في الآخرة أجرا عظيما وهو الجنة
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } فقيل له راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلا وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال : [ طلق عبد يزيد وأبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة من مزينة فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ما يغني عني إلا ما تغني عني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها فأخذت رسول الله صلى الله عليه و سلم حمية عند ذلك فدعارسول الله صلى الله عليه و سلم ركانة وإخوته ثم قال لجلسائه : أترون كذا من كذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعبد يزيد : طلقها ففعل فقال لأبي ركانة ارتجعها فقال : يا رسول الله إني طلقتها قال : قد علمت ذلك فارتجعها فنزلت : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } ] قال الذهبي : إسناده واه والخبر خطأ فإن عبد يزيد لم يدرك الإسلام وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما [ عن ابن عمرأنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى
تطهر ثم تحيض وتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ] وقرأ النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ] وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ فطلقوهن في قبل عدتهن ] وأخرج ابن الأنباري عن ابن عمر أنه قرأ [ فطلقوهن لقبل عدتهن ] وأخرج ابن الأنباري وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد أنه قرأ كذلك وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وبعد بن حميد وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ كذلك وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال : من أراد أن يطلق للسنة كما أمره الله فليطلقها طاهرا في غير جماع وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فطلقوهن لعدتهن } قال : طاهرا من غير جماع وفي الباب أحاديث وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود { وأحصوا العدة } قال : الطلاق طاهرا في غير جماع وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله : { ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال : خروجها قبل انقضاء العدة من بيتها هي الفاحشة المبينة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال : الزنا وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال : الفاحشة المبينة أن تبذو المرأة على أهل الرجل فإذا بذت عليهم بلسانها فقد حل لهم إخراجها وأخرج ابن أبي حاتم عن فاطمة بنت قيس في قوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قالت : هي الرجعة وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين أن رجلا طلق ولم يشهد قال : بئس ما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة [ فليشهد ] على طلاقه وعلى مراجعته ويستغفر الله وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } قال : مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله هو الذي يعطيه وهو يمنعه وهو يبتليه وهو يعافيه وهو يدفع عنه وفي قوله : { ويرزقه من حيث لا يحتسب } قال : من حيث
لا يدري وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } قال : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة وأخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر قال : [ نزلت هذه الآية { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } في رجل من أشجع كان فقيرا خفيف ذات اليد كثير العيال فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اتق الله واصبر فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم كان العدو أصابوه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عنها وأخبره خبرها فقال : كلها فنزلت { ومن يتق الله } الآية ] وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : [ جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني ؟ قال : آمرك وإيها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة : نعم ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه فنزلت : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } ] الآية وفي الباب روايات تشهد لهذا وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت : يكفيه هم الدنيا وغمها وأخرج أحمد
وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي عن أبي ذر قال : [ جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يتلو هذه الآية { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } فجعل يرددها حتى نعست ثم قال : يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم ] وفي الباب أحاديث وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } قال : ليس المتوكل الذي يقول تقضى حاجتي وليس كل من يتوكل على الله كفاه ما أهمه ودفع عنه ما يكره وقضى حاجته ولكن الله جعل فضل من توكل على من لم يتوكل أن يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا وفي قوله { إن الله بالغ أمره } قال : يقول قاضي أمره على من توكل وعلى من لم يتوكل ولكن المتوكل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا وفي قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدرا } قال : يعني أجلا ومنتهى ينتهي إليه وأخرج ابن المبارك والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وترح بطانا ] وأخرج إسحاق بن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكر في القرآن : الصغار والكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وذوات الحمل فأنزل الله : { واللائي يئسن من المحيض } الآية وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبو يعلى والضياء في المختارة وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : [ قلت للنبي صلى الله عليه و سلم { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } أهي المطلقة ثلاثا أو المتوفى عنها ؟ قال : هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها ] وأخرج نحوه عنه مرفوعا ابن جرير وابن ابي حاتم وابن مردويه والدارقطني من وجه آخر وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن مسعود أنه بلغه أن عليا قال : تعتد آخر الأجلين فقال : من شاء لاعنته إن الآية التي في سورة القصرى نزلت بعد سورة البقرة { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } بكذا وكذا أشهرا وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها وروي نحو هذا عنه من طرق وبعضها في صحيح البخاري وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة : أن سبيعة الأسلمية توفى عنها زوجها وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي الباب أحاديث (5/340)
قوله : 6 - { أسكنوهن من حيث سكنتم } هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان ما يجب للنساء من السكنى ومن للتبعيض : أي بعض مكان سكناكم وقيل زائدة { من وجدكم } أي من سعتكم وطاقتكم والوجد القدرة قال الفراء : يقول على ما يجد فإن كان موسعا عليه وسع عليها في المسكن والنفقة وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك قال قتادة : إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه
وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثا هل لها سكنى ونفقة أم لا ؟ فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة وذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور أنه لا نفقة لها ولا سكنى وهذا هو الحق وقد قررته في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن } نهى سبحانه عن مضارتهن بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة وقال مجاهد : في المسكن وقال مقاتل : في النفقة وقال أبو الضحى : هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } أي إلى غاية هي وضعهن للحمل ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : لا ينفق عليها إلا من نصيبها وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة { فإن أرضعن لكم } أولادكم بعد ذلك { فآتوهن أجورهن } أي أجور إرضاعهن والمعنى : أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهن منهن فلهن أجورهن على ذلك { وأتمروا بينكم بمعروف } هو خطاب للأزواج والزوجات : أي تشاوروا بينكم بما هو معروف غير منكر وليقبل بعضكم من بعض من المعروف والجميل وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضا بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم قال مقاتل : المعنى ليتراض الأب والأمر على أجر مسمى قيل والمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر والمعروف الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر { وإن تعاسرتم } أي في أجر الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر { فسترضع له أخرى } أي يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر قال الضحاك : إن أبت الأمر أن ترضع استأجر لولده أخرى فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر (5/340)
7 - { لينفق ذو سعة من سعته } فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم { ومن قدر عليه رزقه } أي كان رزقه بمقدار القوت أو مضيق ليس بموسع { فلينفق مما آتاه الله } أي مما أعطاه من الرزق ليس عليه غير ذلك { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } أي ما أعطاها من الرزق فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق { سيجعل الله بعد عسر يسرا } أي بعد ضيق وشدة سعة وغنى
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { من وجدكم } قال : من سعتكم { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن } قال في المسكن وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { وإن كن أولات حمل } الآية قال : فهذه في المرأة يطلقها زوجها وهي حامل فأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع وإن أرضعت حتى تفطم فإن أبان طلاقها وليس بها حمل فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ولا نفقة لها وأخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال : سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام فبعث إليه بألف دينار وقال للرسول : انظر ماذا يصنع بها إذا أخذها ؟ فما لبث أن لبس ألين الثياب وأكل أطيب الطعام فجاء الرسول فأخبره فقال : رحمه الله تأول هذه الآية { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } (5/344)
لما ذكر سبحانه ما تقدم من الأحكام حذر من مخالفتها وذكر عتو قوم خالفوا أوامره فحل بهم عذابه فقال : 8 - { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } يعني عصت والمراد أهلها والمعنى : وكم من أهل قرية عصوا أمر الله ورسله أو أعرضوا عن أمر الله ورسله على تضمين عتت معنى أعرضت وقد قدمنا الكلام في كأين في سورة آل عمران وغيرها { فحاسبناها حسابا شديدا } أي شددنا على أهلها في الحساب بما عملوا قال مقاتل : حاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب وهو معنى قوله : { وعذبناها عذابا نكرا } أي عذبنا أهلها عذابا عظيما منكرا في الآخرة وقيل في الكلام تقديم وتأخير : أي عذبنا أهلها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وحاسبناهم في الآخرة حسابا شديدا والنكر : المنكر (5/345)
9 - { فذاقت وبال أمرها } أي عاقبة كفرها { وكان عاقبة أمرها خسرا } أي هلاكا في الدنيا وعذابا في الآخرة (5/345)
10 - { أعد الله لهم عذابا شديدا } في الآخرة وهو عذاب النار والتكرير للتأكيد { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي يا أولي العقول الراجحة وقوله : { الذين آمنوا } في محل نصب بتقدير : أعني بيانا للمنادي بقوله : { يا أولي الألباب } أو عطف بيان له أو نعت { قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا } قال الزجاج : إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل : أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل إليكم رسولا وقال أبو علي الفارسي : إن رسولا منصوب بالمصدر وهو ذكرا لأن المصدر المنون يعمل والمعنى : أنزل إليكم ذكر الرسول وقيل إن رسولا بدل من ذكرا وكأنه جعل الرسول نفس الذكر مبالغة وقيل إنه بدل منه على حذف مضاف من الأول تقديره : أنزل ذا ذكر رسولا أو صاحب ذكر رسولا وقيل إن رسولا نعت على حذف مضاف : أي ذكرا ذا رسول فذا رسول نعت للذكر وقيل إن رسولا منتصب على الإغراء كأنه قال : الزموا رسولا وقيل أن الذكر هاهنا بمعنى الشرف كقوله : { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم } وقوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } (5/345)
ثم بين هذا الشرف فقال : 11 - { رسولا } وقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه و سلم وقال الكلبي : هو جبريل والمراد بالذكر القرآن ويختلف المعنى باختلاف وجوه الإعراب السابقة كما لا يخفى ثم نعت سبحانه الرسول المذكور بقوله : { يتلو عليكم آيات الله مبينات } أي حال كونها مبينات قرأ الجمهور { مبينات } على صيغة اسم الفاعل : أي الآيات تبين للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام ورجح القراءة الأولى أبو حاتم وأبو عبيد لقوله : قد بينا لكم الآيات { ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } اللام متعلقة بيتلو : أي ليخرج الرسول الذي يتلو الآيات الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية ويجوز أن تتعلق اللام بأنزل فيكون المخرج هو الله سبحانه { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا } أي يجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نها عنه { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } قرأ الجمهور { يدخله } بالتحتية وقرأ نافع وابن عامر بالنون : وجمع الضمير في { خالدين فيها أبدا } باعتبار معنى من ووحده يدخله باعتبار لفظها وجملة { قد أحسن الله له رزقا } في محل نصب على الحال من الضصمير في خالدين على التداخل أو من مفعول يدخله على الترادف ومعنى { قد أحسن الله له رزقا } أي وسع له رزقه في الجنة (5/346)
12 - { الله الذي خلق سبع سماوات } الاسم الشريف مبتدأ وخبره الموصول مع صلته { ومن الأرض مثلهن } أي وخلق من الأرض مثلهن يعني سبعا
واختلف في كيفية طبقات الأرض قال القطربي في تفسيره : واختلف فيهن على قولين : أحدهما وهو قول الجمهور أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كل أرض سكان من خلق الله وقال الضحاك : إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما وقد مضى ذلك مبينا في البقرة قال : وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين ] إلى آخر كلامه وسيأتي في آخر البحث ما يقوي قول الجمهور قرأ الجمهور { مثلهن } بالنصب عطفا على { سبع سماوات } أو على تقدير فعل : أي وخلق من الأرض مثلهن وقرأ عاصم في رواية عنه بالرفع على الابتداء والجار والمجرور قبله خبره { يتنزل الأمر بينهن } الجملة مستأنفة ويجوز أن تكون صفة لما قبلها والأمر الوحي قال مجاهد : يتنزل الأمر من السموات السبع إلى السبع الأرضين وقال الحسن : بين كل سماء وبين الأرض وقال قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضائه من قضائه وقيل بينهن إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها وقيل هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال قال ابن كيسان : وهذا هو مجال اللغة واتساعها كما يقال للموت : أمر الله واللريح والسحاب ونحوها قرأ الجمهور { يتنزل الأمر } من التنزل ورفع الأمر على الفاعلية وقرأ أبو عمرو في رواية عنه ينزل من الإنزال ونصب الأمر على المفعولية والفاعل الله سبحانه واللام في { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير } متعلق بخلق أو بيتنزل أو بمقدر : أي فعل ذلك لتعلموا كمال قدرته وإحاطته بالأشياء وهو معنى { وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان وانتصاب علما على المصدرية لأن أحاط بمعنى علم أو هو سفة لمصدر محذوف : أي أحاط إحاطة علما ويجوز أن يكون تمييزا
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فحاسبناها حسابا شديدا } يقول : لم ترحم { وعذبناها عذابا نكرا } يقول : عظيما منكرا وأخرج ابن مردويه عنه { قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا } قال : محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال له رجل : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } إلى آخر السورة فقال ابن عباس : ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر ؟ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الضحى عن ابن عباس في قوله : { ومن الأرض مثلهن } قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى قال البيهقي : هذا إسناد صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عمرو وقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد ملك والثانية مسجن الريح فلما أراد الله أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا يهلك عادا فقال : يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور ؟ فقال له الجبار : إذن تكفأ الأرض ومن عليها ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه : { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } والثالثة فيها حجرة جهنم والرابعة فيها كبريت جهنم فقالوا : يا رسول الله للنار كبريت ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده إن فيها لأودية من كبريت لو أرسل فيها الجبال الرواسي لماعت ] إلى آخر الحديث قال الذهبي متعقبا للحاكم : هو حديث منكر وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس قال : سيد السموات السماء التي فيها العرش وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها (5/346)
سورة التحريم
هي اثنا عشرة آية
وهي مدنية قال القرطبي : في قول الجميع وتسمى سورة النبي وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال نزلت سورة التحريم بالمدينة ولفظ ابن مردويه سورة المحرم وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال : أنزلت بالمدينة سورة النساء { يا أيها النبي لم تحرم }
قوله : 1 - { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } اختلف في سبب نزول الآية على أقوال : الأول قول أكثر المفسرين قال الواحدي : قال المفسرون : كان النبي صلى الله عليه و سلم في بيت حفصة فزارت أباها فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى الله عليه و سلم فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها : لا تخبري عائشة ولك علي أن لا أقربها أبدا فأخبرت حفصة عائشة وكانت متصافيتين فغضبت عائشة ومل تزل بالنبي صلى الله عليه و سلم حتى حلف أن لا يقرب مارية فأنزل الله هذه السورة قال القرطبي : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة وذكر القصة وقيل السبب أنه كان صلى الله عليه و سلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة أن تقولا له إذا دخل عليهما إنا نجد منك ريح مغافير وقيل السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و سلم وسيأتي دليل هذه الأقوال آخر البحث إن شاء الله وستعرف كيفية الجمع بينها وجملة { تبتغي مرضاة أزواجك } مستأنفة أو مفسرة لقوله تحرم أو في محل نصب على الحال من فاعل تحرم : أي مبتغيا به مرضاة أزواجك ومرضاة اسم مصدر وهو الرضى وأصله مرضوة وهو مضاف إلى المفعول : أي أن ترضي أزواجك أو إلى الفاعل : أي أن يرضين هن { والله غفور رحيم } أي بليغ المغفرة والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك قيل وكان ذلك ذنبا من الصغائر فلذا عاتبه الله عليه وقيل إنها معاتبة على ترك الأولى (5/348)
2 - { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أي شرع لكم تحليل أيمانكم وبين لكم ذلك وتحلة أصلها تحللة فأدغمت وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية فكأن اليمين عقد والكفارة حل لأنها تحل للحالف ما حرمه على نفسه قال مقاتل : المعنى قد بين الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة أمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم أن يكفر يمينه ويراجع وليدته فأعتق رقبة قال الزجاج : وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله
قلت : وهذا هو الحق أن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره ومعاتبته لنبيه صلى الله عليه و سلم في هذه السورة أبلغ دليل ذلك والبحث طويل والمذاهب فيه كثيرة والمقالات فيه طويلة وقد حققناه في مؤلفاتنا بما يشفي
واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين يوجب الكفارة أم لا ؟ وفي ذلك خلاف وليس في الآية ما يدل على أنه يمين لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحله له ثم قال : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسير إلى أنها هي سبب نزول الآية أنه حرم أولا ثم حلف ثانيا كما قدمنا { والله مولاكم } أي وليكم وناصركم والمتولي لأموركم { وهو العليم } بما فيه صلاحكم وفلاحكم { الحكيم } في أفعاله وأقواله (5/349)
3 - { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } قال أكثر المفسرين : هي حفصة كما سبق والحديث هو تحريم مارية أو العسل أو تحريم التي وهبت نفسها له والعامل في الظرف فعل مقدر : أي واذكر إذا أسر وقال الكلبي : أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خيلفتي على أمتي من بعدي { فلما نبأت به } أي أخبرت به غيرها { وأظهره الله عليه } أي أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها { عرف بعضه } أي عرف حفصة بعض ما أخبرت به قرأ الجمهور { عرف } مشددا من التعريف وقرأ علي وطلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة والكسائي بالتخفيف واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لقوله : { وأعرض عن بعض } أي لم يعرفها إياه ولو كان مخففا لقال في ضده : وأنكر بعضا { وأعرض عن بعض } أي وأعرض عن تعريف بعض ذلك كراهة أن ينتشر في الناس وقيل الذي أعرض عنه هو حديث مارية وللمفسرين هاهنا خبط وخلط وكل جماعة منهم ذهبوا إلى تفسير التعريف والإعراض بما يطابق بعض ما ورد في سبب النزول وسنوضح لك ذلك إن شاء الله { فلما نبأها به } أي أخبرها بما أفشت من الحديث { قالت من أنبأك هذا } أي من أخبرك به { قال نبأني العليم الخبير } أي أخبرني الذي لا تخفى عليه خافية (5/351)
4 - { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } الخطاب لعائشة وحفصة : أي إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ومعنى { صغت } عدلت ومالت عن الحق وهو أنها أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو إفشاء الحديث وقيل المعنى : إن تتوبا إلى الله فقد مالت قلوبكما إلى التوبة وقال قلوبكما ولم يقل قلباكما لأن العرب تستكره الجمع بين تثنيتين في لفظ واحد { وإن تظاهرا عليه } أي تتظاهرا قرأ الجمهور تظاهرا بحذف إحدى التاءين تخفيفا وقرأ عكرمة تتظاهرا على الأصل وقرأ الحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في رواية عنهما تظهرا بتشديد الظاء والهاء بدون ألف والمراد بالتظاهر التعاضد والتعاون والمعنى : وإن تعاضدا وتعاونا في الغيرة عليه منكما وإفشاء سره { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } أي فإن الله يتولى نصره وكذلك جبريل ومن صلح من عباده المؤمنين فلن يعدم ناصرا ينصره { والملائكة بعد ذلك } أي بعد نصر الله له ونصر جبريل وصالح المؤمنين { ظهير } أي أعوان يظاهرونه والملائكة مبتدأ وخبره ظهير قال أبو علي الفارسي : قد جاء فعيل للكثرة كقوله : { ولا يسأل حميم حميما } قال الواحدي : وهذا من الواحد الذي يؤدى عن الجمع كقوله : { وحسن أولئك رفيقا } وقد تقرر في علم النحو أن مثل جريح وصبور وظهير يوصف به الواحد والمثنى والجمع وقيل كان التظاهر بين عائشة وحفصة في التحكم على النبي صلى الله عليه و سلم في النفقة (5/351)
5 - { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } أي يعطيه بدلكن أزواجا أفضل منكن وقد علم الله سبحانه أنه لا يطلقهن ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن وقع منه الطلاق أبدله خيرا منهن تخويفا لهن وهو كقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } فإنه إخبار عن القدرة وتخويف لهم ثم نعت سبحانه الأزواج بقوله : { مسلمات مؤمنات } أي قائمات بفرائض الإسلام مصدقات بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وقال سعيد بن جبير : مسلمات أي مخلصات وقيل معناه : مسلمات لأمر الله ورسوله { قانتات } مطيعات لله والقنوات الطاعة وقيل مصليات : { تائبات } يعني من الذنوب { عابدات } لله متذللات له قال الحسن وسعيد بن جبير : كثيرات العبادة { سائحات } أي صائمات وقال زيد بن أسلم : مهاجرات وليس في أمة محمد صلى الله عليه و سلم سياحة إلا الهجرة قال ابن قتيبة والفراء وغيرهما : وسمي الصيام سياحة لأن السائح لا زاد معه وقيل المعنى : ذاهبات في طاعة الله من ساح الماء إذا ذهب وأصل السياحة الجولان في الأرض وقد مضى الكلام على السياحة في سورة براءة { ثيبات وأبكارا } وسط بينهما العاطف لتنافيهما والثيبات : جمع ثيب وهي المرأة التي قد تزوجت ثم ثابت عن زوجها فعادت كما كانت غير ذات زوج والأبكار جمع بكر وهي العذراء سميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت عليه
وقد أخرج البخاري وغيره عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها لبنا أو عسلا فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه و سلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال : لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود فنزلت : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله : { إن تتوبا إلى الله } لعائشة وحفصة { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } لقوله : بل شربت عسلا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت : إني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت : إني أجد منك ريحا فقال : أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه أبدا فأنزل الله { يا أيها النبي لم تحرم } الآية ] وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن رافع قال : سألت أم سلمة عن هذه الآية { يا أيها النبي لم تحرم } قالت : كانت عندي عكة من عسل أبيض فكان النبي صلى الله عليه و سلم يلعق منها وكان يحبه فقالت له عائشة : نحلها تجرس عرفطا فحرمها فنزلت الآية وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله هذه الآية { يا أيها النبي لم تحرم } ] وأخرج البزار الطبراني قال السيوطي : بسند صحيح عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا ؟ قال : عائشة وحفصة وكان بدو الحديث في شأن مارية القبطية أم إبراهيم أصابها النبي صلى الله عليه و سلم في بيت حفصة في يومها فوجدت حفصة فقالت : يا رسول الله لقد جئت إلي بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري على فراشي قال ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها أبدا ؟ قالت : بلى فحرمها وقال : لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله { يا أيها النبي لم تحرم } الآيات كلها فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كفر عن يمينه وأصاب مارية وأخرجه ابن سعد وابن مردويه عنه بأطول من هذا وأخرجه ابن مردويه أيضا من وجه آخر عنه بأخصر منه وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه مختصرا بلفظ قال : حرم سريته وجعل ذلك سبب النزول في جميع ما روي عنه من هذه الطرق وأخرج الهيثم بن كليب في مسنده والضياء المقدسي في المختارة من طريق نافع عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم لحفصة لا تحدثي أحدا وإن أم إبراهيم علي حرام فقالت : أتحرم ما أحل الله لك ؟ قال : فوالله لا أقربها فلم يقربها حتى أخبرت عائشة فأنزل الله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة أن سبب نزول الآية تحريم مارية كما سلف وسنده ضعيف فهذان سببان صحيحان لنزول الآية والجمع ممكن بوقوع القصتين : قصة العسل وقصة مارية وأن القرآن نزل فيهما جميعا وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه وأما ما قيل من أن السبب هو تحريم المرأة التي وهبت نفسها فلريس في ذلك إلا ما روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } في المراة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و سلم قال السيوطي : وسنده ضعيف ويرد هذا أيضا النبي صلى الله عليه و سلم لم يقبل تلك الواهبة لنفسها فكيف يصح أن يقال إنه نزل في شأنها { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } فإن من رد ما وهب له لم يصح أن يقال إنه حرمه على نفسه وأيضا لا ينطبق على هذا السبب قوله { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } إلى آخر ما حكاه الله وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن ابن عباس سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره أنهما عائشة وحفصة ثم ذكر قصة الإيلاء كما في الحديث الطويل فليس في هذا نفي لكون السبب هو ما قدمنا من قصة العسل وقصة السرية لأنه إنما أخبره بالمتظاهرتين وذكر فيه أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل وأن ذلك سبب الاعتزال لا سبب نزول { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ويؤيد هذا ما قدمنا عن ابن عباس أنه قال لعمر من المراتان اللتان تظاهرتا ؟ فأخبره بأنهما حفصة وعائشة وبين له أن السبب قصة مارية هذا ما تيسر من تلخيص سبب نزول الآية ودفع الاختلاف في شأنه فاشدد عليه يديك لتنجو به من الخبط والخلط الذي وقع للمفسرين وأخرج عبد الرزاق والبخاري وابن مردويه عن ابن عباس قال : في الحرام يكفر وقال { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وابن مردويه عنه أنه جاءه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما فقال كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا { لم تحرم ما أحل الله لك } قال : عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن عائشة قالت : لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح فأنزل الله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فأحل يمينه وأنفق عليه وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن عائشة في قوله : { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } قالت : أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي وأخرج ابن عدي وأبو نعيم في والصحابة والعشاري في فضائل الصديق وابن مردويه وابن عساكر من طرق عن علي وابن عباس قال : والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } قال لحفصة : أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا بهذا قلت : وهذا ليس فيه أنه سبب نزول قوله : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } بل فيه أن الحديث الذي أسره رسول الله صلى الله عليه و سلم هو هذا فعلى فرض أن له إسنادا يصلح للاعتبار هو معارض بما سبق من تلك الروايات الصحيحة وهي مقدمة عليه ومرجحة بالنسبة إليه وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فقد صغت قلوبكما } قال : زاغت وأثمت وأخرج ابن المنذر عنه قال : مالت وأخرج ابن عساكر من طريق الله بن بريدة عن أبيه في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : أبو بكر وعمر وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود مثله وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة من وجه آخر عنه مثله وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس مثله وأخرج الحاكم عن أبي أمامة مرفوعا مثله وأخرج ابن أبي حاتم قال السيوطي بسند ضعيف عن علي مرفوعا قال : هو علي بن أبي طالب وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : { وصالح المؤمنين } علي بن أبي طالب ] وأخرج ابن مردويه وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : [ { وصالح المؤمنين } قال : هو علي بن أبي طالب ] وأخرج الطبراني وابن مردويه عن بريدة في قوله : { ثيبات وأبكارا } قال : وعد الله نبيه صلى الله عليه و سلم في هذه أن يزوجه بالثيب آسية امرأة فرعون وبالبكر مريم بنت عمران (5/351)
قوله : 6 - { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم } بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه { وأهليكم } بأمرهم بطاعة الله ونهيهم عن معاصيه { نارا وقودها الناس والحجارة } أي نارا عظيمة تتوقد بالناس وبالحجارة كمنا يتوقد غيرها بالحطب وقد تقدم بيان هذا في سورة البقرة قال مقاتل بن سليمان : المعنى قوا أنفسكم وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة وقال مقاتل ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم قال ابن جرير : فعلينا أن نعلم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب ومن هذا قوله : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } وقوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } { عليها ملائكة غلاظ شداد } أي على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها غلاظ على أهل النار شداد عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم لأن الله سبحانه خلقهم من غضبه وحبب إليهم تعذيب خلقه وقيل المراد غلاظ القلوب شداد الأبدان وقيل غلاظ الأقوال شداد الأفعال وقيل الغلاظ ضخام الأجسام والشداد الأقوياء { لا يعصون الله ما أمرهم } أي لا [ يخالفونه ] في أمره وما في { ما أمرهم } يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف : أي لا يعصون الله الذي أمرهم به ويجوز أن تكون مصدرية : أي لا يعصون الله أمره على أن يكون ما أمرهم بدل اشتمال من الاسم الشريف أو على تقدير نزع الخافض : أي لا يعصون الله في أمره { ويفعلون ما يؤمرون } أي يؤدونه في وقته من غير تارخ لا يؤخرونه عنه ولا يقدمونه (5/355)
7 - { يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم } أي يقال لهم هذا القول عند إدخالهم النار [ تأييسا ] لهم وقطعا لأطماعهم { إنما تجزون ما كنتم تعملون } من الأعمال في الدنيا ومثل هذا قوله : { فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون } (5/355)
8 - { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } أي تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب عنه وصفت بذلك على الإسناد المجازي وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب وترك المعاودة له
والتوبة فرض على الأعيان قال قتادة : التوبة النصوح الصادقة وقيل الخالصة وقال الحسن : التوبة النصوح : أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره وقال الكلبي : التوبة النصوح الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإقلاع بالبدن والاطمئنان على أن لا يعود وقال سعيد بن جبير : هي التوبة المقبولة قرأ الجمهور { نصوحا } بفتح النون على الوصف للتوبة : أي توبة بالغة في النصح وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بضمها : أي توبة نصح لأنفسكم ويجوز أن يكون جمع ناصح وأن يكون مصدرا : يقال نصح نصاحة ونصوحا قال المبرد : أراد توبة ذات نصح { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } بسبب تلك التوبة وعسى وإن كان أصلها للإطماع فهي من الله واجبة لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ويدخلكم معطوف على يكفر منصوب بناصبه وبالنصب قرأ الجمهور وقرئ بالجزم عطفا على محل عسى كأنه قال : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم { يوم لا يخزي الله النبي } الظرف متعلق بيدخلكم : أي يدخلكم يوم لا يخزي الله النبي { والذين آمنوا معه } والموصول معطوف على النبي وقيل الموصول مبتدأ وخبره { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } والأول أولى وتكون جملة { نورهم يسعى } في محل نصب على الحال أو مستأنفة لبيان حالهم وقد تقدم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط وجملة { يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير } في محل نصب على الحال أيضا وعلى الوجه الآخر تكون خبرا آخر وهذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين كما تقدم بيانه وتفصيله
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسيعد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب في قوله : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } قال : علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهلكم بالذكر ينجيكم الله من النار وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : أدبوا أهليكم وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكب أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وابن منيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب سئل عن التوبة النصوح قال : أن يتوب الرجل من العمل السيء ثم لا يعود إليه أبدا وأخرج أحمد وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود إليه أبدا ] وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف والصحيح الموقوف كما أخرجه موقوفا عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : التوبة النصوح تكفر كل سيئة وهو في القرآن ثم قرأ هذه الآية وأخرج الحاكم والبيهقي في البعث عن بن عباس في قوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى } الآية قال : ليس أحد من الموحدين لا يعطى نورا يوم القيامة فأما المنافق فيطفأ نوره والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق فهو يقول : { ربنا أتمم لنا نورنا } (5/355)
قوله : 9 - { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } أي بالسيف والحجة وقد تقدم الكلام على هذه الآية في سورة براءة { واغلظ عليهم } أي شدد عليهم في الدعوة واستعمل الخشونة في أمرهم بالشرائع قال الحسن : أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود { ومأواهم جهنم } أي مصيرهم إليها : يعني الكفار والمنافقين { وبئس المصير } أي المرجع الذي يرجعون إليه (5/357)
10 - { ضرب الله مثلا للذين كفروا } قد تقدم غير مرة أن المثل قد يراد به إيراد حالة غريبة يعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة : أي جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفرة وأنه لا يغني أحد عن أحد { امرأة نوح وامرأة لوط } هذا هو المفعول الأول ومثلا المفعول الثاني حسبما قدمنا تحقيقه وإنما أخر ليتصل به ما هو تفسير له وإيضاح لمعناه { كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين } وهما نوح ولوط : أي كانتا في عصمة نكاحهما { فخانتاهما } أي فوقعت منهما الخيانة لهما قال عكرمة والضحاك : بالكفر وقيل كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه وقد وقع الإجماع على أنه ما زنت امرأة نبي قط وقيل كانت خيانتهما النفاق وقيل خانتاهما بالنميمة { فلم يغنيا عنهما من الله شيئا } أي فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع ولا دفعا عنهما من عذاب الله من كرامتهما على الله شيئا من الدفع { وقيل ادخلا النار مع الداخلين } أي وقيل لهما في الآخرة أو عند موتهما ادخلا النار مع الداخلين لها من أهل الكفر والمعاصي وقال يحيى بن سلام : ضرب الله مثلا للذين كفروا يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين تظاهرتا عليه وما أحسن من قال فإن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله صلى الله عليه و سلم يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا وقد عصمهما الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة (5/357)
11 - { وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون } الكلام في هذا كالكلام في المثل الذي قبله : أي جعل الله حال امرأة فرعون مثلا لحال المؤمنين ترغيبا لهم في الثبات على الطاعة والتمسك بالدين والصبر في الشدة وأن صولة الكفر لا تضرهم كما لم تضر امرأة فرعون وقد كانت تحت أكفر الكافرين وصارت بإيمانهم بالله في جنات النعيم { إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة } الظرف متعلق بضرب أو بمثلا : أي ابن لي بيتا قريبا من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين منك أو في مكان لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة { ونجني من فرعون وعمله } أي من ذاته وما يصدر عنه من أعمال الشر { ونجني من القوم الظالمين } قال الكلبي : هم أهل مصر وقال مقاتل : هم القبط قال الحسن وابن كيسان : نجاها الله أكرم نجاة ورفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب (5/358)
12 - { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها } معطوف على امرأة فرعون : أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران : أي حالها وصفتها وقيل إن الناصب لمريم فعل مقدر : أي واذكر مريم والمقصود من ذكرها أن الله سبحانه جمع لها بين كرامة الدنيا والآخرة واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين { التي أحصنت فرجها } أي عن الفواحش وقد تقدم تفسير هذا في سورة النساء قال المفسرون : المراد بالفرج هنا الجيب لقوله : { فنفخنا فيه من روحنا } وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها فحبلت بعيسى { وصدقت بكلمات ربها } يعني شرائعه التي شرعها لعباده وقيل المراد بالكلمات هنا هو قول جبريل لها { إنما أنا رسول ربك } الآية وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى قرأ الجمهور { وصدقت } بالتشديد وقرأ حمزة الأموي ويعقوب وقتادة وأبو مجلز وعاصم في رواية عنه بالتخفيف وقرأ الجمهور { بكلمات } بالجمع وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري { بكلمة } بالإفراد وقرأ الجمهور { وكتبه } بالإفراد وقرأ أهل البصرة وحفص كتبه بالجمع والمراد على قراءة الجمهور الجنس فيكون في معنى الجمع وهي الكتب المنزلة على الأنبياء { وكانت من القانتين } قال قتادة : من القوم المطيعين لربهم وقال عطاء : من المصلين كانت تصلي بين المغرب والعشاء ويجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة وقال : من القانتين ولم يقل من القانتات لتغليب الذكور على الإناث
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فخانتاهما } قال : ما زنتا أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس : إنه مجنون وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف فتلك خيانتهما وأخرج ابن المنذر عنه : قال ما بغت امرأة نبي قط وقد رواه ابن عساكر مرفوعا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها وكانت ترى بيتها في الجنة وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة : أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وأضجعها على صدرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء ف { قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة } إلى قوله : { من الظالمين } ففرج الله لها عن بيتها في الجنة فرأته وأخرج أحمد والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت { رب ابن لي عندك بيتا } ] الآية وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] وأخرج وكيع في الغرر عن ابن عباس في قوله : { ونجني من فرعون وعمله } قال : من جماعته (5/358)
وتسمى سورة تبارك والواقية والمنجية والمانعة وهي ثلاثون آية
وهي مكية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت بمكة سورة تبارك الملك وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن الضريس والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له { تبارك الذي بيده الملك } ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه والضياء في المختارة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سورة في القرآن خاصمت على صاحبها حتى أدخلته الجنة { تبارك الذي بيده الملك } ] وأخرج الترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه وابن نصر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : [ ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ] قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب من هذا الوجه وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تبارك هي المانعة من عذاب القبر ] وأخرجه أيضا النسائي وصححه والحاكم وأخرج ابن مردويه عن رافع بن خديج وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أنزلت علي سورة تبارك وهي ثلاثون آية جملة واحدة وهي المانعة في القبور ] وأخرج عبد بن حميد في مسنده والطبراني والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال بلى : قال : اقرأ { تبارك الذي بيده الملك } وعلمها أهلك وجيمع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة تجادل يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن ينجيه الله من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ]
قوله : 1 - { تبارك الذي بيده الملك } تبارك تفاعل من البركة والبركة النماء والزيادة وقيل تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين وقيل دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه وقال الحسن : تبارك تقدس وصيغة التفاعل للمبالغة واليد مجاز عن القدرة والاستيلاء والملك هو ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء ويرفع من يشاء ويضع من يشاء وقيل المراد بالملك ملك النبوة والأول أولى لأن الحمل على العموم أكثر مدحا وأبلغ ثناء ولا وجه للتخصيص { وهو على كل شيء قدير } أي بليغ القدرة لا يعجزه شيء من الأشياء يتصرف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام ورفع ووضع وإعطاء ومنع (5/360)
2 - { الذي خلق الموت والحياة } الموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته له والحياة تعلق الروح بالبدن واتصاله به وقيل هي ما يصح بوجوده الإحساس وقيل ما يوجب كون الشيء حيا وقيل المراد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدم الموت على الحياة لأن أصل الأشياء عدم الحياة والحياة عارضة لها وقيل لأن الموت أقرب إلى القهر وقال مقاتل : خلق الموت : يعني النطفة والضغة والعلقة والحياة يعني خلقه إنسانا وخلق الروح فيه وقيل خلق الموت على صورة كبش لا يمر على شيء إلا مات وخلق الحياة على صورة فرس لا تمر بشيء إلا حيي قاله مقاتل والكلبي وقد ورد في التنزيل { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } وقوله : { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } وقوله : { توفته رسلنا } وقوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وغير ذلك من الآيات { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } اللام متعلقة بخلق : أي خلق الموت والحياة ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملا فيجازيكم على ذلك وقيل المعنى : ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرا وأشد منه خوفا وقيل أيكم أسرع إلى طاعة الله وأروع عن محارم الله وقال الزجاج : اللام متعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت وقال الزجاج أيضا والفراء : إن قوله : ليبلوكم لم يقع على أي لأن فيما بين البلوى وأي إضمار فعل كما تقول : بلوتكم لأنظر أيكم أطوع ومثله قوله : { سلهم أيهم بذلك زعيم } أي سلهم ثم انظر أيهم فأيكم في الآية مبتدأ وخبره أحسن لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين { وهو العزيز } أي الغالب الذي لا يغالب { الغفور } لمن تاب وأناب (5/360)
3 - { الذي خلق سبع سماوات طباقا } الموصول يجوز أن يكون تابعا للعزيز الغفور نعتا أو بيانا أو بدلا وأن يكون منقطعا عنه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح وطباقا صفة لسبع سموات : أي بعضها فوق بعض وهو جمع طبع نحو جبل وجبال أو جمع طبقة نحو رحبة ورحاب أو مصدر طابق يقال : طابق مطابقة وطباقا ويكون على هذا الوجه الوصف بالمصدر للمبالغة أو على حذف مضاف : أي ذات طباق ويجوز أن يكون منتصبا على المصدرية بفعل محذوف أي طوبقت طباقا { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } هذه الجملة صفة ثانية لسبع سموات أو مستأنفة لتقرير ما قبلها والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له ومن مزيدة لتأكيد النفي قرأ الجمهور { من تفاوت } وقرأ ابن مسعود وأصحابه وحمزة والكسائي { تفاوت } مشددا بدون ألف وهما لغتان : كالتعاهد والتعهد والتحامل والتحمل والمعنى على القراءتين : ما ترى في خلق الرحمن من تناقص ولا تباين ولا اعوجاج ولا تخالف بل هي مستوية مستقيمة دالة على خالقها وإن اختلفت صورها وصفاتها فقد اتفقت من هذه الحيثية { فارجع البصر هل ترى من فطور } الفطور : الشقوق والصدوع والخروق : أي اردد طرفك حتى يتضح لك ذلك بالمعاينة أخبر أولا بأنه لا تفاوت في خلقه ثم أمر ثانيا بترديد البصر في ذلك لزيادة التأكيد وحصور الطمأنينة قال مجاهد : والضحاك : الفطور الشقوق جمع فطر : وهو الشق وقال قتادة : هل ترى من خلل وقال السدي : هل ترى من خروق وأصله من التفطر والانفطار وهو التشقق والانشقاق ومنه قول الشاعر :
( بنى لكم بلا عمد سماء ... وزينها فما فيها فطور )
وقول الآخر :
( شققت القلب ثم رددت فيه ... هواك فليم فالتام الفطور ) (5/362)
4 - { ثم ارجع البصر كرتين } أي رجعتين مرة بعد مرة وانتصابه على المصدر والمراد بالتثنية التكثير كما في لبيك وسعديك : أي رجعة بعد رجعة وإن كثرت ووجه الأمر بتكرير النظر على هذه الصفة أنه قد لا يرى ما يظنه من العيب في النظرة الأولى ولا في الثانية ولهذا قال أولا { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } ثم قال ثانيا { فارجع البصر } ثم قال ثالثا { ثم ارجع البصر كرتين } فيكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة وأقطع للمعذرة { ينقلب إليك البصر خاسئا } أي يرجع إليك البصر ذليلا صاغرا على أن يرى شيئا من ذلك وقيل معنى خاسئا : مبعدا مطرودا عن أن يبصر ما التمسه من العيب يقال : خسأت الكلب : أي أبعدته وطردته قرأ الجمهور { ينقلب } بالجزم جوابا للأمر وقرأ الكسائي في رواية بالرفع على الاستئناف { وهو حسير } أي كليل منقطع قال الزجاج : أي وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور وهو الإعياء يقال : حسر بصره يحسر حسورا : أي كل وانقطع ومنه قول الشاعر :
( نظرت إليها بالمحصب من منى ... فعاد إلي الطرف وهو حسير ) (5/363)
5 - { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } بين سبحانه بعد خلق السموات وخلوها من العيب والخلل أنه زينها بهذه الزينة فصارت في أحسن خلق وأكمل صورة وأبهج شكل والمجيء بالقسم لإبراز كمال العناية والمصابيح جمع مصباح وهو السراج وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج وبعض الكواكب وإن كان في غير سماء الدنيا من السموات التي فوقها فهي تتراءى كأنها كلها في سماء الدنيا لأن أجرام السموات لا تمنع من رؤية ما فوقها مما له إضاءة لكونها أجراما صقيلة شفافة { وجعلناها رجوما للشياطين } أي وجعلنا المصابيح رجوما يرجم بها الشياطين وهذه فائدة أخرى غير الفائدة الأولى وهي كونها زينة للسماء الدنيا والمعنى أنها يرجم بها الشياطين يسترقون السمع والرجوم جمع رجم بالفتح وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به كما في قولهم : الدرهم ضرب الأمير : أي مضروبه ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته ويقدر مضاف محذوف : أي ذات رجم وجمع المصدر باعتبار أنواعه وقيل إن الضمير في قوله : { وجعلناها } راجع إلى المصابيح على حذف مضاف : أي شهبها وهي نارها المقتسبة منها لا هي أنفسها لقوله : { إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب } ووجه هذا أن المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا لا تزول ولا يرجم بها كذا قال أبو علي الفارسي جوابا لمن سأله : كيف تكون المصابيح زينة وهي رجوم ؟ قال القشيري : وأمثل من قوله هذا أن نقول : هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامت يهتدي بها في البر والبحر فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيها لا يعلم وتعدى وظلم وقيل معنى الآية : وجعلناها ظنونا لشياطين الإنس وهم المنجمون { وأعتدنا لهم عذاب السعير } أي وأعتدنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب السعير : أي عذاب النار والسعير : أشد الحريق يقال سعرت النار فهي مسعورة (5/363)
6 - { وللذين كفروا بربهم } من كفار بني آدم أو من كفار الفريقين { عذاب جهنم } قرأ الجمهور برفع { عذاب } على أنه مبتدأ وخبره { للذين كفروا } وقرأ الحسن والضحاك والأعرج بنصبه عطفا على { عذاب السعير } { وبئس المصير } ما يصيرون إليه وهو جهنم (5/364)
7 - { إذا ألقوا فيها } أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار { سمعوا لها شهيقا } أي صوتا كصوت الحمير عند أول نهيقها وهو أقبح الأصوات وقوله لها في محل نصب على الحال : أي كائنا لها لأنه في الأصل صفة فلما قدمت صارت حالا وقال عطاء : الشهيق هو من الكفار عند إلقائهم في النار وجملة { وهي تفور } في محل نصب على الحال : أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل ومنه قول حسان :
( تركتم قدركم لا شيء فيه ... وقدر العير حامية تفور ) (5/364)
8 - { تكاد تميز من الغيظ } أي تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض من تغيظها عليهم قال ابن قتيبة : تكاد تنشق غيظا على الكفار قرأ الجمهور { تميز } بتاء واحدة مخففة والأصل تتميز بتاءين وقرأ طلحة بتاءين على الأصل وقرأ البزي عن ابن كثير بتشديدها بإدغام إحدى التاءين في الأخرى وقرأ الضحاك تمايز بالألف وتاء واحدة والأصل تتمايز وقرأ زيد بن علي تميز من ماز يميز والجملة في محل نصب على الحال أو في محل رفع على أنها خبر آخر لمبتدأ وجملة { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها } مستأنفة لبيان حال أهلها أو في محل نصب على الحال من فاعل تميز والفوج الجماعة من الناس : أي كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألهم خزنتهم من الملائكة سؤال توبيخ وتقريع { ألم يأتكم } في الدنيا { نذير } ينذركم هذا اليوم ويحذركم منه (5/364)
وجملة 9 - { قالوا بلى قد جاءنا نذير } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالوا بعذ هذا السؤال فقال : قالوا بلى قد جاءنا نذير فأنذرنا وخوفنا وأخبرنا بهذا اليوم { فكذبنا } ذلك النذير { وقلنا ما نزل الله من شيء } من الأشياء على ألسنتكم { إن أنتم إلا في ضلال كبير } أي في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب والمعنى أنه قال : كل فوع من لك الأفواج حاكيا لخزنة جهنم ما قاله لمن أرسل إليه : ما أنتم أيها الرسل فيم تدعون أن الله نزل عليكم آيات تنذرونا بها إلا في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب كبير لا يقادر قدره (5/365)
ثم حكى عنهم مقالة أخرى قالوها بعد تلك المقالة فقال : 10 - { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } أي لو كنا نسمع ما خاطبنا به الرسل أو نعقل شيئا من ذلك ما كنا في عداد أهل النار ومن جملة من يعذب بالسعير وهم الشياطين كما سلف قال الزجاج : لو كنا نسمع سمع من يعي أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار (5/365)
فلما اعترفوا هذا الاعتراف قال الله سبحانه : 11 - { فاعترفوا بذنبهم } الذي استحقوا به عذاب النار وهو الكفر وتكذيب الأنبياء { فسحقا لأصحاب السعير } أي فبعدا لهم من الله ومن رحمته وقال سعيد بن جبير وأبو صالح : هو واد في جهنم يقال له السحق قرأ الجمهور { فسحقا } بإسكان الحاء وقرأ الكسائي وأبو جعفر بضمها وهما لغتان مثل السحت والرعب قال الزجاج وأبو علي الفارسي : فسحقا منصوب على المصدر : أي أسحقهم الله سحقا قال أبو علي الفارسي : وكان القياس إسحاقا فجاء فجاء المصدر على الحذف واللام في { لأصحاب السعير } للبيان كما في { هيت لك }
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { سبع سماوات طباقا } قال : بعضها فوق بعض وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } قال : ما تفوت بعضه بعضا تفاوتا مفرقا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله : { من تفاوت } قال : من تشقق وفي قوله : { هل ترى من فطور } قال : شقوق وفي قوله : { خاسئا } قال : ذليلا { وهو حسير } كليل وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الفطور الوهي وأخرج ابن المنذر عنه أيضا { من فطور } قال : من تشقق أو خلل وفي قوله : { ينقلب إليك البصر } قال : يرجع إليك { خاسئا } قال : صاغرا { وهو حسير } قال : معيى ولا يرى شيئا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا خاسئا قال : ذليلا { وهو حسير } قال : عيي مرتجع وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { تكاد تميز } قال : تتفرق وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { تكاد تميز } قال : يفارق بعضها بعضا وأخرج ابن جرير و ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { فسحقا } قال : بعدا (5/365)
قوله : 12 - { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنة وبالغيب حال من الغاعل أو المفعول : أي غائبين عنه أو غائبا عنهم والمعنى : أنهم يخشون عذابه ولم يروه فيؤمنون به خوفا من عذابه ويجوز أن يكون المعنى : يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس وذلك في خلواتهم أو المراد بالغيب كون العذاب غائبا عنهم لأنهم في الدنيا وهم إنما يكون يوم القيامة فتكون الباء على هذا سببية { لهم مغفرة } عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم { وأجر كبير } وهو الجنة ومثل هذه الآية قوله : { من خشي الرحمن بالغيب } (5/366)
ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال : 13 - { وأسروا قولكم أو اجهروا به } هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه والمعنى : إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فكل ذلك يعلمه الله لا تخفى عليه منه خافية وجملة { إنه عليم بذات الصدور } تعليل للاستواء المذكور وذات الصدور هي مضمرات القلوب (5/366)
والاستفهام في قوله : 14 - { ألا يعلم من خلق } للإنكار والمعنى : ألا يعلم السر ومضمرات القلوب من خلق ذلك وأوجده فالموصول عبارة عن الخالق ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق وفي يعلم ضمير يعود إلى الله : أي ألا يعلم الله المخلوق الذي هو من جملة خلقه فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه وجملة { وهو اللطيف الخبير } في محل نصب على الحال من فاعل يعلم : أي الذي لطف علمه بما في القلوب الخبير بما تسره وتضمره من الأمور لا تخفى عليه من ذلك خافية (5/360)
ثم امتن سبحانه على عباده فقال : 15 - { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } أي سهلة لينة تستقرون عليها ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها والذلول في الأصل : هو المنقاد الذي يذل لك ولا يستصعب عليك والمصدر الذل والفاء في قوله : { فامشوا في مناكبها } لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور والأمر للإباحة قال مجاهد والكلبي ومقاتل : مناكبها طرقها وأطرافها وجوانبها وقال قتادة وشهر بن حوشب : مناكبها جبالها وأصل المنكب الجانب ومنه منكب الرجل ومنه الريح النكباء لأنها تأتي من جانب دون جانب { وكلوا من رزقه } أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض { وإليه النشور } أي وغليه البعث من قبوركم لا إلى غيره وفي هذا وعيد شديد (5/367)
ثم خوف سبحانه الكفار فقال : 16 - { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } قال الواحدي قال المفسرون : يعني عقوبة من في السماء وقيل من في السماء : قدرته وسلطانه وعرشه وملائكته وقيل من في السماء من الملائكة وقيل المراد جبريل ومعنى { أن يخسف بكم الأرض } يقلعها ملتبسة بكم كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها وقوله : { أن يخسف } بدل اشتمال من الموصول : أي أأمنتم خسفه أو على حذف من : أي من أن يخسف { فإذا هي تمور } أي تضطرب وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون قرأ الجمهور ءأمنتم بهمزتين وقرأ البصريون والكوفيون بالتخفيف وقرأ ابن كثير بقلب الأولى واوا (5/367)
ثم كرر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر فقال : 17 - { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل وقيل سحاب فيها حجارة وقيل ريح فيها حجارة { فستعلمون كيف نذير } أي إنذاري إذا عانيتم العذاب ولا ينفعكم هذا العلم وقيل النذير هنا محمد صلى الله عليه و سلم قاله عطاء والضحاك والمعنى : ستعلمون رسولي وصدقه والأول أولى والكلام { أن يرسل عليكم حاصبا } كالكلام في { أن يخسف بكم الأرض } فهو إما بدل اشتمال أو بتقدير من (5/367)
18 - { ولقد كذب الذين من قبلهم } أي الذين قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقم لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسل وقوم فرعون { فكيف كان نكير } أي فكيف كان إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب الفظيع (5/368)
19 - { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات } الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر : أي أغفلوا ولم ينظروا ومعنى { صافات } أنها صافة لأجنحتها في الهواء و [ تسطها ] عند طيرانها { ويقبضن } أي يضممن أجنحتهن قال النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحه صاف وإذا ضمها قابض كأنه يقبضها وهذا معنى الطيران وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ومنه قول أبي خراش :
( يبادر جنح الليل فهو مزايل ... تحت الجناح بالتبسط والقبض )
وإنما قال : { ويقبضن } ولم يقل قابضات كما قال صافات لأن القبض يتجدد تارة فتارة وأما البسط فهو الأصل كذا قيل وقيل إن معنى { ويقبضن } قبضهن لأجنحتهن عند الوقوف من الطيران لا قبضها في حال الطيران وجملة { ما يمسكهن إلا الرحمن } في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن أو مستأنفة لبيان كمال قدرة الله سبحانه والمعنى : أنه ما يمسكهن في الهواء عند الطيران إلا الرحمن القادر على كل شيء { إنه بكل شيء بصير } لا يخفى عليه شيء كائنا ما كان (5/368)
20 - { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن } الاستفهام للتقريع والتوبيخ والمعنى أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله والجند الحزب والمنعة قرأ الجمهور أمن هذا بتشديد الميم على إدغام ميم أم في ميم من وأم بمعنى بل ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل والهمزة لأن بعدها هنا من الاستفهامية فأغنت عن ذلك التقدير ومن الاستفهامية مبتدأ واسم الإشارة خبره والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة وينصركم صفة لجند ومن دون الرحمن في محل نصب على الحال من فاعل ينصركم والمعنى : بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزا نصر الرحمن : وقرأ طلحة بن مصرف بتخفيف الأولى وتثقيل الثانية وجملة { إن الكافرون إلا في غرور } معترضة مقررة لما قبلها ناعية عليهم ما هم فيه من الضلال والمعنى : ما الكافرون إلا في غرور عظيم من جهة الشطان يغرهم به (5/368)
21 - { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } الكلام في هذا كالكلام في الذي قبله قراءة وإعرابا : أي من الذي يدر عليكم الأرزاق من المطر وغير إن أمسك الله ذلك عنكم ومنعه عليكم { بل لجوا في عتو ونفور } أي لم يتأثروا لذلك بل تمادوا في عناد واستكبار عن الحق ونفور عنه ولم يعتبروا ولا تفكروا وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه : أي إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره والعتو العناد والطغيان والنفور الشرود
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } قال : أبو بكر وعمر وعلي وأبو عبيدة بن الجراح وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : { في مناكبها } قال : جبالها وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : أطرافها وأخرج الطبراني وابن عدي والبيهقي في الشعب والحكيم الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بل لجوا في عتو ونفور } قال : في ضلال (5/368)
ضرب سبحانه مثلا للمشرك والموحد لإيضاح حالهما وبيان مآلهما فقال : 22 - { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى } والمكب والمنكب : الساقط على وجهه يقال كببته فأكب وانكب وقيل هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يمينا ولا شمالا ولا أماما فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه وقيل أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه قال قتادة : هو الكافر يكب على معاصي الله في الدنيا فيحشره الله يوم القيامة على وجهه والهمزة للاستفهام الإنكاري : أي هل هذا الذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده { أمن يمشي سويا } معتدلا ناظرا إلى ما بين يديه { على صراط مستقيم } أي على طريق مستوي لا اعوجاج به ولا انحراف فيه وخبر من محذوف لدلالة خبر من الأولى وهو أهدي عليه وقيل لا حاجة إلى ذلك لأن من الثانية معطوفة على من الأول عطف المفرد على المفرد كقولك أزيد قائم قائم أم عمرو ؟ وقيل أراد بمن يمشي مكبا على وجهه من يحشر على وجهه إلى النار ومن يمشي سويا من يحشر على قدميه إلى الجنة وهو كقول قتادة الذي ذكرناه ومثله قوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } (5/369)
23 - { قل هو الذي أنشأكم } أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يخبرهم بأن الله هو الذي أنشأهم النشأة الأولى { وجعل } لهم { السمع } ليسمعوا به { والأبصار } ليبصروا بها ووجه إفراد السمع مع جمع الأبصار أنه مصدر يطلق على القليل والكثير وقد قدمنا بيان هذا في مواضع مع زيادة في البيان { والأفئدة } القلوب التي يتفكرون بها في مخلوقات الله فذكر سبحانه هاهنا أنه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات إيضاحا للحجة وقطعا للمعذرة وذما لهم على عدم شكر نعم الله ولهذا قال : { قليلا ما تشكرون } وانتصاب قليلا على أنه نعت مصدر محذوف وما مزيدة للتأكيد : أي شكرأ قليلا أو زمانا قليلا وقيل أراد بقلة الشكر عدم وجوده منهم قال مقاتل : يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه (5/370)
24 - { قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يخبرهم أن الله هو الذي خلقهم في الأرض ونشرهم فيها وفرقهم على ظهرها وأن حشرهم للجزاء إليه لا إلى غيره (5/370)
ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون العذاب فقال : 25 - { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أي متى هذا الوعد الذي تذكرونه لنا من الحشر والقيامة والنار والعذاب إن كنتم صادقين في ذلك والخطاب منهم للنبي صلى الله عليه و سلم ولمن معه من المؤمنين وجواب الشرط محذوف والتقدير إن كنتم صادقين فأخبرونا به أو فبينوه لنا وهدا منهم استهزاء وسخرية (5/370)
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يجيب عليهم فقال : 26 - { قل إنما العلم عند الله } أي إن وقت قيام الساعة علمه عند الله لا يعلمه غيره ومثله قوله : { قل إنما علمها عند ربي } ثم أخبرهم أنه مبعوث للإنذار لا للإخبار بالغيب فقال : { وإنما أنا نذير مبين } أنذركم وأخوفكم عاقبة كفركم وأبين لكم ما أمرني الله بيانه (5/370)
ثم ذكر الله سبحانه حالهم عند معاينة العذاب فقال : 27 - { فلما رأوه زلفة } يعني رأوا العذاب قريبا وزلفة مصدر بمعنى الفاعل : أي مزدلفا أو حال من مفعول رأوا بتقدير مضاف : أي ذا زلفة وقرب أو ظرف : أي رأوه في مكان ذي زلفة قال مجاهد : أي قريبا وقال الحسن : عيانا قال أكثر المفسرين : المراد عذاب يوم القيامة وقال مجاهد : المراد عذاب بدر وقيل رأوا ما وعدوا به من الحش قريبا منهم كما يدل عليه قوله : { وإليه تحشرون } وقيل لما رأوا عملهم السيء قريبا { سيئت وجوه الذين كفروا } أي اسودت وعلتها الكآبة وغشيتها الذلة يقال ساء الشيء يسوء فهو سيىء إذا قبح قال الزجاج : المعنى تبين فيها السوء : أي ساءهم ذلك العذاب فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدل على كفرهم كقوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قرأ الجمهور بكسر السين بدون إشمام وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وابن محيصن بالإشمام { وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } أي قيل لهم توبيخا وتقريعا هذا المشاهد الحاضر من العذاب هو العذاب الذي كنتم به تدعون في الدنيا : أي تطلبونه وتستعجلون به استهزاء على أن معنى تدعون الدعاء قال الفراء : تدعون من الدعاء : أي تتمنون وتسألون وبهذا قال الأكثر من المفسرين وقال الزجاج : هذا الذي كنتم به تدعون الأباطيل والأحاديث وقيل معنى تدعون : تكذبون وهذا على قراءة الجمهور { تدعون } بالتشديد فهو إما من الدعاء كما قال الأكثر أو من الجعوى كما قال الزجاج ومن وافقه والمعنى : أنهم كانوا يدعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق ويعقوب والضحاك : { تدعون } مخففا ومعناها ظاهر قال قتادة : هو قولهم { ربنا عجل لنا قطنا } وقال الضحاك : هو قولهم { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية قال النحاس : تدعون وتدعون بمعنى واحد كما تقول قدر واقتدر وغدا واغتدى إلا أن أفعل معناه مضى شيئا بعد شيء وفعل يقع على القليل والكثير (5/370)
28 - { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي } أي أخبروني إن أهلكني الله ومن معي بالعذاب أو رحمنا فلم يعذبنا { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } أي فمن يمنعهم ويؤمنهم من العذاب والمعنى : أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله رسوله والمؤمنين معه كما كان الكفار يتمنونه أو أمهلهم وقيل المعنى : إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء فمن يجيركم مع كفركم من العذاب ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم (5/371)
29 - { قل هو الرحمن آمنا به } وحده لا نشرك به شيئا { وعليه توكلنا } لا على غيره والتوكل : تفويض الأمور إليه عز و جل : { فستعلمون من هو في ضلال مبين } منا ومنكم وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف قرأ الجمهور { ستعلمون } بالفوقية على الخطاب وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر (5/371)
ثم احتج سبحانه عليهم ببعض نعمه وخوفهم بسلب تلك النعمة عنهم فقال : 30 - { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا } أي أخبروني إن صار ماؤكم غارا في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أصلا أو صار ذاهبا في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدلاء يقال غار الماء غورا : أي نضب والغور الغائر وصف بالمصدر للمبالغة كما يقال رجل عدل وقد تقدم مثل هذا في سورة الكهف { فمن يأتيكم بماء معين } أي ظاهر تراه العيون وتناله الدلاء وقيل هو من معن الماء : أي كثر وقال قتادة والضحاك : أي جار وقد تقدم معنى المعين في سورة المؤمن وقرأ ابن عباس فمن يأتيكم بماء عذب
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { أفمن يمشي مكبا } قال : في الضلالة { أمن يمشي سويا } قال : مهتديا وأخرج الخطيب في تاريخه وابن النجار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه وليقرأ هذه الآية { هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } ] وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه وليقرأ هاتين الآيتين سبع مرات { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع } إلى { يفقهون } و { هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } فإنه يبرأ بإذن الله ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إن أصبح ماؤكم غورا } قال : داخلا في الأرض { فمن يأتيكم بماء معين } قال : الجاري وأخرج ابن المنذر عنه { إن أصبح ماؤكم غورا } قال : يرجع في الأرض : وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { بماء معين } قال : ظاهر وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا { بماء معين } قال عذب (5/372)
هي اثنتان وخمسون آية
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وروي عن ابن عباس وقتادة أن من أولها إلى قوله : { سنسمه على الخرطوم } مكي ومن بعد ذلك إلى قوله : { من الصالحين } مدني وباقيها مكي كذا قال الماوردي وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال : كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما يشاء وكان أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك ثم نون ثم المزمل ثم المدثر وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عنه قال : نزلت سورة ن بمكة وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله
قوله : 1 - { ن } قرأ أبو بكر وورش وابن عامر والكسائي وابن محيصن وابن هبيرة بإدغام النون الثانية من هجائها في الواو وقرأ الباقون بالإظهار وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعل وقرأ ابن عامر ونضر وابن إسحاق بكسرها على إضمار القسم أو لأجل التقاء الساكنين وقرأ محمد بن السميفع وهارون بضمها على البناء قال مجاهد ومقاتل والسدي : هو الحوت الذي يحمل الأرض وبه قال مرة الهمذاني وعطاء الخرساني والكلبي وقيل إن نون آخر حرف من حروف الرحمن وقال ابن زيد : هو قسم أقسم الله به وقال ابن كيسان : هو فاتحة السورة وقال عطاء وأبو العالية : هي النون من نصر وناصر قال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصره المؤمنين وقيل هو حرف من حروف الهجاء كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفتتحة بذلك وقد عرفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أول سورة البقرة والواو في قوله : { والقلم } واو القسم أسم الله بالقلم لما فيه من البيان وهو واقع على كل قلم يكتب به وقال جماعة من المفسرين : المراد به القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ أقسم الله به تعظيما له قال قتادة : القلم من نعمة الله على عباده { وما يسطرون } ما موصولة : أي والذي يسطرون والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره لأن ذكر آلة الكتابة تدل على الكاتب والمعنى : والذي يسطرون : أي يكتبون كل ما يكتب أو الحفظة على ما تقدم ويجوز أن تكون ما مصدرية : أي وسطرهم وقيل الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى العقلاء (5/372)
وجواب القسم قوله : 2 - { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } ما نافية وأنت اسمها وبمجنون خبرها قال الزجاج : أنت هو اسم ما وبمجنون خبرها وقوله : { بنعمة ربك } كلام وقع في الوسط : أي انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما يقال أنت بحمد الله عاقل قيل الباء متعلقة بمضمر هو حال كأنه قيل أنت بريء من الجنون ملتبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة وقيل الباء للقسم : أي وما أنت ونعمة ربك بمجنون وقيل النعمة هنا الرحمة والآية رد على الكفار حيث قالوا { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } (5/374)
3 - { وإن لك لأجرا } أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة وقاسيت من أنواع الشدائد { غير ممنون } أي غير مقطوع يقال مننت الحبل إذا قطعته وقال مجاهد : غير ممنون غير محسوب وقال الحسن : غير ممنون غير مكدر بالمن وقال الضحاك : أجرا بغير عمل وقيل غير مقدر وقيل غير ممنون به عليك من جهة الناس (5/374)
4 - { وإنك لعلى خلق عظيم } قيل هو الإسلام والدين حكى هذا الواحدي عن الأكثرين وقيل هو القرآن روي هذا عن الحسن والعوفي وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله قال الزجاج : المعنى إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن وقيل هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم وقيل المعنى : إنك على طبع كريم قال الماوردي : وهذا هو الظاهر وحقيقة الخلق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : كان خلقه القرآن وهذه الجملة والتي قبلها معطوفتان على جملة جواب القسم (5/374)
5 - { فستبصر ويبصرون } أي ستبصر يا محمد ويبصر الكفار إذا تبين الحق وانكشف الغطاء وذلك يوم القيامة (5/374)
6 - { بأيكم المفتون } الباء زائدة للتأكيد : أي أيكم المفتون بالجنون كذا قال الأخفش وأبو عبيدة وغيرهما ومثله قول الشاعر :
( نحن بنو جعدة أصحاب العلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج )
وقيل ليست الباء زائدة والمفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور والتقدير : بأيكم الفتون أو الفتنة ومنه قول الشاعر الراعي :
( حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا )
أي عقلا وقال الفراء : إن الباء بمعنى في : أي في أيكم المفتون أفي الفريق الذي أنت فيه أم في الفريق الآخر ؟ ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة في أيكم المفتون وقيل الكلام على حذف مضاف : أي بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه روي هذا عن الأخفش أيضا وقيل المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته ومنه قوله : { يوم هم على النار يفتنون } وقيل المفتون هو الشيطان لأنه مفتون في دينه والمعنى : بأيكم الشيطان وقال قتادة : هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر والمعنى : ستر ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون (5/375)
وجملة 7 - { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } تعليل للجملة التي قبلها فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل واختيارهم ما فيه ضرهم فيهما والمعنى : هو أعلم بمن ضل عن سبيله الموصول إلى سعادة الدارين { وهو أعلم بالمهتدين } إلى سبيله الموصول إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة فهو مجاز كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر (5/375)
8 - { فلا تطع المكذبين } نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين وهم رؤساء كفار مكة لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه الله عن طاعتهم أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفار أو المراد بالطاعة مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير (5/375)
فنهاه الله عن ذلك كما يدل عليه قوله : 9 - { ودوا لو تدهن فيدهنون } فإن الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة قال الفراء : المعنى لو تلين فيلينوا لك وكذا قال الكلبي وقال الضحاك والسدي : ودوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر وقال الربيع بن أنس : ودوا لو تكذب فيكذبون وقال قتادة : ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون مع وقال الحسن : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك وقال مجاهد : ودوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمايلونك قال ابن قتيبة : كانوا أرادوه على أن يعيد آلهتهم مدة ويعبدوا الله مدة وقوله : فيدهنون عطف على تدهن داخل في حيز لو أو هو خبر مبتدأ محذوف : أي فهم يدهنون قال سيبويه : وزعم قالون أنها في بعض المصاحف ودوا لو تدهن فيدهنوا بدون نون والنصب على جواب التمني المفهوم من ودوا والظاهر من اللغة في معنى الإدهان هو ما ذكرناه أولا (5/375)
10 - { ولا تطع كل حلاف } أي كثير الحلف بالباطل { مهين } فعيل من المهانة وهي القلة في الرأي والتمييز وقال مجاهد : هو الكذاب وقال قتادة : المكثار في الشر وكذا قال الحسن وقيل هو الفاجر العاجز وقيل هو الحقير عند الله وقيل هو الذليل وقيل هو الوضيع (5/376)
11 - { هماز مشاء بنميم } الهماز المغتاب للناس قال ابن زيد : هو الذي يهمز بأخيه وقيل الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم كذا قال أبو العالية والحسن وعطاء بن أبي رباح وقال مقاتل عكس هذا والمشاء بنميم : الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم يقال نم ينم : إذا سعى بالفساد بين الناس ومنه قول الشاعر :
( ومولى كبيت النمل لا خير عنده ... لمولاه إلا سعيه بنميم )
وقيل النميم جمع نيمية (5/376)
12 - { مناع للخير } أي بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه وقيل هو الذي يمنع أهله وعشيرته عن الإسلام قال الحسن : يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا { معتد أثيم } أي متجاوز الحد في الظلم كثير الإثم (5/376)
13 - { عتل } قال الواحدي : المفسرون يقولون هو الشديد الخلق الفاحش الخلق وقال الفراء : هو الشديد الخصومة في الباطل وقال الزجاج : هو الغليظ الجافي وقال الليث : هو الأكول المنوع يقال عتلت الرجل أعتله : إذا جذبته جذبا عنيفا ومنه قول الشاعر :
( نقرعه قرعا ولسنا نعتله )
{ بعد ذلك زنيم } أي هو بعد ما عد من معايبه زنيم والزنيم هو الدعي الملصق بالقوم وليس هو منهم مأخوذ من الزنمة المتدلية في حلق الشاة أو الماعز ومنه قول حسان :
( زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع )
وقال سعيد بن جبير : الزنيم المعروف بالشر وقيل هو من قريش كان له زنمة كزنمة الشاة وقيل هو الظلوم (5/376)
14 - { أن كان ذا مال وبنين } متعلق بقوله : لا تطع أي لا تطع من هذه مثالبه لكونه ذا مال وبنين قال الفراء والزجاج : أي لأن كان والمعنى : لا تطعه لماله وبنيه قرأ ابن عامر وأبو جعفر والمغيرة وأبو حيوة { أن كان } بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام وقرأ حمزة وأبو بكر والمفضل { أن كان } : بهمزتين مخففتين وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر وعلى قراءة الاستفهام يكون المراد به التوبيخ والتقريع حيث جعل مجازاة النعم التي خوله الله من المال والبنين أن كفر به وبرسوله وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط (5/376)
15 - { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي وقد تقدم معنى أساطير الأولين في غير موضع (5/377)
16 - { سنسمه على الخرطوم } أي سنسمه بالكي على خرطومه قال أبو عبيدة وأبو زيد والمبرد : الخرطوم الأنف قال مقاتل : سنسمه بالسواد على الأنف وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار قال الفراء : والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإنه في مذهب الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض وقال الزجاج : سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم وقال قتادة : سنلحق به شيئا لا يفارقه واختار هذا ابن قتيبة قال : والعرب تقول : قد وسمه ميسم سوء يريدون ألصق به عارا لا يفارقه فالمعنى : أن الله ألحق به عارا لا يفارقه كالوسم على الخرطوم وقيل معنى سنسمه : سنحطمه بالسيف وقال النضر بن شميل : المعنى سنحده على شر الخمر وقد يسمى الخمر بالخرطوم ومنه قول الشاعر :
( تظل يومك في لهو وفي طرب ... وأنت بالليل شراب الخراطيم )
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والخطيب في تاريخه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : إن أول شيء خلقه الله القلم فقال له اكتب فقال : يا رب وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ثم طوي الكتاب ورفع القلم وكان عرشه على الماء فارتفع بخار الماء ففتقت منه السموات ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه والأرض على ظهر النون فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت الجبال فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة ثم قرأ ابن عباس { ن والقلم وما يسطرون } : وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن مردويه عن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد ] وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال اكتب قال وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : ن الدواة وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ النون السمكة التي عليها قرار الأرضين والقلم الذي خط به ربنا عز و جل القدر خيره وشره وضره ونفعه { وما يسطرون } قال : الكرام الكاتبون ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : { وما يسطرون } قال : ما يكتبون وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { وما يسطرون } قال : وما يعلمون وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن سعد بن هشام قال : أتيت عائشة فقالت : يا أم المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : كان خلقه القرآن أما تقرأ القرآن { إنك لعلى خلق عظيم } وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والواحدي عنها قالت : [ ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك فلذلك أنزل الله { وإنك لعلى خلق عظيم } ] وأخرج
ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي الدرداء قال : [ سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ] وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه وابن مردويه عن أبي عبد الله الجدلي قال : [ قلت لعائشة : كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالت : لم يكن فاحشا ولا متفاحشا ولا صخابي في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فستبصر ويبصرون } قال : تعلم ويعلمون يوم القيامة { بأيكم المفتون } قال الشيطان كانوا يقولون إنه شيطان وإنه مجنون وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : بأيكم المجنون وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ودوا لو تدهن فيدهنون } يقول : لو ترخص لهم فيرخصون وأخرج ابن مردويه عنه أيضا { ولا تطع كل حلاف مهين } الآية قال : يعني الأسود بن عبد يغوث وأخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال : زقال مروان لما بايع الناس ليزيد : سنة أبي بكر وعمر فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : [ إنها ليست بسنة أبي بكر وعمر ولكنها سنة هرقل فقال مروان : هذا الذي أنزل فيه { والذي قال لوالديه أف لكما } الآية قال : فسمعت ذلك عائشة فقالت : إنها لم تنزل في عبد الرحمن ولكن نزل في أبيك { ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم } ] وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : [ نزل على النبي صلى الله عليه و سلم { ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم } فلم نعرف حتى نزل عليه { بعد ذلك زنيم } فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : العتل هو الدعي والزنيم هو المريب الذي يعرف بالشر وأخرج عبد بن حميد وابن عساكر عنه قال : الزنيم : هو الدعي وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه عنه أيضا قال : الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { زنيم } قال : ظلوم وقد قيل إن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق وقيل في الوليد بن المغيرة (5/377)
قوله : 17 - { إنا بلوناهم } يعني كفار مكة فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه و سلم والابتلاء الاختبار والمعنى : أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا فلما بطروا ابتليناهم بالجوع والقحط { كما بلونا أصحاب الجنة } المعروف خبرهم عندهم وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدي حق الله منها فمات وصارت إلى أولاده فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها قال الواحدي : هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظا للمساكين عند الحصاد والصرام فقالت بنوه : المال القليل والعيال كثير وال يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله في كتابه قال الكلبي : كان بينهم وبين صنعاء فرسخان [ ابتلاهم ] الله بأن حرق جنتهم وقيل هي جنة كانت بصوران وصوران على فراسخ من صنعاء وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بيسير { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } أي حلفوا ليقطعنها داخلين في وقت الصباح والصرم القطع للثمر والزرع وانتصاب مصبحين على الحال من فاعل ليصر منها والكاف في كما بلونا نعت مصدر محذوف : أي بلوناهم ابتلاء كما بلونا وما مصدرية أو بمعنى الذي وإذا ظرف لبلونا منتصب به وليصر منها جواب القسم (5/379)
18 - { ولا يستثنون } يعني ولا يقولون إن شاء الله وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم أو حال وقيل المعنى : ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إليهم قاله عكرمة (5/380)
19 - { فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون } أي طاف على تلك الجنة طائف من جهة الله سبحانه والطائف قيل هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء كذا قال مقاتل : وقيل الطائف جبريل اقتلعها وجملة { وهم نائمون } في محل نصب على الحال (5/380)
20 - { فأصبحت كالصريم } أي كالشيء الذي صرمت ثماره : أي قطعت فعيل بمعنى مفعول وقال الفراء : كالصريم كالليل المظلم ومنه قول الشاعر :
( تطاول ليلك الجون الصريم ... فما ينجاب عن صبح بهيم )
والمعنى : أنها حرقت فصارت كالليل الأسود قال : والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة وقال الأخفش أي كالصبح انصرم من الليل يعني أنها يبست وابيضت وقال المبرد : الصريم الليل والصريم النهار : أي ينصرم هذا عن هذا وذاك عن هذا وقيل سمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف وقال المؤرج : الصريم الرملة لأنها لا يثبت عليها شيء ينتفع به وقال الحسن : صرم منها الخير : أي قطع (5/380)
21 - { فتنادوا مصبحين } أي نادى بعضهم بعضا داخلين في الصباح (5/380)
قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض 22 - { أن اغدوا على حرثكم } وأن في قوله أن اغدوا هي المفسرة لأن في التنادي معنى القول أو هي المصدرية : أي بأن اغدوا والمراد اخرجوا غدوة والمراد بالحرث الثمار والزرع { إن كنتم صارمين } أي قاصدين للصرم والغدو يتعدى بإلى وعلى فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل وجواب الشرط محذوف : أي إن كنتم صارمين فاغدوا وقيل معنى صارمين ماضين في العزم من قولك سيف صارم (5/380)
23 - { فانطلقوا وهم يتخافتون } أي ذهبوا إلى جنتهم وهم يسرون الكلام بينهم لئلا يعلم أحد بهم يقال خفت يخفت : إذا سكن ولم ينبس ومنه قول دريد بن الصمة :
( وإن لم أهلك ملالا ولم أمت ... خفاتا وكلا ظنه بي عويمر )
وقيل المعنى : يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم فيقصدوهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد (5/380)
والأول أولى لقوله : 24 - { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } فإن أن هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول والمعنى : يسر بعضهم إلى بعض هذا القول وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم (5/381)
25 - { وغدوا على حرد قادرين } الحرد يكون بمعنى المنع والقصد قال قتادة ومقاتل والكلبي والحسن ومجاهد : الحرد هنا بمعنى القصد لأن القاصد إلى الشيء حارد يقال : حرد يحرد إذا قصد تقول : حردت حردك : أي قصدت قصدك ومنه قول الراجز :
( أقبل سيل جاء من عند الله ... يحرد حرد الجنة المحلة )
وقال أبو عبيدة والمبرد والقتيبي : على حرد على منع من قولهم حردت الإبل حردا : إذا قلت ألبانها والحرود من النوق هي القليلة اللبن وقال السدي ويفيان والشعبي { على حرد } على غضب ومنه قول الشاعر :
( إذا جياد الخيل جاءت تردي ... مملوءة من غضب وحرد )
وقول الآخر :
( تساقوا على حرد دماء الأساود )
ومنه قيل أسد حارد وروي عن قتادة ومجاهد أيضا أنهما قالا : على حرد : أي على حسد وقال الحسن أيضا : على حاجة وفاقة وقيل على حرد : على انفراد يقال حرد يحرد حردا أو حرودا : إذا تنحى عن قومه ونزل منفردا عنهم ولم يخالطهم وبه قال الأصمعي وغيره وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم وقال السدي : اسم جنتهم قرأ الجمهور حرد بسكون الراء وقرأ أبو العالية وابن السميفع بفتحها وانتصاب { قادرين } على الحال قال الفراء : ومعنى قادرين : قد قدروا وبنوا عليه وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم وقال الشعبي : يعني قادرين على المساكين (5/381)
26 - { فلما رأوها } أي لما رأوا جنتهم وشاهدوا ما قد حل بها من الآفة التي أذهبت ما فيها { قالوا إنا لضالون } أي قال بعضهم لبعض : قد ضللنا طريق جنتنا وليست هذه (5/381)
ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا : 27 - { بل نحن محرومون } أي حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها فأضربوا عن قولهم الأول إلى هذا القول وقيل معنى قولهم { إنا لضالون } أنهم ضلوا عن الصواب بما وقع منهم (5/381)
28 - { قال أوسطهم } أي أمثلهم وأعقلهم وخيرهم { ألم أقل لكم لولا تسبحون } أي هلا تسبحون : يعني تستثنون وسمي الاستثناء تسبيحا لأنه تعظيم لله وإقرار به وهذا يدل على أن أوسطهم كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه وقال مجاهد وأبو صالح وغيرهما : كان استثناؤهم تسبيحا قال النحاس : أصل التسبيح التنزيه لله عز و جل فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله وقيل المعنى : هلا تستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها وكان أوسطهم قد قال لهم ذلك فلما قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم الجنة على تلك الصفة (5/381)
29 - { قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين } أي تنزيها له عن أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا فإن ذلك بسبب ذنبنا الذي فعلناه وقيل معنى تسبيحهم الاستغفار : أي نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا للمساكين (5/382)
30 - { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } أي يلوم بعضهم بعضا في منعهم للمساكين وعزمهم على ذلك (5/382)
ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث 31 - { قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين } أي عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء قال ابن كيسان : أي طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل (5/382)
ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم بخير منها فقالوا : 32 - { عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها } لما اعترفوا بالخطيئة رجوا من الله عز و جل : أن يبدلهم جنة خيرا من جنتهم قيل إنهم تعاقدوا فيما بينهم وقالوا إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها قرأ الجمهور { يبدلنا } بالتخفيف وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتشديد وهما لغتان والتبديل تغيير ذات الشيء أو تغيير صفته والإبدال رفع الشيء جملة ووضع آخر مكانه كما مضى في سورة سبأ { إنا إلى ربنا راغبون } أي طالبون منه الخير راجون لعفوه راجعون إليه وعدي بإلى وهو إنما يتعدى بعن أو في لتضمينه معنى الرجوع (5/382)
33 - { كذلك العذاب } أي مثل ذلك العذاب الذي بلوناهم به وبلونا أهل مكة عذاب الدنيا والعذاب مبتدأ مؤخر وكذلك خبره { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } أي أشد وأعظم لو كان المشركون يعلمون أنه كذلك ولكنهم لا يعلمون
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كما بلونا أصحاب الجنة } قال : هم ناس من الحبشة كان لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات أبوهم فقال بنوه : أن كان أبونا لأحمق كان يطعم المساكين { أقسموا ليصرمنها مصبحين } وأن لا يطعموا مسكينا وأخرج ابن جرير { فطاف عليها طائف } قال : أمر من الله وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسي به الباب من العلم وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيئ له ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم } قد حرموا خير جنتهم بذنبهم ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كالصريم } قال : مثل الليل الأسود وأخرج ابن المنذر عنه { وهم يتخافتون } قال : الإسرار والكلام الخفي وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { على حرد قادرين } يقول ذو قدرة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { إنا لضالون } قال : أضللنا مكان جنتنا وأخرجا عنه أيضا { قال أوسطهم } قال : أعدلهم (5/382)
لما فرغ سبحانه من ذكر حال الكفار وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة ذكر حال المتقين وما أعده لهم من الخير فقال : 34 - { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } أي المتعين ما يوجب سخطه من الكفر والمعاصي عنده عز و جل في الدار الآخرة جنات النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ولا ينغصه خوف زوال (5/383)
35 - { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } الاستفهام للإنكار وكان صناديد كفار قريش يرون وفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ المسلمين فيها فلما سمعوا بذكر الآخرة وما يعطي الله المسلمين فيها قالوا : إن صح ما يزعمه محمد لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا فقال الله مكذبا لهم رادا عليهم : أفنجعل المسلمين الآية والفاء للعطف على مقدر كنظائره (5/383)
ثم وبخهم الله فقال : 36 - { ما لكم كيف تحكمون } هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم تحكمون فيها بما شئتم (5/384)
37 - { أم لكم كتاب فيه تدرسون } أي تقرأون فيه فتجدون المطيع كالعاصي ومثل هذا قوله تعالى : { أم لكم سلطان مبين * فاتوا بكتابكم } ثم قال سبحانه : { إن لكم فيه لما تخيرون } قرأ الجمهور بكسر إن على أنها معمولة لتدرسون : أي تدرسون في الكتاب (5/384)
38 - { إن لكم فيه لما تخيرون } فلما دخلت اللام كسرت الهمزة كقوله : علمت إنك لعاقل بالكسر أو على الحكاية للمدروس كما في قوله : { وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين } وقيل قد تم الكلام عند قوله : { تدرسون } ثم ابتدأ فقال : { إن لكم فيه لما تخيرون } أي ليس لكم ذلك وقرأ طلحة بن مصرف والضحاك أن لكم بفتح الهمزة على أن العامل فيه تدرسون مع زيادة لام التأكيد ومعنى { تخيرون } تختارون وتشتهون (5/384)
ثم زاد سبحانه في التوبيخ فقال : 39 - { أم لكم أيمان علينا بالغة } أي عهود مؤكدة موثقة متناهية والمعنى أم لكم أيمان على الله استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة وقوله : { إلى يوم القيامة } متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها حتى يحكمكم يومئذ وجواب القسم قوله : { إن لكم لما تحكمون } لأن معنى { أم لكم أيمان } أي أم أقسمنا لكم قال الرازي : والمعنى أم ضمنا لكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد وقيل قد تم الكلام عند قوله : { إلى يوم القيامة } ثم ابتدأ فقال : { إن لكم لما تحكمون } أي ليس الأمر كذلك قرأ الجمهور { بالغة } بالرفع على النعت لأيمان وقرأ الحسن وزيد بن علي بنصبها على الحال من أيمان لأنها قد تخصصت بالوصف أو من الضمير في لكم أو من الضمير في علينا (5/384)
40 - { سلهم أيهم بذلك زعيم } أي سل يا محمد الكفار موبخا لهم ومقرعا أيهم بذلك الحكم الخارج عن الصواب كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها وقال ابن كيسان : الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى وقال الحسن : الزعيم الرسول (5/384)
41 - { أم لهم شركاء } يشاركونهم في هذا القول يوافقونهم فيه { فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } فيما يقولون وهو أم تعجيز وجواب الشرط محذوف وقيل المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة (5/384)
42 - { يوم يكشف عن ساق } يوم ظرف لقوله فليأتوا : أي فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق ويجوز أن يكون ظرفا لفعل مقدر : أي اذكر يوم يكشف قال الواحدي : قال المفسرون في قوله : { عن ساق } عن شدة من الأمر قال ابن قتيبة : أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه فيستعار الكشف عن الساق في موضع الشدة وأنشد لدريد بن الصمة :
( كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبورا على الجلاء طلاع أنجد )
وقال : وتأويل الآية يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق قال أبو عبيدة : إذا اشتد الحرب والأمر قيل كشف الأمر عن ساقه والأصل فيه من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه فاستعير الساق والكشف عن موضع الشدة وهكذا قال غيره من أهل اللغة وقد استعملت ذلك العرب في أشعارها ومن ذلك قول الشاعر :
( أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا )
وقول الآخر :
( والخيل تعدو عند وقت الاشراق ... وقامت الحرب بنا على ساق )
وقول آخر أيضا :
( قد كشفت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا )
وقول آخر أيضا في سنة :
( قد كشفت عن ساقها حمرا ... ء تبري اللحم عن عراقها )
وقيل ساق الشيء : أصله وقوامه كساق الشجرة وساق الإنسان : أي يوم يكشف عن ساق الأمر فتظهر حقائقه وقيل يكشف عن ساق جهنم وقيل عن ساق العرش وقيل هو عبارة عن القرب وقيل يكشف الرب سبحانه عن نوره وسيأتي في آخر البحث ما هو الحق وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل قرأ الجمهور { يكشف } بالتحية مبنيا للمفعول وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن أبي عبلة تكشف بالفوقية مبنيا للفاعل : أي الشدة أو الساعة وقرئ بالفوقية مبنيا للمفعول وقرئ بالنون وقرئ بالفوقية المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر : أي دخل في الكشف { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } قال الواحدي : قال المفسرون : يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود قال الربيع بن أنس : يكشف عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له ويدعي الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا (5/384)
وانتصاب 43 - { خاشعة أبصارهم } على الحال من ضمير يدعون وأبصارهم مرتفع به على الفاعلية ونسبة الخشوع إلى الأبصار وهو الخضوع والذلة لظهور أثره فيها { ترهقهم ذلة } أي تغشاهم ذلة شديدة وحسرة وندامة { وقد كانوا يدعون إلى السجود } أي في الدنيا { وهم سالمون } أي معافون عن العلل متمكنون من الفعل قال إبراهيم التميمي : يدعون بالأذان والإقامة فيأبون وقال سعيد بن جبير : يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات وقيل يدعون بالتكليف المتوجه عليهم بالشرع فلا يجيبون وجملة { وهم سالمون } في محل نصب على الحال من ضمير يدعون (5/385)
44 - { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } أي حل بيني وبينه وكل أمره إلي فأنا أكفيكه قال الزجاج : معناه لا يشتغل به قلبك كله إلي فأنا أكفيك أمره والفاء لترتيب ما بعدها من الأمر على ما قبلها ومن منصوب بالعطف على ضمير المتكلم أو على أنه مفعول معه والمراد بهذا الحديث القرآن قاله السدي : وقيل يوم القيامة وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وجملة { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } مستأنفة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله { ذرني ومن يكذب بهذا الحديث } والضمير عائد إلى من باعتبار معناها والمعنى : سنأخذهم بالعذاب على غفلة ونسوقهم إليه درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج لأنهم يظنونه إنعاما ولا يفكرون في عاقبته وما سيلقون في نهايته قال سفيان الثوري : يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر وقال الحسن : كم من مستدرج بالإحسان إليه وكم من مفتون بالثناء عليه وكم من مغرور بالستر عليه والاستدراج ترك المعاجلة وأصله النقل من حال إلى حال ويقال استدرج فلان فلانا : أي استخرج ما عنده قليلا قليلا ويقال درجه إلى كذا واستدرجه : يعني أدناه إلى التدريج فتدرج هو (5/386)
ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين فقال : 45 - { وأملي لهم } أي أمهلهم ليزدادوا إثما وقد مضى تفسير هذا في سورة الأعراف والطور وأصل الملاوة المدة من الدهر يقال أملى الله له : أي أطال له المدة والملا مقصور : الأرض الواسعة سميت به لامتدادها { إن كيدي متين } أي قوي شديد فلا يفوتني شيء وسمى سبحانه إحسانه كيدا كما سماه استدراجا لكونه في صورة الكيد باعتبار عاقبته ووصفه بالمتانة لقوة أثره في التسبب للهلاك (5/386)
46 - { أم تسألهم أجرا } أعاد سبحانه الكلام إلى ما تقدم من قوله : { أم لهم شركاء } أي أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله { فهم من مغرم مثقلون } المغرم الغرامة : أي فهم من غرامة ذلك الأجر ومثقلون : أي يثقل عليهم حمله لشحهم ببذل المال فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب والاستفهام للتوبيخ والتقريع لهم والمعنى : أنك لم تسألهم ذلك ولم تطلبه منهم (5/386)
47 - { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } أي اللوح المحفوظ أو كل ما غاب عنهم فهم من ذلك الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ويستغنون بذلك عن الإجابة لك والامتثال لما تقوله (5/386)
48 - { فاصبر لحكم ربك } أي لقضائه الذي قد قضاه في سابق علمه قيل والحكم هنا هو إمهالهم وتأخير نصرة رسول الله صلى الله عليه و سلم عليهم وقيل هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة قيل وهذا منسوخ بآية السيف { ولا تكن كصاحب الحوت } يعني يونس عليه السلام : لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة والظرف في قوله : { إذ نادى } منصوب بمضاف محذوف : أي لا تكن حالك كحاله وقت ندائه وجملة { وهو مكظوم } في محل نصب على الحال من فاعل نادى والمكظوم المملوء غيظا وكربا قال قتادة : إن الله يعزي نبيه صلى الله عليه و سلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاب الحوت وقد تقدم بيان قصته في سورة الأنبياء ويونس والصافات وكان النداء منه بقوله : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وقيل إن المكظوم : المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس قاله المبرد وقيل هو المحبوس والأول أولى ومنه قول ذي الرمة :
( وأنت من حب مي مضمر حزنا ... عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم ) (5/387)
49 - { لولا أن تداركه نعمة من ربه } أي لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من الله وهي توفيقه للتوبة فتاب الله عليه { لنبذ بالعراء } أي لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات { وهو مذموم } أي يذم ويلام بالذنب الذي أذنبه ويطرد من الرحمة والجملة في محل نصب على الحال من ضمير نبذ قال الضحاك : النعمة هنا النبوة وقال سعيد بن جبير : عبادته التي سلفت وقال ابن زيد : هي نداؤه بقوله : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وقيل مذموم مبعد وقيل مذنب قرأ الجمهور { تداركه } على صيغة الماضي وقرأ الحسن وابن هرمز والأعمش بتشديد الدال والأصل تتداركه بتاءين مضارعا فأدغم وتكون هذه القراءة على حكاية الحال الماضية وقرأ أبي وابن مسعود وابن عباس { تداركه } بتاء التأنيث (5/387)
50 - { فاجتباه ربه } أي استخلصه واصطفاه واختاره للنبوة { فجعله من الصالحين } أي الكاملين في الصلاح وعصمه من الذنب وقيل رد إليه النبوة وشفعه في نفسه وفي قومه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون كما تقدم (5/387)
51 - { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم } إن هي المخففة من الثقيلة قرأ الجمهور { ليزلقونك } بضم الياء من أزلقه : أي أزل رجله يقال أزلقه عن موضعه إذا نحاه وقرأ نافع وأهل المدينة بفتحها من زلق عن موضعه : إذا تنحى قال الهروي : أي فيغتالونك بعيونهم فيزلقونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش ومجاهد وأبو وائل ليرهقونك أييهلكونك وقال الكلبي يزلقونك أي يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة وكذا قال السدي وسعيد بن جبير وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك وقال الحسن وابن كيسان : ليقتلونك قال الزجاج في الآية مذهب أهل اللغة والتأويل أنهم من شدة إبغاضهم وعداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك وهذا مستعمل في الكلام يقول القائل نظر إلي نظرا يكاد يصرعني ونظرا يكاد يأكلني قال ابن قتيبة : ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك كما قال الشاعر :
( يتعارضون إذا التقوا في مجلس ... نظرا يزيل مواطئ الأقدام )
{ لما سمعوا الذكر } أي وقت سماعهم للقرآن لكراهتهم لذلك أشد كراهة ولما ظرفية منصوبة بيزلقونك وقيل هي حرف وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك { ويقولون إنه لمجنون } أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن (5/387)
فرد الله عليهم بقوله : 52 - { وما هو إلا ذكر للعالمين } والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال من فاعل يقولون : أي والحال أنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه أو شرف لهم كما قال سبحانه { وإنه لذكر لك ولقومك } وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه و سلم إنه مذكر للعالمين أو شرف لهم وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ] وهذا الحديث ثابت من طرق في الصحيحين وغيرهما وله ألفاظ في بعضها طول وهو حديث مشهور معروف وأخرج ابن منده عن أبي هريرة في الآية قال : يكشف الله عز و جل عن ساقه وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن منده عن ابن مسعود في الآية قال : يكشف عن ساقه تبارك وتعالى وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وضعفه وابن عساكر عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قال : [ عن نور عظيم فيخرون له سجدا ] وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن منده والبيهقي عن إبراهيم النخعي عن ابن عباس في الآية قال : يكشف عن أمر عظيم ثم قال : قد قامت الحرب على ساق قال : وقال ابن مسعود : يكشف عن ساقه فيسجد كل مؤمن ويقسو ظهر الكافر فيصير عظما واحدا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { يوم يكشف عن ساق } قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر :
( وقامت الحرب بنا على ساق )
قال ابن عباس : هذا يوم كرب شديد روي عنه نحو هذا من طرق أخرى وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كما عرفت وذلك لا يستلزم تجسيما ولا تشبيها فليس كمثله شيء
( دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر )
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } قال : هم الكفار يدعون في الدنيا وهم آمنون فاليوم يدعون وهم خائفون وأخرج البيهقي في الشعب عنه في الآية قال : الرجل يسمع الأذان فلا يجيب الصلاة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله : { ليزلقونك بأبصارهم } قال : ينقذونك بأبصارهم (5/388)
هي إحدى وخمسون آية وقيل اثنتان وخمسون
وهي مكية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحاقة بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج الطبراني عن أبي برزة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الفجر بالحاقة ونحوها ]
قوله : 1 - { الحاقة } هي القيامة لأن المر يحق فيها وهي تحق في نفسها من غير شك قال الأزهري : يقال حاققته فحققته أحقه غالبته فغلبته أغلبه فالقيامة حاقة لأنها تحاق كل محاق في دين الله بالباطل وتخصم كل مخاصم وقال في الصحاح : حاقه أي خاصمه في صغار الأشياء ويقال ماله فيها حق ولا حقاق ولا خصومة والتحاق التخاصم والحاقة والحقة والحق ثلاث لغت بمعنى قال الواحدي : هي القيامة في قول كل المفسرين وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور وهي الصادقة الواجبة الصدق وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود قال الكسائي والمؤرج : الحاقة يوم الحق وقيل سميت بذلك لأن كل إنسان فيها حقيق بأن يجزى بعلمه وقيل مسيت بذلك لأنها أحقت لقوم النار وأحقت لقوم الجنة (5/389)
وهي مبتدأ وخبرها قوله : 2 - { ما الحاقة } على أن ما الاستفهامية مبتدأ ثان وخبره الحاقة والجملة خبر للمبتدأ الأول والمعنى : أي شيء هي في حالها أو صفاتها وقيل إن ما الاستفهامية خبر لما بعدها وهذه الجملة وإن كان لفظها لفظ الاستفهام فمعناها التعظيم والتفخيم لشأنها كما تقول : زيد ما زيد وقد قدمنا تحقيق هذا المعنى في سورة الواقعة (5/390)
ثم زاد سبحانه في تفخيم أمرها وتفظيم شأنها وتهويل حالها فقال : 3 - { وما أدراك ما الحاقة } أي أي شيء أعلمك ما هي ؟ أي كأنك لست تعلمها إذا لم تعاينها وتشاهد ما فيها من الأهوال فكأنها خارجة عن دائرة علم المخلوقين قال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شيء في القرآن وما أدراك فقد أدراه إياه وعلمه وكل شيء قال فيه وما يدريك فإنه أخبره به وما مبتدأ وخبره أدراك وما الحاقة جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بإسقاط الخافض لأن أدري يتعدى إلى المفعول الثاني بالياء كما في قوله : { ولا أدراكم به } فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني وبدون الهمزة يتعدى إلى مفعول واحد بالباء نحو دريت بكذا وإن كان بمعنى العلم تعدى إلى مفعولين وجملة وما أدراك معطوفة على جملة ما الحاقة (5/391)
4 - { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } أي بالقيامة وسميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها وقال المبرد : عنى بالقارعة القرآن الذي نزل في الدنيا على أنبيائهم وكانوا يخوفونهم بذلك فيكذبونهم وقيل القارعة مأخوذة من القرعة لأنها ترفع أقواما وتحط آخرين والأول أولى ويكون وضع القارعة موضع ضمير الحاقة للدلالة على عظيم هولها وفظاعة حالها والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقة (5/391)
5 - { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } ثمود هم قوم صالح وقد تقدم بيان هذا في غير موضع وبيان منازلهم وأين كانت والطاغية الصيحة التي جاوزت الحد وقيل بطغيانهم وكفرهم وأصل الطغيان مجاوزة الحد (5/391)
6 - { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر } عاد هم قوم هود وقد تقدم بيان هذا وذكر منازلهم وأين كانت في غير موضع والريح الصرصر هي الشديدة البرد مأخوذ من الصر وهو البرد وقيل هي الشديدة الصوت وقال مجاهد : الشديدة السموم والعاتية التي عتت عن الطاعة فكأنها عتت على خزانها فلم تطعهم ولم يقدروا على ردها لشدة هبوبها أو عتت على عاد فلم يقدروا على ردها بل أهلكتهم (5/391)
7 - { سخرها عليهم سبع ليال } هذه الجملة مستأنفة لبيان كيفية إهلاكهم ومعنى سخرها سلطها كذا قال مقاتل وقيل أرسلها وقال الزجاج : أقامها عليهم كما شاء والتسخير : استعمال الشيء بالاقتدار ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة لريح وأن تكون حالا منها لتخصيصها بالصفة أو من الضمير في عاتية { وثمانية أيام } معطوف على سبع ليال وانتصاب { حسوما } على الحال : أي ذات حسوم أو على المصدر بفعل مقدر : أي تحسمهم حسوما أو على أنه مفعول به والحسوم التتابع فإذا تتابع الشيء ولم ينقطع أوله عن آخره قيل له الحسوم قال الزجاج : الذي توجبه اللغة في معنى قوله حسوما : أي تحسمهم حسوما تفنيهم وتذهبهم قال النضر بن شميل : حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم قال الفراء : الحسوم الاتباع من حسم الداء وهو الكبي لأن صاحبه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه ومنه قول أبي دؤاد :
( يفرق بينهم زمن طويل ... تتابع فيه أعواما حسوما )
وقال المبرد : هو من قولك حسمت الشيء : إذا قطعته وفصلته عن غيره وقيل الحسم الاستئصال ويقال للسيف حسام لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته والمعنى : أنها حسمتهم : أي قطعتهم وأذهبتهم ومنه قول الشاعر :
( فأرسلت ريحا دبورا عقيما ... فدارت عليهم فكانت حسوما )
قال ابن زيد : أي حسمتهم فلم تبق منهم أحدا وروي عنه أنه قال : حسمت الأيام والليالي حتى استوفتها لأنها بدأت بطلوع الشمس من أول يوم وانقطعت بغروب الشمس من آخر يوم وقال الليث : الحسوم هي الشؤم : أي تحسم الخير عن أهلها كقوله { في أيام نحسات }
واختلف في أولها فقيل غداة الأحد وقيل غداة الجمعة وقيل غداة الأربعاء قال وهب : وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز كان فيها برد شديد وريح شديدة وكان أولها يومالأربعاء وآخرها يوم الأربعاء { فترى القوم فيها صرعى } الخطاب لكل من يصلح له على تقدير أنه لو كان حاضرا حينئذ لرأى ذلك والضمير في فيها يعود إلى الليالي والأيام وقيل إلى مهاب الريح والأول أولى وصرعى جمع صريع : يعني موتى { كأنهم أعجاز نخل خاوية } أي أصول نخل ساقطة أو بالية وقيل خالية لا جوف فيها والنخل يذكر ويؤنث ومثله قوله : { كأنهم أعجاز نخل منقعر } وقد تقدم تفسيره وهو إخبار عن عظم أجسامهم قال يحيى بن سلام : إنما قال خاوية لأن أبدانهم خلت من أرواحهم مثل النخل الخاوية (5/391)
8 - { فهل ترى لهم من باقية } أي من فرقة باقية أو من نفس باقية أو من بقية على أن باقية مصدر كالعاقبة والعافية قال ابن جريج : أقاموا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الريح فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر (5/392)
9 - { وجاء فرعون ومن قبله } أي من الأمم الكافرة قرأ الجمهور { قبله } بفتح القاف وسكون الباء : أي ومن تقدمه من القرون الماضية والأمم الخالية وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء : أي ومن هو في جهته من أتباعه واختار أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الثانية لقراءة ابن مسعود وأبي ومن معه ولقراءة أبي موسى ومن يلقاه { والمؤتفكات } قرأ الجمهور { المؤتفكات } بالجمع وهي قرى قوم لوط وقرأ الحسن والجحدري المؤتفكة بالإفراد واللام للجنس فهي في معنى افلجمع والمعنى : وجاءت المؤتفكات { بالخاطئة } أي بالفعلة الخاطئة أو الخطأ على أنها مصدر والمراد أنها جاءت بالشرك والمعاصي قال مجاهد : بالخطايا وقال الجرجاني : بالخطأ العظيم (5/392)
10 - { فعصوا رسول ربهم } أي فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها قال الكلبي : هو موسى وقيل لوط لأنه أقرب قيل ورسول هنا بمعنى رسالة ومنه قول الشاعر :
( لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول )
أي برسالة { فأخذهم أخذة رابية } أي أخذهم الله أخذة نامية زائدة على أخذات الأمم والمعنى : أنها بالغة في الشدة إلى الغاية يقال ربي الشيء يربو : إذا زاد وتضاعف قال الزجاج : تزيد على الأخذات قال مجاهد : شديدة (5/393)
11 - { إنا لما طغى الماء } أي تجاوز حده في الارتفاع والعلو وذلك في زمن نوح لما أصر قومه على الكفر وكذبوه وقيل طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه قال قتادة : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا { حملناكم في الجارية } أي في أصلاب آبائكم أو حملناهم وحملناكم في أصلابهم تغليبا للمخاطبين على الغائبين والجارية سفينة نوح وسميت جارية لأنها تجري في الماء ومحل في الجارية النصب على الحال : أي رفعناكم فوق الماء حال كونكم في السفينة (5/393)
ولما كان المقصود من ذكر قصص الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول قال : 12 - { لنجعلها لكم تذكرة } أي لنحعل هذه الأمور المذكورة لكم يا أمة محمد عبرة وموعظة تستدلون بها على عظيم قدرة الله وبديع صنعه أو لنجعل هذه الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لكم تذكرة { وتعيها أذن واعية } أي تحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت قال الزجاج : يقال أوعيت كذا : أي حفظته في نفسي أعيه وعيا ووعيت العلم ووعيت ما قلته كله بمعنى وأوعيت المتاع في الوعاء ويقال لكل ما وعيته في غير نفسك أوعيته بالألف ولما حفظته في نفسك وعيته بغير ألف قال قتادة في تفسير الآية : أذن سمعت وعقلت ما سمعت قال الفراء : المعنى لتحفظها كل أذن عظة لمن يأتي بعد قرأ الجمهور { تعيها } بكسر العين وقرأ طلحة بن مصرف وحميد الأعرج وأبو عمرو في رواية عنه بإسكان العين تشبيها لهذه الكلمة برحم وشهد وإن لم تكن من ذلك قال الرازي : وروي عن ابن كثير إسكان العين جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة كلمة واحدة فخفف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف انتهى والأول أولى يكون هذا من باب إجراء الوصل مجرى الوقف كما في قراءة من قرأ { وما يشعركم } بسكون الراء قال القرطبي : واختلفت القراءة فيها عن عاصم وابن كثير : يعني تعيها (5/393)
13 - { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } هذا شروع في بيان الحاقة وكيف وقوعها بعد بيان شأنا بإهلاك المكذبين قال عطاء : يريد النفخة الأولى وقال الكلبي ومقاتل يريد النفخة الأخيرة قرأ الجمهور { نفخة واحدة } بالرفع فيهما على أن نفخة مرتفعة على النيابة وواحدة تأكيد لها وحسن تذكير الفعل لوقوع الفصل وقرأ أبو السماك بنصبهما على أن النائب هو الجار والمجرور قال الزجاج : قوله : { في الصور } يقوم مقام ما لم يسم فاعله (5/394)
14 - { وحملت الأرض والجبال } أي رفعت من أماكنها وقلعت عن مقارها بالقدرة الإلهية قرأ الجمهور { حملت } بتخفيف الميم وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن عامر في رواية عنه بتشديدها للتكثير أو للتعدية { فدكتا دكة واحدة } أي فكسرتا كسرة واحدة لا زيادة عليها أو ضربتا ضربة واحدة بعضهما ببعض حتى صارتا كثيبا مهيلا وهباء منبثا قال الفراء : ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة ومثله قوله تعالى : { أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما } وقيل دكتا بسطتا بسطة واحدة ومنه اندك سنام البعير : إذا انفرش على ظهره (5/394)
15 - { فيومئذ وقعت الواقعة } أي قامت القيامة (5/394)
16 - { وانشقت السماء فهي يومئذ واهية } أي انشقت بنزول ما فيها من الملائكة فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية قال الزجاج : يقال لكل ما ضعف جدا قد وهي فهو واه وقال الفراء وهيها تشققها (5/394)
17 - { والملك على أرجائها } أي جنس الملك على أطرافها وجوانبها وهي جمع رجى مقصور وتثنيته رجوان مثل قفا وقفوان والمعنى : أنها لما تشققت السماء وهي مساكنهم لجأوا إلى أطرافها قال الضحاك : إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت وتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض ويحيطون بالأرض ومن عليها وقال سعيد بن جبير : المعنى والملك على حافات الدنيا : أي ينزلون إلى الأرض وقيل إذا صارت السماء قطعا يقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } أي يحمله فوق رؤسهم يوم القيامة ثمانية أملاك وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عز و جل وقيل ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة قاله الكلبي وغيره (5/394)
18 - { يومئذ تعرضون } أي تعرض العباد على الله لحسابهم ومثله { وعرضوا على ربك صفا } وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به ما لم يكن عالما به وإنما هو عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال وجملة { لا تخفى منكم خافية } في محل نصب على الحال من ضمير تعرضون : أي تعرضون حال كونه لا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم أو أقوالكم وأفعالكم خافية كائنة ما كانت والتقدير : أي نفس خافية أو فعلة خافية
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { الحاقة } من أسماء القيامة وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عنه قال : ما أرسل الله شيئا من رسح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم نوح ويم عاد فأما يوم نوح فإن الماء طغى على خزانه فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ { إنا لما طغى الماء } وأما يوم عاد فإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ { بريح صرصر عاتية } وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب نحوه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر مرفوعا : [ قال ما أمر الخزان على عاد إلا مثل موضع الخاتم من الريح فعتت على الخزان فخرجت من نواحي الأبواب فذلك قوله : { بريح صرصر عاتية } قال : عتوها عتت على الخزان ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بريح صرصر عاتية } قال : الغالبة وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطيبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : { حسوما } قال : متتابعات وأخرج عبد بن حميد وابن جرير من طرق عن ابن عباس في قوله : { حسوما } قال : تباعا وفي لفظ : متتابعات وأخرج ابن المنذر عنه { كأنهم أعجاز نخل } قال : هي أصولها وفي قوله : { خاوية } قال : خربة وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أيضا في قوله : { إنا لما طغى الماء } قال : طغى على خزانه فنزل ولم ينزل من السماء ماء إلا بمكيال أو ميزان إلا زمن نوح فإنه طغى على خزانة فنزل بغير كيل ولا وزن وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق مكحول عن علي بن أبي طالب [ في قوله : { وتعيها أذن واعية } قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي فقال علي : ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم من شيئا فنسيته ] قال ابن كثير : وهو حديث مرسل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والواحدي وابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي : [ إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقضيك وأن أعلمك وأن تعي وحق لك أن تعي فنزلت هذه الآية { وتعيها أذن واعية } فأنت أذن واعية لعلي ] قال ابن كثير : ولا يصح وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر في قوله : { أذن واعية } قال : أذن عقلت عن الله وأخرج الحاكم والبيهقي في البعث عن أبي بن كعب في قوله : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } قال : تصيران غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين وذلك قوله : { وجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة } وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { فهي يومئذ واهية } قال مخترقة وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { والملك على أرجائها } قال : على حافاتها على ما لم [ يهي ] منها وأخرج عبد بن حميد وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية وأبو يعلى وابن المنذر وابن خزيمة والحاكم وصححه وابن مردويه والخطيب في [ تالي التلخيص ] عنه أيضا في قوله : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } قال : ثمانية أملاك على صورة الأوعال وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا من طرق في الآية قال : يقال ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله ويقال ثمانية أملاك رؤوسهم عند العرش في السماء السابعة وأقدامهم في الأرض السفلى ولهم قرون كقرون الوعلة ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه خمسمائة عام وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ] وأخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن مسعود نحوه (5/394)
لما ذكر سبحانه العرض ذكر ما يكون فيه فقال : 19 - { فأما من أوتي كتابه بيمينه } أي أعطي كتابه الذي كتبته الحفظة عليه من أعماله { فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } يقول ذلك سرورا وابتهاجا قال ابن السكيت والكسائي : العرب تقول : ها يا رجل وللاثنين هاؤما يا رجلان وللجمع هاؤم يا رجال قيل والأصل هاؤكم فأبدلت الهمزة من الكاف قال ابن زيد : ومعنى هاؤم تعالوا وقال مقاتل : هلم وقيل خذوا فهي اسم فعل وقد يكون فعلا صريحا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها وفيها ثلاث لغات كما هو معروف في علم الإعراب وقوله : كتابيه معمول لقوله : اقرأوا لأنه أقرب الفعلين ومعمول هاؤم محذوف يدل عليه معمول اقرأوا والتقدير : هاؤم كتابيه اقرأوا كتابيه والهاء في كتابيه وحسابيه وسلطانيه وماليه هي هاء السكت قرأ الجمهور في هذه بإثبات الهاء وقفا ووصلا مطابقة لرسم المصحف ولولا ذلك لحذفت في الوصل كما هو شأن هاء السكت واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط يعني خط المصحف وقرأ ابن محيصن وابن أبي إسحاق وحميد ومجاهد والأعمش ويعقوب بحذفها وصلا وإثباتا وقفا في جميع هذه الألفاظ ورويت هذه القراءة عن حمزة واختار أبو حاتم هذه القراءة اتباعا للغة وروي عن ابن محيصن أنه قرأ بحذفها وصلا ووقفا (5/397)
20 - { إني ظننت أني ملاق حسابيه } أي علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة وقيل المعنى : إني ظننت أن يأخذني الله بسيئاتي فقد تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني قال الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك قال مجاهد : ظن الآخرة يقين وظن الدنيا شك قال الحسن في هذه الآية : إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة وإن الكافر أساء الظن بريه فأساء العمل قيل والتعبير بالظن هنا للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبا (5/397)
21 - { فهو في عيشة راضية } أي في عيشة مرضية لا مكروهة أو ذات رضى : أي يرضى بها صاحبها قال أبو عبيدة والفراء : راضية أي مرضية كقوله : { ماء دافق } أي مدفوق فقد أسند إلى العيشة ما هو لصاحبها فكان ذلك من [ المجاز ] في الإسناد (5/397)
22 - { في جنة عالية } أي مرتفعة المكان لأنها في السماء أو مرتفعة المنازل أو عظيمة في النفوس (5/398)
23 - { قطوفها دانية } القطوف : جمع قطف بكسر القاف ما يقطف من الثمار والقطف بالفتح المصدر والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف والمعنى : أن ثمارها قريبة ممن يتناولها من قائم أو قاعد أو مضطجع (5/398)
24 - { كلوا واشربوا } أي يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة { هنيئا } أي أكلا وشربا هنيئا لا تكدير فيه ولا تنغيص { بما أسلفتم في الأيام الخالية } أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا وقال مجاهد : هي أيام الصيام { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول } حزنا وكربا لما رأى فيه من سيئاته (5/398)
25 - { يا ليتني لم أوت كتابيه } أي لم أعط كتابيه (5/398)
26 - { ولم أدر ما حسابيه } أي لم أدر : أي شيء حسابي لأن كله عليه (5/398)
27 - { يا ليتها كانت القاضية } أي ليت الموتة التي [ متها ] كانت القاضية ولم أحي بعدها ومعنى : القاضية القاطعة للحياة والمعنى : أنه تمنى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب فالضمير في ليتها يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها وإن لم تكن مذكورة لأنها لظهورها كانت كالمذكورة قال قتادة : تمنى [ الموت ] ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره منه وشر من الموت ما يطلت منه الموت وقيل الضمير يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي (5/398)
28 - { ما أغنى عني ماليه } أي لم يدفع عني من عذاب الله شيئا على أن ما نافية أو استفهامية والمعنى : أي شيء أغنى عني مالي (5/398)
29 - { هلك عني سلطانيه } أي هلكت عني حجتي وضلت عني كذا قال مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك وقال ابن زيد : يعني سلطاني الذي في الدنيا وهو الملك وقيل تسلطي على جوارحي قال مقاتل : يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك (5/398)
وحينئذ يقول الله عز و جل : 30 - { خذوه فغلوه } أي اجمعوا يده إلى عنقه بالأغلال (5/398)
31 - { ثم الجحيم صلوه } أي أدخلوه الجحيم والمعنى : لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظيمة (5/398)
32 - { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } السلسلة حلق منتظمة وذرعها طولها قال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هو قال نوف الشامي : كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان نوف في رحبة الكوفة قال مقاتل : لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص ومعنى { فاسلكوه } فاجعلوه فيها يقال سلكته الطريق إذا أدخلته فيه قال سفيان : بلغنا أنها تدخل في دبرة حتى تخرج من فيه قال الكلبي : تسلك سلك الخيط في اللؤلؤ وقال سويد بن أبي نجيح : بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة وتقديم السلسلة للدلالة على الاختصاص كتقديم الجحيم (5/398)
وجملة 33 - { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم } تعليل لما قبلها (5/399)
34 - { ولا يحض على طعام المسكين } أي لا يحث على إطعام المسكين من ماله أو لا يحث الغير على إطعامه ووضع الطعام موضع الإطعام كما يوضع العطاء موضع الإعطاء كما قال الشاعر :
( أكفرا بعد رد موتي عني ... وبعد عطائك المال الرعابا )
أي بعد إعطائك ويجوز أن يكون الطعام على معناه غير موضوع موضع المصدر والمعنى : أنه لا يحث نفسه أو غيره على بذل نفس طعام المسكين وفي جعل هذا قرينا لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدق على المساكين وسد فاقتهم وحث النفس والناس على ذلك ما يدل أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجرائم وأشد المآثم (5/399)
35 - { فليس له اليوم هاهنا حميم } أي ليس له يوم القيامة في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له لأنه يوم يفر فيه القريب من قريبه ويهرب عنده الحبيب من حبيبه (5/399)
36 - { ولا طعام إلا من غسلين } أي وليس له طعام يأكله إلا من صديد أهل النار وما ينغسل من أبدانهم من [ القيح ] والصديد وغسلين فعلين من الغسل وقال الضحاك والربيع بن أنس : هو شجر يأكله أهل النار وقال قتادة : هو شر الطعام وقال ابن زيد : لا يعلم ما هو ولا ما الزقوم إلا الله تعالى وقال سبحانه في موضع آخر : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } فيجوز أن يكون الضريع هو الغسلين وقيل في الكلام تقديم وتأخير والمعنى فليس له اليوم هاهنا حميم إلا من غسلين على أن الحميم هو الماء الحار { ولا طعام } أي ليس لهم طعام يأكلونه ولا ملجىء لهذا التقديم والتأخير (5/399)
وجملة 37 - { لا يأكله إلا الخاطئون } صفة لغسلين والمراد أصحاب الخطايا وأرباب الذنوب قال الكلبي : المراد الشرك قرأ الجمهور { الخاطئون } مهموزا وهو اسم فاعل من خطئ إذا فعل غير الصواب متعمدا والمخطئ من يفعله غير متعمد وقرأ الزهري وطلحة بن مصرف والحسن الخاطيون بباء مضمومة بدل الهمزة وقرأ نافع في رواية عنه بضم الطاء بدون همزة (5/399)
38 - { فلا أقسم بما تبصرون } (5/399)
39 - { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون } هذا رد لكلام المشركين كأنه قال : ليس الأمر كما تقولون ولا زائدة والتقدير فأقسم بما تشاهدونه وما لا تشاهدونه قال قتادة : أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر فيدخل في هذا جميع المخلوقات وقيل إن لا ليست زائدة بل هي لنفي القسم : أي لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك والأول أولى (5/399)
40 - { إنه لقول رسول كريم } أي إن القرآن لتلاوة رسول كريم على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه و سلم أو إنه لقول يبلغه رسول كريم قال الحسن والكلبي ومقاتل : يريد به جبريل ودليله قوله : { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين } وعلى كل حال فالقرآن ليس من قول محمد صلى الله عليه و سلم ولا من قول جبريل عليه السلام بل هو قول الله فلا بد من تقدير التلاوة أو التبليغ (5/400)
41 - { وما هو بقول شاعر } كما تزعمون لأنه ليس من أصناف الشعر ولا مشابه له { قليلا ما تؤمنون } أي إيمانا قليلا تؤمنون وتصديقا يسيرا تصدقون وما زائدة (5/400)
42 - { ولا بقول كاهن } كما تزعمون فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين هذا { قليلا ما تذكرون } أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تتذكرون وما زائدة والقلة في الموضعين بمعنى النفي : أي لا تؤمنون ولا تتذكرون أصلا (5/400)
43 - { تنزيل من رب العالمين } قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هو تنزيل وقرأ أبو السماك بالنصب على المصدرية بإضمار فعل : أي نزل تنزيلا والمعنى : إنه لقول رسول كريم وهو تنزيل من رب العالمين على لسانه (5/400)
44 - { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } أي ولو تقول ذلك الرسول وهو محمد أو جبريل على ما تقدم والتقول تكلف القول والمعنى : لو تكلف ذلك وجاء به من جهة نفسه وسمي الافتراء تقولا لأنه قول متكلف وكل كاذب يتكلف ما يكذب به قرأ الجمهور { تقول } مبنيا للفاعل وقرئ مبنيا للمفعول مع رفع بعض وقرأ ابن ذكوان { ولو تقول } على صيغة المضارع والأقاويل جمع أقوال والأقوال جمع قول (5/400)
45 - { لأخذنا منه باليمين } أي بيده اليمين قال ابن جرير : إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب وقال الفراء والمبرد والزجاج وابن قتيبة { لأخذنا منه باليمين } أي بالقوة والقدرة قال ابن قتيبة : وإنما أقام اليمين مقام القوة لأن قوة كل شيء في ميامنه ومن هذا قول الشاعر :
( إذا ما راية نصبت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين )
وقول الآخر :
( ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيميني ) (5/400)
46 - { ثم لقطعنا منه الوتين } الوتين عرق يجري في الظهر حتى يصل بالقلب وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله المملوك بمن يغضبون عليه قال الواحدي : والمفسرون يقولون إنه نياط القلب انتهى ومن هذا قول الشاعر :
( إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين ) (5/400)
47 - { فما منكم من أحد عنه حاجزين } أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويدفعنا منه فكيف يتكلف الكذب على الله لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ولا تقدرون على الدفع منه والحجز والمنع { حاجزين } صفة لأحد أو خبر لما الحجازية (5/401)
48 - { وإنه لتذكرة للمتقين } أي إن القرآن لتذكرة لأهل التقوى لأنهم المنتفعون به (5/401)
49 - { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } أي أن بعضكم يكذب بالقرآن فنحن نجازيهم على ذلك وفي هذا وعيد شديد (5/401)
50 - { وإنه لحسرة على الكافرين } أي وإن القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين وقيل هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديثهم بأن يأتوا بسورة من مثله (5/401)
51 - { وإنه لحق اليقين } أي وإن القرآن لكونه من عند الله حق فلا يحول حوله ريب ولا يتطرق إليه شك (5/401)
52 - { فسبح باسم ربك العظيم } أي نزهه عما لا يليق به وقيل فصل لربك والأول أولى
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إني ظننت } قال : أيقنت وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب { قطوفها دانية } قال قريبة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد و [ ابن ] المنذر عن البراء في الآية قال : يتناول الرجل من فواكهها وهو قائم وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { فاسلكوه } قال : السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيه كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر عن أبي الدرداء قال : إن لله سلسلة لم تزل تغلي منها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تلقى في أعناق الناس وقد نجاها الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم فحضي على طعام المسكين يا أم الدرداء وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : الغسلين الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحومهم وأخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخردي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : الغسلين اسم طعام من أطعمة أهل النار وأخرج ابن جرير عنه { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون } يقول : بما ترون وما لا ترون وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { لأخذنا منه باليمين } قال : بقدرة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال : { الوتين } عرق القلب وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا قال : { الوتين } نياط القلب وأخرج الن المنذر والحاكم وصححه عنه أيضا قال : هو حبل القلب الذي في الظهر (5/401)
ويقال سورة المعارج هي أربع وأربعون آية
وهي مكية قال القرطبي : باتفاق وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة سأل بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله
قوله : 1 - { سأل سائل بعذاب واقع } قرأ الجمهور { سأل } بالهمزة وقرأ نافع وابن عامر بغير همزة فمن همز فهو من السؤال وهي اللغة الفاشية وهو إما مضمن معنى الدعاء فلذلك عدي بالباء كما تقول دعوت لكذا والمعنى : دعا داع على نفسه بعذاب واقع ويجوز أن يكون على أصله والباء بمعنى عن كقوله : { فاسأل به خبيرا } ومن لم يهمز فهو إما من باب التخفيف بقلب الهمزة ألفا فيكون معناها معنى قراءة من همز أو يكون من السيلان والمعنى : سال واد في جهنم يقال له سائل كما قال زيد بن ثابت ويؤيده قراءة ابن عباس سال سيل وقيل إن سال بمعنى التمس والمعنى : التمس ملتمس عذابا للكفار فتكون الباء زائدة كقوله : { تنبت بالدهن } والوجه الأول هو الظاهر وقال الأخفش : يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان قال أبو علي الفارسي : وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما ويتعدى إليه بحرف الجر وهذا السائل هو النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } وهو ممن قتل يوم بدر صبرا وقيل هو أبو جهل وقيل هو الحارث بن النعمان الفهري والأول أولى لما سيأتي وقرأ أبي وابن مسعود سال سال مثل مال مال على أن الأصل سائل فحذفت العين تخفيفا كما قيل شاك في شائك السلاح وقيل السائل هو نوح عليه السلام سأل العذاب للكافرين وقيل هو رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا بالعقاب عليهم وقوله : { بعذاب واقع } يعني إما في الدنيا كيوم بدر أو في الآخرة (5/402)
وقوله : 2 - { للكافرين } صفة أخرى لعذاب : أي كائن للكافرين أو متعلق بواقع واللام للعلة أو يسأل على تضمينه معنى دعا أو في محل رفع على تقدير : هو للكافرين أو تكون اللام بمعنى على ويؤيده قراءة أبي بعذاب واقع على الكافرين قال الفراء : التقدير بعذاب الكافرين واقع بهم فالواقع من نعت العذاب وجملة { ليس له دافع } صفة أخرى لعذاب أو حال منه أو مستأنفة والمعنى : أنه لا يدفع ذلك العذاب الواقع به أحد (5/403)
وقوله : 3 - { من الله } متعلق بواقع : أي واقع من جهته سبحانه أو بدافع : أي ليس له دافع من جهته تعالى : { ذي المعارج } أي ذي الدرجات التي تصعد فيها الملائكة وقال الكلبي : هي السموات وسماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها وقيل المعارج مراتب نعم الله سبحانه على الخلق وقيل المعارج العظمة وقيل هي الغرف وقرأ ابن مسعود ذي المعارج بزيادة الياء يقال معارج ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح (5/403)
4 - { تعرج الملائكة والروح إليه } أي تصعد في تلك المعارج التي جعلها الله لهم وقرأ الجمهور { تعرج } بالفوقية وقرأ ابن مسعود وأصحابه والكسائي والسلمي بالتحتية والروح جبريل أفرد بالذكر بعد الملائكة لشرفه ويؤيد هذا قوله : { نزل به الروح الأمين } وقيل الروح هنا ملك آخر عظيم غير جبريل وقال أبو صالح : إنه من خلق الله سبحانه كهيئة الناس وليسوا من الناس وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين تقبض والأول أولى ومعنى إليه أي إلى المكان الذي ينتهون إليه وقيل إلى عرشه وقيل هو كقول إبراهيم { إني ذاهب إلى ربي } أي إلى حيث أمرني ربي { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } قال ابن إسحاق والكلبي ووهب بن منبه : أي عرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلها في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة وبه قال مجاهد وقال عكرمة وروي عن مجاهد أن مدة عمر الدنيا هذا المقدار لا يدري أحد كم مضى ولا كم بقي ولا يعلم ذلك إلا الله وقال قتادة والكلبي ومحمد بن كعب : إن المراد يوم القيامة يعني أن مقدار الأمر فيه لو تولاه غيره سبحانه خمسون ألف سنة وهو سبحانه يفرغ منه في ساعة وقيل إن مدة موقف العباد للحساب هي هذا المقدار ثم يستقر بعد ذلك أهل الجنة وأهل النار في النار وقيل إن مقدار يوم القيامة على الكافرين خمسون ألف سنة وعلى المؤمنين مقدار ما بين الظهر والعصر وقيل ذكر هذا المقدار لمجرد التمثيل والتخييل لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها أو لطول يوم القيامة باعتبار ما فيه من الشدائد والمكاره كما تصف العرب أيام الشدة بالطول وأيام الفرح بالقصر ويشبهون اليوم القصير بإبهام القطاة والطويل بظل الرمح ومنه قول الشاعر :
( ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاف المزاهر )
وقيل في الكلام تقديم وتأخير : أي ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه وقد قدمنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله في سورة السجدة { في يوم كان مقداره ألف سنة } فارجع إليه وقد قيل في الجمع إن من أسفل العالم إلى العرش خمسين ألف سنة ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة لأن غلظ كل سماء خمسمائة عام وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسائمة عام فالمعنى : أن الملائكة إذا عرجت من أسفل العالم إلى العرش كان مسافة ذلك خمسين ألف سنة وإن عرجوا من هذه الأرض التي نحن فيها إلى باطن هذه السماء التي هي سماء الدنيا كان مسافة ذلك ألف سنة وسيأتي في آخر البحث ما يؤيد هذا عن ابن عباس (5/403)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بالصبر فقال : 5 - { فاصبر صبرا جميلا } أي اصبر يا محمد على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به صبرا جميلا لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله وهذا معنى الصبر الجميل وقيل هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري بأنه مصاب قال ابن زيد وغيره : هي منسوخة بآية السيف (5/404)
6 - { إنهم يرونه بعيدا } أي يرون العذاب الواقع بهم أو يرون يوم القيامة بعيدا : أي غير كائن لأنهم لا يؤمنون به فمعنى بعيدا أي مستبعدا محالا وليس المراد أنهم يرونه بعيدا غير قريب قال الأعمش : يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون به كأنهمي يستبعدونه على جهة الاستحالة كما تقول لمن تناظره هذا بعيد : أي لا يكون (5/404)
7 - { ونراه قريبا } أي نعلمه كائنا قريبا لأن ما هو آت قريب وقيل المعنى : ونراه هينا في قدرتنا غير متعسر ولا متعذر والجملة تعليل للأمر بالصبر (5/405)
ثم أخبر سبحانه متى يقع بهم العذاب فقال : 8 - { يوم تكون السماء كالمهل } والظرف متعلق بمضمر دل عليه واقع أو بدل من قوله : { في يوم } على تقدير تعلقه بواقع أو متعلق بقريبا أو مقدر بعده : أي يوم تكون الخ كان كيت وكيت أو بدل منالضمير في نراه والأول أولى والتقدير يقع بهم العذاب { يوم تكون السماء كالمهل } والمهل : ما أذيب من النحاس والرصاص والفضة وقال مجاهد : هو القيح من الصديد والدم وقال عكرمة وغيره : هو دردي الزيت وقد تقدم تفسيره في سورة الكهف والدخان (5/405)
9 - { وتكون الجبال كالعهن } أي كالصوف المصبوغ ولا يقال للصوف عهن إلا إذا كان مصبوغا قال الحسن : تكون الجبال كالعهن وهو الصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وقيل العهن الصوف ذو الألوان فشبه الجبال به في تكونها ألوانا كما في قوله : { جدد بيض وحمر } { وغرابيب سود } فإذا بست وطيرت في الهواء أشبهت العهن المنقوش إذا طيرته الريح (5/405)
10 - { ولا يسأل حميم حميما } أي لا يسأل قريب قريبه عن شأنه في ذلك اليوم لما نزل بهم من شدة الأهوال التي أذهلت القريب عن قريبه والخليل عن خليله كما قال سبحانه : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } وقيل المعنى : لا يسأل حميم عن حميم فحذف الحرف ووصل الفعل قرأ الجمهور { لا يسأل } مبنيا للفاعل قيل والمفعول الثاني محذوف والتقدير : لا يسأله نصره ولا شفاعته وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبة وابن كثير في رواية عنه على البناء للمفعول وروى هذه القراءة البزي عن عاصم والمعنى : لا يسأل حميم إحضار حميمه وقيل هذه القراءةعلى إسقاط حرف الجر : أي لا يسأل حميم عن حميم بل كل إنسان يسأل عن نفسه وعن عمله (5/405)
وجملة 11 - { يبصرونهم } مستأنفة أو صفة لقوله : { حميما } أي يبصر كل حميم حميمه لا يخفى منهم أحد عن أحد وليس في القيامة مخلوق وإلا وهو نصب عين صاحبه ولا يتساءلون ولا يكلم بعضهم بعضا لاشتغال كل أحد منهم بنفسه وقال ابن زيد : يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا وهم الرؤساء المتبوعون وقيل إن قوله : { يبصرونهم } يرجع إلى الملائكة : أي يعرفون أحوال الناس لا يخفون عليهم وإنما جمع الضمير في يبصرونهم وهما للحميمين حملا على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياق النفي قرأ الجمهور { يبصرونهم } بالتشديد وقرأ قتادة بالتخفيف ثم ابتدأ سبحانه الكلام فقال : { يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ } المراد بالمجرم الكافر أو كل مذنب ذنبا يستحق به النار لو يفتدي من عذاب يوم القيامة الذي نزل به (5/405)
12 - { ببنيه * وصاحبته وأخيه } فإن هؤلاء أعز الناس عليه وأكرمهم لديه فلو قبل منه الفداء لفدى بهم نفسه وخلص مما نزل به من العذاب والجملة مستأنفة لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حد يوم الافتداء من العذاب بمن ذكر قرأ الجمهور { من عذاب يومئذ } بإضافة عذابإلى يومئذ وقرأ أبو حيوة بتنوين عذاب وقطع الإضافة وقرأ الجمهور { يومئذ } بكسر الميم وقرأ نافع والكسائي والأعرج وأبو حيوة بفتحها (5/406)
13 - { وفصيلته التي تؤويه } أي عشيرتهالأقربين الذين يضمونه في النسب أو عند الشدائد ويأوي إليهم قال أبو عبيد : الفصيلة دون القبيلة وقال ثعلب : هم آباؤهم الأدنون قال المبرد : الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد وسميت عشيرة الرجل فصبلة تشبيها لها بالبعض منه وقال مالك : إن الفصيلة هي التي تربيه (5/406)
14 - { ومن في الأرض جميعا } أي ويود المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعا من الثقلين وغيرهما من الخلائق وقوله : { ثم ينجيه } معطوف على يفتدي : أي يوم لو يفتدي ثم ينجيه الافتداء وكان العطف بثم لدلالتها على استبعاد النجاة وقيل إن يود تقتضي جوابا كما في قوله : { ودوا لو تدهن فيدهنون } والجواب ثم ينجيه والأول أولى (5/406)
وقوله : 15 - { كلا } ردع للمجرم عن تلك الودادة وبيان امتناع ما وده من الافتداء وكلا يأتي بمعنى حقا وبمعنى لا مع تضمنها لمعى الزجر والردع والضمير في قوله : { إنها لظى } لجهنم واشتقاقها من التلظي في النار وهو التلهب وقيل أصله لظظ بمعنى دوام العذاب فقلبت إحدى الظاءين ألفا وقيل لظى : هي الدركة الثانية من طباق جهنم (5/406)
16 - { نزاعة للشوى } قرأ الجمهور { نزاعة } بالرفع على أنه خبر ثان لإن أو خبر مبتدأ محذوف أو تكون لظى بدلا من الضمير المنصوب ونزاعة خبر إن أو على أن نزاعة صفة للظى على تقدير عدم كونها علما أو يكون الضمير في إنها للقصة ويكون لظى مبتدأ ونزاعة خبره والجملة خبر إن وقرأ حفص عن عاصم وأبو عمرو في رواية عنه وأبو حيوة والزغفراني والترمذي وابن مقسم { نزاعة } بالنصب على الحال وقال أبو علي الفارسي : حمله على الحال بعيد لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال وقيل العامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي أو النصب على الاختصاص والشوى الأطراف أو جمع شواة وهي جلدة الرأس ومنه قول الأعشى :
( قالت ... قتيلة ماله قد جللت شيبا شواته )
وقال الحسن وثابت البناني : نزاعة للشوى : أي لمكارم الوجه وحسنه وكذا قال أبو العالية وقتادة : تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك فيه شيئا وقال الكسائي : هي المفاصل وقال أبو صالح : هي أطراف اليدين والرجلين (5/406)
17 - { تدعو من أدبر } أي تدعو لظى من أدبر عن الحق في الدنيا { وتولى } أي أعرض عنه (5/407)
18 - { وجمع فأوعى } أي جمع المال فجعله في وعاء قيل إنها تقول إلي يا مشرك إلي يا منافق وقيل معنى تدعو تهلك تقول العرب : دعاك الله : أي أهلكك وقيل ليس هو الدعاء باللسان ولكن دعاؤها إياهم تمكنها من عذابهم وقيل المراد أن خزنة جهنم تدعو الكافرين والمنافقين فأسند الدعاء إلى النار من باب إسناد ما هو للحال إلى المحل وقيل هو تمثيل وتخييل ولا دعاء في الحقيقة والمعنى : أن مصيرهم إليها كما قال الشاعر :
( ولقد هبطنا الواد بين قوادنا ... ندعو الأنيس به الغصيص الأبكم )
والغصيص الأبكم : الذباب وهي لا تدعو وفي هذا ذم لمن جمع المال فأوعاه وكنزه ولم ينفقه في سبل الخير أو لم يؤد زكاته
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { سأل سائل } قال : هو النضر بن الحرث قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } وفي قوله : { بعذاب واقع } قال : كائن { للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج } قال : ذي الدرجات وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في قوله : { سأل سائل } قال : سال واد في جهنم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ذي المعارج } قال : ذي العلو والفواضل وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } قال : منتهى أمره من أسف الأرضين إلى منتهى أمره من فوق سبع سموات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره ألف سنة قال : يعني بذلك ينزل الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : غلظ كل أرض خمسمائة عام وغلظ كل سماء خمسمائة عام وبين كل أرض خمسمائة عام ومن السماء إلى السماء خمسمائة عام فذلك قوله : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عنه أيضا في قوله : { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } قال : هذا في الدنيا تعرج الملائكة في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون وفي قوله : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } فهذا يوم القيامة جعله الله على الكافر مقدار خمسين ألف سنة وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه أيضا في قوله : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } قال : لو قدرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم قال : يعني يوم القيامة وقد قدمنا عن ابن عباس الوقف في الجمع بين الآيتين في سورة السجدة وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال : [ قيل يا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم كان يوم مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم ؟ فقال : والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا ] وفي إسناده دراج عن أبي الهيثم وهما ضعيفان وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في البعث عن أبي هريرة مرفوعا قال : ما قدر طول يوم القيامة على المؤمنين إلا كقدر ما بين الظهر إلى العصر وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله : { فاصبر صبرا جميلا } قال : لا تشكو إلى أحد غيري وأخرج أحمد وعبد بن حميد وبان المنذر والخطيب في المتفق والمفترق والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { يوم تكون السماء كالمهل } قال : كدردي الزيت وأخرج ابن جرير عنه قال : { يبصرونهم } يعرف بعضهم بعضا ويتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : { نزاعة للشوى } قال : تنزع أم الرأس (5/407)
قوله : 9 - { إن الإنسان خلق هلوعا } قال في الصحاح : الهلع في اللغة أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه يقال هلع بالكسر فهو هلع وهلوع على التكثير وقال عكرمة : هو الضجور (5/409)
قال الواحدي والمفسرون يقولون تفسير الهلع ما بعده يعني قوله : 20 - { إذا مسه الشر جزوعا } (5/409)
قال الواحدي والمفسرون يقولون تفسير الهلع ما بعده يعني قوله : 21 - { إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا } أي إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك فهو جزوع : أي كثير الجزع وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك فهو كثير المنع والإمساك وقال أبو عبيدة : الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر وإذا مسه الشر لم يصبر قال ثعلب : قد فسر الله الهلوع : هو الذي إذا أصابه الشر أظهر شدة الجزع وإذا أصابه الخير بخل به ومنعه الناس والعرب تقول : ناقة هلوع وهلواع إذا كانت سريعة السير خفيفته ومنه قول الشاعر :
( شكا ذعلبة إذا استدبرتها ... حرج إذا استقبلتها هلواع )
والذعلبة : الناقة السريعة وانتصاب هلوعا وجزوعا ومنوعا على أنها أحوال مقدرة أو محققة لكونها طبائع جبل الإنسان عليها والظرفان معمولان لجزعا ومنوعا (5/409)
22 - { إلا المصلين } أي المقيمين للصلاة وقيل المراد بهم أهل التوحيد : يعني أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع وأنهم على صفات محمودة وخلال مرضية لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير (5/409)
ثم بينهم سبحانه فقال : 23 - { الذين هم على صلاتهم دائمون } أي لا يشغلهم عنها شاغل ولا يصرفهم عنها صارف وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبدا قال الزجاج : هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة وقال الحسن وابن جريح : هو التطوع منها قال النخعلي : المراد بالمصلين الذين يؤدون الصلاة المكتوبة وقيل الذين يصلونها لوقتها والمرد بالآية جميع المؤمنين وقيل الصحابة خاصة ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين (5/409)
24 - { والذين في أموالهم حق معلوم } قال قتادة ومحمد بن سيرين : المراد الزكاة المفروضة وقال مجاهد : سوى الزكاة وقيل صلة الرحم والظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوما ولجعله قرينا للصلاة وقد تقدم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات مستوفى (5/409)
25 - { للسائل والمحروم } (5/410)
26 - { والذين يصدقون بيوم الدين } أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه وقيل يصدقونه بأعمالهم فيتعبون أنفسهم في الطاعات (5/410)
27 - { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } أي خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقارا لأعمالهم واعترافا بما يجب لله سبحانه عليهم (5/410)
وجملة 28 - { إن عذاب ربهم غير مأمون } مقررة لمضمون ما قبلها مبينة أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد وأن حق كل أحد أن يخافه (5/410)
29 - { والذين هم لفروجهم حافظون } إلى قوله : { فأولئك هم العادون } قد تقدم تفسيره في سورة المؤمنين مستوفى (5/410)
30 - { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } (5/410)
31 - { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } قد تقدم تفسيره في سورة المؤمنين مستوفى (5/410)
32 - { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } أي لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم قرأ الجمهور { لأماناتهم } بالجمع قرأ ابن كثير وابن محيصن { لأماناتهم } بالإفراد والمراد الجنس (5/410)
33 - { والذين هم بشهاداتهم قائمون } أي يقيمونها على من كانت عليه من قريب أو بعيد أو رفيع أو وضيع ولا يكتمونها ولا يغيرونها وقد تقدم القول في الشهادة من سورة البقرة قرأ الجمهور { بشهاداتهم } بالإفراد وقرأ حفص ويعقوب وهي رواية عن ابن كثير بالجمع قال الواحدي والإفراد أولى لأنه مصدر ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات قال الفراء : ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى : { وأقيموا الشهادة لله } (5/410)
34 - { والذين هم على صلاتهم يحافظون } أي على أذكارها وأركانها وشرائطها لا يخلون بشيء من ذلك قال قتادة : على وضوئها وركوعها وسجودها وقال ابن جريح : المراد التطوع وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أولا وما وصفهم به ثانيا فإن معنى الدوام : هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل كما سلف ومعنى المحافظة : أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاة بدونها وقيل المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحق أن يستقل بموصوف منفرد (5/410)
والإشارة بقوله : 35 - { أولئك } إلى الموصوفين بتلك الصفات { في جنات مكرمون } أي مستقرون فيها مكرمون بأنواع الكرامات وخبر المبتدأ قوله : { في جنات } وقوله : { مكرمون } خبر آخر ويجوز أن يكون الخبر مكرمون وفي جنات متعلق به (5/410)
36 - { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } أي أي شيء لهم حواليك مسرعين : قال الأخفش : مهطعين مسرعين ومنه قول الشاعر :
( بمكة أهلها ولقد أراهم ... إليهم مهطعين إلى السماع )
وقيل المعنى : ما بالهم يسرعون إليك يجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم وقيل ما بالهم مسرعين إلى التكذيب وقيل ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك فيكذبونك ويستهزئون بك وقال الكلبي : إن المعنى : مهطعين ناظرين إليك وقال قتادة : عامدين وقيل مسرعين إليك مادي أعناقهم مديمي النظر إليك (5/410)
37 - { عن اليمين وعن الشمال عزين } أي عن يمين النبي صلى الله عليه و سلم وعن شماله جماعات متفرقة وعزين مع عزة وهي العصبة من الناس ومنه قول الشاعر :
( ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حلقا عزينا )
قال الراعي :
( أخليفة الرحمن إن عشيرتي ... أمسى سراتهم إليك عزينا )
قال عنترة :
( وقرن قد تركت لدي ولي ... عليه الطير كالعصب العزينا )
وقيل أصلها عزوة من العزو كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى قال في الصحاح : والعزة الفرقة من الناس والهاء عوض من الباء والجمع عزي وعزون وقوله : { عن اليمين وعن الشمال } متعلق بعزين أو بمهطعين (5/411)
38 - { أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم } قال المفسرون : كل المشركون يقولون لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلن قبلهم فنزلت الآية قرأ الجمهور { أن يدخل } مبنيا للمفعول وقرأ الحسن وزيد بن علي وطلحة بن مصرف والأعرج ويحيى بن يعمر وأبو رجاء وعاصم في رواية عنه على البناء للفاعل (5/411)
ثم رد الله سبحانه عليهم فقال : 39 - { كلا إنا خلقناهم مما يعلمون } أي من القذر الذين يعلمون به فلا ينبغي لهم هذا التكبر وقيل المعنى : إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو امتثال الأمر والنهي وتعريض للثواب والعقاب كما في قوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ومنه قول الأعشى :
( ءأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن يزارا )
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن الهلوع فقال هو كما قال الله : { إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا } وأخرج ابن المنذر عنه { هلوعا } قال : الشره وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود { الذين هم على صلاتهم دائمون } قال : على مواقيتها وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمران بن حصين { الذين هم على صلاتهم دائمون } قال : الذي لا يلتفت في صلاته وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عقبة بن عامر { الذين هم على صلاتهم دائمون } قال : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا وأخرج ابن المنذر من طريق أخرى عنه نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } قال : ينظرون { عن اليمين وعن الشمال عزين } قال : العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد ونحن حلق متفرقون فقال : مالي أراكم عزين وأخرج أحمد وابن ماجه وابن سعد وابن أبي عاصم والباوردي وابن قانع والحاكم والبيهقي في الشعب والضياء عن بشر بن جحاش قال : [ قرأ رسول
الله صلى الله عليه و سلم : { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } إلى قوله : { كلا إنا خلقناهم مما يعلمون } ثم بزق رسول الله صلى الله عليه و سلم على كفه ووضع عليها أصبعه وقال : يقول الله ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أو أتى أوان الصدقة ] (5/411)
قوله : 40 - { فلا أقسم } لا زائدة كما تقدم قريبا والمعنى : فأقسم { برب المشارق والمغارب } يعني مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه قرأ الجمهور { المشارق والمغارب } بالجمع وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد بالإفراد (5/412)
41 - { إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم } أي على أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله حين عصوه ونهلك هؤلاء { وما نحن بمسبوقين } أي بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر ولكن مشيئتنا وسابق علمنا اقتضينا تأخير عقوبة هؤلاء وعدم تبديلهم بخلق آخر (5/412)
42 - { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم واشتغل بما أمرت به ولا يعظمن عليك ما هم فيه فليس عليك إلا البلاغ { حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } وهو يوم القيامة وهذه الآية منسوخة بآية السيف قرأ الجمهور { يلاقوا } وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وحميد ومجاهد { حتى يلاقوا } (5/413)
43 - { يوم يخرجون من الأجداث سراعا } يوم بدل من يومهم وسراعا منتصب على الحال من ضمير يخرجون قرأ الجمهور { يخرجون } على البناء للفاعل وقرأ السلمي والأعمش والمغيرة وعاصم في رواية على البناء للمفعول والأجداث جمع جدث وهو القبر { كأنهم إلى نصب يوفضون } قرأ الجمهور { نصب } بفتح النون وسكون الصاد وقرأ ابن عامر وحلص بضم النون والصاد وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء بضم النون وإسكان الصاد قال في الصحاح : والنصب ما نصب فعبد من دون الله وكذا النصب بالضم وقد يحرك قال الأعشى :
( وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا )
والجمع الأنصاب وقال الأخفش والفراء : النصب جمع النصب مثل رهن ورهن والأنصاب جمع النصب فهو جمع الجمع وقيل النصب جمع نصاب وهو حجر أو صنم يذبح عليه ومنه قوله - وما ذبح على النصب - وقال النحاس : نصب ونصب بمعنى واحد وقيل معنى { إلى نصب } إلى غاية وهي التي تنصب إليها بصرك وقال الكلبي : إلى شيء منصوب علم أو راية : أي كأنهم إلى علم يدعون إليه أو راية تنصب لهم يوفضون قال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا الصيد فيها مخافة انفلاته ومعنى يوفضون : يسرعون والإيفاض الإسراع يقال أوفض إيفاضا : أي أسرع إسراعا ومنه قول الشاعر :
( فوارس ذبيان تحت الحديد ... كالجن يوفض من عبقر )
وعبقر : قرية من قرى الجن كما تزعم العرب ومنه قول لبيد :
( كهول وشبان كجنة عبقر ) (5/413)
وانتصاب 44 - { خاشعة أبصارهم } على الحال من ضمير يوفضون وأبصارهم مرتفة به والخشوع الذلة والخضوع : أي لا يرفعونها لما يتوقعونه من العذاب { ترهقهم ذلة } أي تغشاهم ذلة شديدة قال قتادة : هي سواد الوجوه ومنه غلام مراهق : إذا غشيه الاحتلام يقال رهقه بالكسر يرهقه رهقا : أي غشيه ومثل هذا قوله : { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم ذكره وهو مبتدأ وخبره { اليوم الذي كانوا يوعدون } أي الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل قد حاق بهم وحضر ووقع بهم من عذابه ما وعدهم الله به وإن كان مستقبلا فهو في حكم الذي قد وقع لتحقق وقوعه
وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فلا أقسم برب المشارق والمغارب } قال : للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه ومغرب تغرب فيه غير مطلعها بالأمس وغير مغربها بالأمس وأخرج ابن جرير عنه { إلى نصب يوفضون } قال : إلى علم يستبقون (5/414)
هي تسع وعشرون آية أو ثمان وعشرون آية وهي مكية
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت سورة { إنا أرسلنا نوحا } بمكة
قوله : { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } قد تقدم أن نوحا أول رسول أرسله الله وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنون بن قينان بن شيث بن آدم وقد تقدم مدة لبثه في قومه وبيان جميع عمره وبيان السن التس أرسل وهو فيها في سورة العنكبوت { أن أنذر قومك } أي بأن أنذر على أنها مصدرية ويجوز أن تكون هي المفسرة لأن في الإرسال معنى القول وقرأ ابن مسعود أنذر بدون أن وذلك على تقدير القول : أي : فقلنا له أنذر { من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } أي عذاب شديد الألم وهو عذاب النار وقال الكلبي : هو ما نزل بهم من الطوفان (5/414)
وجملة 2 - { قال يا قوم إني لكم نذير مبين } مستأنفة استئنافا بيانيا على تقدير سؤال كأنه قيل : فماذا قال نوح ؟ فقال : قال لهم الخ والمعنى : إني لكم منذر من عقاب الله ومخوف لكم ومبين لما فيه نجاتكم (5/415)
3 - { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } أن هي التفسيرية لنذير أو هي المصدرية : أي بأن اعتبدوا لله ولا تشركوا به غيره واتقوه : أي اجتنبوا ما يوقعكم في عذابه وأطيعون فيما آمركم به فإني رسول إليكم من عند الله (5/415)
4 - { يغفر لكم من ذنوبكم } هذا جواب الأمر ومن للتبعيض : أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته وقال السدي : المعنى يغفر لكم ذنوبكم فتكون من على هذا زائدة وقيل المراد بالبعض ما لا يتعلق بحقوق العباد وقيل هي لبيان الجنس وقيل يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها { ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي يؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدره الله لكم بشرط الإيمان والطاعة فوق ما قدره لكم على تقدير بقائكم على الكفر والعصيان وقيل التأخير بمعنى البركة في أعمارهم إن آمنوا وعدم البركة فيها إن لم يؤمنوا قال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى آجالكم وقال الزجاج : أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير ميتة المستأصلين بالعذاب وقال الفراء : المعنى لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } أي ما قدره لكم على تقدير بقائكم على الكفر من العذاب إذا جاء وأنتم باقون على الكفر لا يؤخر بل يقع لا محالة فبادروا إلى الإيمان والطاعة وقيل المعنى : إن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان وقيل المعنى : إذا جاء الموت لا يؤخر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب { لو كنتم تعلمون } أي شيئا من العلم لسارعتم إلى ما أمرتكم به أو لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر (5/415)
5 - { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا } أي قال نوح مناديا لربه وحاكيا له ما جرى بينه وبين قومه وهو أعلم به منه إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان دعاء دائما في الليل والنهار من غير تقصير (5/416)
6 - { فلم يزدهم دعائي إلا فرارا } عما دعوتهم إليه وبعدا عنه قال مقاتل : يعني تباعدا من الإيمان وإسناد الزيادة إلى الدعاء لكونه سببها كما في قوله : { زادتهم إيمانا } قرأ الجمهور { دعائي } بفتح الياء وقرأ الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو بإسكانها والاستثناء مفرغ (5/416)
7 - { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } أي كلما دعوتهم إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بك والطاعة لك { جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا صوتي { واستغشوا ثيابهم } أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني وقيل جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سد الآذان وقيل هو كناية عن العداوة يقال لبس فلان ثياب العداوة وقيل استغشوا ثيابهم لئلا يعرفهم فيدعوهم { وأصروا } أي استرموا على الكفر ولم يقلعوا عنه ولا تابوا عنه { واستكبروا } عن قبول الحق وعن امتثال ما أمرهم به { استكبارا } شديدا (5/416)
8 - { ثم إني دعوتهم جهارا } أي مظهرا لهم الدعوة مجاهرا لهم بها (5/416)
9 - { ثم إني أعلنت لهم } أي دعوتهم معلنا لهم بالدعاء { وأسررت لهم إسرارا } أي وأسررت لهم الدعوة إسرارا كثيرا قيل المعنى : أن يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سرا فيما بينه وبينه والمقصود أنه دعاهم على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة فلم ينجع ذلك فيهم قال مجاهد : معنى أعلنت صحت وقيل معنى أسررت : أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها وانتصاب جهارا على المصدرية لأن الدعاء يكون جهارا ويكون غير جهار فالجهار نوح من الدعاء كقولهم : قعد القرفصاء ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف : أي دعاء جهارا وأن يكون مصدرا في موضع الحال : أي مجاهرا ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بين الأمرين أغلط من أحدهما قرأ الجمهور { إني } بسكون الياء وقرأ أبو عمرو والحرميون بفتحها (5/416)
10 - { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا } أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السابقة بإخلاص النية { إنه كان غفارا } أي كثير المغفرة للمذنبين وقيل معنى استغفروا : توبوا عن الكفر إنه كان غفارا للتائبين (5/417)
11 - { يرسل السماء عليكم مدرارا } أي يرسل ماء السماء عليكم ففيه إضمار وقيل المراد بالسماء المطر كما في قول الشاعر :
( إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا )
والمدرار : الدرور وهو التحلب بالمطر وانتصابه إما على الحال من السماء ولم يؤنث لأن مفعالا لا يؤنث تقول امرأة مئناث ومذكار أو على أنه نعت لمصدر محذوف : أي إرسالا مدرارا وقد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام وجزم يرسل لكونه جواب الأمر (5/417)
وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق ولهذا قال : 12 - { ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات } يعني بساتين { ويجعل لكم أنهارا } جارية قال عطاء : المعنى يكثر أموالكم وأولادكم أعلمهم نوح عليه السلام أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا (5/417)
13 - { ما لكم لا ترجون لله وقارا } أي أي عذر لكم في ترك الرجاء والرجاء هنا بمعنى الخوف : أي مال لكم لا تخافون الله والوقار العظمة من التوقير وهو التعظيم والمعنى لا تخافون حق عظمته فتوحدونه وتطيعونه و { لا ترجون } في محل نصب على الحال من ضمير المخاطبين والعامل فيه معنى الاستقرار في لكم ومن إطلاق الرجاء على الخوف قول الهذلي :
( إذا لسعته النحل لم يرج لسعها )
وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون منه عقابا وقال مجاهد والضحاك : ما لكم لا تبالون لله عظمة قال قطرب : هذه لغة حجازية وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج لم أبل وقال قتادة : ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان وقال ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا وقال ابن زيد : ما لكم لا تؤدون لله طاعة وقال الحسن : ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة (5/417)
وجملة 14 - { وقد خلقكم أطوارا } في محل نصب على الحال : أي والحال أنه سبحانه قد خلقكم على أطوار مختلفة : نطفة ثم مضغة ثم علقة إلى تمام الخلق كما تقدم بيانه في سورة المؤمنين والطور في اللغة المرة وقال ابن الأنباري : الطور الحال وجمعه أطوار وقيل أطوارا صبيانا ثم شبانا ثم شيوخا وقيل الأطوال اختلافهم في الأفعال والأوقال والأخلاق والمعنى : كيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة (5/418)
15 - { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا } الخطاب لمن يصلح له والمراد الاستدلال بخلق السموات على كمال قدرته وبديع صنعه وأنه الحقيق بالعبادة : والطباق المتطابقة بعضها فوق بعض كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب قال الحسن : خلق الله سبع سموات على سبع أرضين بين كل سماء وسماء وأرض وأرض خلق وأمر وقد تقدم تحقيق هذا في قوله : { ومن الأرض مثلهن } وانتصاب طباقا على المصدرية تقول طباقه مطابقة وطباقا أو حال بمعنى ذات طباق فحذفت ذات وأقام طباقا مقامه وأجاز الفراء في غير القرآن جر طباقا على النعت (5/418)
16 - { وجعل القمر فيهن نورا } أي منورا لوجه الأرض وجعل القمر في السموات مع كونها في سماء الدنيا لأنها إذا كانت في إحداهن فهي فيهن كذا قال ابن كيسان قال الأخفش : كما تقول أتاني بنو تميم والمراد بعضهم وقال قطرب فيهن بمعنى معهن : أي خلق القمر والشمس مع خلق السموات والأرض كما في قول امرئ القيس :
( وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال )
أي مع ثلاثة أحوال { وجعل الشمس سراجا } أي كالمصباح لأهل الأرض ليتواصلوا بذلك إلى التصرف فيما يحتاجون إليه من المعاش (5/418)
17 - { والله أنبتكم من الأرض نباتا } يعني آدم خلقه الله من أديم الأرض والمعنى : أنشأكم منها إنشاء فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين ونباتا إما مصدر لأنبت على حذف الزوائد أو مصدر لفعل محذوف : أي أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا وقال الخليل والزجاج : هو مصدر لفعل محذوف : أي أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا وقال الخليل والزجاج : هو مصدر محمول على المعنى لأن معنى أنبتكم : جعلكم تنبتون نباتا وقيل المعنى : والله أنبت لكم من الأرض النبات فنباتا على هذا مفعول به قال ابن بحر : أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر (5/418)
18 - { ثم يعيدكم فيها } أي في الأرض { ويخرجكم إخراجا } يعني يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة (5/418)
19 - { والله جعل لكم الأرض بساطا } أي فرشها وبسطها لكم تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم (5/419)
20 - { لتسلكوا منها سبلا فجاجا } أي طرقا واسعة والفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع كذا قال الفراء وغيره وقيل الفج : المسلك بين الجبلين وقد مضى تحقيق هذا في سورة الأنبياء وفي سورة الحج مستوفى
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { جعلوا أصابعهم في آذانهم } قال : لئلا يسمعوا ما يقول { واستغشوا ثيابهم } قال : ليتنكروا فلا يعرفهم { واستكبروا استكبارا } قال : تركوا التوبة وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه { واستغشوا ثيابهم } قال : غطوا وجوههم لئلا يروا نوحا ولا يسمعوا كلامه وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب عنه أيضا في قوله : { ما لكم لا ترجون لله وقارا } قال : لا تعلمون لله عظمة وأخرج ابن جرير والبيهقي عنه أيضا { وقارا } قال عظمة وفي قوله : { وقد خلقكم أطوارا } قال : نطفة ثم علقة ثم مضغة وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : لا تخشون له عقابا ولا ترجون له ثوابا وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن علي بن أبي طالب [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى ناسا يغتسلون عراة ليس عليهم أزر فوقف فنادى بأعلى صوته { ما لكم لا ترجون لله وقارا } ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمرو قال : الشمس والقمر وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض وأنا أقرأ بذلك عليكم أن من كتاب الله { وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمر قال : تضيء لأهل السموات كما تضيء لأهل الأرض وأخرج عبد بن حميد عن شهر بن حوشب قال : احتمع عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وقد كان بينهما بعض العتب فتعاتبا فذهب ذلك فقال عبد الله بن عمرو لكعب : سلني عما شئت فلا تسألني عن شيء إلا أخبرتك بتصديق قولي من القرآن فقال له : أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السموات السبع كما هو في الأرض ؟ قال نعم : ألم تروا إلى قول الله : { خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه عن ابن عباس { وجعل القمر فيهن نورا } قال : وجهه في السماء إلى العرش وقفاه إلى الأرض وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه { وجعل القمر فيهن نورا } قال : خلق حين خلقهن ضياء لأهل الأرض وليس في السماء من ضوئه شيء وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { سبلا فجاجا } قال : طرقا مختلفة (5/419)
قوله : 21 - { قال نوح رب إنهم عصوني } أي استمروا على عصياني ولم يجيبوا دعوتي شكاهم إلى الله عز و جل وأخره بأنهم عصوه ولم يتبعوه وهو أعلم بذلك { واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا } أي اتبع الأصاغر رؤساءهم وأهل الثروة منهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة قول أهل المدينة والشام وعاصم { وولده } بفتح الواو واللام وقرأ الباقون بسكون اللام وهي لغة في الولد ويجوز أن يكون جمعا وقد تقدم تحقيقه ومعنى واتبعوا : أنهم استمروا على اتباعهم لا أنهم أحدثوا الاتباع (5/420)
22 - { ومكروا مكرا كبارا } أي مكرا كبيرا عظيما يقال : كبير وكبار وكبار مثل عجيب وعجاب وعجاب وجميل وجمال وجمال قال المبرد : كبارا بالتشديد للمبالغة ومثل كبارا قراء لكثير القراءة وأنشد ابن السكيت :
( بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القراء )
قرأ الجمهور { كبارا } بالتشديد وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد بالتخفيف قال أبو بكر : هو جمع كبير كأنه جعل مكرا مكان ذنوب أو أفاعيل فلذلك وصفه بالجمع وقال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية
واختلف في مكرهم هذا ما هو ؟ فقيل هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح وقيل هو تغريرهم على الناس بما أوتوا من المال والولد حتى قال الضعفة : لولا على الحق لما أوتوا هذه النعم وقال الكلبي : هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم لا تذرن آلهتكم وقيل مكرهم كفرهم (5/420)
23 - { وقالوا لا تذرن آلهتكم } أي لا تتركوا عبادة آلهتكم وهي الأصنام والصور التي كانت لهم ثم عبدتها العرب من بعدهم وبهذا قال الجمهور { ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } أي لا تتركوا عبادة هذه قال محمد بن كعب : هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة فقال لهم إبليس : لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأسوق إلى العبادة ففعلوا ثم نشأ قوم من بعدهم فقال لهم إبليس : إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت وسميت هذه الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم وقال عروة بن الزبير وغيره : إن هذه كانت أسماء لأولاد آدم وكان ود أكبرهم قال الماوردي : فأما ود فهو أو صنم معبود سمي ودا لودهم له وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل وفيه يقول شاعرهم :
( حياك ود فإن لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد غربا )
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة وقال المهدوي : لمراد ثم لغطفان وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة وعكرمة وعطاء وقال الثعلبي : كان لكهلان بن سبأ ثم توارثه حتى صار في همدان وفيه يقول مالك بن نمد الهمداني :
( يريش الله في الدنيا ويبري ... ولا يبري يعوق ولا يريش )
وأما نسر فكان لدي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل قرأ الجمهور { ودا } بفتح الواو وقرأ نافع بضمها قال الليث : ود بضم الواو صنم لقريش وبفتحها صنم كان لقوم نوح وبه سمي عمرو بن ود قال في الصحاح والود بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال وقرأ الجمهور ولا يغوث و [ يعقوق ] بغير تنوين فإن كانا عربيين فالمنع من الصرف للعملية ووزن الفعل وإن كانا عجميين فللعجمة والعلمية وقرأ الأعمش ولا يغوثا ويعوقا بالصرف قال ابن عطية : وذلك وهم ووجه تخصيص هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الآلهة لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها (5/421)
24 - { وقد أضلوا كثيرا } أي أضل كبراؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الناس وقيل الضمير راجع إلى الأصنام : أي ضل بسببها كثير من الناس كقول إبراهيم : { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } وأجري عليهم ضمير من يعقل لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل { ولا تزد الظالمين إلا ضلالا } معطوف على { رب إنهم عصوني } ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم وقال أبو حيان : إنه معطوف على قد أضلوا ومعنى الإضلالا : إلا عذابا : كذا قال ابن بحر واستدل على ذلك بقوله : { إن المجرمين في ضلال وسعر } وقيل إلا خسرانا وقيل إلا فتنة بالمال والولد وقيل الضياع وقيل ضلالا في مكرهم (5/422)
25 - { مما خطيئاتهم أغرقوا } ما مزيدة للتأكيد والمعنى : من خطيئاتهم : أي من أجلها وبسببها أغرقوا بالطوفان { فأدخلوا نارا } عقب ذلك وهي نار الآخرة وقيل عذاب القبر قرأ الجمهور { خطيئاتهم } على جمع السلامة وقرأ أبو عمرو { خطاياهم } على جمع التكسير وقرأ الجحدري وعمرو بن عبيد والأعمش وأبو حيوة وأشهب العقيلي خطيئتهم على الإفراد قال الضحاك عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في حالة واحدة كانوا يغرقون في جانت ويحترقون في جانب قرأ الجمهور { أغرقوا } من أغرق وقرأ زيد بن علي غرقوا بالتشديد { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } أي لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم (5/422)
26 - { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } معطوف على { قال نوح رب إنهم عصوني } لما أيس نوح عليه السلام من إيمانهم وإقلاعهم عن الكفر دعا عليهم بالهلاك قال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى إليه { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } فأجاب الله دعوته فأجاب الله دعوته وأغرقهم وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع بن أنس وابن زيد وعطية : إنما قال هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنة وقيل بأربعين قال قتادة : لم يكن فيهم صبي وقت العذاب وقال الحسن وأبو العالي : لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم ولكن أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب ثم أهلكهم بالعذاب ومعنى ديارا : من يسكن الديار وأصله ديوار على فيعال من دار يدور فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى مثل القيام أصله قيوام وقال القتيبي : أصله من الدار : أي نازل بالدار يقال ما بالدار ديار : أي أحد وقيل الديار : صاحب الديار والمعنى : لا تدع أحدا منهم إلا أهلكته (5/422)
27 - { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك } أي إن تتركهم على الأرض يضلوا عبادك عن طريق الحق { ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } أي إلا فاجرا بترك طاعتك كفارا لنعمتك : أي كثير الكفران لها والمعنى : إلا من سيفجر ويكفر (5/422)
ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه ووالديه والمؤمنين فقال : 28 - { رب اغفر لي ولوالدي } وكانا مؤمنين وأبوه لامك بن متوشلخ كما تقدم وأمه سمحاء بنت أنوش وقيل أراد آدم وحواء وقال سعيد بن جبير : أراد بوالديه أباه وجده وقرأ سعيد بن جبير ولوالدي بكسر الدال على الأفراد { ولمن دخل بيتي } قال الضحاك والكلبي : يعني مسجده وقيل منزله الذي هو ساكن فيه وقيل سفينته وقيل لمن دخل في دينه وانتصاب { مؤمنا } على الحال : أي لمن دخل بيتي متصفا بصفة الإيمان فيخرج من دخله غير متصف بهذه الصفة كامرأته وولده الذي قال : { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } ثم عمم الدعوة فقال : { وللمؤمنين والمؤمنات } أي واغفر لكل متصف بالإيمان من الذكور والإناث ثم عاد إلى الدعاء على الكافرين فقال : { ولا تزد الظالمين إلا تبارا } أي لا تزد المتصفين بالظلم إلا هلاكا وخسرانا ودمارا وقد شمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال : هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح وأخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عنه قال : صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت (5/423)
هي ثمان وعشرون آية
وهي مكية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الجن بمكة وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله
قوله : 1 - { قل أوحي إلي } قرأ الجمهور { أوحي } رباعيا وقرأ ابن أبي عبلة وابن إياس والعتكي عن أبي عمرو وحي ثلاثيا وهما لغتان واختلاف هل رآهم النبي صلى الله عليه و سلم أم لم يرهم ؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم لأن المعنى : قل يا محمد لأمتك أوحي إلي على لسان جبريل { أنه استمع نفر من الجن } ومثله قوله : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن } ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على الجن وما رآهم قال عكرمة : والسورة التي كان يقرأها رسول الله صلى الله عليه و سلم هي { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وقد تقدم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا قوله : { أنه استمع نفر من الجن } هذا هو القائم مقام الفاعل ولهذا فتحت أن والضمير للشأن وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجار والمجرور والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة قال الضحاك : والجن ولد الجان وليسوا شياطين وقال الحسن : إنهم ولد إبليس قيل هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النازية والهوائية وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها
وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجن الجنة كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك : { وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير } وقول الجن فيما سيأتي في هذه السورة { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } وغير ذلك من الآيات فقال الحسن : يدخلون الجنة وقال مجاهد : لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار والأول أولى لقوله في سورة الجن : { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } وفي سورة الرحمن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها وقد قدمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلا منهم بل الرسل جميعا من الإنس وإن أشعر قوله : { ألم يأتكم رسل منكم } بخلاف هذا فهو مدفوع الظاهر بأيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل من بني آدم وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول والمراد الإشارة بأخصر عبارة { فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا } أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم : أي سمعنا كلام مقروءا عجبا في فصاحته وبلاغته وقيل عجبا في مواعظه وقيل في بركته وعجبا مصدر وصف به للمبالغة أو على حذف المضاف : أي ذا عجب أو المصدر بمعنى اسم الفاعل : أي معجبا (5/423)
2 - { يهدي إلى الرشد } أي إلى مراشد الأمور وهي الحق والصواب وقيل إلى معرفة الله والجملة صفة أخرى للقرآن { فآمنا به } أي صدثنا به بأنه من عند الله { ولن نشرك بربنا أحدا } من خلقه ولا نتخذ معه إلها آخر لأنه المتفرد بالربوية وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجن بسماع القرآن مرة واحدة وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به ولم ينتفع كفار الإنس لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعه مرات متعددة وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلسانهم لا جرم صرعهم الله أذل مصرع وقتلهم أقبح مقتل ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون (5/425)
3 - { وأنه تعالى جد ربنا } قرأة حمزة والكسائي وابن عامر وحفص وعلقمة ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف والسلمي { وأنه تعالى } بفتح أن وكذا قرأوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها وذلك أحد عشر موضوعا إلى قوله : { وأنه لما قام عبد الله } وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلا في قوله : { وأن المساجد لله } فإنهم اتفقوا على الفتح أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع فعلى العطف على محل الجار والمجرور في { فآمنا به } كأنه قيل فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا الخ وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على إنا سمعنا : فقالوا : إنا سمعنا قرآنا وقالوا إنه تعالى جد ربنا إلى آخره واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة الكسر لأنه كله من كلام الجن ومما هو محكي عنهم بقوله { فقالوا إنا سمعنا } وقرأ أبو جعفر وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع وهي { وأنه تعالى جد ربنا } (5/426)
4 - { وأنه كان يقول سفيهنا } { وأنه كان رجال من الإنس } قالا : لأنه من الوحي وكسرا ما بقي لأنه من كلام الجن وقرأ الجمهور { وأنه لما قام عبد الله } بالفتح لأنه معطوف على قوله : أنه استمع وقرأ نافع وابن عامر وشيبة وزر بن حبيش وأبو بكر والمفضل عن عاصم بالكسر في هذا الموضع عطفا على { فآمنا به } بذلك التقدير السابق واتفقوا على الفتح في { أنه استمع } كما اتفقوا على الفتح في { أن المساجد } وفي { وألو استقاموا } واتفقوا على الكسر في { فقالوا إنا سمعنا } و { قل إنما أدعو ربي } و { قل إن أدري } و { قل إني لا أملك لكم } والجد عند أهل اللغة العظمة والجلال يقال جد في عيني : أي عظم فالمعنى : ارتفع عظمة ربنا وجلاله وبه قال عكرمة ومجاهد وقال الحسن : المراد تعالى غناه ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود : أي محفوظ وفي الحديث [ ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] قال أبو عبيد والخليل : أي لا ينفع ذا الغنى منك الغنى : أي إنما تنفعه الطاعة وقال القرطبي والضحاك : جده آلاؤه ونعمه على خلقه وقال أبو عبيدة والأخفش : ملكه وسلطانه وقال السدي : أمره وقال سعيد بن جبير { وأنه تعالى جد ربنا } أي تعالى ربنا وقيل جده قدرته وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع بن أنس : ليس لله جد وإنما قالته الجن للجهالة قرأ الجمهور { جد } بفتح الجيم وقرأ عكرمة وأبو حيوة ومحمد بن السميفع بكسر الجيم وهو ضد الهزل وقرأ أبو الأشهب جدي ربنا أي جدواه ومنفعته وروي عن عكرمة أيضا أنه قرأ بتنوين جد ورفع ربنا على أنه بدل من جد { ما اتخذ صاحبة ولا ولدا } هذا بيان لتعالي جده سبحانه قال الزجاج : تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله الصحابة والولد ونزهوا الله سبحانه عنهما { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا } الضمير في أنه للحديث أو الأمر وسفيهنا يجوز أن يكون اسم كان ويقول الخبر ويجوز أن يكون سفيهنا فاعل يقول والجملة خبر كان واسمها ضمير يرجع إلى الحديث أو الأمر ويجوز أن تكون كان زائدة ومرادهم بسفيههم عصاتهم ومشركوهم وقال مجاهد وابن جريح وقتادة : أرادوا به إبليس والشطط : الغلو في الكفر وقال أبو مالك : الجور وقال الكلبي : الكذب وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحد ومنه قول الشاعر :
( بأية حال حكموا فيك فاشتطوا ... وما ذاك إلا حيث يممك الوخط ) (5/426)
5 - { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } أي إنا حسبنا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكا وصاحبة لا وولدا فلذلك صدقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن فعلمنا بطلان قولهم وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق وانتصاب كذبا على أنه مصدر مؤكد ليقول لأن الكذب نوع من القول أو صفة لمصدر محذوف : أي قولا كذبا وقرأ يعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق أن لن تقول من التقول فيكون على هذه القراءة كذبا مفعول به (5/427)
6 - { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } قال الحسن وابن زيد وغيرهما : كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شرها سفهاء قومه فيبيت في جواره حتى يصبح فنزلت هذه الآية قال مقاتل : كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ثم من بني حنيفة ثم فشا ذلك في العرب فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم { فزادوهم رهقا } أي زاد رجال الجن من تعوذ بهم من رجال الإنس رهقا : أي سفها وطغيانا أ تكبرا وعتوا أو زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا بهم من رجال الجن رهقا لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون سدنا الجن والإنس وبالأول قال مجاهد وقتادة وبالثاني قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد والرهق في كلام العرب : الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق : إذا كان كذلك ومنه قوله { ترهقهم ذلة } أي تغشاهم ومنه قول الأعشى :
( لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي عاشق ما لم يصيب رهقا )
يعني إثما وقيل الرهق : الخوف : أي أن الجن زادت الإنس بهذا التعوذ بهم خوفا منهم وقيل كان الرجل من الإنس يقول : أعوذ بفلان من سادات العرب من جن هذا الوادي ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال لا يطلق على الجن فيكون قوله برجال وصفا لمن يستعيذون به من رجال الإنس : أي يعوذون بهم من شر الجن فيكون قوله برجال وصفا لمن يستعيذون به من رجال الإنس : أي يعوذون به من شر الجن وهذا فيه بعد وإطلاق لفظ رجال على الجن على تسليم عدم صحته لغة لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاكلة (5/427)
7 - { وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا } هذا من قول الجن للإنس : أي وإن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الإنس أنه لا بعث وقيل المعنى : وإن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن والمعنى : أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون (5/428)
8 - { وأنا لمسنا السماء } هذا من قول الجن أيضا : أي طلبنا خبرا كما به جرت عادتنا { فوجدناها ملئت حرسا } من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع والحرس جمع حارس و { شديدا } صفة لحرسا : أي قويا { وشهبا } جمع شهاب وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب كما تقدم بيانه في تفسير قوله : { وجعلناها رجوما للشياطين } ومحل قوله : { ملئت حرسا شديدا } النصب على أنه ثاني مفعولي وجدنا لأنه يتعدى إلى مفعولين ويجوز أن يكون متعديا إلى مفعول واحد فيكون محل الجملة النصب على الحال بتقدير قد وحرسا منصوب على التمييز ووصفه بالمفرد اعتبارا باللفظ كما يقال السلف الصالح : أي الصالحين (5/428)
9 - { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } أي وأنا مقاعد كائنة للسمع والمقاعد جمع مقعد اسم مكان وذلك أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقونها إلى الكهنة فحرسها الله سبحانه ببعثه رسوله صلى الله عليه و سلم بالشهب المحرقة وهو معنى قوله : { فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } أي أرصد له ليرمي به أو لأجله لمنعه من السماع وقوله : الآن هو ظرف للحال واستعير للاستقبال وانتصاب رصدا على أنه صفة لشهابا أو مفعول له وهو مفرد ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس
وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمي بالشهاب قبل المبعث أم لا ؟ فقال قوم : لم يكن ذلك وحكى الواحدي عن معمر قال : قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال نعم قلت : أفرأيت قوله : { وأنا كنا نقعد منها } الآية قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه و سلم قال ابن قتيبة : إن الرجم قد كان قبل مبعثه ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه وكانوا يسترقون في بعض الأحوال فلما بعث منعوا من ذلك أصلا وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد فلما بعث محمد صلى الله عليه و سلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب ومنعت من الدنو إلى السماء وقال نافع بن جبير : كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رميت بالشهب وقد تقدم البحث عن هذا (5/428)
10 - { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } أي لا ندري أشر أريد بأهل الأرض بسبب هذه الحراسة للسماء أم أراد بهم ربهم رشدا : أي خيرا قال ابن زيد : قال إبليس : لا ندري أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا وارتفاع أشر على الاشتغال أو على الابتداء وخيره ما بعده والأول أولى والجملة سادة مسد مفعولي ندري والأولى أن هذا من قول الجن فيما بينهم (5/429)
وليس من قول إبليس كما قال ابن زيد : 11 - { وأنا منا الصالحون } أي قال بعض لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم : وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الموصوفون بالصلاح { ومنا دون ذلك } أي قوم دون ذلك : أي دون الموصوفين بالصلاح وقيل أراد بالصالحون المؤمنين وبمن هم دون ذلك الكافرين والأول أولى ومعنى { كنا طرائق قددا } أي جماعات متفرقة وأصنافا مختلفة والقدة : القطعة من الشيء وصار القوم قددا : إذا تفرقت أحوالهم ومنه قول الشاعر :
( القابض الباسط الهادي لطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد )
والمعنى : كنا ذوي طرائق قددا أو كانت طرئقنا طرائق قددا أو كنا مثل طارئق قددا ومن هذا قول لبيد :
( لم تبلغ العين كل نهمتها ... يوم تمشي الجياد بالقدد )
وقوله أيضا :
( ولقد ... قلت وزيد حاسر يوم ولت خيل عمرو قددا )
قال السدي والضحاك : أديانا مختلفة وقال قتادة : أهواء متباينة وقال سعيد بن المسيب : كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس وكذا قال مجاهد قال الحسن : الجن أمثالكم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة وكذا قال السدي
أأأ (5/429)
12 - { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } الظن هنا بمعنى العلم واليقين : أي وإنا علمنا أن الشأن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا فيها ولن نفوته إن أراد بنا أمرا { ولن نعجزه هربا } أي هاربين منها فهو مصدر في موضع الحال (5/429)
13 - { وأنا لما سمعنا الهدى } يعنون القرآن { آمنا به } وصدقنا أنه من عند الله ولم نكذب به كما كذبت به كفرة الإنس { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } أي لا يخاف نقصا في عمله وثوابه ولا ظلما ومكروها يغشاه والبخس النقصان والرهق العدوان والظغيان والمعنى : لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته وقد تقدم تحقيق الرهق قريبا قرأ الجمهور { بخسا } بسكون الخاء وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش فلا يخف جزما على جواب الشرط ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء والتقدير : فهو لا يخاف والأمر ظاهر
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال : انطلق النبي صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : مالكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتعرفوا ما هذا الأمر الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فناك حين رجعوا إلى قومهم { فقالوا } يا قومنا { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه و سلم { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } وإنما أوحي إليه قول الجن وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } قال : كانوا من جن نصيبين وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وأنه تعالى جد ربنا } قال : آلاؤه وعظمته وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : أمره وقدرته وأخرج ابن مردويه والديلمي قال السيوطي بسند واه عن أبي موسى الأشعري مرفوعا في قوله : { وأنه كان يقول سفيهنا } قال : إبليس وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن عكرمة بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي أنا جارك فنادى مناد يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم وأنزل الله على رسوله بمكة { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } الآية وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فزادوهم رهقا } قال : إثما وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه فلا يكون بشيء أشد ولعا منهم بهم ذلك قوله : { فزادوهم رهقا } وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا فأما الكلمة فتكون حقا وأما ما زادوا فيكون باطلا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم : ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما يصلي بين جبلين بمكة فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحدث الذي حدث في الارض وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } يقول : منا المسلم ومنا المشرك و { كنا طرائق قددا } أهواء شتى وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { فلا يخاف بخسا ولا رهقا } قال : لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته (5/429)
قوله : 14 - { وأنا منا المسلمون } هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه و سلم { ومنا القاسطون } أي الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق ومالوا إلى طريق الباطل يقال قسط : إذا جار وأقسط : إذا عدل { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } أي قصدوا طريق الحق قال الفراء : أموا الهدى (5/432)
15 - { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } أي وقودا للنار توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس (5/432)
16 - { وألو استقاموا على الطريقة } هذا ليس من قول الجن بل هو معطوف على { أنه استمع نفر من الجن } والمعنى : وأوحى إلي أن الشأن لو استقام الجن أو الإنس أو كلاهما على الطريقة وهي طريقة الإسلام وقد قدمنا أن القراءة اتفقوا على فتح أن ههنا قال ابن الأنباري : والفتح هنا على إضمار يمين تأويلها والله أن لو استقاموا علىالطريقة كما فعل يقال في الكلام والله لو قمت لقمت كما في قول الشاعر :
( أما والله أن لو كنت حرا ... ولا بالحر أنت ولا العتيق )
قال : أو على { أوحي إلي أنه استمع } { وألو استقاموا } أو على { آمنا به } : أي آمنا به وبأن لو استقاموا قرأ الجمهور بكسر الواو من لو لالتقاء الساكنين وقرأ ابن وثاب والأعمش بضمها { لأسقيناهم ماء غدقا } أي كثيرا واسعا قال مقاتل : ماء كثيرا من السماء وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين وقال ابن قتيبة : المعنى لو آمنوا جميعا لوسعنا عليهم في الدنيا وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير كله والرزق بالمطر وهذا كقوله : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا } الآية وقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } وقوله : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين } الآية وقيل المعنى : وأن لو استقام أوبهم على عبادته وسجد لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم واختار هذا الزجاج والماء الغدق : هو الكثير في لغة العرب (5/432)
17 - { لنفتنهم فيه } أي لنختبرهم فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم وقال الكلبي : المعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لأوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا حتى يفتنوا بها فنعذبهم في الدنيا والآخرة وبه قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والثمالي ويمان بن زيان وابن كيسان وأبو مجلز واستدلوا بقوله : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } وقوله { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة } الآية والأول أولى { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } أي ومن يعرض عن القرآن أو عن العبادة أو عن الموعظة أو عن جميع ذلك يسلكه : أي يدخله عذابا صعدا : أي شاقا صعبا قرأ الجمهور { نسلكه } بالنون مفتوحة وقرأ الكوفيون وأبو عمرو في رواية عنه بالياء التحتية واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : { عن ذكر ربه } ولم يقل عن ذكرنا وقرأ مسلم بن جندب وطلحة بن مصرف والأعرج بضم النون وكسر اللام من أسلكه وقراءة الجمهور من سلكه والصعد في اللغة المشقة تقول تصعد بي الأمر : إذا شق عليك وهو مصدر صعد يقال صعد صعدا وصعودا فوصف به العذاب مبالغة لأنه يتصعد المعذب : أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه قال أبو عبيد : الصعد مصدر : أي عذابا ذا صعد وقال عكرمة : الصعد هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم كما في قوله : { سأرهقه صعودا } والصعود العقبة الكئود (5/432)
18 - { وأن المساجد لله } قد قدمنا اتفاق القراء هنا على الفتح فهو معطوف على أنه استمع : أي وأوحي إلي أن المساجد مختصة بالله وقال الخليل : التقدير ولأن المساجد والمساجد : المواضع التي بنيت للصلاة فيها قال سعيد بن جبير : قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك ؟ فنزلت وقال الحسن : أراد بها كل البقاع لأن الأرض كلها مسجد وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب : أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد وهي القدمان والركبتان واليدان والجبهة يقول هذه أعضاء أنعم الله بها عليك فلا تسجد بها لغيره فتجحد نعمة الله وكذا قال عطاء وقيل المساجد هي الصلاة لأن السجود من جملة أركانها قاله الحسن { فلا تدعو مع الله أحدا } من خلقه كائنا ما كان (5/433)
19 - { وأنه لما قام عبد الله } قد قدمنا أن الجمهور قرأوا هنا بفتح أن عطفا على أنه استمع : أي وأوحى إلي أن الشأن لما قام عبد الله وهو النبي صلى الله عليه و سلم { يدعوه } أي يدعوا الله ويعبده وذلك ببطن نخلة كما تقدم حين قام رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي ويتلوا القرآن وقد قدمنا أيضا قراءة من قرأ بكسر إن هنا وفيها غموض وبعد عن المعنى المراد { كادوا يكونون عليه لبدا } أي كاد الجن يكونون على رسول الله لبدا : أي متراكمين من ازدحامهم عليه لسماع القرآن منه قال الزجاج : ومعنى لبدا : يركب بعضهم بعضا ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش قرأ الجمهور { لبدا } بكسر اللام وفتح الباء وقرأ مجاهد وابن محيصن وهشام بضم اللام وفتح الباء وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع والعقيلي والجحدري بضم الباء واللام وقرأ الحسن وأبو العالية والأعرج بضم اللام وتشديد الباء مفتوحة فعلى القراءة الأولى المعنى ما ذكرناه وعلى قراءة ضم اللام يكون المعنى كثيرا كما في قوله : { أهلكت مالا لبدا } وقيل المعنى : كاد المشركون يركب بعضهم بعضا حردا على النبي صلى الله عليه و سلم وقال الحسن وقتادة وابن زيد : لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفؤه فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره واختار هذا ابن جرير قال مجاهد لبدا : أي جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي اجتمع ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد ويقال للجراد الكثير لبد ويطلق اللبد بضم اللام وفتح الباء على الشيء الدائم ومنه قيل لنسر لقمان لبد لطول بقائه وهو المقصود بقول النابغة :
( أخنى عليها الذي أخنى على لبد ) (5/433)
20 - { قل إنما أدعو ربي } أي قال عبد الله إنما أدعو ربي وأعبده { ولا أشرك به أحدا } من خلقه قرأ الجمهور { قال } وقرأ عاصم وحمزة { قل } على الأمر وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك (5/434)
21 - { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم خيرا وقيل الضر الكفر والرشد الهدى والأول أولى لوقوع النكرتين في سياق النفي فهما يعمان كل ضرر وكل رشد في الدنيا والدين (5/434)
22 - { قل إني لن يجيرني من الله أحد } أي لا يدفع عني أحد عذابه إن أنزله بي { ولن أجد من دونه ملتحدا } أي ملجأ ومعدلا وحرزا وقال الكلبي : مدخلا في الأرض مثل السرب وقيل مذهبا ومسلكا والمعنى متقارب ومنه قول الشاعر :
( يا لهف نفسي ولهفا غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد ) (5/434)
والاستثناء في قوله : 23 - { إلا بلاغا من الله } هو من قوله لا أملك : أي لا أملك ضرا ولا رشدا إلا التبليغ من الله فإن فيه أعظم الرشد أو من ملتحدا : أي لن أجد من دونه ملجأ إلا التبليغ قال مقاتل : ذلك الذي يجيرني من عذابه وقال قتادة : إلا بلاغا من الله فذلك الذي أملكه بتوفيق الله فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما قال الفراء : لكن أبلغكم ما أرسلت به فهو على هذا منقطع وقال الزجاج : هو منصوب على البدل من قوله ملتحدا أي ولن أجد من دونه ملتحدا إلا أن أبلغ ما يأتي من الله وقوله : { ورسالاته } معطوف على بلاغا : أي إلا بلاغا عن الله وعن رسالاته كذا قال أبو حيان ورجحه { ومن يعص الله ورسوله } في الأمر بالتوحيد لأن السياق فيه { فإن له نار جهنم } قرأ الجمهور بكسر إن على أنها جملة مستأنفة وقرئ بفتح الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء والتقدير فجزاؤه أن له نار جهنم أو فحكمه أن له نار جهنم وانتصاب { خالدين فيها } على الحال : أي في النار أو في جهنم والجمع باعتبار معنى من كما أن التوحيد في قوله فإن له باعتبار لفظها وقوله : { أبدا } تأكيد لمعنى الخلود : أي خالدين فيها بلا نهاية (5/435)
24 - { حتى إذا رأوا ما يوعدون } يعني من العذاب في الدنيا أو في الآخرة والمعنى لا يزالوان على ما هم عليه من الإصرار على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين حتى إذا رأوا الذي يوعدون به { فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا } أي من هو أضعف جندا ينتصر به وأقل عددا أهم أم المؤمنون ؟ (5/435)
25 - { قل إن أدري أقريب ما توعدون } أي ما أدري أقريب حصول ما توعدون من العذاب { أم يجعل له ربي أمدا } أي غاية ومدة أمره الله سبحانه أن يقول لهم هذا القول لما قالوا له متى يكون هذا الذي توعدنا به ؟ قال عطاء : يريد أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله وحده والمعنى أن علم وقت العذاب علم غيب لا يعلمه إلا الله قرأ الجمهور { ربي } بإسكان الياء وقرأ الحرميان وأبو عمرو بفتحها { ومن } في من أضعف موصولة وأضعف خبر مبتدأ محذوف : أي هو أضعف والجملة صلة الموصول ويجوز أن تكون استفهامية مرتفعة على الابتداء وأضعف خبرها والجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي أدري وقوله أقريب خبر مقدم وما توعدون مبتدأ مؤخر (5/435)
26 - { عالم الغيب } قرأ الجمهور بالرفع على أنه بدل من ربي أو بيان له أو خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من عدم الدراية وقرئ بالنصب على المدح وقرأ السري علم الغيب بصيغة الفعل ونصب الغيب والفاء في { فلا يظهر على غيبه أحدا } لترتيب عدم الإظهار على تفرده بعلم الغيب : أي لا يطلع على الغيب الذي يعلمه وهو ما غاب عن العباد أحدا منهم (5/435)
ثم استثنى فقال : 27 - { إلا من ارتضى من رسول } أي إلا من اصطفاه من الرسل أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه ليكون ذلك دالا على نبوته قال القرطبي : قال العلماء : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ثم استثنى من ارتضى من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصا وينظر في الكف ويزجر بالطين ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه وقال سعيد بن جبير : إلا من ارتضى من رسول هو جبريل وفيه بعد وقيل المراد بقوله : إلا من ارتضى من رسول فإنه يطلعه على بعض غيبه وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة وأحكام التكاليف وجزاء الأعمال وما يبينه من أحوال الآخرة لا ما لا يتعلق برسالته من الغيوب كوقت قيام الساعة ونحوه قال الواحدي : وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن قال في الكشاف : وفي هذا إبطال للكرامات لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال للكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه فتحمل على غيب واحد وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله : { أقريب ما توعدون } الآية فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره وكيف لا ؟ وقد قال : { يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } فتعلم الملائكة حينئذ قيام القيامة أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلقه حفظة يحفظونه من شر مردة الجن والإنس ويدل على أنه ليس المراد به لا يطلع أحدا على شيء من المغيبات أنه ثبت كما يقارب التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه و سلم قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات وأيضا أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة ويكون صادقا فيها وأيضا قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالهاظ وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا وأيضا فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة وقد يوجد ذلك في السحرة أيضا وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تختلف ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا انتهى كلامه
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرح به أئمة الأصول وغيرهم وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرد دعوى يأباه النظم القرآني وأما قوله : إن شقا وسطيحا الخ فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان فيخلطون الصدق بالكذب كما ثبت في الحديث الصحيح وفي قوله { إلا من خطف الخطفة } ونحوها من الآيات فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة وأنه كان طريقا لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية وقالوا : { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث [ إن في هذه الأمة محدثين وإن منهم عمر ] فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه فلو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيقال له ما هذه بأول زلة من زلاتك وسقطة من سقطاتك وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك وركض بها الشيطان الذي صار بتخبطك في مباحث تفسيرك يا عجبا لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجبا لتطرق الطعن إلى القرآن وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
( وإذا رامت الذبابة للشمـ ... س غطاء مدت عليها جناحا )
وقلت من أبيات :
( مهب رياح سده بجناح ... وقابل بالمصباح ضوء صباح )
فإن قلت : إذن قد تقرر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته ؟ قلت : نعم ولا مانع من ذلك وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة فمن ذلك ما صح أنه قام مقاما أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة وما ترك شيئا مما يتعلق بالفتن ونحوها حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه وكذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم بما يحدث من الفتن بعده حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة ورجعوا إليه وثبت في الصحيح وغيره [ أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر فقال : إن بينك وبينها بابا فقال عمر : هل يفتح أو يكسر ؟ فقال : بل يكسر فعلم عمر أنه الباب وأن كسره قتله ] كما في الحديث الصحيح المعروف أنه قيل لحذيفة : هل كان عمر يعلم ذلك ؟ فقال : نعم كان يعلم أن دون غد الليلة وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذر بما يحدث له وإخباره لعلي بن أبي طالب بخبر ذي الثدية ونحو هذا مما يكثر تعدده ولو جمع لجاء منه مصنف مستقل وإذا تقرر هذا فلا مانع من أن يختص بعض صلحاء هذه الأمة بشيء من أخبار الغيب التي أظهرها الله لرسوله وأظهرها رسوله لبعض أمته وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل والكل من الفيض الرباني بواسطة الجناب النبوي ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسول فقال : { فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } والجملة تقرير للإظهار المستفاد من الاستثناء والمعنى : أنه يجعل سبحانه بين يدي الروسل ومن خلفه حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين لما أظهره عليه من الغيب أو يجعل بين يدي الوحي وخلفه حرسا من الملائكة يحوطونه من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة والمراد من جميع الجوانب قال الضحاك : ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك قال ابن زيد : رصدا : أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه و سلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين قال قتادة وسعيد بن المسيب : هم أربعة من الملائكة حفظة وقال الفراء : المراد جبريل قال في الصحاح : الرصد القوم يرصدون كالحرس يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والرصد للشيء الراقب له يقال : رصده يرصده رصدا ورصدا والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد (5/436)
28 - { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } اللام متعلق بيسلك والمراد به العلم التعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والخبر الجملة والرسالات عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول وضمير أبلغوا يعود إلى الرصد وقال قتادة ومقاتل : ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة وفيه حذف تتعلق به اللام : أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ وقيل ليعلم محمد أن جبريل ومن معه قد أبلغوا إليه رسالات ربه قاله سعيد بن جبير وقيل ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغو رسالات ربهم وقيل ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم من غير تخليط وقال ابن قتيبة : أي ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم قرأ الجمهور { ليعلم } بفتح التحتية على البناء للفاعل وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب وزيد بن علي بضمها على البناء للمفعول : أي ليعلم الناس أن مشاهدة كما علمه غيبا وقرأ ابن أبي عبلة والزهري بضم الياء وكسر اللام { وأحاط بما لديهم } أي بما عنده الرصد من الملائكة أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يسلك بإضمار قد : أي والحال أنه تعالى قد أحاط بما لديهم من الأحوال قال سعيد بن جبير : ليعلم أن ربهم قد أحاط بما لديهم قبلغوا رسالاته { وأحصى كل شيء عددا } من جميع الأشياء التي كانت والتي ستكون وهو معطوف على أحاط وعددا يجوز أن يكون منتصبا على التمييز محولا من المفعول به : أي وأحصى عدد كل شيء كما في قوله : { وفجرنا الأرض عيونا } ويجوز أن يكون منصوبا على المصدرية أو في موضع الحال : معدودا والمعنى : أنه علمه سبحانه بالأشياء ليس على وجه الإجمال بل على وجه التفصيل : أي أحصى كل فرد من مخلوقاته على حدة
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : { القاسطون } العادلون عن الحق وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { وألو استقاموا على الطريقة } قال : أقاموا ما أمروا به { لأسقيناهم ماء غدقا } قال : معينا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن السدي قال : قال عمر وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه قال : حيثما كان الماء كان المال وحيثما كان المال كانت الفتنة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { لنفتنهم فيه } قال : لنبتليهم به وفي قوله : { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } قال : شقة من العذاب يصعد فيها وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه عنه في قوله : { يسلكه عذابا صعدا } قال : جبلا في جهنم وأخرج ابن جرير عنه أيضا { عذابا صعدا } قال : لا راحة فيه وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وأن المساجد لله } قال : لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا مسجد الحرام ومسجد إيلياء ببيت المقدس وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة فخط لي خطا وقال : لا تحدثن شيئا حتى آتيك ثم قال : لا يهولنك شيئا تراه فتقدم شيئا ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط وكانوا كما قال الله تعالى : { كادوا يكونون عليه لبدا } ] وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : [ لما سمعوا النبي صلى الله عليه و سلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } ] وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا في الآية قال : [ لما أتى الجن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده فعجبوا من طواعية أصحابه فقالوا لقومهم لما قام عبد الله يدعوه : كادوا يكونون عليه لبدا ] وأخرج ابن المنذر عنه أيضا [ لما قام عبد الله يدعوه ] أي يدعو الله وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { كادوا يكونون عليه لبدا } قال : أعوانا وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا { فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول } قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحي إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا { رصدا } قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به وذلك حتى يقول أهل الشرك قد أبلغوا رسالات ربهم وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : ما نزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدوها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قرأ { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } يعني الملائكة الأربعة { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } اهـ (5/438)
هي تسع عشرة آية وقيل عشرون آية
وهي مكية قال الماوردي : كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر قال : وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها { واصبر على ما يقولون } والتي تليها وقال الثعلبي : إلا قوله : { إن ربك يعلم أنك تقوم } إلى آخر السورة فإنه نزل بالمدينة وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت { يا أيها المزمل } بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة المزمل بمكة إلا آيتين { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى } وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال : اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسما تصدون الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا سحار قالوا ليس بساحر فتفرق المشركون على ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل فقال : { يا أيها المزمل } { يا أيها المدثر } قال البزار : بعد إخراجه من طريق معلى بن عبد الرحمن إن معلى قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه لكنه إذا تفرد بالأحاديث لا يتابع عليها وأخرج أبو داود والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال : [ بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه و سلم يصلي من الليل فصلى ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر فحزرت قيامه في كل ركعة بقدر يا أيها المزمل ]
قوله : 1 - { يا أيها المزمل } أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي والتزمل التلفف في الثوب قرأ الجمهور المزمل بالإدغام وقرأ أبي المتزمل على الأصل وقرأ عكرمة بتخفيف الزاي ومثل هذه القراءة قول امرئ القيس :
( كأن ثبيرا في أفانين وبله ... كبير أناس في لحاد مزمل )
وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وقد اختلف في معناه فقال جماعة : إنه كان يتزمل صلى الله عليه و سلم بثيابه في أول ما جاءه جبريل بالوحي فرقا منه حتى أنس به وقيل المعنى : يا أيها المزمل بالنبوة والملتزم للرسالة وبهذا قال عكرمة وكان يقرأ { يا أيها المزمل } بتخفيف الزاي وفتح الميم مشددة اسم مفعول وقيل المعنى : يا أيها المزمل بالقرآن وقال الضحاك : تزمل بثيابه لمنامه وقيل بلغة من المشركين سوء قول فتزمل في ثيابه وتذثر فنزلت { يا أيها المزمل } و { يا أيها المدثر } وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سمع صوت الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله وقال : زملوني دثروني وكان خطابه صلى الله عليه و سلم بهذا الخطاب في أول نزول الوحي ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة (5/440)
2 - { قم الليل إلا قليلا } أي قم للصلاة في الليل قرأ الجمهور قم بكسر الميم لالتقاء الساكنين وقرأ أبو السماك بضمها اتباعا لضمة القاف قال عثمان بن جني : الغرض بهذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين فبأي حركة تحرك فقد وقع الغرض وانتصاب الليل على الظرفية وقيل إن معنى قم صل عبر به عنه واستعير له واختلف هل كان هذا القيام الذي أمر به فرضا عليه أو نفلا ؟ وسيأتي إن شاء الله ما روي في ذلك وقوله إلا قليلا استثناء من الليل : أي صل الليل كله إلا يسيرا منه والقليل من الشيء هو ما دون النصف وقيل ما دون السدس وقيل ما دون العشر وقال مقاتل والكلبي : المراد بالقليل هنا الثلث (5/442)
وقد أغنانا عن هذا الاختلاف قوله : 3 - { نصفه } الخ وانتصاب نصفه على أنه بدل من الليل قال الزجاج : نصفه بدل من الليل وإلا قليلا استثناء من النصف والضمير في منه وعليه عائد إلى النصف والمعنى : قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين فكأنه قال : قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه وقيل إن نصفه بدل من قوله قليلا فيكون المعنى : قم الليل إلا نصفه أو أقل من نصفه أو أكثر من نصفه قال الأخفش : نصفه أي أو نصفه كما يقال : أعطه درهما درهمين ثلاثة يريد أو درهمين أو ثلاثة قال الواحدي : قال المفسرون : أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلين جعل له سعة في مدة قيامه في الليل وخيره في هذه الساعات للقيام فكان النبي صلى الله عليه و سلم وطائفة معه يقومون على هذه المقادير وشق ذلك عليهم فكان الرجل لا يدري كم صلى أو كم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله حتى خفف الله عنهم وقيل الضميران في منه وعليه راجعان للأقل من النصف كأنه قال : قم أقل من نصفه أو قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا وهو بعيد جدا والظاهر أن نصفه بدل من قليلا والضميران راجعان إلى النصف المبدل من قليلا
واختلف في الناسخ لهذا الأمر فقيل هو قوله : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } إلى آخر السورة وقيل هو قوله : { علم أن لن تحصوه } وقيل هو قوله : { علم أن سيكون منكم مرضى } وقيل هو منسوخ بالصلوات الخمس وبهذا قال مقاتل والشافعي وابن كيسان وقيل هو قوله : { فاقرؤوا ما تيسر منه } وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة (5/443)
4 - { ورتل القرآن ترتيلا } أي اقرأه على مهل مع تدبر قال الضحاك : اقرأه حرفا حرفا قال الزجاج : هو أن يبين جميع الحروف ويوفي حقها من الإشباع وأصل الترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام وتأكيد الفعل بالمصدر يدل على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته المعتبرة (5/443)
5 - { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } أي سنوحي إليك القرآن وهو قول ثقيل قال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده قال مجاهد : حلاله وحرامه قال الحسن : العمل به قال أبو العالية : ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام وقال محمد بن كعب : ثقيل بمعنى كريم من قولهم فلان ثقيل علي : أي يكرم علي قال الفراء : ثقيلا رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا وقال الحسين بن الفضل : ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد وقيل وصفه بكونه ثقيلا حقيقة لما ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه (5/443)
6 - { إن ناشئة الليل } أي ساعاته وأوقاته لأنها تنشأ أولا فأولا يقال نشأ الشيء ينشأ : إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ ومنه نشأت السحاب : إذا بدأت فناشئة فاعلة من نشأ ينشأ فهي ناشئة قال الزجاج : نائشة الليل كل ما نشأ منه : أي حدث فهو ناشئة قال الواحدي : قال المفسرون : الليل كله ناشئة والمراد أن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف وقيل إن ناشئة الليل هي النفس التي ننشأ من مضجعها للعبادة : أي تنهض من نشأ من مكانه : إذا نهض وقيل الناشئة بالحبشية قيام الليل وقيل إنما يقال لقيام الليل نائشة إذا كان بعد نوم قال ابن الأعرابي : إذا نمت من أول الليل ثم قمت فتلك المنشأة والنشأة ومنه ناشئة الليل وقيل وناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء لأن معنى نشأ ابتدأ ومنه قول نصيب :
( ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشء الصغارا )
قال عكرمة وعطاء : إن ناشئة الليل بدو الليل وقال مجاهد وغيره : هي في الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار واختار هذا مالك وقال ابن كيسان : هي القيام من آخر الليل قال في الصحاح : نائشة الليل أول ساعاته وقال الحسن : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح { هي أشد وطئا } قرأ الجمهور { وطئا } بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ أبو العالية وابن أبي إسحاق ومجاهد وأبو عمرو وابن عامر وحميد وابن محيصن والمغيرة وأبو حيوة بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة واختار هذه القراءة أبو عبيد فالمعنى على القراءة الأولى أن الصلاة في ناشئة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار لأن الليل للنوم قال ابن قتيبة : المعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار من قول العرب : اشتدت على القوم وطأ السلطان : إذا ثقل عليهم ما يلزمهم منه ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اشدد وطأتك على مضر ] والمعنى على القراءة الثانية أنها أشد مواطأة : أي موافقة من قولهم : واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطاء : إذا وافقته عليه قال مجاهد وابن أبي مليكة : أي أشد موافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان لانقطاع الأصوات والحركات فيها ومنه : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } أي ليوافقوا وقال الأخفش : أشد قياما وقال الفراء : أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة والليل وقت الفراغ عن الاشتغال بالمعاش فعبادته تدوم ولا تنقطع : وقال الكلبي : أشد نشاطا { وأقوم قيلا } أي وأشد مقالا وأثبت قراءة لحضور القلب فيها وهدوء الأصوات وأشد استقامة واستمرارا على الصواب لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه قال قتادة ومجاهد : أي أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم قال أبو علي الفارسي : أقوم قليلا : أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل قال الكلبي : أي أبين قولا بالقرآن وقال عكرمة : أي أتم نشاطا وإخلاصا وأكثر بركة وقال ابن زيد : أجدر أن يتفقه في القرآن وقيل أعجل إجابة للدعاء (5/444)
7 - { إن لك في النهار سبحا طويلا } قرأ الجمهور { سبحا } بالحاء المهملة : أي تصرفا في حوائجك وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا والسبح : الجري والدوران ومنه السباحة في الماء لتقلبه ببدنه ورجليه وفرس سابح : أي شديد الجري وقيل السبح الفراغ : أي إن لك فراغا بالنهار للحاجات فصل بالليل قال ابن قتيبة : أي تصرفا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك وقال الخليل : إن لك في النهار سبحا : أي نوما والتسبح التمدد قال الزجاج : المعنى إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ للاستدراك وقرأ يحيى بن يعمر وأبو وائل وابن أبي عبلة سبخا بالخاء المعجمة قيل ومعنى هذه القراءة : الخفية والسعة والاستراحة قال الأصمعي : يقال سبخ الله عنك الحمى : أي خففها وسبخ الحر فتر وخف ومنه قول الشاعر :
( فسبخ عليك الهم واعلم بأنه ... إذا قدر الرحمن شيئا فكائن )
أي خفف عنك الهم والتسبيخ من القطن ما ينسج بعد الندف ومنه قول الأخطل :
( فأرسلوهن يذرين التراب كما ... تذري سبائخ قطن ندف أوتار )
قال ثعلب : السبخ بالخاء المعجمة التردد والاضطراب والسبخ السكون وقال أبو عمرو : السبخ النوم والفراغ (5/445)
8 - { واذكر اسم ربك } أي ادعه بأسمائه الحسنى وقيل اقرأ باسم ربك في ابتداء صلاتك وقيل اذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتوفر على طاعته وتبعد عن معصيته وقيل المعنى : دم على ذكر ربك ليلا ونهارا واستكثر من ذلك وقال الكلبي : المعنى صل لربك { وتبتل إليه تبتيلا } أي انقطع إليه انقطاعا بالاشتغال بعبادته والتبتل الانقطاع يقال بتلت الشيء : أي قطعته وميزته من غيره وصدقة بتلة : أي منقطعة من مال صاحبها ويقال الراهب متبتل لانقطاعه عن الناس ومنه قول الشاعر :
( تضيء الظلام بالعشاء كأنها ... منارة ممسى راهب متبتل )
ووضع تبتيلا مكان تبتلا لرعاية الفواصل قال الواحدي : والتبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله (5/445)
9 - { رب المشرق والمغرب } قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر بجر { رب } على النعت لربك أو البدل منه أو البيان له وقرأ الباقون برفعه على أنه مبتدأ وخبره { لا إله إلا هو } أو على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هو رب المشرق وقرأ زيد بن علي بنصبه على المدح وقرأ الجمهور { المشرق والمغرب } مفردين وقرأ ابن مسعود وابن عباس المشارق والمغارب على الجمع وقد قدمنا تفسير المشرق والمغرب والمشرقين والمغربين والمشارق والمغارب { فاتخذه وكيلا } أي إذا عرفت أنه المختص بالربوية فاتخذه وكيلا : أي قائما بأمورك وعول عليه في جميعها وقيل كفيلا بما وعدك من الجزاء والنصر (5/445)
10 - { واصبر على ما يقولون } من الأذى والسب والاستهزاء ولا تجزع من ذلك { واهجرهم هجرا جميلا } أي لا تتعرض لهم ولا تشتغل بمكافأتهم وقيل الهجر الجميل الذي لا جزع فيه وهذا كان قبل الأمر بالقتال (5/446)
11 - { وذرني والمكذبين } أي دعني وإياهم ولا تهتم بهم فإني أكفيك أمرهم وأنتقم لك منهم قيل نزلت في المطمعين يوم بدر وهم عشرة وقد تقدم ذكرهم وقال يحيى بن سلام : هم بنو المغيرة وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشر { أولي النعمة } أي أرباب الغنى والسعة والترفه واللذة في الدنيا { ومهلهم قليلا } أي تمهيلا قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف أو زمانا قليلا على أنه صفة لزمان محذوف والمعنى أمهلهم إلى انقضاء آجالهم وقيل إلى نزل عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر (5/446)
والأول أولى لقوله : 12 - { إن لدينا أنكالا } وما بعده فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة والأنكار جمع نكل وهو القيد كذا قال الحسن ومجاهد وغيرهما وقال الكلبي : الأنكار : الأغلال والأول أعرف في اللغة ومنه قول الخنساء :
( أتوك فقطعت أنكالهم ... وقد كن قبلك لا تقطع )
وقال مقاتل : هي أنواع العذاب الشديد وقال أبو عمران الجوني : هي قيود لا تحل { وجحيما } أي نار مؤججة (5/446)
13 - { وطعاما ذا غصة } أي لا يسوغ في الحلق بل ينشب فيه فلا ينزل ولا يخرج قال مجاهد : هو الزقوم وقال الزجاج : هو الضريع كما قال : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } قال : وهو شوك العوسج قال عكرمة هو شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج والغصة : الشجا في الحلق وهو ما ينشب فيه من عظم أو غيره وجمعها غصص { وعذابا أليما } أي ونوعا آخر من العذاب غير ما ذكر (5/446)
14 - { يوم ترجف الأرض والجبال } انتصاب الظرف إما بذرني أو بالاستقرار المتعلق به لدينا أو هو صفة لعذاب فيتعلق بمحذوف : أي عذابا واقعا يوم ترجف أو متعلق بأليما قرأ الجمهور { ترجف } بفتح التاء وضم الجيم مبنيا للفاعل وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول مأخوذ من أرجفها والمعنى : تتحرك وتضطرب بمن عليها والرجفة : الزلزلة والرعد الشديدة { وكانت الجبال كثيبا مهيلا } أي وتكون الجبال وإنما عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه والكثيب الرمل المجتمع والمهيل اذي يمر تحت الأرجل قال الواحدي : أي رملا سائلا : يقال لكل شيء أرسلته إرسالا من تراب أو طعام أهلته هيلا قال الضحاك والكلبي : المهيل الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال ومنه قول حسان :
( عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق القشيب ) (5/446)
15 - { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم } الخطاب لأهل مكة أو لكفار العرب أو لجميع الكفار والرسول محمد صلى الله عليه و سلم والمعنى : يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } يعني موسى (5/447)
16 - { فعصى فرعون الرسول } الذي أرسلناه إليه وكذبه ولم يؤمن بما جاء به ومحل الكاف النصب على أنها نعت لمصدر محذوف والمعنى : إنا أرسنال إليكم رسولا فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه { فأخذناه أخذا وبيلا } أي شديدا ثقيلا غليظا والمعنى : عاقبنا فرعون عقوبة شديدة غليظة بالغرق وفيه تخويف لأهل مكة أنه سينزل بهم من العقوبة مثل ما نزل به وإن اختلف نوع العقوبة قال الزجاج : أي ثقيلا غليظا ومنه قيل للمطر وابل وقال الأخفش : شديدا والمعنى متقارب ومنه طعام وبيل : إذا لا يستمرأ ومنه قول الخنساء :
( لقد أكلت بجيلة يوم لاقت ... فوارس مالك أكلا وبيلا ) (5/447)
17 - { فكيف تتقون } أي كيف تقون أنفسكم { إن كفرتم } أي إن بقيتم على كفركم { يوما } أي عذاب يوم { يجعل الولدان شيبا } لشدة هوله : أي يصير الولدان شيوخا والشيب جمع أشيب وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك أو تمثيلا لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه وضعفت أعضاؤه وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة وفي هذا تقريع لهم شديد وتوبيخ عظيم قال الحسن : أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم وكذا قرأ ابن مسعود وعطية ويوما مفعول به لتتقون قال ابن الأنباري : ومنهم من نصب اليوم بكفرتم وهذا قبيح والولدان الصبيان (5/447)
ثم زاد في وصف ذلك اليوم بالشدة فقال : 18 - { السماء منفطر به } أي متشققة به لشدته وعظيم هوله والجملة صفة أخرى ليوم والباء سببية وقيل هي بمعنى في : أي منفطر فيه وقيل بمعنى اللام : أي منفطر له وإنما قال منفطر ولم يقل منفطرة لتنزيل السماء منزلة شيء لكونها قد تغيرت ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يقل منفطرة لأن مجازها السقف كما قال الشافعي :
( فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب )
فيكون هذا كما في قوله : { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } وقال الفراء : السماء تذكر وتؤنث وقال أبو علي الفارسي : هو من باب الجراد المنتشر والشجر الأخضر و { أعجاز نخل منقعر } قال أيضا : أي السماء ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع : أي ذات إرضاع على طريق النسب وانفطارها لنزول الملائكة كما قال : { إذا السماء انفطرت } وقوله : { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } وقيل منفطر به : أي بالله والمراد بأمره والأول أولى { كان وعده مفعولا } أي وكان وعد الله بما وعد به من البعث والحساب وغير ذلك كائنا لا محالة والمصدر مضاف إلى فاعله أو وكان وعد اليوم مفعولا فالمصدر مضاف إلى مفعوله وقال مقاتل : كان وعده أن يظهر دينه على الدين كله
وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في سننه عن سعد بن هشام قال : [ قلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله قالت : ألست تقرأ هذه السورة { يا أيها المزمل } ؟ قلت : بلى قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضه ] وقد روي هذا الحديث عنها من طرق وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : لما نزلت أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن نصر عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : لما نزلت يا أيها المزمل قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت { فاقرؤوا ما تيسر منه } فاستراح الناس وأخرج أبو داود في ناسخه وابن نصر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن
عباس قال : في المزمل { قم الليل إلا قليلا * نصفه } نسختها الآية التي فيها { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } وناشئة الليل أوله كان صلاتهم أول الليل يقول هذا أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من قيام الليل وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ وقوله : { أقوم قيلا } هو أجدر أن يفقه قراءة القرآن وقوله : { إن لك في النهار سبحا طويلا } يقول فراغا طويلا وأخرج الحاكم وصححه عنه في قوله : { يا أيها المزمل } قال : زملت هذا الأمر فقم به وأخرج ابن المنذر عنه في الآية أيضا قال : يتزمل بالثياب وأخرج الفريابي عن أبي صالح عنه أيضا { ورتل القرآن ترتيلا } قال : تقرأ آيتين ثلاثا ثم تقطع لا تهدر وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن منيع في مسنده وابن المنذر وابن أبي حاتم ومحمد بن نصر عنه أيضا { ورتل القرآن ترتيلا } قال : بينه تبيينا وأخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب مرفوعا نحوه وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } ] وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن نصر والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { إن ناشئة الليل } قال : قيام الليل بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا نشأ وأخرج البيهقي عنه قال : { ناشئة الليل } أوله وأخرج ابن المنذر وابن نصر عنه أيضا قال : الليل كله ناشئة وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : { ناشئة الليل } بالحبشة قيام الليل وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن نصر والبيهقي في سننه عن أنس بن مالك قال { ناشئة الليل } ما بين المغرب والعشاء وأخرج عبد بن حميد وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى عن ابن عباس في قوله : { إن لك في النهار سبحا طويلا } قال : السبح الفراغ للحاجة والنوم وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت : لما نزلت { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } لم يكن إلا يسيرا حتى كانت وقعة بدر وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود { إن لدينا أنكالا } قال : قيودا وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن
جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس { طعاما ذا غصة } قال : شجرة الزقوم وأخرج الحاكم وصححه عنه في قوله : { كثيبا مهيلا } قال : المهيل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك آخره وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { كثيبا مهيلا } قال : الرمل السائل وفي قوله : { أخذا وبيلا } قال : شديدا وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ { يجعل الولدان شيبا } قال : ذلك يوم القيامة وذلك يوم يقول الله لآدم : قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار قال : من كم يا رب ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وينجو واحد فاشتد ذلك على المسلمين فقال حين أبصر ذلك في وجوههم : إن بني آدم كثير وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم إنه لا يموت رجل منهم حتى يرثه لصلبه ألف رجل ففيهم وفي أشباههم جنة لكم ] وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه بأخصر منه وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : { السماء منفطر به } قال : ممتلئة بلسان الحبشة وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : مثقلة موقرة وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : يعني تشقق السماء (5/447)
الإشارة بقوله : 19 - { إن هذه } إلى ما تقدم من الآيات والتذكرة الموعظة والإشارة إلى جميع آيات القرآن إلى ما في هذه السورة فقط { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } أي اتخذ بالطاعة التي أهم أنواعها التوحيد إلى ربه طريقا توصله إلى الجنة (5/450)
20 - { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } معنى أدنى أقل استعير له الأدنى لأن المسافة بين السنين إذا دنت قل ما بينهما { ونصفه } معطوف على أدنى { وثلثه } معطوف على نصفه والمعنى : أن الله يعلم أن رسوله صلى الله عليه و سلم يقوم أقل من ثلثي الليل ويقوم نصفه ويقوم ثلثه وبالنصب قرأ ابن كثير والكوفيون وقرأ الجمهور { ونصفه وثلثه } بالجر عطفا على ثلثي الليل والمعنى : أن الله يعلم أن رسوله صلى الله عليه و سلم يقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : { علم أن لن تحصوه } فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه وقال الفراء : القراءة الأولى أشبه بالصواب لأنه قال : أقل من ثلثي الليل ثم فسر نفس القلة { وطائفة من الذين معك } معطوف على الضمير في تقوم : أي وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك { والله يقدر الليل والنهار } أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها ويختص بذلك دون غيره وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة قال عطاء : يريد لا يفوته علم ما تفعلون أي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم قدر الذي تقومونه من الليل { علم أن لن تحصوه } أن لن تطيقوا علمم مقادير الليل والنهار على الحقيقة وفي أن ضمير شأن محذوف وقيل المعنى : لن تطيقوا قيام الليل قال القرطبي : والأول أصح فإن قيام الليل ما فرض كله قط قال مقاتل وغيره : لما نزل { قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه } شق ذلك عليهم وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ فانتفخت أقدامهم وانتقعت ألوانهم فرحمهم الله وخفف عنهم فقال : { علم أن لن تحصوه } أي علم أن لن تحصوه لأنكم إن زدتم ثقل عليكم واحتجتم إلى تكلف ما ليس فرضا وإن نقصتم شق ذلك عليكم { فتاب عليكم } أي فعاد عليكم بالعفو ورخص لكم في ترك القيام وقيل فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم وأصل التوبة الرجوع كما تقدم فالمعنى : رجع بكم من التثقيل إلى [ التخفيف ] ومن العسر إلى اليسر { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } أي فاقرأوا في الصلاة بالليل ما خف عليكم وتيسر لكم منه من غير أن ترقبوا وقتا قال الحسن : هو ما نقرأ في صلاة المغرب والعشاء قال السدي : أيضا من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن وقال كعب : من قرأ في لية مائة آية كتب من القانتين وقال سعيد : خمسون آية وقيل معنى { فاقرؤوا ما تيسر منه } فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل والصلاة تسمى قرآنا كقوله : { وقرآن الفجر } قيل إن هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه والنقصان من النصف والزيادة عليه فيحتمل أن يكون ما تضمنته هذه الآية فرضا ثابتا ويحتمل أن يكون منسوخا لقوله : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال الشافعي : الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه صلى الله عليه و سلم وفي حق أمته وقيل نسخ التقدير بمقدار وبقي أصل الوجوب وقيل إنه نسخ في حق الأمة وبقي فرضا في حقه صلى الله عليه و سلم والأولى القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه صلى الله عليه و سلم وفي حق أمته وليس في قوله : { فاقرؤوا ما تيسر منه } ما يدل على بقاء شيء من الوجوب لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن فقد وجدت في صلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة وإن كان المراد به الصلاة من لليل فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوع وأيضا الأحاديث الصحيحة المصرحة بقول السائل لرسول الله صلى الله عليه و سلم هل علي غيرها يعني الصلاوات الخمسة ؟ فقال لا إلا أن تطوع تدل على عدم وجوب غيرها فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته على الأمة كما ارتفع وجوب ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } قال الواحدي : قال المفسرون في قوله : { فاقرؤوا ما تيسر منه } كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين وثبت على النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وذلك قوله : { وأقيموا الصلاة } ثم ذكر سبحانه عذرهم فقال : { علم أن سيكون منكم مرضى } فلا يطيقون قيام الليل { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } أي يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام الليل { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } يعني المجاهدين فلا يطيقون قيام الليل ذكر سبحانه هاهنا ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ورفع وجوب قيام الليل فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم ثم ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال : { فاقرؤوا ما تيسر منه } وقد سبق تفسيره قريبا والتكرير للتأكيد { وأقيموا الصلاة } يعني المفروضة وهي الخمس لقوتها { وآتوا الزكاة } يعني الواجبة في الأموال وقال الحارث العكلي : هي صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك وقيل صدقة التطوع وقيل كل أفعال الخير { وأقرضوا الله قرضا حسنا } أي أنفقوا في سبيل الخير من أمالكم إنفاقا جسنا وقد مضى تفسيره في سورة الحديد قال زيد ابن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل وقيل النفقة في الجهاد وقيل هو إخراج الزكاة المفترضة على وجه حسن فيكون تفسيرا لقوله : { وآتوا الزكاة } والأول أولى لقوله : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } فإن ظاهره العموم : أي أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر { هو خيرا وأعظم أجرا } مما تؤخرونه إلى عند الموت أو توصون به ليخرج بعد موتكم وانتصاب خيرا على أنه ثاني مفعولي تجدوه وضمير هو ضمير فصل وبالنصب قرأ الجمهور وقرا أبو السماك وابن السميفع بالرفع على أن يكون هو مبتدأ وخير خبره والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي تجدوه قال أبو زيد : وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل وأنشد سيبويه :
( تحن إلى ليلى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملاء أنت أقدر )
وقرأ الجمهور أيضا { وأعظم } بالنصب عطفا على خيرا : وقرأ أبو السماك وابن السميفع بالرفع كما قرأ برفع خير وانتصاب أجرا على التمييز { واستغفروا الله } أي اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم فإنكم لا تخلون من ذنوب تقترفونها { إن الله غفور رحيم } أي كثير المغفرة لمن استغفره كثير الرحمة لمن استرحمه
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم { فاقرؤوا ما تيسر منه } قال : مائة آية وأخرج الدارقطني والبيهقي في سننه وحسناه عن قيس بن أبي حازم قال : [ صليت خلف ابن عباس فقرأ في أول ركعة بالحمد لله رب العالمين وأول آية من البقرة ثم ركع فلما انصرفنا أقبل علينا فقال إن الله يقول : { فاقرؤوا ما تيسر منه } ] قال ابن كثير : وهذا حديث غريب جدا لم أره إلا في معجم الطبراني وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال : [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر ] وقد قدمنا في البحث الأول من هذه السورة ما روي أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب قيام الليل فارجع إليه (5/450)
هي ست وخمسون آية وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة المدثر بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وسيأتي أن أول هذه السورة أول ما نزل من القرآن
قال الواحدي : قال المفسرون : لما بدئ رسول الله صلى الله عليه و سلم بالوحي أتاه جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه و سلم على سيرين بين السماء والأرض كالنور المتلألئ ففزع ووقع مغشيا عليه فلما أفاق دخل على خديجة ودعا بماء فصبه عليه وقال : دثروني دثروني فدثروه بقطيفة فقال : 1 - { يا أيها المدثر * قم فأنذر } ومعنى يا أيها المدثر : يا أيها الذي قد تدثر بثيابه : أي تغشى بها وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما وقد قرأ الجمهور بالإدغام وقرأ أبي المتدثر على الأصل والدثار : هو ما يلبس فوق الشعار والشعار : هو الذي يلي الجسد وقال عكرمة : المعنى يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها قال ابن العربي : وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبيا إذ ذاك (5/453)
2 - { قم فأنذر } أي انهض فخوف أهل مكة وحذهرم العذاب إن لم يسلموا أو قم من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم وقيل الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوته وقيل إعلامهم بالتوحيد وقال الفراء : المعنى قم فصل وأمر بالصلاة (5/454)
3 - { وربك فكبر } أي واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار وأعظم من أن يكون له صاحبة أو ولد قال ابن العربي : المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأندام والأصنام ولا يتخذ وليا غيره ولا يعبد سواه ولا يرى لغيره فعلا إلا له ولا نعمة إلا منه قال الزجاج : إن الفاء في فكبر دخلت على معنى الجزاء كما دخلت في فأنذر وقال ابن جني : هو كقولك زيدا فاضرب : أي زيدا اضرب فالفاء زائدة (5/454)
4 - { وثيابك فطهر } المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات وإزالة ما وقع فيها منها وقيل المراد بالثياب العمل وقيل القلب وقيل النفس وقيل الجسم وقيل الأهل وقيل الدين وقيل الأخلاق قال مجاهد وابن زيد وأبو رزين : أي عملك فأصلح وقال قتادة : نفسك فطهر من الذنب والثياب عبارة عن النفس وقال سعيد بن جبير : قلبك فطهر ومن هذا قول امرئ القيس :
( فسلي ثيابي من ثيابك تنسل )
وقال عكرمة : المعنى ألبسها على غير غدر وغير فجرة وقال : أما سمعت قول الشاعر :
( وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع )
والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة :
( فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم )
وقول الآخر :
( ثياب بني عوف طهارى نقية )
وقال الحسن والقرظي : إن المعنى وأخلاقك فطهر لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ومنه قول الشاعر :
( ويحيى لا يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر )
وقال الزجاج : المعنى وثيابك فقصر لأن تقصير الثوب ابعد من النجاسات إذا انجر على الأرض وبه قال طاوس والأول أولى لأنه المعنى الحقيقي وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينه ما يدل على أنه المراد عند الإطلاق وليس في مثل هذا الأصل : أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة (5/454)
5 - { والرجز فاهجر } الرجز معناه في اللغة العذاب وفيه لغتان كسر الراء وضمها وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزا لأنها سبب الرجز قرأ الجمهور { الرجز } بكسر الراء وقرأ الحسن ومجاهد وعكرمة وحفص وابن محيصن بضمها وقال مجاهد وعكرمة : الرجز الأوثان كما في قوله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } وبه قال ابن زيد وقال إبراهيم النخعي : الرجز المأثم والهجر الترك وقال قتادة : الرجز إساف ونائلة وهما صنمان كانا عند البيت وقال أبو العالية والربيع والكسائي : الرجز بالضم الوثن وبالكسر العذاب وقال السدي : الرجز بضم الراء الوعيد والأول أولى (5/455)
6 - { ولا تمنن تستكثر } قرأ الجمهور لا تمنن بفك الإدغام وقرأ الحسن وأبو اليمان والأشهب العقيلي بالإدغام وقرأ الجمهور تستكثر بالرفع على أنه حال : أي ولا تمنن حال كونك مستكثرا وقيل على حذف أن والأصل ولا تمنن أن تستكثر فلما حذفت رفع قال الكسائي : فإذا حذف أن رفع الفعل وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش تستكثر بزيادة أن وقرأ الحسن أيضا وابن أبي عبلة تستكثر بالجزم على أنه بدل من تمنن كما في قوله : { يلق أثاما * يضاعف له } وقول الشاعر :
( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا )
أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف : كما في قول امرئ القيس :
( فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل )
بتسكين أشرب وقد اعترض على هذه القراءة لأن قوله تستكثر لا يصح أن يكون بدلا من تمنن لأن المن غير الاستكثار ولا يصح أن يكون جوابا للنهي
واختلف السلف في معنى الآية فقيل المعنى : لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير وقيل لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها قاله عكرمة وقتادة قال الضحاك : هذا حرمه [ الله ] على رسوله لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق وأباحه لأمته وقال مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير من قولك حبل متين : إذا كان ضعيفا وقال الربيع بن أنس : لا تعزم عملك في عينك أن تستكثر من الخير وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملا فتراه من نفسك إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته وقيل لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثره وقال محمد بن كعب : لا تعط مالك مصانعة وقال زيد بن أسلم : إذا أعطيت عطية فأعطها لربك (5/455)
7 - { ولربك فاصبر } أي لوجه ربك فاصبر على طاعته وفرائضه والمعنى : لأجل ربك وثوابه وقال مقاتل ومجاهد : اصبر على الأذى والتكذيب وقال ابن زيد : حملت أمرا عظيما فحاربتك العرب والعجم فاصبر عليه لله وقيل اصبر تحت موارده القضاء لله وقيل فاصبر على البلوى وقيل على الأوامر والنواهي (5/456)
8 - { فإذا نقر في الناقور } الناقور فاعول من النقر كأنه من شأنه أن ينقر فيه للتصويت والنقر في كلام العرب الصوت ومنه قول امرئ القيس :
( أخفضه بالنقر لما علوته )
ويقولون نقر باسم الرجل إذا دعاه والمراد هنا النفخ في الصور والمراد النفخة الثانية وقيل الأولى وقد تقدم الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النحل والفاء للسببية كأنه قيل : اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم (5/456)
والعامل في إذا ما دل عليه قوله : 9 - { فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين } فإن معناه عسر الأمر عليهم وقيل العامل فيه ما دل عليه فذلك لأنه إشارة إلى النقر ويومئذ بدل من إذا أو مبتدأ وخبره يوم عسير والجملة خبر فذلك وقيل هو ظرف للخبر لأن التقدير وقوع يوم عسير (5/457)
وقوله : 10 - { غير يسير } تأكيد لعسره عليهم لأن كونه غير يسير قد فهم من قوله يوم عسير (5/457)
11 - { ذرني ومن خلقت وحيدا } أي [ دعني ] وهي كلمة تهديد ووعيد والمعنى : دعني والذي خلقه حال كونه وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد هذا على أن وحيدا منتصب على الحال من الموصول أو من الضمير العائد إليه المحذوف ويجوز أن يكون حالا من الياء في ذرني : أي دعني وحدي معه فإني أكفيك في الانتقام منه والأول أولى قال المفسرون : وهو الوليد بن المغيرة قال مقاتل : يقول خل بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته وإنما خص بالذكر لمزيد كفره وعظيم حجوده لنعم الله عليه وقيل أراد بالوحيد الذي لا يعرف أبوه وكان يقال في الوليد بن المغيرة أنه دعي (5/457)
12 - { وجعلت له مالا ممدودا } أي كثيرا أو يمد بالزيادة والنماء شيئا بعد شيء قال الزجاج : مالا غير منقطع عنه وقد كان الوليد بن المغيرة مشهورا بكثرة المال على اختلاف أنواعه قيل كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار وقيل أربعة آلاف دينار وقيل ألف دينار (5/457)
13 - { وبنين شهودا } أي وجعلت له بنين حضورا بمكة معه لا يسافرون ولا يحتاجون إلى التفرق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم قال الضحاك : كانوا سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف وقال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر ولدا وقال مقاتل : كانوا سبعة كلهم رجال أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك وقيل معنى شهودا أنه إذا ذكر ذكروا معه وقيل كانوا يشهدون معه ما كان يشهده ويقومون بما كان يباشره (5/457)
14 - { ومهدت له تمهيدا } أي بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش والتمهيد عند العرب التوطئة ومنه مهد الصبي وقال مجاهد : إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش (5/457)
15 - { ثم يطمع أن أزيد } أي يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه للنعم وإشراكه بالله قال الحسن : لم يطمع أن أدخله الجنة وكان يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي (5/457)
ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال : 16 - { كلا } أي لست أزيده ثم علل ذلك بقوله : { إنه كان لآياتنا عنيدا } أي معاندا لها كافرا بما أنزلناه منها على رسولنا يقال عند يعند بالكسر إذا خالف الحق ورده وهو يعرفه فهو عنيد وعاند والعاند الذي يجوز عن الطريق ويعدل عن القصد ومنه قول الحارثي :
( إذا ركبت فاجعلاني وسطا ... إني كبير لا أطيق العندا )
قال أبو صالح : عنيدا معناه مباعدا وقال قتادة : جاحدا وقال مقاتل : معرضا (5/458)
17 - { سأرهقه صعودا } أي سأكلفه مشقة من العذاب وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق وقيل المعنى : إنه يكلف أنه يصعد جبلا من نار والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل (5/458)
وجملة 18 - { إنه فكر وقدر } تعليل لما تقدم من الوعيد : أي إنه فكر في شأن النبي صلى الله عليه و سلم وما أنزل عليه من القرآن وقدر في نفسه : أي هيأ الكلام في نفسه والعرب تقول : هيأت الشيء إذا قدرته وقدرت الشيء إذا هيأته وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه وقدر في نفسه ما يقول (5/458)
فذمه الله وقال : 19 - { فقتل كيف قدر } أي لعن وعذب كيف قدر : أي على أي حال قدر ما قدر منالكلام كما يقال في الكلام : لأضربنه كيف صنع : أي على أي حال كانت منه وقيل المعنى : قهر وغلب كيف قدر ومنه قول الشاعر :
( وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل )
وقال الزهري : عذب وهو من باب الدعاء عليه (5/458)
والتكرير في قوله : 20 - { ثم قتل كيف قدر } للمبالغة والتأكيد (5/458)
21 - { ثم نظر } أي بأي شيء يدفع القرآن ويقدح فيه أو فكر في القرآن وتدبر ما هو (5/458)
22 - { ثم عبس } أي قطب وجهه لما لم يجد مطعنا يطعن به في القرآن والعبس مصدر عبس مخففا يعبس عبسا وعبوسا إذا قطب وقيل عبس في وجوه المؤمنين وقيل عبس في وجه النبي صلى الله عليه و سلم { وبسر } أي كلح وجهه وتغير ومنه قول الشاعر :
( صبحنا تميما غداة الحفار ... بشهباء ملموسة باسره )
وقول الآخر :
( وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها )
وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة وظهور البسور في الوجه قبلها والعرب تقول : وجه باسر إذا تغير واسود وقال الراغب : البسر استعجال الشر قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته : أي طلبها في غير أوانها قال : ومنه قوله : { عبس وبسر } أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته وأهل اليمن يقولون : بسر المركب وأبسر : أي وقف لا يتقدم ولا يتأخر وقد أبسرنا : أي صرنا إلى البسور (5/458)
23 - { ثم أدبر واستكبر } أي أعرض عن الحق وذهب إلى أهله وتعظم عن أن يؤمن (5/459)
24 - { فقال إن هذا إلا سحر يؤثر } أي يأثره عن غيره ويريه عنه والسحر : إظهار الباطل في صورة الحق أو الخديعة على ما تقدم بيانه في سورة البقرة يقال أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك ومنه قول الأعشى :
( إن الذي ... فيه تحاربتما بين للسامع والأثر ) (5/459)
25 - { إن هذا إلا قول البشر } يعني أنه كلام الإنس وليس بكلام الله وهو تأكيد لما قبله وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه (5/459)
ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه قال الله عز و جل : 26 - { سأصليه سقر } أي سأدخله النار وسقر من أسماء النار ومن دركات جهنم وقيل إن هذه الجملة بدل من قوله { سأرهقه صعودا } (5/459)
ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال : 27 - { وما أدراك ما سقر } أي وما أعلمك أي شيء هي والعرب تقول : وما أدراك ما كذا : إذا أرادوا المبالغة في أمره وتعظيم شأنه وتهويل خطبه وما الأولى مبتدأ وجملة ما سقر خبر المبتدأ (5/459)
ثم فسر حالها فقال 28 - { لا تبقي ولا تذر } والجملة مستأنفة لبيان حال سقر والكشف عن وصفها وقيل هي في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى التعظيم لأن قوله : { وما أدراك ما سقر } يدل على التعظيم فكأنه قال : استعظموا سقر في هذه الحال والأول أولى ومفعول الفعلين محذوف قال السدي : لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما وقال عطاء : لا تبقي من فيها حيا ولا تذره ميتا وقيل هما لفظان بمعنى واحد كررا للتأكيد كقولك : صد عني وأعرض عني (5/459)
29 - { لواحة للبشر } قرأ الجمهور { لواحة } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقيل على أنه نعت لسقر والأول أولى وقرأ الحسن وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة وزيد بن علي بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل يقال : لاح يلوح : أي ظهر والمعنى : أنها تظهر للبشر قال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عيانا كقوله : { وبرزت الجحيم لمن يرى } وقيل معنى { لواحة للبشر } أي مغيرة لهم ومسودة قال مجاهد : والعرب تقول : لاحة الحر والبرد والسقم والحزن : إذا غيره وهذا أرجح من الأول وإليه ذهب جمهور المفسرين ومنه قول الشاعر :
( وتعجب هند أن رأتني شاحبا ... تقول لشيء لوحته السمايم )
أي غيرته ومنه قول رؤبة بن العجاج :
( لوح منه بعد بدن وشبق ... تلويحك الضامر يطوى للسبق )
وقال الأخفش : المعنى أنها معطشة للبشر وأنشد :
( سقتني على لوح من الماء شربة ... سقاها به الله الرهام الغواديا )
والمراد بالبشر إما جلدة الإنسان الظاهرة كما قاله الأكثر أو المراد به أهل النار من الإنس كما قال الأخفش (5/459)
30 - { عليها تسعة عشر } قال المفسرون : يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها وقيل تسعة عشر صنفا من أصناف الملائكة وقيل تسعة عشر صفا من صفوفهم وقيل تسعة عشر نقيبا مع كل نقيب جماعة من الملائكة والأول أولى قال الثعلبي : ولا ينكر هذا فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق قرأ الجمهور تسعة عشر بفتح الشين من عشر وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان بإسكانها
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال : إن أول ما نزل من القرآن { يا أيها المدثر } فقال له يحيى بن أبي كثير : يقولون إن أول ما نزل { اقرأ باسم ربك الذي خلق } فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك قلت له مثل ما قلت فقال جابر : لا أحدثنك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فحثيت منه رعبا فرجعت فقلت دثروني فدثروني فنزلت { يا أيها المدثر * قم فأنذر } إلى قوله : { والرجز فاهجر } ] وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أول سورة أنزلت والجمع ممكن وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس { يا أيها المدثر } فقال : دثر هذا الأمر فقم به وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه { يا أيها المدثر } قال : النائم { وثيابك فطهر } قال : لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل { والرجز فاهجر } قال : الأصنام { ولا تمنن تستكثر } قال : لا تعط تلتمس بها أفضل منها وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضا { وثيابك فطهر } قال : من الإثم قال : وهي في كلام العرب نقي الثياب وأخرج ابن مردويه عنه أيضا { وثيابك فطهر } قال : من الغدر لا تكن غدارا وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضا أنه سئل عن قوله : { وثيابك فطهر } قال : لا تلبسها على غدرة ثم قال : ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة :
( وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع )
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عنه أيضا { ولا تمنن تستكثر } قال : لا تعط الرجل عطاء رجال أن يعطيك أكثر منه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا { فإذا نقر في الناقور } قال : الصور { يوم عسير } قال : شديد وأخرج ابن مردويه عنه أيضا { ذرني ومن خلقت وحيدا } قال الوليد بن المغيرة وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عنه أيضا : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلي وإنه ليحطم ما تحته قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه قال : فدعني حتى أفكر فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت { ذرني ومن خلقت وحيدا } وأخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلا وكذا أخرجه ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر وغير واحد وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله : { وجعلت له مالا ممدودا } قال : غلة شهر بشهر وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { وجعلت له مالا ممدودا } قال : ألف دينار وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله : { سأرهقه صعودا } قال : هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه فكلما وضعوا أبديهم عليه ذابت فإذا رفعوها عادت كما كانت وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { عنيدا } قال : جحودا وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي وهو كذلك فيه أبدا ] قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج قال ابن كثير : وفيه غرابة ونكارة انتهى وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { صعودا } صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه وأخرج ابن المنذر عنه قال : جبل في النار وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : { لا تبقي ولا تذر } قال : لا تبقي منهم شيئا وإذا بدلوا خلقا آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأول وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا { لواحة للبشر } قال : تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه فيصير أسود من الليل وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { لواحة } قال : محرقة وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء : أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن خزنة جهنم فقال : الله ورسوله أعلم فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت عليه ساعتئذ { عليها تسعة عشر } (5/460)
لما نزل قوله سبحانه : { عليها تسعة عشر } قال أبو جهل : أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر يخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجون من النار ؟ فقال أبو الأشد وهو رجل من بني جمح : يا معشر قريش إذا كان يومالقيامة فأنا أمشي بين أيديكم فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر ونمضي ندخل الجنة فأنزل الله 31 - { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } يعني ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم وقيل جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجن والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة وقيل لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له وأشدهم بأسا وأقواهم بطشا { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } أي ضلالة { للذين } استقلوا عددهم ومحنة لهم والمعنى : ما جعلنا عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلا ضلالة ومحنة لهم حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم وقيل معنى إلا فتنة إلا عذابا كما في قوله : { يوم هم على النار يفتنون } أي يعذبون واللام في قوله : { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } متعلق بجعلنا والمراد بأهل الكتاب لليهود والنصارى بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } وقيل المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وقيل أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه و سلم والمعنى : ليزدادوا يقينا إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم وجملة { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } مقررة لما تقدم من الاستيقان وازدياد الإيمان والمعنى نفي الارتياب عنهم في الدين أو في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قبله شك { وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } المراد بالذين في قلوبهم مرض هم المنافقون والسورة وإن كانت مكية ولم يكن إذ ذاك نفاق فهو إخبار بما سيكون في المدينة أو المراد بالمرض مجرد حصول الثلث والريب وهو كائن في الكفار قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن يمكة نفاق فالمرض في هذه الآية لخلاف والمراد بقوله : { والكافرون } كفار العرب من أهل مكة وغيرهم ومعنى { ماذا أراد الله بهذا مثلا } أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل قال الليث : المثل الحديث ومنه قوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي حديثها الخبر عنها { كذلك يضل الله من يشاء } أي مثل ذلك الإضلال المتقدم ذكره وه قوله : { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } { يضل الله من يشاء } من عباده والكاف نعت مصدر محذوف { ويهدي من يشاء } من عباده والمعنى : مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضل الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته وقيل المعنى : كذلك يضل الله عن الجنة من يشاء ويهدي إليها من يشاء { وما يعلم جنود ربك إلا هو } أي يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة وغيرهم إلا هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد وقال عطاء : يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدتهم إلا الله والمعنى : أن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال : { وما هي إلا ذكرى للبشر } أي وما سقر وما ذكر من عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للعالم وقيل : { وما هي } أي الدلائل والحجج والقرآن إلا تذكرة للبشر وقال الزجاج : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة وهو بعيد وقيل ما هي أي عدة خزنة جهنم إلا تذكرة للبش ليعلموا كمال قدرة الله وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار وقيل الضمير في { وما هي } يرجع إلى الجنود (5/462)
ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال : 32 - { كلا والقمر } قال الفراء : كلا صلة للقسم التقدير : أي والقمر وقيل المعنى : حقا والقمر قال ابن جرير : المعنى رد زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم : أي ليس الأمر كما يقول ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده وهذا هو الظاهر من معنى الآية (5/464)
33 - { والليل إذ أدبر } أي ولى قرأ الجمهور { إذا } بزيادة الألف { دبر } بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان وقرأ نافع وحفص وحمزة { إذ } بدون ألف { أدبر } بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ودب وأدبر لغتان كما يقال أقبل الزمان وقبل الزمان يقال دبر الليل وأدبر : إذا تولى ذاهبا (5/464)
34 - { والصبح إذا أسفر } أي أضاء وتبين (5/464)
35 - { إنها لإحدى الكبر } هذا جواب القسم والضمير راجع إلى سقر : أي إن سقر لإحدى الدواهي أو البلايا الكبر والكبر جمع كبرى وقال مقاتل : إن الكبر اسم من أسماء النار وقيل إنها : أي تكذيبهم لمحمد لإحدى الكبر وقيل إن قيام الساعة لإحدى الكبر ومنه قول الشاعر :
( يابن المعلى نزلت إحدى الكبر ... داهية الدهر وصماء الغير )
قرأ الجمهور { لإحدى } بالهمزة وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن وابن كثير في رواية عنه { إنها لإحدى } بدون همزة وقال الكلبي : أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها (5/464)
36 - { نذيرا للبشر } انتصاب نذيرا على الحال من الضمير في إنها قاله الزجاج وروي عنه وعن الكسائي وأبي علي الفارسي أنه حال من قوله قم فأنذر أي قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيرا للبشر وقال الفراء : هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدر وقيل إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التنظيم كأنه قيل أعظم الكبر إنذارا وقيل إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور في أول السورة وقيل منصوب بإضمار أعني وقيل منصوب بتقدير ادع وقيل منصوب بتقدير ناد أو بلغ وقيل إنه مفعول لأجله والتقدير : وإنها لإحدى الكبر لأجل إنذار البشر قرأ الجمهور بالنصب وقرأ أبي بن كعب وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هي نذير أو هو نذير
وقد اختلف في النذير فقال الحسن : هي النار وقيل محمد صلى الله عليه و سلم وقال أبو رزين : المعنى أنا نذير لكم منها وقيل القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد (5/464)
37 - { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } هو بدل من قول للبشر : أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر عنها والمعنى : أن الإنذار قد [ حصل ] لكل من آمن وكفر وقيل فاعل المشيئة هو الله سبحانه : أي لمن شاء الله أن يتقدم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر والأول أولى وقال السدي : لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر إلى الجنة
وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما سمع أبو جهل { عليها تسعة عشر } قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطش برجل من خزنة جهنم ؟ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } قال : قال أبو الأشد : خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم قال : و [ حدثت أن النبي صلى الله عليه و سلم وصف خزان جهنم فقال : كأن أعينهم البرق وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم لهم مثل قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم ] أخرج الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف وتلا هذه الآية { وما يعلم جنود ربك إلا هو } ] وأخرج أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أطت السماء وحق ما أن تئط ما فيها موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد ] وأخرجه
الترمذي وابن ماجه قال الترمذي : حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { إذ أدبر } قال : دبور ظلامه وأخرج مسدد في مسنده وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : سألت ابن عباس عن قوله : { والليل إذ أدبر } فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } قال : من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها (5/465)
قوله : 38 - { كل نفس بما كسبت رهينة } أي مأخوذة بعملها ومرتهنة به إما خلصها وإما أوبقها والرهينة اسم بمعنى الرهن كالشيمة بمعنى الشيم وليست صفة ولو كانت صفة لقيل رهين لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث والمعنى : كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة (5/466)
39 - { إلا أصحاب اليمين } فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم
واختلف في تعيينهم فقيل هم الملائكة وقيل المؤمنون وقيل أولاد المسلمين وقيل الذين كانوا عن يمين آدم وقيل أصحاب الحق وقيل هم المعتمدون على الفضل دون العمل وقيل هم الذين اختارهم الله لخدمته (5/466)
40 - { في جنات } هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف جوابا على سؤال نشأ مما قبله ويجوز أن يكون في جنات حالا من أصحاب اليمين وأن يكون حالا من فاعل يتساءلون وأن يكون ظرفا ليتساءلون وقوله : { يتساءلون } يجوز أن يكون على بابه : أي يسأل بعضهم بعضا ويجوز أن يكون بمعنى يسألون : أي يسألون غيرهم نحو دعيته وتداعيته فعلى الوجه الأول يكون (5/466)
41 - { عن المجرمين } متعلقا بيتساءلون : أي يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين وعلى الوجه الثاني تكون عن زائدة : أي يسألون المجرمين (5/466)
وقوله : 42 - { ما سلككم في سقر } هو على تقدير القول : أي يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم : ما سلككم في سقر أو يسألونهم قائلين لهم : ما سلككم في سقر والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال والمعنى : ما أدخلكم في سقر تقول سلكت الخيط في كذا : إذا دخلته فيه قال الكلبي : يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه فيقول له : يا فلان ما سلكك في النار وقيل إن الملائكة عن أقربائهم فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم : ما سلككم في سقر قال الفراء : في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان لأنهم لا يعرفون الذنوب (5/466)
43 - { قالوا لم نك من المصلين } أي من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا (5/467)
44 - { ولم نك نطعم المسكين } أي لم نتصدق على المساكين قيل وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة لأنه لا تعذيب على غير الواجب وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات (5/466)
45 - { وكنا نخوض مع الخائضين } أي نخالط أهل الباطل في باطلهم قال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه وقال السدي : كنا نكذب مع المكذبين وقال ابن زيد : نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه و سلم وهو قولهم كاذب مجنون ساحر شاعر (5/467)
46 - { وكنا نكذب بيوم الدين } أي بيوم الجزاء والحساب (5/467)
47 - { حتى أتانا اليقين } وهو الموت كما في قوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } (5/467)
48 - { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } أي شفاعة الملائكة والنبيين كما تنفع الصالحين (5/467)
49 - { فما لهم عن التذكرة معرضين } التذكرة التذكير بمواعظ القرآن والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها وانتصاب معرضين على الحال من الضمير في متعلق الجار والمجرور : أي أي شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى (5/467)
ثم شببهم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال : 50 { كأنهم حمر مستنفرة } والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل ومعنى مستنفرة نافرة يقال نفر واستنفر مثل عجب واستعجب والمراد الحمر والوحشية قرأ الجمهور { مستنفرة } بكسر الفاء : أن نافرة وقرأ نافع وابن عامر بفتحها : أي منفرة مذعورة واختار القراءة الثاينة أبو حاتم وأبو عبيد قال في الكشاف : المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه (5/467)
51 - { فرت من قسورة } أي من رماة يرمونها والقسورة الرامي وجمعه قسورة قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن كيسان وقيل هو الأسد قاله عطاء والكلبي قال ابن عرفة : من القسر بمعنى القهر لأنه يقهر السباع وقيل القسورة أصوات الناس وقيل القسورة بلسان العرب الأسد وبلسان الحبشة الرماة وقال ابن الأعرابي : القسورة أول الليل : أي فرت من ظلمة الليل وبه قال عكرمة والأول أولى وكل شديد عند العرب فهو قسورة ومنه قول الشاعر :
( يا بنت كوني خيرة لخيره ... أخوالها الحي وأهل القسورة )
ومنه قول لبيد :
( إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال العابدون القساور )
ومن إطلاقه على الأسد قول الشاعر :
( مضمر ... تحذره الأبطال كأنه القسور الرهال ) (5/467)
52 - { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة } عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد قال المفسرون : إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه و سلم : ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله والصحف الكتب واحدتها صحيفة والمنشرة المنشورة المفتوحة ومثل هذه الآية قوله سبحانه { حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه } قرأ الجمهور { منشرة } بالتشديد وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف وقرأ الجمهور أيضا بضم الحاء من صحف وقرأ سعيد بن جبير بإسكانها (5/468)
ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال : 53 - { كلا بل لا يخافون الآخرة } يعني عذاب الآخرة لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات وقيل كلا بمعنى حقا (5/468)
ثم كرر الردع والزجر لهم فقال : 54 - { كلا إنه تذكرة } يعني القرآن أو حقا إنه تذكرة والمعنى : أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه (5/468)
55 - { فمن شاء ذكره } أي فمن شاء أن يتعظ به اتعظ (5/468)
ثم رد سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال : 56 - { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } قرأ الجمهور { يذكرون } بالياء التحتية وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية واتفقوا على التخفيف وقوله : { إلا أن يشاء الله } استثناء مفرغ من أعم الأحوال قال مقاتل : إلا أن يشاء الله لهم الهدى { هو أهل التقوى } أي هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته { وأهل المغفرة } أي هو الحقيق بأن بغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { كل نفس بما كسبت رهينة } قال : مأخوذة بعملها وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { إلا أصحاب اليمين } قال : هم المسلمون وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب { إلا أصحاب اليمين } قال : هم أطفال المسلمين وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { حتى أتانا اليقين } قال : الموت وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وضححه عن أبي موسى الأشعري في قوله : { فرت من قسورة } قال : هم الرماة رجال القسي وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : القسورة الرجال الرماة القنص وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي جمرة قال : قلت لابن عباس : القسورة الأسد فقال : ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال وأخرج سفيان بن عيننة وعبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس { من قسورة } قال : هو ركز الناس : يعني أصواتهم وأخرج أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وصححه وابن مردويه عن أنس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } فقال : قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له ] وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا نحوه (5/468)
هي أربعون آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة القيامة وفي لفظ سورة لا أقسم بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال : أنزلت سورة لا أقسم بمكة
قوله : 1 - { لا أقسم بيوم القيامة } قال أبو عبيدة وجماعة من المفسرين : إن لا زائدة والتقدير : أقسم قال السمرقندي : أجمع المفسرون أن معنى لا أقسم : أقسم واختلفوا في تفسير لا فقال : بعضهم : هي زائدة وزيادتها جارية في كلام العرب كما في قوله : { ما منعك أن لا تسجد } يعني أن تسجد و { لئلا يعلم أهل الكتاب } ومن هذا قول الشاعر :
( تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتقطع )
وقال بعضهم : هي رد لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال : ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة وهذا قول الفراء وكثير من النحوين كقول الله لا والله فلا رد لكلام قد تقدمها ومنه قول الشاعر :
( فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعى القوم أني أفر )
وقيل هي للنفي لكن لا لنفي الإقسام بل لنفي ما ينبئ عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه كأن معنى لا أقسم بكذا : لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه فإنه حقيق بأكثر من ذلك وقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر وقد تقدم الكلام على هذا في تفسير قوله : { فلا أقسم بمواقع النجوم } وقرأ الحسن وابن كثير في رواية عنه والزهري وابن هرمز لأقسم بدون ألف على أن اللام لام الابتداء والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال وقد اعترض عليه الرازي بما لا يقدح في قوته ولا يفت في عضد رجحانه وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته (5/469)
2 - { ولا أقسم بالنفس اللوامة } ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكون الكلام في لا هذه كالكلام في الأولى وهذا قول الجمهور وقال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة قال الثعلبي : والصحيح أنه أقسم بهما جميعا ومعنى النفس اللوامة : النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها قال الحسن : هي والله نفس المؤمن لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكذا ما أردت بكذا والفاجر لا يعاتب نفسه قال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم فتلوم نفسها على الشر لم تعمله ؟ وعلى الخي لم لم تستكثر منه ؟ قال الفراء : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت : هلا ازددت وإن كانت عملت سوءا قالت : ليتني لم أفعل وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس فيكون الإقسام بها حسنا سائغا وقيل اللوامة هي الملومة المذمومة فهي صفة ذم وبهذا احتج من نفى أن يكون قسما إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم به قال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله والأول أولى (5/471)
3 - { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه } المراد بالإنسان الجنس وقيل الإنسان الكافر والهمزة للإنكار وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والمعنى : أيحسب الإنسان أن الشأن أن لن نجمع عظامع بعد أن صارت رفاتا فنعيدها خلقا جديدا وذلك حسبان باطل فإنا نجمعها وما يدل عليه هذا الكلام هو جواب القسم قال الزجاج : أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ليجمعن العظام للبعث فهذا جواب القسم وقال النحاس : جواب القسم محذوف : أي ليبعثن والمعنى : أن الله سبحانه يبعث جميع أجزاء الإنسان وإنما خص العظام لأنها قالب الخلق (5/471)
4 - { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } بلى إيجاب لما بعد النفي المنسحب إليه الاستفهام والوقف على هذا اللفظ وقف حسن ثم يبتدئ الكلام بقوله قادرين وانتصاب قادرين على الحال : أي بلى نجمعها قادرين فالحال من ضمير الفعل المقدر وقيل المعنى : بلى نجمعها نقدر قادرين قال الفراء : أي نقدر ونقوى قادرين على أكثر من ذلك وقال أيضا : إنه يصلح نصبه على التكرير : أي بلى فلحسبنا قادرين وقيل التقدير : بلى كنا قادرين وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع بلى قادرون على تقدير مبتدأ : أي بلى نحن قادرون ومعنى { على أن نسوي بنانه } على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت ما لطافتها وصغرها فكيف بكبار الأعضاء فنبه سبحانه بالبنان وهي الأصابع على بقيه الأعضاء وإن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق فهذا وجه تخصيصها بالذكر وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة وقال جمهور المفسرين : إن معنى الآية أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار صفيحة واحدة لا شقوق فيها فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوهما ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها وقيل المعنى : بل نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم فكيف في صورته التي كان عليها والأول أولى ومنه قول عنترة :
( وإن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندوان )
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء (5/471)
5 - { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } هو عطف على أيحسب إما على أنه استفهام مثله وأضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام والمعنى : بل يريد الإنسان أن يقدم فجوره فيما بين يديه من الأوقات وما يستقبله من الزمان فيقدم الذنب ويؤخر التوبة قال ابن الأنباري : يريد أن يفجر ما امتد عمره وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير : يقول سوف أتوب ولا يتوب حتى يأتيه الموت وهو على أشر أحواله قال الضحاك : هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت والفجور أصله الميل عن الحق فيصدق على كل من مال عن الحق بقول أو فعل ومنه قول الشاعر :
( أقسم بالله أبو حفص عمر )
( ما مسها من نقب ولا دبر )
( اغفر له اللهم إن كان فجر ) (5/472)
وجملة 6 - { يسأل أيان يوم القيامة } مستأنفة لبيان معنى يفجر والمعنى : يسأل متى يوم القيامة سؤال استبعاد واستهزاء (5/472)
7 - { فإذا برق البصر } أي فزع وتحير من برق الرجل : إذا نظر إلى البرق فدهش بصره قرأ الجمهور { برق } بكسر الراء قال أبو عمرو بن العلاء والزجاج وغيرهما المعنى تحير فلم يطرف ومنه قول ذي الرمة :
( ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعيني مي بسافرا كاد يبرق )
وقال الخليل والفراء : برق بالكسر : فزع وبهت وتحير والعرب تقول الإنسان المبهوت : قد برق فهو [ بارق ] وأنشد الفراء :
( ونفسك فانع ولا تنعني ... وداو الكلوم ولا تبرق )
أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك وقرأ نافع وأبان عن عاصم { برق } بفتح الراء : أي لمع بصره من شدة شخوصه للموت قال مجاهد وغيره : هذا عند الموت وقيل برق يبرق شق عينيه وفتحهما وقال أبو عبيدة : فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى (5/472)
8 - { وخسف القمر } قرأ الجمهور { خسف } بفتح الخاء والسين مبنيا للفاعل وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة بضم الخاء وكسر السين مبنيا للمفعول ومعنى خسف القمر : ذهب ضوءه ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا ويقال خسف : إذا ذهب جميع ضوئه وكسف : إذا ذهب بعض ضوئه (5/473)
9 - { وجمع الشمس والقمر } أي ذهب ضوءهما جميعا ولم يقل جمعت لأن التأنيث مجازي قاله المبرد وقال أبو عبيدة : هو لتغليب المذكر على المؤنث وقال الكسائي : حمل على معنى جمع النيران وقال الزجاج والفراء : ولم يقل جمعت لأن المعنى بينهما في ذهاب نورهما وقيل جمع بينهما في طلوعهما من الغرب أسودين مكورين مظلمين قال عطاء : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى وقيل تجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار وقرأ ابن مسعود وجمع بين الشمس والقمر (5/473)
10 - { يقول الإنسان يومئذ أين المفر } أي يقول عند وقوع هذه الأمور أين المفر : أي الفرار والمفر مصدر بمعنى الفرار قال الفراء : يجوز أن يكون موضع الفرار ومنه قول الشاعر :
( أين المفر والكباش تنتطح ... وكل كبش فر منها يفتضح )
قال الماوردي : يحتمل وجهين : أحدهما أين المفر من الله سبحانه استحياء منه والثاني أين المفر من جهنم حذرا منها قرأ الجمهور { أين المفر } بفتح الميم والفاء مصدرا كما تقدم وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بفتح الميم وكسر الفاء على أنه اسم مكان : أي أين مكان الفرار وقال الكسائي : هما لغتان مثل مدب ومدب ومصح ومصح وقرأ الزهري بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار ومنه قول امرئ القيس :
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
أي جيد الفر والكر (5/473)
11 - { كلا لا وزر } أي لا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله وقال ابن جبير : لا محيص ولا منعة والوزر في اللغة : ما يلجأ إليه الإنسان من حصن أو جبل أو غيرهما ومنه قول طرفة :
( ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلوا الرأي وفي الروع وزر )
وقال آخر :
( لعمري ما للفتى من وزر ... من الموت يدرك والكبز )
قال السدي : كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال فقال لهم الله : لا وزر يعصمكم مني يومئذ وكلا للردع أو لنفي ما قبلها أو بمعنى حقا (5/474)
12 - { إلى ربك يومئذ المستقر } أي المرجع والمنتهى والمصير لا إلى غيره وقيل إليه الحكم بين العباد لا إلى غيره وقيل المستقر : الاستقرار حيث يقره الله (5/474)
13 - { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } أي يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشر وقال قتادة : بما عمل من طاعة وما أخر من طاعة فلم يعمل بها وقال زيد بن أسلم : بما قدم من أمواله وما خلف للورثة وقال مجاهد : بأول عمله وآخره وقال الضحاك : بما قدم من فرض وأخر من فرض قال القشيري : هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال ويجوز أن يكون عند الموت قال القرطبي : والأول أظهر (5/474)
14 - { بل الإنسان على نفسه بصيرة } ارتفاع بصيرة على أنها خبر الإنسان على نفسه متعلق ببصيرة قال الأخفش : جعله هو البصيرة كما تقول للرجل : أنت حجة على نفسك وقيل المعنى : إن جوارحه تشهد عليه بما عمل كما في قوله : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } وأنشد الفراء :
( كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمقعده أو منظر هو ناظر )
فيكون المعنى : بل جوارح الإنسان عليه شاهدة قال أبو عبيدة والقتيبي : إن هذه الهاء في بصيرة هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة كما في قولهم : علامة وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير وشر والتاء على هذا للتأنيث وقال الحسن : أي بصير بعيوب نفسه (5/474)
15 - { ولو ألقى معاذيره } أي ول اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك يقال معذرة ومعاذير قال الفراء : أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره وقال الزجاج : المعاذير الستور والواحد معذار : أي وإن أرخى الستور يريد أن يخفي نفسه فنسه شاهدة عليه كذا قال الضحاك والسدي : والستر بلغة اليمن يقال له معذار والستر بلغة اليمن يقال له معذار كذا قال المبرد ومنه قول الشاعر :
( ولكنها ضنت بمنزل ساعة ... علينا وأطت يومها بالمعاذر )
والأول أولى وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية ومقاتل ومثله قوله : { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم } وقوله : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } وقول الشاعر :
( فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر ) (5/474)
16 - { لا تحرك به لسانك لتعجل به } كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحرك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصا على أن يحفظه صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية : أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك ومثل هذا قوله : { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } الآية (5/475)
17 - { إن علينا جمعه } في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيئ { وقرآنه } أي إثبات قراءته في لسانك قال الفراء : القراءة والقرآن مصدران وقال قتادة فاتبع قرآنه : أي شرائعه وأحكامه (5/475)
18 - { فإذا قرأناه } أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل { فاتبع قرآنه } أي قراءته (5/475)
19 - { ثم إن علينا بيانه } أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام وبيان ما أشكل منه قال الزجاج : المعنى علينا أن ننزله عليك قرآنا عربيا فيه بيان للناس وقيل المعنى : إن علينا أن نبينه بلسانك (5/475)
20 - { كلا بل تحبون العاجلة } كلا للردع عن العجلة والترغيب في الأناة وقيل هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن ويكونه بينا من الكفار قال عطاء : أي لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه قرأ أهل المدينة والكوفيون { بل تحبون } (5/475)
21 - { وتذرون } بالفوقية في الفعلين جميعا وقرأ الباقون بالتحتية فيهما فعلى القراءة الأولى يكون الخطاب لهم تقريعا وتوبيخا وعلى القراءة الثانية يكون الكلام عائدا إلى الإنسان لأنه بمعنى الناس والمعنى : تحبون الدنيا وتتركون { الآخرة } فلا تعملون لها (5/475)
22 - { وجوه يومئذ ناضرة } أي ناعمة غضة حسنة يقال : شجر ناضر وروض ناضر : أي حسن ناعم ونضارة العيش حسنه وبهجته قال الواحدي والمفسرون : يقولون مضيئة مفسرة مشرقة (5/475)
23 - { إلى ربها ناظرة } هذا من النظر : أي إلى خالقها ومالك أمرها ناظرة : أي تنظر إليه هكذا قال جمهور أهل العلم والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر قال ابن كثير : وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام وقال مجاهد : إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب وروي نحوه عن عكرمة وقيل لا يصح هذا إلا عن مجاهد وحده وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين إذا أرادوا الانتظار قالوا : نظرته كما في قول الشاعر :
( فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب )
فإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه كما قال الشاعر :
( نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان [ تشب لفعال ] )
وقول الآخر :
( إني إليك لما وعدت لناظر ... نظر الفقير إلى الغني الموسر )
أي أنظر إليك نظر ذل كما ينظر الفقير إلى الغني وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا ووجوه مبتدأ وجاز الابتداء به مع كونه نكرة لأن المقام مقام تفصيل وناضرة صفة لوجوه ويومئذ ظرف لناضرة ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله : ناضرة مسوغا للابتداء بها ولكن مقام التفصيل بمجرده مسوغ للابتداء بالنكرة (5/476)
24 - { ووجوه يومئذ باسرة } أي كالحة عابسة كئيبة قال في الصحاح : بسر الرجل وجهه بسورا : أي كلح قال السدي : باسرة : أي متغيرة وقيل مصفرة والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار (5/476)
25 - { تظن أن يفعل بها فاقرة } الفاقرة : الداهية العظيمة يقال فقرته الفاقرة : أي كسرت فقار ظهره قال قتادة : الفاقرة الشر وقال السدي : الهلاك وقال ابن زيد : دخول النار وأصل الفاقرة : الوشم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى تخلص إلى العظم كذا قال الأصمعي ومن هذا قولهم : قد عمل به الفاقرة قال النابغة :
( أبا ... لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقرة )
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : { لا أقسم بيوم القيامة } قال : يقسم ربك بما شاء من خلقه قلت : { ولا أقسم بالنفس اللوامة } قال النفس اللؤوم قلت : { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه } قال : لو شاء لجعله خفا أو حافرا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { اللوامة } قال : المذمومة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا قال : التي تلوم على الخير والشر تقول : لو فعلت كذا وكذا وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : تندم على ما فات وتلوم عليه وأخرج ابن جرير عنه أيضا { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } قال : يمضي قدما وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو الكافر الذي يكذب بالحساب وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : يعني الأمل يقول : اعمل ثم أتوب وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الأمل والبيهقي في الشعب عنه أيضا في الآية قال : يقدم الذنب ويؤخر التوبة وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أيضا { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } يقول : سوف أتوب { يسأل أيان يوم القيامة } قال : يقول متى يوم القيامة قال فبين له { إذا برق البصر } وأخرج ابن جرير عنه قال { إذا برق البصر } يعني الموت وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { لا وزر } قال : لا حصن وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس فيقوله : { لا وزر } قال : لا حصن ولا ملجأ وفي لفظ : لا حرز وفي لفظ : لا جبل وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } قال : بما قدم من عمل وأخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شر وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة فينبؤ بذلك وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر من طرق عنه في قوله : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } قال : شهد على نفسه وحده { ولو ألقى معاذيره } قال : ولو اعتذر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { بل الإنسان على نفسه بصيرة } قال : سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه { ولو ألقى معاذيره } قال : ولو تجرد من ثيابه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله { لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه } قال : يقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه { فإذا قرأناه } يقول : إذا أنزلناه عليك { فاتبع قرآنه } فاستمع له وأنصت { ثم إن علينا بيانه } أن نبينه بلسانك وفي لفظ : علينا أن نقرأه فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق وفي لفظ : استمع فإذا ذهب قرأه كما وعده الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { فإذا قرأناه } قال : بيناه { فاتبع قرآنه } يقول : اعمل به وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود في قوله : { كلا بل تحبون العاجلة } قال : عجلت لهم الدنيا شرها وخيرها وغيبت الآخرة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { وجوه يومئذ ناضرة } قال : ناعمة وأخرج ابن المنذر والآجري في الشريعة واللالكائي في السنة والبيهقي في الرؤية عنه { وجوه يومئذ ناضرة } قال : يعني حسنها { إلى ربها ناظرة } قال : نظرت إلى الخالق وأخرج ابن مردويه عنه أيضا { إلى ربها ناظرة } قال تنظر إلى وجه ربها وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } قال : ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : [ قال الناس : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فهل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه وقد قدمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها وهي تأتي في مصنف مستقل ولم يتسمك من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والطبراني والدارقطني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله : [ إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } ] وأخرج أحمد في المسند من حديثه بلفظ [ إن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين ] وأخرج النسائي والدارقطني وصححه وأبو نعيم عن أبي هريرة قال : [ قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا قال : هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه وترون القمر في ليلة لا غيم فيها ؟ قلنا نعم قال : فإنكم سترون ربكم عز و جل حتى إن أحدكم ليحاضر ربه محاضرة فيقول : عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : ألم تغفر لي ؟ فيقول : بمغفرتي صرت إلى هذا ] (5/476)
قوله : 26 - { كلا } ردع وزجر : أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ثم استأنف فقال : { إذا بلغت التراقي } أي بلغت النفس أو الروح التراقي وهي جمع ترقوة وهي عظيم بين ثغرة النحر والعاتق ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت ومثله قوله : { فلولا إذا بلغت الحلقوم } وقيل معنى كلا حقا : أي حقا أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت قال دريد بن الصمة :
( ورب كريهة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقي ) (5/479)
27 - { وقيل من راق } أي قال من حضر صاحبها من يرقيه ويشتفي برقيته ؟ قال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا وبه قال أبو قلابة ومنه قول الشاعر :
( هل للفتى من بنات الموت من واقي ... أم هل له من حمام الموت من راقي )
وقال أبو الجوزاء : هو من رقي يرقى إذا صعد والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء [ أملائكة ] الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ وقيل إنه يقول ذلك ملك الموت وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها (5/479)
28 - { وظن أنه الفراق } أي وأيقن الذي بلغت روحه الترقي أنه الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد (5/479)
29 - { والتفت الساق بالساق } أي التفت ساقه بساقه عند نزول الموت به وقال جمهور المفسرين : المعنى تتابعت عليه الشدائد وقال الحسن : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت وقيل ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه وقد كان جوالا عليهما وقال الضحاك : اجتمع عليه أمران شديدان : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه وبه قال ابن زيد والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد الكبار والمحن العظام ومنه قولهم : قامت الحرب على ساق وقيل الساق الأول تعذيب روحه عند خروج نفسه والساق الآخر شدة البعث وما بعده (5/479)
30 - { إلى ربك يومئذ المساق } أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه (5/479)
31 - { فلا صدق ولا صلى } أي لم يصدق بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه والضمير يرجع إلى الإنسان المذكور في أول هذه السورة قال قتادة : فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه قال الكسائي لا بمعنى لم وكذا قال الأخفش : والعرب تقول : لا ذهب أي لم يذهب وهذا مستفيض في كلام العرب ومنه :
( إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك إلا ألما ) (5/480)
32 - { ولكن كذب وتولى } أي كذب بالرسول وبما جاء به وتولى عن الطاعة والإيمان (5/480)
33 - { ثم ذهب إلى أهله يتمطى } أي يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك وقيل هو مأخوذ من المطي وهو الظهر والمعنى يلوي مطاه وقيل أصله يتمطط وهو التمدد والتثاقل : أي يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق (5/480)
34 - { أولى لك فأولى } (5/480)
35 - { أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى } أي وليك الويل وأصله أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في { ردف لكم } وهذا تهديد شديد والتكرير للتأكيد : أي تكرر عليك ذلك مرة بعد مرة قال الواحدي : قال المفسرون : أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد أبي جهل ثم قال : { أولى لك فأولى } فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا وإن لأعز أهل هذا الوادي فنزله هذه الآية وقيل معناه : الويل لك ومنه قول الخنساء :
( هممت بنفسي بعض الهمو ... م فأولى لنفسي أولى لها )
وعلى القول بأنه الويل قيل هو من المقلوب كأنه قيل : أويل لك ثم أخر الحرف المعتل وقيل ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات والويل لك حيا والويل لك ميتا والويل لك يوم البعث والويل لك يوم تدخل النار وقيل المعنى : إن الذم لك أولى لك من تركه وقيل المعنى : أنت أولى وأجدر بهذا العذاب قاله ثعلب وقال الأصمعي : أولى فيه كلام العرب معناه مقاربة الهلاك قال المبرد : كأنه يقول : قد وليت الهلاك وقد دانيته وأصله من الولي وهو القرب وأنشد الفراء :
( فأولى أن يكون لك الولاء )
أي قارب أن يكون لك وأنشد أيضا :
( أولى لمن هاجت له أن يكمدا ) (5/480)
36 - { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب وقال السدي : معناه المهمل ومنه إبل سدى : أي ترعى بلا راع وقيل المعنى : أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث (5/480)
وجملة 37 - { ألم يك نطفة من مني يمنى } مستأنفة : أي ألم يك ذلك الإنسان [ قطرة ] من مني يراق في الرحم وسمي المني منيا لإرابته والنطفة : الماء القليل يقال نطف الماء : إذا قطر قرأ الجمهور { ألم يك } بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإنسان وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخا له وقرأ الجمهور أيضا { تمنى } بالفوقية على أن الضمير للنطفة وقرأ حفص وابن محيصن ومجاهد ويعقوب بالتحتية على أن الضمير للمني ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو واختارها أبو حاتم (5/481)
38 - { ثم كان علقة } أي كان بعد النطفة علقة : أي دما { فخلق } أي فقدر بأن جعلها مضغة مخلقة { فسوى } أي فعدله وكمل نشأته ونفخ فيه الروح (5/481)
39 - { فجعل منه } أي حصل من الإنسان وقيل من المني { الزوجين } أي الصنفين من نوع الإنسان ثم بين ذلك فقال : { الذكر والأنثى } أي الرجل والمرأة (5/481)
40 - { أليس ذلك } أي ليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه { بقادر على أن يحيي الموتى } أي يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا فإن الأعادة أهون من الابتداء وأيسر مؤنة منه قرأ الجمهور { بقادر } وقرأ زيد بن علي يقدر فعلا مضارعا وقرأ الجمهور { يحيي } بنصبه بأن وقرأ طلحة بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها تخفيفا أو على إجراء الوصل مجرى الوقف كما مر في مواضع
وقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وقيل من راق } قال : تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب { والتفت الساق بالساق } قال : التفت عليه الدنيا والآخرة وملائكة العذاب أيهم يرقى به وأخرج عبد بن حميد عنه { وقيل من راق } قل من راق يرقى وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { والتفت الساق بالساق } يقول : آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة فتلقى الشدة بالشدة إلا من رحم الله وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { يتمطى } قال : يختال وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : سألت اسن عباس عن قوله : { أولى لك فأولى } أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي جهل من قبل نفسه أم أمره الله به ؟ قال : بلى قاله من قبل نفسه ثم أنزله الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أن يترك سدى } قال : هملا وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عن صالح أبي الخليل قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قرأ هذه الآية { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } قال : سبحانك اللهم وبلى ] وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سبحانك ربي وبلى وأخرج ابن النجار في تاريخه [ عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عند قراءته لهذه الآية : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ] وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ منكم { والتين والزيتون } فانتهى إلى آخرها { أليس الله بأحكم الحاكمين } فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ومن قرأ { لا أقسم بيوم القيامة } فانتهى إلى قوله : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } فليقل بلى ومن قرأ { والمرسلات عرفا } فبلغ { فبأي حديث بعده يؤمنون } فليقل آمنا بالله ] وفي إسناده رجل مجهول وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا قرأت لا أقسم بيوم القيامة فبلغت { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } فقال بلى ] (5/481)
هي إحدى وثلاثون آية
قال الجمهور : هي مدنية وقال مقاتل والكلبي : هي مكية وأخرج النحاس عن ابن عباس أنها نزلت بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وقيل فيها مكي من قوله : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } إلى آخر السورة وما قبله مدني وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال : [ جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : سل واستفهم فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به : أني كائن معك في الجنة قال : نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام ثم قال : من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله ومن قال : سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ونزلت هذه السورة { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } إلى قوله : { ملكا كبيرا } فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة قال : نعم فاشتكى حتى فاضت نفسه قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يدليه في حفرته بيده ] وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال : حدثني الثقة [ أن رجلا أسود كان يسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن التسبيح والتهليل فقال له عمر بن الخطاب : أكثرت على رسول الله فقال : مه يا عمر وأنزلت على النبي صلى الله عليه و سلم { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : مات شوقا إلى الجنة ] وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعا مرسلا وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن منيع وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والضياء عن أبي ذر قال : [ قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { هل أتى على الإنسان } حتى ختمها ثم قال : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز و جل ]
حكى الواحدي عن المفسرين وأخل المعاني أن 1 - { هل } هنا بمعنا قد وليس باستفهام وقد قال بهذا سيبويه والكسائي والفراء وأبو عبيدة قال الفراء : هل تكون جحدا وتكون خبرا فهذا من الخبر لأنك تقول : هل أعطيتك تقرره بأنك أعطيته والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا وقيل هي وإن كانت بمعنى قد ففيها معنى الاستفهام والأصل أهل أتى فالمعنى : أقد أتى والاستفهام للتقرير والتقريب والمراد بالإنسان هنا آدم قال قتادة والثوري وعكرمة والسدي وغيرهم { حين من الدهر } قيل أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وقيل إنه خلق من طين أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ثم من صلصال أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة وقيل الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره وقيل المراد بالإنسان بنو آدم والحين مدة الحمل وجملة { لم يكن شيئا مذكورا } في محل نصب على الحال من الإنسان أو في محل رفع صفة لحين قال الفراء وقطرب وثعلب : المعنى أنه كان جسدا مصورا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا وقال يحيى بن سلام : لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا وقيل ليس المراد بالذكر هنا الإخبار فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف كما في قوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } قال القشيري : ما كان مذكورا للخلق وإن كان مذكورا لله سبحانه قال الفراء : كان شيئا ولم يكن مذكورا فجعل النفي متوجها إلى القيد وقيل المعنى : قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير وتقديره : هل أتى حين من لم يكن شيئا مذكورا لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيوان (5/482)
2 - { إنا خلقنا الإنسان من نطفة } المراد بالإنسان هنا ابن آدم قال القرطبي : من غير خلاف والنطفة : الماء الذي يقطر وهو المني وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة وجمعها نطف و { أمشاج } صفة لنطفة وهي جمع مشج أو مشيج وهي الأخلاط والمراد نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما يقال مشج هذا بهذا فهو ممشوج : أي خلط هذا بهذا فهو مخلوط قال المبرد : مشج يمشج إذا اختلط وهو هنا اختلاط النطفة بالدم قال رؤبة بن العجاج :
( يطرحن كل معجل مشاج ... لم يكس جلدا من دم أمشاج )
قال الفراء : أمشاج اختلاط ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة ويقال مشج هذا : إذا خلط وقيل الأمشاج : الحمرة في البياض والبياض في الحمرة قال القرطبي : وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة قال الهذلي :
( كأن الريش والوقين منه ... حلاف النصل نيط به مشيج )
وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فيخلق منهما الولد قال ابن السكيت : الأمشاج : الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها وطباع مختلفة وقيل الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار ويؤيد هذا وقوعه نعتا لنطفة وجملة { نبتليه } في محل نصب على الحال من فاعل خلقنا : أي مريدين ابتلاءه ويجوز أن يكون حالا من الإنسان والمعنى : نبتليه بالخير والشر وبالتكاليف قال الفراء : معناه والله أعلم { جعلناه سميعا بصيرا } نبتليه وهي مقدمة معناها التأخير لأن الابتلاء لا يقع إلى بعدج تمام الخلقة وعلى هذا تكون هذه الحال مقدرة وقيل مقارنة وقيل معنى الابتلاء : نقله من حال إلى حال على طريقه الاستعارة والأول أولى (5/484)
ثم ذكر سبحانه أنه أعطاءه ما يصح معه الابتلاء فقال : 3 - { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر كما في قوله : { وهديناه النجدين } قال مجاهد : أي بينا السبيل إلى الشقاء والسعادة وقال الضحاك والسدي وأبو صالح : السبيل هنا خروجه من الرحم وقيل منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله وانتصاب شاكرا وكفورا على الحال من مفعول هديناه : أي مكناه من سلوك الطريق في حالتيه جميعا وقيل على الحال من سبيل على المجاز : أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا وحكى مكي عن الكوفيين أن قوله إما هي إن شرطية زيدت بعدها ما : أي بينا له الطريق إن شكر وإن كفر واختار هذا الفراء ولا يجيزه البصريون لأن إن الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل ولا يصح هنا إضمار الفعل لأنه كان يلزم رفع شاكرا وكفورا ويمكن أن يضمر فعل ينصب شاكرا وكفورا وتقديره : إن خلقناه شاكرا فشكور وإن خلقناه كافرا فكفور وهذا على قراءة الجمهور { إما شاكرا وإما كفورا } بكسر همزة إما وقرأ أبو السماك وأبو العجاج بفتحها وهي على الفتح إما العاطفة في لغة بعض العرب أو هي التفصيلية وجوابها مقدر وقيل انتصب شاكرا وكفورا بإضمار كان والتقدير : سواء كان شاكرا أو كان كفورا (5/485)
ثم بين سبحانه ما أعد للكافرين فقال : 4 - { إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا } قرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عمر { سلاسل } بالتنوين ووقف قنبل عن ابن كثير وحمزة بغير ألف والباقون وقفوا بالألف ووجه من قرأ بالتنوين في سلاسل مع كون فيه صيغة منتهى الجموع أنه قصد بذلك التناسب لأن ما قبله وهو { إما شاكرا وإما كفورا } وما بعده وهو { أغلالا وسعيرا } منون أو على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف كما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين عن بعض العرب قال الأخفش : سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأن الوصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها قال الفراء : هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم : هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم :
( كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا )
ومن ذلك قول الشاعر :
( وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار )
بكسر السين من نواكس وقول لبيد :
( وحسور أستار دعوني لحتفها ... بمعالق متشابه أعلاقها )
وقوله أيضا :
( فضلا وذو كرم [ يعين ] ... على الندى سمح لشوب رغائب غنامها )
وقيل إن التنوين لموافقة رسم المصاحف المكية والمدنية والكوفية فإنها فيها بالألف وقيل إن هذا التنوين بدل من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف والسلاسل قد تقدم تفسيرها والخلاف فيها هل هي القيود أو ما يجعل في الأعناق كما في قول الشاعر :
( ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل والأغلال )
[ جمع ] غل تغل به الأيدي إلى الأعناق والسعير : الوقود الشديد وقد تقدم تفسير السعير (5/485)
ثم ذكر سبحانه ما أعده للشاكرين فقال : 5 - { إن الأبرار يشربون من كأس } الأبرار : أهل الطاعة والإخلاص والصدق جمع بر أو بار قال في الصحاح : جمع البر الأبرار وجمع البار البررة وفلان يبر خالقه ويبرره : أي يطيعه وقال الحسن : البر الذي لا يؤذي الذر وقال قتادة : الأبرار الذي يؤدون حق الله ويوفون بالنذر والكأس في اللغة هو الإناء الذي فيه الشراب وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسم كأسا ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة بل يكون من الزجاج ومن الذهب والفضة والصيني وغير ذلك وقد كانت كاسات العرب من أجناس مختلفة وقد يطلق الكأس على نفس الخمر كما في قول الشاعر :
( وكأس ... شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها )
{ كان مزاجها كافورا } أي يخالطها وتمزج به يقال مزجه يمزجه مزجا : أي خلطه يخلطه خلطا ومنه قول الشاعر :
( كأن سببية من بيت رأس ... كان مزاجها عسل وماء )
وقول عمرو بن كلثوم :
( صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا )
( معتقة كأن الخص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا )
ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الأخلاط والكافور قيل : هو اسم عين في الجنة يقال لها الكافوري تمزج خمر الجنة بماء هذه العين وقال قتادة ومجاهد : تمزج لهم بالكافور وتختم بهم بالمسك وقال عكرمة : مزاجها طعمها وقيل إنما الكافور في ريحها لا في طعمها وقيل إنما أراد الكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده لأن الكافور لا يشرب كما في قوله : { حتى إذا جعله نارا } أي كنار وقال ابن كيسان : طيبها المسك والكافور والزنجبيل وقال مقاتل : ليس هو كافور الدنيا وإنما سمي الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب والجملة في محل جر صفة لكأس وقيل إن كان هنا زائدة : أي من كأس مزاجها كافورا (5/487)
6 - { عينا يشرب بها عباد الله } انتصاب عينا على أنها بدل من كافورا لأن ماءها في بياض الكافور وقال مكي : إنها بدل من محل من كأس على حذف مضاف كأنه قيل : يشربون خمرا خمر عين وقيل إنها منتصبة على أنها مفعول يشربون : أي عينا من كأس وقيل هي منتصبة على الاختصاص قاله الأخفش وقيل منتصبة بإضمار فعل يفسره ما بعده : أي يشربون عينا يشرب بها عباد الله والأول أولى وتكون جملة { يشرب بها عباد الله } صفة لعينا وقيل إن الباء في يشرب بها زائدة وقيل بمعنى من قاله الزجاج ويعضده قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله وقيل إن يشرب مضمن معنى يلتذ وقيل هي متعلقة بيشرب والضمير يعود إلى الكأس وقال الفراء : يشربها ويشرب بها سواء في المعنى وكأن يشرب بها يروى بها وينتفع بها وأنشد قول الهذلي :
( شربن بماء البحر ثم ترفعت )
قال : ومثله تكلم بكلام حسن وتكلم كلاما حسنا { يفجرونها تفجيرا } أي يجرونها إلى حيث يريدون وينتفعون بها كما يشاءون ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يريدون وصوله إليه فهم يشقونها شقا كما يشق النهر ويفجر إلى هنا وهنا قال مجاهد : يقودونها حيث شاءوا وتتبعهم حيث مالوا مالت معهم والجملة صفة أخرى لعينا (5/487)
وجملة 7 - { يوفون بالنذر } مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر وكذا ما عطف عليها ومعنى النذر في اللغة الإيجاب والمعنى : يوفون بما أوجبه الله عليهم من الطاعات قال قتادة ومجاهد : يوفون بطاعة الله من الصلاة والحج ونحوهما وقال عكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله سبحانه والنذر في الشرع ما أوجبه المكلف على نفسه فالمعنى : يوفون بما أوجبوه على أنفسهم قال الفراء : في الكلام إضمار : أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وقال الكلبي : يوفون بالعهد : أي يتممون العهد والأولى حمل النذر هنا على ما أوجبه العبد على نفسه من غير تخصيص { ويخافون يوما كان شره مستطيرا } المراد يوم القيامة ومعنى استطارة شره فشوه وانتشاره يقال استطار يستطير استطارة فهو مستطير وهو استفعل من الطيران ومنه قول الأعشى :
( فباتت وقد أثارت في الفؤا ... د صدعا على نأيها مستطيرا )
والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة : إذا امتد ويقال استطار الحريق : إذا انتشر قال الفراء : المستطير المستطيل قال قتادة : استطار شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض قال مقاتل : كان شره فاشيا في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه (5/488)
8 - { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } أي يطعمون هؤلاء الثلاثة الأصناف الطعام على حبه لديهم وقلته عندهم قال مجاهد : على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له فقوله على حبه في محل نصب على الحال : أي كائنين على حبه ومثله قوله : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وقيل على حب الإطعام لرغبتهم في الخير قال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطعام وقيل الضمير في حبه يرجع إلى الله : أي يطعمون الطعام على حب الله : أي يطعمون إطعاما كائنا على حب الله (5/488)
ويؤيد هذا قوله : 9 - { إنما نطعمكم لوجه الله } والمسكين ذو المسكنة وهو الفقير أو من هو أفقر من الفقير والمراد باليتيم يتامى المسلمين والأسير الذي يؤسر فيحبس قال قتادة ومجاهد : الأسير المحبوس وقال عكرمة : الأسير العبد وقال أبو حمزة الثمالي : الأسير المرأة قال سعيد بن جبير : نسخ هذا الإطعام آية الصدقات وآية السيف في حق الأسير الكافر وقال غيره : بل هي محكمة وإطعام المسكين واليتيم على التوع وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام وجملة { إنما نطعمكم لوجه الله } في محل نصب على الحال بتقدير القول : أي يقولون إنما نطعمكم أو قائلين إنما نطعمكم : يعني أنهم يستكملوا بهذا ولكن عمله الله من قلوبهم فأثنى عليهم بذلك قال الواحدي : قال المفسرون : لم يستكملوا بهذا ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفا من الله ورداء ثوابه { لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } أي لا نطلب منكم المجازاة على هذا الإطعام ولا نريد منكم الشكر لنا بل هو خالص لوجه الله وهذه الجملة مقررة لما قبلها لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه (5/488)
10 - { إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } أي نخاف عذاب يوم متصف بهاتين الصفتين ومعنى عبوسا : أنه يوم تعبس فيه الوجوه من هو له وشدته فالمعنى : أنه ذو عبوس قال الفراء وأبو عبيدة والمبرد : يوم قمطرير وقماطر : إذا كان صعبا شديدا وأنشد الفراء :
( بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر )
قال الأخفش : القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ومنه قول الشاعر :
( ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ... ولج بها اليوم العبوس القماطر )
قال الكسائي : اقمطر اليوم وازمهر : إذا كان صعبا شديدا ومنه قول الشاعر :
( بنو الحرب أوصينا لهم بقمطرة ... ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب )
وقال مجاهد : إن العبوس بالشفتين والقطمير بالجبهة والحاجبين فجعلهما من صفات المتغير في ذلك اليوم لما يراه من الشدائد وأنشد ابن الأعرابي :
( يقدر على الصيد بعود منكسر ... ويقمطر ساعة ويكفهر )
قال أبو عبيدة : يقا قطمرير : أي منقبض ما بين العينين والحاجبين قال الزجاج : يقال اقمطرت الناقة : إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ما يسبقها من القطر وجعل الميم مزيدة (5/489)
11 - { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } أي أعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب قال الضحاك : والنضرة البياض والنقاء في وجوههم وقال سعيد بن جبير الحسن والبهاء وقيل النضرة أثر النعمة (5/490)
12 - { وجزاهم بما صبروا } أي بسبب صبرهم على التكاليف وقيل على الفقر وقيل على الجوع وقيل على الصوم والأولى حمل الآية على الصبر على كل شيء يكون الصبر عليه طاعة لله سبحانه وما مصدرية والتقدير : بصبرهم { جنة وحريرا } أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير وهو لباس أهل الجنة عوضا عن تركه في الدنيا امتثالا لما ورد في الشرع من تحريمه وظاهر هذه الآيات العموم في كل من خاف من يوم القيامة وأطعم لوجه الله وخاف من عذابه والسبب وإن كان خاص كما سيأتي فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويدخل السبب التنزيل تحت عمومها دهولا أوليا
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { هل أتى على الإنسان } قال : كل إنسان وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { أمشاج } قال أمشاجها عروقها وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم { أمشاج } قال : العروق وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس { من نطفة أمشاج } قال : ماء الرجل وماء المراة حين يختلطان وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : { أمشاج } ألوان : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المراة خضراء وحمراء وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الأمشاج الذي يخرج على أثر البول كقطع الأوتار ومنه يكون الولد وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه أيضا في قوله : { وأسيرا } قال : هو المشرك وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { مسكينا } قال : فقيرا { ويتيما } قال لا أب له { وأسيرا } قال : المملوك والمسجون ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ويطعمون الطعام } الآية قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يوما عبوسا } قال : ضيقا { قمطريرا } قال : طويلا
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { يوما عبوسا قمطريرا } قال : يقبض ما بين الأبصار ] وأخرج عبد بن حميد و ابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس قال : القمطرير الرجل المنقبض ما بين عينيه ووجهه وأخرج ابن المنذر عنه { ولقاهم نضرة وسرورا } قال : نضرة في وجوههم وسرورا في صدورهم (5/490)
قوله : 13 - { متكئين فيها على الأرائك } منصوب على الحال من مفعول جزاهم والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها صبروا لأن الصبر إنما كان في الدنيا وجوز أبو البقاء أن يكونه صفة لجنة قال الفراء : وإن شئت جعلت متكئين تابعا كأنه قال : جزاهم جنة متكئين فيها وقال الأخفش : يجوز أن يكون منصوبا على المدح والضمير من فيها يعود إلى الجنة والأرائك : السرر في الحجال وقد تقدم تفسيرها في سورة الكهف { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا } الجملة في محل نصب على الحال من مفعول جزاهم فتكون من الحال المترادفة أو من الضمير في متكئين فتكون من الحال المتداخلة أو صفة أخرى لجنة والزمهرير أشد البرد والمعنى : أنهم لا يرون في الجنة حر الشمس ولا برد الزمهرير ومنه قول الأعشى :
( منعمة طفلة كالمها ... لم تر شمسا ولا زمهريرا )
وقال ثعلب : الزمهرير القمر بلغة طي وأنشد لشاعرهم :
( وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر )
ويروى ما ظهر : أي لم يطلع القمر وقد تقدم تفسير هذا في سورة مريم (5/491)
14 - { ودانية عليهم ظلالها } قرأ الجمهور { دانية } بالنصب عطفا على محل لا يرون أو على متكئين أو صفة لمحذوف : أي وجنة دانية كأنه قال : وجزاهم جنة دانية وقال الزجاج : هو صفة لجنة المتقدم ذكرها وقال الفراء : هو منصوب على المدح وقرأ أبو حيوة ودانية بالرفع على أنه خبر مقدم وظلالها مبتدأ مؤخر والجملة في موضع النصب على الحال والمعنى : أن ظلال الأشجار قريبة منهم مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس هنالك قال مقاتل : يعني شجرها قريب منهم وقرأ ابن مسعود ودانيا عليهم { ذللت قطوفها تذليلا } معطوف على دانية كأنه قال : ومذللة ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم ويجوز أن تكون مستأنفة والقطوف الثمار والمعنى : أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيرا كثيرا بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك قال النحاس : المذلل القريب المتناول ومنه قولهم حائط ذليل : أي قصير قال ابن قتيبة : ذللت أدنيت من قولهم حائط ذليل : أي كان قصير السمك وقيل ذللت : أي جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا (5/491)
15 - { ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب } أي تدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة والأكواب جمع كوب وهو الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة ومنه قول عدي :
( متكئ ... تقرع أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب )
وقد مضى تفسيره في سورة الزخرف { كانت قواريرا * قوارير من فضة } أي في وصف القوارير في الصفاء وفي بياض الفضة فصفاؤها صفاء الزجاج ولونها لون الفضة (5/492)
قرأ نافع والكسائي وأبو بكر 16 - { قواريرا * قوارير } بالتنوين فيهما مع الوصل وبالوقف عليهما بالألف وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله : { سلاسل } من هذه السورة وبينا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع فارجع إليه وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما وعدم الوقف بالألف ووجه هذه القراءة ظاره لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع الوقف عليهما بالألف وقرأ ابن كثير بتنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف جون الثاني وقرأ أبو عمرو وحفص وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما والوقف على الأول بالألف دون الثاني والجملة في محل جر صفة لأكواب قال أبو البقاء : وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها قال الواحدي : قال المفسرون : جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير قال الزجاج : القوارير التي في الدنيا من الرمل فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها وجملة { قدروها تقديرا } صفة لقوارير قرأ الجمهور { قدروها } بفتح القاف على البناء للفاعل : أي قدرها السقاة من الخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زيادة ولا نقصان قال مجاهد وغيره : أتوابها على قدر ريهم بغير زيادة ولا نقصان قال الكلبي : وذلك ألذ وأشهى وقيل : قدرها الملائكة وقيل قدرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجاتهم فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص وقرأ علي وابن عباس والسلمي والشعبي وزيد بن علي وعبيد بن عمير وأبو عمرو في رواية عنه قدروها بضم القاف وكسر الدال مبنيا للمفعول : أي جعلت لهم على قدر إرادتهم قال أبو علي الفارسي : هو من باب القلب قال : لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم لا قدروها لأنه في معنى قدروا عليها وقال أبو حاتم : التقدير قدرت الأواني على قدر ريهم فمفعول ما لم يسم فاعله محذوف قال أبو حيان : والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يقال : قدر ريهم منها تقديرا فحذف المضاففصار قدروها وقال المهدوي : إن القراءة الأخيرة يرجع معناها إلى معنى القراءة الأولى وكأن الأصل قدروا عليها فحذف حرف الجر كما أنشد سيبويه :
( آليت حب العراق الدهر آكله ... والحب يأكله في القرية السوس )
أي آليت على حب العراق (5/492)
17 - { ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا } قد تقدم أن الكأس هو الإناء فيه الخمر وإذا كان خاليا عن الخمر فلا يقال له كأس والمعنى : أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأسا من الخمر ممزوجة بالزنجبيل وقد كانت العرب تستلذ مزج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته وقال مجاهد وقتادة : الزنجبيل اسم للعين التي يشرب بها المقربون وقال مقاتل : هو زنجبيل لا يشبه زنجبيل الدنيا (5/493)
18 - { عينا فيها تسمى سلسبيلا } انتصاب عينا على أنها بدل من كأسا ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدر : أي يسقون عينا ويجوز أن تكون منصوبة بنزع الخافض : أي من عين والسلسبيل : الشراب اللذيذ مأخوذ من السلاسة تقول العرب : هذا شراب سلس وسلسال وسلسبيل : أي طيب لذيذ قال الزجاج : السلسبيل في اللغة اسم لماء في غاية السلاسة حديد الجرية يسوغ في حلوقهم ومنه قول حسان بن ثابت :
( يسقون من ورد البريص عليهم ... كأسا يصفق بالرحيق السلسل ) (5/493)
19 - { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم ووصف آنيتهم ووصف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب ومعنى { مخلدون } باقون على ما هم عليه من الشباب والطراوة والنضارة لا يهرمون ولا يتغيرون وقيل معنى { مخلدون } لا يموتون وقيل التخليد التحلية : أي محلون { إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم وصفاء ألوانهم ونضارة وجوههم لؤلؤا مفرقا قال عطاء : يريد في بياض اللون وحسنه واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما قال أهل المعاني : إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة ولو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم وقيل إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة بخلاف الحور العين فإنهم شبههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهن بالخدمة (5/493)
20 - { وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا } أي وإذا رميت ببصرك هناك يعني في الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا لا يقادر قدره وثم ظرف مكان والعامل فيها رأيت قال الفراء في الكلام ما مضمرة : أي وإذا رأيت ما ثم كقوله : { لقد تقطع بينكم } أي ما بينكم قال الزجاج معترضا على الفراء : إنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ولكن رأيت يتعدى في المعنى إلى ثم والمعنى : إذا رأيت ببصرك ثم ويعني بثم الجنة قال السدي : النعيم ما يتنعم به والملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم وكذا قال مقاتل والكلبي وقيل إن رأيت ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا منوي بل معناه : أن بصرك أينما وقع في الجنة رأيت نعيما وملكا كبيرا (5/493)
21 - { عاليهم ثياب سندس } قرأ نافع وحمزة وابن محيصن { عاليهم } بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر أو على أن عاليهم مبتدأ وثياب مرتفع بالفاعلية وإن لم يعتمد الوصف كما هو مذهب الأخفش وقال الفراء : هو مرفوع بالابتداء وخبره : ثياب سندس واسم الفاعل مراد به الجمع وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه ظرف في محل رفع على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر كأنه قيل فوقهم ثياب قال الفراء : إن عاليهم بمعنى فوقهم وكذا قال ابن عطية قال أبو حيان : عال وعالية اسم فاعل فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب وقد تقدمه إلى هذا الزجاج وقال : هذا مما لا نعرفه في الظروف ولو كان ظرفا لم لم يجز إسكان الياء ولكنه نصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله : { يطوف عليهم } أي على الأبرار { ولدان } عاية الأبرار { ثياب سندس } أي يطوف عليهم في هذه الحال والثاني أن يكون حالا من الولدان : أي إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علو الثياب أبدانهم وقال أبو علي الفارسي : العامل في الحال إما لقاهم نضرة وسرورا وإما جزاهم بما صبروا قال : ويجوز أن يكون ظرفا وقرأ ابن سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة : عليهم وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة واختار أبو عبيد القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود : عليتهم وقرأ الجمهور بإضافة ثياب إلى سندس وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين ثياب وقطعها عن الإضافة ورفع سندس و { خضر وإستبرق } على أن السندس نعت للثياب لأن السندس نوع من الثياب وعلى أن خضر نعت لسندس لأنه يكون أخضر وغير أخضر وعلى أن استبرق معطوف على سندس : أي وثياب استبرق والجمهور من القراء اختلفوا في { خضر وإستبرق } مع اتفاقهم على جر سندس بإضافة ثياب إليه فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجر { خضر } نعتا لسندس ورفع { إستبرق } عطفا على ثياب : أي عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع { خضر } نعتا لثياب وجر { إستبرق } نعت لسندس واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة والاستبرق من جنس السندس وقرأ نافع وحفص برفع { خضر وإستبرق } لأن خضر نعت للثياب وإستبرق عطف على الثياب وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجر { خضر وإستبرق } على أن خضر نعت للسنسد واستبرق معطوف على سندس وقرءوا كلهم بصرف استبرق إلا ابن محيصن فإنه لم يصرفه قال : لأنه أعجمي ولا وجه لهذا لأنه نكرة إلا أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب والسندس : مارق من الديباج والاستبرق : ما غلظ منه وقد تقدم تفسيرهما في سورة الكهف { وحلوا أساور من فضة } عطف على يطوف عليهم ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضة وفي سورة فاطر { يحلون فيها من أساور من ذهب } وفي سورة الحج { يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا } ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة وسوارات الفضة تارة وسوارات اللؤلؤ تارة أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من ضمير عاليهم بتقدير قد { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } هذا نوع آخر من الشراب الذي يمن الله عليهم به قال الفراء : يقول هو طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا موصوفا بالنجاسة والمعنى : أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا قال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش وغل وحسد قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي : يؤتون بالطعام فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك (5/494)
22 - { إن هذا كان لكم جزاء } أي يقال لهم : إن هذا الذي ذكر من أنواع النعم كان لكم جزاء بأعمالكم : أي ثوابا لها { وكان سعيكم مشكورا } أي كان عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضيا مقبولا وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : الزمهرير هو البرد الشديد وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اشتكت النار إلى ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين : نفسا في الصيف ونفسا في الشتاء فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون في الصيف من الحر من سمومها ] وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السري وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله : { ودانية عليهم ظلالها } قال : قريبة { وذللت قطوفها تذليلا } قال : إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا وفي لفظ قال : ذللت فيتناولون منها كيف شاءوا وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : { آنية من فضة } وصفاؤها كصفاء القوارير { قدروها تقديرا } قال : قدرت للكف وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عنه قال : لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة في صفاء القوارير وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة وأخرج الفريابي عنه أيضا في قوله : { قدروها تقديرا } قال : أتوا بها على قدر الفم لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا { قدروها تقديرا } قال : قدرتها السقاة وأخرج ابن المبارك وهناد وعبد بن حميد والبيهقي في البعث عن ابن عمرو قال : إن أدنى أهل الجنة منزلا من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه صاحبه وتلا هذه الآية { إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } (5/495)
قوله : 23 - { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } أي فرقناه في الغنزلا ولم ننزله جملة واحدة وقيل المعنى : نزلناه عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون (5/496)
24 - { فاصبر لحكم ربك } أي لقضائه ومن حكمه وقضائه تأخير نصرك إلى أجل اقتضته حكمته قيل وهذا منسوخ بآية السيف { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } أي لا تطع كل واحد من مرتكب لإثم وغال في كفر فنهاه الله سبحانه عن ذلك قال الزجاج : إن الألف هنا آكد من الواو وحدها لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص لأنه أمره أن لا يطيع الاثنين فإذا قال : لا تطع منهم آثما أو كفورا دل ذلك على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى كما أنك إذا قلت : لا تخالف الحسن أو ابن سيرين فقد قلت إنهما أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل أن يتبع وقال الفراء أو هنا بمنزلة لا كأنه قال : ولا كفورا وقيل المراد بقوله : { آثما } عتبة بن ربيعة وبقوله : { أو كفورا } الوليد بن المغيرة لأنهما قالا للنبي صلى الله عليه و سلم : ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج (5/496)
25 - { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } أي دم على ذكره في جميع الأوقات وقيل المعنى : صل لربك أول النهار وآخره فأول النهار صلاة الصبح وآخره صلاة العصر (5/497)
26 - { ومن الليل فاسجد له } أي صل المغرب والعشاء وقيل المراد الصلاة في بعضه من غير تعيين ومن للتبعيض على كل تقدير { وسبحه ليلا طويلا } أي نزهه عما لا يليق به فيكون المراد الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة أو في غيرها وقيل المراد التطوع في الليل قال ابن زيد وغيره : إن هذه الآية منسوخة بالصلوات الخمس وقيل الأمر للندب وقيل هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه و سلم (5/497)
27 - { إن هؤلاء يحبون العاجلة } يعني كفار مكة ومن هو موافق لهم والمعنى : أنهم يحبون الدار العاجلة وهي دار الدنيا { ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } أي يتركون ويدعون وراءهم : أي خلفهم أو بين أيديهم وأمامهم يوما شديدا عسيرا وهو يوم القيامة وسمي ثقيلا لما فيه من الشدائد والأهوال ومعنى كونه يذرونه وراءهم : أنهم لا يستعدون له ولا يعبئون به فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاونا به واستخفافا بشأنه وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم (5/497)
28 - { نحن خلقناهم } أي ابتدأنا خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكا ولا استقلالا { وشددنا أسرهم } الأسر : شدة الخلق يقال شد الله أسر فلان : أي قوى خلقه قال مجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم : شددنا خلقهم قال الحسن : شددنا أوصالهم بعضا إلى بعض بالعروق والعصب قال أبو عبيد : يقال فرس شديد الأسر : أي الخلق قال لبيد :
( ساهم الوجه شديد أسره ... مشرف الحارك محبوك القتد )
وقال الأخطل :
( من كل مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالا )
وقال ابن زيد : الأسر القوة واشتقاقه من الإسار وهو القد الذي تشد به الأقتاب ومنه قول ابن أحمر يصف فرسا :
( يمشي بأوطفة شداد أسرها ... شم السبائك لا تفي بالجدجد )
{ وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } أي لو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم وقيل المعنى : مسخناهم إلى أسمج صورة وأقبح خلقة (5/497)
29 - { إن هذه تذكرة } يعني إن هذه السورة تذكير وموعظة { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } أي طريقا يتوسل به إليه وذلك بالإيمان والطاعة والمراد إلى ثوابه أو إلى جنته (5/498)
30 - { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } أي وما تشاءون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلا أن يشاء الله فالأمر إليه سبحانه ليس إليهم والخير والشر بيده لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع فمشيئة العبد مجردة لا تأتي بخير ولا تدفع شرا وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة ويؤجر على قصد الخير كما في حديث [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] قال الزجاج أي لستم تشاءون إلا بمشيئة الله { إن الله كان عليما حكيما } في أمره ونهيه : أي بليغ العلم والحكمة (5/498)
31 - { يدخل من يشاء في رحمته } أي يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها أو يدخل في جنته من يشاء من عباده قال عطاء : من صدقت نيته أدخله جنته { والظالمين أعد لهم عذابا أليما } انتصاب الظالمين بفعل مقدر يدل عليه ما قبله : أي يعذب الظالمين نصب الظالمين لأن ما قبله منصوب أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين : أي المشركين ويكون أعد لهم تفسيرا لهذا المضمر والاختيار النصب وإن جاز الرفع وبالنصب قرأ الجمهور وقرأ أبان بن عثمان بالرفع على الابتداء ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { وشددنا أسرهم } قال : خلقهم وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة { وشددنا أسرهم } قال هي المفاصل (5/498)
هي خمسون آية
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر قال قتادة : إلا آية منها وهي قوله : { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } فإنها مدنية وروي هذا عن ابن عباس وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة المرسلات بمكة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : [ بينما نحن مع النبي صلى الله عليه و سلم في غار بمنى إذ نزلت سورة المرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اقتلوها فابتدرناه فذهبت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : وقيت شركم كما وقيتم شرها ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ : { والمرسلات عرفا } فقالت : يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها آخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بها في المغرب
قوله : 1 - { والمرسلات عرفا } قال جمهور المفسرين : هي الرياح وقيل هي الملائكة وبه قال مقاتل وأبو صالح والكلبي وقيل هم الأنبياء فعلى الأول أقسم سبحانه بالرياح المرسلة لما يأمرها به كما في قوله : { وأرسلنا الرياح لواقح } وقوله : { يرسل الرياح } وغير ذلك وعلى الثاني أقسم سبحانه بالملائكة المرسلة بوحيه وأمره ونهيه وعلى الثالث أقسم سبحانه برسله المرسلة إلى عباده لتبليغ شرائعه وانتصاب { عرفا } إما على أنه مفعول لأجله : أي المرسلات لأجل العرف وهو ضد النكر ومنه قول الشاعر :
( من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس )
أو على أنه حال بمعنى متتابعة يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس تقول العرب : سار الناس إلى فلان عرفا واحدا : إذا توجهوا إليه وهم على فلان كعرف الضبع : إذا تألبوا عليه أو على أنه مصدر كأنه قال : والمرسلات إرسالا : أي متتابعة أو على أنه منصوب بنزع الخافض : أي والمرسلات بالعرف قرأ الجمهور { عرفا } بسكون الراء : وقرأ عيسى بن عمر بضمها وقيل المراد بالمرسلات السحاب لما فيها من نعمة ونقمة (5/498)
2 - { فالعاصفات عصفا } وهي الرياح الشديدة الهبوب قال القرطبي بغير اختلاف : يقال عصف بالشيء : إذا أباده وأهلكه وناقة عصوف : أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة ويقال عصفت الحرب بالقوم إذا ذهبت بهم وقيل هي الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها وقيل يعصفون بروح الكافر وقيل هي الآيات المهلكة كالزلازل ونحوها (5/500)
3 - { والناشرات نشرا } يعني الرياح تأتي بالمطر وهي تنشر السحاب نشرا أو الملائكة الموكلون بالسحاب ينشرونها أو ينشرون أجنحتهم في الجو عند النزول بالوحي أو هي الأمطار لأنها تنشر النبات وقال الضحاك : يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم وقال الربيع : إنه البعث للقيامة بنشر الأرواح وجاء بالواو هنا لأنه استئناف قسم آخر (5/500)
4 - { فالفارقات فرقا } يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام وقال مجاهد : هي الريح تفرق بين السحاب فتبدده وروي عنه أنها آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل وقيل هي الرسل فرقوا ما بين ما أمر الله به ونهى عنه (5/500)
وبه قال الحسن : 5 - { فالملقيات ذكرا } هي الملائكة قال القرطبي بإجماع : أي تلقي الوحي إلى الأنبياء وقيل هو جبريل وسمي باسم الجمع تعظيما له وقيل هي الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم قال قطرب قرأ الجمهور { فالملقيات } بسكون اللام وتخفيف القاف اسم فاعل وقرأ ابن عباس بفتح اللام وتشديد القاف من التلقية وهي إيصال الكلام إلى المخاطب والرجح أن الثلاثة الأول للرياح والرابع والخامس للملائكة وهو الذي اختاره الزجاج والقاضي وغيرهما (5/500)
6 - { عذرا أو نذرا } انتصابهما على البدل من ذكرا أو على المفعولية والعامل فيهما المصدر المنون كما في قوله : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما } أو على المفعول لأجله : أي للإعذار والإنذار أو على الحال بالتأويل المعروف : أي معذرين أو منذرين قرأ الجمهور بإسكان الذال فيهما وقرأ زيد بن ثابت وابنه خارجة بن زيد وطلحة بضمهما وقرأ الحرميان وابن عامر وأبو بكر بسكونها في عذرا وضمها في نذرا وقرأ الجمهور { عذرا أو نذرا } على العطف بأو وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة على العطف بالواو بدون ألف والمعنى : أن الملائكة تلقي الوحي إعذارا من الله إلى خلقه وإنذارا من عذابه كذا قال الفراء وقيل عذرا للمحقين ونذرا للمبطلين قال أبو علي الفارسي : يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل جمع عاذر وناذر كقوله : { هذا نذير من النذر الأولى } فيكون نصبا على الحال من الإلقاء : أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار أو مفعولان لذكرا : أي تذكر عذرا أو نذرا قال المبرد : هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير (5/501)
ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال : 7 - { إنما توعدون لواقع } أي إن الذي توعدونه من مجيء الساعة والبعث كائن لا محالة (5/501)
ثم بين سبحانه متى يقع ذلك فقال : 8 - { فإذا النجوم طمست } أي محي نورها وذهب ضوءها يقال طمس الشيء : إذا درس وذهب أثره (5/501)
9 - { وإذا السماء فرجت } أي فتحت وشقت ومثله قوله : { وفتحت السماء فكانت أبوابا } (5/501)
10 - { وإذا الجبال نسفت } أي قلعت من مكانها بسرعة يقال نسفت الشيء وأنسفته : إذا أخذته بسرعة وقال الكلبي : سويت بالأرض والعرب تقول : نسفت الناقة الكلأ : إذا رعته وقيل جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ومنه قوله : { وبست الجبال بسا } والأول أولى قال المبرد : نسفت قلعت من مواضعها (5/501)
11 - { وإذا الرسل أقتت } الهمزة في أقتت بدل من الواو المضمومة وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة يجوز إبدالها بالهمزة وقد قرأ بالواو أبو عمرو وشيبة والأعرج وقرأ الباقون بالهمزة والوقت : الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه والمعنى : جعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كما في قوله سبحانه { يوم يجمع الله الرسل } وقيل هذا في الدنيا : أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب بها في إنزال العذاب بمن كذبها والأول أولى قال أبو علي الفارسي : أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا وقيل أقتت : أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به (5/501)
12 - { لأي يوم أجلت } هذا الاستفهام للتعظيم والتعجيب : أي لأي يوم عظيم يعجب العباد منه لشدته ومزيد أهواله ضرب لهم الأجل لجمعهم والجملة مقول قول مقدر هو جواب لإذا أو في محل نصب على الحال من الضمير في أقتت قال الزجاج : المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم (5/502)
ثم بين هذا اليوم فقال : 13 - { ليوم الفصل } قال قتادة : يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة والنار (5/502)
ثم عظم ذلك اليوم فقال : 14 - { وما أدراك ما يوم الفصل } أي وما أعلمك بيوم الفصل يعني أنه أمر بديع هائل لا يقادر قدره وما مبتدأ وأرادك خبره أو العكس كما اختاره سيبويه (5/502)
ثم ذكر حال الذين كذبوا بذلك اليوم فقال : 15 - { ويل يومئذ للمكذبين } أي ويل لهم في ذلك اليوم الهائل وويل أصل مصدر ساد مسد فعله وعدل به إلى الرفع للدلالة على الثبات والويل الهلاك أو هو اسم واد في جهنم وكرر هذه الآية في هذه السورة لأنه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من التكذيب بغيره فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب (5/502)
ثم ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية فقال : 16 - { ألم نهلك الأولين } أخبر سبحانه بإهلاك الكفار من الأمم الماضية من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه و سلم قال مقاتل : يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم (5/502)
17 - { ثم نتبعهم الآخرين } يعني كفار مكة ومن وافقهم حين كذبوا محمدا صلى الله عليه و سلم قرأ الجمهور { نتبعهم } بالرفع على الاستئناف أي ثم نحن نتبعهم قال أبو البقاء ليس بمعطوف لأن العطف يوجب أن يكون المعنى : أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين في الإهلاك وليس كذلك لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود ثم سنتبعهم وثرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو نتبعهم بالجزم عطفا على نهلك قال شهاب الدين : على جعل الفعل معطوفا على مجموع الجملة من قوله : ألم نهلك (5/502)
18 - { كذلك نفعل بالمجرمين } أي مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بهم يريد من يهلكه فيما بعد والكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف : أي مثل ذلك الإهلاك نفعل بكل مشرك إما في الدنيا أو في الآخرة (5/502)
19 - { ويل يومئذ للمكذبين } أي ويل يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله قيل الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا (5/503)
20 - { ألم نخلقكم من ماء مهين } أي ضعيف حقير وهو النطفة (5/503)
21 - { فجعلناه في قرار مكين } أي مكان حريز وهو الرحم (5/503)
22 - { إلى قدر معلوم } أي إلى مقدار معلوم وهو مدة الحمل وقيل إلى أن يصور (5/503)
23 - { فقدرنا } قرأ الجمهور { فقدرنا } بالتخفيف وقرأ نافع والكسائي بالتشديد من التقدير قال الكسائي والفراء : وهما لغتان بمعنى تقول : قدرت كذا وقدرته { فنعم القادرون } أي نعم المقدرون نحن قيل المعنى : قدرناه قصيرا أو طويلا وقيل معنى قدرنا ملكنا (5/503)
24 - { ويل يومئذ للمكذبين } بقدرتنا على ذلك (5/503)
ثم بين لهم بديع صنعه وعظيم قدرته ليعتبروا فقال : 25 - { ألم نجعل الأرض كفاتا } معنى الكفت في اللغة : الضم والجمع يقال كفت الشيء : إذا ضمه وجمعه ومن هذا يقال للجراب والقدر كفت والمعنى : ألم نجعل الأرض ضامة للأحياء على ظهرها والأموات في باطنها تضمهم وتجمعهم قال الفراء : يريد تكتفهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم (5/503)
وتكتفهم أمواتا في بطنها : أي تحوزهم وهو معنى قوله : 26 - { أحياء وأمواتا } وأنشد سيبويه :
( كرام حين تنكفت الأفاعي ... إلى أجحارهن من الصقيع )
قال أبو عبيدة كفاتا أوعية ومنه قول الشاعر :
( فأنت اليوم فوق الأرض حي ... وأنت غدا تضمن في كفات )
أي في قبر وقيل معنى جعلها كفاتا : أنه يدفن فيها ما يخرج من الإنسان من الفضلات وقال الأخفش وأبو عبيدة : الأحياء والأموات وصفان للأرض : أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت وإلى ميت وهو الذي لا ينبت قال الفراء : انتصاب أحياء وأمواتا بوقوع الكفات عليه : أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات فإذا نون نصب ما بعده وقيل نصبا على الحال من الأرض : أي منها كذا ومنها كذا وقيل هو مصدر نعت به للمبالغة وقال الأخفش : كفاتا جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع وقال الخليل : التكفت تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم : أي ذهبوا (5/503)
27 - { وجعلنا فيها رواسي شامخات } أي جبالا طوالا والرواسي الثوابت والشامخات الطوال وكل عال فهو شامخ { وأسقيناكم ماء فراتا } أي عذبا والفرات الماء العذب يشرب منه ويسقى به قال مقاتل : وهذا كله أعجب من البعث (5/503)
28 - { ويل يومئذ للمكذبين } بما أنعمنا عليهم من نعمنا التي هذه من جملتها
وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة { والمرسلات عرفا } قال : هي الملائكة أرسلت بالعرف وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود { والمرسلات عرفا } قال الريح { فالعاصفات عصفا } قال : الريح { والناشرات نشرا } قال : الريح وأخرج ابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب أنه جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال ما العاصفات عصفا ؟ قال الرياح وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { والمرسلات عرفا } قال : الريح { فالعاصفات عصفا } قال : الريح { فالفارقات فرقا } قال : الملائكة { فالملقيات ذكرا } قال : الملائكة وأخرج ابن المنذر عنه { والمرسلات عرفا } قال : الملائكة { فالفارقات فرقا } قال : الملائكة فرقت بين الحق والباطل { فالملقيات ذكرا } قال : بالتنزيل وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود قال : ويل واد في جنهم يسيل فيه صديد أهل النار فجعل للمكذبين وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { من ماء مهين } قال : ضعيف وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { كفاتا } قال : كنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { رواسي شامخات } قال : جبالا مشرفات وفي قوله : { فراتا } قال : عذابا (5/503)
29 - { انطلقوا إلى ما كنتم } هو بتقدير القول : أي يقال لهم توبيخا وتقريعا (5/505)
30 - { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } في الدنيا تقول لهم ذلك خزنة جهنم : أي سيروا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب وهو عذاب النار { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } إي إلى ظل من دخان جهنم قد سطع ثم افترق ثلاث فرق تكونون فيه حتى يفرغ الحساب وهذا شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب شعبا قرأ الجمهور { انطلقوا } في الموضعين على صيغة الأمر على التأكيد وقرأ رويس عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني : أي لما أمروا بالانطلاق امتثلوا ذلك فانطلقوا وقيل المراد بالظل هنا هو السرادق وهو لسان من النار يحيط بهم ثم يتشعب ثلاث شعب فيظلهم حتى يفرغ من حسابهم ثم يصيرون إلى النار وقيل هو الظل من يحموم كما في قوله : { في سموم وحميم * وظل من يحموم } على ما تقدم (5/505)
ثم وصف سبحانه هذا الظل تهكما بهم فقال : 31 - { لا ظليل ولا يغني من اللهب } أي لا يظل من الحر ولا يغني من اللهب قال الكلبي : لا يرد حر جهنم عنكم (5/505)
ثم وصف سبحانه النار فقال : 32 - { إنها ترمي بشرر كالقصر } أي كل شررة من شررها التي ترمي بها كالقصر من القصور في عظمها والشرر : ما تطاير من النار متفرقا والقصر : البناء العظيم وقيل القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل حمر وحمرة وتمر وتمرة وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ قال سعيد بن جبير والضحاك : وهي أصول الشجر العظام وقيل أعناقه قرأ الجمهور { كالقصر } بإسكان الصاد وهو واحد القصور كما تقدم : وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي بفتح الصاد : أي أعناق النخل والقصرة العنق جمعه قصر وقصرات وقال قتادة : أعناق الإبل وقرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد وهي أيضا جمع قصرة مثل بدر وبدرة وقصع وقصعة وقرأ الجمهور { بشرر } بفتح الشين وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرها مع ألف بين الراءين وقرأ عيسى كذلك إلا أنه يفتح الشين وهي لغت (5/505)
ثم شبه الشرر باعتبار لونه فقال : 33 - { كأنه جمالة صفر } وهي جمع جمال وهي الإبل أو جمع جمالة قرأ الجمهور { جمالة } بكسر الجيم وقرأ حمزة والكسائي وحفص { جمالة } جمع جمل وقرأ ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وأبو رجاء جمالات بضم الجيم وهي حبال السفن قال الواحدي : والصفر معناها السود في قول المفسرين قال الفراء : الصفر سواد الإبل لا يرى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة لذلك سمت العرب سود الإبل صفرا قيل والشرر إذا تطاير وسقط وفيه من لون النار أشبه شيء بالإبل السود ومنه قول الشاعر :
( تلك خيلي وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب )
أي هن سود قيل وهذا القول محال في اللغة أن يكون شيء يشوبه شيء قليل فينسب كله إلى ذلك الشائب فالعجب لمن قال بهذا وقد قال تعالى : { جمالة صفر } وأجيب بأن وجهه أن النار خلقت من النور فهي مضيئة فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار حشي ذلك الموضع بتلك النار وبعث إليها سلطانه وغضبه فاسودت من سلطانه وازدادت سوادا وصارت أشد سوادا من كل شيء فيكون شررها أسود لأنه من نار سوداء
قلت : وهذا الجواب لا يدفع ما قاله القائل لأن كلامه باعتبار ما قوع في الكتاب العزيز هنا من وصفها بكونها صفراء فلو كان الأمر كما ذكره المجيب من اسوداد النار واسوداد شررها لقال الله : كأنها جمالات سود ولكن إذا كانت العرب تسمي الأسود أصفر لم يبق إشكال لأن القرآن نزل بلغتهم وقد نقل الثقات عنهم ذلك فكان ما في القرآن هنا واردا على هذا الاستعمال العربي (5/505)
34 - { ويل يومئذ للمكذبين } لرسل الله وآياته (5/506)
35 - { هذا يوم لا ينطقون } أي لا يتكلمون قال الواحدي : قال المفسرون : في يوم القيامة مواقف ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون وقد قدمنا الجمع بهذا في غير موضع وقيل إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت وقال الحسن : لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون قرأ الجمهور برفع { يوم } على أنه خبر لإسم الإشارة وقرأ زيد بن علي والأعرج والأعمش وأبو حيوة وعاصم في رواية عنه بالفتح على البناء لإضافته إلى الفعل ومحله الرفع على الخبرية وقيل هو منصوب على الظرفية والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوعيد كأنه قيل هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون (5/506)
36 - { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } قرأ الجمهور { يؤذن } على البناء للمفعول وقرأ زيد بن علي { ولا يؤذن } على البناء للفاعل : أي لا يأذن الله لهم : أي لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار من غير أن يجعل الاعتذار مسببا عن الأذن كما لو نصب قال الفراء : الفاء في فيعتذرون نسق على يؤذن وأجيز ذلك لأن أواخر الكلام بالنون ولو قال فيعتذروا لم يوافق الآيات وقد قال : { لا يقضى عليهم فيموتوا } بالنصب والكل صواب (5/506)
37 - { ويل يومئذ للمكذبين } بما دعتهم إليه الرسل وأنذرتهم عاقبته (5/506)
38 - { هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين } أي ويقال لهم : هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق ويتميز فيه الحق من الباطل والخطاب في جمعناكم للكفار في زمن نبينا محمد صلى الله عليه و سلم والمراد بالأولين كفار الأمم الماضية (5/506)
39 - { فإن كان لكم كيد } أي إن قدرتم على كيد الآن { فكيدون } وهذا تقريع وتوبيخ لهم قال مقاتل : يقول إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم وقيل المعنى : فإن قدرتم على حرب فحاربون وقيل إن هذا من قول النبي صلى الله عليه و سلم فيكون كقول هود : { فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون } (5/507)
40 - { ويل يومئذ للمكذبين } لأنه ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا (5/507)
ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال : 41 - { إن المتقين في ظلال وعيون } أي في ظلال الأشجار وظلال القصور لا كالظل الذي للكفار من الدخان أو من النار كما تقدم قال مقاتل والكلبي : المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم قال الرازي : فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرض وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها وإنما يتم النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم فأما جعله سببا للطاعة فلا يليق بالنظم كذا قال والمراد بالعيون الأنهار وبالفواكه ما يتفكه به مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم (5/507)
42 - { وفواكه مما يشتهون } (5/507)
43 - { كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } أي يقال لهم ذلك فالجملة مقدرة بالقول وهي في محل نصب على الحال من ضمير المتقين والباء للسببية : أي بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة (5/507)
44 - { إنا كذلك نجزي المحسنين } أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين في أعمالهم قرأ الجمهور { في ظلال } وقرأ الأعمش والزهري وطلحة والأعرج في ظلل جمع ظلة (5/507)
45 - { ويل يومئذ للمكذبين } حيث صاروا في شقاء عظيم وصار المؤمنون في نعيم مقيم (5/507)
46 - { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون } الجملة بتقدير القول في محل نصب على الحال من المكذبين : أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكير لهم بحالهم في الدنيا أو يقال لهم هذا في الدنيا والمجرمون المشركون بالله وهذا وإن كان في اللفظ أمرا فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم (5/507)
47 - { ويل يومئذ للمكذبين } كرره لزيادة التوبيخ والتقريع (5/507)
48 - { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } أي وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون قال مقاتل : نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة بعد أن أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بها فقالوا : لا ننحني فإنها مسبة علينا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود وقيل إنما يقال لهم ذلك في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون وقيل المعني بالركوع : الطاعة والخشوع (5/507)
49 - { ويل يومئذ للمكذبين } بأوامر الله سبحانه ونواهيه (5/507)
50 - { فبأي حديث بعده يؤمنون } أي فبأي حديث بعد القرآن يصدقون إذا لم يؤمنوا به قرأ الجمهور { يؤمنون } بالتحتية على الغيبة وقرأ ابن عامر في رواية عنه ويعقوب بالفوقية على الخطاب
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بشرر كالقصر } قال : كالقصر العظيم وقوله : { جمالة صفر } قال : قطع النحاس وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عابس قال : سمعت ابن عباس يسأل عن قوله : { إنها ترمي بشرر كالقصر } قال : كنا نرفع الخشب بقدر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء فنسميه القصر قال : وسمعته يسأل عن قوله : { جمالة صفر } قال : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال ولفظ البخاري : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر { كأنه جمالة صفر } حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ كالقصر بفتح القاف والصاد وقال قصر النخل : يعني الأعناق وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : كانت العرب في الجاهلية تقول : أقصوا لنا الحطب فيقطع على قدر الذراع والذارعين وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط عن ابن مسعود في قوله : { ترمي بشرر كالقصر } قال : إنها ليست كالشجر والجبار ولكنها مثل المدائن والحصون وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { كالقصر } قال : هو القصر وفي قوله : { جمالة صفر } قال : الإبل وأخرج الحاكم وصححه من طريق عكرمة قال : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله : { هذا يوم لا ينطقون } { فلا تسمع إلا همسا } { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } و { هاؤم اقرؤوا كتابيه } فقال له : ويحك هل سألت عن هذا أحد قبلي ؟ قال لا قال : أما أنك لو كنت سألت هلكت أليس قال الله : { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } قال بلى قال : فإن لكل مقدار يوم من هذه الأيام لونا من الألوان وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } يقول : يدعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا (5/507)
وتسمى سورة النبأ وهي أربعون آية وقيل إحدى وأربعون آية
وهي مكية عند الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت { عم يتساءلون } بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله
قوله : 1 - { عم يتساءلون } أصله عن ما فأدغمت النون في الميم لأن الميم تشاركها في الغنة كذا قال الزجاج وحذفت الألف ليتميز الخبر عن الاستفهام وكذلك فيم ومم ونحو ذلك والمعنى : عن أي شيء يسأل بعضهم بعضا قرأ الجمهور عم بحذف الألف لما ذكرنا وقرأ أبي وابن مسعود وعكرمة وعيسى بإثباتها ومنه قول الشاعر :
( علاما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في دمان )
ولكنه قليل لا يجوز إلا للضرورة وقرأ البزي بهاء السكت عوضا عن الألف وروي ذلك عن ابن كثير قال الزجاج : اللفظ لفظ استفهام والمعنى تفخيم القصة كما تقول : أي شيء تريد : إذا عظمت شأنه قال الواحدي : قال المفسرون : لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبرهم بتوحيد الله والبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم يقولون : ماذا جاء به محمد وما الذي أتى به ؟ فأنزل الله { عم يتساءلون } قال الفراء : التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضا كالتقابل : وقد يستعمل أيضا في أن يتحدثوا به وإن لم يكن بينهم سؤال قال الله تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { قال قائل منهم إني كان لي قرين } الآية وهذا يدل على أنه التحدث ولفظ ما موضوع لطلب حقائق الأشياء وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولا فجعل الشيء العظيم الذي يعجز العقل عن أي يحيط بكنهه كأنه مجهول ولهذا جاء سبحانه بلفظ ما (5/509)
ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا وبينه فقال : 2 - { عن النبإ العظيم } فأورده سبحانه أولا على طريقة الاستفهام مبهما لتتوجه إليه أذهانهم وتلتفت إليه أفهامهم ثم بينه بما يفيد تعظيمه وتفخيمه كأنه قيل : عن أي شيء يتساءلون هل أخبركم به ؟ ثم قيل بطريق الجواب { عن النبإ العظيم } على منهاج قوله : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } فالجار والمجرور متعلق بالفعل الذي قبله أو بما يدل عليه قال ابن عطية : قال أكثر النحاة : عن النبإ العظيم متعلق بيتساءلون الظاره كأنه قال : لم يتساءلون عن النبإ العظيم وقيل ليس بمتعلق بالفعل المذكور لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون التقدير أعن النبإ العظيم ؟ فلزم أن يتعلق بيتساءلون آخر مقدر وإنما كان ذلك النبإ : أي القرآن عظيما لأنه ينبئ عن التوحيد وتصديق الرسول ووقوع البعث والنشور قال الضحاك : يعني نبأ يوم القيامة وكذا قال قتادة (5/510)
وقد استدل على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله : 3 - { الذي هم فيه مختلفون } فإنهم اختلفوا في القرآن فجعله بعضهم سحرا وبعهضهم شعرا وبعضهم كهانة وبعضهم قال هو أساطير الأولين وأما البعث فقد اتفق الكفار إذا ذاك على إنكاره ويمكن أن يقال إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة فصدق به المؤمنون وكذب به الكافرون فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل ومما يدل على أنه القرآن قوله سبحانه { قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون } ومما يدل على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخيفة وأيضا فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث فأثبت النصارى المعاد الروحاني وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني وفي التوارة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلغظ جنعيذا بجيم مفتوحة ثم نون ساكنة ثم عين مكسورة مهملة ثم تحتية ساكنة ثم ذال معجمة بعدها ألف وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين والعذاب للعاصين وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله : { إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه بل شاكة فيه كما حكى الله عنهم بقوله : { إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } وما حكاه عنهم بقوله : { وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة وقد قيل إن الضمير في قوله يتساءلون يرجع إلى المؤمنين والكفار لأنهم جميعا كانوا يتساءلون عنه فأما المسلم فيزداد يقينا واستعدادا وبصيرة في دينه وأما الكافر فاستهزاء وسخرية قال الرازي : ويحتمل أنهم يسألون الرسول ويقولون : ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة والموصول في محل جر صفة للنبإ بعد وصفه بكونه عظيما فهو متصف بالعظم ومتصف بوقوع الاختلاف فيه (5/510)
4 - { كلا سيعلمون } ردع لهم وزجر وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم الكفار وبه يندفع ما قيل إن الخلاف بينهم وبين المؤمنين فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط وقيل كلا بمعنى حقا ثم كرر الردع والزجر فقال (5/511)
5 - { ثم كلا سيعلمون } للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة وقرأ الحسن وأبو العالية وابن دينار وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب وقرأ الضحاك الأول بالفوقية والثاني بالتحتية قال الضحاك : أيضا { كلا سيعلمون } يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم { ثم كلا سيعلمون } يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم وقيل بالعكس وقيل هو وعيد بعده وعيد وقيل المعنى { كلا سيعلمون } عند النزع { ثم كلا سيعلمون } عند البعث (5/511)
ثم ذكر سبحانه بديع صنعه وعظيم قدرته ليعرفوا توحيده ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال : 6 - { ألم نجعل الأرض مهادا } (5/512)
ثم ذكر سبحانه بديع صنعه وعظيم قدرته ليعرفوا توحيده ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال : 7 - { ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا } أي قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث والمهاد الوطاء والفراش كما في قوله : { الذي جعل لكم الأرض فراشا } قرأ الجمهور { مهادا } وقرأ مجاهد وعيسى وبعض الكوفيين { مهدا } والمعنى : أنها كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه والأوتاد جمع وتد : أي جعلنا الجبال أوتادا للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرسي الخيام بالأوتاد وفي هذا دليل على أن التساؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث لا عن القرآن ولا عن نبوة محمد صلى الله عليه و سلم كما قيل لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث (5/512)
8 - { وخلقناكم أزواجا } معطوف على المضارع المنفي داخل في حكمه فهو في قوة أما خلقناكم والمراد بالأزواج هنا الأصناف : أي الذكور والإناث وقيل المراد بالأزواج الألوان وقيل يدخل في هذا كل زوج من المخلوقات من قبيح وحسن وطويل وقصير (5/512)
9 - { وجعلنا نومكم سباتا } أي راحة لأبدانكم قال الزجاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه : أي جعلنا نومكم راحة لكم قال ابن الأنباري : جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم لأن أصل السبت القطع وقيل أصله التمدد يقال سبتت المرأة شعرها : إذا حلته وأرسلته ورجل مسبوت الخلق : أي ممدوده والرجل إذا أراد أن يستريح تمدد فسمي النوم سباتا وقيل المعنى : وجعلنا نومكم موتا والنوم أحد الموتتين فالمسبوت يشبه الميت ولكنه لم تفارقه الروح ومنه قول الشاعر :
( ومطوية الأقراب أما نهارها ... فسبت وأما ليلها فذميل )
ومن هذا قوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } الآية وقوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } (5/512)
10 - { وجعلنا الليل لباسا } أي نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس وقال سعيد بن جبير والسدي : أي سكنا لكم وقيل المراد به ما يستره عند النوم من اللحاف ونحوه وهو بعيد لأن الجعل وقع على الليل لا على ما يستتر به النائم عند نومه (5/512)
11 - { وجعلنا النهار معاشا } أي وقت معاش والمعاش العيش وكل شيء يعاش به فهو معاش والمعنى : أن الله جعل لهم النهار مضيئا ليسعوا فيما يقوم به معاشهم وما قسمه الله لهم من الرزق (5/512)
12 - { وبنينا فوقكم سبعا شدادا } يريد سبع سموات قوية الخلق محكمة البناء ولهذا وصفها بالشدة وغلظ كل واحدة منها مسيرة خمسمائة عام كما ورد ذلك (5/512)
13 - { وجعلنا سراجا وهاجا } المراد به الشمس وجعل هنا بمعنى خلق وهكذا قوله : { وجعلنا نومكم سباتا } وما بعده لأن هذه الأفعال قد تعدت إلى مفعولين فلا بد من تضمينها معنى فعل يتعدى إليهما كالخلق والتصيير ونحو ذلك وقيل إن الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع في جميع هذه المواضع والمراد به الإنشاء التكويني الذي بمعنى التقدير والتسوية قال الزجاج : الوهاج الوقاد وهو الذي وهج يقال وهجت النار تهيج وهجا ووهجانا قال مقاتل : جعل فيه نورا حرا والوهج يجمع النور والحرارة (5/513)
14 - { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا } المعصرات هي السحابالتي ينعصر بالماء ولم تمطر بعد كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها كذا قال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك وقال مجاهد ومقاتل وقتادة والكلبي : هي الرياح والرياح تسمى معصرات يقال أعصرت الريح تعصر إعصارا : إذا أثارت العجاج قال الأزهري : هي الرياح ذوات الأعاصير وذلك أن الرياح تستدر المطر وقال الفراء : المعصرات السحاب التي يتحلب منها المطر قال النحاس : وهذه الأقوال صحاح يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات والرياح تلقح السحاب فيكون المطر ويجوز أن تكون هذه الأقوال قولا واحدا ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات المعصرات ماء ثجاجا قال في الصحاح والمعصرات السحاب تعتصر بالمطر وعصر القوم أي مطروا قال المبرد : يقال سحاب معصر : أي ممسك للماء يعتصر منه [ شيئا ] بعد شيء وقال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : المعصرات السموات والثجاج : المنصب بكثرة على جهة التتابع يقال ثج الماء : أي سال بكثرة وثجه : أي أساله قال الزجاج : الثجاج الصباب قال ابن زيد : ثجاجا كثيرا (5/513)
15 - { لنخرج به حبا ونباتا } أي لنخرج بذلك الماء حبا يقتات : كالحنطة والشعير ونحوهما والنبات ما تأكله الدواب من الحشيش وسائر النبات (5/513)
16 - { وجنات ألفافا } أي بساتين ملتف بعضها ببعض لتشعب أغصانها ولا واحد للألفاف : كالأوزاع والأخيفا وقيل واحدها لف بكسر اللام وضمها ذكره الكسائي وقال أبو عبيدة : واحدها لفيف كشريف وأشراف وروي عن الكسائي أنها جمع الجمع يقال جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف وقيل هو جمع ملتفة بحذف الزوائد قال الفراء : الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم (5/513)
17 - { إن يوم الفصل كان ميقاتا } أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين يصلون فيه إلى ما وعدوا به من الثواب والعقاب وسمي يوم الفصل لأن الله يفصل فيه بين خلقه وهذا شروع في بيان ما يتساءلون عنه من البعث وقيل معنى ميقاتا : أنه حد توقت به الدنيا وتنتهي عنده وقيل حد للخلائق ينتهون إليه (5/513)
18 - { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا } أي يوم ينفخ في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل والمراد هنا النفخة الثانية التي تكون للبعث { فتأتون } أي إلى موضع العرض { أفواجا } أي زمرا زمرا وجماعات جماعات وهي جمع فوج وانتصاب { يوم ينفخ } على أنه بدل من يوم الفصل أو بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله وإن كان الفصل متأخرا عن النفخ ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني وانتصاب أفواجا على الحال من فاعل تأتون والفاء في فتأتون فصيحة تدل على محذوف : أي فتأتون إلى موضع الفرض عقيب ذلك أفواجا (5/514)
19 - { وفتحت السماء فكانت أبوابا } معطوف على ينفخ وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي فتحت لنزول الملائكة { فكانت أبوابا } كما في قوله : { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } وقيل معنى فتحت قطعت فصارت قطعا كالأبواب وقيل أبوابها طرقها وقيل تنحل وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وقيل إن لكل عبد بابين في السماء : باب لرزقه وباب لعمله فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب وظاهر قوله : { فكانت أبوابا } أنها صارت كلها أبوابا وليس المراد ذلك بل المراد أنها صارت ذات أبواب كثيرة قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { فتحت } مخففا وقرأ الباقون بالتشديد (5/514)
20 - { وسيرت الجبال فكانت سرابا } أي سيرت عن أماكنها في الهواء وقلعت عن مقارها فكانت هباء منبثا يظن الناظر أنها سراب والمعنى : أن الجبال صارت كلا شيء كما أن السراب يظن الناظر أنه ماء وليس بماء وقيل معنى سيرت : أنها نسفت من أصولها ومثل هذا قوله : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } وقد ذكر سبحانه أحوال الجبال بوجوه مختلفة ولكن الجمع بينها أن تقول : أول أحوالها الاندكاك وهو قوله : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنقوش كما في قوله : { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } وثالث أحوالها أن تصير كالهباء وهو قوله : { وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا } ورابع أحوالها أن تنسف وتحملها الرياح كما في قوله : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } وخامس أحوالها أن تصير سرابا : أي لا شيء كما في هذه الآية (5/514)
ثم شرع سبحانه في تفصيل أحكام الفصل فقال : 21 - { إن جهنم كانت مرصادا } قال الأزهري : المرصاد المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو قال المبرد : مرصادا يرصدون به : أي هو معد لهم يرصد به خزنتها الكفار قال الحسن : إن على الباب رصدا لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليهم فمن جاء بجواز جاز ومن لم يجيء بجواز حبس وقال مقاتل : محبسا وقيل طريقا وممرا قال في الصحاح : الراصد للشيء الراقب له يقال رصده يرصده رصدا والرصد الترقب والمرصد موضع الرصد قال الأصمعي : رصدته أرصده ترقبته ومعنى الآية : أن جهنم كانت في حكم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها أو هي في نفسها متطلعة لمن يأتي إليها من الكفار كما يتطلع الرصد لمن يمر به ويأتي إليهم والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار (5/515)
ثم ذكر من هي مرصد له فقال : 22 - { للطاغين مآبا } أي مرجعا يرجعون إليه والمآب المرجع يقال آب يؤوب : إذا رجع والطاغي هو من طغى بالكفر وللطاغين نعت لمرصادا متعلق بمحذوف ومآبا بدل من مرصادا ويجوز أين يكون للطاغين في محل نصب على الحال من مآبا قدمت عليه لكونه نكرة (5/515)
وانتصاب 23 - { لابثين فيها } على الحال المقدرة من الضمير المستكن في الظاغين قرأ الجمهور { لابثين } بالألف وقرأ حمزة والكسائي { لابثين } بدون ألف وانتصاب { أحقابا } على الظرفية : أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب وهي لا تنقطع وكلما مضى حقب جاء حقب وهي جمع حقب بضمتين وهو الدهر والأحقاب الدهور والحقب بضم الحاء وسكون القاف قيل هو ثمانون سنة وحكى الواحدي عن المفسرين أنه بضع وثمانون سنة السنة ثلثمائة وستون يوما اليوم ألف سنة من أيام الدنيا وقيل الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب وقال السدي : الحقب سبعون سنة وقال بشير بن كعب : ثلثمائة سنة وقال ابن عمر : أربعون سنة وقيل ثلاثون ألف سنة قال الحسن : الأحقاب لا يدري أحدكم هي ولكن ذكروا أنها مائة حقب والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة وقيل الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار والأولى ما ذكرناه أولا من أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد وحكى الواحدي : عن الحسن أنه قال : والله ما هي إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر ثم كذلك إلى الأبد (5/515)
وجملة 24 - { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } (5/515)
وجملة 25 - { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا } مستأنفة لبيان ما اشتملت عليه من أنهم لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا ينفعهم من حرها وولا شرابا ينفعهم من عطشها إلا حميما وهو الماء الحار وغساقا وهو صديد أهل النار ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير الطاغين أو صفة للأحقاب والاستثناء منقطع عند من جعل البرد النوم ويجوز أن يكون متصلا من قوله : { شرابا } وقال مجاهد والسدي وأبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي : البرد المذكور في هذه الآية هو النوم ومنه قول الكندي :
( بردت مراشفها علي فصدني ... عنها وعن تقبيلها البرد )
أي النوم قال الزجاج : أي لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل ولا نوم فجعل البرد يشمل هذه الأمور وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردا : أي روحا ورواحة قرأ الجمهور { غساقا } بالتخفيف وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين وقد تقدم تفسيره وتفسير الحميم والخلاف فيهما في سورة ص (5/515)
26 - { جزاء وفاقا } أي موافقا لأعمالهم وجزاء منتصب على المصدر ووفاقا نعت له قال الفراء والأخفش : جازيناهم جزاء وافق أعمالهم قال الزجاج : جوزوا جزاء وافق أعمالهم قال الفراء : الوفاق جمع الوفق والوفق والموافق واحد قال مقاتل : وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشر ولا عذاب أعظم من النار وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوؤهم (5/516)
27 - { إنهم كانوا لا يرجون حسابا } أي لا يرجون ثواب حساب قال الزجاج : كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم والجملة تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور (5/516)
28 - { وكذبوا بآياتنا كذابا } أي كذبوا بالآيات القرآنية أو كذبوا بما هو أعم منها تكذيبا شديدا وفعال من مصادر التفعل قال الفراء : هي لغة فصيحة يمانية تقول كذبت كذابا وخرقت القميص خراقا قال في الصحاح : وكذبوا بآياتنا كذابا هو أحد مصادر المشدد لأن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم وعلى فعال مثل كذاب وعلى تفعلة مثل توصية وعلى مفعل مثل { ومزقناهم كل ممزق } قرأ الجمهور { كذابا } بالتشديد وقرأ علي بن أبي طالب بالتخفيف وقال أبو علي الفارسي التخفيف والتشديد جميعا مصدر المكاذبة وقرأ ابن عمر كذابا بضم الكاف والتشديد جمع كاذب قال أبو حاتم ونصبه على الحال قال الزمخشري : وقد يكون يعني على هذه القراءة بمعنى الواحد البليغ في الكذب تقول : رجل كذاب كقولك حسان وبخال (5/516)
29 - { وكل شيء أحصيناه كتابا } قرأ الجمهور { وكل } بالنصب على الاشتغال : أي وأحصينا كل شيء أحصيناه وقرأ أبو السماك برفعه على الابتداء وما بعده خبره وهذه الجملة معترضة بين السبب والمسبب وانتصاب كتابا على المصدرية لأحصيناه لأن أحصيناه في معنى كتبناه وقيل هو منتصب على الحال : أي مكتوبا قيل المراد كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة وقيل أراد ما كتبه الحفظة على العلاد من أعمالهم وقيل المراد به العلم لأن ما كتب كان أبعد من النسيان والأول أولى لقوله : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } (5/516)
30 - { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } هذه الجملة مسببة عن كفرهم وتكذيبهم بالآيات قال الرازي : هذه الفاء للجزاء فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم ومن الزيادة في عذابهم أنها كلما نضجت جلودهم بدلهم جلودا غيرها وكلما خبت النار زادهم الله سعيرا
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { عن النبإ العظيم } قال : القرآن : وهذا مروي عن جماعة من التابعين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وجعلنا سراجا وهاجا } قال : مضيئا { وأنزلنا من المعصرات } قال : السحاب { ماء ثجاجا } قال : منصبا وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { ثجاجا } قال : منصبا وأخرج الشافعي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا } قال : يبعث الله الريح فتحمل الماء فيمر به السحاب فتدر كما تدر اللقحة والثجاج ينزل من السماء أمثال الغزالي فتصرفه الرياح فينزل متفرقا وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة قال : في قراءة ابن عباس وأنزلنا من المعصرات بالرياح وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وجنات ألفافا } قال : ملتفة وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال : يقول : التف بعضها ببعض وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : { وسيرت الجبال فكانت سرابا } قال : سراب الشمس الآل وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { لابثين فيها أحقابا } قال : سنين وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن سالم بن أبي الجعد قال : سأل علي بن أبي طالب هلال الهجري ما تجدون الحقب في كتاب الله ؟ قال : نجده ثمانين سنة كل سنة منها اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال : الحقب الواحد ثمانون سنة وأخرج البزار عن أبي هريرة رفعه قال : الحقب ثمانون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة مما تعدون وأخرج عبد بن حميد عنه قال : الحقب ثمانون عاما اليوم منها كسدس الدنيا وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي : بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم { لابثين فيها أحقابا } قال : الحقب ألف شهر والشهر ثلاثون يوما والسنة اثنا عشر شهرا ثلاثمائة وستون يوما كل يوم منها ألف سنة مما تعدون فالحقب ثلاثون ألف سنة وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا والحقب بضع وثمانون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة مما تعدون ] قال ابن عمر : فلا يتكلن أحد أنه يخرج من النار وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال : الحقب الواحد ثمانون سنة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الحقب أربعون سنة وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان في قوله : { لابثين فيها أحقابا } وقوله : { إلا ما شاء ربك } إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : زمهرير جهنم يكون لهم من العذاب لأن الله يقول : { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ في قوله : { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما } قال : قد انتهى حره { وغساقا } قد انتهى حره وإن الرجل إذا أدنى الإناء من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاما تقعقع ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { جزاء وفاقا } قال : وافق أعمالهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال : ما أنزلت على أهل النار آية قط أشد منها { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } فهم في مزيد من عذاب الله أبدا (5/517)
قوله : 31 - { إن للمتقين مفازا } هذا شروع في بيان حال المؤمنين وما أعد الله لهم من الخير بعد بيان حال الكافرين وما أعد الله لهم من الشر والمفاز مصدر بمعنى الفوز والظفر بالنعمة والمطلوب والنجاة من النار ومنه قيل للفلاة مفازة تفاؤلا بالخلاص منها (5/519)
ثم فسر سبحانه هذا المفاز فقال : 32 - { حدائق وأعنابا } وانتصابهما على أنهما بدل من مفازا بدل اشتمال أو بدل كل من كل على طريق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازة ويجوز أن يكون النصب بإضمار أعني وإذا كان مفازا بمعنى الفوز فيقدر مضاف محذوف : أي فوز حدائق وهي جمع حديقة : وهي البستان المحوط عليه والأعناب جمع عنب : أي كروم أعناب (5/519)
33 - { وكواعب أترابا } الكواعب جمع كاعبة : وهي الناهدة يقال : كعبت الجارية تكعب تكعيبا وكعوبا ونهدت تنهد نهودا والمراد أنهم نساء كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت : أي صارت ثديهن كالكعب في صدورهن قال الضحاك : الكواعب العذارى قال قيس بن عاصم :
( وكم من حصان قد حوينا كريمة ... وكم كاعب لم تدر ما البؤس معصر )
وقال عمر بن أبي ربيعة :
( وكان مجني دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبات ومعصر )
والأتراب : الأقران في السن وقد تقدم تحقيقه في سورة البقرة (5/519)
34 - { وكأسا دهاقا } أي ممتلئة قال الحسن وقتادة ابن زيد : أي مترعة مملوءة يقال أدهقت الكأس : أي ملأتها ومنه قول الشاعر :
( ألا أسقني صرفا سقاك الساقي ... من مائها بكأسك الدهاق )
وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد { دهاقا } متتابعة يتبع بعضها بعضا وقال زيد بن أسلم { دهاقا } صافية والمراد بالكأس الإناء المعروف ولا يقال له الكأس إلا إذا كان فيه الشراب (5/519)
35 - { لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا } أي لا يسمعون في الجنة لغوا وهو الباطل من الكلام ولا كذابا : أي ولا يكذب بعضهم بعضا قرأ الجمهور { كذابا } بالتشديد وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف ووافق الجماعة على التشديد في قوله : { وكذبوا بآياتنا كذابا } المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك وقد قدمنا الخلاف في كذابا هل هو من مصادر التفعيل أو من مصادر المفاعلة ؟ (5/519)
36 - { جزاء من ربك } أي جازاهم بما تقدم ذكره جزاء قال الزجاج : المعنى جزاهم جزاء وكذا { عطاء } أي وأعطاهم عطاء { حسابا } قال أبو عبيدة : كافيا وقال ابن قتيبة : كثيرا يقال أحسبت فلانا : أي أكثرت له العطاء ومنه قول الشاعر :
( ونعطي وليد الحي إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع )
قال ابن قتيبة : أي نعطيه حتى يقول حسبي قال الزجاج : حسابا : أي ما يكفيهم قال الأخفش : يقال أحسبني كذا : أي كفاني قال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا وقال مجاهد : حسابا لما عملوه فالحساب بمعنى القدر : أي يقدر ما وجب له في وعد الرب سبحانه فإنه وعد للحسنة عشرا ووعد لقوم سبعمائة ضعف وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار كقوله : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } وقرأ أبو هاشم حسابا بفتح الحاء وتشديد السين : أي كفافا قال الأصمعي : تقول العرب : حسبت الرجل بالتشديد : إذا أكرمته ومنه قول الشاعر :
( إذا أتاه ضيفه يحسبه )
وقرأ ابن عباس حسانا بالنون (5/520)
37 - { رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن } قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب والمفضل عن عاصم برفع { رب } و { الرحمن } على أن رب مبتدأ والرحمن خبره أو على أن رب خبر مبتدأ مقدر : أي هو رب والرحمن صفته و { لا يملكون } خبر رب أو على أن رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثان ولا يملكون خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول وقرأ يعقوب في رواية عنه وابن عامر وعاصم في رواية عنه بخفضهما على أن رب بدل من ربك والرحمن صفة له وقرأ ابن عباس وحمزة والكسائي بخفض الأول على البدل ورفع الثاني على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هو الرحمن واختار هذه القراءة أبو عبيدة وقال هذه القراءة أعدلها فخفض رب لقربه من ربك فيكون نعتا له ورفع الرحمن لبعده منه على الاستئناف وخبره { لا يملكون منه خطابا } أي لا يملكون أن يسألوا إلا فيما أذن لهم فيه وقال الكسائي : لا يملكون منه خطابا بالشفاعة إلا بإذنه وقيل الخطاب الكلام : أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه دليله { لا تكلم نفس إلا بإذنه } وقيل أراد الكفار وأما المؤمنون فيشفعون ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال على ما تقدم بيانه ويجوز أن تكون مستأنفة مقررة لما تفيده الربوبية من العظمة والكبرياء (5/520)
38 - { يوم يقوم الروح والملائكة صفا } الظرف منتصب بلا يتكلمون أو بلا يملكون وصفا منتصب على الحال : أي مصطفين أو على المصدرية : أي يصفون صفا وقوله : { لا يتكلمون } في محل نصب على الحال أو مستأنف لتقرير ما قبله
واختلف في الروح فقيل إنه ملك من الملائكة أعظم من السموات السبع ومن الأرضين السبع ومن الجبال وقيل هو جبريل قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير وقيل الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة قاله أبو صالح ومجاهد وقيل هم أشراف الملائكة قاله مقاتل بن حيان وقيل هم حفظة على الملائكة قاله ابن أبي نجيح وقيل هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة وقيل هم أرواح بني آدم تقوم صفا وتقوم الملائكة صفا وذلك بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجسام قاله عطية العوفي وقيل إنه القرآن قاله زيد بن أسلم وقوله : { إلا من أذن له الرحمن } يجوز أن يكون بدلا من ضمير يتكلمون وأن يكون منصوبا على أصل الاستثناء والمعنى : لا يشفعون لأحد إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة أو لا يتكلمون إلا في حق من أذن له الرحمن { و } كان ذلك الشخص ممن { قال صوابا } قال الضحاك ومجاهد : صوابا يعني حقا وقال أبو صالح : لا إله إلا الله وأصل الصواب السداد من القول والفعل قيل لا يتكلمون : يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا هيبة وإجلالا إلا من أذن له الرحمن منهم في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا قال الحسن : إن الروح تقوم يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة إلا بالروح ولا النار إلا بالعمل قال الواحدي : فهم لا يتكلمون : يعني الخلق كلهم إلا من أذن له الرحمن وهم المؤمنون والملائكة وقال في الدنيا صوابا : أي شهد بالتوحيد (5/521)
والإشارة بقوله : 39 - { ذلك } إلى يوم قيامهم على تلك الصفة وهو مبتدأ وخبره { اليوم أحل } أي الكائن الواقع المتحقق { فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا } أي مرجعا يرجع إليه بالعمل الصالح لأنه إذا عمل خيرا قربه إلى الله وإذا عمل شرا باعده منه ومعنى { إلى ربه } إلى ثواب ربه قال قتادة : مآبا : سبيلا (5/521)
ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال : 40 - { إنا أنذرناكم عذابا قريبا } يعني العذاب في الآخرة وكل ما هو آت فهو قريب ومثله قوله : { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } كذا قال الكلبي وغيره وقال قتادة : هو عذاب الدنيا لأنه أقرب العذابين قال مقاتل : هو قتل قريش ببدر والأول أولى لقوله : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } فإن الظرف إما بدل من عذاب أو ظرف لمضمر هو صفة له : أي عذابا كائنا { يوم ينظر المرء } أي يشاهد ما قدمه من خير أو شر وما موصولة أو استفهامية قال الحسن : والمرء هنا هو المؤمن : أي يجد لنفسه عملا فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا فيتمنى أن يكون ترابا وقيل المراد به الكافر على العموم وقيل أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط والأول أولى لقوله : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } فإن الكافر واقع في مقابلة المرء والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون ترابا لما يشاهده مما قد أعده الله له من أنواع العذاب والمعنى : أنه يتمنى أنه كان ترابا في الدنيا فلم يخلق أو ترابا يوم القيامة وقيل المراد بالكافر أو جهل وقيل أوب سلمة بن عبد الأسد المخزومي وقيل إبليس والأول أولى اعتبارا بعموم اللفظ ولا ينافيه خصوص السبب كما تقدم غير مرة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { إن للمتقين مفازا } قال : منتزها { وكواعب } قال : نواهد { أترابا } قال : مستويات { وكأسا دهاقا } قال : ممتلئا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { وكأسا دهاقا } قال : هي الممتلئة المترعة المتتابعة وربما سمعت العباس يقول : يا غلام أسقنا وادهق لنا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه دهاقا قال دراكا وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا قال : إذا كان فيها خمر فليس بكأس وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل ثم قرأ { يوم يقوم الروح والملائكة صفا } قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس { يوم يقوم الروح } قال : هو ملك من أعظم الملائكة خلقا وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : [ الروح في السماء الرابعة وهو أعظم من السموات والجبال من الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفا واحدا ] وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : [ إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله يقول : سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله { يوم يقوم الروح والملائكة صفا } ] وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله : { يوم يقوم الروح } قال : يعني حين تقوم أرواح الناس من الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الروح إلى الأجساد وأخرج ابن جرير وابن المنذر في الأسماء والصفات عنه أيضا { وقال صوابا } قال : لا إله إلا الله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عذاب الله أن يؤخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فذلك حين يقول الكافر { يا ليتني كنت ترابا } (5/521)
وتسمى سورة الساهرة هي خمس وأربعون آية وقيل ست وأربعون آية
وهي مكية بلا خلاف وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة النازعات بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله
أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم كما ينزع النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد وكذا المراد بالناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات : يعني الملائكة والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قول الشاعر :
( إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم )
وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقال السدي 1 - { النازعات } هي النفوس حين تغرق في الصدور وقال مجاهد : هي الموت ينزع النفس وقال قتادة : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق من قولهم : نزع إليه إذا ذهب أو من قولهم نزعت بالحبل : إي إنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر وبه قال أبو عبيدة والأخفش وابن كيسان قال عطاء وعكرمة : النازعات القسي تنزع بالسهام وإغراق النازع في القوس أن يمده غاية المد حتى ينتهي به إلى النصل وقال يحيى بن سلام : تنزع بين الكلأ وتنفر وقيل أراد بالنازعات الغزاة الرماة وانتصاب { غرقا } على أنه مصدر بحذف الزوائد : أي إغراقا والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى : أي إغراقا في النزاع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد أو على الحال : أي ذوات إغراق يقال أغرق في الشيء يغرق فيه : إذا أوغل فيه وبلغ غايته (5/523)
2 - ومعنى { والناشطات } أنها تنشط النفوس : أي تخرجها من الأجساد كما ينشط العقال من يد البعير : إذا حل عنه ونشط الرجل الدلو من البئر : إذا أخرجها والنشاط الجذب بسرعة ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلها قال أبو زيد : نشطت الحبل أنشطه نشاطا عقدته وأنشطته : أي حللته وأنشطت الحبل : أي مددته قال الفراء : أنشد العقال : أي حل ونشط : أي ربط الحبل في يديه قال الأصمعي : بئر أنشاط : أي قريبة القعر يخرج الدلو منها بجذبة واحدة وبئر نشوط وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى ينشط كثيرا وقال مجاهد : هو الموت ينشط نفس الإنسان وقال السدي : هي النفوس حين تنشط من القدمين قال عكرمة وعطاء : هي الأوهاق التي تنشط السهام وقال قتادة والحسن والأخفش : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق : أي تذهب قال في الصحاح : والناشطات نشطا : يعني النجوم من برج إلى برج كالثور الناشط من بلد إلى بلط والهموم تنشط بصاحبها وقال أبو عبيدة وقتادة : هي الوحوش حين تنشط من بلد إلى بلد وقيل الناشطات لأرواح المؤمنين والنازعات لأرواح الكافرين لأنها تجذب روح المؤمن برفق وتجذب روح الكافر بعنف وقوله : { نشطا } مصدر وكذا سبحا وسبقا (5/524)
3 - { والسابحات } الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الروح كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شيء منه وقال مجاهد وأبو صالح : هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه وقال مجاهد أيضا : السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم وقيل هي الخيل السابحة في الغزو ومنه قول عنترة :
( والخيل تعلم حين تسـ ... بح في حياض الموت سبحا )
وقال قتادة والحسن : هي النجوم تسبح في أفلاكها كما في قوله : { وكل في فلك يسبحون } وقال عطاء : هي السفن تسبح في الماء وقيل هي أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى الله (5/525)
4 - { فالسابقات سبقا } هم الملائكة على قول الجمهور كما سلف قال مسروق ومجاهد : تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء وقال أبو روق : هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح وروي نحوه عن مجاهد وقال مقاتل : تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة وقال الربيع : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقا إلى الله وقال مجاهد أيضا : هو الموت يسبق الإنسان وقال قتادة والحسن ومعمر : هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضا وقال عطاء : هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد وقيل هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار قال الجرجاني : عطف السابقات بالفاء لأنها مسببة من التي قبلها : أي ولو قلت قام وذهب بالواو لم يكن القيام سببا للذهاب (5/525)
قال الواحدي : وهذا غير مطرد في قوله : 5 - { فالمدبرات أمرا } لأنه يبعد أن يجعل السبق سببا للتدبر قال الرازي : ويمكن الجواب عما قاله الواحدي : بأنها أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره فتكون هذه أفعالا يتصل بعضها ببعضا كقوله : قالم زيد فذهب ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم ففوض إليهم التدبير ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سببا للتدبير كسببية السبح للسبق والقيام للذهاب ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية والأولى أن يقال العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء ولا يحتاج إلى نكتة كما احتاج إليها ما قبله لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته { فالمدبرات أمرا } قال القشيري : أجمعوا على أن المراد هنا الملائكة وقال الماوردي : فيه قولان : أحدهما الملائكة وهو قول الجمهور والثاني أنها الكواكب السبع حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل وفي تدبيرها الأمر وجهان : أحدهما تدبر طلوعها وأفولها الثاني تدبر ما قضاه فيها من الأحوال ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما والفاعل للتدبير في الحقيقة وإن كان هو الله عز و جل لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به وقيل إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها مدبرات قال عبد الرحمن بن ساباط : تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات وأما عزرائيل فموكل بقبض الأنفس وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف : أي والنازعات وكذا وكذا لتبعثن قال الفراء : وحذف لمعرفة السامعين به ويدل عليه قوله : { أإذا كنا عظاما نخرة } وقيل إن جواب القسم قوله : { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } أي إن في يوم القيامة وذكر موسى وفرعون لعبرة لمن يخشى قال ابن الأنباري : وهذا قبيح لأن الكلام قد طال بينهما وقيل جواب القسم { هل أتاك حديث موسى } لأن المعنى : قد أتاك وهذا ضعيف جدا وقيل الجواب (5/525)
6 - { يوم ترجف الراجفة } على تقدير ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة وقال السجستاني : يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير كأنه قال : فإذا هم بالساهرة والنازعات قال ابن الأنباري : وهذا خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام والأول أولى { يوم ترجف الراجفة } انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدر للقسم أو بإضمار اذكر والراجفة المضطربة يقال رجف يرجف : إذا اضطرب والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها تردد واضطراب كالرعد وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق والرادفة : النفخة الثانية التي تكون عند البعث وسميت رادفة لأنها ردفت النفخة الأولى كذا قال جمهور المفسرين وقال ابن زيد : الراجفة الأرض والرادفة الساعة وقال مجاهد : الرادفة الزلزلة تتبعها الرادفة الصيحة وقيل الراجفة اضطراب الأرض والرادفة الزلزلة وأصل الرجفة الحركة وليس المراد التحرك هنا فقط بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم : رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا : إذا ظهر صوته ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها وظهور الأصوات فيها ومنه قول الشاعر :
( أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا ) (5/526)
ومحل 7 - { تتبعها الرادفة } النصب على الحال من الراجفة والمعنى : لتبعثن يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها (5/526)
8 - { قلوب يومئذ واجفة } قلوب مبتدأ ويومئذ منصوب بواجفة وواجفة صفة قلوب (5/526)
وجملة 9 - { أبصارها خاشعة } خبر قلوب والراجفة المضطربة القلقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة قال جمهور المفسرين : أي خائفة وجلة وقال السدي : زائلة عن أماكنها نظيرة { إذ القلوب لدى الحناجر } وقال المؤرج : قلقة مستوفزة وقال المبرد : مضطربة يقال وجف القلب يجف وجيفا : إذا خفق كما يقال وجب يجب وجيبا والإيجاف : السير السريع فأصل الوجيف اضطراب القلب ومنه قول قيس بن الخطيم :
( إن بني جحجبي وقومهم ... أكبادنا من ورائهم تجف )
أبصارها خاشعة : أي أبصار أصحابها فحذف المضاف والخاشعة الذليلة والمراد أنها تظهر عليهم الذلة والخضوع عند معاينة أهوال يوم القيامة كقوله { خاشعين من الذل } قال عطاء : يريد أبصار من مات على غير الإسلام ويدل على هذا أن السياق في منكري البعث (5/526)
10 - { يقولون أإنا لمردودون في الحافرة } هذا حكاية لما يقوله المنكرون للبعث إذا قيل لهم إنكم تبعثون : أي أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء بعد موتنا يقال رجع فلان في حافرته : أي رجع من حيث جاء والحافرة عند العرب اسم لأول الشيء وابتداء الأمر ومنه قولهم رجع فلان على حافرته : أي على الطريق الذي جاء منه ويقال اقتتل القوم عند الحافرة : أي عند أول ما التقوا وسميت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة ومن هذا قول الشاعر :
( أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار )
أي أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل بعد الشيب والصلع وقيل الحافرة : العاجلة والمعنى : إنا لمردودون إلى الدنيا وقيل الحافرة : الأرض التي تحفر فيها قبورهم ومنه قول الشاعر :
( آليت لا أنساكم فاعلموا ... حتى يرد الناس في الحافرة )
والمعنى : إنا لمردودون في قبورنا أحياء كذا قال الخليل والفراء وبه قال مجاهد وقال ابن زيد : الحافرة النار واستدل بقوله : { تلك إذا كرة خاسرة } قرأ الجمهور { في الحافرة } وقرأ أبو حيوة في الحفرة (5/527)
11 - { أإذا كنا عظاما نخرة } أي بالية متفتتة يقال نخر العظم بالكسر : إذا بلى وهذا تأكيد لإنكار البعث : أي كيف نرد أحياء ونبعث إذا كنا عظاما نخرة والعامل في إذا مضمر يدل عليه مردودون : أي أئذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة قرأ الجمهور { نخرة } وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر { نخرة } واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم واختار القراءة الثانية الفراء وابن جرير وأبو معاذ النحوي قال أبو عمرو بن العلاء : الناخرة التي لم تنخر بعد : أي لم تبل ولا بد أن تنخر وقيل هما بمعنى تقول العرب : نخر الشيء فهو ناخر ونخر وطمع فهو طامع وطمع ونحو ذلك قال الأخفش : هما جميعا لغتان أيهما قرأت فحسن قال الشاعر :
( يظل بها الشيخ الذي كان بادنا ... يدب على عوج له نخرات )
يعني على قوائم عوج وقيل الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها والنخرة التي فسدت كلها وقال مجاهد نخرة : أي مرفوتة كما في قوله : { رفاتا } وقد قرئ إذا كنا وأئذا كنا بالاستفهام وبعدمه (5/528)
ثم ذكر سبحانه عنهم قولا آخر قالوه فقال : 12 - { قالوا تلك إذا كرة خاسرة } أي رجعه ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران والمعنى : أنهم قالوا إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد وقيل معنى خاسرة كاذبة : أي ليس بكائنة كذا قال الحسن وغيره وقال الربيع بن أنس : خاسرة على من كذب بها وقال قتادة ومحمد بن كعب : أي لئن ردعنا بعد الموت لنخسرن بالنار وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار والكرة الرجعة والجمع كرات (5/528)
وقوله : 13 - { فإنما هي زجرة واحدة } تعليل لما يدل عليه ما تقدم من استبعادهم لبعث العظام النخرة وإحياء الأموات والمعنى : لا تستبعدوا ذلك فإنما هي زجرة واحدة وكان ذلك الإحياء والبعث والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها وقيل إن الضمير في قوله : إنما هي راجع إلى الرادفة المتقدم ذكرها (5/528)
14 - { فإذا هم بالساهرة } أي فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض قال الواحدي : المراد بالساهرة وجه الأرض وظاهرها في قول الجميع قال الفراء : سميت بهذا الاسم لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم وقيل لأنه يسهر في فلاتها خوفا منها فسميت بذلك ومنه قول أبي كثير الهذلي :
( يردون ساهرة كأن حميمها ... وغميمها أسداف ليل مظلم )
وقول أمية بن أبي الصلت :
( وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم )
يريد لحم حيوان أرض ساهرة قال في الصحاح : الساهرة وجه الأرض ومنه قوله : { فإذا هم بالساهرة } وقال : الساهرة أرض بيضاء وقيل أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها وقيل الساهرة الأرض السابعة يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق وقال سفيان الثوري : الساهرة أرض الشام وقال قتادة : هي جهنم : أي فإذها هؤلاء الكفار في جهنم وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم (5/528)
وجملة 15 - { هل أتاك حديث موسى } مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم عن تكذيب قومه وأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان قبلهم ممن هو أقوى منهم ومعنى هل أتاك : قد جاءك وبلغك هذا على تقدير أن قد سمع من قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما وعلى تقدير أن هذا أول ما نزل عليه في شأنهما فيكون المعنى على الاستفهام : أي هل أتاك حديثه أنا أخبرك به (5/529)
16 - { إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } الظرف متعلق بحديث لا بأتاك لاختلاف وقتيهما وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية وقد تقدم الاختلاف بين القراء في طوى في سورة طه والواد المقدس : المبارك المطهر قال الفراء طوى واد بين المدينة ومصر قال : وهو معدول من طاو كما عدل عمر من عامر قال : والصرف أحب إلي إذ لم أجد في المعدول نظيرا له وقيل طوى معناه يا رجل بالعبرانية فكأنه قيل يا رجل اذهب وقيل المعنى : إن الوادي المقدس بورك فيه مرتين والأول أولى وقد مضى تحقيق القول فيه (5/529)
17 - { اذهب إلى فرعون إنه طغى } قيل هو على تقدير القول وقيل هو تفسير للنداء : أي ناداه نداء هو قوله اذهب وقيل هو على حذف أن المفسرة ويؤيده قراءة ابن مسعود أن اذهب لأن في النداء معنى القول وجملة { إنه طغى } تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال : أي جاوز الحد في العصيان والتكبر والكفر بالله (5/529)
18 - { فقل } له { هل لك إلى أن تزكى } أي قوله بعد وصولك إليه هل لك رغبة إلى التزكي وهو التطهر من الشرك وأصله تتزكى فحذفت إحدى التاءين وقرأ الجمهور { تزكى } بالتخفيف وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي قال أبو عمرو بن العلاء معنى قراءة التخفيف تكون زكيا مؤمنا ومعنى قراءة التشديد الصدقة وفي الكلام مبتدأ مقدر يتعلق به إلى والتقدير : هل لك رغبة أو هل لك توجه أو هل لك سبيل إلى التزكي ومثل هذا قولهم هل لك في الخير ؟ يريدون هل لك رغبة في الخير ومن هذا قول الشاعر :
( فهل لكم فيها إلي فانني ... بصير بما أعيا النطاسي جذيما ) (5/529)
19 - { وأهديك إلى ربك فتخشى } أي أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخشى عقابه والفاء لترتيب الخشية على الهداية لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد (5/530)
20 - { فأراه الآية الكبرى } هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف يعني فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال : { إن كنت جئت بآية فأت بها } فعند ذلك أراه الآية الكبرى
واختلف في الآية الكبرى ما هي ؟ فقيل العصا وقيل يده وقيل فلق البحر وقيل هي جميع ما جاء به من الآيات التسع (5/530)
21 - { فكذب وعصى } أي فلما أراه الآية الكبرى كذب بموسى وبما جاء به وعصى الله عز و جل فلم يطعه (5/530)
22 - { ثم أدبر } أي تولى وأعرض عن الإيمان { يسعى } أي يعمل بالفساد في الأرض ويجتهد في معارضة ما جاء به موسى وقيل أدبر هاربا من الحية يسعى خوفا منها وقال الرازي : معنى { أدبر يسعى } أقبل يسعى كما يقال أقبل يفعل كذا : أي أنشأ يفعل كذا فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال (5/530)
23 - { فحشر } أي فجمع جنوده للقتال والمحاربة أو جمع السحرة للمعارضة أو جمع الناس للحضور ليشاهدوا ما يقع أو جمعهم ليمنعوه من الحية { فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى } أي قال لهم بصوت عل أو أمر من ينادي بهذا القول (5/530)
ومعنى 24 - { أنا ربكم الأعلى } أنه لا رب فوقي قال عطاء : كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها وقال : أنارب أصنامكم وقيل أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم والأول أولى لقوله في آية أخرى : { ما علمت لكم من إله غيري } (5/530)
25 - { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } النكال نعت مصدر محذوف : أي أخذه أخذ نكال أو هو مصدر لفعل محذوف : أي أخذه الله فنكله نكال الآخرة والأولى أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمراد بنكال الآخرة عذاب النار ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق وقال مجاهد : عذاب أول عمره وآخره وقال قتادة : الآخرة قوله : { أنا ربكم الأعلى } والأولى تكذيبه لموسى وقيل الآخرة قوله : { أنا ربكم الأعلى } والأول قوله : { ما علمت لكم من إله غيري } وكان بين الكلمتين أربعون سنة ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له : أي أخذه الله لأجل نكال ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض : أي بنكال ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد قال : لأن معنى أخذه الله : نكل الله به فأخرج من معناه لا من لفظه وقال الفراء : أي أخذه الله أخذا نكالا : أي للنكال والنكال اسم لما جعل نكالا للغير : أي عقوبة له يقال نكل فلان بفلان : إذا عاقبه وأصل الكلمة من الامتناع ومنه النكول عن اليمين والنكل القيد (5/530)
26 - { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه ويخاف عقوبته ويحاذر غضبه
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي بن أبي طالب في قوله : { والنازعات غرقا } قال : هي الملائكة تنزع روح الكفار { والناشطات نشطا } قال : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها { والسابحات سبحا } هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض { فالسابقات سبقا } هي الملائكة يسبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله { فالمدبرات أمرا } هي الملائكة تدبر أم العباد من السنة إلى السنة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { والنازعات غرقا } قال : هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار وأخرج الحاكم وصححه عنه { والنازعات غرقا * والناشطات نشطا } قال : الموت وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود { والنازعات غرقا } قال : الملائكة الذي يلون أنفس الكفار إلى قوله : { والسابحات سبحا } قال : الملائكة وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسله : [ لا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار قال الله : { والناشطات نشطا } أتدري ما هو ؟ قلت : يا نبي الله ما هو ؟ قال : كلاب في النار تنشط اللحم والعظم ] وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن ابن الكواء سأله عن { المدبرات أمرا } قال : هي الملائكة يدبرون ذكر الرحمن وأمره وأخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت عن ابن عباس قال : { المدبرات أمرا } ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم فمنهم من يعرج بالروح ومنهم من يؤمن على الدعاء ومنهم من يستغفر للميت حتى يصلى عليه ويدلى في حفرته وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { يوم ترجف الراجفة } قال : النفخة الأولى { تتبعها الرادفة } قال : النفخة الثانية { قلوب يومئذ واجفة } قال : خائفة { أإنا لمردودون في الحافرة } قال : الحياة وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي بن كعب قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال : أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه ] وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ترجف الأرض رجفا وتزلزل بأهلها وهي التي يقول الله { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة } يقول : مثل السفينة في البحر تكفأ بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائه ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { قلوب يومئذ واجفة } قال : وجلة متحركة وأخرج عبد بن حميد عنه { أإنا لمردودون في الحافرة } قال : خلقا جديدا وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري في الوقف والابتداء وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه سئل عن قوله : { فإذا هم بالساهرة } فقال : الساهرة وجه الأرض وفي لفظ قال : الأرض كلها ساهرة ألا ترى قول الشاعر :
( صيد بحر وصيد ساهرة )
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا { هل لك إلى أن تزكى } قال : هل لك أن تقول لا إله إلا الله وأخرج ابن جرير عنه أيضا { فأخذه الله نكال الآخرة } قال : قوله : { أنا ربكم الأعلى } والأولى قال : قوله : { ما علمت لكم من إله غيري } وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال : كان بين كلمتيه أربعون سنة (5/530)
قوله : 27 - { أأنتم أشد خلقا أم السماء } أي أخلقكم بعد الموت وبعثكم أشد عندكم وفي تقديركم أم خلق السماء والخطاب لكفار مكة والمقصود به التوبيخ لهم والتبكيت لأن من قدر على خلق السماء التي لها هذا الجرم العظيم وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بين للناظرين كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أول مرة ؟ ومثل هذا قوله : سبحانه : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } وقوله : { أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } ثم بين سبحانه كيفية خلق السماء فقال : { بناها * رفع سمكها فسواها } أي جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض ورفع سمكها : أي أعلاه في الهواء (5/532)
فقوله : 28 - { رفع سمكها } بيان للبناء يقال سمكت الشيء : أي رفعته في الهواء وسمك الشيء سموكا : ارتفع قال الفراء : كل شيء حمل شيئا من البناء أو غيره فهو سمك وبناء مسموك وسنام سامك : أي عال والسموكات : السموات : ومنه قول الفرزدق :
( إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول )
قال البغوي : رفع سمكها : أي سقفها قال الكسائي والفراء والزجاج : تم الكلام عند قوله : { أم السماء بناها } لأنه من صلة السماء والتقدير : أم السماء التي بناها فحذف التي ومثل هذا الحذف جائز ومعنى { فسواها } فجعلها مستوية الخلق معدلة الشكل لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ولا فطور ولا شقوق (5/533)
29 - { وأغطش ليلها } الغطش الظلمة : أي جعله مظلما يقال غطش الليل وأغطشه الله كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله ورجل أغطش وامرأة غطشى لا يهتديان قال الراغب : وأصله من الأغطش وهو الذي في عينه عمش ومنه فلاة غطشى لا يهتدي فيها والتغاطش التعامي قال الأعشى :
( ودهماء بالليل غطشي الفلا ... ة يؤنسني صوت قيادها )
وقوله :
( وغامرهم مدلهم غطش )
يعني غمرهم سواد الليل وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس والشمس مضافا إلى السماء { وأخرج ضحاها } أي أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها وأضافه إلى السماء لأن يظهر بظهور الشمس وهي منسوبة إلى السماء (5/532)
30 - { والأرض بعد ذلك دحاها } أي بعد خلق السماء ومعنى دحاها بسطها وهذا يدل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله : { ثم استوى إلى السماء } بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أولا غير مدحورة ثم خلق السماء ثم دحاها الأرض وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك وقدمنا أيضا بحثا في هذا في أول سورة البقرة عند قوله : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع كما في قوله : { عتل بعد ذلك زنيم } وقيل بعد بمعنى قبل كقوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } أي من قبل الذكر والجمع الذي ذكرناه أولى وهو قول ابن عباس وغير واحد واختاره ابن جرير يقال دحوت الشيء أدحوه : إذا بسطته ويقال لعش النعامة أدحى لأنه مبسوط على الأرض وأنشد المبرد :
( دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا )
وقال أمية بن أبي الصلت :
( وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطانها حتى التنادي )
وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
( وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا )
( دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا )
قرأ الجمهور بنصب { الأرض } على الاشتغال وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السماك وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء (5/533)
31 - { أخرج منها ماءها ومرعاها } أي فجر من الأرض الأنهار والبحار والعيون وأخرج منها مرعاها : أي النبات الذي يرعى ومرعاها مصدر ميمي : أي رعيها وهو في الأصل موضع الرعي والجملة إما بيان وتفسير لدحاها لأن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب وإما في محل نصب على الحال (5/534)
32 - { والجبال أرساها } أي أثبتها في الأرض وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقر وأن لا تميد بأهلها قرأ الجمهور بنصب { الجبال } على الاشتغال وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وأبو حيوة وأبو السمكا وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء وقيل ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء والمرعى على إرسال الجبال مع تقدم الإرساء عليه للاهتمام بأمر المأكل والمشرب (5/534)
33 - { متاعا لكم ولأنعامكم } أي منفعة لكم ولأنعامكم من البقر والإبل والغنم وانتصاب متاعا على المصدرية : أي متعكم بذلك متاعا أو هو مصدر من غير لفظه لأن قوله : { أخرج منها ماءها ومرعاها } بمعنى متع بذلك أو على أنه مفعول له : أي فعل ذلك لأجل التمتيع وإنما قال : { لكم ولأنعامكم } لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى كائنة لهم ولأنعامهم والمرعى يعم ما يأكله الناس والدواب (5/534)
34 - { فإذا جاءت الطامة الكبرى } أي الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات قال الحسن وغيره : وهي النفخة الثانية وقال الضحاك وغيره : هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء لعظم هولها قال المبرد : الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم : طم الفرس طميما : إذا استفرغ جهده في الجري وطم الماء : إذا ملأ النهر كله وقال غيره : هو من طم السيل الركية : أي دفنها والطم الدفن قال مجاهد وغيره : الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها وجواب إذا قيل هو قوله : { فأما من طغى } وقيل محذوف : أي فإن الأمر كذلك أو عاينوا أو علمو أو أدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة (5/534)
وقال أبو البقاء : العامل فيها جوابها وهو معنى 35 - { يوم يتذكر الإنسان } فإنه منصوب بفعل مضمر : أي أعني يوم يتذكر أو يوم يتذكر يكون كيت وكيت وقيل إن الظرف بدل من إذا وقيل هو بدل من الطامة الكبرى ومعنى تذكر الإنسان ما سعى : أنه يتذكر ما عمله من خير أو شر لأنه يشاهده مدونا في صحائف عمله وما مصدرية أو موصولة (5/535)
36 - { وبرزت الجحيم لمن يرى } معطوف على جاءت ومعنى برزت : أظهرت إظهارا لا يخفى على أحد قال مقاتل : يكشفعنها الغطاء فينظر إليها الخلق وقيل { لمن يرى } من الكفار لا من المؤمنين والظاهر أن تبرز لكل راء فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها وأما الكافر فيزداد غما إلى غمهوحسرى إلى حسرته قرأ الجمهور { لمن يرى } بالتحتية وقرأت عائشة ومالك بن دينار وعكرمة وزيد بن علي بالفوقية : أي لمن تراه الجحيم أو لمن تراه أنت يا محمد وقرأ ابن مسعود لمن رأى على صيغة الفعل الماضي (5/535)
37 - { فأما من طغى } أي جاوز الحد في الكفر والمعاصي (5/535)
38 - { وآثر الحياة الدنيا } أي قدمها عن الآخرة ولم يستعد لها ولا عمل عملها (5/535)
39 - { فإن الجحيم هي المأوى } أي مأواه والألف واللام عوض عن المضاف إليه والمعنى : أنها منزله الذي ينزله ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها (5/535)
ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال : 40 - { وأما من خاف مقام ربه } أي حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة قال الربيع : مقام يوم الحساب قال قتادة : يقول إن الله عز و جل مقاما قد خافه المؤمنون وقال مجاهد : هو خوفه في الدنيا من الله عز و جل عند مواقعة الذنب فيقلع عنه نظيره قوله : { لمن خاف مقام ربه جنتان } والأول أولى { ونهى النفس عن الهوى } أي زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها قال مقاتل : [ هو ] الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها (5/535)
41 - { فإن الجنة هي المأوى } أي المنزل الذي ينزله والمكان الذي يأوي إليه لا غيرها (5/535)
42 - { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } أي متى وقوعها وقيامها قال الفراء : أي منتهى قيامها كرسو السفينة قال أبو عبيدة : ومرسى السفينة حين تنتهي والمعنى : يسألونك عن الساعة متى يقيمها [ الله ] وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف (5/535)
43 - { فيم أنت من ذكراها } أي في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها والمعنى : لست في شيء من علمها وذكراها إنما يعلمها الله سبحانه وهو إنكار ورد لسؤال المشركين عنها : أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك عنه ولست تعلمه (5/535)
44 - { إلى ربك منتهاها } أي منتهى علمها فلا يوجد علمها عند غيره وهذ كقوله : { قل إنما علمها عند ربي } وقوله : { إن الله عنده علم الساعة } فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها (5/536)
45 - { إنما أنت منذر من يخشاها } أي مخوف لمن يخشى قيام الساعة وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة ونحوه مما استأثر الله بعلمه وخص الإنذار بمن يخشى لأنهم المنتفعون بوقت قيام الساعة ونحوه مما استأثر الله بعلمه وخص الإنذار بمن يخشى لأنهم المنتفعون بالإنذار وإن كان منذرا لكل مكلف من مسلم وكافر قرأ الجمهور بإضافة { منذر } إلى ما بعده وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن وشيبة والأعرج وحميد بالتنوين ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو قال الفراء : والتنوين وتركه في منذر صواب كقوله : { بالغ أمره } و { موهن كيد الكافرين } قال أبو علي الفارسي : يجوز أن تكون الإضافة للماضي نحو ضارب زيد أمس (5/536)
46 - { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } أي إلا قدر آخر نهار أو أوله أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية والمراد تقليل مدة الدنيا كما قال : { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } وقيل لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها قال الفراء والزجاج : المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب يقولون : آتيك الغداة أو عشيتها وآتيك العشية أو غداتها فتكون العشية في معنى آخر النهار والغداة في معنى أول النهار ومنه قول الشاعر :
( نحن صبحنا عامرا في دارها ... جردا تعادي طرفي نهارها )
( عشية الهلال أو سرارها )
والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { رفع سمكها } قال : بناها { وأغطش ليلها } قال : أظلم ليلها وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { وأغطش ليلها } قال : وأظلم ليلها { وأخرج ضحاها } قال : أخرج نهارها وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { والأرض بعد ذلك دحاها } قال : مع ذلك وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا أن رجلا قال له : آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى قال : إنما أتيت من قبل رأيك قال : اقرأ { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } حتى بلغ { ثم استوى إلى السماء } وقوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } قال : خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء ثم دحى الأرض بعد ما خلق السماء وإنما قوله : { دحاها } بسطها وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : { دحاها } أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام وما بينهما في يومين وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الطامة من أسماء يوم القيامة وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يسأل عن الساعة فنزلت { فيم أنت من ذكراها } ] وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت : [ ما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله { فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها } فانتهى فلم يسأل عنها ] وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت { فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها } فكف عنها وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال السيوطي بسند ضعيف : أي مشركي مكة سألوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : متى الساعة استهزاء منهم ؟ فأنزل الله { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } يعني مجيئها { فيم أنت من ذكراها } يعني ما أنت من علمها يا محمد { إلى ربك منتهاها } يعني منتهى علمها وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : [ كانت الأعراب إذا قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول : إن يعش هذا قامت عليكم ساعتكم ] (5/536)
وتسمى سورة السفرة وهي إحدى وأربعون أو اثنان وأربعون آية
وهي مكية في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة عبس بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله
قوله : 1 - { عبس وتولى } أي كلح وجهه وأعرض وقرئ عبس بالتشديد (5/538)
2 - { أن جاءه الأعمى } مفعول لأجله : أي لأن جاءه الأعمى والعامل فيه إما عبس أو تولى على الاختلاف بين البصريين والكوفيين في التنازع هل المختار إعمال الأول أو الثاني ؟
وقد أجمع المفسرون على أن سبب نزول الآية : أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه و سلم وقد طمع في إسلامهم فأقبل عبد الله بن أم مكتوم فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه فأعرض عنه فنزلت وسيأتي في آخر البحث بيان هذا إن شاء الله (5/539)
3 - { وما يدريك لعله يزكى } التفت سبحانه إلى خطاب نبيه صلى الله عليه و سلم لأن المشافهة أدخل في العتاب : أي أي شيء يجعلك داريا بحاله حتى تعرض عنه وجملة { لعله يزكى } مستأنفة لبيان أن له شأنا ينافي الإعراض عنه : أي لعله يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك فالضمير في لعله راجع إلى الأعمى وقيل هو راجع إلى الكافر : أي وما يدريك أن ما طمعت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى أو يذكر والأول أولى وكلمة الترجي باعتبار من وجه إليه الخطاب للتنبيه على أن الإعراض عنه مع كونه مرجو التزكي مما لا يجوز قرأ الجمهور { أن جاءه الأعمى } على الخبر بدون استفهام ووجهه ما تقدم وقرأ الحسن آن جاءه بالمد على الاستفهام فهو على هذه القراءة متعلق بفعل محذوف دل عليه عبس وتولى والتقدير : آن جاءه الأعمى تولى وأعرض ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } وكذلك قوله : في سورة الكهف { ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } (5/539)
وقوله : 4 - { أو يذكر } عطف على يزكى داخل معه في حكم الترجي : أي أو يتذكر فيعتظ بما تعلمه من المواعظ { فتنفعه الذكرى } أي الموعظة قرأ الجمهور { فتنفعه } بالرفع وقرأ عاصم ابن أبي إسحاق وعيسى والسلمي وزر بن حبيش بالنصب على جواب الترجي (5/539)
5 - { أما من استغنى } أي كان ذا ثروة وغنى أو استغنى عن الإيمان وعما عندك من العلم (5/539)
6 - { فأنت له تصدى } أي تصغي لكلامه والتصدي الإصغاء قرأ الجمهور { تصدى } بالتخفيف على طرح إحدى التاءين تخفيفا وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام وفي هذا مزيد تنفير له صلى الله عليه و سلم عن الإقبال عليهم والإصغاء إلى كلامهم (5/539)
7 - { وما عليك أن لا يزكى } أي أي شيء عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي فإنه ليس عليك إلا البلاغ فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار ويجوز أن تكون ما نافية : أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى من تصديت له وأقبلت عليه وتكون الجملة في محل نصب على الحال من ضمير تصدى (5/539)
ثم زاد سبحانه في معاتبة رسوله صلى الله عليه و سلم فقال : 8 - { وأما من جاءك يسعى } أي وصل إليك حال كونه مسرعا في المجيء إليك طالبا منك أن ترشده إلى الخير وتعظه بمواعظ الله (5/540)
وجملة 9 - { وهو يخشى } حال من فاعل يسعى على التداخل أو من فاعل جاءك على الترادف (5/540)
10 - { فأنت عنه تلهى } أي تتشاغل عنه وتعرض عنه وكذا تلهيت وقوله : التشاغل والتغافل يقال لهيت عن الأمر ألهى : أي تشاغلت عنه وكذا تلهيت (5/540)
وقوله : 11 - { كلا } ردع له صلى الله عليه و سلم عما عوتب عليه : أي لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير والتصدي للغني والتشاغل به مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد ما جاءك من أهل التزكي والقبول للموعظة وهذا الواقع من النبي صلى الله عليه و سلم هو من باب ترك الأولى فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به { إنها تذكرة } أي أن هذه الآيات أو السورة موعظة حقها أن تتعظ بها وتقبلها وتعمل بموجبها ويعمل بها كل أمتك { فمن شاء ذكره } أي فمن رغب فيها اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها ومن رغب عنها كما فعله من استغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره قيل الضميران في إنها وفي ذكره : للقرآن وتأنيث الأول لتأنيث خبره وقيل الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة لأنها في معنى الذكر (5/540)
وقيل إن معنى 12 - { فمن شاء ذكره } فمن شاء الله ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به والأول أولى (5/540)
ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة وجلالتها فقال : 13 - { في صحف } أي إنها تذكرة كائنة في صحف فالجار والمجرور صفة لتذكرة وما بينهما اعتراض والصحف جمع صحيفة ومعنى { مكرمة } أنها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ وقيل المراد بالصحف كتب الأنبياء كما في قوله : { إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى } (5/540)
ومعنى 14 - { مرفوعة } أنها رفيعة القدر عند الله وقيل مرفوعة في السماء السابعة قال الواحدي : قال المفسرون : مكرمة يعني اللوح المحفوظ { مرفوعة } يعني في السماء السابعة قال ابن جرير : مرفوعة القدر والذكر وقيل مرفوعة عن الشبة والتاقض { مطهرة } أي منزهة لا يمسها إلا المطهرون قال الحسن : مطهرة من كل دنس قال السدي : مصانة عن الكفار لا ينالونها (5/540)
15 - { بأيدي سفرة } السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب والمعنى : أنها بأيدي كتبة من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ قال الفراء : السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله من السفارة وهو السعي بين القوم وأنشد :
( فما أدع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغير أب نسيب )
قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر بكسر السين والكتاب سافر لأن معناه أنه بين يقال أسفر الصبح : إذا أضاء وأسفرت المرأة : إذا كشفت النقاب عن وجهها ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة : أي أصلحت بينهم قال مجاهد : هم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد وقال قتادة : السفرة هنا هم القراءة لأنهم يقرأون الأسفار وقال وهب بن منبه : هم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم (5/540)
ثم أثنى سبحانه على السفرة فقال : 16 - { كرام بررة } أي كرام على ربهم كذا قال الكلبي وقال الحسن : كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم عنها وقيل يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته أو قضى حاجته وقيل يؤثرون منافع غيرهم على منافعهم وقيل يتكرمون على المؤمني بالاستغفار لهم والبررة جمع بار مثل كفرة وكافر : أي أتقياء مطيعون لربهم صادقون في إيمانهم وقد تقدم تفسيره (5/541)
17 - { قتل الإنسان ما أكفره } أي لعن الإنسان الكافر ما أشد كفره وقيل عذب قيل والمراد به عتبة بن أبي لهب ومعنى ما أكفره التعجب من إفراط كفره قال الزجاج : معناه اعجبوا أنتم من كفره وقيل المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله : { أما من استغنى } وقيل المراد به الجنس وهذا هو الأولى فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر ويدخل تحته من كان سببا لنزول الآية دخولا أوليا (5/541)
ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره ويكف عن طغيانه فقال : 18 - { من أي شيء خلقه } أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر والاستفهام للتقرير (5/541)