33 - { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده } أي لا يغني الوالد عن ولده شيئا ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع لاشتغاله بنفسه وقد تقدم بيان معناه في البقرة { ولا مولود هو جاز عن والده شيئا } ذكر سبحانه فردين من القرابات وهو الوالد والولد وهما الغاية في الحنو والشفقة على بعضهم البعض فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى فكيف بالأجانب اللهم اجعلنا ممن لا يرجو سواك ولا يعول على غيرك { إن وعد الله حق } لا يتخلف فما وعد به من الخير وأوعد به من الشر فهو كائن لا محالة { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } وزخارفها فإنها زائلة ذاهبة { ولا يغرنكم بالله الغرور } قرأ الجمهور { الغرور } بفتح الغين المعجمة والغرور هو الشيطان لأن من شأنه أن يغر الخلق ويمنيهم بالأماني الباطلة ويلهيهم عن الآخرة ويصدهم عن طريق الحق وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميفع بضم الغين مصدر غر يغر غرورا ويجوز أن يكون مصدرا واقعا وصفا للشيطان على المبالغة (4/348)
34 - { إن الله عنده علم الساعة } أي علم وقتها الذي تقوم فيه قال الفراء : إن معنى هذا الكلام النفي : أي ما يعلمه أحد إلا الله عز و جل قال النحاس : وإنما صار فيه معنى النفي لما ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في قوله : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } إنها هذه { وينزل الغيث } في الأوقات التي جعلها معينة لإنزاله ولا يعلم ذلك غيره { ويعلم ما في الأرحام } من الذكور والإناث والصلاح والفساد { وما تدري نفس } من النفوس كائنة ما كانت من غير فرق بين الملائكة والأنبياء والجن والإنس { ماذا تكسب غدا } من كسب دين أو كسب دنيا { وما تدري نفس بأي أرض تموت } أي بأي مكان يقضي الله عليها بالموت قرأ الجمهور { وينزل الغيث } مشددا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي مخففا وقرأ الجمهور { بأي أرض } وقرأ أبي بن كعب وموسى الأهوازي بأية وجوز ذلك الفراء وهي لغة ضعيفة قال الأخفش : يجوز أن يقال مررت بجارية أي جارية قال الزجاج : من ادعى أنه يعلم شيئا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { ختار } قال : جحاد وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ولا يغرنكم بالله الغرور } قال : هو الشيطان وكذا قال مجاهد وعكرمة وقتادة وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال جاء رجل من أهل البادية فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد ؟ وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت ؟ فأنزل الله { إن الله عنده علم الساعة } الآية وأخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه وزاد : وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا ؟ وزاد أيضا أنه سأله عن قيام الساعة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ولا متى تقوم الساعة إلا الله ولا ما في الأرحام إلا الله ولا متى ينزل الغيث إلا الله وما تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ] وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة في حديث سؤاله عن الساعة وجوابه بأشراطها ثم قال [ في خمس لا يعلمهن إلا الله ] ثم تلا هذه الآية وفي الباب أحاديث (4/349)
سورة السجدة
هي ثلاثون آية
وهي مكية كما رواه ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ورواه ابن مردويه عن ابن الزبير وأخرج ابن النجار عن ابن عباس قال : هي مكية سوى ثلاث آيات { أفمن كان مؤمنا } إلى تمام الآيات الثلاث وكذا قال الكلبي ومقاتل وقيل إلا خمس آيات من قوله { تتجافى جنوبهم } إلى قوله { الذي كنتم به تكذبون } وقد ثبت عند مسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بآلم تنزل السجدة و { هل أتى على الإنسان } وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه أيضا وأخرج أبو عبيدة في فضائله وأحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر قال كان النبي صلى الله عليه و سلم لا ينام حتى يقرأ آلم تنزيل السجدة و { تبارك الذي بيده الملك } وأخرج أبو نصر والطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من صلى أربع ركعات خلف العشاء الأخيرة قرأ في الركعتين الأوليين { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } في الركعتين الأخريين { تبارك الذي بيده الملك } و { الم * تنزيل } السجدة كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ { تبارك الذي بيده الملك } و { الم * تنزيل } السجدة بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنما قام ليلة القدر ] وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ في ليلة { الم * تنزيل } السجدة و { يس } و { اقتربت الساعة } و { تبارك الذي بيده الملك } كن له نورا وحرزا من الشيطان ورفع في الدرجات إلى يوم القيامة ] وأخرج ابن الضريس عن المسيب بن رافع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ آلم تنزيل تجيء لها جناحان يوم القيامة تظل صاحبها وتقول : لا سبيل عليه لا سبيل عليه ]
قوله : 1 - { الم } قد قدمنا الكلام على فاتحة هذه السورة وعلى محلها من الإعراب في سورة البقرة وفي مواضع كثيرة من فواتح السور (4/351)
وارتفاع 2 - { تنزيل } على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر على تقدير أن آلم في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو خبر لقوله آلم على تقدير أنه اسم للسورة ولا { ريب فيه } في محل نصب على الحال ويجوز أن يكون ارتفاع تنزيل على أنه مبتدأ وخبره لا ريب فيه و من رب العالمين في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون هذه كلها أخبارا للمبتدأ المقدر قبل تنزيل أو لقوله آلم على تقدير أنه مبتدأ لا على تقدير أنه حروف مسرودة على نمط التعديد قال المكي : وأحسن الوجوه أن تكون { لا ريب فيه } في موضع الحال و { من رب العالمين } الخبر والمعنى على هذه الوجوه : أن تنزيل الكتاب المتلو لا ريب فيه ولا شك وأنه منزل من رب العالمين وأنه ليس بكذب ولا سحر ولا كهانة ولا أساطير الأولين (4/351)
و أم في 3 - { أم يقولون افتراه } هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة : أي بل أيقولون هو مفترى فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو معتقد الكفار مع الاستفهام المتضمن للتقريع والتوبيخ ومعنى افتراه افتعله واختلقه ثم أضرب عن معتقدهم إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب فقال : { بل هو الحق من ربك } فكذبهم سبحانه في دعوى الافتراء ثم بين العلة التي كان التنزيل لأجلها فقال : { لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك } وهم العرب وكانوا أمة أمية لم يأتهم رسول وقيل قريش خاصة والمفعول الثاني لتنذر محذوف : أي لتنذر قوما العقاب وجملة ما أتاهم من نذير في محل نصب على الحا و من قبلك صفة لنذير وجوز أبو حيان أن تكون ما موصولة والتقدير : لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك وهو ضعيف جدا فإن المراد تعليل الإنزال بالإنذار لقوم لم يأتهم نذير قبله لا تعليله بالإنذار لقوم قد أنذروا بما أنذرهم به وقيل المراد بالقوم أهل الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم { لعلهم يهتدون } رجاء أن يهتدوا أو كي يهتدوا ألأأ (4/352)
4 - { الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف والمراد من ذكرها هنا تعريفهم كمال قدرته وعظيم صنعه ليسمعوا القرآن ويتأملوه معنى خلق : أود
وأبدع قال الحسن : الأيام هنا هي من أيام الدنيا وقيل مقدار اليوم ألف سنة من سني الدنيا قاله الضحاك فعلى هذا المراد بالأيام هنا هي من أيام الآخرة لا من أيام الدنيا وليست ثم للترتيب في قوله : { ثم استوى على العرش } وقد تقدم تفسير هذا مستوفى { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } أي ليس لكم من دون الله أو من دون عذابه من ولي يواليكم ويد عنكم عذابه ولا شفيع يشفع لكم عنده { أفلا تتذكرون } تذكر تدبر وتفكر وتسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم ويعقل حتى تنتفعوا بها (4/352)
5 - { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } لما بين سبحانه خلق السموات والأرض والمعنى : ينزل أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة كما قال سبحانه : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن } ومسافة ما بين سماء الدنيا والأرض التي تحتها نزولا وطلوعا ألف سنة من أيام الدنيا وقيل المراد بالأمور المأمور به من الأعمال : أي ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض وقيل يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها نازلة أحكامها وآثارها إلى الأرض وقيل ينزل الوحي مع جبريل وقيل العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل كما في قوله : { ثم استوى على } { العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات } وما دون السموات موضع التصرف قال الله : { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا } ثم لما ذكر سبحانه تدبير الأمر قال : { ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } أي ثم يرجع ذلك الأمر ويعود ذلك التدبير إليه سبحانه في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا وذلك باعتبار مسافة النزول من السماء والطلوع ن الأرض كما قدمنا وقيل إن المراد أنه يعرج إليه في يوم القيامة الذي مقداره ألف سنة من أيام الدنيا وذلك حين ينقطع أمر الدنيا ويموت من فيها وقيل هي أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع من يرسله إليها من الملائكة والمعنى : أنه يثبت ذلك عنده ويكتب في صحف ملائكته ما عمله أهل الأرض في كل وقت من الأوقات إلى أن تبلغ مدة الدنيا آخرها وقيل معنى يعرج إليه : يثبت في علمه موجودا بالفعل في برهة من الزمان هي مقدار ألف سنة والمارد طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان وقيل يدبر أمر الحواديث اليومية بإثباتها في اللوح المحفوظ فتنزل بها الملائكة ثم تعرج إليه في زمان هو كألف سنة من أيام الدنيا وقيل يقضي قضاء ألف سنة فتنزل به الملائكة ثم تعرج بعد الألف لألف آخر وقيل المراد أن الأعمال التيهي طاعات يدبرها الله سبحانه وينزل بها ملائكته ثم لا يعرج إليها منها إلا الخالص بعد مدة متطاولة لقلة المخلصين من عباده وقيل الضمير في يعرج يعود إليها منها إلا الخالص بعد مدة متطاولة لقلة المخلصين من عباده وقيل الضمير في يعرج يعود إلى الملك وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من السياق وقد جاء صريحا في قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه } والضمير في إليه يرجع إلى السماء على لغة من يذكرها أو إلى مكان الملك الذي يرجع إليه وهو الذي أقره الله فيه وقيل المعنى : يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها إلى الله في ويم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام فمسافة النزول من السماء إلى الأرض والرجوع من الأرض إلى السماء ألف عام وقد رجح هذا جماعة من المفسرين منهم ابن جرير وقيل مسافة النزول ألف سنة ومسافة الطلوع ألف سنة روي ذلك عن الضحاك وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدة النهار بين ليلتين والعرب قد تعبر عن المدة باليوم كما قال الشاعر :
( يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأديب )
فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم قرأ الجمهور { يعرج } على البناء للفاعل وقرأ ابن أبي عبلة على البناء للمفعول والأصل يعرد به ثم حذف حرف الجار فاستتر الضمير وقد استشكر جماعة الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه : { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } فقيل في الجواب إن يوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا ولكنه باعتبار صعوبته وشدة أهواله على الكفار كخمسين ألف سنة والعرب تصف كثيرا يوم المكروه بالطول كما تصف يوم السرور بالقصر كما قال الشاعر :
( ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاف المزاهر )
وقول الآخر :
( ويوم كإبهام القطة قطعته )
وقيل إن يوم القيامة فيه أيام فمنها ما مقداره ألف سنة ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة وقيل هي أوقات مختلفة يعذب الكافر بنوع من أنواع العذاب ألف سنة ثم ينقل إلى نوع آخر فيعذب به خمسين ألف سنة وقيل مواقف القيامة خمسون موقفا كل موقف ألف سنة فيكون معنى { يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة } أنه يعرج إليه في وقت من تلك الأوقات أو موقف من تلك المواقف وحكى الثعلبي عن مجاهد وقتادة والضحاك أنه أراد سبحانه في قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } المسافة من الارض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل والمراد أنه يسير جبريل ومن معه من الملائكة في ذلك المقام إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا وأراد بقوله : { في يوم كان مقداره ألف سنة } المسافة التي بين الأرض وبين سماء الدنيا هبوطا وصعودا فإنها مقدار ألف سنة من أيام الدنيا وقيل إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة فقوله : { في يوم كان مقداره ألف سنة } يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون الشهر منه ؟ وكم تكون السنة منه ؟ وعلى هذا فلا فرق بين ألف سنة وبين خمسين ألف سنة وقيل غير ذلك وقد وقف حبر الأمة ابن عباس لما سئل عن الآيتين كما سيأتي في آخر البحث إن شاء الله قرأ الجمهور { مما تعدون } بالفوقية على الخطاب وقرأ الحسن والسلمي وابن وثاب والأعمش بالتحتية على الغيبة (4/352)
والإشارة بقوله : 6 - { ذلك } إلى الله سبحانه باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف وهو مبتدأ وخبره { عالم الغيب والشهادة } أي العالم بما غاب عن الخلق وما حضرهم وفي هذا معنى التهديد لأنه سبحانه إذا علم بما يغيب وما يحضر فهو مجاز لكل عامل بعمله أو فهو يدبر الأمر بما تقتضيه حكمته { العزيز } القاهر الغالب { الرحيم } بعباده وهذه أخبار لذلك المبتدأ (4/355)
وكذلك قوله : 7 - { الذي أحسن كل شيء خلقه } هو خبر آخر قرأ الجمهور { خلقه } بفتح اللام وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بإسكانها فعلى القراءة الأولى هو فعل ماض نعتا لشيء فهو في محل جر وقد اختار قراءة الجمهور أبو عبيدة وأبو حاتم ويجوز أن تكون صفة للمضاف فيكون في محل نصب وأما على القراءة الثانية ففي نصبه أوجه : الأول أن يكون بدلا من كل شيء بدل اشتمال والضمير عائد إلى كل شيء وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة الثاني أنه بدل كل من كل والضمير راجع إلى الله سبحانه ومعنى أحسن : حسن لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة فكل المخلوقات حسنة الثالث أن يكون كل شيء هو المفعول الأول وخلقه هو المفعول الثاني على تضمين أحسن معنى أعطى والمعنى : أعطى كل شيء خلقه الذي خصه به وقيل على تضمينه معنى ألهم قال الفراء : ألهم خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه الرابع أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة : أي خلقه خلقا كقوله : { صنع الله } وهذا قول سيبويه والضمير يعود إلى الله سبحانه والخامس أنه منصوب بنزع الخافض والمعنى أحسن كل شيء في خلقه ومعنى الآية : أنه أتقن وأحكم خلق مخلوقاته فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنة في نفسها فهي متقنة محكمة فتكون هذه الآية معناها معنى { أعطى كل شيء خلقه } أي لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة ولا خلق البهيمة على خلق الإنسان وقيل هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى : أي أحسن خلق كل شيء حسن { وبدأ خلق الإنسان من طين } يعني آدم خلقه من طين فصار على صورة بديعة وشكل حسن (4/355)
8 - { جعل نسله } أي ذريته { من سلالة } سميت الذرية سلالة لأنها تسل من الأصل وتنفصل عنه وقد تقدم تفسيرها في سورة المؤمنين ومعنى { من ماء مهين } من ماء ممتهن لا خطر فه عند الناس وهو المني وقال الزجاج : من ماء ضعيف (4/355)
9 - { ثم سواه } أي الإنسان الذي بدأ خلقه من طين وهو آدم أو جميع النوع والمراد أنه عدل خلقه وسوى شكله وناسب بين أعضائه { ونفخ فيه من روحه } الإضافة للتشريف والتكريم وهذه الإضافة تقوي أن الكلام في آدم لا في ذريته وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع ثم خاطب جميع النوع فقال : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي خلق لكم هذه الأشياء تكميلا لنعمته عليكم وتتميما لتسويته لخلقكم حتى تجتمع لكم النعم فتسمعون كل مسموع وتبصرون كل مبصر وتتعقلون كل متعقل وتفهمون كل ما يفهم وأفرد السمع لكونه مصدرا يشمل القليل والكثير وخص السمع بذكر المصدر دون البصر والفؤاد فذكرهما بالاسم ولهذا جمعا لأن السمع قوة واحدة ولها محل واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه فإن الصوت يصل إليها ولا تقدر على رده ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض بخلاف الأبصار فمحلها العين وله فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه فيتعقل هذا دون هذا ويفهم هذا دون هذا قرأ الجمهور وبدأ بالهمز والزهري بألف خالصة بدون همز وانتصاب { قليلا ما تشكرون } على أنه صفى مصدر محذوف : أي شكرا قليلا أو صفة زمان محذوف : أي زمانا قليلا وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله وتركهم لشكرها إلا فيما ندر من الأحوال (4/356)
10 - { وقالوا أإذا ضللنا في الأرض } قد تقدم اختلاف القراء في هذه الهمزة وفي الهمزة التي بعدها والضلال الغيبوبة يقال : ضل الميت في التراب إذا غاب وبطل والعرب تقول للشيء إذا غلب عليه غيره حتى خفي أثره قد ضل ومنه قول الأخطل :
( كنت القذى في موج أكدر مزبد ... قذف الأتي بها فضل ضلالا )
قال قطرب : معنى ضللنا في الأرض : غبنا في الأرض قرأ الجمهور ضللنا بفتح ضاد معجمة ولام مفتوحة بمعنى ذهبنا وضعنا وصرنا ترابا وغبنا عن الأعين وقرأ يحيى بن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء ضللنا بكسر اللام وهي لغة العالية من نجد قال الجوهري : وأهل العالية يقولون ضللت بالكسر قال وأضله : أي أضاعه وأهلكه يقال ضل الميت إذا دفن وقرأ علي بن أبي طالب والحسن والأعمش وأبان بن سعيد ضللنا بصاد مهملة ولام مفتوحة : أي أنتنا قال النحاس : ولا يعرف في اللغة صللنا ولكن يقال صل اللحم إذا أنتن قال الجوهري : صل اللحم يصل بالكسر صلولا إذا أنتن مطبوخا كان أو نيئا ومنه قول الحطيئة :
( ذاك فتى يبذل ذا قدرة ... لا يفسد اللحم لديه الصلول )
{ أإنا لفي خلق جديد } أي نبعث ونصير أحياء والاستفهام للاستنكار وهذا قول منكري البعث من الكفار فأضرب الله سبحانه من بيان كفرهم بإنكار البعث إلى بيان ما هو أبلغ منه وهو كفرهم بلقاء الله فقال : { بل هم بلقاء ربهم كافرون } أي جاحدون له مكابرة وعنادا فإن اعترافهم بأنه المبتدئ للخلق يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة (4/356)
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يبين لهم الحق ويرد عليهم ما زعموه من الباطل فقال : 11 - { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } يقال : توفاه الله واستوفى روحه إذا قبضه إليه وملك الموت هو عزرائيل ومعنى وكل بكم : وكل بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم { ثم إلى ربكم ترجعون } أي تصيرون إليه أحياء بالبعث والنشور لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يدبر الأمر } الآية قال : هذا في الدنيا تعرج الملائكة في يوم مقداره ألف سنة وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله : { في يوم كان مقداره ألف سنة } قال : من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي مليكة قال : دخلت على عبد الله بن عباس أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان فقال له ابن فيروز : يا أبا عباس قوله : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة } فكأن ابن عباس اتهمه فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ قال : إنما سألتك لتخبرني فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب فسأله عنهما إنسان فلم يخبره ولم يدر فقلت : ألا أخبرك بما حضرت من ابن عباس ؟ قال بلى فأخبرته فقال للسائل : هذا ابن عباس قد أبى أن يقول فيها وهو أعلم مني وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كان مقداره ألف سنة } قال : لا يتنصف النهار في مقدار يوم من أيام الدنيا في ذلك اليوم حتى يقضي بين العباد فينزل أهل الجن الجنة وأهل النار النار ولو كان إلى غيره لم يفرغ في خمسين ألف سنة وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : { ثم يعرج إليه في يوم } من أيامكم هذه ومسيرة ما بين السماء والأرخض خمسمائة عام وأخرج ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ { الذي أحسن كل شيء خلقه } قال : ما رأيت القردة ليست بحسنة ولكنه أحكم خلقها وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية أنه قال : أما إن است القردة ليست بحسنة ولكنه أحكم خلقها وقال : { خلقه } صورته وقال : { أحسن كل شيء } القبيح والحسن والعقارب والحيات وكل شيء مما خلق وغيره لا يحسن شيئا من ذلك وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال [ بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لقينا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة قد أسبل فأخذ النبي صلى الله عليه و سلم بناحية ثوبه فقال : يا رسول الله إني أحمش الساقين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عمرو بن زرارة إن الله عز و جل قد أحسن كل شيء خلقه يا عمرو بن زرارة إن الله لا يحب المسبلين ] وأخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال [ أبصر النبي صلى الله عليه و سلم رجلا قد أسبل إزاره فقال : ارفع إزارك فقال : يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي فقال : ارفع إزارك كل خلق الله حسن ] (4/357)
قوله : 12 - { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } المراد بالمجرمين هم القائلون إئذا ضللنا والخطاب هنا لكل من يصلح له أو لرسول الله صلى الله عليه و سلم ويجوز أن يراد بالمجرمين كل مجرم ويدخل فيه أولئك القائلون دخولا أوليا ومعنى { ناكسوا رؤوسهم } مطأطئوها حياء وندما على ما فرط منهم في الدنيا من الشرك بالله والعصيان له ومعنى عند ربهم : عند محاسبته لهم قال الزجاج : والمخاطبة للنبي صلى الله عليه و سلم مخاطبة لأمته فالمعنى : ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب { ربنا أبصرنا وسمعنا } أي يقولون : ربنا أبصرنا الآن ما كنا نكذب به وسمعنا ما كنا ننكره وقيل أبصرنا صدق وعيدكم وسمعنا تصديق رسلك فهؤلاء أبصروا حين لم ينفعهم البصر وسمعوا حين لم ينفعهم السمع { فارجعنا } إلى الدنيا { نعمل } عملا { صالحا } كما أمرتنا { إنا موقنون } أي مصدقون وقيل مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وصفوا أنفسهم بالإيقان الآن طمعا فيما طلبوه من إرجاعهم إلى الدنيا وأنى لهم ذلك فقد حقت عليهم كلمة الله فإنهم { لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } وقيل معنى { إنا موقنون } إنها قد زالت عنهم الشكوك التي كانت تخالطهم في الدنيا لما رأوا وسمعوا ما سمعوا ويجوز أن يكون معنى { أبصرنا وسمعنا } صرنا ممن يسمع ويبصر فلا يحتاج إلى تقدير مفعول ويجوزظ أن يكون صالحا مفعولا لنعمل كما يجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف وجواب لو محذوف : أي لرأيت أمرا فظيعا وهولا هائلا (4/359)
13 - { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } هذا رد عليهم لما طلبوا الرجعة : أي لو شئنا لآتينا كل نفس هداها فهدينا الناس جميعا فلم يكفر منهم أحد قال النحاس : في معنى هذا قولان : أحدهما أنه في الدنيا والآخر أنه في الآخرة : أي ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا { ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وجملة لو شئنا مقدرة بقول معطوف على المقدر قبل قوله أبصرنا أي ونقول لو شئنا ومعنى { ولكن حق القول مني } أي نفذ قضائي وقدري وسبقت كلمتي { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } هذا هو القول الذي وجب من الله وحق على عباده ونفذ فيه قضاؤه فكان مقتضى هذا القول أنه لا يعطي كل نفس هداها وإنما قضى عليهم بهذا لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى (4/359)
والفاء في قوله : 14 - { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله والباء في بما نسيتم للسببية وفيه إشعار بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق القول المتقدم بل بذاك وهذا
واختلف في النسيان المذكور هنا فقيل هو النسيان الحقيقي وهو الذي يزول عنده الذكر وقيل هو الترك والمعنى على الأول : أنهم لميعملوا لذلك اليوم فكانوا كالناسين له الذين لا يذكرونه وعلى الثاني لا بد من تقدير مضاف قبل لقاء : أي ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به عذاب لقاء يومكم هذا ورجح الثاني المبرد وأنشد :
( كأنه خارج من جنب صفحته ... سفود شرب نسوه عند مفتأد )
أي تركوه وكذا قال الضحاك ويحيى بن سلام : إن النسيان هنا بمعنى الترك قال يحيى بن سلام : والمعنى : بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم تركناكم من الخير وكذا قال السدي وقال مجاهد : تركناكم في العذاب وقال مقاتل : إذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة : ذوقوا العذاب بما نسيتم واستعار الذوق للإحساس ومنه قول طفيل :
( فذوقوا كما ذقنا غداة محجة ... من الغيظ في أكبادنا والتحوب )
وقوله : { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } تكرير لقصد التأكيد : أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا ينقطع أبدا بما كنتم تعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي قال الرازي في تفسيره : إن اسم الإشارة في قوله : { بما نسيتم لقاء يومكم هذا } يحتمل ثلاثة أوجه : أن يكون إشارة إلى اللقاء وأن يكون إشارة إلى اليوم وأن يكون إشارة إلى العذاب (4/360)
وجملة 15 - { إنما يؤمن بآياتنا } مستأنفة لبيان ما يستحق الهداية إلى الإيمان ومن لا يستحقها والمعنى : إنما يصدق بآياتنا وينتفع بها { الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا } لا غيرهم ممن يذكر بها : أي يوعظ بها ولا يتذكر ولا يؤمن بها ومعنى خروا سجدا سقطوا على وجوههم ساجدين تعظيما لآيات الله وخوفا من سطوته وعذابه { وسبحوا بحمد ربهم } أي نزهوه عن كل ما لا يليق به ملتبسين بحمده على نعمه التي أجلها وأكملها الهداية إلى الإيمان والمعنى : قالوا في سجودهم : سبحان الله وبحمده أو سبحان ربي الأعلى وبحمده وقال سفيان : المعنى صلوا حمدا لربهم وجملة { وهم لا يستكبرون } في محل نصب على الحال : أي حال كونهم خاضعين لله متذللين له غير مستكبرين عليه (4/360)
16 - { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } أي ترتفع وتنبو يقال : جفا الشيء عن الشيء وتجافى عنه : إذا لم يلزمه ونبا عنه والمضاجع جمع المضجع وهو الموضع الذي يضطجع فيه قال الزجاج والرماني : التجافي والتجفي إلى جهة فوق وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه والجنوب جمع جنب والجملة في محل نصب على الحال : أي متجافية جنوبهم عن مضاجعهم وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء والجمهور والمراد بالصلاة صلاة التنفل بالليل من غير تقييد وقال قتادة وعكرمة : هو التنفل ما بين المغرب والعشاء وقيل صلاة العشاء فقط وهو رواية عن الحسن وعطاء وقال الضحاك : صلاة العشاء والصبح في جماعة وقيل هم الذين يقومون لذكر الله سواء كان في صلاة أو غيرها { يدعون ربهم خوفا وطمعا } هذه الجملة في محل نصب على الحال أيضا من الضمير الذي في جنوبهم فهي حال بعد حال ويجوز أن تكون الجملة الأولى مستأنفة لبيان نوع من أنواع طاعاتهم والمعنى : تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين ربهم خوفا من عذابه وطمعا في رحمته { ومما رزقناهم ينفقون } أي من الذي رزقناهم أو من رزقهم وذلك الصدقة الواجبة وقيل صدقة النفل والأولى الحمل على العموم وانتصاب خوفا وطمعا على العلة ويجوز أن يكون مصدرين منتصبين بمقدر (4/361)
17 - { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } النكرة في سياق النفي تفيد العموم : أي لا تعلم نفس من النفوس أي نفس كانت ما أخفاه لله سبحانه لأولئك الذين تقدم ذكرهم مما تقر به أعينهم قرأ الجمهور { قرة } بالإفراد وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو الدرداء من قرات بالجمع وقرأ حمزة { ما أخفي } بسكون الياء على أنه فعل مضارع مسند إلى الله سبحانه وقرأ الباقون بفتحها فعلا ماضيا مبنيا للمفعول وقرأ ابن مسعود ما نخفي بالنون مضمومة وقرأ الأعمش يخفي بالتحتية مضمومة قال الزجاج في معنى قراءة حمزة : أي منه ما أخفى الله لهم وهي قراءة محمد بن كعب و ما في موضع نصب ثم بين سبحانه أن ذلك بسبب أعمالهم الصالحة فقال : { جزاء بما كانوا يعملون } أي لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا أو جوزوا جزاء بذلك (4/361)
18 - { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا } الاستفهام للإنكار : أي ليس المؤمن كالفاسق فقد ظهر ما بينهما من التفاوت ولهذا قال : { لا يستوون } ففيه زيادة تصريف لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام قال الزجاج : جعل الاثنين جماعة حيث قال : { لا يستوون } لأجل معنى من وقيل : لكون الاثنين أقل الجمع وسيأتي بيان سبب نزولها آخر البحث (4/361)
ثم بين سبحانه عاقبة حال الطائفتين وبدأ بالمؤمنين فقال : 19 - { أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى } قرأ الجمهور { جنات } بالجمع وقرأ طلحة بن مصرف جنة المأوى بالإفراد والمأوى هو الذي يأوون إلأيه وأضاف الجنات إليه لكونه المأوى الحقيقي وقيل المأوى جنة من الجنات وقد تقدم الكلام على هذا ومعنى { نزلا } أنها معدة لهم عند نزولهم وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب كما بيناه في آل عمران وانتصابه على الحال وقرأ أبو حيوة نزلا بسكون الزاي والباء في { بما كانوا يعملون } للسببية : أي بسبب ما كانوا يعملونه أو بسبب عملهم (4/362)
ثم ذكر الفريق الآخر فقال : 20 - { وأما الذين فسقوا } أي خرجوا عن طاعة الله وتمردوا عليه وعلى رسله { فمأواهم النار } أي منزلهم الذي يصيرون إليه ويستقرون فيه هو النار { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } أي إذا أرادوا الخروج منها ردوا إليها راغمين مكرهين وقيل إذ دفعهم اللهب إلى أعلاها ردوا إلى مواضعهم { وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } والقائل لهم هذه المقالة هو خزنة جهنم من الملائكة أو القائل لهم هو الله عز و جل وفي هذا القول لهم حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة لهم ما لا يخفى (4/362)
21 - { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } وهو عذاب الدنيا قال الحسن وأبو العالية والضحاك والنخعي : هو مصائب الدنيا وأسقامها وقيل الحدود وقيل القتل بالسيف يوم بدر وقيل سنين الجوع بمكة وقيل عذاب القبر ولا مانع من الحمل على الجميع { دون العذاب الأكبر } وهو عذاب الآخرة { لعلهم يرجعون } مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة ويتوبون عما كانوا فيه وفي هذا التعليل دليل على ضعف قول من قال : إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر (4/362)
22 - { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } أي لا أحد أظلم منه لكونه سمع من آيات الله ما يوجب الإقبال على الإيمان والطاعة فجعل الإعراض مكان ذلك والمجيء بثم للدلالة على استبعاد ذلك وأنه مما ينبغي أن لا يكون { إنا من المجرمين منتقمون } أي من أهل الإجرام على العموم فيدخل فيه من أعرض عن آيات الله دخولا أوليا
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إنا نسيناكم } قال : تركناكم وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال : نزلت هذه الآية في شأن الصلوات الخمس { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا } أي أتوها { وسبحوا } أي صلوا بأمر ربهم { وهم لا يستكبرون } عن إتيان الصلاة في الجماعات وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة عن أنس بن مالك أن هذه الآية { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة وأخرج البخاري في تاريخه وابن مردويه عنه قال : نزلت في صلاة العشاء وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال : كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن مردويه عنه أيضا قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم راقدا قط قبل العشاء ولا متحدثا بعدها فإن هذه الآية نزلت في ذلك { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } قال : هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقتها قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير وأخرج ابن مردويه عن بالا قال : كنا نجلس في المسجد وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلون بعد المغرب العشاء تتجافى جنوبهم عن المضاجع وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن عدي وابن مردويه عن أنس نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود ومحمد بن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس في قوله : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } قال : كانوا ينتظرون ما بين المغرب والعشاء يصلون وأخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه عن معاذ بن جبل : [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { تتجافى جنوبهم } قال : قيام العبد من الليل ] وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه و سلم وذكر حديثا وأرشد فيه إلى أنواع من الطاعات وقال فيه [ وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } ] وأخرج ابن مردويه عن أنس في الآية قال : كان لا تمر عليهم ليلة إلا أخذوا منها وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد من طريق أبي عبد الله الجدلي عن عبادة بن الصامت عن كعب قال [ إذا حشر الناس نادى مناد : هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ] الحديث وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية يقول : تتجافى لذكر الله كلما استيقظوا ذكروا الله إما في الصلاة وإما في القيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : كان عرش الله على الماء فاتخذ جنة لنفسه ثم اتخذ دونها أخرى ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة ثم قال : { ومن دونهما جنتان } لم يعلم الخلق ما فيهما وهي التي قال الله : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } تأتيهم منها كل يوم تحفة وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنه لمكتوب في التوراة : لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنه لفي القرآن { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } وأخرج البخاري مسلم وغيرهما عن أبي هريرة [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة : واقرأوا إن شئتم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ] وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة وهي معروفة فلا نطول بذكرها وأخرج أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني والواحدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : قال الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب : أنا أحد منك سنانا وأنشط منك لسانا وأملأ للكتيبة منك فقال له علي : اسكت فإنما أنت فاسق فنزلت { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } يعني بالمؤمن عليا وبالفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه في الآية نحوه وروي نحو هذا عن عطاء بن يسار والسدي عبد الرحمن بن أبي ليلى وأخرج الفريابي وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود في قوله : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } قال : يوم بدر { دون العذاب الأكبر } قال : يوم القيامة { لعلهم يرجعون } قال : لعل من بقي منهم أن يتوب فيرجع وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود في الآية قال : العذاب الأدنى سنون أصابتهم { لعلهم يرجعون } قال : يتوبون وأخرج مسلم وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبو عوانة في صحيحه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي بن كعب في قوله : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } قال : مصائب الدنيا والروم والبطشة والدخان وأخرج ابن جرير عنه قال : يوم بدر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { من العذاب الأدنى } قال : الحدود { لعلهم يرجعون } قال : يتوبون وأخرج ابن منيع وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن معاذ بن جبل : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ثلاث من فعلهن فقد أجرم : من عقد لواء في غير حق أو عق والديه أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم ] يقول الله : { إنا من المجرمين منتقمون } قال ابن كثير بعد إخراجه : هذا حديث غريب (4/362)
قوله : 23 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة { فلا تكن } يا محمد { في مرية } أي شك وريبة { من لقائه } قال الواحدي : قال المفسرون : وعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه سيلقى موسى قبل أن يموت ثم لقيه في السماء أو في بيت المقدس حين أسري به وهذا قول مجاهد والكلبي والسدي وقيل : فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها وقيل فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب قاله الزجاج : وقال الحسن : إن معناه : ولقد آتينا موسى الكتاب فكذ وأوذي فلا تكن في شك من أنه سليقاك ما لقيه من التكذيب والأذى فيكون الضمير في لقائه على هذا عائدا على محذوف والمعنى : من لقاء ما لاقى موسى قال النحاس : وهذا قول غريب وقيل في الكلام تقدير وتأخير والمعنى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم فلا تكن في مرية من لقائه فجاء معترضا بين { ولقد آتينا موسى الكتاب } وبين { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } وقيل الضمير راجع إلى الكتاب الذي هو الفرقان كقوله : { وإنك لتلقى القرآن } والمعنى : إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره وما أبعد هذا ولعل الحامل لقائله عليه قوله : { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } فإن الضمير راجع إلى الكتاب وقيل إن الضمير في لقائه عائد إلى الرجوع المفهوم من قوله : { ثم إلى ربكم ترجعون } أي لا تكن في مرية من لقاء الرجوع وهذا بعيد أيضا
واختلف في الضمير في قوله وجعلناه فقيل هو راجع إلى الكتاب : أي جعلنا التوراة هدى لبني إسرائيل قاله الحسن وغيره وقال قتادة : إنه راجع إلى موسى : أي وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل (4/365)
24 - { وجعلنا منهم أئمة } أي قادة يقتدون به في دينهم وقرأ الكوفيون أئمة قال النحاس : وهو لحن عند جميع النحويين لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة ومعنى { يهدون بأمرنا } أي يدعونهم إلى الهداية بما يلقونه إليه من أحكام التوراة ومواعظها بأمرنا : أي بأمرنا لهم بذلك أو لأجل أمرنا وقال قتادة : المراد بالأئمة الأنبياء منهم وقيل العلماء { لما صبروا } قرأ الجمهور { لما } بفتح اللام وتشديد الميم : أي جعلناهم أئمة لصبرهم واختار هذه القراءة أبو عبيد مستدلا بقراءة ابن مسعود بما صبروا بالباء وهذا الصبر هو صبرهم على مشاق التكليف والهداية للناس وقيل صبروا عن الدنيا { وكانوا بآياتنا } التنزيلية { يوقنون } أي يصدقونها ويعلمون أنها حق وأنها من عند الله لمزيد تفكرهم وكثرة تدبرهم (4/366)
25 - { إن ربك هو يفصل بينهم } أي يقضي بينهم ويحكم بين المؤمنين والكفار { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } وقيل يقضي بين الأنبياء وأممهم حكاه النقاش (4/366)
26 - { أولم يهد لهم } أي أو لم يبين لهم والهمزة للإنكار والفاعل ما دل عليه { كم أهلكنا من قبلهم من القرون } أي أو لم نبين لهم كثرة إهلاكنا من قبلهم قال الفراء : كم في موضع رفع بيهد وقال المبرد : إن الفاعل الهدى المدلول عليه بيهد : أي أو لم يهد لهم الهدى وقال الزجاج : كم في موضع نصب بأهلكنا قرأ الجمهور أو لم يهد بالتحتية وقرأ السلمي وقتادة وأبو زيد عن يعقوب بالنون وهذه القراءة واضحة قال النحاس : والقراءة بالياء التحتية فيها إشكال لأنه يقال : الفعل لا يخلو من فاعل فأين الفاعل ليهد ؟ ويجاب عنه بأن الفاعل هو ما قدمنا ذكره والمراد بالقرون : عاد وثمود ونحوهم وجملة { يمشون في مساكنهم } في محل نصب على الحال من ضمير لهم : أي والحال أنهم يمشون في مساكن المهلكين ويشاهدونها وينظرون ما فيها من العبر وآثار العذاب ولا يعتبرون بذلك وقيل يعود إلى المهلكين والمعنى : أهلكناهم حال كونهم ماشين في مساكنهم والأول أولى { إن في ذلك } المذكور { لآيات } عظيمات { أفلا يسمعون } بها ويتعظون بها (4/366)
27 - { أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز } أي أو لم يعلموا بسوقنا الماء إلى الأرض التي لا تنبت إلا بسوق الماء إليها وقيل هي اليابسة وأصله من الجرز وهو القطع : أي التي قطع نباتها لعدم الماء ولا يقال للتي لا تنبت أصلا كالسباخ جرز لقوله : { فنخرج به زرعا } قيل هي أرض اليمن وقيل أرض عدن وقال الضحاك : هي الأرض العطشى وقال الفراء : هي الأرض التي لا نبات فيها وقال الأصمعي : هي الأرض التي لا تنبت شيئا قال المبرد : يبعد أن تكون الأرض بعينها لدخول الألف واللام وقيل هي مشتقة من قولهم رجل جروز : إذا كان لا يبقي شيئا إلا أكله ومنه قول الراجز :
( خب جروز وإذا جاع بكى ... ويأكل التمر ولا يلقي النوى )
وكذلك ناقة جروز : إذا كانت تأكل كل شيء تجده وقال مجاهد : إنها أرض النيل لأن الماء إنما يأتيها في كل عام { فنخرج به } : أي بالماء { زرعا تأكل منه أنعامهم } أي من الزرع كالتبن والورق ونحوهما مما لا يأكله الناس { وأنفسهم } أي يأكلون الحبوب الخارجة في الزرع مما يقتاتونه وجملة { تأكل منه أنعامهم } في محل نصب على الحال { أفلا يبصرون } هذه النعم ويشكرون المنعم ويوحدونه لكونه المنفرد بإيجاد ذلك (4/366)
28 - { ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } القائلون هم الكفار على العموم أو كفار مكة على الخصوص : أي متى الفتح الذي تعدونا به يعنون بالفتح القضاء والفصل بين العباد وهو يوم البعث الذي يقضي الله فيه بين عباده قاله مجاهد وغيره وقال الفراء والقتيبي : هو فتح مكة قال قتادة : قال أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم للكفار : إن لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم : يعنون يوم القيامة فقال الكفار : متى هذا الفتح ؟ وقال السدي : هو يوم بدر لأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانوا يقولون للكفار : إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم ومتى في قوله : { متى هذا الفتح } في موضع رفع أو في موضع نصب على الظرفية (4/367)
ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم أن يجيب عليهم فقال : 29 - { قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون } وفي هذا دليل على أن يوم الفتح هو يوم القيامة لأن يوم الفتح مكة ويوم بدر هما مما ينفع فيه الإيمان وقد أسلم أهل مكة يوم الفتح وقبل ذلك منهم النبي صلى الله عليه و سلم ومعنى { ولا هم ينظرون } لا يمهلون ولا يؤخرون ويوم في يوم الفتح منصوب على الظرفية وأجاز الفراء الرفع (4/367)
30 - { فأعرض عنهم } أي عن سفههم وتكذيبهم ولا تجبهم إلا بما أمرت به { وانتظر إنهم منتظرون } أي وانتظر يوم الفتح وهو يوم القيامة أو يوم إهلاكهم بالقتل إنهم منتظرون بك حوادث الزمان من موت أو قتل أو غلبة كقوله : { فتربصوا إنا معكم متربصون } ويجوز أن يراد إنهم منتظرون لإهلاكهم والآية منسوخة بآية السيف وقيل غير منسوخة إذ قد يقع الإعراض مع الأمر بالقتال وقرأ ابن السميفع إنهم منتظرون بفتح الظاء مبنيا للمفعول ورويت هذه القراءة عن مجاهد وابن محيصن قال الفراء : لا يصح هذا إلا بإضمار : أي إنهم منتظر بهم قال أبو حاتم : الصحيح الكسر : أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طويلا جعدا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس ورأيت مالكا خازن جهنم والدجال في آيات أراهن الله إياه ] قال { فلا تكن في مرية من لقائه } فكان قتادة يفسرها أن النبي صلى الله عليه و سلم قد لقي موسى { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } قال : جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند قال السيوطي : صحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم { فلا تكن في مرية من لقائه } قال من لقاء موسى قيل أو لقي موسى ؟ قال نعم ألا ترى إلى قوله : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز } قال : الجرز التي لا تمطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا إلا ما يأتيها من السيول وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { إلى الأرض الجرز } قال : أرض اليمن قال القرطبي في تفسيره : والإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } قال : يوم بدر فتح النبي صلى الله عليه و سلم فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت (4/367)
سورة الأحزاب
هي ثلاث وسبعون آية وهي مدنية
أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة الأحزاب بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج عبد الرزاق في المصنف والطيالسي وسعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن منيع والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والدارقطني في الإفراد والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن زر قال : قال لي أبي بن كعب كأي تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها قلت ثلثا وسبعين آية فقال أقط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة أو أكثر من سورة البقرة ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فرفع فيما رفع قال ابن كثير : وإسناده حسن وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ورجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا بعده فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وقد وري عنه نحو هذا من طرق وأخرج ابن مردويه عن حذيفة قال : قال لي عمر بن الخطاب : كم تعدون سورة الأحساب ؟ قلت ثنتين أو ثلاثا وسبعين قال : إن كانت لتقارب سورة البقرة وإن كان فيها لآية الرجم وأخرج البخاري في تاريخه قال : قرأت سورة الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها وأخرج أبو عبيد في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله عليه و سلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقرر منها إلا على ما هو الآن
قوله : 1 - { يا أيها النبي اتق الله } أي دم على ذلك وازدد منه { ولا تطع الكافرين } من أهل مكة ومن هو على مثل كفرهم { والمنافقين } أي الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر قال الواحدي : إنه أراد سبحانه بالكفارين أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور السلمي وذكل أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة لمن عبدها قال : والمنافقين عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وسيأتي آخر البحث بيان سبب نزول الآية { إن الله كان عليما حكيما } أي كثير العلم والحكمة بليغهما قال النحاس : ودل بقوله : { إن الله كان عليما حكيما } على أنه كان يميل إليهم : يعني النبي صلى الله عليه و سلم استدعاء لهم إلى الإسلام والمعنى : أن الله عز و جل لو علم أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنهم لأنه حكيم ولا يخفى بعد هذه الدلالة التي زعمها ولكن هذه الجملة تعليل لجملة الأمر بالتقوى والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين والمعنى : أنه لا يأمرك أو ينهاك إلا بما علم فيه صلاحا أو فسادا لكثرة علمه وسعة حكمته (4/369)
2 - { واتبع ما يوحى إليك من ربك } من القرآن : أي اتبع الوحي في كل أمورك ولا تتبع شيئا مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين ولا من الرأي البحت فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك وجملة { إن الله كان بما تعملون خبيرا } تعليل لأمره باتباع ما أوحي إليك والأمر له صلى الله عليه و سلم أمر لأمته فهم مأمورون باتباع القرآن كما هو مأمور باتباعه ولهذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله : { بما تعملون } على قراءة الجمهور بالفوقية للخطاب واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم وقرأ أبو عمرو والسلمي وابن أبي إسحاق بالتحتية (4/370)
3 - { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا } أي اعتمد عليه وفوض أمورك إليه وكفى به حافظا يحفظ من توكل عليه (4/370)
ثم ذكر سبحانه مثلا توطئه وتمهيدا لما يتعقبه من الأحكام القرآنية التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه فقال : 4 - { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه }
وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية كما سيأتي وقيل هي مثل ضربه الله للمظاهر : أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان وكذلك لا يكون الدعي ابنا لرجلين وقيل كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا وقلب بكذا فنزلت الآية لرد النفاق وبيان أنه لا يجتمع مع الإسلام كما لا يجتمع قلبان والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله وجعلها محلا للعلم { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } وقرأ الكوفيون وابن عامر { اللائي } بياء ساكنة بعد همزة وقرأ أبو عمرو والبزي بياء ساكنة بعد ألف محضة قال أبو عمرو بن العلاء : إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرأوا بها وقرأ قنبل وورش بهمزة مكسورة بدون ياء قرأ عاصم { تظاهرون } بضم الفوقية وكسر الهاء بعد ألف مضارع ظاهر وقرأ ابن عامر بفتح الفوقية والهاء وتشديد الظاء مضارع تظاهر والأصل تتظاهرون وقرأ الباقون تظهرون بفتح الفوقية بدون الظاء بدون ألف والأصل تتظهرون والظهار مشتق من الظهر وأصله أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي والمعنى : وما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهن هذا القول كأمهاتكم في التحريم ولكنه منكر من القول وزور { و } كذلك { ما جعل } الأدعياء الذين تدعون أنهم { أبناءكم } أبناء لكم والأدعياء جمع دعي وهو الذي يدعي ابنا لغير أبيه وسيأتي الكلام في الظهار في سورة المجادلة والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدم من ذكر الظهار والادعاء وهو مبتدأ وخبره { قولكم بأفواهكم } أي ليس ذلك إلا مجرد قول بالأفواه ولا تأثير له فلا تصير المرأة به أما ولا ابن الغير به ابنا ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة وقيل الإشارة راجعة إلى الادعاء : أي ادعاؤكم أن أبناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له بل هو مجرد قول بالفم { والله يقول الحق } الذي يحق اتباعه لكونه حقا في نفسه لا باطلا فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم { وهو يهدي السبيل } أي يدل على الطريق الموصلة إلى الحق وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق وترك قول الباطل والزور (4/370)
ثم صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء فقال : 5 - { ادعوهم لآبائهم } للصلب واسبوهم إليهم ولا تدعوهم إلى غيرهم وجملة { هو أقسط عند الله } تعليل للأمر بدعاء الأبناء للآباء والضمير راجع إلى مصدر ادعوهم ومعنى أقسط أعدل : أي أعدل كل كلام يتعلق بذلك فترك الإضافة للعموم كقوله الله أكبر وقد يكون المضاف إليه مقدرا خاصا : أي أعدل من قولكم هو ابن فلان ولم يكن ابنه لصلبه ثم تمم سبحانه الإرشاد للعباد فقال : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } أي فهم إخوانكم في الدين وهم مواليكم فقولوا : أخي ومولاي ولا تقولوا ابن فلان حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقية : قال الزجاج : ويجوز أن يكون مواليكم أولياءكم في الدين وقيل المعنى : فإن كانوا محررين ولم يكونوا أحرارا فقولوا موالي فلان { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } أي لا إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد { ولكن } الإثم في { ما تعمدت قلوبكم } وهو ما قلتموه على طريقة العمد من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك قال قتادة : لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس { وكان الله غفورا رحيما } يغفر للمخطئ ويرحمه ويتجاوز عنه أو غفورا للذنوب رحيما بالعباد ومن جملة من يغفر له ويرحمه من دعا رجلا لغير أبيه خطأ أو قبل النهي عن ذلك (4/371)
ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة وخصوصية جليلة لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال : 6 - { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } أي هو أحق بهم في كل أمور الدين والدنيا وأولى بهم من أنفسهم فضلا عن أن يكون أولى بهم من غيرهم فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم وإن كانوا محتاجين إليها ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم وبالجملة فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه و سلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم وقيل المراد بأنفسهم في الآية بعضهم فيكون المعنى : أن النبي أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض وقيل هي خاصة بالقضاء : أي هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى بيه بينهم وقيل أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه والأول أولى { وأزواجه أمهاتهم } أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ومنزلات منزلتهن في استحقاق التعظيم فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن كما لا يحل له أن يتزوج بأمه فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن وبالتعظيم لجنابهن وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات نساء المؤمنين ولا بناتهن أخوات المؤمنين ولا أخوتهن أخوال المؤمنين وقال القرطبي : الذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لخقهن على الرجال والنساء ضرورة قال : ثم أن في مصحف أبي بن كعب وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وقرأ ابن عباس أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب وأزواجه أمهاتهم ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } المراد بأولى الأرحام القرابات : أي هم أحق ببعضهم البعض في الميراث وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة قال قتادة : لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } فتوارث المسلمون بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآيةن وكذا قال غيره وقيل إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين و { في كتاب الله } يجوز أن يتعلق بأفعل التفضيل في قوله : { أولى ببعض } لأنه يعمل في الظرف ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير : أي كائنا في كتاب الله والمراد بالكتاب الوح المحفوظ أو القرآن أو آية المواريث وقوله : { من المؤمنين } يجوز أن يكون بيانا لأولوا الأرحام والمعنى أن ذوي القرابات من المؤمنين { والمهاجرين } بعضهم أولى ببعض ويجوز أن يكون بيانا لأولوا الأرحام والمعنى أن ذوي القرابات من المؤمنين { والمهاجرين } بعضم أولى ببعض ويجوز أن يتعلق بأولي : أي أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذي هم أجانب وقيل إن معنى الآية : وأولوا الأرحام ببعضهم أولى ببعض : ألا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه و سلم من كونهم كالأمهات في تحريم النكاح وفي هذا من الضعف ما لا يخفى { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام والتقدير : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز قاله قتادة والحسن وعطاء ومحمد ابن الحنفية قال محمد ابن الحنفية : نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني فالكافر ولي في النسب لا في الدين فتجوز الوصية له ويجوز أن يكون منقطعا والمعنى : لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به ومعنى الآية : أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي لهم وقال مجاهد : اراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة والإشارة بقوله : { كان ذلك } إلى ما تقدم ذكره : أي كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات { في الكتاب مسطورا } أي في اللوح المحفوظ أو في القرآن مكتوبا
وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه و سلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم ؟ قنزل { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } وأخرج ابن مردويه عنه من طريق أخرى بلفظ صلى لله النبي صلى الله عليه و سلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فقالوا : إن له قلبين فنزلت وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا قال : كان رجل من قريش يسمى من دهائه ذا القلبين فأنزل الله هذا في شأنه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن { ادعوهم لآبائهم } الآية فقال رسول الله أنت زيد بن حارثة بن شراحيل وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ] وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه من حديث جابر نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال [ غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم تغير وقال : يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قلت بلى يا رسول الله قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ] وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ] وأخرج ابن سعد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة أن امرأة قالت لها : يا أمه فقالت : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم وأخرج ابن سعد عن أم سلمة قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي في دلائله عن بجالة : قال مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم فقال يا غلام حكها فقال : هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله فقال : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق وأخرج الفريابي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يقرأ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم (4/372)
قوله : 7 - { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } العامل في الظرف محذوف : أي واذكر كأنه قال : يا أيها النبي اتق الله واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين قال قتادة : أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصا أن يصدق بعضهم بعضا ويتبع بعضهم بعضا وقال مقاتل : أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله وأن يصدق بعضهم بعضا وأن ينصحوا لقومهم والميثاق هو اليميمن وقيل هو الإقرار بالله والأول أولى وقد سبق تحقيقه ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم فقال : { ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة ومن أولي العزم من الرسل وتقديم ذكر نبينا صلى الله عليه و سلم مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى قال الزجاج : وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذر ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ فقال : { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } أي عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا وما أخذه الله عليهم ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين فأخذ عليهم في المرة الأولى مجر الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد ثم أخذه عليهم ثانيا مغلظا مشددا ومثل هذه الآية قوله : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } (4/375)
واللام في قوله : 8 - { ليسأل الصادقين عن صدقهم } يجوز أن تكون لام كي : أي لكي يسأل الصادقين من النبيين عن صدقهم في تبليغ الرسالة إلى قومهم وفي هذا وعيد لغيرهم لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم وقيل ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم كما في قوله : { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } ويجوز أن تتعلق بمحذوف : أي فعل ذلك ليسأل { وأعد للكافرين عذابا أليما } معطوف على ما دل عليه { ليسأل الصادقين } إذ التقدير : أثاب الصادقين وأعد للكافرين ويجوز أن يكون معطوفا على أخذنا لأن المعنى : أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين وأعد للكافرين وقيل إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول ومن الأول ما أثبت مقابله في الثاني والتقدير : ليسال الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم وأعد لهم عذابا أليما وقيل إنه معطوف على المقدر عاملا في ليسأل كما ذكرنا ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله : { ليسأل الصادقين عن صدقهم } وتكون جملة { وأعد لهم } مستأنفة لبيان ما أعده للكفار (4/375)
9 - { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } هذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معها خوف من أحد وقوله عليكم متعلق بالنعمة إن كانت مصدرا أو بمحذوف هو حال : أي كائنة عليكم ومعنى { إذ جاءتكم جنود } حين جاءتكم جنود وهو ظرف للنعمة أو للمقدر عاملا في عليكم أو لمحذوف هو اذكر والمراد بالجنود : جنود الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وغزوه إلى المدينة وهي الغزوة المسماة غزوة الخندق وهم : أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف وعيينة بن حصن الفزاري ومن معه من قومه غطفان وبنو قريظة والنضير فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات وكانت هذه الغزوة في شوال سنة خمس من الهجرة قاله ابن إسحاق وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك : كانت في سنة أربع وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها { فأرسلنا عليهم ريحا } معطوف على جاءتكم قال مجاهد : هي الصبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم ويدل على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم من قوله نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والمراد بقوله : { وجنودا لم تروها } الملائكة قال المفسرونك بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وجالت الخيل بعضها في بعض وأرسل الله عليهم الرعب وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه : يا بني فلان هلم إلي فإذا اجتمعوا قال لهم : النجاء النجاء { وكان الله بما تعملون بصيرا } قرأ الجمهور { تعملون } بالفوقية : أي بما تعملون أيها المسلمون من ترتيب الحرب وحفر الخندق واستنصاركم به وتوكلكم عليه وقرأ أبو عمرو بالتحتية : أي بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة (4/376)
10 - { إذ جاءوكم من فوقكم } إذ هذه وما بعدها بدل من إذ الأولى والعامل في هذه هو العامل في تلك وقيل منصوبة بمحذوف هو اذكر ومعنى { من فوقكم } من أعلى الوادي وهو من جهة المشرق والذين جاءوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصين وهوازن وسيدهم عوف بن مالك وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي وانضم إليهم عوف بن مالك وبنوا النضير ومعنى { ومن أسفل منكم } من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة وهم قريش ومن معهم من الأحابيش وسيدهم أبو سفيان بن حرب وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق ومعهم عامر بن الطفيل وجملة { وإذ زاغت الأبصار } معطوفة على ما قبلها : أي مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب وقيل شخصت دهشا من فرط الهول والحيرة { وبلغت القلوب الحناجر } جمع حنجرة وهي جوف الحلقوم : أي ارتفعت القلوب عن مكانها ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها وهو الذي نهايته الحنجرة لخرجت كذا قال قتادة وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كل العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها ولكنه مثل في إضطرابها وجنبها قال الفراء : والمعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره { وتظنون بالله الظنونا } أي الظنون المختلفةن فبعضهم ظن النصر ورجا الظفر وبعضهم ظن خلاف ذلك وقال الحسن : ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه وظن المؤمنون أنه ينصر وقيل الآية خطاب للمنافقين والأولى ما قاله الحسن فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الإطلاق أعم من أن يكون مؤمنا في الواقع أو منافقا
واختلف القراء في هذه الألف في { الظنونا } : فأثبتها وصلا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي وتمسكوا بخطف المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان فإن الألف فيها كلها ثابتة واختار هذه القراءة أبو عبيدة إلا أنه قال : لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن بل يقف عليهن وتمسكوا أيضا بما في أشعار العرب من مثل هذا وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معا وقالوا : هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره وقرأ ابن كثير والنسائي وابن محيصن بإثباتها وقفا وحذفها وصلا وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق والكلام فيها معروف في علم النحو وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله { الرسولا } و { السبيلا } كما سيأتي آخر هذه السورة (4/376)
11 - { هنالك ابتلي المؤمنون } الظرف منتصب بالفعل الذي بعده وقيل بتظنون واستضعفه ابن عطية وهو ظرف مكان يقال للمكان البعيد هنالك كما يقال للمكان القريب هنا وللمتوسط هناك وقد يكون ظرف زمان : أي عند ذلك الوقت ابتلى المؤمنون ومنه قول الشاعر :
( وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت ... فهناك يعترفون أين المفزع )
أي في ذلك الوقت والمعنى : أن في ذلك المكان أو الزمان اختبر المؤمنون بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال ليتبين المؤمن من المنافق { وزلزلوا زلزالا شديدا } قرأ الجمهور { زلزلوا } بضم الزاي الأولى وكسر الثانية على ما هو الأصل في المبني للمفعول وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى وروى الزمخشري عنه أنه قرأ بإشمامها كسرا وقرأ الجمهور { زلزالا } بكسر الزاي الأولى وقرأ عاصم والجحدري وعيسى بن عمر بفتحها قال الزجاج : كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح : نحو قلقلته قلقالا وزلزلوا زلزالا والكسر أجود قال ابن سلام : معنى زلزلوا : حركوا بالخوف تحريكا شديدا وقال الضحاك : هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق وقيل المعنى أنهم اضطربوا اضطرابا مختلفا فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه (4/377)
12 - { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } معطوف على إذ زاغت الأبصار والمرض في القلوب هو الشك والريبة والمراد بالمنافقون : عبد الله بن أبي وأصحابه وبالذين في قلوبهم مرض : أهل الشك والاضطراب { ما وعدنا الله ورسوله } من النصر والظفر { إلا غرورا } أي باطلا من القول وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلا من أهل النفاق والشك وهذا القول المحكي عن هؤلاء هو كالتفسير للظنون المذكورة : أي كان ظن هؤلاء هذا الظن كما ظن المؤمنين النصر وإعلاء كلمة الله (4/378)
13 - { وإذ قالت طائفة منهم } أي من المنافقين قال مقاتل : هم بنو سالم من المنافقين وقال السدي : هم عبد الله بن أبي وأصحابه وقيل : هم أوس بن قبطي وأصحابه والطائفة تقع على الواحد فما فوقه والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله : { يا أهل يثرب لا مقام لكم } أي لا موضع إقامة لكم أو لا إقامة لكم ها هنا في العسكر قال أبو عبيد : يثرب اسم الأرض ومدينة النبي صلى الله عليه و سلم في ناحية منها قال السهيلي : وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العمالقة اسمه يثرب بن عميل قرأ الجمهور { لا مقام لكم } بفتح الميم وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة بضمها على أنه مصدر من أقام يقيم وعلى القراءة الأولى هو اسم مكان { فارجعوا } أي إلى منازلكم أمروهم بالهرب من عسكر النبي صلى الله عليه و سلم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع والخندق بينهم وبين القوم فقال هؤلاء الممنافقون : ليس ها هنا موضع إقامة وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة { ويستأذن فريق منهم النبي } معطوف على قالت طائفة منهم : أي يستأذنون في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة وبنو سلمة وجملة { يقولون } بدل من قوله يستأذن أو حال أو استئناف جوابا لسؤال مقدر والقول الذي قالوه وهو قولهم : { إن بيوتنا عورة } أي ضائعة سائبة ليست بحصينة ولا ممتنعة من العدو قال الزجاج : يقال عور المكان يعور عورا وعورة وبيوت عورة وعورة وهي مصدر قال مجاهد ومقاتل والحسن : قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق وقال قتادة : قالوا بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلنا قال الهروي : كل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة والعورة في الأصل : الخلل فأطلقت على المختل والمراد : ذات عورة وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي عروة بكسر الواو أي قصر الجدران قال الجوهري : العورة كل حال يتخوف منه في ثغر أو حرب قال النحاس يقال أعور المكان : إذا تبينت فيه عورة وأعور الفارس : إذا تبين منه موضع الخلل ثم رد سبحانه عليهم بقوله : { وما هي بعورة } فكذبهم الله سبحانه فيما ذكروه والجملة في محل نصب على الحال ثم بين سبب استئذانهم وما يريدونه به فقال : { إن يريدون إلا فرارا } أي ما يريدون إلا الهرب من القتال وقيل المراد : ما يريدون إلا الفرار من الدين (4/379)
14 - { ولو دخلت عليهم من أقطارها } يعني بيوتهم أو المدينة والأقطار : النواحي جمع قطر وهو الجانب والناحية والمعنى : لو دخلت عليهم بيوتهم أو المدينة من جوانبها جميعا لا من بعضها نزلت بهم هذه النازلة الشديدة واستبيحت ديارهم وهتكت حرمهم ومنازلهم { ثم سئلوا الفتنة } من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم { لأتوها } أي لجاءوها أو أعطوها ومعنى الفتنة هنا : إما القتال في العصبية كما قال الضحاك أو الشرك بالله والرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون خلافه كما قال الحسن قرأ الجمهور { لأتوها } بالمد : أي لأعطوها من أنفسهم وقرأ نافع وابن كثير بالقصر : أي لجاءوها { وما تلبثوا بها إلا يسيرا } أي بالمدينة بعد أن أتوى الفتنة إلا تلبثا يسيرا حتى يهلكوا كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي وقال أكثر المفسيرين : إن المعنى : وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا بل هم مسرعون إليها راغبون فيها لا يقفون عنها إلا مجرد وقوع السؤال لهم ولا يتعللن عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة كما تعللوا عن أجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة ولم تكن إذ ذاك عورة (4/379)
ثم حكى سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل من المعاهدة لله ولرسوله بالثبات في الحرب وعدم الفرار عنه فقال : 15 - { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار } أي من قبل غزوة الخندق ومن بعد بدر قال قتادة : وذكل أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن وهم بنو حارثة وبنو سلمة { وكان عهد الله مسؤولا } أي مسؤولا عنه ومطلوبا صاحبه بالوفاء به ومجازى على ترك الوفاء به (4/380)
16 - { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } فإن من حضر أجله مات أو قتل فر أو لم يفر { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا بعد فرارهم إلى أن تنقضي آجالهم وكل ما هو آت فهو قريب قرأ الجمهور { تمتعون } بالفوقية وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه بالتحتية وفي بعض الروايات لا تمتعوا بحذف النون إعمالا لإذن وعلى قراءة الجمهور هي ملغاة (4/380)
17 - { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء } أي هلاكا أو نقصا في الأموال وجدبا ومرضا { أو أراد بكم رحمة } يرحمكم بها من خصب ونصر وعافية { ولا يجدون لهم من دون الله وليا } يواليهم ويدفع عنهم { ولا نصيرا } ينصرهم من عذاب الله
وقد أخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني أن أعرابيا قال : يا رسول الله أي شيء كان أول نبوتك ؟ قال : أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم ثم تلا { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } ودعوة إبراهيم قال : { وابعث فيهم رسولا منهم } وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أم رسول الله صلى الله عليه و سلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال [ قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد ] وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عنه قال [ قيل يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد ] وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها وأخرج الحسن بن سفيان وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والديلمي وابن عساكر من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } الآية قال : [ كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ] قبدأ به قبلهم وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : { ميثاقهم } عهدهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } قال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر من طرق عن حذيفة قال : [ لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه و سلم و { يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة } فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحن ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا رجلا حتى مر علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي فأتاني وأنا جث على ركبتي فقال : من هذا ؟ فقلت : حذيفة قال حذيفة فتقاصرت إلى الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم قال : قم فقمت فقال : إنه كان في القوم خبر فأتني بخبر القوم قال : وأنا من أشد القوم فزعا وأشدهم قرا فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته قال : فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي فما أجد منه شيئا فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسخ خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل ثم دخلت العسكر فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون : يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز شبرا فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه و سلم فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا معتمين فقالوا : أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته وهو مشتمل في شملة يصلي وكان إذا حزبه أمر صلى فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يترحلون وأنز الله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } الآية ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { إذ جاءتكم جنود } قال : كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : لما كان ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب فقالت : انطلقي فانصري الله ورسوله فقالت الجنوب : إن الحرة لا تسري بالليل فغضب الله عليها وجعلها عقيما فأرسل عليهم الصبا فأطفأت نيرانهم وقطعت أطنابهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ] فذلك قوله : { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ] وأخرج البخاري وغيره عن عائشة في قوله : { إذ جاءوكم من فوقكم } الآية قالت : كان ذلك يوم الخندق وفي الباب أحاديث في وصف هذه الغزوة وما وقع فيها وقد اشتملت عليها كتب الغزوات والسير واخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي البأس كما ينفي الكير خبث الحديد ] وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة هي طابة ] ولفظ أحمد [ إنما هي طابة ] وإسناده ضعيف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { ويستأذن فريق منهم النبي } قال : هم بنو حارثة قالوا : { بيوتنا عورة } أي مختلة نخشى عليها السرق وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها } قال : لأعطوها : يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على المدينة (4/380)
قوله : 18 - { قد يعلم الله المعوقين منكم } يقال عاقه واعتاقه وعوقه : إذا صرفه عن الوجه الذي يريده قال الواحدي قال المفسرون : هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه و سلم وذلك أنهم قالوا لهم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتقمهم أبو سفيان وحزبه فخلوهم وتعالوا إلينا وقيل إن القائل هذه المقالة اليهود قالوا { لإخوانهم } من المنافقين { هلم إلينا } ومعنى هلم أقبل واحضر وأهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث وغيرهم من العرب يقولون : هلم للواحد المذكر وهلمي للمؤنث وهلما للاثنين وهلموا للجماعة وقد مر الكلام على هذا في سورة الأنعام { ولا يأتون البأس } أي الحرب { إلا قليلا } خوفا من الموت وقيل المعنى : لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير احتساب (4/383)
19 - { أشحة عليكم } أي بخلاء عليكم لا يعاونوكم بحفر الخندق ولا بالنفقة في سبيل الله قاله مجاهد وقتادة وقيل أشحة بالقتال معكم وقيل بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم وقيل أشحة بالغنائم إذا أصابوها قاله السدي وانتصابه على الحال من فاعل يأتون أو من المعوقين وقال الفراء : يجوز في نصبه أربعة أوجه : منها النصب على الذم ومنها بتقدير فعل محذوف : أي يأتونه أشحة قال النحاس : ولا يجوز أن يكون العامل فيه للمعوقين ولا القائلين لئلا يفرق بين الصلة والموصول { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم } أي تدور يمينا وشمالا وذكل سبيل الجبان إذا شاهد ما يخافه { كالذي يغشى عليه من الموت } أي كعين الذي يغشى عليه من الموت وهو الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه فيذهل ويذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف ويقال للميت إذا شخص بصره : دارت عيناه ودارت حماليق عينيه والكاف نعت مصدر محذوف { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } يقال سلق فلان فلانا بلسانه : إذا أغلظ له في القول مجاهرا قال الفراء : أي آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة ويقال : خطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا ومنه قول الأعشى :
( فيهم المجد والسماحة والنجـ ... دة فيهم والخاطب المسلاق )
قال القتيبي : المعنى آذوكم بالكلام الشديد والسلق الأذى ومنه قول الشاعر :
( لقد سلقت هوازنا ... بنو أهل حتى انحنينا )
قال قتادة : معنى الآية : بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون : أعطنا فإنه قد شهدنا معكم فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانا ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم قال النحاس : وهذا قول حسن وانتصاب { أشحة على الخير } على الحالية من فاعل سلقوكم ويجوز أن يكون نصبه على الذم وقرأ ابن أبي عبلة برفع أشحة والمراد هنا أنهم أشحة على الغنيمة يشاحون المسلمين عند القسمة قاله يحيى بن سلام وقيل على المال أن ينفقوه في سبيل الله قاله السدي ويمكن أن يقال معناه : أنهم قليلو الخير من غير تقييد بنوع من أنواعه والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصوفين بتلك الصفات { لم يؤمنوا } إيمانا خالصا بل هم منافقون : يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر { فأحبط الله أعمالهم } أي أبطلها بمعنى أظهر بطلانها لأنها لم تكن لهم أعمال تقتضي الثوبا حتى يبطلها الله قال مقاتل : أبطل جهادهم لأنه لم يكن في إيمان { وكان ذلك على الله يسيرا } أي وكان ذلك الإحباط لأعمالهم أو كان نفاقهم على الله هينا (4/383)
20 - { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب باقون في معسكرهم لم يذهبوا إلى ديارهم وذلك لما نزل بهم من الفشر والروع { وإن يأت الأحزاب } مرة أخرى بعد هذه المرة { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } أي يتمنون أنهم في بادية الأعراب لما حل بهم من الرهبة والبادي خلاف الحاضر يقال : بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية { يسألون عن أنبائكم } أي عن أخباركم وما جرى لكم كل قادم عليهم من جهتكم أو يسأل بعضهم بعضا عن الأخبار التي بلغته من أخبار الأحزاب ورسول الله صلى الله عليه و سلم والمعنى : أنهم يتمنون أنهم بعيد عنكم يسألون عن أخباركم من غير مشاهدة للقتال لفرط جبنهم وضعف نياتهم { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا } أي لو كانوا معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال لفرط جبنهم وضعف نياتهم { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا } أي لو كانوا معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال ما قاتلوا معكم إلا قتالا قليلا خوفا من العار وحمية على الديار (4/384)
21 - { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } أي قدوة صالحة يقال لي في فلان أسوة : أي لي به والأسوة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء : اسم يوضع موضع المصدر قال الجوهري : والأسوة والإسوة بالضم والكسر والجمع أسى وإسى قرأ الجمهور أسوة بالضم للهمزة وقرأ عاصم بكسرها وهما لغتان كما قال الفراء وغيره
وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة وهذه الآية وإن كان سببها خاصة فهي عامة في كل شيء ومثلها { ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقوله : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } واللام في { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } متعلق بحسنة أو بمحذوف هو صفة لحسنة : أي كائنة لمن يرجوالله وقيل إن الجملة بدل من الكاف في لكم ورده أبو حيان وقال : إنه لا يبدل من ضمير المخاطب بإعادة الجار ويجاب عنه بأنه قد أجاز ذلك الكوفيون والأخفش وإنه منعه البصريون والمراد بمن كان يرجو الله : المؤمنون فإنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه ومعنى يرجون الله : يرجون ثوابه أو لقاءه ومعنى يرجون اليوم الآخر : أنهم يرجون رحمة الله فيه أو يصدقون بحصوله وأنه كائن لا محالة وهذه الجملة تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى { وذكر الله كثيرا } معطوف على كان : أي ولمن ذرك الله في جميع أحواله ذكرا كثيرا وجمع بين الرجاء لله والذكر له فإن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه و سلم (4/384)
ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر العباب فقال : 22 - { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } الأشارة بقوله هذا إلى ما رأوه من الجيوش أو إلى الخطب الذي نزل والبلاء الذي دهم وهذا القول منهم قالوه استبشارا بحصول ما وعدهم الله ورسوله من مجيء هذه الجنود وإنه يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله و ما في ما وعدنا الله هي الموصولة أو المصدرية ثم أردفوا ما قالوه بقولهم : { وصدق الله ورسوله } أي ظهر صدق خبر الله ورسوله { وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } أي ما زادهم ما رأوه إلا إيمانا بالله وتسليما لأمره قال الفراء : ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانا وتسليما قال علي بن سليمان : رأى يدل على الرؤية وت
أنيث الرؤية غير حقيقي والمعنى : ما زادهم الرؤية إلا إيمانا للرب وتسليما للقضاء ولو قال ما زادتهم لجاز (4/386)
23 - { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أي من المؤمنين المخلصين رجال صدقوا أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق ومحل ما عاهدوا الله عليه النصب بنزع الخافض والمعنى : أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة من الثبات معه والمقاتلة لمن قاتله بخلاف من كذب في عهده وخان الله ورسوله وهم المنافقون وقيل هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثبتوا له ولم يفروا ووجه إظهار الاسم الشريف والرسول في قوله : { صدق الله ورسوله } بعد قوله : { ما وعدنا الله ورسوله } هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر :
( أرى الموت لا يسبق الموت شيء )
وأيضا لو أضمرهما لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظ واحد وقال صدقا وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث بئس خطيب القوم أنت لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله وقسمهم إلى قسمين فقال : { فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر } النحب : ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به ومنه قول الشاعر :
( عشية فر الحارثيون بعدما ... قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر )
وقال الآخر :
( بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ... عشية بسطام جرين على نحب )
أي على أمر عظيم والنحب يطلق على النذر والقتل والموت قال ابن قتيبة : قضى نحبه : أي قتل وأصل النحب النذر كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله لهم فقتلوا فقيل فلان قضى نحبه : أي قتل والنحب أيضا الحاجة وإدراك الأمنية يقول قائلهم : مالي عندهم نحب والنحب العهد ومنه قول الشاعر :
( لقد نحبت كلب على الناس أنهم ... أحق بتاج الماجد المتكرم )
وقال آخر :
( قد نحب المجد علينا نحبا )
ومن ورود النحب في الحاجة وإدراك الأمنية قول الشاعر :
( أنحب فيقضى أم ضلال وباطل )
ومعنى الآية : أن من المؤمنين رجالا أدركوا أمنيتهم وقضوا حاجتهم ووفوا بنذرهم فقاتلوا حتى قتلوا وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر { ومنهم من ينتظر } قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم فإنه مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه و سلم والقتال لعدوه ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل وإدراك فضل الشهادة وجملة { وما بدلوا تبديلا } معطوفة على صدقوا : أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله عليه كما غير المنافقون عهدهم بل ثبتوا عليه ثبوتا مستمران أما الذي قضوا نحبهم فظاهر وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدلوا (4/386)
واللام في قوله : 24 - { ليجزي الله الصادقين بصدقهم } يجوز أن يتعلق بصدقوا أو بزادهم أو بما بدلوا أو بمحذوف كأنه قيل : وقع جميع ما وقع ليجزي الله الصادقين بصدقهم { ويعذب المنافقين إن شاء } بما صدر عنهم من التغيير والتبديل جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بسبب تبديلهم وتغييرهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبها والسعي لتحصيلها ومفعول إن شاء وجوابها محذوفان : أي إن شاء تعذيبهم عذبهم وذلك إذا أقاموا على النفاق ولم يتركوه ويتوبوا عنه { وكان الله غفورا رحيما } أي لمن تاب منهم وأقلع عما كان عليهم من النفاق (4/387)
ثم رجع سبحانه إلى حكاية بقية القصة وما امتن به على رسوله والمؤمنين من النعمة فقال : 25 - { ورد الله الذين كفروا } وهم الأحزاب والجملة معطوفة على { فأرسلنا عليهم ريحا } أو على المقدر عاملا في ليجزي الله الصادقين بصدقهم كأنه قيل : وقع ما وقع من الحواديث ورد الله الذين كفروا ومحل { بغيظهم } النصب على الحال والباء للمصاحبة : أي حال كونهم متلبسين بغيظهم ومصاحبين له ويجوز أن تكون للسببية وجملة { لم ينالوا خيرا } في محل نصب على الحال أيضا من الموصول أو من الحال الأولى على التعاقب أو التداخل والمعنى : أن الله ردهم بغيظهم لم يشف صدورهم ولا نالوا خيرا في اعتقادهم وهو الظفر بالمسلمين أو لم ينالوا خيرا أي خير بل رجعوا خاسرين لم يربحوا إلا عناء السفر وغرم النفقة { وكفى الله المؤمنين القتال } بما أرسله من الريح والجنود من الملائكة { وكان الله قويا عزيزا } على كل ما يريده إذا قال له كن كان عزيزا غالبا قاهرا لا يغالبه أحد من خلقه ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { سلقوكم } قال : استقبلوكم وأخرج ابن أبي حاتم عنه { وكان ذلك على الله يسيرا } قال : هينا وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر وابن النجار عن عمر في قوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } قال : في جوع رسول الله وقد استدل بهذه الآية جماعة من الصحابة في مسائل كثيرة اشتملت عليها كتب السنة وهي خارجة عما نحن بصدده وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } إلى آخر الآية قال : إن الله قال لهم في سورة البقرة { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء } فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } فتأول المسلمون ذلك فلم يزدهم { إلا إيمانا وتسليما } وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال : نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } وأخرج ابن سعد وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي والبغوي في معجمه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه و سلم غبت عنه لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بعد ليرين اله ما أصنع فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو وأين ؟ قال : واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية ونزلت هذه الآية { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه وقد روي عنه نحوه من طريق أخرى عند الترمذي وصححه والنسائي وغيرهما وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الآية ثم قال : أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ] وقد تعقب الحاكم في تصحيحه الذهبي كما ذكر ذلك السيوطي ولكنه قد أخرج الحاكم حديثا آخر وصححه وأخرجه أيضا البيهقي في الدلائل عن أبي ذر قال : [ لما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد مر على مصعب بن عمير مقتولا على طريقه فقرأ { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الآية ] وأخرج ابن مردويه من حديث خباب مثله وهما يشهدان لحديث أبي هريرة وأخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن طلحة [ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو ؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي فأعرض عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم أني اطلعت من باب المسجد فقال : أين السائل عمن قضى نحبه ؟ قال الأعرابي : أنا قال : هذا ممن قضى نحبه ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديثه نحوه وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن معاوية قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : طلحة ممن قضى نحبه ] وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى وأبو نعيم وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة ] وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن علي أن هذه الآية نزلت في طلحة وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { فمنهم من قضى نحبه } قال : الموت على ما عاهدوا الله عليه ومنهم من ينتظر الموت على ذلك وأخرج أحمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الأحزاب : الآن نغزوهم ولا يغزونا ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : { فمنهم من قضى نحبه } قال : مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان { ومنهم من ينتظر } ذلك { وما بدلوا تبديلا } لم يغيروا كما غير المنافقون (4/387)
قوله : 26 - { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } أي عاضدوهم وعازنوهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم بنو قريظة فإنهم عاونوا الأحزاب ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم وصاروا يدا واحدة مع الأحزاب والصياصي جمع صيصية : وهي الحصون وكل شيء ستحصن به يقال له صيصية ومنه صيصية الديك وهي الشوكة التي في رجله وصياصي البقر قرونها لأنها تمتنع بها ويقال لشوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة صيصية ومنه قول دريد بن الصمة :
( فجئت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج المدد )
ومن إطلاقها على الحصون قول الشاعر :
( فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت ... نساء تميم يبتدرن الصياصيا )
{ وقذف في قلوبهم الرعب } أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي وهي معنى قوله : { فريقا تقتلون وتأسرون فريقا } فالفريق الأول هم الرجال والفريق الثاني هم النساء والذرية وهذه الجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم قرأ الجمهور { تقتلون } بالفوقية على الخطاب وكذلك قرأوا { تأسرون } وقرأ ابن ذكوان في رواية عنه بالتحتية فيهما وقرأ اليماني بالفوقية في الأول والتحتية في الثاني وقرأ أبو حيوة تأسرون بضم السين وقد حكى الفراء حكسر السين وضمها فهما لغتان ووجه تقديم مفعول الفعل الأول وتأخير مفعول الفعل الثاني أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة وكان الوارد عليهم أشد الأمرين وهو القتل كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام
وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين فقيل كان المقتولون من ستمائة إلى سبعمائة وقيل ستمائة وقيل سبعمائة وقيل ثمانمائة وقيل تسعمائة وكان المأسرون سبعمائة وقيل سبعمائة وخمسين وقيل تسعمائة (4/390)
27 - { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } المراد بالأرض العقار والنخيل وبالديار المنازل والحصون وبالأموال الحلي والأثاث والمواشي والسلاح والدراهم والدنانير { وأرضا لم تطئوها } أي وأورثكم أرضا لم تطأوها وجملة لم تطأوها صفة لأرضا قرأ الجمهور لم تطأوها بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة وقرأ زيد بن علي تطوها بفتح الطاء وواو ساكنة
واختلف المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة فقال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل : إنها خيبر ولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها فعدهم الله بها وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة وقال الحسن : فارس والروم وقال عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة { وكان الله على كل شيء قديرا } أي هو سبحانه قدير على كل ما أراده من خير وشر ونعمة ونقمة وعلى إنجاز ما وعد به من الفتح للمسلمين
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { من صياصيهم } قال : حصونهم وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن مردويه عن عائشة قالت [ خرجت يوم الخندق أقفو للناس فإذا أنا بسعد بن معاذ ورماه رجل من قريش يقال له ابن الفرقدة بسهم فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله سعدا فقال : اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة فبعث الله الريح على المشركين { وكفى الله المؤمنين القتال } ولحق أبو سفيان ومن معه بتهامة ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم ورجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد قالت : فجاء جبريل وإن على ثناياه لوقع الغبار فقال : أوقد وضعت السلاح ؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح : اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم فلبس رسول الله صلى الله عليه و سلم لامته وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء عليهم قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سعد بن معاذ فأتي به على حمار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : احكم فيهم قال : فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم فقال : لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله ] (4/390)
قوله : 28 - { يا أيها النبي قل لأزواجك } قيل هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه و سلم وكان قد تأذى ببعض الزوجات قال الواحدي : قال المفسرون : إن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه الزيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فآلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهن شهرا وأنزل الله آية التخيير هذه وكن يومئذ تسعا : عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة هؤلاء من نساء قريش وصفية الخيبرية وميمونة الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية ومعنى { الحياة الدنيا وزينتها } سعتها ونضارتها ورفاهيتها والتنعم فيها { فتعالين } أي أقبلن إلي { أمتعكن } بالجزم جوابا للأمر : أي أعطن المتعة { و } كذا { أسرحكن } بالجزم : أي اطلقكن وبالجزم في الفعلين قرأ الجمهور وقرأ حميد الخراز بالرفع في الفعلين على الاستئناف والمراد بالسراح الجميل : هو الواقع من غير ضرار على مقتضى السنة وقيل إن جزم الفعلين على أنهما جواب الشرط وعلى هذا يقول قوله فتعالين اعتراضا بين الشرط والجزاء (4/392)
29 - { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة } أي الجنة ونعيمها { فإن الله أعد للمحسنات منكن } أي اللائي عملن عملا صالحا { أجرا عظيما } لا يمكن وصفه ولا يقادر قدره وذلك بسبب إحسانهن وبمقابلة صالح عملهن
وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه و سلم أزواجه على قولين : القول الأول أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجين أو الطلاق فاخترن البقاء وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة والقول الثاني أنه إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن وبين الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهن في الطلاق وبهذا قال علي والحسن وقتادة والراجح الأول واختلفوا أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يحسب مجرد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا ؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لايكون مع اختيار المرأة لزوجها طلاقا لا واحدة ولا أكثر وقال علي وزيد بن ثابت : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة وبه قال الحسن والليث : وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك والراجح الأول لحديث عائشة الثابت في الصحيحين قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخترناه فلم يعده طلاقاأأـ ولا وجه لجعل مجرد التخيير طلاقا ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة لمجرد التخيير بل أراد تفويض المرأة وجعل أمرها بيدها فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة
واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة فقال بالأول عمر وابن مسعود وابن عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وقال بالثاني علي وأبو حنيفة وأصحابه وروي عن مالك والراجح الأول لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه على خلاف ما أمره الله به وقد أمره بقوله : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات وليس لهذا القول وجه وقد روي عن علي أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء وإذا اختارت زوجها فواحدة رجعية (4/392)
ثم لما اختار نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم رسول الله أنزل فيهن هذه الآيات تكرمة لهن وتعظيما لحقهن فقال : 30 - { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة } أي ظاهرة القبح واضحة الفحش وقد عصمهن الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن { يضاعف لها العذاب ضعفين } أي يعذبهن مثلي عذاب غيرهن من النساء إذا أتين بمثل تلك الفاحشة وذلك لشرفهن وعلو درجتهن وارتفاع منزلتهن وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع أن تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات وقرأ أبو عمرو يضعف على البناء للمفعول وفرق هو وأبو عبيد بين يضاعف فقالا : يكون يضاعف ثلاثة عذابات ويضعف عذابين قال النحاس : هذه التفرقة التي جاء بها لا يعرفها أحد من أهل اللغة والمعنى في يضاعف ويضعف واحد : أي يجعل ضعفينن وهكذا ضعف ما قالاه ابن جرير { وكان ذلك على الله يسيرا } لا يتعاظمه ولا يصعب عليه (4/393)
31 - { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا } قرأ الجمهور { يقنت } بالتحتية وكذا قرأوا : يأت منكن حملا على لفظ من في الموضعين وقرأ الجحدري ويعقوب وابن عامر في رواية وأبو جعفر بالفوقية حملا على المعنى ومعنى من يقنت من يطع وكذا اختلف القراء في مبينة فمنهم من قرأها بالكسر ومنهم من قرأها بفتح الياء كما تقدم في النساء وقرأ ابن كثير وابن عامر { يضاعف } بالنون ونصب { العذاب } وقرئ { يضاعف } بكسر العين على البناء للفاعل { نؤتها أجرها مرتين } قرأ حمزة والكسائي بالتحتية وكذا قرأ يعمل بالتحتية وقرأ الباقون تعمل بالفوقية و نؤت بالنون ومعنى إتيانهن الأجر مرتين أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلا ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلن تلك الطاعة وفي هذا دليل قوي على أن معنى يضاعف لها العذاب ضعفين أنه يكون العذاب مرتين لا ثلاثا لأن المراد إظهار شرفهن مومزيتهن في الطاعة والمعصية بكون حسنتهن كحسنتين وسيئتهن كسيئتين ولو كانت سيئتهن كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن { وأعتدنا لها } زيادة على الأجر مرتين { رزقا كريما } قال المفسرون : الرزق الكريم هو نعيم الجنة حكى ذلك عنهم النحاس (4/393)
ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحا فقال : 32 - { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } قال الزجاج : لم يقل كواحدة من النسا لأن أحد نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة وقد يقال على ما ليس بآدمي كما يقال : ليس فيها أحد لا شاة ولا بعير والمعنى : لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال : { إن اتقيتن } فبين سبحانه أن هذه الفضيلة لهن إنما تكون بملازمتهن للتقوى لا لمجرد اتصالهن بالنبي صلى الله عليه و سلم وقد وقعت منهن ولله الحمد التقوى البينة والإيمان الخالص والمشي على طريقة رسول الله صلى الله عليه و سلم في حياته وبعد مماته وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه : أي إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء وقيل إن جوابه { فلا تخضعن } والأول أولى ومعنى { فلا تخضعن بالقول } لا تلن القول عند مخاطبة الناس كما تفعله المريبات من النساء فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة وهي قوله : { فيطمع الذي في قلبه مرض } أي فجور وشك ونفاق وانتصاب يطمع لكونه جواب النهي كذا قرأ الجمهور وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ فيطمع بفتح الياء وكسر الميم قال النحاس : أحسب هذا غلطا ورويت هذه القراءة عن أبي السمأل وعيسى بن عمر وابن محيصن وروي عنهم أنهم قرأو بالجزم عطفا على محل فعل النهي { وقلن قولا معروفا } عند الناس بعيدا من الريبة على سنن الشرع لا ينكر منه سامعه شيئا ولا يطمع فيهن أهل الفسق والفجور بسببه (4/394)
33 - { وقرن في بيوتكن } قرأ الجمهور { وقرن } بكسر القاف من وقر يقر وقارا : أي سكن والأمر منه قر بكسر القاف وللنساء قرن مثل عدن وزن وقال المبرد : هو من القرار لا من الوقار تقول قررت بالمكان بفتح الراء والأصل اقررن بكسر الراء فحذفت الراء الأولى تخفيفا كما قالوا في ظللت ظلت ونقولا حركتها إلى القاف واستغني عن ألف الوصل بتحريك القال وقال أبو علي الفارسي : أبدلت منه والتقدير اقيرن ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحريك الياء بالكسر فتسقط الياء لاجتماع الساكنين وتسقط همزة الوصل لتحريك ما بعدها فيصير قرن وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف وأصله قررت بالمكان : إذا أقمت فيه بكسر الراء أقر بفتح القاف كحمد يحمد وهي لغة أهل الحجاز ذكر ذلك أبو عبيد عن الكسائي وذكرها الزجاج وغيره قال الفراء : هو كما تقول هل حست صاحبك : أي هل أحسسته ؟ قال أبو عبيد : كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح للقاف وذلك لأن قررت بالمكان أقر لا يجوزه كثير من أهل العربية والصحيح قررت أقر بالكسر ومعناه : الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن وهذا يخالف ما ذكرناه هنا عنه عن الكسائي وهو من أجل مشايخه وقد وافقه على الإنكار لهذه القراءة أبو حاتم فقال : إن قرن بفتح القاف لا مذهب له في كلام العرب قال النحاس : قد خولف أبو حاتم في قوله إنه مذهب له في كلام العرب بل فيه مذهبان : أحدهما حكاه الكسائي والآخر عن علي بن سليمان فأما المذهب الذي حكاه الكسائي فهو ما قدمناه من رواية أبي عبيد عنه وأما المذهب الذي حكاه علي بن سليمان ن فقال : إنه من قررت به عينا أقر والمعنى : واقررن به عينا في بيوتكن قال النحاس : وهو وجه حسن
وأقول : ليس بحسن ولا هو معنى الآية فإن المراد بها أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن وليس من قرة العين وقرأ ابن أبي عبلة واقررن بألف وصل وراءين والأولى مكسورة على الأصل { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } التبرج : أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل وقد تقدم معنى التبرج في سورة النور قال المبرد : هو مأخوذ من السعة يقال في أسنانه برج : إذا كانت متفرقة وقيل التبرج هو التبختر في المشي وهذا ضعيف جدا
وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى فقيل ما بين آدم ونوح وقيل ما بين نوح وإدريس وقيل ما بين نوح وإبراهيمن وقيل ما بين موسى وعيسى وقيل ما بين عيسى ومحمد وقال المبرد : الجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء قال : وكان نساء الجاهلية تظهر ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل وربما سأل أحدهما صاحبه البدل قال ابن عطية : والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى كذا قال وهو قول حسن ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل فيكون المعنى : ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجا مثل تبرج الجاهلية التي كنتن عليها وكان عليها من قبلكن : أي لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } خص الصلاة والزكاة لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية ثم عمم فأمرهن بالطاعة لله ولرسوله في كل ما هو شرع { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } أي إنما أوصاكن الله بما أوصاكن من التقوى وأن لا تخضعن بالقول ومن قول المعروف والسكون في البيوت وعدم التبرج وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة ليذهب عنكم الرجس أهل البيت والمراد بالرجس الإثم والذنب المدنسان للأعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به وفعل ما نهى عنه فيدخل تحت ذلك كل ما ليس فيه لله رضا وانتصاب أهل البيت على المدح كما قال الزجاج قال : وإن شئت على البدل قال : ويجوز الرفع والخفض قال النحاس : إن خفض فعلى أنه بدل من الكاف والميم واعترضه المبرد بأنه لا يجوز البدل من المخاطب ويجوز أن يكون نصبه على النداء { ويطهركم تطهيرا } أي يطهركم من الأرجاس والأدران تطهيرا كاملا وفي استعارة الرجس للمعصية والترشيح لها بالتطهير تنفير عنها بليغ وزجر لفاعلها شديد
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير : إن أهل البيت المذكورين في الآية هن زوجات النبي صلى الله عليه و سلم خاصة (4/395)
قالوا : والمراد بالبيت بيت النبي صلى الله عليه و سلم ومساكن زوجاته لقوله : 34 - { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } وأيضا السياق في الزوجات من قوله : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا } وقال أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة وروي عن الكلبي أن أهل البيت المذكورين في الآية هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث وهو قوله : عنكم وليطهركم ولو كان للنساء خاصة لقال عنكن ويطهركن وأجاب الأولون عن هذا أن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه : { أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } وكما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك ؟ يريد زوجته أو زوجاته فيقول : هم بخير
ولنذكر ههنا ما تمسك به كل فريق : أما الأولون فتمسكوا بالسياق فإنه في الزوجات كما ذكرنا وبما أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } قال : نزلت في نساء النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وقال عكرمة : من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج نحوه ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة نحوه وأخرج ابن سعد عن عروة نحوه
وأما ما تمسك به الآخرون فأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق [ عن ام سلمة قالت : في بيتي نزلت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بكساء كان عليه ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه [ عن أم سلمة أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في بيتها على منامه له عليه كساء خيبري فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ادعي زوجك وابنيك حسنا وحسينا فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي صلى الله عليه و سلم : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } فأخذ النبي صلى الله عليه و سلم بفضلة كسائه فغشاهم إياها ثم أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قالها ثلاث مرات قالت أم سلمة : فأدخلت رأسي في الستر فقلت : يا رسول الله وأنا معكم ؟ فقال : إنك إلى خير مرتين ] وأخرجه أيضا أحمد من حديثها قال : حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رياح حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره وفي إسناده مجهول وهو شيخ عطاء وبقية رجاله ثقات وقد أخرجه الطبراني عنها من طريقين بنحوه وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لحديث أم سلمة طرقا كثيرة في مسند أحمد وغيره وأخرج ابن مردويه والخطيب من حديث أبي سعيد الخدري نحوه وأخرج الترمذي وابن مردويه والطبراني وابن مردويه عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } وذكر نحو حديث أم سلمة وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت : خرج النبي صلى الله عليه و سلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاءه الحسن والحسين فأدخلهما معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ثم جاء علي فأدخله معه ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن واثلة بن الأسقع قال [ جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى فاطمة ومعه علي وحسن وحسين حتى دخل فأدنى عليا وفاطمة وأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ثم تلا هذه الآية { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قلت : يا رسول الله وأنا من أهلك ؟ قال : وأنت من أهلي ] قال واثلة : إنه لأرجى ما أرجوه وله من طرق في مسند أحمد وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت الصلاة { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } ] وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أذكركم الله في أهل بيتي فقيل لزيد : ومن أهل بيته ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده : آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس ] وأخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله : { وأصحاب اليمين } { وأصحاب الشمال } فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلاثا فذلك قوله : { فأصحاب الميمنة } { وأصحاب المشأمة } { والسابقون السابقون } فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله : { وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب ] وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله قال : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال : الصلاة الصلاة { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } ] وفي إسناده أبو داود الأعمى وهو وضاع كذاب وفي الباب أحاديث وآثار وقد ذكرنا ههنا ما يصلح للتمسك به دون ما يصلح
وقد توسط طائفة ثالثة بين الطائفتين فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين أما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا ولكونهن الساكنات في بيوته صلى الله عليه و سلم النازلات في منازله ويعضد ذلك ما تقدم عن ابن عباس وغيره وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب ويؤيد ذلك ما ذكرناه من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريأيت قين فقد أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله وقد رجح هذا القول جماعة من المحققين منهم القرطبي وابن كثير وغيرهما وقال جماعة : هم بنو هاشم واستدلوا بما تقدم من حديث ابن عباس وبقول زيد بن أرقم المتقدم حيث قال : ولكن آله من حرم الصدقة بعده : آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس فهؤلاء ذهبوا إلى أن المراد بالبيت بيت النسب قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } أي اذكرن موضع النعمة إذ صيركن الله في بيوت يتلى فيها آيات الله والحكمة اذكرنها وتفكرن فيها لتتعظن بمواعظ الله أو اذكرنها للناس ليتعظوا بها ويهتدوا بهداها أو اذكرنها بالتلاوة لها لتحفظنها ولا تتركن الاستكثار من التلاوة قال القرطبي : قال أهل التأويل وآيات الله هي القرآن والحكمة السنة وقال مقاتل المراد بالآيات والحكمة أمره ونهيه في القرآن وقيل إن القرآن جامع بين كونه آيات بينات دالة على التوحيد وصدق النبوة وبين كونه حكمة مشتملة على فنون من العلوم والشرائع { إن الله كان لطيفا خبيرا } أي لطيفا بأوليائه خبيرا بجميع خلقه وجميع ما يصدر منهم من خير وشر وطاعة ومعصية فهو يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
وقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس ببابه جلوس والنبي صلى الله عليه و سلم جالس فلم يؤذن له ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه و سلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر : لأكملن النبي صلى الله عليه و سلم لعله يضحك فقال عمر : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألت النفقة آنفا فوجأت في عنقها فضحك النبي صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه وقال : هن حولي يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ليس عنده فنهاهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلن نساؤه : والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده وأنزل الله الخيار فنادى بعائشة فقال : إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت : ما هو ؟ فتلا عليها { يا أيها النبي قل لأزواجك } الآية قالت عائشة : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله رسوله وأسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت فقال : إن الله [ لم ] يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما [ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت : فبدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه فقال : إن الله قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا } إلى تمام الآية فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة وفعل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مثل ما فعلت ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا } قال يقول : من يطع الله منكن وتعمل منكن لله ورسوله بطاعته وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { فلا تخضعن بالقول } قال : يقول لا ترخصن بالقول ولا تخضعن بالكلام وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : { فلا تخضعن بالقول } قال : مقارنة الرجال في القول حتى يطمع الذي في قلبه مرض وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال : نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه و سلم : مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ؟ فقالت : قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت قال : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت بجنازتها وأخرج ابن أبي شيبة وابن سعد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن مسروق قال : كانت عائشة إذا قرأت { وقرن في بيوتكن } بكت حتى تبل خمارها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب قال : كانت الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب سأله فقال : أرأيت قول الله لأزواج النبي صلى الله عليه و سلم { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } هل كانت جاهلية غير واحدة فقال ابن عباس : ما سمعت بأولى إلا ولها آخرة فقال له عمر : فأتني من كتاب الله ما يصدق ذلك فقال : إن الله يقول : وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم أول مرة فقال عمر : من أمرنا أن نجاهد ؟ قال : مخزوم وعبد شمس وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد وقد قدمنا ذكر الآثار الواردة في سبب نزول قوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } قال : القرآن والسنة يمتن بذلك عليهن وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة عن سهل في قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } الآية قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي في بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار (4/396)
قوله : 35 - { إن المسلمين } بدأ سبحانه بذكر الإسلام الذثي هو مجرد الدخول في الدين والانقياد له مع العمل كما ثبت في الحديث الصحيح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سأله جبريل عن الإسلام قال : هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان ] ثم عطف على المسلمين { المسلمات } تشريفا لهن بالذكر وهكذا فيما بعد وإن كن داخلات في لفظ المسلمين والمؤمنين ونحو ذلك والتذكير إنما هو لتغليب الذكور على الإناث كما في جميع ما ورد في الكتاب العزيز من ذلك ثم ذكر { المؤمنين والمؤمنات } وهم من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والقانت العابد المطيع وكذا القانتة وقيل المداومين على العبادة والطاعة والصادق والصادقة هما من يتكلم بالصدق ويتجنب الكذب ويفي بما عوهد عليه والصابر والصابرة هما من يصبر عن الشهوات وعلى مشاق التكليف والخاشع والخاشعة هما المتواضعان لله الخائفان منه الخاضعان في عبادتهم لله والمتصدق والمتصدقة هما من تصدق من ماله بما أوجبه الله عليه وقيل ذلك أعم من صدقة الفرض والنفل وكذلك الصائم والصائمة قيل ذلك مختص بالفرض وقيل هو أعم والحافظ والحافظة لفرجيهما عن الحرام بالتعفف والتنزه والاقتصار على الحلال والذاكر والذاكرة هما من يذكر الله على أحواله وفي ذكر الكثرة دليل على مشروعية الاستكثار من ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان واكتفى في الحافظات بما تقدم في الحافظين من ذكر الفروج والتقدير : والحافظين فروجهم والحافظات فروجهن وكذا في الذاكرات والتقدير : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الله كثيرا والخبر لجميع ما تقدم هو قوله : { أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما } أي مغفرة لذنوبهم التي أذنبوها وأجرا عظيما على طاعاتهم التي فعلوها من الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصوم والعفاف والذكر ووصف الأجر بالعظم للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ ولا شيء أعظم من أجر هو الجنة ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد اللهم اغفر ذنوبنا وأعظم أجورنا (4/401)
36 - { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } أي ما صح ولا استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين ولفظ ما كان وما ينبغي ونحوهما معناها المنع والحظر من الشيء والإخبار بأنه لا يحل أن يكون شرعا وقد يكون لما يمتنع عقلا كقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } ومعنى الآية : أنه لا يحل لمن يؤمن بالله إذا قضى الله أمرا أن يختار من أمر نفسه ما شاء بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله واختاره له وجمع الضميرين في قوله : لهم و من أمرهم لأن مؤمن ومؤمنة وقعا في سياق النفي فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة قرأ الكوفيون { أن يكون } بالتحتية واختار هذه القراءة أبو عبيد لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله لهم مع كون التأنيث غير حقيقي وقرأ الباقون بالفوقية لكونه مسندا إلى الخيرة وهي مؤنثة لفظا والخيرة مصدر بمعنى الاختيار وقرأ ابن السميفع الخيرة بسكون التحتية والباقون بتحريكها ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره فقال : { ومن يعص الله ورسوله } في أمر من الأمور ومن ذلك عدم الرضا بالقضاء { فقد ضل ضلالا مبينا } أ ] ضل عن طريق الحق ضلالا ظاهرا واضحا لا يخفى
وقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة قالت : قلت يارسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول : إن الله يقول { إن المسلمين والمسلمات } إلى آخر الآية وروي نحو هذا عنها من طريق أخرى أخرجها الفريابي وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء ؟ فنزلت هذه الآية { إن المسلمين والمسلمات } وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه بإسناد قال السيوطي : حسن عن ابن عباس قال : قالت النساء يا رسول الله ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ؟ فنزلت { إن المسلمين والمسلمات } الآية وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم انطلق ليخطب على فتاة زيد بن حارثة فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها قالت : لست بنكاحته قال : بلى فانكحيه قالت : يا رسول الله أؤامر نفسي فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآية قالت : قد رضيته لي يا رسول الله منكحا قال نعم قالت : إذن لا أعصى رسول الله قد أنكحته نفسي وأخرج نحوه عنه ابن جرير من طريق أخرى وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لزينب : إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك قالت يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي وأنا ايم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل فنزلت هذه الآية : { وما كان لمؤمن } يعني زيدا { ولا مؤمنة } يعني زينب { إذا قضى الله ورسوله أمرا } يعني النكاح في هذا الموضع { أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } يقول : ليس لهم الخيرة من أمرهم خلاف ما أمر الله به { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } قالت : قد أطعتك فاصنع ما شئت فزوجها زيدا ودخل عليها ] وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد قال : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و سلم فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده (4/403)
لما زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مر في تفسير الآية التي قبل هذه أنزل الله سبحانه 37 - { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } أي واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن أعتقه من الرق وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه وسيأتي في بيان سبب نزول الآية في آخر البحث ما يوضح المراد منها قال القرطبي : وقد اختلف في تأويل هذه الآية فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظما بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف انتهى { أمسك عليك زوجك } يعني زينب { واتق الله } في أمرها ولا تعجل بطلاقها { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } وهو نكاحها إن طلقها زيد وقيل حبها { وتخشى الناس } أي تستحييهم أو تخاف من تعييرهم بأن يقولوا أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها { والله أحق أن تخشاه } في كل حال وتخاف منه وتستحييه والواو للحال : أي تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس { فلما قضى زيد منها وطرا } قضاء الوطر في اللغة : بلوغ منتهى ما في النفسمن الشيء يقال قضى وطرا منه : إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
( أيها الرائح المجد ابتكارا ... قد قضى من تهامة الأوطارا )
أي فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه والمراد هنا أنه قضى وطره منها بنكاحه والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة وقيل المراد به الطلاق وأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة وقال المبرد : الوطر الشهوة والمحبة وأنشد :
( وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما ... قضى وطرا منها جميل بن معمر )
وقال أبو عبيدة : الوطر : الأرب والحاجة وأنشد قول الفزاري :
( ودعنا قبل أن نودعه ... لما قضى من شبابنا وطرا )
قرأ الجمهور { زوجناكها } وقرأ علي وابناه الحسن والحسين زوجتكها فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته وقيل المراد به الأمر له بأن يتزوجها والأول أولى وبه جاءت الأخبار الصحيحة ثم علل سبحانه ذلك بقوله : { لكي لا يكون على المؤمنين حرج } أي ضيق ومشقة { في أزواج أدعيائهم } أي في التزوج بأزواج من يجعلونه ابنا كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا يتبنون من يريدون وكان النبي صلى الله عليه و سلم قد تبنى زيد بن حارثة فكان يقال زيد بن محمد حتى نزل قوله سبحانه : { ادعوهم لآبائهم } وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليه نساء من تبنوه كما تحرم عليه نساء أبنائهم حقيقة والأدعياء حلال لهم { إذا قضوا منهن وطرا } بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم عليه أبيه بنفس العقد عليها { وكان أمر الله مفعولا } أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم قضاء ماضيا مفعولا لا محالة (4/404)
ثم بين سبحانه أنه لم يكن على رسول الله صلى الله عليه و سلم حرج في هذا النكاح فقال : 38 - { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } أي فيما أحل الله له وقدره وقضاه يقال فرض له كذا : أي قدر له { سنة الله في الذين خلوا من قبل } أي إن هذا هو السنن الأقدم في الأنبياء والأمم الماضية أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر النكاح وغيره { وكان أمر الله قدرا مقدورا } أي قضاء مقضيا قال مقاتل : أخبر الله أن أمر زينب كان من حكم الله وقدره وانتصاب سنة على المصدر : أي سنة الله سنة الله أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب بجعل أو بالإغراء ورده أبو حبان بأن عامل الإغراء لا يحذف (4/405)
ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم فقال : 39 - { الذين يبلغون رسالات الله } والموصول في محل جر صفة للذين خلوا أو منصوب على المدح مدحهم سبحانه بتبليغ ما أرسلهم به إلى عباده وخشيته في كل فعل وقول ولا يخشون سواه ولا يبالون بقول الناس ولا بتعبيرهم بل خشيتهم مقصورة على الله سبحانه { وكفى بالله حسيبا } حاضرا في كل مكان يكفي عباده كل ما يخافونه أو محاسبا لهم في كل شيء ولما تزوج صلى الله عليه و سلم زينب قال الناس : تزوج امرأة ابنه (4/406)
فأنزل الله 40 - { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } أي ليس بأب لزيد بن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته ولا هو أب لأحد لم يلده قال الواحدي : قال المفسرون : لم يكن أبا أحد لم يلده وقد ولد له من الذكور إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر قال القرطبي : ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا : قال : وأما الحسن والحسين فكانا طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له { ولكن رسول الله } قال الأخفش والفراء : ولكن كان رسول الله وأجازا الرفع وكذا قرأ ابن أبي عبلة بالرفع في رسول وفي خاتم على معنى : ولكن هو رسول الله وخاتم النبيين وقرأ الجمهور بتخفيف لكن ونصب رسول و خاتم ووجه النصب على خبرية كان المقدرة كما تقدم ويجوز أن يكون بالعطف على أبا أحد وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بتشديد لكن ونصب رسول على أنه اسمها وخبرها محذوف : أي ولكن رسول الله هو وقرأ الجمهور { خاتم } بكسر التاء وقرأ عاصم بفتحها ومعنى القراءة الأولى : أنه ختمهم : أي جاء آخرهم ومعنى القراءة الثانية : أنه صار كالخاتم لهم الذي يتختمون به ويتزينون بكونه منهم وقيل كسر التاء وفتحها لغتان قال أبو عبيد : الوجه الكسر لأن التأويل أنه ختمهم فهو خاتمهم وأنه قال :
[ أنا خاتم النبيين ] وخاتم الشيء آخره ومنه قولهم : خاتمه المسك وقال الحسن : الخاتم هو الذي ختم به { وكان الله بكل شيء عليما } قد أحاط علمه بكل شيء ومن جملة معلوماته هذه الأحكام المذكورة هنا
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال : [ جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : اتق الله وأمسك عليك زوجك فنزلت { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } ] قال أنس : فلو كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كاتما شيئا لكتم هذه الآية فتزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم فما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ذبح شاة { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم تقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال : [ لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لزيد : اذهب فاذكرها علي فانطلق قال : فلما أيتها عظمت في صدري فقلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول الله يذكرك قالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ودخل عليها بغير إذن ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم أطعمنا عليها الخبز واللحم فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم
واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقولون : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية ] وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت لو كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } يعني بالإسلام { وأنعمت عليه } يعني بالعتق { أمسك عليك زوجك } إلى قوله : { وكان أمر الله مفعولا } وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما تزوجها قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل الله { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم تبناه وهو صغير فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد فأنزل الله { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } يعني أعدل عند الله وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي في قوله : { سنة الله في الذين خلوا من قبل } قال : يعني يتزوج من النساء ما شاء هذا فريضة وكان من قبل من الأنبياء هذا سنتهم قد كان لسليمان بن داود ألف امرأة وكان لداود مائة امرأة وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج في قوله : { سنة الله في الذين خلوا من قبل } قال داود : والمرأة اليت نكح وزوجها اسمها اليسية فذلك سنة في محمد وزينب { وكان أمر الله قدرا مقدورا } كذلك في سنته في داود والمرأة والنبي وزينب وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } قال : نزلت في زيد بن حارثة وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى دارا فانتهى إلا لبنة واحدة فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فكان من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع اللبنة فأنا موضع اللبنة حتى ختم بي الأنبياء ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي بن كعب نحوه أيضا (4/406)
قوله : 41 - { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا } أمر سبحانه عباده بأن يستكثروا من ذكره بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير وكل ما هو ذكر لله تعالى قال مجاهد : هو أن لا ينساه أبدا وقال الكلبي : ويقال ذكرا كثيرا بالصلوات الخمس وقال مقاتل : هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال (4/408)
42 - { وسبحوه بكرة وأصيلا } أي نزهوه عما لا يليق به في وقت البكرة ووقت الأصيل وهم أول النهار وآخره وتخصيصهما بالذكر لمزيد ثواب التسبيح فيهما وخص التسبيح بالذكر بعذ دخوله تحت عموم قوله : { اذكروا الله } تنبيها على مزيد شرفه وإنافة ثوابه على غيره من الأذكار وقيل المراد بالتسبيح بكرة صلاة الفجر وبالتسبيح أصيلا صلاة المغرب وقال قتادة وابن جرير : المراد صلاة الغداة وصلاة العصر وقال الكلبي : أما بكرة فصلاة الفجر وأما أصيلا فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال المبرد : والأصيل العشي وجمعه أصائل (4/408)
43 - { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } والصلاة من الله على العباد رحمته لهم وبركته عليهم ومن الملائكة الدعاء لهم والاستغفار كما قال { ويستغفرون للذين آمنوا } قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : المعنى ويأمر ملائكته بالاستغفار لكم والجملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها من الأمر بالذكر والتسبيح وقيل الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده وقيل الثناء عليه وعطف ملائكته على الضمير المستكن في يصلي لوقوع الفصل بقوله عليكم فأغنى ذلك عن التأكيد بالضمير بمعنى الدعاء لئلا يجمع بين حقيقة ومجاز في كلمة واحدة واللام في { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } متعلق بيصلي : أي يعتني بأموركم هو و ملائكته ليخرجكم من ظلمات الهداية ودوامهم عليها لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية ثم أخبر سبحانه برحمته للمؤمنين تأنيسا لهم وتثبيتا فقال : { وكان بالمؤمنين رحيما } وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدمها (4/408)
ثم بين سبحانه أن هذه الرحمة منه لا تخص السامعين وقت الخطاب بل هي عامة لهم ولمن بعدهم وفي الدار الآخرة فقال : 44 - { تحيتهم يوم يلقونه سلام } أي تحية المؤمنين من الله سبحانه يوم لقائهم له عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة هي التسليم عليهم منه عز و جل وقيل المراد تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم سلام وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيما فلما شملتهم رحمته امنوا من عقابه حيا بعضهم بعضا سرورا واستبشارا والمعنى : سلامة لنا من عذاب النار قال الزجاج : المعنى فيسلمهم الله من الآفات ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه وقيل الضمير في يلقونه راجع إلى ملك الموت وهو الذي يحييهم كما ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلاسلم عليه وقال مقاتل : هو تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب كما في قوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم } { وأعد لهم أجرا كريما } أي أعد لهم في الجنة رزقا حسنا ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم (4/409)
ثم ذكر سبحانه صفات رسول الله صلى الله عليه و سلم التي أرسله لها فقال : 45 - { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا } أي على أمته يشهد لمن صدقه وآمن به وعلى من كذبه وكفر به : قال مجاهد : شاهدا على أمته بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم { ومبشرا } للمؤمنين برحمة الله وبما أعده لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر { ونذيرا } للكافرين والعصاة بالنار وبما أعده الله لهم من عظيم العقاب (4/409)
46 - { وداعيا إلى الله } يدعو عباد الله إلى التوحيد والإيمان بما جاء به والعمل بما شرعه لهم ومعنى { بإذنه } بأمره له بذلك وتقديره وقيل بتبشيره { وسراجا منيرا } أي يستضاء به في ظلم الضلالة كما يستضاء بالمصباح في الظلمة قال الزجاج : { وسراجا } أي ذا سرج منير أي كتاب نير وانتصاب شاهدا وما بعده على الحال (4/409)
47 - { وبشر المؤمنين } عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قال فاشهد وبشر أو فدبر أحوال الناس { وبشر المؤمنين } أو هو من عطف جملة على جملة وهي المذكورة سابقا ولا يمنع من ذلك الاختلاف بين الجملتين بالإخبار والإنشاء أمره سبحانه بأن يبشرهم بأن لهم من الله فضلا كبيرا على سائر الأمم وقد بين ذلك سبحانه بقوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير } (4/410)
ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال : 48 - { ولا تطع الكافرين والمنافقين } أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين وفي الآية تعريض لغيره من أمته لأنه صلى الله عليه و سلم معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه ويشيرون به عليه وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة { ودع أذاهم } أي لا تبال بما يصدر منهم إليك من الأذى بسبب يصيبك في دين الله وشدتك على أعدائه أو دع أن تؤذيهم مجازاة لهم على ما يفعلونه من الأذى لك فالمصدر على الأول مضاف إلى الفاعل وعلى الثاني مضاف إلى المفعول وهي منسوخة بآية السيف { وتوكل على الله } في كل شؤونك { وكفى بالله وكيلا } توكل إليه الأمور وتفوض إليه الشؤون فمن فوض إليه أموره كفاه ومن وكل إليه أحواله لم يحتج فيها إلى سواه
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { اذكروا الله ذكرا كثيرا } يوقل : لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها أجلا معلوما ثم عذر أهلها في حال العضر غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحد في تركه إلا مغلوبا على عقله فقال : اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم بالليل والنهار في البر والبحر في السفر والحضر في الغنى والفقر وفي الصحة والسقم في السر والعلانية وعلى كل حال وقال : { وسبحوه بكرة وأصيلا } إذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته قال الله : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته }
وقد ورد في فضل الذكر والاستكثار منه أحاديث كثيرة وقد صنف في الأذكار المتعلقة بالليل والنهار جماعة من الأئمة كالنسائي والنووي والجزري وغيرهم وقد نطقت الآيات القرآنية بفضل الذاكرين وفضيلة الذكر { ولذكر الله أكبر } وقد ورد أنه أفضل من الجهاد كما في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي والبيهقي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا قلت : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون أفضل منه درجة ] وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعا في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : وما هو يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله عز و جل ] وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سبق المفردون قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ] وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ] وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون ]
وورد في فضل التسبيح بخصوصه أحاديث ثابته في الصحيحين وغيرهما فمن ذلك حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قال في يوم مائة مرة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ] وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال [ كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أيعجز أحدكم أن يكتسب في اليوم ألف حسنة ؟ فقال رجل : كيف يكتسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال : يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة ] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذكر الموت وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن البراء بن عازب في قوله : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } قال : يوم يلقون ملك الموت ليس من مؤمن يقبض روحه إلا سلم عليه وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال : [ لما نزلت { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وقد كان أمر عليا ومعاذا أن يسيرا إلى اليمن فقال : انطلقا فبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا فإنها قد أنزلت علي { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } قال : شاهدا على أمتك ومبشرا بالجنة ونذيرا من النار وداعيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله { بإذنه وسراجا منيرا } بالقرآن ] وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة فقال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تعفو وتصفح زاد أحمد ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وقد ذكر البخاري في صحيحه في البيوع هذا الحديث فقال : وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام ولم يقل عبد الله بن عمرو وهذا أولى فعبد الله بن سلام هو الذي كان يسأل عن التوراة فيخبر بما فيها (4/410)
لما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب وكان قد دخل بها وخطبها النبي صلى الله عليه و سلم بعد انقضاء عدتها كما تقدم خاطب المؤمنين مبينا لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول فقال : 49 - { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات } أي عقدتم بهن عقد النكاح ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد كما قاله صاحب الكشاف والقرطبي وغيرهما
وقد اختلف في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء أو في العقد أو فيهما على طريقة الاشتراك وكلام صاحب الكشاف في هذا الموضع يشعر بأنه حقيقة في الوطء فإه قال النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث أنه طريق إليه ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها سبب في اقتراف الإثم { من قبل أن تمسوهن } من قبل أن تجامعوهن فكنى عن ذلك بلفظ المس { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وهذا مجمع عليه كما حكى ذلك القرطبي وابن كثير ومعنى تعتدونها : تستوفون عددها من عددت الدراهم فأنا أعتدها وإسناد ذلك إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق لهم كما يفيده { فما لكم عليهن من عدة } قرأ الجمهور { تعتدونها } بتشديد الدال وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بتخفيفها وفي هذه القراءة وجهان : أحدهما أن تكون بمعنى الأولى مأخوذ من الاعتداد : أي تستوفون عددها ولكنهم تركوا التضيف لقصد التخفيف قال الرازي : ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف لأن الاعتداء يتعدى بعلى وقيل يجوز أن يكون من الاعتداد بحذف حرف الجر : أي تعتدون عليها : أي على العدة مجازا ومثله قوله :
( تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني )
أي لقضى علي والوجه الثاني أن يكون المعنى تعتدون فيها والمراد بالاعتداء هذا هو ما فيه قوله : { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } فيكون معنى الآية على القراءة الآخرة : فلما لكم عليهن من عدة تعتدون عليهن فيها بالمضارة وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير وقال : إن البزي غلط عليه وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وبقوله : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } والمتعة المذكورة هنا قد تقدم الكلام فيها في البقرة وقال سعيد بن جبير : هذه المتعة المذكورة هنا منسوخة بالآية التي في سورة البقرة وهي قوله : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } وقيل المتعة هنا هي أعم من أن تكون نصف الصداق أو المتعة خاصة إن لم يكن قد سمي لها فمع التسمية للصداق تستحق نصف المسمى عملا بقوله : { فنصف ما فرضتم } ومع عدم التسمية تستحق المتعة عملا بهذه الآية ويؤيد ذلك قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } وهذا الجمع لا بد منه وهو مقدم على الترجيح وعلى دعوى النسخ وتخصص من هذه الآية المتوفى عنها زوجها فإنه إذا مات بعد العقد عليها وقبل الدخول بها كان الموت كالدخول فتعتد أربعة أشهر وعشرا قال ابن كثير بالإجماع فيكون المخصص هو الإجماع وقد استدل بهذه الآية القائلو ن بأنه لا طلاق قبل النكاح وهم الجمهورن وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح إذا قال : إن تزوجت فلانه فهي طالق فتطلق إذا تزوجها ووجه الاستدلال بالآية لما قاله الجمهور أنه قال : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } فعقب الطلاق بالنكاح بلفظ ثم المشعرة بالترتيب والمهملة { وسرحوهن سراحا جميلا } أي أخرجوهن من منازلكم : إذ ليس لكم عليهن عدة والسراح الجميل هنا كناية عن الطلاق وهو بعيد لأنه قد تقدم ذكر الطلاق ورتب عليه التمتيع وعطف عليه السراح الجميل فلا بد أن يراد به معنى غير الطلاق (4/412)
50 - { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } ذكر سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله وبدأ بأزواجه اللاتي قد أعطاهن أجورهن : أي مهورهن فإن المهور أجور الإبضاع وإيتاؤها : إما تسليمها معجلة أو تسميتها في العقد
واختلف في معنى قوله : { أحللنا لك أزواجك } فقال : ابن زيد والضحاك : إن الله أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها فتكون الآية مبيحة لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم وقال الجمهور : المراد أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها وهذا هو الظاهر لأن قوله أحللنا وأتيت ماضيان وتقييد الإحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه لأنه يصح العقد بلا تسمية ويجب مهر المثل مع الوطء والمتعة مع عدمه فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو أفضل { وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } أي السراري اللاتي دخلن في ملكه بالغنيمة ومعنى { مما أفاء الله عليك } مما رده الله عليك من الكفار بالغنيمة لنسائهم المأخوذات على وجه القهر والغلبة وليس المراد بهذا القيد أخراج ما ملكه بغير الغنيمة فإنها تحل له السرية المشتراة والموهوبة ونحوهما ولكنه إشارة إلى ما هو أفضل كالقيد الأول المصرح بإيتاء الأجور وهكذا قيد المهاجرة في قوله : { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } فإنه للإشارة إلى ما هو أفضل وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها وقيل إن هذا القيد : أعني المهاجرة معتبر وأنها لا تحل له من لم تهاجر من هؤلاء كما في قوله : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } ويؤيد هذا حديث أم هانيء وسيأتي آخر البحث هذا إن شاء الله تعالى ووجه إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ما ذكره القرطبي أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس الشاعر والراجز وليس كذلك العمة والخالة قال : وهذا عرف لغوي فجاء الكلام عليه بغاية البيان وحكاه عن ابن العربي وقال ابن كثير : إنه وحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الأنثى كقوله : { عن اليمين والشمائل } وقوله : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } و { جعل الظلمات والنور } وله نظائر كثيرة انتهى وقال النيسابوري وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع أختين تحت واحد ولم يحسن هذا الاختصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة انتهى وكل وجه من هذه الوجوه يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة وأحسنها تعليل جمع العمة والخالة بسبق الوهم إلى أن التاء للوحدة وليس في العم والخال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلا مجرد سيغة الإفراد وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها لما تقرر من عموم أسماء الأجناس المضافة على أن هذا الوجه الأحسن لا يصفو عن شوب المناقشة { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } هو معطوف على مفعول أحللنا : أي وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد إن وهبت نفسها منك بغير صداق وأما من لم تكن مؤمنة فلا تحل لك بمجرد هبتها ولهذا قال : { إن أراد النبي أن يستنكحها } أي يصيرها منكوحة له ويتملك بضعها بتلك الهبة بلا مهر وقد قيل إنه لم ينكح النبي صلى الله عليه و سلم من الواهبات أنفسهن أحدا ولم يكن عنده منهن شيء وقيل كان عنده منهن خولة بنت حكيم كما في صحيح البخاري عن عائشة وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث وقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر الأسدية وقال عروة بن الزبير : هي أم حكيم بنت الأوقص السلمية ثم بين سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحل لغيره من أمته فقال : { خالصة لك من دون المؤمنين } أي هذا الإحلال الخالص هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين ولفظ خالصة إما حال من امرأة قاله الزجاج أو مصدر مؤكد كوعد الله أي خالص لك خلوصا قرأ الجمهور { وامرأة } بالنصب وقرأ أبو حيوة بالرفع على الابتداء وقرأ الجمهور { إن وهبت } بكسر إن وقرأ أبي والحسن وعيسى بن عمر بفتحها على الابتداء وقرأ الجمهور { خالصة } بالنصب وقرئ بالرفع على أنها صفة لامرأة على قراءة من قرأ امرأة بالرفع وقد أجمع العلماء على أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم وأنه لا يجوز لغيره ولا نيعقد النكاح بهبة المرأة نفسها إلا ما روي عن أبي حنيفة في أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم ولهذا قال : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } أي ما فرضه الله سبحانه على المؤمنين في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه فإن ذلك حق عليهم مفروض لا يحل لهم الإخلال به ولا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريما له فلا يتزوجوا إلا أربعا بمهر وبينة وولي { وما ملكت أيمانكم } أي وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهن مما يجوز سبيه وحريه لا من كان لا يجوز سبيه أو كان له عهد من المسلمين { لكيلا يكون عليك حرج } قال المفسرون : هذا يرجع إلى أول الآية : أي أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكيلا يكون عليك حرج فتكون اللام متعلقة بأحللنا وقيل هي متعلقة بخالصة والأول أولى والحرج الضيق : أي وسعنا عليك في التحليل لك لئلا يضيق صدرك فتظن أنك قد أثمت في بعض المنكوحات { وكان الله غفورا رحيما } يغفر الذنوب ويرحم العباد ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه (4/414)
51 - { ترجي من تشاء منهن } قرئ { ترجي } مهموزا وغير مهموز وهما لغتان والإرجاء التأخير يقال : أرجأت الأمر وأرجيته : إذا أخرته { وتؤوي إليك من تشاء } أي تضم إليك يقال آواه إليه بالمد : ضمه إليه وأوى مقصورا : أي ضم إليه والمعنى : أن الله وسع على رسوله وجعل الخيار إليه في نسائه فيؤخر من شاء منهن ويؤخر نوبتها ويتركها ولا يأتيها من غير طلاق ويضم إليه من شاء منهن ويضاجعها ويبيت عندها وقد كان القسم واجبا عليه حتى نزلت هذه الآية فارتفع الوجوب وصار الخيار إليه وكان ممن أوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وممن أرجأه سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية فكان صلى الله عليه و سلم يسوي بين من آواه في القسم وكان يقسم لمن أرجأه ما شاء هذا قول جمهور المفسرين في معنى الآية وهو الذي دلت عليه الأدلة الثابتة في الصحيح وغيره وقيل هذه الآية في الواهبات أنفسهن لا في غيرهن من الزوجات قاله الشعبي وغيره وقيل معنى الآية في الطلاق : أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء وقال الحسن : أن المعنى : تنكح من شئت من نساء أمتك وتترك نكاح من شئت منهن وقد قيل إن هذه الآية ناسخة لقوله : { لا يحل لك النساء من بعد } وسيأتي بيان ذلك { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } الابتغاء الطلب والعزل الإزالة والمعنى : أنه إن أراد أن يؤوي إلأيه امرأة ممن قد عزلهن من القسمة ويضمها إليه فلا حرج عليه في ذلك والحاصل أن الله سبحانه فوض الأمر إلى رسوله يصنع في زوجاته ما شاء من تقديم وتأخير وعزل وإمساك وضم من أرجأ وإرجاء من ضم إليه وما شاء في أمرهن فعل توسعة عليه ونفيا للحرج عنه وأصله الجناح الميل يقال جنحت السفينة : إذا مالت والمعنى : لا ميل عليك بلوم ولا عتب فيما فعلت والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم من التفويض إلى مشيئته وهو مبتدأ وخبره { أن تقر أعينهن } أي ذلك التفويض الذي فوضناك أقرب إلى رضاهن لأنه حكم الله سبحانه قال قتادة : أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا لأنهن إذا علمن أنه من الله قرت أعينهن قرأ الجمهور تقر على البناء للفاعل مسندأ إلى أعينهن وقرأ ابن محيصن تقر بضم التاء من أقرر وفاعله ضمير المخاطب ونصب أعينهن على المفعولية وقرئ على البناء للمفعول وقد تقدم بيان معنى قرة العين في سورة مريم { و } معنى { لا يحزن } لا يحصل معهن حزن بتأثيرك بعضهن دون بعض { ويرضين بما آتيتهن كلهن } أي يرضين جميعا بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء قرأ الجمهور { كلهن } بالرفع تأكيدا لفاعل يرضين وقرأ أبو إياس بالنصب تأكيدا لضمير المفعول في آتيتهن { والله يعلم ما في قلوبكم } من كل ما تضمرونه ومن ذلك ما تضمرونه من أمور النساء { وكان الله عليما } بكل شيء لا تخفى عليه خافية { حليما } لا يعاجل العصاة بالعقوبة (4/416)
52 - { لا يحل لك النساء من بعد } قرأ الجمهور { لا يحل } بالتحتية للفصل بين الفعل وفاعله المؤنث وقرأ ابن كثير بالفوقية
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال : الأول أنها محكمة وأنه حرم على رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتزوج على نسائه مكافأة لهن بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمر الله له بذلك وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن وابن سيرين وأبي بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف : لما حرم الله عليهن أن يتزوجن من بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن وقال أبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين : إن المعنى : لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله قال القرطبي : وهو اختيار ابن جرير وقيل لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات لأنهن لا يصح أن يتصفن بأنهن أمهات المؤمنين وهذا القول فيه بعد لأنه يكون التقدير : لا يحل لك النساء من بعد المسلمات ولم يجز للمسلمات ذكر وقيل هذه الآية منسوخة بالسنة وبقوله سبحانه : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } وبهذا قالت عائشة وأم سلمة وعلي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وغيرهم وهذا هو الراجح وسيأتي في آخر البحث ما يدل عليه من الأدلة { ولا أن تبدل بهن من أزواج } أي تتبدل فحذفت إحدى التاءين : أي ليس لك أن تطلق واحدة منهن أو أكثر وتتزوج بدل من طلقت منهن و من في قوله : { من أزواج } مزيدة للتأكيد وقال ابن زيد : هذا شيء كانت العرب تفعله يقول : خذ زوجتي وأعطني زوجتك وقد أنكر النحاس وابن جرير ما ذكره ابن زيد قال ابن جرير : ما فعلت العرب هذا قط ويدفع هذا الإنكار منهما ما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة قال : كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل : تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله عز و جل { ولا أن تبدل بهن } وأخرجه أيضا عنه البزار وابن مردويه وجملة { ولو أعجبك حسنهن } في محل نصب على الحال من فاعل تبدل والمعنى : أنه لا يحل التبدل بأزواجك ولو أعجبك حسن غيرهن ممن أردت أن تجعلها بدلا من إحداهن وهذا التبدل أيضا من جملة ما نسخه الله في حق رسوله على القول الراجح وقوله : { إلا ما ملكت يمينك } استثناء من النساء لأنه يتناول الحرائر والإماء
وقد اختلف العلماء في تحليل الأمة الكافرة القول الأول : أنها تحل للنبي صلى الله عليه و سلم لعموم هذه الآية وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم القول الثاني : أنها لا تحل له تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة ويترجح القول الأول بعموم هذه الآية وتعليل المنع بالتنزه ضعيف فلا تنزه عما أحله الله سبحانه فإن ما أحله فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح لا باعتبار غير ذلك فالمشركون نجس بنص القرآن ويمكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } فإنه نهي عام { وكان الله على كل شيء رقيبا } أي أمراقبا حافظا مهيمنا لا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إذا نكحتم المؤمنات } قال : هذا في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها من قبل أن يمسها فإذا طلقها واحدة بانت منه ولا عدة عليها تتزوج من شاءت ثم قال : { فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } يقول : إن كان سمى لها صداقا فليس لها إلا النصف وإن لم يكن سمى لها صداقا متعها على قدر عسره ويسره وهو السراح الجميل وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } منسوخة نسختها التي في البقرة { فنصف ما فرضتم } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن المسيب نحوه وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال : بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول : إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال ابن عباس أخطأ في هذا إن الله يقول : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } ولم يقل : إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية وقال : لا يكون طلاق حتى يكون نكاح وقد وردت أحاديث منها أنه لا طلاق إلا بعد نكاح وهي معروفة وأخرج ابن سعد وابن راهويه وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله : { هاجرن معك } قالت : فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت : نزلت في هذه الآية { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } أراد النبي أن يتزوجني فنهي عني إذ لم أهاجر وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله : { خالصة لك } قال فحرم الله عليه سوى ذلك من النساء وكان قبل ذلك ينكح في أي النساء شاء لم يحرم ذلك عليه وكان نساؤه يجدن من ذلك وجدا شديدا أن ينكح في أي النساء أحب فلما أنزل إني حرمت عليك من النساء سوى ما قصصت عليك أعجب ذلك نساءه وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن من عائشة قالت : التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و سلم خولة بنت حكيم وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي وابن مردويه عن عروة : أن خولة بنت حكيم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث عشرة امرأة : ست من قريش : وامرأتين من بني هلال بن عامر : ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و سلم وزينب أم المساكين والعامرية وهي التي اختارت الدنيا وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه وزينب بنت جحش الأسدية والسبيتين : صفية بنت حيي وجويرية بنت الحارث الخزاعية وأخرج البخاري وابن مردويه عن أنس قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا نبي الله هل لك في حاجة ؟ فقالت ابنة أنس : ما كان أقل حياءها فقال هي خير منك رغبت في النبي صلى الله عليه و سلم فعرضت نفسها عليه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد الساعدي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فوهبت نفسها له فصمتن الحديث بطوله وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } قال : فرض الله عليهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مثله وزاد ومهر وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن توطأ الحامل حتى تضع والحائل حتى تستبرأ بحيضة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { ترجي من تشاء منهن } قال : تؤخر وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه في قول : { ترجي من تشاء منهن } يقول : من شئت خليت سبيله منهن ومن أحببت أمسكت منهن وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأقول تهب المرأة نفسها فلما أنزل الله { ترجي من تشاء منهن } الآية قلت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : هم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يطلق من نسائهن فلما رأين ذلك أتينه فقلن : لا يخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت فأنزل الله { ترجي من تشاء منهن } يقول : تعزل من تشاء فأرجأ منهن نسوى وآوى نسوة وكان ممن أرجى ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما شاء وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب فكانت قسمته من نفسه وماله بينهن سواء وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية { ترجي من تشاء منهن } فقلت لها : ما كنت تقولين ؟ قالت : كنت أقول : إن كان ذلك إلي فإني لا أريد أن أؤثر عليك أحدا وأخرج الروياني والدارمي وابن سعد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن زياد رجل من الأنصار قال : قلت لأبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم متن أما كان يحل له أن يتزوج ؟ قال : وما يمنعه من ذلك ؟ قلت : قوله : { لا يحل لك النساء من بعد } قال : إنما أحل له ضربا من النساء ووصف له صحته فقال : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله : { وامرأة مؤمنة } ثم قال : لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات قال : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك } فأحل له الفتيات المؤمنات { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } وحرم كل ذات دين غير الإسلام وقال : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله : { خالصة لك من دون المؤمنين } وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء وأخرج ابن مردويه عنه قال نيه النبي صلى الله عليه و سلم أن يتزوج بعد نسائه الأول شيئا وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : حبسه الله عليهن كما حبسهن عليه وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال : لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن فقال : { لا يحل لك النساء من بعد } وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النسا ما شاء إلا ذات محرم وذلك قول الله { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } وأخرج ابن سعد عن ابن عباس مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين { لا يحل لك النساء من بعد } قال : من الشركات إلا ما سبيت فملكت يمينك وأخرج البزار وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل : بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي : أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله { ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } قال : [ فدخل عيينة بن حصن الفزاري إلى النبي صلى الله عليه و سلم وعنده عائشة وفدخل بغير إذن فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين الاستئذان ؟ قال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل من الأنصار منذ أدركت ثم قال : من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال رسول الله : هذه عائشة أم المؤمنين قال : أفلا أنزل لك عن أحسن خلق الله ؟ قال : يا عيينة إن الله حرم ذلك فلما أن خرج قالت عائشة : من هذا ؟ قال : أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه ] (4/417)
قوله : 53 - { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بإذن منه سبب الزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب وسيأتي بيان ذلك آخر البحث إن شاء الله وقوله : { إلا أن يؤذن لكم } استثناء مفرغ من أعم الأحوال : أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذونا لكم وهو في موضع نصب على الحال : أي إلا مصحوبين بالإذن أو بنزع الخافض : أي إلا بأن يؤذن لكم أو منصوب على الظرفية : أي إلا وقت أن يؤذن لكم وقوله : { إلى طعام } متعلق بيؤذن على تضمينه معنى الدعاء : أي ادخلوا غير ناظرين ومعنى ناظرين : منتظرين و { إناه } : نضجه وإدراكه يقال أنى يأنى أنى : إذا حان وأدرك قرأ الجمهور { غير ناظرين } بالنصب وقرأ ابن أبي عبلة غير بالجر صفة لطعام وضعف النحاة هذه القراءة لعدم بروز الضمير لكونه جاريا على غير من هو له فكان حقه أن يقال غير ناظرين إناه أنتم ثم بين لهم سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال : { ولكن إذا دعيتم فادخلوا } وفيه تأكيد للمنع وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول وهو عند الإذن قال ابن الأعرابي : وتقدير الكلام : ولكن إذا دعيتم وأذن لكم فادخلوا وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول وقيل إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه { فإذا طعمتم فانتشروا } أمرهم سبحانه بالانتشار بعد الطعام وهو التفرق والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل { ولا مستأنسين لحديث } عطف على قوله غير ناظرين أو على مقدر : أي ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين والمعنى : النيه لهم عن أن يجلسوا بعد الطعام يتحدثون مستأنسين بالحديث قال الرازي في قوله : { إلا أن يؤذن لكم إلى طعام } إما أن يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه : ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطا بكونه إلى طعام فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام فلما هو مذكور في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن وقال ابن عادل : الأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل وقوله : { إلى طعام } من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم مثله فإن من جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام انتهى والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال : قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته صلى الله عليه و سلم بإذنه لغير الطعام وذلك معلوم لا شك فيه فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم وذلك معلوم لا شك فيه فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذن نزلت فيه وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه و سلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام واللازم باطل فالملزوم مثله قال ابن عطية : وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه و سلم ودخل في النيه سائر المؤمنين والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام والإشارة بقوله : { إن ذلكم } إلى الانتظار والاستئناس للحديث وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله : { عوان بين ذلك } أي إن ذلك المذكور من الأمرين { كان يؤذي النبي } لأنهم كانوا يضيقون المنزل عليه وعلى أهله ويتحدثون بما لا يريده قال الزجاج : كان النبي صلى الله عليه و سلم يحتمل إطالتهم كرما منه فيصبر على الأذى في ذلك فعلم الله من يحضره الأدب صار أدبا لهم ولمن بعدهم { فيستحيي منكم } أي يستحيي أن يقول لكم قوموا أو اخرجوا { والله لا يستحيي من الحق } أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة وقرأ الجمهور يستحيي بياءين وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي ثم ذكر سبحانه أجبا آخر متعلقا بنساء النبي صلى الله عليه و سلم فقال : { وإذا سألتموهن متاعا } أي شيئا يتمتع به من الماعون وغيره { فاسألوهن من وراء حجاب } أي من وراء ستل بينكم وبينهن والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى سؤال المتاع من وراء حجاب وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع والأول أولى واسم الإشارة مبتدأ وخبره { أطهر لقلوبكم وقلوبهن } أي أكثر تطهيرا لها من الريبة وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء واللنساء في أمر الرجال وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه من الخلوة مع من لا تحل له والمكالمة من جون حجاب لمن تحرم عليه { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } أي ما صح لكم ولا استقام أن تؤذوه بشيء من الأشياء كائنا ما كان ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده وتكليم نسائه من دون حجاب { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته لأنهن أمهات المؤمنين ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات والإشارة بقوله : { إن ذلكم } إلى نكاح أزواجه من بعده { كان عند الله عظيما } أي ذنبا عظيما وخطبا هائلا شديدا وكان سبب نزول الآية أنه قال قائل : لو قد مات محمد لتزوجنا نساءه وسيأتي بيان ذلك (4/422)
54 - { إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما } يعلم كل شيء من الأشياء ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله وما تكتمونه في صدوركم وفي هذا وعيد شديد لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها (4/424)
ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه فقال : 55 - { لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن } فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا غيرهن من النساء الاحتجاب منهم ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين وقال الزجاج : العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية وهذا ضعيف جدا فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات واللازم باطل فالملزوم مثله وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهن يصفنها واللازم باطل فالملزوم مثله وهكذا لا وجه لما قاله الشعبي وعكرمة من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها والأولى أن يقال أنه سبحانه اقتصر ههنا على بعض ما ذكره من المحارم في سورة النور اكتفاء بما تقدم { ولا نسائهن } هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات لأن الكافرات غير مأمونات على العورات والنساء كلهن عورة { ولا ما ملكت أيمانهن } من العبيد والإماء وقيل الإماء خاصة ومن لم يبلغ من العبيد والخلاف في ذلك معروف وقد تقدم في سورة النور ما فيه كفاية ثم أمرهن سبحانه بالتقوى التي هي ملاك الأمر كله { و } المعنى { اتقين } الله في كل الأمور التي من جملتها ما هو مذكور هنا { إن الله كان على كل شيء شهيدا } لم يغب عنه شيء من الأشياء كائنا ما كان فهو مجاز للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله الحجاب وفي لفظ أنه قال عمر : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى الله عليه و سلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنز الله { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } الآية وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } الآية وأخرج ابن سعد عن أنس قال : نزلت الحجاب مبتنى رسول الله صلى الله عليه و سلم بزينب بنت جحش وذلك سنة خمس من الهجرة وحجب نساءه من يومئذ وأنا ابن خمس عشرة سنة وكذا أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان وقال : نزل الحجاب على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة وبه قال قتادة والواقدي وزعم أبو عبيدة وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } قال : نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه و سلم بعده قال سفيان : وذكروا أنها عائشة وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال : أيحدبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا ؟ لئن حدث به حدث لنتزوج نساءه من بعده فنزلت هذه الآية وأخرج عبد الرزاق وعبد بن عيد وابن المنذر عن قتادة قال : قال طلحة بن عبيد الله : لو قبض النبي صلى الله عليه و سلم لتزوجت عائشة فنزلت وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : نزلت في طلحة لأنه قال : إذا توفي النبي صلى الله عليه و سلم تزوجت عائشة قال ابن عطية : وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله قال القرطبي : قال شيخنا الإمام أبو العباس : وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله وإنما الكذب في نقله وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عباس قال : قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : لو قد مات رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوجت عائشة أو أم سلمة فأنزل الله { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } الآية وأخرج ابن جرير عنه [ أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال : يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلى الله عليه و سلم : قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله وإنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجها من بعده فأنزل الله هذه الآية فأعتق ذلك الرج رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا توبة من كلمته ] وأخرج ابن مردويه [ عن أسماء بنت عميس قالت : خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : إن أسماء متزوجة عليا فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله ] وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قوله : { إن تبدوا شيئا أو تخفوه } قال : إن تكلموا به فتقولون تتزوج فلانة لبعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أو تخفوا ذلك في أنفسكم فلا تنطقوا به يعلمه الله وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لا جناح عليهن } إلى آخر الآية قال : أنزلت هذه في نساء النبي صلى الله عليه و سلم : { نساء النبي } يعني نساء المسلمات { وما ملكت أيمانهم } من المماليك والإماء ورخص لهن أن يروهن بعد ما ضرب الحجاب عليهن (4/424)
قرأ الجمهور 56 - { وملائكته } بنصب الملائكة عطفا على لفظ اسم أن وقرأ ابن عباس { وملائكته } بالرفع عطفا على محل اسم إن والضمير في قوله : { يصلون } راجع إلى الله وإلى الملائكة وفيه تشريف للملائكة عظيم حيث جعل الضمير لهم ولله سبحانه واحدا فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم [ لما سمع قول الخطيب يقول : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال : بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله ] ووجه ذلك أنه ليس لأحج أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد وهذا الحديث ثابت في الصحيح وثبت أيضا في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر مناديا ينادي يوم خيبر : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله ولملائكته واحدا والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله صلى الله عليه و سلم ويحمل الذم لذلك الخطيب الجامع بينهما على أنه صلى الله عيهل وسلم فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله فيختص المنع بمثل ذلك وهذا أحسن ما قيل في الجمع وقالت طائفة : في هذه حذف والتقدير : إن الله يصلي وملائكته يصلون وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره في ضمير واحد ولا يرد أيضا ما قيل إن الصلاة من الله الرحمة ومن ملائكته الدعاء فكيف يجمع بين هذهين المعنيين المختلفين في لفظ يصلون ويقال على القول الأول أنه أريد بيصلون معنى مجازي يعم المعنيين وذلك بأن يراد بقوله يصلون يهتمون بإظهار شرفه أو يعظمون شأنه أو يعتنون بأمره وحكى البخاري عن أبي العالية أن صلاة الله سبحانه ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء وروى الترمذي في سننه عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا : صلاة الرب الرحمة وصلاة الملائكة الاستغفار وحكى الواحدي عن مقاتل أنه قال : أما صلاة الرب فالمغفرة وأما صلاة الملائكة فالاستغفار وقال عطاء بن أبي رباح : صلاته تبارك وتعالى سبوح وقدوس سبقت رحمتي غضبي والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته وأن الملائكة تصلي عليه وأمر عباده بأن يقتدوا بذلك ويصلوا عليه
وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم هل هي واجبة أم مستحبة ؟ بعد اتفاقهم على أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة وقد حكى هذا الإجماع القرطبي في تفسيره فقال قوم من أهل العلم : إنها واجبة عند ذكره وقال قوم : تجب في كل مجلس مرة وقد وردت أحاديث مصرحة بذم من سمع ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فلم يصل عليه
واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم في تشهد الصلاة المفترضة هل هي واجبة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة قال ابن المنذر : يستحب أن لا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم وهو قول الجمهور أهل العلم قال : وشذ الشافعي فأوجب على تاركها الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان وهذا القول عن الشافعي لم يروه عنه إلا حرملة بن يحيى ولا يوجد عن الشافعي إلا من روايته قال الطحاوي : لم يقل به أحد من أهل العلم غير الشافعي وقال الخطابي وهو من الشافعية : أنها ليست بواجبة في الصلاة قال : وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ولا أعلم له في ذلك قدوة انتهى وقد قال بقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي والباقر ومقاتل بن حيان وإليه ذهب أحمد بن حنبل أخيرا كما حكاه أبو زرعة الدمشقي وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية
وقد جمعت في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكرت فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور وأشف ما يستدل به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ [ أن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك في صلاتنا فقال : قولوا ] الحديث فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب وأما على بطلان الصلاة بالترك ووجوب الإعادة لها فلا لأن الواجبات لا يستلزم عدمها العدم كما يستلزم ذلك الشروط والأركان
واعلم أنه قد ورد فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم أحاديث كثيرة لو جمعت لجاءت في مصنف مستقل ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم : [ من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ] فناهيك بهذه الفضيلة الجليلة والمكرمة النبيلة وأما صفة الصلاة عليه صلى الله عليه و سلم فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما منها ما هو مقيد بصفة الصلاة عليه في الصلاة ومنها ما هو مطلق وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل : اللهم صل وسلم على رسولك أو على محمد أو على النبي أو اللهم صل على محمد وسلم ومن أراد أن يصلي عليه ويسلم عليه بصفة من الصفات التي ورد التعليم بها والإرشاد إلأيها فذلك أكمل وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة وسيأتي بعضها آخر البحث وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في البحث وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل : صليت عليه وسلمت عليه أو الصالة عليه والسلام عليه أو عليه الصلاة والتسليم لأن الله سبحانه أمرنا بإيقاع الصلاة عليه والتسليم منا فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول : اللهم صل عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن نصلي عليه ويسلم عليه وقد أجيب عن هذا بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانتا شعارا عظيما للنبي صلى الله عليه و سلم وتشريفا كريما وكلنا ذلك إلى الله عز و جل وأرجعناه إليه وهذا الجواب ضعيف جدا وأحسن ما يجاب به أن يقال : إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول : اللهم صل عليه وسلم أو نحو ذلك مما يؤدي عناه كما بينه رسول الله صلى الله عليه و سلم لنا فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية
واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله وأن كان معناها الرحمة فقد صارت شعارا له يختص به دون غيره فلا يجوز لنا أن نصلي على غيره من أمته كما يجوز لنا أن نقول : اللهم ارحم فلانا أو رحم الله فلانا وبهذا قال جمهور العلماء مع اختلافهم هل هو محرم أو مكروه كراهة شديدة أو مكروه كراهة تنزيه على ثلاثة أقوال وقد قال ابن عباس كما رواه عنه ابن أبي شيبة lلأ والبيهقي في الشعب لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه و سلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار وقال قوم : إن ذلك جائز لقوله تعالى : { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } ولقوله : { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } ولقوله : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى ] ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله صلى الله عليه و سلم له أن يخص به من شاء وليس لنا أن نطلقه على غيره وأما قوله تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } وقوله : { أولئك عليهم صلوات من ربهم } فهذا ليس فيه إلا أن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسوله مرة واحدة عشر صلوات وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعه الله في حقنا بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله وكما أن لفظ الصلاة على رسول الله شعار له فكذا لفظ السلام عليه وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه كما أرشدنا إلى ذلك بقوله سبحانه : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } (4/427)
ثم لما ذكر سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم ذكر الوعيد الشديد للذين يؤذونه فقال : 57 - { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } قيل والمراد بالأذى هنا هو فعل ما يكرهانه من المعاصي لاستحالة التأذي منه سبحانه قال الواحدي : قال المفسرون هم المشركون واليهود والنصارى وصفوا الله بالولد فقالوا : عزيز ابن الله والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله وكذبوا رسول الله وشجوا وجهه وكسروا رباعيته وقالوا : مجنون شاعر كذاب ساحر قال القرطبي : وبهذا قال جمهور العلماء وقال عكرمة : الأذية لله سبحانه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها وقال جماعة : إن الآية على حذف مضاف والتقديرك إن الذين يؤذون أولياء الله وأما أذية رسوله فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال ومعنى اللعنة : الطرد والإبعاد من رحمته وجعل ذلك في الدنيا والآخرة لتشملهم اللعنة فيهما بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم ومصاحبة لهم { وأعد لهم } مع ذلك اللعن { عذابا مهينا } يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة لما يفيده معنى الإعداد من كونه في الدار الآخرة (4/430)
ثم لما فرغ من الذم لمن آذى الله ورسوله ذكر الأذية لصالحي عباده فقال : 58 - { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات } بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل ومعنى { بغير ما اكتسبوا } أنه لم يكن ذلك لسبب فعلوه يوجب عليهم الأذية ويستحقونها به فأما الأذية للمؤمن والمؤمنة بما كسبه مما يوجب عليه حدا أو تعزيرا أو نحوهما فذلك حق أثبته الشرع وأمر أمرنا الله به وندبنا إليه وهكذا إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة أو ضر فإن القصاص من الفاعل ليس من الأذية المحرمة على أي وجه كان ما لم يجاوز ما شرعه الله ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقال : { فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } أي ظاهرا واضحا لا شك في كونه من البهتان والإثم وقد تقدم بيان حقيقة البهتان وحقيقة الإثم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { يصلون على النبي } يبركون وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في الظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى : هل يصلي ربك ؟ فناداه ربه : يا موسى سألوك هل يصلي ربك ؟ فقل نعم أنا أصلي وملائكتي عن أنبيائي ورسلي فأنزل الله على نبيه { إن الله وملائكته يصلون على النبي } الآية وأخرج ابن مردويه عنه قال : إن صلاة الله على النبي هي المغفرة إن الله لا يصلي ولكن يغفر وأما صلاة الناس على النبي فهي الاستغفار له وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قرأ صلوا عليه كما صلى الله عليه و سلم وا تسليما وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن عجرة قال : [ لما نزلت { إن الله وملائكته يصلون على النبي } الآية قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك ؟ قال : قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ] وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه بلفظ : [ قال رجل يا رسول الله : أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال : قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال : [ قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك ؟ قال : قل اللهم صل على محمدوعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ] وفي الأحاديث اختلاف ففي بعضها على إبراهيم فقط وفي بعضها على آل إبراهيم فقط وفي بعضها بالجمع بينهما كحديث طلحة هذا وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي [ أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ] والأحاديث في هذا الباب كيرة جدا وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث أبي مسعود عند ابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه : أن رجلا قال : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ؟ الحديث وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله وجميع التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه و سلم في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه وقد قال بذلك جماعة ونقله إمام الحرمين والغزالي قولا عن الشافعي كما رواه عنهما ابن كثير في تفسيره ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به ولا وجه لقول من قال إن هذه التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه و سلم في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة حملا لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد لما في حديث كعب بن عجرة وغيره أن ذلك السؤال لرسول الله صلى الله عليه و سلم كان عند نزول الآية وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إن الذين يؤذون الله ورسوله } الآية قال : نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه و سلم حين اتخذ صفية بنت حيي وروي عنه أنها نزلت في الذين قذفوا عائشة (4/430)
لما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال : 59 - { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } من للتبعيض والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار قال الجوهري الجلباب الملحفة وقيل القناع وقيل هو ثوب يستر جميع بدن المرأة كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية [ أنها قالت : يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب فقال : لتلبسها أختها من جلبابها ] قال الواحدي : قال المفسرون يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة فيعلم أهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى وقال الحسن : تغطي نصف وجهها وقال قتادة : تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه والإشارة بقوله : { ذلك } إلى إدناء الجلابيب وهو مبتدأ وخبره { أدنى أن يعرفن } أي أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر { فلا يؤذين } من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن وليس المراد بقوله : { ذلك أدنى أن يعرفن } أن تعرف الواحدة منهن من هي بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر { وكان الله غفورا } لما سلف منهن من ترك إدناء الجلابيب { رحيما } بهن أو غفورا لذنوب المذنبين رحيما بهم فيدخلن في ذلك دخولا أوليا (4/432)
ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال : 60 - { لئن لم ينته المنافقون } عما هم عليه من النفاق { والذين في قلوبهم مرض } أي شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب { والمرجفون في المدينة } عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم قال القرطبي : أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد والمعنى : أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين فهو على هذا من باب قوله :
( إلى الملك القروم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم )
أي إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة وقال عكرمة وشهر بن حوشب : الذين في قلوبهم مرض هم الزناة والإرجاف في اللغة : إشاعة الكذب والباطل يقال أرجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة يقال رجفت الأرض : أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفا والرجفان : الاضطراب الشديد وسمي البحر رجافا لاضطرابه ومنه قول الشاعر :
( المطعمون اللحم كل عشية ... حتى تغيب الشمس في الرجاف )
والإرجاف واحد الأراجيف وأرجفوا في الشيء خاضوا فيه ومنه قول شاعر :
( فإنا وإن عيرتمونا بقلة ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد )
وقول الآخر :
( أبالأراجيف يابن اللوم توعدني ... وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور )
وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا وتارة بأنهم قتلوا وتارة بأنهم غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار فتوعدهم الله سبحانه بقوله : { لنغرينك بهم } أي لنسلطنك عليهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك قال المبرد : قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية (4/433)
61 - { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا } فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم : أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن فإن قوله ملعونين إلخ إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم بقتالهم ولا تسليط له عليهم وقد قيل إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم وجملة { لنغرينك بهم } جواب القسم وجملة { ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } معطوفة على جملة جواب القسم : أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا وانتصاب { ملعونين } على الحال كما قال المبرد وغيره والمعنى مطرودين { أينما } وجدوا وأدركوا { أخذوا وقتلوا } دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا { تقتيلا } وقيل إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم والأول أولى وقيل معنى الآية : أنهم أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون (4/433)
62 - { سنة الله في الذين خلوا من قبل } أي سن الله ذلك في الأمم الماضية وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم وكذا حكم المرجفين وهو منتصب على المصدر قال الزجاج : بين الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا { ولن تجد لسنة الله تبديلا } أي تحويلا وتغييرا بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف (4/434)
63 - { يسألك الناس عن الساعة } أي عن وقت قيامها وحصولها قيل السائلون عن الساعة هم أولئك المنافقون والمرجفون لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة استبعادا وتكذيبا { وما يدريك } يا محمد : أي ما يعلمك ويخبرك { لعل الساعة تكون قريبا } أي في زمان قريب وانتصاب قريبا على الظرفية والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها وهو رسول الله فكيف بغيره من الناس ؟ وفي هذا تهديد لهم عظيم (4/434)
64 - { إن الله لعن الكافرين } أي طردهم وأبعدهم من رحمته { وأعد لهم } في الآخرة مع ذكل اللعن منه لهم في الدنيا { سعيرا } أي نارا شديدة التسعر (4/434)
65 - { خالدين فيها أبدا } بلا انقطاع { لا يجدون وليا } يواليهم ويحفظهم من عذابها { ولا نصيرا } ينصرهم ويخلصهم منها (4/434)
ويوم في قوله : 66 - { يوم تقلب وجوههم في النار } ظرف لقوله لا يجدون وقيل لخالدين وقيل لنصيرا وقيل لفعل مقدر وهو أذكر قرأ الجمهور تقلب بضم التاء وفتح اللم على البناء للمفعول وقرأ عيسى الهمداني وابن أبي إسحاق نقلب بالنون وكسر اللام على البناء للفاعلن وهو الله سبحانه وقرأ عيسى أيضا بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم وقرأ أبو حيوة وأبو جعفر وشيبة بفتح التاء واللام على معنى تتقلب ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية : هو تقلبها تارة على جهة منها وتارة على جهة أخرى ظهرا لبطن أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسود تارة وتحضر أخرى أو تبديل جلودهم بجلود أخرى فحينئذ { يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } والجملة مستأنفة كأنه قيل فما حالهم ؟ فقيل يقولون ويجوز أن يكون المعنى يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا إلخ تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون وهذه الألف في الرسولا والألف التي ستأتي في السبيلا هي الألف التي تقع في الفواصل ويسميها النحاة ألف الإطلاع وقد سبق بيان هذا في أول هذه السورة (4/434)
67 - { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى والمراد بالسادة والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم وفي هذا زجر عن التقليد شديد وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب وقرأ الحسن وابن عامر { سادتنا } بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع وقال مقاتل : هم المطعمون في غزوة بدر والأول أولى ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة { فأضلونا السبيلا } أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسولهن والسبيل هو التوحيد (4/435)
ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا : 68 - { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } أي مثل عذابنا مرتين وقال قتادة : عذاب الدنيا والآخرة وقيل عذاب الكفر وعذاب الإضلال { والعنهم لعنا كبيرا } قرأ الجمهور { كثيرا } بالمثلثة : أي لعنا كثير العدد عظيم القدر شديد الموقع واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس وقرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى بن وثاب وعاصم بالباء الموحدة : أي كبيرا في نفسه شديدا عليهم ثقيل الموقع
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال : [ خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر فقال : يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين ؟ قال : فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت وقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا فأوحى إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ] وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : كان نسا النبي صلى الله عليه و سلم يخرجن لحاجتهن وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين فقيل ذلك للمنافقين فقالوا : إنما نفعله بالإماء فنزلت هذه { يا أيها النبي قل لأزواجك } الآية وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين ويؤذيهن فإذا قيل له قال كنت أحسبها أمة فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا أحدى عينيها { ذلك أدنى أن يعرفن } يقول : ذلك أحرى أن يعرفن وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : أمر الله نساء المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية { يدنين عليهن من جلابيبهن } خرج نساء الأنصار كأن رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة وليس لها معنى فإن المراد تشبيه الأكسية السود بالغربان لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال : كأن على رؤوسهم الطير وأخرج ابن مردويه وعن عائشة قالت : رحم الله نساء الأنصار لما نزلت { يا أيها النبي قل لأزواجك } الآية شققن مروطهن فاعجرن بها وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنما على رؤوسهن الغربان وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب في قوله : { لئن لم ينته المنافقون } يعني المنافقين بأعيانهم { والذين في قلوبهم مرض } شك : يعني المنافقين أيضا وأخرج ابن سعد أيضا عن عبيد بن جبير قال : { الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة } هم المنافقون جميعا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لنغرينك بهم } قال : لنسلطنك عليهم (4/435)
قوله : 69 - { لا تكونوا كالذين آذوا موسى } هو قولهم : إن به أدرة أو برصا أو عيبا وسيأتي بيان ذلك آخر البحث وفيه تأديب للمؤمنين وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله قال مقاتل : وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمدا صلى الله عليه و سلم كما آذى بنو إسرائيل موسى وقد وقع الخلاف فيما أوذي به نبينا محمد صلى الله عليه و سلم حتى نزلت هذه الآيةن فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا قولهم زيد بن محمد وقال أبو وائل : إنه صلى الله عليه و سلم قسم قسما فقال رجل من الأنصار : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله وقيل نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش وما سمع فيها من قالة الناس ومعنى { وكان عند الله وجيها } وكان عند الله عظيما ذا وجاهة والوجيه عند الله العظيم القدر الرفيع المنزلة وقيل في تفسير الوجاهة إنه كلمه تكليما قرأ لاجمهور { وكان عند الله } بالنون على الظرفية المجازية وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة عبد الله بالباء الموحدة من العبودية وما في قوله : { فبرأه الله مما قالوا } هي الموصولة أو المصدرية : أي من الذي قالوه (4/437)
أو من قوله : 70 - { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي في كل أمر من الأمور { وقولوا قولا سديدا } أي قولا صوابا وحقا قال قتادة ومقاتل : يعني قولوا قولا سديدا في شأن زيد وزينب ولا تنسبوا النبي صلى الله عليه و سلم إلى ما لا يحل وقال عكرمة : إن القول السديد لا إله إلا الله وقيل هو الذي يوافق ظاهره باطنه وقيل هو ما أريد به وجه الله دون غيره وقيل هو الإصلاح بين الناس والسديد مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولا سديدا في جميع ما يأتونه ويذرونه فال يخص ذلك نوعا دون نوع وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم فالمقام يفيد هذا المعنى لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولا يخالرف قول أهل الأذى (4/437)
ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال : 71 - { يصلح لكم أعمالكم } أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديهم إليه ويفقهم فيه { ويغفر لكم ذنوبكم } أي يجعلها مكفرة مغفورة { ومن يطع الله ورسوله } في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية { فقد فاز فوزا عظيما } أي ظفر بالخير ظفرا عظيما ونال خير الدنيا والآخرة وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما سبقها (4/437)
ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال : 72 - { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها }
واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا فقال الواحدي : معنى الأمانة ههنا في قوله جميع المفسرين الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب قال القرطبي : والأمانة تعم الجميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال وهو قول الجمهور
وقد اختلف في تفاصيل بعضها فقال ابن مسعود : هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها وروي عنه أنها في كل الفرائض وأشدها أمانة المال وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها وقال أبو الدرداء : غسر الجنابة أمانة وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها وقال ابن عمر : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة استودعكها فلا تلبسها إلا بحق فإن حفظتها حفظتك فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واللسان أمانة والبطن أمانة واليد أمانة والرجل أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة له وقال السدي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله وما أبعد هذا القول وليت شعري ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا فإن كان ذلك لدليل دله على ذلكح فلا دليل وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد وأوهن من بيوت العنكبوت وإن كان تفسير هذا عملا بما تقتضيه اللغة العربية فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أول هذا العالم وإن كان هذا تفسيرا منه بمحض الرأين فليس الكتاب العزيز عرضه لتلاعب آراء الرجال به ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية فهو قرآن عربي كما وصفه الله فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تلتفت إلى غيره وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وكذلك ما جاء عنه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها فخذ هذه كلية تنتفع بها وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا قال الحسن : إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت : وما فيها ؟ فقال لها : إن أحسنت آجرتك وإن أسأت عذبتك فقالت لا قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه وقيل له ذلك فقال : قد تحملتها وروي نحو هذا عن غير حسن ومجاهد قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير وقيل هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها كذا قال بعض المتكلمين مفسرا للقرآن برأيه الزائف فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا قال جماعة من العلماء : ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب فلا بد من تقدير الحياة فيها وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل : أي إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو انت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب : أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل وهذا كقوله : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } وقيل إن عرضنا بمعنى عارضنا : أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها وقيل إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها وهذا أيضا تحريف لا تفسير ومعنى { وحملها الإنسان } أي التزم بحقها وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير ن أو جهول بربه كما قال الحسن وقال الزجاج : معنى حملها خان فيها وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة وقيل معنى حملها : كلفها وألزمها أو صار مستعدا لها بالفطرة أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم (4/437)
واللام في 73 - { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } متعلق بحملها أي حملها الإنسان ليعذب الله العاصي ويثيب المطيع وعلى هذا فجملة { إنه كان ظلوما جهولا } معترضة بين الجملة وغايتها للإيذان بعدم وفائه بما تحمله قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حبان : ليعذبهم بما خانوا من الأمانة وكذبوا من الرسل ونقضوا من الميثاق الذي أقروا به حين أخرجوا من ظهر آدم وقال الحسن وقتادة : هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدوها وقال ابن قتيبة : أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه : أي يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات ولذلك ذكر بلفظ التوبة فدل على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب { وكان الله غفورا رحيما } أي كثرة المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم وقد قيل إن المراد بالأمانة العقل والراجح ما قدمنا عن الجمهور وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع ولا موافقته لما يقتضيه تعريف الأمانة
وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فأذاه من أذاه من بني إسرائيل فقالوا ما تستر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما آفة وإن الله عز و جل أراد أن يبرئ موسى مما قالوا فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا ] وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من حديث أنس وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لا تكونوا كالذين آذوا موسى } قال : ثقال له قومه إنه آدر فخرج ذات يوم ليغتسل فوضع ثيابه على حجر فخرجت الصخرة تشتد بثيابه فخرج موسى يتبعها عريانا حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل فرأوه وليس بآدر فذلك قوله : { فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } وأخرج الحاكم وصححه من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة : أن الله أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت به جبل كذا وكذا فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيب فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه قال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت الشجرة ورفع السرير إلى السماء فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده حب بني إسرائيل له وكان هارون أءلف بهم وألين وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال : ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله ؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم قسما فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فاحمر وجهه ثم قال : رحمة الله على موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الظهر ثم قال : على مكانكم اثبتوا ثم أتى الرجال فقال : إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولا سديدا ثم أتى النساء فقال : إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله وأن تقلن قولا سديدا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس في قوله : { إنا عرضنا الأمانة } الآية قال : الأمانة الفرائض عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } يعني غرا بأمر الله وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتبا الأضداد والحاكم وصححه عنه في الآية قال : عرضت على آدم فقيل خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك وإن عصيت عذبتك قال : قبلتها بما فيها فما كان إلا ما بين العصر إلى الليل من ذلك يوم حتى أصاب الذنب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضا من طريق أخرى نحوه (4/439)
سورة سبأ
هي أربع وخمسون آية
وهي مكية قال القرطبي في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها وهي قوله : { ويرى الذين أوتوا العلم } فقالت فرقة هي مكية وقالت فرقة هي مدنية وسيأتي الخلاف في معنى هذه الآية إن شاء الله وفيمن نزلت وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة سبأ بمكة
قوله : 1 - { الحمد لله } تعريف الحمد مع لام الاختصاص مشعران باختصاص جميع أفراد الحمد بالله سبحانه على ما تقدم تحقيقه في فاتحة الكتاب والموصول في محل جر على النعت أو البدل أو النصب على الاختصاص أو الرفع على تقدير مبتدأ ومعنى { له ما في السموات وما في الأرض } أن جميع ما هو فيها في ملكه وتحت تصرفه يفعل به ما يشاء ويحكم فيه بما يريد وكل نعمة واصلة إلى العبد فهي مما خلقه له ومن به عليه فحمده على ما في السموات والأرض هو حمد على النعم التي أنعم بها على خلقه مما خلقه لهم ولما بين أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختص به بين أن الحمد الأخروي مختص به كذلك فقال : { وله الحمد في الآخرة } وقوله : { له } نتعلق بنفس الحمد أو بما تعلق به خبر الحمد أعني في الآخرة فإنه متعلق بمتعلق عام هو الاستقرار أو نحوه والمعنى : أن له سبحانه على الاختصاص حمد عباده الذين يحمدونه في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة كما في قوله : { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } وقوله : { الحمد لله الذي هدانا لهذا } وقوله : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } وقوله : الحمد لله { الذي أحلنا دار المقامة من فضله } وقوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } فهو سبحانه المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للدنيا { وهو الحكيم } الذي أحكم أمر الدارين { الخبير } بأمر خلقه فيهما قيل والفرق بين الحمدين أن الحمد في الدنيا عبادة وفي الآخرة تلذذ وابتهاج لأنه قد انقطع التكليف فيها (4/442)
ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به علمه من أمور السموات والأرض فقال : 2 - { يعلم ما يلج في الأرض } أي ما يدخل فيها من مطر أو كنز أو دفين { وما يخرج منها } من زرع ونبات وحيوان { وما ينزل من السماء } من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والبركات ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته وكتبه إلى أنبيائه { وما يعرج فيها } من الملائكة وأعمال العباد قرأ الجمهور { ينزل } بفتح الياء وتخفيف التزاي مسندا إلى ما وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسندا إلى الالله سبحانه { وهو الرحيم } بعباده { الغفور } لذنوبهم (4/443)
3 - { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق أو كفار مكة على الخصوص ومعنى لا تأتينا الساعة : أنها لا تأتي بحال من الأحوال إنكارا منهم لوجودها لا لمجرد إتيانها في حال تكلمهم أو في حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد فرد الله عليهم وأمر رسوله أن يقول لهم { قل بلى وربي لتأتينكم } وهذا القسم لتأكيد الإتيان قرأ الجمهور لتأتينكم بالفوقية : أي الساعة وقرأ طلق المعلم بالتحتية على تأويل الساعة باليوم أو الوقت قال طلق : سمعت أشياخنا يقرأون بالياء : يعني التحتية على المعنى كأنه قال ليأتينكم البعث أو أمره كما قال : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } قرأ نافع وابن عامر { علام الغيوب } بالرفع على أنه مبتدأ وخبره لا يعزب أو على تقدير مبتدأ وقرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو بالجر على أنه نعت لربي وقرأ حمزة والكسائي { علام } بالجر مع صيغة المبالغة ومعنى { لا يعزب } لا يغيب عنه ولا يستتر عليه ولا يبعد { عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك } المثقال { ولا أكبر } منه { إلا في كتاب مبين } وهو اللوح المحفوظ والمعنى : إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه فهو مؤكد لنفي العزوب قرأ الجمهور { يعزب } بضم الزاي وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها قال الفراء : والكسر أحب إلي وهما لغتان يقال عزب يعزب بالضم ويعزب بالكسر إذا بعد وغاب وقرأ الجمهور ولا أصغر ولا أكبر بالرفع على الابتداء والخبر إلا في كتاب أو على العطف على مثقال وقرأ قتادة والأعمش بنصبهما عطفا على ذرة أو على أن لا هي لا التبرئة التي يبنى اسمها على الفتح (4/443)
واللام في 4 - { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } للتعليل لقوله لتأتينكم أي إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب والكافرين بالعقاب والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول : أي أولئك الذين آمنوا وعلموا الصالحات { لهم مغفرة } لذنوبهم { ورزق كريم } وهو الجنة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح مع التفضل عليهم من الله سبحانه (4/444)
ثم ذكر فريق الكافرين الذي يعاقبون عند إتيان الساعة فقال : 5 - { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } أي سعوا في إبطال آياتنا المنزلة على الرسل وقدحوا فيها وصدوا الناس عنها ومعنى معاجزين مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا ولا يدركون وذلك باعتقادهم أنهم لا يبعثون يقال عاجزه وأعجزه : إذا غالبه وسبقه قرأ الجمهور { معاجزين } وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد وأبو عمرو { معجزين } أي مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات { أولئك } أي الذين سعوا { لهم عذاب من رجز } الرجز هو العذاب فمن للبيان وقيل الرجز هو أسوأ العذاب وأشده والأول أولى ومن ذلك قوله : { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء } قرأ الجمهور { أليم } بالجر صفة لرجز وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بالرفع صفة لعذاب والأليم الشديد الألم (4/444)
6 - { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق } لما ذكر الذين سعوا في إبطال آيات الله ذكر الذين يؤمنون بها معنى { ويرى الذين أوتوا العلم } أي يعلمون وهم الصحابة وقال مقاتل : هم مؤمنو أهل الكتاب وقيل جميع المسلمين والموصول هو المفعول الأول ليرى والمفعول الثاني الحق والضمير هو ضمير الفصل وبالنصب قرأ الجمهور وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر الضمير والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني وهي لغة تميم فإنهم يعرفون ما بعد ضمير الفصل وزعم الفراء أن الاختيار الرفع وخالفه غيره وقالوا النصب أكثر قيل وقوله : { يرى } معطوف على ليجزي وبه قال الزجاج والفراء : واعترض عليها بأن قوله : { ليجزي } متعلق بقوله : لتأتينكم ولا يقال لتأتينكم الساعة ليى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق والأولى أنه كلام مستأنف لدفع ما يقوله الذين سعوا في الآيات : أي إن ذلك منهم يدل على جهلهلم لأنهم مخالفون لما يعلمه أهل العلم في شأن القرآن { لتهدي إلى صراط مستقيم } معطوف على الحق عطف فعل على اسم لأنه في تأويله كما في قوله : { صافات ويقبضن } أي وقابضات كأنه قيل وهاديا وقيل إنه مستأنف وفاعله ضمير يرجع إلى فاعل أنزل وهو القرآن والصراط الطريق : أي ويهدي إلى طريق { العزيز } في ملكه { الحميد } عند خلقه والمراد أنه يهدي إلى دين الله وهو التوحيد (4/444)
ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من كلام منكري البعث فقال : 7 - { وقال الذين كفروا } أي قال بعض لبعض { هل ندلكم على رجل } يعنون محمدا صلى الله عليه و سلم أي هل نرشدكم إلى رجل { ينبئكم } أي يخبركم بأمر عجيب ونبأ غريب هو أنكم { إذا مزقتم كل ممزق } أي فرقتم كل تفريق وقطعتم كل تقطيع وصرتم بعد موتكم رفاتا وترابا { إنكم لفي خلق جديد } أي تخلقون خلقا جديدا وتبعثون من قبوركم أحياء وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها قال هذا القول بعضهم لبعض استهزاء بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به والتضاحك مما يقوله من ذلك وإذا في موضع نصب بقوله مزقتم قال النحاس : ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد إن لأنه لا يعمل فيما قبلها وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا والتقدير : إذا مزقتم كل ممزق بعثتم أو نبئتم بأنكم تبعثون إذا مزقتم وقال المهدوي : لا يجوز أن يعمل فيه مزقتم لأنه مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف وأصل الممزق خرق الأشياء يقال ثوب مزيق وممزق ومتمزق وممزوق (4/445)
ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم رددوا ما وعدهم به رسول الله صلى الله عليه و سلم من البعث بين أمرين فقالوا : 8 - { أفترى على الله كذبا أم به جنة } أي أهو كاذب فيما قاله أم به جنون بحيث لا يعقل ما يقوله والهمزة في أفترى هي همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل كما تقدم في قوله : { أطلع الغيب } ثم رد عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله فقال : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } أي ليس الأمر كما زعموا بل هم الذين ضلوا عن الفهم وإدراك الحقائق فكفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بما جاءهم به فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة وهم اليوم في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد ثم وبخهم سبحان بما اجترأوا عليه من التكذيب مبينا لهم أن ذلك لم يصدر منهم إلا لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء والأرض وأن من قدر على هذا الخلق العظيم لا يعجزه أن يبعث من مخلوقاته ما هو دون ذلك ويعيده إلى ما كان عليه من الذات والصفات (4/445)
ومعنى 9 - { إلى ما بين أيديهم وما خلفهم } أنهم إذا نظروا رأوا السماء خلفهم وقدامهم وكذلك إذا نظروا في الأرض رأوها خلفهم وقدامهم فالسماء والأرض محيطتان بهم فهو القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم لرسوله وإنكارهم للبعث فهذه الآية اشتملت على أمرين : أحدهما أن الخلق الذي خلقه الله من السماء والأرض يدل على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث كما في قوله : { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } والأمر الآخر : التهديد لهم بأن من خلق السماء والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما قادر على تعجيل العذاب لهم { إن نشأ نخسف بهم الأرض } كما خسف بقارون { أو نسقط عليهم كسفا } أي قطعا { من السماء } كما أسقطها على أصحاب الأيكة فكيف يأمنون ذلك قرأ الجمهور { إن نشأ } بنون العظمة وكذا { نخسف } { أو نسقط } وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في الأفعال الثلاثة أي إن يشأ الله وقرأ الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء في { نخسف بهم } قال أبو علي الفارسي : وذلك غير جائز لأن الفاء من بطان الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا بخلاف الباء وقرأ الجمهور { كسفا } بسكون السين وقرأ حفص والسلمي بفتحها { إن في ذلك } المذكور من خلق السماء والأرض { لآية } واضحة ودلالة بينة { لكل عبد منيب } أي راجع إلى ربه بالتوبة والإخلاص وخص المنيب لأنه المنتفع بالتفكر
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { يعلم ما يلج في الأرض } قال : من المطر { وما يخرج منها } قال : من النبات { وما ينزل من السماء } قال : من الملائكة { وما يعرج فيها } قال : الملائكة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { من رجز أليم } قال : الرجز هو العذاب الأليم الموجع وفي قوله : { ويرى الذين أوتوا العلم } قال : أصحاب محمد وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني المؤمنين من أهل الكتاب وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل } قال : قال ذلك مشركو قريش { إذا مزقتم كل ممزق } يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما وتقطعكم السباع والطير { إنكم لفي خلق جديد } إنكم ستحيون وتبعثون قالوا ذلك تكذيبا به { أفترى على الله كذبا أم به جنة } قال : قالوا إما أن يكون يكذب على الله وإما أن يكون مجنونا { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } قالوا : إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك وما بين يديك ومن خلفك رأيت السماء والأرض { إن نشأ نخسف بهم الأرض } كما خسفنا بمن كان قبلهم { أو نسقط عليهم كسفا من السماء } أي قطعا من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل وكل خلقه له جند { إن في ذلك لآية لكل عبد منيب } قال : تائب مقبل إلى الله (4/446)
ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في داود { فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } وقال في سليمان { وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } فقال : 10 - { ولقد آتينا داود منا فضلا } أي آتيناه بسبب إنابته فضلا منا على سائر الأنبياء واختلف في هذا الفضل على أقوال : فقيل النبوة وقيل الزبور وقيل العلم وقيل القوة كما في قوله : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } وقيل تسخير الجبال كما في قوله : { يا جبال أوبي معه } وقيل التوبة وقيل الحكم بالعدل كما في قوله : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } وقيل هو إلانة الحديد كما في قوله : { وألنا له الحديد } وقيل حسن الصوت والأولى أن يقال : إن هذا المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله : { يا جبال } إلى آخر الآية وجملة { يا جبال أوبي معه } مقدرة بالقول : أي قلنا يا جبال : والتأويب : التسبيح كما في قوله : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن } قال أبو ميسرة : هو التسبيح بلسان الحبشة وكان إذا سبح داود سبحت معه ومعنى تسبيح الجبال : إن الله سجعلها قادرة على ذلك أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود وقيل معنى أوبي : سيري معه من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ومنه قول ابن مقبل :
( لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح )
قرأ الجمهور { أوبي } بفتح الهمزة وتشديد الواو على صيغة الأمر من التأويب : وهو الترجيع أو التسبيح أو السير أو النوح وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق { أوبي } بضم الهمزة أمرا من آب يؤوب إذا رجع : أي ارجعي معه قرأ الجمهور { والطير } بالنصب عطفا على { فضلا } على معنى : وسخرنا له الطير لأنه إيتاءه إياها تسخيرها له أو عطفا على محل { يا جبال } لأنه منصوب تقديرا إذ المعنى : نادينا الجبال والطير وقال سيبويه وأبو عمرو بن العلاء : انتصابه بفعل مضمر على معنى وسخرنا له الطير وقال الزجاج والنحاس : يجوز أن يكون مفعولا معه كما تقول : استوى الماء والخشبة وقال الكسائي إنه معطوف على فضلا لكن على تقدير مضاف محذوف أي آتيناه فضلا وتسبيح الطير وقرأ السلمي والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك بالرفع عطفا علىلفظ الجبال أو على المضمر في أوبي لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه { وألنا له الحديد } معطوف على آتيناه : أي جعلناه لينا ليعمل به ما شاء قال الحسن : صار الحديد كالشمع يعمله من غير نار وقال السدي : كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة وكذا قال مقاتل وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم (4/447)
11 - { أن اعمل سابغات } في أن هذه وجهان : أحدهما أنها مصدرية على حذف حرف الجر : أي بأن اعمل والثاني أنها المفسرة لقوله : { وألنا } وفيه نظر لأنها لا تكون إلا بعد القول أو ما هو في معناه وقدر بعضهم فعلا فيه معنى القول فقال التقدير وأمرناه أن اعمل وقوله : { سابغات } صفة لموصوف محذوف : أي دروعا سابغات والسابغات الكوامل الواسعات يقال سبغ الدرع والثوب وغيرهما : إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه فضلة { وقدر في السرد } السرد نسج الدروع ويقال السرد والزرد كما يقال السراد والزراد لصانع الدروع والسرد أيضا الخرز يقال سرد يسرد : إذا خرز ومنه سرد الكلام : إذا جاء به متواليا ومن حديث عائشة لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يسرد الحديث كسردكم قال سيبويه : ومنه سريد : أي جري ومعنى سرد الدروع إحكامها وأن يكون نظام حلقها ولاء غير مختلف ومنه قول لبيد :
( سرد الدروع مضاعفا أسراده ... لينال طول العيش غير مروم )
وقول أبي ذؤيب الهذلي :
( وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود إذ صنع السوابغ تبع )
قال قتادة : كانت الدروع قبل داود ثقالا فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة : أي قدر ما تأخذ من هذهين المعنيين بقسطه فلا تقصد الحصانة فيثقل ولا الخفة فيزيل المنعة وقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة : أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا يقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فتثقل على لابسها وقيل إن التقدير هو في المسمار : أي لا تجعل مسمار الدرع دقيقا فيقلق ولا غليظا فيفصم الحلق ثم خاطب داود وأهله فقال : { واعملوا صالحا } أي عملا صالحا كما في قوله : { اعملوا آل داود شكرا } ثم علل الأمر بالعمل الصالح بقوله : { إني بما تعملون بصير } أي لا يخفى علي شيء من ذلك (4/448)
12 - { ولسليمان الريح } قرأ الجمهور { الريح } بالنصب على تقدير : وسخرنا لسليمان الريح كما قال الزجاج وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء والخبر : أي ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة وقرأ الجمهور { الريح } وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن إلياس { الرياح } بالجمع { غدوها شهر ورواحها شهر } أي تسير بالغداة مسيرة شهر وتسير بالعشي كك والجملة إما مستأنفة لبيان تسخير الريح أو في محل نصب على الحال والمعنى : أنها كانت تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر { وأسلنا له عين القطر } القطر : النحاس الذائب قال الواحدي : قال المفسرون : أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان والمعنى : أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود وقال قتادة : أسأل الله له عينا يستعملها فيما يريد { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه } من مبتدأ و يعمل خبره و من الجن متعلق به أو بمحذوف على أنه حال أو من يعمل معطوف على الريح ومن الجن حال والمعنى : وسخرنا له من يعمل بين يديه حال كونه من الجن بإذن ربه : أي بأمره والإذن مصدر مضاف إلى فاعله والجار والمجرور في محل نصب على الحال : أي مسخرا أو ميسرا بأمر ربه { ومن يزغ منهم عن أمرنا } أي ومن يعدل من الجن عن أمرنا الذي أمرناه به : وهو طاعة سليمان { نذقه من عذاب السعير } قال أكثر المفسرين : وذكل في الآخرة وقيل في الدنيا قال السدي : وكل الله بالجن ملكا بيده سوط من النار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك أمر السوط ضربة فتحرقه (4/449)
ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجن لسليمان فقال : 13 - { يعملون له ما يشاء } و من في قوله : { من محاريب } للبيان والمحاريب في اللغة كل موضع مرتفع وهي الأبنية الرفيعة والقصور العالية قال المبرد : لا يكون المحارب إلا أن يرتقى إليه بدرج ومنه قيل للذي يصلى فيه محراب لأنه يرفع ويعظم وقال مجاهد : المحاريب دون القصور وقال أبو عبيدة : المحراب أشرف بيوت الدار ومنه قول الشاعر :
( وماذا عليه إن ذكرت أوانسا ... كغزلان رمل في محاريب أقيال )
وقال الضحاك : المراد بالمحاريب هنا المساجد والتماثيل جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء : أي صورته بصورته من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك قيل كانت هى التماثيل صور الأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء وكانوا يصورونها في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا وقيل هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحا في شرع سليمان ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد صلى الله عليه و سلم والجفان جمع جنفة وهي القصعة الكبيرة والجواب جمع جابية وهي حفيرة كالحوض وقيل هي الحوض الكبير يجبي الماء : أي يجمعه قال الواحدي : قال المفسرون : يعني قصاعا في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها قال النحاس : الأولى إثبات الياء في الجوابي ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا تغيرها عن حالها فلما كان يقال جواب ودخلت الألف واللام أقر على حاله فحذف الياء قال الكسائي : يقال جبوت الماء وجبيته في الحوض : أي جمعته والجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل وقال النحاس : والجابية القدر العظيمة والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء : أي يجمع ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد : جمعته في الكساء { وقدور راسيات } قال قتادة : هي قدور النحاس تكون بفارس وقال الضحاك : هي قدور تنحت من الجبال الصم عملتها له الشياطين ومعنى راسيات : ثابتات لا تحمل ولا تحرك لعظمها ثم أمر سبحانه بالعمل الصالح على العموم : أي سليمان وأهله فقال : { اعملوا آل داود شكرا } أي وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له على ما آتاكم أو اعملوا عملا شكرا على أنه صفة مصدر محذوف أو عملوا للشكر على أنه مفعول له أو حال : أي شاكرين أو مفعول به وسميت الطاعة شكرا لأنها من جملة أنواعه أو منصوب على المصدرية بفعل مقدر من جنسه : أي اشكروا شكرا ثم بين بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباد ليسوا بالكثير فقال : { وقليل من عبادي الشكور } أي العامل بطاعتي الشاكر لنعمتي قليل وارتفاع قليل على أنه خبر مقدم ومن عبادي صفة له والشكور مبتدأ (4/450)
14 - { فلما قضينا عليه الموت } أي حكمنا عليه به وألزمناه إياه { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } يعني الأرضة وقرئ { الأرض } بفتح الراء : أي الأكل يقال أرضت الخشبة أرضا : إذا أكلتها الأرضة ومعنى { تأكل منسأته } : تأكل عصاه التي كان متكئا عليها والمنسأة : العصا بلغة الحبشة أو هي مأخوذة من نسأت الغنم : أي زجرتها قال الزجاج : المنسأة التي ينسأ بها : أي يطرد قرأ الجمهور { منسأته } بهمزة مفتوحة وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة وقرأ نافع وأبو عمرو بألف محضة قال المبرد : بعض العرب يبدل من همزتها ألفا وأنشد :
( إذا دببت على المنساة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل )
ومثل قراءة الجمهور قول الشاعر :
( ضربنا بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا )
ومثله :
( أمن أجل حبل لا أباك ضربته ... بمنسأة قد جر حبلك أحبلا )
ومما يدل على قراءة ابن ذكوان قول طرفة :
( أمون كألواح الأران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد )
{ فلما خر } أي سقط { تبينت الجن } أي ظهر لهم من تبينت الشيء إذا علمته : أي علمت الجن { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أي لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب المهين في العمل الذي أمرهم به والطاعة له وهو إذ ذاك ميت قال مقاتل : العذاب المهين : الشقاء والنصب في العمل قال الواحدي : قال المفسرون : كانت الناس في زمان سليمان يقولون إن الجن تعلم الغيب فلما مكث سليمان قائما على عصاه حولا ميتا والجن تعمل تلك الأعمال الشاعقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتا فعلموا بموته وعلم الناس أن الجن لا تعلم الغيب ويجوز أن يكون تبينت الجن من تبين الشيء ولا من تبينت الشيء : أي ظهر وتجلى وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجن مع تقدير محذوف : أي ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أو ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب إلخ قرأ الجمهور تبينت على البناء للفاعل مسندا إلى الجن وقرأ ابن عباس ويعقوب تبينت على البناء للمفعول ومعنى القراءتين يعرف مما قدمنا
وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أوبي معه } قال : سبحي معه وروي مثله عن أبي ميسرة ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وألنا له الحديد } قال : كالعجين وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضا في قوله : { وقدر في السرد } قال : حلق الحديد وأخرج عبد الرزاق والحاكم عنه أيضا { وقدر في السرد } قال : لا تدق المسامير وتوسع الحلق فتسلس ولا تغلظ المسامير وتضيق الحلق فتقصم واجعله قدرا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضا في قوله { وأسلنا له عين القطر } قال النحاس وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي سليمان وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : القطر الصفر وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله : { وتماثيل } قال : اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال : يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فنفخ الله فيها الروح فكانت تخدمه وكان اسفنديار من بقاياهم فقيل لداود وسليمان
{ اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { كالجواب } قال : كالجوبة من الأرض { وقدور راسيات } قال : أثافيها منها وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وقليل من عبادي الشكور } يقول : قليل من عبادي الموحدين توحيدهم وأخرج هؤلاء عنه أيضا قال : لبث سليمان على عصاه حولا بعد ما مات ثم خر على رأس الحول فأخذت الجن عصا مثل عصاه ودابة مثل دابته فأرسلوها عليها فأكلتها في سنة وكان ابن عباس يقرأ { فلما خر تبينت الجن } الآية قال سفيان : وفي قراءة ابن مسعود وهم يدأبون له حولا وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك ؟ فتقول كذا وكذا فيقول لما أنت ؟ فتقول لكذا وكذا فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت ] وصلى ذات يوم فإذا شجرة نابتة بين يديه فقال لها ما اسمك ؟ قالت الخروب ؟ قال لأي شيء أنت ؟ قال لخراب هذا البيت فقال سليمان : اللهم عم عن الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن
لا يعلمون الغيب فهيأ عصا فتوكأ عليها وقبضه الله وهو متكئ عليها فمكث حولا ميتا والجن تعمل فأكلتها الأرضة فسقطت فعلموا عند ذلك بموته فتبينت الإنس { أن } الجن { لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } وكان ابن عباس يقرأها كذلك فشكرت الجن للأرضة فأينما كانت يأتوا لها بالماء وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفا وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعا [ يقول الله عز و جل : إني تفضلت على عبادي بثلاث : ألقيت الدابة على الحبة ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب والفضة وألقيت النتن على الجسد ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه واستلبت الحزن ولولا ذلك لذهب النسل ] (4/451)
لما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقبه بحال بعض الجاحدين لها فقال : 15 - { لقد كان لسبإ } المراد بسبأ القبيلة التي هي من أولاد سبأ وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود قرأ الجمهور { لسبإ } بالجر والتنوين على أنه اسم حي : أي الحي الذين هم أولاد سبأ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { لسبإ } ممنوع الصرف بتأويل القبيلة واختار هذه القراءة أبو عبيد ويقوي القراءة الأولى قوله : { في مساكنهم } ولو كان على تأويل القبيلة لقال في مساكنها فما ورد على القراءة الأولى قول الشاعر :
( الواردون وتيم في ذرى سبإ ... قد عض أعناقها جلد الجواميس )
ومما ورد على القراءة الثانية قول الشاعر :
( من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون مسيله العرما )
وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري لسبأ بإسكان الهمزة وقرئ بقلبها ألفا وقرأ الجمهور { في مساكنهم } على الجمع واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ووجه الاختيار أنها كانت لهم منازل كثيرة ومساكن متعددة وقرأ حمزة وحفص بالإفراد مع فتح الكاف وقرأ الكسائي بالإفراد مع كسرها وبهذه القراءة قرأ يحيى بن وثاب والأعمش ووجه الإفراد أنه مصدر يشمل القليل والكثير أو اسم مكان وأريد به معنى الجمع وهذه المساكن التي كانت لهم هي التي يقال لها الآن مأرب وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال ومعنى قوله : { آية } أي علامة دالة على كمال قدرة الله وبديع صنعه ثم بين هذه الآية فقال : { جنتان } وارتفاعهما على البدل من آية قاله الفراء أو على أنهما خبر مبتدأ محذوف قاله الزجاج أو على أنهما مبتدأ وخبره عن يمين وشمال واختار هذا الوجه ابن عطية وفيه أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالنصب على أنهما خبر ثان واسمها آية وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله قد أحاطتا به من جهتيه وكانت مساكنهم في الوادي والآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها الكتل فيمتلئ من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها وقال عبد الرحمن بن زيد : إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غير ذلك من الهوام وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم قال القشيري : ولم يرد جنتين إثنتين بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة { كلوا من رزق ربكم } أي قيل لهم ذلك ولم يكن ثم أمر ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم وقيل إنها قالت لهم الملائكة والمراد بالرزق هو ثمار الجنتين وقيل إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم { واشكروا له } على ما رزقكم من هذه النعم واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه وجملة { بلدة طيبة ورب غفور } مستأنفة لبيان موجب الشكر والمعنى : هذه بلدة طيبة لكثرة أشجارها وطيب ثمارها وقيل معنى كونها طيبة : أنها غير سبخة وقيل ليس فيها هوام وقال مجاهد : هي صنعاء ومعنى { ورب غفور } أن المنعم عليهم رب غفور لذنوبهم قال مقاتل : المعنى وربكم إن شكرتم فيها رزقكم رب غفور للذنوب وقيل إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام وقرأ ورش بنصب بلدة ورب على المدح أو على تقدير اسكنوا بلدة واشكروا ربا (4/454)
ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم فقال : 16 - { فأعرضوا } عن الشكر وكفروا بالله وكذبوا أنبياءهم قال السدي : بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم وكذا قال وهب ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم فقال : { فأرسلنا عليهم سيل العرم } وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن فردموا ردما بين جبلين وحبسوا الماء وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض وكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الباب الثاني ثم من الثالث فأخصبوا وكثرت أموالهم فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذا ففتقت ذلك الردم حتى انتقض فدخل الماء جنتهم فغرقها ودفن السيل بيوتهم فهذا هو سيل العرم وهو حمع عرمة : هي السكر التي تحبس الماء وكذا قال قتادة وغيره وقال السدي : العرم اسم للسد والمعنى : أرسلنا عليهم سيل السد العرم وقال عطاء : العرم اسم الوادي وقال الزجاج : العرم اسم الجرذ الذي نقب السد عليهم وهو الذي يقال له الخلد : فنسب السيل إليه لكونه سبب جريانه قال ابن الأعرابي : العرم من أسماء الفأر وقال مجاهد وابن أبي نجيح : العرم ماء أحمر أرسله الله في السد فشقه وهدمه وقيل إن العرم اسم المطر الشديد وقيل اسم للسيل الشديد والعرامة في الأصل : الشدة والشراسة والصعوبة : يقال عرم فلان : إذا تشدد وتصعب وروي عن ابن الأعرابي أنه قال : العرم السيل الذي لا يطاق وقال المبرد : العرم كل شيء حاجز بين شيئين { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } أي أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة والأنواع الحسنة وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما ولهذا قال : { ذواتي أكل خمط } قرأ الجمهور بتنوين أكل وعدم إضافته إلى خمط وقرأ أبو عمرو بالإضافة قال الخليل : الخمط الأراك وكذا قال كثير من المفسرين وقال أبو عبيدة : الخمط كل شجرة مرة ذات شوك وقال الزجاج : كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله وقال المبرد : كل شيء تغير إلى ما لا يشتهي يقال له خمط ومنه اللبن إذا تغير وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو والخمط نعت لأكل أو بدل منه لأن الأكل هو الخمط بعينه وقال الأخفش : الإضافة أحسن في كلام العرب : مثل ثوب خز ودار آجر والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ومن معه قال الجوهري : الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل وتسمية البدل جنتين للمشاكلة أو التهكم بهم والأثل هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره قال : إلا أنه أعظم من الطرفاء طولا الواحدة أثلة والجمع أثلات وقال الحسن : الأثل الخشب وقال أبو عبيدة : هو شجر النطار والأول أولى ولا ثمر للأثل والسدر شجر معروف قال الفراء : هو السمر قال الأزهري : السدر من الشجر سدران : بري لا ينتفع به ولا يصلح للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل وهو الذي يسمى الضال والثاني سدر ينبت على الماء وثمرة النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب قيل ووصف السدر بالقلة لأن منه نوعا يطيب أكله وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري قال قتادة : بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر ويحتمل أن يرجع قوله { قليل } إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر (4/455)
والإشارة بقوله : 17 - { ذلك } إلى ما تقدم من التبديل أو إلى مصدر { جزيناهم } والباء في { بما كفروا } للسببية : أي ذلك التبديل أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها { وهل نجازي إلا الكفور } أي وهل نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة ونزول النقمة إلا الشديد الكفر المتبالغ فيه قرأ الجمهور { نجازي } بضم التحتية وفتح الزاي على البناء للمفعول وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص بالنون وكسر الزاي على البناء للفاعل وهو الله سبحانه والكفور على القراءة الأولى مرفوع وعلى القراءة الثانية منصوب واختار القراءة الثانية أبو عبيد وأبو حاتم قالا : لأن قبله { جزيناهم } وظاهر الآية أنه لا يجازي إلا الكفور مع كون أه المعاصي يجازون وقد قال قوم : إن معنى الآية أنه لا يجازي هذا الجزاء وهو الاصطلام والإهلاك إلا من كفر قال مجاهد : إن المؤمن يكفر عن سيئاته والكافر يجازى بكل عمل عمله وقال طاووس : هو المناقشة في الحساب وأما المؤمن فلا يناقش وقال الحسن : إن المعنى إنه يجازي الكافر مثلا بمثل ورجح هذا الجواب النحاس (4/456)
18 - { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } هذا معطوف على قوله : { لقد كان لسبإ } أي وكان من قصتهم : أنا جعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها بالماء والشجر وهي قرى الشام { قرى ظاهرة } أي متواصلة وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم قال الحسن : إن هذه القرى هي بين اليمن والشامن قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية وقيل هي بين المدينة والشام وقال المبرد : القرى الظاهرة هي المعروفة وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى فكانت قرى ظكاهرة : أي معروفة يقال هذا أمر ظاهر : أي معروف { وقدرنا فيها السير } أي جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا معينا واحدا وذلك نصف يوم كما قال المفسرون قال الفراء : أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء ولخوف الطريق فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل نفسه المشقة بل ينزل أينما أراد والحاصل أن الله سبحانه عدد عليهم النعم ثم ذكر ما نزل بهم من النقم ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم وبين ما يريدون السفر إليه ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي قوله : { سيروا فيها } هو على تقدير القول : أي وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة فهو أمر تمكين : أي ومكناهم من السير فيها متى شاءوا { ليالي وأياما آمنين } مما يخافونه وانتصاب ليالي وأياما على الظرفية وانتصاب آمنين على الحال قال قتادة : كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظمأ كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه (4/457)
ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة بل طلبوا التعب والكد 19 - { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } وكان هذا القول منهم بطرا وطغيانا لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العافية فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن والمفاوز والقفار والبراري المتباعدة الأقطار فأجابهم الله إلى ذالك وخرب تلك القرى المتواصلة وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا : { ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها } الآية مكان المن والسلوى وكقول النضر بن الحارث { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية قرأ الجمهور { ربنا } بالنصب على أنه منادى مضاف وقرأوا أيضا { باعد } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر { بعد } بتشديد العين وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب { ربنا } بالرفع { باعد } بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر والمعنى : لقد باعد ربنا بين أسفارنا ورونيت هذه القراءة عن ابن عباس واختارها أبو حاتم قال لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب ال كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطرا وأشرا وكفرا للنعمة وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر ربنا بالرفع بعد بفتح العين مشددة فيكون معنى هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء فيكون هذا من جملة بطرهم وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله : { لقد تقطع بينكم } وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف والتقدير : بعد سيرنا بين أسفارنا قال النحاس : وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها ولكن أخبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرروا ولهذا قال سبحانه : { وظلموا أنفسهم } حيث كفروا بالله وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته { فجعلناهم أحاديث } يتحدث الناس بأخبارهم والمعنى : جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجبا من فعلهم واعتبارا بحالهم وعاقبتهم { ومزقناهم كل ممزق } أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث وذلك أن الله سبحانه لما أغر مكانهم وأذهب جنتهم تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال فتقول : تفرقوا أيدي سبا قال الشعبي : فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة { إن في ذلك لآيات } أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم لآيات بينات ودلالات واضحات { لكل صبار شكور } أي لكل من هو كثير الصبر والشكر وخص الصبار الشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات (4/457)
20 - { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } قرأ الجمهور { صدق } بالتخفيف ورفع { إبليس } ونصب { ظنه } قال الزجاج : وهو على المصدر : أي صدق عليهم ظنا ظنه أو صدق في ظنه أو على الظرف والمعنى : أنه ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك ويجوز أن يكون منتصبا على المفعولية أو بإسقاط الخافض وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم { صدق } بالتشديد و { ظنه } بالنصب على أنه مفعول به قال أبو علي الفارسي : أي صدق الظن الذي ظنه قال مجاهد : ظن ظنا فصدق ظنه فكان كما ظن وقرأ أبو جعفر وأبو الهجاء والزهري وزيد بن علي صدق على أن يكون ظنه بدل اشمتمال من إبليس قيل وهذه الآية خاصة بأهل سبأ والمعنى : أنهم غيروا وبدلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم وقيل هي عامة : أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله قاله مجاهد والحسن قال الكلبي : إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه فصدق ظنه { فاتبعوه } قال الحسن : ما ضربهم بسوط ولا بعضا وإنما ظن ظنا بوسوسته وانتصاب { إلا فريقا من المؤمنين } على الاستثناء وفيه وجهان : أحدهما أن يراد به بعض المؤمنين لأن كثيرا من المؤمنين يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي ولم يسلم منه إلا فريق وهم الذين قال فيهم { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقيل المراد بفريقا من المؤمنين : المؤمنون كلهم على أن تكون من بيانية (4/459)
21 - { وما كان له عليهم من سلطان } أي ما كان له تسلط عليهم : أي لم يقهرهم على الكفر وإنما كان منه الدعاء والوسوسة والتزيين وقيل السلطان والقوة وقيل الحجة والاستثناء في قوله : { إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } منقطع والمعنى : لا سلطان له عليهم ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم وقيل هو متصل مفرغ من أعم العام : أي ما كان له عليهم تسلط بحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا ليتميز من يؤمن ومن لا يؤمن لأنه سبحانه قد علم ذلك علما أزليا وقال الفراء : المعنى إلا لنعلم ذلك عندكم وقيل إلا لتعلموا أنتم وقيل ليعلم أولياؤنا والملائكة وقال الزهري إلا ليعلم على البناء للمفعول والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار كما ذكرنا { وربك على كل شيء حفيظ } أي محافظ عليه قال مقاتل : علم كل شيء من الإيمان والشك
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال [ أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم وأمرني فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردني فقال : ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل يا رسول الله وما سبأ : أرض أم امرأة ؟ قال : ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وغسان وعاملة وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار فقال رجل : يا رسول الله وما أنمار ؟ قال : الذي منهم خثعم وبجيلة ] وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبراني وابن عدي والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه وأخرج ابن جرير و ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { سيل العرم } قال : الشديد وأخرج ابن جرير عنه قال : { سيل العرم } واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة وأخرج ابن جرير و ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { أكل خمط } قال : الأراك وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : { وهل نجازي إلا الكفور } قال : تلك المناقشة وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عنه أيضا في قوله : { وجعلنا بينهم } يعني بين مساكنهم { وبين القرى التي باركنا فيها } يعني الأرض المقدسة { قرى ظاهرة } يعني عامرة مخصبة { وقدرنا فيها السير } يعني فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام { سيروا فيها } إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدسة وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } قال إبليس : إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقا ضعيفا وإني خلقت من نار والنار تحرق كل شيء لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال فصدق ظنه عليهم { فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } قال هم المؤمنون كلهم (4/459)
قوله : 22 - { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } هذا أمر للنبي صلى الله عليه و سلم بأن يقول لكفار قريش أو للكفار على الإطلاق هذا القول ومفعولا زعمتم محذوفان : أي زعمتموهم آلهة لدلالة السياق عليهما قال مقاتل : يقول ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سنين الجوع ثم أجاب سبحانه عنهم فقال : { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } أي ليس لهم قدرة على خير ولا شر ولا على جلب نفع ولا دفع ضرر في أمر من الأمور وذكر السموات والأرض لقصد التعميم لكونهما ظرفا للموجودات الخارجية { وما لهم فيهما من شرك } أي ليس للآلهة في السموات والأرض مشاركة لا بالخلق ولا بالملك ولا بالتصرف { وما له منهم من ظهير } أي وما لله سبحانه من تلك الآلهة من معين يعينه على شيء من أمر السوات والأرض ومن فيهما (4/461)
23 - { ولا تنفع الشفاعة عنده } أي شفاعة من يشفع عنده من الملائكة وغيرهم وقوله : { إلا لمن أذن له } استثناء مفرغ من أعم الأحوال : أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم والعمل ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة لا للكافرين ويجوز أن يكون المعنى : لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له : أي لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم لا من عداهم من غير المستحقين لها واللام في لمن يجوز أن تتعلق بنفس الشفاعة قال أبو البقاء : كما تقول شفعت له ويجوز أن تتعلق بتنفع والأولى أنها متعلقة بالمحذوف كما ذكرنا قيل والمراد بقوله : { لا تنفع الشفاعة } أنها لا توجد أصلا إلا لمن أذن له وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحا بنفي ما هو غرضهم من وقوعها قرأ الجمهور { أذن } بفتح الهمزة : أي أذن له الله سبحانه لأن اسمه سبحجانه مذكور قبل هذا وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضمها على البناء للمفعول والآذن هو الله سبحانه ومثل هذه الآية قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } : وقوله : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ثم أخبر سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع فهم فقال : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } قرأ الجمهور { فزع } مبنيا للمفعول والفاعل هو الله والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور وقرأ ابن عامر { فزع } مبينا للفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه وكلا القراءتين بتشديد الزاي وفعل معناه السلب فالتفزيع إزالة الفزع وقرأ الحسن مثل قراءة الجمهور إلا أنه خفف الزاي قال قطرب : معنى فزع عن قلوبهم أخرج ما فيها من الفزع وهو الخوف وقال مجاهد : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة والمعنى : أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من الله من الملائكة والأنبياء والأصنام إلا أن الله سبحانه يأذن للملائكة والأنبياء ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها وهم على غاية الفزع من الله كما قال تعالى : { وهم من خشيته مشفقون } فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل والخوف الشديد من أن يحدث شيء من أقدار الله فإذا سري عليهم { قالوا } للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن { ماذا قال ربكم } أي ماذا أمر به فيقولون لهم قال : القول { الحق } وهو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم { وهو العلي الكبير } فله أن يحكم في عباده بما يشاء ويفعل ما يريد وقيل هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب والمعنى : لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله دون الجمادات والشياطين وقيل إن الذين يقولون : ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم والذين أجابوهم : هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء وقال الحسن وابن زيد ومجاهد : معنى الآية : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا الحق فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار وقرأ ابن عمر وقتادة : فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة من الفراغ والمعنى : فرغ الله قلوبهم : أي كشف عنها الخوف وقرأ ابن مسعود افرنقع بعد الفاء راء مهملة ثم نون ثم قاف ثم عين مهملة من الافرنقاع وهو التفرق (4/461)
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكت المشركين ويوبخهم فقال : 24 - { قل من يرزقكم من السموات والأرض } أي من ينعم عليكم بهذه الأرزاق التي تتمتعون بها فإن آلهتكم لا يملكون مثقال ذرة والرزق من السماء هوالمطر وما ينتفع به منها من الشمس والقمر والنجوم والرزق من الأرض هو النبات والمعادن ونحو ذلك ولما كان الكفار لا يقدرون على جواب هذا الاستفهام ولم تقبل عقولهم نسبة هذا الرزق إلى آلهتهم وربما يتوقفون في نسبته إلى الله مخافة أن تقوم عليهم الحجة فأمر الله رسوله بأن يجيب علن ذلك فقال : { قل الله } أي هو الذي يرزقكم من السموات والأرض ثم أمره سبحانه أن يخبرهم بأنهم على ضلالة لكن على وجه الإنصاف في الحجة بعد ما سبق تقرير من هو على الهدى ومن هو على الضلالة فقال : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } والمعنى : أن أحد الفريقين من الذين يوحدون الله الخالق الرازق ويخصونه بالعبادة والذين يعبدون الجمادات التي لا تقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلالة ومعلوم لكل عاقل أن من عبد الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر هو الذي على الهدى ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر هو الذي على الضلالة فقد تضمن هذا الكالم بيان فريق الهدى وهم المسلمون وفريق الضلالة وهم المشركون على وجه أبلغ من التصريح قال المبرد : ومعنى هذا الكلام معنى قول المتبصر في الحجة لصاحبه : أحدنا كاذب وقد عرف أنه الصادق المصيب وصاحبه الكاذب المخطئ قال : و أو عند البصريين على بابها وليست للشك لكنها على ما تستعمله العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى وقال أبو عبيدة والفراء : هي بمعنى الواو وتقديره : وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين ومنه قول جرير :
( أثعلبة الفوارس أو رباحا ... عدلت بهم طهية والربابا )
أي ثعلبة ورباحا وكذا قول الآخر :
( فلما اشتد بأس الحرب فينا ... تأملنا رباحا أو رزاما )
أي ورزاما وقوله : أو إياكم معطوف على اسم إن وخبرها هو المذكور وحذف خبر الثاني للدلالة عليه : أي إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ويجوز العكس : وهو كون المذكور خبر الثاني وخبر الأول محذوفا كما تقدم في قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } (4/463)
ثم أردف سبحانه هذا الكلام المنصف بكلام أبلغ منه في الإنصاف وأبعد من الجدل والمشاغبة فقال : 25 - { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } أي إنما أدعوكم إلى ما فيه خير لكم ونفع ولا ينالني من كفركم وترككم لإجابتي ضرر وهذا كقوله سبحانه : { لكم دينكم ولي دين } وفي إسناد الجرم إلى المسلمين ونسبة مطلق العمل إلى المخاطبين مع كون أعمال المسلمين من البر الخالص والطاعة المحضة وأعمال الكفار من المعصية البينة والإثم الواضح من الإنصاف ما لا يقادر قدره والمقصود : المهادنة والمتاركة وقد نسخت هذه الآية وأمثالها بآية السيف (4/464)
ثم أمره سبحانه بأن يهددهم بعذاب الآخرة لكن على وجه لا تصريح فيه فقال : 26 - { قل يجمع بيننا ربنا } أي يوم القيامة { ثم يفتح بيننا بالحق } أي يحكم ويقضي بيننا بالحق فيثيب المطيع ويعاقب العاصي { وهو الفتاح } أي الحاكم بالحق القاضي بالصواب { العليم } بما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح وهذه أيضا منسوخة بآية السيف (4/464)
ثم أمره سبحانه أن يورد عليهم حجة أخرى يظهر بها ما هم عليه من الخطأ فقال : 27 - { قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } أي أروني الذين ألحقتموهم بالله شركاء هو المفعول الثالث لأن الفعل تعدى بالهمزة إلى ثلاثة الأول الياء في أروني والثاني الموصول والثالث شركاء وعائد الموصول محذوف : أي ألحقتموهم ويجوز أن تكون هي البصرية وتعدى الفعل بالهمزة إلى إثنين : الأول الياء والثاني الموصول ويكون شركاء منتصبا على الحال ثم رد عليهم ما يدعونه من الشركاء وأبطل ذلك فقال : { كلا بل هو الله العزيز الحكيم } أي ارتدعوا عن دعوى المشاركة بل المنفرد بالإلهية هو الله العزيز بالقهر والغلبة الحكيم بالحكمة الباهرة
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فزع عن قلوبهم } قال جلي وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه و سلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوه عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا فلما سمعوا خروا سجدا فلما رفعوا رؤوسهم { قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السموات فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم فيقولون : الحق وهو العلي الكبير وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال الحق وهو العلي الكبير ] الحديث وفي معناه أحاديث وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } قال : نحن على هدى وإنكم لفي ضلال مبين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال { الفتاح } القاضي (4/464)
في انتصاب 28 - { كافة } وجوه فقيل إنه منتصب على الحال من الكاف في { أرسلناك } قال الزجاج : أي وما أرسلناك إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ والكافة بمعنى الجامع والهاء فيه للمبالغة كعلامة قال أبو حيان : أما قول الزجاج إن كافة بمعنى جامعا والهاء فيه للمبالغة فإن اللغة لا تساعد عليه لأن كف ليس معناه جمع بل معناه منع يقال كف يكف : أي منع يمنع والمعنى : إلا مانعا لهم من الكفر ومنه الكف لأنها تمنع من خروج ما فيه وقيل إنه منتصب على المصدرية والهاء للمبالغة كالعاقبة والعافية والمراد أنها صفة مصدر محذوف : أي إلا رسالة كافة وقيل إنه حال من الناس والتقدير : وما أرسلناك إلا للناس كافة وقيل إنه حال من النسا والتقدير : وما أرسلناك إلا للناس كافة ورد بأنه يتقدم الحال من المجرور عليه كما هو مقرر في علم الإعراب ويجاب عنه بأنه قد جوز ذلك أبو علي الفارسي وابن كيسان وابن برهان ومنه قول الشاعر :
( إذا المرء أعيته السيادة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه عسير )
وقول الآخر :
( تسليت طرا عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتى كأنكم عندي )
وقول الآخر :
( غافلا تعرض المنية للمر ... ء فيدعى ولات حين إباء )
وممن رجح كونها حالا من المجرور بعدها ابن عطية وقال : قدمت للاهتمام والتقوى وقيل المعنى إلا ذا كافة : أي ذا منع فحذف المضاف قيل واللام في { للناس } بمعنى إلى : أي وما أرسلناك إلى الناس إلا جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ أو مانعا لهم من الكفر والمعاصي وانتصاب { بشيرا ونذيرا } على الحال : أي مبشرا لهم بالجنة ومنذرا لهم من النار { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ما عند الله من النفع في إرسال الرسل (4/465)
29 - { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أي متى يكون هذا الوعد الذي تعدونا به وهو قيام الساعة أخبرونا به إن كنتم صادقين (4/466)
قالوا هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه و سلم ومن معه من المؤمنين فأمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم أن يجيب عنهم فقال : 30 - { قل لكم ميعاد يوم } أي ميقات يوم وهو يوم البعث وقيل وقت حضور الموت وقيل أراد يوم بدر لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا وعلى كل تقدير فهذه الإضافة للبيان ويجوز في معاد أن يكون مصدرا مرادا به الوعد وأن يكون اسم زمان قال أبو عبيدة : الوعد والوعيد والميعاد بمعنى وقرأ ابن أبي عبلة بتنوين ميعاد ورفعه ونصب يوم على أن يكون ميعاد مبتدأ ويوما ظرف والخبر لكم وقرأ عيسى بن عمر برفع ميعاد منونا ونصب يوم مضافا إلى الجملة بعده وأجاز النحوييون ميعاد يوم برفعهما منونين على أن ميعاد مبتدأ و يوم بدل منه وجملة { لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } صفة لميعاد : أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون عليه بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدر الله وقوعه فيه (4/466)
ثم ذكر سبحانه طرفا من قبائح الكفار ونوعا من أنواع كفرهم فقال 31 - { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } وهي الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل والرسل المتقدمون وقيل المراد بالذي بين يديه الدار الآخرة ثم أخبر سبحانه عن حالهم في الآخرة فقال : { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم } الخطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له ومعنى موقوفون عند ربهم : محبوسون في موقف الحساب { يرجع بعضهم إلى بعض القول } أي يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا متعادضين متناصرين متحابين (4/466)
ثم بين سبحانه تلك المراجعة فقال : 32 - { يقول الذين استضعفوا } وهم الاتباع { للذين استكبروا } وهم الرؤساء المتبوعون { لولا أنتم } صددتمونا عن الإيمان بالله والاتباع لرسوله { لكنا مؤمنين } بالله مصدقين لرسوله وكتابه { قال الذين استكبروا للذين استضعفوا } مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه { أنحن صددناكم عن الهدى } أي منعناكم عن الإيمان { بعد إذ جاءكم } الهدى قالوا هذا منكرين لما ادعوه عليهم من الصد لهم وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك ثم بينوا لهم أنهم الصادون لأنفسهم الممتنعون من الهدى بعد إذا جاءهم فقالوا : { بل كنتم مجرمين } أي مصرين على الكفر كثيري الإجرام عظيمي الآثام (4/467)
33 - { وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا } ردا لما أجابوا به عليه ودفعا لما نسبوه إليهم من صدهم لأنفسهم { بل مكر الليل والنهار } أصل المكر في كلام العرب : الخديعة والحيلة يقال مكر به إذا خدعه واحتال عليه والمعنى : بل مكركم بنا الليل والنهار فحذف المضاف إليه وأقيم الظرف مقام اتساعا وقال الأخفش : هو على تقدير هذا مكر الليل والنهار قال النحاس : المعنى والله أعلم بل مكركم في الليل والنهار ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا وقال سفيان الثوري : بل عملكم في الليل والنهار ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرر في علم المعاني قال المبرد كما تقول العرب : نهاره صائم وليله قائم وأنشد قول جرير :
( لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وماليل المطي بنائم )
وأنشد سيبويه :
( قيام ليلي وتجلي همي )
وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر برفع مكر منونا ونصب اللل والنهار والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار وقرأ سعيد بن جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافا بمعنى الكرور من كر يكر إذا جاء وذهب وارتفاع مكر على هذه القراءات على أنه مبتدأ وخبره محذوف : أي مكر الليل والنهار صدنا أو على أنه فاعل لفعل محذوف : أي صدنا مكر الليل والنهار أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كما تقدم عن الأخفش وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ سعيد بن جبير ولكنه نصب مكر على المصدرية : أي بل تكررن الإغواء مكرا دائما لا تفترون عنه وانتصاب { إذ تأمروننا } على أنه ظرف للمكر : أي بل مكركم بنا وقت أمركم لنا { أن نكفر بالله ونجعل له أندادا } أي أشباها وأمثالا قال المبرد : يقال ند فلان فلان : أي مثله وأنشد :
( أتيما تجعلون إلي ندا ... وما تيم بذي حسب نديد )
والضمير في قوله : { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } راجع إلى الفريقين : أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم أو أخافاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة وقيل المراد بأسروا هنا أظهروا لأنه من الأضداد يكون تارة بمعنى الإخفاء وتارة بمعنى الإظهار ومنه قول امرئ القيس :
( تجاوزت أحراسا وأهوال معشر ... علي حراص لويسرون مقتلي )
وقيل معنى أسروا الندامة : تبينت الندامة في أسرة وجوههم { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } الأغلال جمع غل يقال في رقبته غل من حديد : أي جعلت الأغلال من الحديد في أغناق هؤلاء في النار والمراد بالذين كفروا : هم المذكورون سابقا والإظهار لمزيد الذم أو للكفار على العموم فيدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } أي إلا جزاء ما كانوا يعملونه من الشرك بالله أو إلا بما كانوا يعملون على حذف الخافض
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وما أرسلناك إلا كافة للناس } قال : إلى الناس جميعا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أرسل الله محمدا إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعهم له وأخرج هؤلاء عنه في قوله : { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن } قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن وبالذي بين يديه من الكتب والأنبياء (4/467)
لما قص سبحانه حال من تقدم من الكفار أتعب بما فيه التسلية لرسوله وبيان أن كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمر في الأعصر الأول فقال 34 - { وما أرسلنا في قرية } من القرى { من نذير } ينذرهم ويحذرهم عقاب الله { إلا قال مترفوها } أي رؤساؤها وأغنياؤها وجبابرتها وقادة الشر لرسلهم { إنا بما أرسلتم به كافرون } أي بما أرسلتم به من التوحيد والإيمان وجملة { إلا قال مترفوها } في محل نصب على الحال (4/469)
ثم ذكر ما افتخروا به من الأموال والأولاد وقاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صة ما أنذرهم به الرسل فقال : 35 - { وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } والمعنى : أن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في الدنيا وذلك يدل على أنه قد رضي بما نحن عليه من الدين وما نحن بمعذبين في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا ورضاه عنا (4/469)
فأمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم بأن يجيب عنهم وقال : 36 - { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء } أن يبسطه له { ويقدر } أي يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه فهو سبحانه قد يرزق الكافر والعاصي استدراجا له وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيرا لأجره وليس مجرد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه ورضي عمله ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرض ولا رضي عمله فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين أو المغالطة الواضحة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } هذا ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى ثم زاد هذا الجواب تأييدا وتأكيدا (4/469)
37 - { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } أي ليسوا بالخصلة التي تقربكم عندنا قربى قال مجاهد : الزلفى القربى والزلفة القربة قال الأخفش : زلفى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا فتكون زلفى منصوبة المحل قال الفراء : إن التي تكون للأموال والأولاد جميعا وقال الزجاج : إن المعنى وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالشيء يقربكم عندنا زلفى ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد :
( نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ... دك راض والرأي مختلف )
ويجوز في غير القرآن باللتي وباللاتي وباللواتي وبالذي للأولاد خاصة : أي لا تزيدكم الأموال عندنا درجة ورفعة ولا تقربكم تقريبا { إلا من آمن وعمل صالحا } هو استثناء منقطع فيكون محله النصب : أي لكن من آمن وعمل صالحا أو في محل جر بدلا من الضمير في تقربكم كذا قال الزجاج قال النحاس : وهذا القول غلط لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيدا ويجاب عنه بأن الأخفش والكوفيين يجوزون ذلك وقد قال بمثل قول الزجاج والفراء وأجاز الفراء أن يكون في موضع رفع بمعنى ما هو إلا من آمن والإشارة بقوله : { فأولئك } إلى من والجمع باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره { لهم جزاء الضعف } أي جزاء الزيادة وهي المقاردة بقوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } وهو من إضافة المصدر إلى المفعول : أي جزاء التضعيف للحسنات وقيل لهم جزاء الإضعاف لأن الضعف في معنى الجمع والباء في { بما عملوا } للسببية { وهم في الغرفات آمنون } من جميع ما يكرهون والمراد غرفات الجنة قرأ الجمهور جزاء الضعف بالإضافة وقرأ الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم وقتادة برفعهما على أن الضعف بدل من جزاء وروي عن يعقوب أنه قرأ جزاء بالنصب منونا و الضعف بالرفع على التقدير : فأولئك لهم الضعف جزاء : أي حال كونه جزاء وقرأ الجمهور { في الغرفات } بالجمع واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : { لنبوئنهم من الجنة غرفا } وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وخلف { يجزون الغرفة } بالإفراد لقوله : { أولئك يجزون الغرفة } (4/469)
ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين ذكر حال الكافرين فقال : 38 - { والذين يسعون في آياتنا } بالرد لها والطعن فيها حال كونهم { معاجزين } مسابقين لنا زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم أو معاندين لنا بكفرهم { أولئك في العذاب محضرون } أي في عذاب جهنم تحضرهم الزبانية إليها لا يجدون عنها محيصا (4/470)
ثم كرر سبحانه ما تقدم لقصد التأكيد للحجة والدفع لما قاله الكفرة فقال : 39 - { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } أي يوسعه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء وليس في ذلك دلالة على سعادة ولا شقاوة { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } أي يخلفه عليكم يقال أخلف له وأخلف عليه : إذا أعطاه عوضه وبدله وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة { وهو خير الرازقين } فإن رزق العباد لبعضهم البعض إنما هو بتيسير الله وتقديره وليسوا برازقين على الحقيقة بل على طريق المجاز كما يقال في الرجل إنه يرزق عياله وفي الأمير إنه يرزق جنده والرازق للأمير والمأمور والكبير والصغير هو الخالق لهم ومن أخرج من العباد إلى غيره شيئا مما رزقه الله فهو إنما تصرف في رزق الله له فاستحق بما خرج منه الثواب عليه المضاعف لأمر الله وإنفاقه فيما أمره الله (4/470)
40 - { ويوم نحشرهم جميعا } الظرف منصوب بفعل مقدر نحو اذكر أو هو متصل بقوله : { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون } أي ولو تراهم أيضا يوم نحشرهم جميعا للحساب العابد والمعبود والمستكبر والمستضعف { ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } تقريعا للمشركين وتوبيخا لمن عبد غير الله عز و جل كما في قوله لعيسى { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } وإنما خصص الملائكة بالذكر مع أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين والأصنام لأنهم أشرف معبودات المشركين قال النحاس : والمعنى أن الملائكة إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين (4/471)
وجملة { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم } مستأنفة جواب سؤال مقدر : أي تنزيها لك أنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم ما اتخذناهم عابدين ولا توليناهم وليس لنا غيرك وليا ثم صرحوا بما كان المشركون يعبدونه فقالوا : { بل كانوا يعبدون الجن } أي الشياطين وهم إبليس وجنوده ويزعمون أنهم يرونهم وأنهم ملائكة وأنهم بنات الله وقيل كانوا يدخلون أجواف الأصنام ويحاطبونهم منها { أكثرهم بهم مؤمنون } أي أكثر المشركين بالجن مؤمنون بهم مصدقون لهم قيل والأكثر في معنى الكل (4/471)
42 - { فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا } يعني العابدين والمعبودين لا يملك بعضهم وهم المعبودون لبعض وهم العابدون { نفعا } أي شفاعة ونجاة { ولا ضرا } أي عذابا وهلاكا وإنما قيل لهم هذا القول إظهارا لعجزهم وقصورهم وتبكيتا لعابديهم وقوله : { ولا ضرا } هو على حذف مضاف : أي لا يملكون لهم دفع ضر وقوله { ونقول للذين ظلموا } عطف على قوله : { يقول للملائكة } أي للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله { ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } في الدنيا
وقد أخرج وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : [ كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر فلما بعث الله النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إلأيه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال : دلني عليه وكان يقرأ الكتب فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إلى ما تدعو ؟ قال : إلى كذا وكذا قال : أشهد أنك رسول الله قال : وما علمك بذلك ؟ قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم فنزلت هذه الآيات : { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها } الآيات فأرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم إن الله قد أنزل تصديق ما قلت ] وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { جزاء الضعف } قال : تضعيف الحسنة وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنيا تقيا آتاه الله أجره مرتين وتلا هذه الآية { وما أموالكم ولا أولادكم } إلى قوله : { فأولئك لهم جزاء الضعف } قال : تضعيف الحسنة وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } قال : في غير إسراف ولا تقتير وعن مجاهد مثله وعن الحسن مثله وأخرج الدارقطني والبيهقي في الشعب عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كلما أنفق العبد من نفقة فعلى الله خلفها ضامنا إلا نفقة في بيان أو معصية ] وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعا بأطول منه وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ قال الله عز و جل أنفق يا ابن آدم أنفق عليك ] وثبت في الصحيح من حديثه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا ] وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بصدقة ] ثم قال : اقرأوا مواضع الخلف فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ] إذا لم تنفقوا كيف يخلف وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن المعونة تنزل من السماء على قدر المؤونة ] (4/471)
ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من أنواع كفرهم فقال : 43 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا } أي الآيات القرآنية حال كونهم { بينات } واضحات الدلالات ظاهرات المعاني { قالوا ما هذا } يعنون التالي لها وهو النبي صلى الله عليه و سلم { إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم } أي أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها { وقالوا } ثانيا { ما هذا } يعنون القرآن الكريم { إلا إفك مفترى } أي كذب مختلق { وقال الذين كفروا } ثالثا { للحق لما جاءهم } أي لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه و سلم { إن هذا إلا سحر مبين } وهذا لاإنكار منهم خاص بالتوحيد وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقا عليه بين أهل الكتاب والمشركين وقيل أريد بالأول وهو قولهم : { إلا إفك مفترى } معناه وبالثاني وهو قولهم : { إن هذا إلا سحر مبين } نظمه المعجز وقيل إن طائفة منهم قالوا : إنه إفك وطائفة قالوا : إنه سحر وقيل إنهم جميعا قالوا تارة إنه إفك وتارة إنه سحر والأول أولى (4/473)
44 - { وما آتيناهم من كتب يدرسونها } أي ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها { وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } يدعوهم إلى الحق وينذرهم بالعذاب فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه ولا شبهة يتشبثون بها قال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه و سلم قال الفراء : أي من أين كذبوك ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه (4/473)
ثم خولهم سبحانه وأخبر عن عاقبتهم وعاقبة من كان قبلهم فقال : 45 - { وكذب الذين من قبلهم } من القرون الخالية { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } أي ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال وطول العمر فأهلكهم الله كعاد وثمود وأمثالهم والمعشار : هو العشر قال الجوهري : معشار الشيء عشره وقيل المعشار : عشر العشر والأول أولى وقيل إن المعنى : ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى وقيل ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم وقيل ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان والأول أولى وقيل : المعشار عشر العشير والعشير عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء قال الماوردي : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل قلت مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي وقوله : { فكذبوا رسلي } عطف على { كذب الذين من قبلهم } على طريقة التفسير كقوله : { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا } الآية والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام لأن التكذيب الأول لما حذف من المتعلق للتكذيب أفاد العموم فمعناه : كذبوا الكتب المنزلة والرسل المرسلة والمعجزات الواضحة وتكذيب الرسل أخص منه وإن كان مستلزما له فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية { فكيف كان نكير } أي فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب والعقوبة فليحذر هؤلاء من مثل ذلك قيل وفي الكلام حذف والتقدير : فأهلكناهم فكيف كان نكير والنكير اسم بمعنى الإنكار (4/473)
ثم أمر سبحانه رسول أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها فقال : 46 - { قل إنما أعظكم بواحدة } أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه وأوصيكم بخصلة واحدة وهي { أن تقوموا لله مثنى وفرادى } هذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها : أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين إثنين إثنين وواحدا واحدا لأن الاجتماع يشوش الفكر وليس المراد القيام على الرجلين بل المراد القيام بطلب الحق وإصداق الفكر فيه كما يقال قام فلان بأمر كذا { ثم تتفكروا } وذلك لأنهم كانوا يقولون : إن محمدا مجنون فقال الله سبحانه قل لهم اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا لله وفي ذاته مجتمعين فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنتصادق هل رأينا بهذا الرجل من جنة : أي جنون أو جربنا عليه كذبا ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر فإن في ذلك ما يدل على أن محمدا صلى الله عليه و سلم صادق وأنه رسول من عند الله وأنه ليبس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون وهو معنى قوله : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } أي ما هو إلا نذير لكم بين يدي الساعة وقيل إن جملة { ما بصاحبكم من جنة } مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم والدعوى الكبيرة لا يعرض نفسه له إلا مجنون لا يبالي بما يقال فيه وما ينسب إليه من الكذب وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا فوجب أن يصدقوه في دعواه لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة وأجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب ولا قد جربوا عليه كذبا مدة عمره وعمرهم وقيل يجوز أن تكون ما في { ما بصاحبكم } استفهامية : أي ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون وقيل المراد بقوله : { إنما أعظكم بواحدة } هي لا إله إلا الله كذا قال مجاهد والسدي وقيل القرآن لأنه يجمع المواعظ كلها والأولى ما ذكرناه أولا وقال الزجاج : إن أن في قوله : { أن تقوموا } في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا وقال السدي : معنى مثنى وفرادى : منفردا برأيه ومشاورا لغيره وقال القتيبي : مناظرا مع عشيرته ومفكرا في نفسه وقيل المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل وقال القتيبي : مناظرا مع عشيرته ومفكرا في نفسه وقيل المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل قاله الماوردي وما أبرد هذا القول وأقل جدواه واختار أبو حاتم وابن الأنباري الوقف على قوله : { ثم تتفكروا } وعلى هذا تكون جملة { ما بصاحبكم من جنة } مستأنفة كما قدمنا وقيل ليس بوقف لأن المعنى : ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذبا أو رأيتم من جنة أو في أحواله من فساد (4/474)
ثم أمر سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك ويرتفع الريب فقال : 47 - { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } أي ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة فهو لكم إن سألتكموه والمارد نفي السؤال بالكلية كما يقول القائل : ما أملكه في هذا فقد وهبته لك يريد أنه لا ملك له فيه أصلا ومثل هذه الآية قوله : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } وقوله : { ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } ثم بين لهم أن أجره عند الله سبحانه فقال : { إن أجري إلا على الله } أي ما أجري إلا على الله لا على غيره { وهو على كل شيء شهيد } أي مطلع لا يغيب عنه من شيء (4/475)
48 - { قل إن ربي يقذف بالحق } القذف الرمي بالسهم والحصى والكلام قال الكلبي : يرمي على معنى يأتي به وقال مقاتل : يتكلم بالحق وهو القرآن والوحي : أي يلقيه إلى أنبيائه وقال قتادة { بالحق } أي بالوحي والمعنى : أنه يبين الحجة ويظهرها للناس على ألسن رسله وقيل يرمي الباطل بالحق فيدمغه { علام الغيوب } قرأ الجمهور برفع { علام } على أنه خبر ثان لإن أوخبر مبتدأ محذوف أو بدل من الضمير في يقذف أو معطوف على محل اسم إن قال الزجاج : الرفع من وجهين على الموضع لأن الموضع موضع رفع أو على البدل وقرأ زيد بن علي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتا لاسم إن أو بدلا منه أو على المدح قال الفراء : والرفع في مثل هذا أكثر كقوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } وقرئ الغيوب بالحركات الثلاث في الغين وهو جمع غيب والغيب هوالأمر الذي غاب وخفي جدا (4/475)
49 - { قل جاء الحق } أي الإسلام والتوحيد وقال قتادة : القرآن وقال النحاس : التقدير صاحب الحق : أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج
وأقول : لا وجه لتقدير المضاف فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه { وما يبدئ الباطل وما يعيد } أي ذهب الباطل ذهابا لم يبق منه إقبال ولا إدبار ولا إبداء ولا إعادة قال قتادة : الباطل هو الشيطان : أي ما يخلق الشيطان ابتداء ولا يبعث وبه قال مقاتل والكلبي وقيل يجوز أن تكون ما استفهامية : أي أي شيء يبديه وأي شيء يعيده ؟ والأول أولى (4/475)
50 - { قل إن ضللت } عن الطريق الحقة الواضحة { فإنما أضل على نفسي } أي إثم ضلالتي يكون على نفسي وذلك أن الكفار قالوا له تركت دين آبائك فضللت فأمره الله أن يقول لهم هذا القول { وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } من الحكمة والموعظة والبيان بالقرآن { إنه سميع قريب } مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة قرأ الجمهور ضللت بفتح اللام وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب بكسر اللام وهي لغة أهل العالية
وقد أخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } يقول : من القوة في الدنيا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه وأخرج وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : يقوم الرجل مع الرجل أو وحده فيفكر ما بصاحبه من جنة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة { ما بصاحبكم من جنة } يقول : إنه ليس بمجنون وأخرج هؤلاء عنه أيضا في قوله : { ما سألتكم من أجر } أي من جعل فهو لكم يقول : لم أسألكم على الإسلام جعلا وفي قوله : { قل إن ربي يقذف بالحق } قال : بالوحي وفي قوله : { وما يبدئ الباطل وما يعيد } قال : الشيطان لا يبدئ ولا يعيد إذا هلك وأخرج هؤلاء أيضا عنه في قوله : { وما يبدئ الباطل وما يعيد } قال : ما يخلق إبليس شيئا ولا يبعثه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله : { إن ضللت فإنما أضل على نفسي } قال : إنما أوخذ بجنايتي (4/475)
ثم ذكر سبحانه حالا من أحوال الكفار فقال : 51 - { ولو ترى إذ فزعوا } والخطاب لرسول الله أو لكل من يصلح له قيل المراد فزعهم عند نزول الموت بهم وقال الحسن : هو فزعهم في القبور من الصيحة وقال قتادة : هو فزعهم إذا خرجوا من قبورهم وقال السدي : هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة وقال ابن مغفل : هو فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة وقال سعيد بن جبير : هو الخسف الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى رجل منهم فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون وجواب لو محذوف : أي لرأيت أمرا هائلا ومعنى { فلا فوت } فلا يفوتني أحد منم ولا ينجو منهم ناج قال مجاهد : فلا مهرب { وأخذوا من مكان قريب } من ظهر الأرض أو من القبور أو من موقف الحساب وقيل من حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه قيل ويجوز أن يكون هذا الفزع هو الفزع الذي بمعنى الإجابة يقال فزع الرجل : إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث بهم كفزعهم إلى الحرب يوم بدر (4/476)
52 - { وقالوا آمنا به } أي بمحمد قاله قتاده أو بالقرآن وقال مجاهد : بالله عز و جل وقال الحسن : بالبعث { وأنى لهم التناوش } التناوش التناول وهوتفاعل ن التناوش الذي هو التناول والمعنى : كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد يعني في الآخرة وقد تركوه في الدنيا وهو معنى { من مكان بعيد } وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم قال ابن السكيت : يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه أو بلحيته ناشه ينوشه نوشا وأنشد :
( فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أحواز الفلا )
أي تناول ماء الحوض من فوق ومنه المناوشة في القتال وقيل التناوش الرجعة : أي وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا ومنه قول الشاعر :
( تمنى أن تئوب إلي مي ... وليس إلى تناوشها سبيل ) (4/477)
وجملة 53 - { وقد كفروا به من قبل } في محل نصب على الحال : أي والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت وذلك حال كونهم في الدنيا قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي والأعمش { التناوش } بالهمز وقرأ الباقون بالواو واستبعد أبو عبيد والنحاس القراءة الأولى ولا وجه للاستبعاد فقد ثبت ذلك في لغة العرب وأشعارها ومنه قول الشاعر :
( قعدت زمانا عن طلابك للعلا ... وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخير )
أي وجئت أخيرا قال الفراء : الهمز وترك الهمز متقارب { ويقذفون بالغيب } أي يرمون بالظن فيقولون : لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار { من مكان بعيد } أي من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل وقيل المعنى : يقولون في القرآن أقوال باطلة : إنه سحر وشعر وأساطير الأولين وقيل يقولون في محمد إنه ساحر شاعر كاهن مجنون وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو { يقذفون } مبنيا للمفعول : أي يرجمون بما يسوؤهم من جراء أعمالهم من حيث لا يحتسبون وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه والجملة إما معطوفة على : وقدكفروا به على أنه حكاية للحال الماضية واستحضار لصورتها أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم (4/477)
54 - { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } من النجاة من العذاب ومنعوا من ذلك وقيل حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم أو حيل بينهم وبين ما يشتهونه من الرجوع إلى الدنيا { كما فعل بأشياعهم من قبل } أي بأمثالهم ونظائرهم من كفار الأمم الماضية والأشياع جمع شيع وشيع جمع شيعة وجملة { إنهم كانوا في شك مريب } تعليل لما قبلها : أي في شك موقع في الريبة أو ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار أو في التوحيد وما جاءتهم به الرسل من الدين يقال أراب الرجل إذا صار ذا ريبة فهو مريب وقيل هو من الريب الذي هو الشك فهو كما يقال عجب عجيب وشعر شاعر
وقد أخرج وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فلا فوت } قال : فلا نجاة وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب } قال : هو جيش السفياني قيل من أين أخذوا ؟ قال : من تحت أقدامهم وقد ثبت في الصحيح أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة وعائشة وخارج الصحيح من حديث أم سلمة وصفية وأبي هريرة وابن مسعود وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذ الآية ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بين اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة وقال في آخرها : فذلك قوله عز و جل في سورة سبأ { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } الآية وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وأنى لهم التناوش } قال : كيف لهم الرد { من مكان بعيد } قال : يسألون الرد وليس بحين رد وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال : أتيت ابن عباس قلت : ما التناوش ؟ قال : تناول الشيء وليس بحين ذاك (4/478)
سورة فاطر
هي خمس وأربعون آية
وهي مكية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة فاطر بمكة
الفطر : الشق عن الشيء يقال فطرته فانفطر ومنه فطر ناب البعير إذا طلع فهو بعير فاطر وتفطر الشيء تشقق والفطر الابتداء والاختراع وهو المراد هنا والمعنى 1 - { الحمد لله } مبدع { السموات والأرض } ومخترعهما والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم فهو قادر عل الإعادة قرأ الجمهور فاطر على صيغة اسم الفاعل وقرأ الزهري والضحاك فطر على صيغة الفعل الماضي فعلى القراءة الأولى هو نعت لله لأن إضافته مخضة لكونه بمعنى الماضي وإن كانت غير محضة كان بدلا ومثله { جاعل الملائكة رسلا } يجوز فيه الوجهان وانتصاب رسلا بفعل مضمر على الوجه الأول لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل وجوز الكسائي عمله وأما على الوجه الثاني فهو منصوب بجاعل والرسل من الملائكة هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وقرأ الحسن جاعل بالرفع وقرأ خليل بن نشيط ويحيى بن يعمر جعل على صيغة الماضي وقرأ الحسن وحميد رسلابسكون السين وهي لغة تميم { أولي أجنحة } صفة لرسلا والأجنحة جمع جناح { مثنى وثلاث ورباع } صفة لأجنحة وقد تقدم الكلام في مثنى وثلاث ورباع في النساء قال قتادة : بعضهم له جناحان وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون بها من الأرض إلى السماء قال يحيى بن سلام : يرسلهم الله إلى الأنبياء وقال السدي : إلى العباد بنعمه أو نقمه وجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة والمعنى : أنه يزيد في خلق الملائكة ما يشاء وهو قول أكثر المفسرين واختاره الفراء والزجاج : وقيل إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة فقال الزهري وابن جريج : إنها حسن الصوت وقال قتادة : الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم وقيل الوجه الحسن وقيل الخط الحسن وقيل الشعر الجعد وقيل العقل والتمييز وقيل العلوم والصنائع ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص بل يتناول كل زيادة وجملة { إن الله على كل شيء قدير } تعليل لما قبلها من أنه يزيد في الخلق ما يشاء (4/479)
2 - { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } أي ما يأتيهم الله به من مطر ورزق لا يقدر أحد أن يمسكه { وما يمسك } من ذلك لا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه وقيل المعنى : إن الرسل بعثوا رحمة للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله وقيل هو الدعاء وقيل التوبة وقيل التوفيق والهداية ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى : كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه وهكذا الإمساك يتناول كل شيء يمنعه الله من نعمه فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه ولا منعم غيره ثم أمر الله سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعد ولا تحصى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ومعنى هذا الأمر لهم بالذكر هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها وطلب المزيد منها (4/480)
3 - { هل من خالق غير الله } من زائدة وخالق مبتدأ وغير الله صفة له قال الزجاج : ورفع غير على معنى هل خالق غير الله لأن من زيادة مؤكدة ومن خفض غير جعلها صفة على اللفظ قرأ الجمهور برفع { غير } وقرأ حمزة والكسائي بخفضها وقرأ الفضل بن إبراهيم بنصبها على الاستثناء وجملة { يرزقكم من السماء والأرض } خبر المبتدأ أو جملة مستأنفة أو صفة أخرى لخالق وخبره محذوف والرزق من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات وغير ذلك وجملة { لا إله إلا هو } مستأنفة لتقرر النفي المستفاد من الاستفهام { فأنى تؤفكون } من الأفك بالفتح وهو الصرف يقال ما أفكك عن كذا : أي ما صرفك : أي فكيف تصرفون وقيل هو مأخوذ من الإفك بالكسر وهو الكذب لأنه مصروف عن الصدق قال الزجاج : أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله والبعث وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم (4/480)
ثم عزى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم فقال : 4 - { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } ليتأسى بمن قبله من الأنبياء ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له { وإلى الله ترجع الأمور } لا إلى غيره فيجازي كلا بما يستحقه قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف { ترجع } بفتح الفوقية على البناء للفاعل وقرأ الباقون بضمها على البناء للمفعول (4/481)
3 - { يا أيها الناس إن وعد الله حق } أي وعده بالبعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار كما أشير إليه بقوله : { وإلى الله ترجع الأمور } فلا تغرنكم الحياة الدنيابزخرفها ونعيمها * قال سعيد بن جبير غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقوليا ليتني قدمت لحياتي { ولا يغرنكم بالله الغرور } قرأ الجمهور بفتح الغين : أي المبالغ في الغرور وهو الشيطان قال ابن السكيت وأبو حاتم : الغرور الشيطان ويجوز أن يكون مصدرا واستبعده الزجاج لأن غرر به متعدى ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربه ضربا إلا في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها ومعنى الآية : لا يغرنكم الشيطان بالله فيقول لكم : إن الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم لفضلكم أو لسعة رحمته لكم وقرأ أبو حيوة وأبو السماك ومحمد بن السميفع بضم الغين وهو الباطل قال ابن السكيت : والغرور بالضم ما يغر من متاع الدنيا وقال الزجاج : يجوز أن يكون الغرور جمع غار مثل قاعد وقعود قيل ويجوز أن يكون مصدر غره كاللزوم والنهوك وفيه ما تقدم عن الزجاج من الاستبعاد (4/481)
ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان فقال : 4 - { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } أي فعادوه بطاعة الله ولا تطيعوه في معاصي الله ثم بين لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم فقال : { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } أي إنما يدعو أشياعه وأتباعه والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار (4/481)
ومحل الموصول في قوله : 5 - { الذين كفروا لهم عذاب شديد } الرفع على الابتداء ولهم عذاب شديد خبره أو الرفع على البدل من فاعل يكونوا أو النصب علىالبدل من حزبه أو النعت له أو إضمار فعل يدل على الذم لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة الشيطان ودعائه لحزبه ذكر حال الفريقين من المطيعين له والعاصين عليه فالفريق الأول قال { لهم عذاب شديد } والفريق الآخر قال فيه { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير } أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح ويعطيهم أجرا كبيرا وهو الجنة (4/482)
6 - { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما سبق من ذكر التفاوت بين الفريقين و من في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف قال الكسائي : والتقدير ذهبت نفسك عليهم حسرات قال : ويدل عليه قوله : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } قال : وهذا كلام عربي ظريف لا يعرفه إلا القليل وقال الزجاج : تقديره كمن هداه وقدره غيرهما كمن لم يزين له وهذا أولى لموافقته لفظا ومعنى وقد وهم صاحب الكشاف فحكى عن الزجاج ما قاله الكسائي قال النحاس : والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره من الدلالة على المحذوف والمعنى : أن الله عز و جل نهى نبيه صلى الله عليه و سلم عن شدة الاغتنام بهم والحزن عليهم كما قال : { فلعلك باخع نفسك } وجملة { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } مقررة لما قبلها : أي يضل من يشاء أن يضله ويهدي من يشاء أن يهديه { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } قرأ الجمهور بفتح الفوقية والهاء مسندا إلى النفس فتكون من باب : لا أرينك ها هنا وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن والأشهب بضم التاء وكسر الهاء ونصب { نفسك } وانتصاب { حسرات } على أنه علة : أي للحسرات ويجوز أن ينتصب على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر كما روي عن سيبويه وقال المبرد : إنا تمييز والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر { إن الله عليم بما يصنعون } لا يخفى عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد
وقد أخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها يقول : ابتدأتها وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : { فاطر السموات } بديع السموات وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : { يزيد في الخلق ما يشاء } قال : الصوت الحسن وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة } الآية قال : ما يفتح الله للناس من باب توبة { فلا ممسك لها } هم يتوبون إن شاءوا أو إن أبوا وما أمسك من باب توبة { فلا مرسل له من بعده } وهم لا يتوبون وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال : يقول ليس لك من الأمر شيء وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { لهم مغفرة وأجر كبير } قال : كل شيء في القرآن لهم مغفرة وأجر كبير ورزق كريم فهو الجنة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن في قوله : { أفمن زين له سوء عمله } قال : الشيطان زين لهم هي والله الضلالات { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } أي لا تحزن عليهم (4/482)
ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه وعظيم قدرته ليتفكروا في ذلك وليعتبروا به فقال : 9 - { والله الذي أرسل الرياح } قرأ الجمهور : { الرياح } وقرأ ابن كثير وابن محيصن والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي { الريح } بالإفراد { فتثير سحابا } جاء بالمضارع بعد الماضي استحضارا للصورة لأن ذلك أدخل في اعتبار المعتبرين ومعنى كونها : تثير السحاب أنها تزعجه من حيث هو { فسقناه إلى بلد ميت } قال أبو عبيدة : سبيله فتسوقه لأنه قال : فتثير سحابا قيل النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع : الدلالة على التحقق قال المبرد ميت وميت واحد وقال هذا قول البصريين وأنشد :
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء )
{ فأحيينا به الأرض } أي أحيينا بالمطر الأرض بإنبات ما ينبت فيها وإن لم يتقدم ذكر المطر فالسحاب يدل عليه أو أحيينا بالسحاب لأنه سبب المطر { بعد موتها } أي بعد يبسها استعار الإحياء للنبات والموت لليبس { كذلك النشور } أي كذلك يحيي الله العباد بعد موتهم كما أحيا الأرض بعد موتها والنشور : البعث من نشر الإنسان نشورا والكاف في محل رفع على الخبرية : أي مثل إحياء موات الأرض إحياء الأموات فكيف تنكرونه وقد شاهدتم غر مرة ما هو مثله وشبيهه به (4/483)
10 - { من كان يريد العزة } قال الفراء معناه من كان علم العزة لمن هي ؟ فإنها لله جميعا وقال قتادة : من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله فجعل معنى فلله العزة : الدعاء إلى طاعة من له العزة كما يقال من أراد المال فالمال لفلان : أي فليطلبه من عنده وقال الزجاج : تقديره من كان يريد بعبادة الله العزة والعزة له سبحانه فإن الله عز و جل يعزه في الدنيا والآخرة وقيل المراد بقوله : { من كان يريد العزة } المشركون فإنهم كانوا يتعززون بعبادة الأصنام : كقوله : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا } وقيل المراد : الذين كانوا يتعززون بهم من الذين آمنوا بألسنتهم { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة } الآية { فلله العزة جميعا } أي فليطلبها منه لا من غيره والظاهر في معنى الآية : أن من كان يريد العزة ويطلبها فليطلبها من الله عز و جل : فلله العزة جميعا ليس لغيره منها شيء فتشمل الآية كل من طلب العزة ويكون المقصود بها التنبيه لذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أي جهة تطلب ؟ { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } أي إلى الله يصعد لا إلى غيره ومعنى صعوده إليه قبوله له أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف وخص الكلم الطيب بالذكر لبيان الثواب عليه وهو يتناول كل كلام يتصف بكونه طيبا من ذكر لله وأمر بمعروف ونهي عن منكر وتلاوة وغير ذلك فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد أو بالتحميد والتمجيد وقيل المراد بصعوده صعوده إلى سماء الدنيا وقيل المراد بصعوده علم الله به ومعنى { والعمل الصالح يرفعه } أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب كما قال الحسن وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبو العالية والضحاك ووجه أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح وقيل إن فاعل يرفعه هو الكلم الطيب ومفعوله العمل الصالح ووجهه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان وقيل إن فاعل يرفعه ضمير يعود إلى الله عز و جل والمعنى : أن الله يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب لأن العمل يحقق الكلام وقيل والعمل الصالح يرفع صاحبه وهو الذي أراد العزة وقال قتادة : المعنى أن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه : أي يقبله فيكون قوله : { والعمل الصالح } على هذا مبتدأ خبره يرفعه وكذا على قول من قال يرفع صاحبه قرأ الجمهور { يصعد } من صعد الثلاثي و { الكلم الطيب } بالرفع على الفاعلية وقرأ علي وابن مسعود يصعد بضم حرف المضارعة من أصعد والكلم الطيب بالنصب على المفعولية وقرأ الضحاك على البناء للمفعول وقرأ الجمهور { الكلم } وقرأ أبو عبد الرحمن الكلام وقرأ الجمهور { والعمل الصالح } بالرفع على العطف أو على الابتداء وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر بالنصب على الاشتغال { والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد } انتصاب السيئات على أنها صفة لمصدر محذوف : أي يمكرون المكرات السيئات وذلك لأن مكر لازم ويجوز أن يضمن يمكرون معنى يكسبون فتكون السيئات مفعولا به قال مجاهد وقتادة : هم أهل الرياء وقال أبو العالية : هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه و سلم لما اجتمعوا في دار الندوة وقال الكلبي : هم الذين يعملون السيئات في الدنيا وقال مقاتل : هم المشركون ومعنى { لهم عذاب شديد } لهم عذاب بالغ الغاية في الشدة { ومكر أولئك هو يبور } أي يبطل ويهلك ومنه { وكنتم قوما بورا } والمكر في الأصل : الخديعة والاحتيال والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الذين مكروا السيئات على اختلاف الأقوال في تفسير مكرهم وجملة { هو يبور } خبر مكر أولئك (4/484)
ثم ذكر سبحانه دليلا آخر على البعث والنشور فقال : 11 - { والله خلقكم من تراب } أي خلقكم ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم من تراب وقال قتادة : يعني آدم والتقدير على هذا : خالق أباكم الأول وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب { ثم من نطفة } أخرجها من ظهر آبائكم { ثم جعلكم أزواجا } أي زوج بعضكم ببعض فالذكر زوج الأنثى أو جعلكم أصنافا ذكرانا وإناثا { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } أي لا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } أي ما يطول عمر أحد ولا ينقص من عمره إلا في كتاب : أي في اللوح المحفوظ قال الفراء : يريد آخر غير الأول فكنى عنه بالضمير كأنه الأول لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول كأنه قال : ولا ينقص من عمر معمر فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول ومثله قولك عندي درهم ونصفه : أي نصف آخر قيل إنما سمي معمرا باعتبار مصيره إليه والمعنى : وما يمد في عمر أحد ولا ينقص من عمر أحد لكن لا على معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائدا بل على معنى أنه لا يجعل من الابتداء ناقصا إلا وهو في كتاب قال سعيد بن جبير : وما يعمر من معمر إلا كتب عمره : كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره ساعة نقص من عمره يوم نقص من عمره شهر نقص من عمره سنة حتى يستوفي أجله فما مضى من أجله فهو النقصان وما يستقبل فهو الذي يعمره وقال قتادة : المعمر من بلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة وقيل المعنى : إن الله كتب عمر الإنسان كذا إن أطاع ودونه إن عصى فأيهما بلغ فهو في كتاب والضمير على هذا يرجع إلى معمر وقيل المعنى : وما يعمر من معمر إلى الهرم ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب : أي بقضاء الله قاله الضحاك واختاره النحاس قال : وهو أشبهها بظاهر التنزيل والأولى أن يقال الظاهر النظم القرآني أن تطويل العمر وتقصيره : هما بقضاء الله وقدره لأسباب تقتضي التطويل وأسباب تقتضي التقصير
فمن أسباب التطويل : ما ورد في صلة الرحم عن النبي صلى الله عليه و سلم ونحو ذلك ومن أسباب التقصير الاستكثار من معاصي الله عز و جل فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلا سبعين سنة فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان والكل في كتاب مبين فلا تخالف بين هذه الآية وبين قوله سبحانه : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } ويؤيد هذا قوله سبحانه : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } وقد قدمنا في تفسيرها ما يزيد ما ذكرنا هنا وضوحا وبيانا قرأ الجمهور { ينقص } مبنيا للمفعول وقرأ يعقوب وسلام وروي عن أبي عمرو { ينقص } مبنيا للفاعل وقرأ الجمهور { من عمره } بضم الميم وقرأ الحسن والأعرج والزهري بسكونها والإشارة بقوله : { إن ذلك } إلى ما سبق من الخلق وما بعده { على الله يسير } لا يصعب عليه من شيء ولا يعزب عنه كثير ولا قليل ولا كبير ولا صغير (4/485)
ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من بديع صنع وعجيب قدرته فقال : 12 - { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } فالمراد بالبحران العذب والمالح فالعذب الفرات الحلو والأجاج المر والمراد ب { سائغ شرابه } الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته وقرأ عيسى بن عمر سيغ بتشديد الياء وروي تسكينها عنه وقرأ طلحة وأبو نهيك ملح بفتح الميم { ومن كل } منهما { تأكلون لحما طريا } وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل { وتستخرجون حلية تلبسونها } الظاهر أن المعنى : وتستخرجون منها حلية تلبسونها وقال المبرد : إنما تستخرج الحيلة من المالح وروي عن الزجاج أنه قال : إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا لا من كل واحد منهما على انفراده ورجح النحاس قول المبرد ومعنى { تلبسونها } تلبسون كل شيء منها بحسبه كالخاتم في الأصبع والسوار في الذراع والقلادة في العنق والخلخال في الرجل ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف والدرع ونحوهما { وترى الفلك فيه } أي في كل واحد من البحرين وقال النحاس : الضمير يعود إلى الماء المالح خاصة ولوا ذلك لقال : فيهما { مواخر } يقال مخرت السفينة تمخر : إذا شقت الماء فالمعنى : وترى السفن في البحرين سواق للماء بعضها مقبلة وبعضها مدبرة بريح واحدة وقد تقدم الكلام على هذا في سورة النحل واللام في { لتبتغوا من فضله } متعلقة بما يدل عليه الكلام السابق : أي فعل ذلك لتبتغوا أو بمواخر قال مجاهد : ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة كما تقدم في البقرة { ولعلكم تشكرون } الله على ما أنعم عليكم به من ذلك قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق المؤمن والكافر والكفر والإيمان فكما لا يستوي البحران كذلك لا يستوي المؤمن والكافر ولا الكفر والإيمان (4/487)
13 - { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } أي يضيف بعض أجزائهما إلى بعض فيزيد في أحدهما بالنقص في الآخر وقد تقدم تفسيره في آل عمران وفي مواضع من الكتاب العزيز { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } قدره الله لجريانهما وهو يوم القيامة وقيل هو المدة التي يقطعان في مثلها الفلك وهو سنة للشمس وشهر للقمر وقيل المراد به جري الشمس في اليوم والقمر في الليلة وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة لقمان والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى الفاعل لهذه الأفعال وهو سبحانه واسم الإشارة مبتدأ وخبره { الله ربكم له الملك } أي هذا الذي من صنعته ما تقدم : هو الخالق المقدر والقادر المقتدر المالك للعالم والمتصرف فيه ويجوز أن يكون قوله : له الملك جملة مستقلة في مقابلة قوله : { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه والقطمير : القشرة الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة وتصير على النواة كاللفافة لها وقال المبرد : هو شق النواة وقال قتادة : هو القمع الذي على رأس النواة قال الجوهري : ويقال هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة (4/487)
ثم بين سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله بأنهم لا ينفعون ولا يضرون فقال : 14 - { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم لكونها جمادات لا تدرك شيئا من المدركات { ولو سمعوا } على طريقة الفرض والتقدير { ما استجابوا لكم } لعجزهم عن ذلك قال قتادة : المعنى ولو سمعوا لم ينفعوكم وقيل المعنى : لو جلعنا لهم سماعا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتموهم إليه من الكفر { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } أي يتبرأون من عبادتكم هم ويقولون : { ما كنتم إيانا تعبدون } ويجوز أن يرجع { والذين تدعون من دونه } وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار وهم الملائكة والجن والشياطين والمعنى : أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم { ولا ينبئك مثل خبير } أي لا يخبرك مثل من هو خبير بالأشياء عالم بها وهو الله سبحانه فإنه لا أحد أخبر بخلقه وأقوالهم وأفعالهم منه سبحانه وهو الخبير بكنه الأمور وحقائقها
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فلا يبقى خلق لله في السموات والأرض إلا من شاء الله إلا مات ثم يرسل الله من تحت العرش منيا كمني الرجال فتنبت أجسامهم ولحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى ثم قرأ عبد الله { الله الذي أرسل الرياح } الآية وأخرج أبو داود والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال [ قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الموتى ؟ قال : أما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء ؟ قلت : بلى قال : كذلك يحيي الله الموتى وكذلك النشور ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود قال : إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله إن العبد المسلم إذا قال : سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله قبض عليهن ملك يضمهن تحت جناحه ثم يصعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفر لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن ثم قرأ { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } قال : أداء الفرائض فمن ذكر الله في أداء فرائضه حمل عمله أولى به وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وما يعمر من معمر } الآية قال : يقول ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت له ذلك فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له فذلك قوله : { ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } يقول : كل ذلك في كتاب عنده وأخرج أحمد ومسلم وأبو عوانة وابن حبان والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمسة وأربعين ليلة فيقول أي رب أشقي أم سعيد ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص ] وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود قال : قالت أم حبيبة : الله مأمتعني بزوجي النبي وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنك سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة ولن يعجل الله شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل ] وهذه الأحاديث مخصصة بما ورد من قبول الدعاء وأنه يعتلج هو والقضاء وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر فلا معارضة بين الأدلة كما قدمنا وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ما يملكون من قطمير } قال : القطمير القشر وفي لفظ : الجلد الذي يكون على ظهر النواة (4/488)
ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه ومزيد حاجتهم إلى فضله فقال : 15 - { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } أي المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا فهم الفقراء إليه على الإطلاق و { هو الغني } على الإطلاق { الحميد } أي المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم (4/489)
ثم ذكر سبحانه نوعا من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إلأيه واستغناؤه عنهم فقال : 16 - { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } أي إن يشأ يفنكم ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه ولا يعصونه أو يأت بنوع من أنواع الخلق وعالم من العالم غير ما تعرفون (4/490)
17 - { وما ذلك } إلا ذهاب لكم والإتيان بآخرين { على الله بعزيز } أي بممتنع ولا متعسر وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم (4/490)
18 - { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي نفس وازرة فحذف الموصوف للعلم به ومعنى تزر : تحمل والمعنى : لا تحمل نفس حمل نفس أخرى : أي إثمها بل كل نفس تحمل وزرها ولا تخالف هذه الآية قوله : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم والكل من أوزارهم لا من أوزار غيرهم ومثل هذا حديث [ من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ] فإن الذي سن السنة الشيئة إنما حمل وزر سنته السيئة وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى { وإن تدع مثقلة إلى حملها } قال الفراء : أي نفس مثقلة قال : وهذا يقع للمذكر والمؤنث قال الأخفش : أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها { لا يحمل منه } أي من حملها { شيء ولو كان ذا قربى } أي ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها لم يحمل من حملها شيئا ومعنى الآية : وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا ولو كانت قريبة لها في النسب فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها وبين الداعية لها ؟ وقرئ ذو قربى على أن كان تامة كقوله : { وإن كان ذو عسرة } وجملة { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار ومعنى { يخشون ربهم بالغيب } أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه وهو غائب عنهم أو يخشونه في الخلوات عن الناس قال الزجاج : تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار كقوله : { إنما أنت منذر من يخشاها } وقوله : { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } ومعنى { وأقاموا الصلاة } أنهم اختفلوا بأمرها ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم { ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه } التزكي : التطهر من أدناس الشرك والفواحش والمعنى : أن من تطهر بترك المعاصي واستكثر من العمل الصالح فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك مختص به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلا عليه لا على غيره قرأ الجمهور { ومن تزكى فإنما يتزكى } وقرأ أبو عمرو { يزكى } بإدغام التاء في الزاي وقرأ ابن مسعود وطلحة ومن أزكى فإنما يزكى { وإلى الله المصير } لا إلى غيره ذكر سبحانه أولا أنه لا يحمل أحد شيء من ذنوبه لا يحمله ثم ذكر ثالثا أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شيء (4/490)
ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر فقال : 19 - { وما يستوي الأعمى } أي المسلوب حاسة البصر { والبصير } الذي له ملكة البصر فشبه الكافر بالأعمى وشبه المؤمن بالبصير (4/491)
20 - { ولا الظلمات ولا النور } أي ولا تستوي الظلمات ولا النور فشبه الباطل بالظلمات وشبه الحق بالنور قال الأخفش : ولا في قوله { ولا النور } (4/491)
21 - { ولا الحرور } زائدة والتقدير وما يستوي الظلمات والنور ولا الظل والحرور والحرور شدة حر الشمس قال الأخفش : والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار والسموم يكون بالليل وقيل عكسه وقال رؤبة بن العجاج : الحرور يكون بالليل خاصة والسموم يكون بالنهار خاصة وقال الفراء : السموم لا يكون إلا بالنهار والحرور يكون فيهما قال النحاس : وهذا أصح وقال قطرب : الحرور الحر والظر البرد والمعنى : أنه لا يستوي الظل الذي لا حر فيه ولا أذى والحر الذي يؤذي قيل أراد الثواب والعقاب وسمي الحر حرورا مبالغة في شدة الحر لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى وقال الكلبي : أراد بالظل الجنة وبالحرور النار وقال عطاء : يعني ظل الليل وشمس النهار قيل وإنما جمع الظلمات وأفرد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق (4/491)
ثم ذكر سبحانه تمثيلا آخر للمؤمن والكافر فقال : 22 - { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } فشبه المؤمنين بالأحياء وشبه الكافرين بالأموات وقيل أراد تمثيل العلماء والجهلة وقال ابن قتيبة : الأحياء العقلاء والأموات الجهال قال قتادة : هذه كلها أمثال : أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن { إن الله يسمع من يشاء } أن يسمعه من أولياءه الذي خلقهم لجنته ووفقهم لطاعته { وما أنت بمسمع من في القبور } يعني الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم : أي كما لا تسمع من مات كذلك لا تسمع من مات قبله قرأ الجمهور بتنوين { مسمع } وقطعه عن الإضافة (4/491)
وقرأ الحسن وعيسىالثقفي وعمرو بن ميمون بإضافته { إن أنت إلا نذير } أي ما أنت إلا رسول منذر ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ والهدى والضلالة بيد الله عز و جل (4/492)
23 - { إنا أرسلناك بالحق } يحوز أن يكون بالحق في محل نصب على الحال من الفاعل : أي محقين أو من المفعول : أي محقا أو نعت لمصدر محذوف : أي إرسالا ملتبسا بالحق أو هو متعلق ببشيرا : أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعد الحق والأولى أن يكون نعتا للمصدر المحذوف ويكون معنى بشيرا : بشيرا لأهل الطاعة ونذيرا لأهل المعصية { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } أي ما من أمة من الأمم الماضية إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها واقتصر على ذكر النذير دون البشير لأنه ألصق بالمقام (4/491)
ثم سلى نبيه صلى الله علي وسلم وعزاه فقال : 24 - { وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم } أي كذب من قبلهم من الأمم الماضية أنبيائهم { جاءتهم رسلهم بالبينات } أي بالمعجزات الواضحة والدلالات الظاهرة { وبالزبر } أي الكتب المكتوبة كصحف إبراهيم { وبالكتاب المنير } كالتوراة والإنجيل قيل الكتاب المنير داخل تحت الزبر وتحت البينات والعطف لتغاير المفهومات وإن كانت متحدة في الصدق والأولى تخصيص البينات بالمعجزات والزبر بالكتب التي فيها مواعظ والكتاب بما فيه شرائع وأحكام (4/492)
25 - { ثم أخذت الذين كفروا } وضع الظاهر موضع الضمير يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة ويشعر بعلة الأخذ { فكيف كان نكير } أي فكيف كان نكيري عليهم وعقوبتي لهم وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في { تذكيري } وصلا لا وقفا وقد قضى بيان معنى هذا قريبا
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حجة الوداع : [ ألا لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده ] وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه [ عن أبي رمثة قال : انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأيته قال لأبي : ابنك هذا ؟ قال : إي ورب الكعبة قال : أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء } قال : يكون عليه وزر لا يجد أحدا يحمل عنه من وزره شيئا (4/492)
ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته الباهرة وخلقا من مخلوقاته البديعة فقال : 27 - { ألم تر } والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له { أن الله أنزل من السماء ماء } وهذه الرؤية هي القلبية : أي ألم تعلم وأن واسمها وخبرها سدت مسد المفعولين { فأخرجنا به } أي بالماء والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع وانتصاب { مختلفا ألوانها } على الوصف لثمرات والمراد بالألوان الأجناس والأصناف : أي بعضها أبيض وبعضها أحمر وبعضها أصفر وبعضها أخضر وبعضها أسود { ومن الجبال جدد } الجدد جمع جدة وهي الطريق قال الأخفش : ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال نحو سرير وسرر قال زهير :
( كأنه أسفع الخدين ذو جدد ... طار ويرتع بعد الصيف أحيانا )
وقيل الجدد القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته حكاه ابن بحر قال الجوهري : الجدة : الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه والجدة الطريقة والجمع جدد وجدائد ومن ذلك قول أبي ذؤيب :
( جون السراة له جدائد أربع )
قال المبرد : جدد : طرائق وخطوط قال الواحدي : ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد وقال الفراء : هي الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض وسود وحمر واحدها جدة والمعنى : أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال وهي طرائقها أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض ولون بعضها الحمرة وهو معنى قوله : { بيض وحمر مختلف ألوانها } قرأ الجمهور { جدد } بضم الجيم وفتح الدال وقرأ الزهري بضمهما جمع جديدة وروي عنه أنه قرأ بفتحهما وردها أبو حاتم وصححها غيره وقال : الجدد الطريق الواضح البين { وغرابيب سود } الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب قال الجوهري : تقول هذا أسود غربيب : أي شديد السواد وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلا من غرابيب قال الفراء : في الكلام تقديم وتأخير تقديره وسود غرابيب لأنه يقال أسود غربيب وقل ما يقال غربيب أسود وقوله : { مختلف ألوانها } صفة لجدد وقوله : { وغرابيب } معطوف على جدد على معنى : ومن الجبال جدد بيض وحمر ومن الجبال غرابيب على لون واحد وهو السواد أو على حمر على معنى ومن الجبال جدد بيض وحمر وسود وقيل معطوف على بيض ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل جدد : أي ومن الجبال ذو جدد لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها (4/493)
28 - { ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه } قوله مختلف صفة لموصوف محذوف : أي ومنهم صنف أو نوع أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة والسواد والبياض والخضرة والصفرة قال الفراء : أي خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات والجبال وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه ومعنى { كذلك } أي مختلفا مثل ذلك الاختلاف وهو صفة لمصدر محذوف والتقدير مختلف ألوانه اختلافا كائنا كذلك : أي كاختلاف الجبال والثمار وقرأ الزهري والدواب بتخفيف الباء وقرأ ابن السميفع ألوانها وقيل إن قوله كذلك متعلق بما بعده : أي مثل ذلك المطر والاعتبار في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله من عباده العلماء وهذا اختاره ابن عطية وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها والراجح الوجه الأول والوقف على كذلك تام ثم استؤنف الكلام وأخبر سبحانه بقوله : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } أو هو من تتمة قوله : { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة وعلى كل تقدير فهو سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته وهم العلماء به وتعظيم قدرته قال مجاهد : إنما العالم من خشي الله عز و جل وقال مسروق : كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له قال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم وقال الشعبي : العالم من خاف الله ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف ونصب العلماء ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف : الخشية في هذه القراءة استعارة والمعنى : أنه يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس وجملة { إن الله عزيز غفور } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده (4/494)
29 - { إن الذين يتلون كتاب الله } أي يستمرون على تلاوته ويداومونها والكتاب هو القرآن الكريم ولا وجه لما قيل إن المراد به جنس كتب الله { وأقاموا الصلاة } أي فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها وأذكارها { وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية } فيه حث على الإنفاق كيف ما تهيأ فإن تهيأ سرا فهو أفضل وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء ويمكن أن يراد بالسر صدقة النفل وبالعلانية صدقة الفرض وجملة { يرجون تجارة لن تبور } في محل رفع على خبرية إن كما قال ثعلب وغيره والمراد بالتجارة ثواب الطاعة ومعنى { لن تبور } لن تكسد ولن تهلك وهي صفة للتجارة والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم (4/495)
واللام في 30 - { ليوفيهم أجورهم } متعلق بلن تبور على معنى : أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } وقيل إن اللام تمتعلقة بمحذوف دل عليه السياق : أي فعلوا ذلك ليوفيهم ومعنى { ويزيدهم من فضله } أنه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم وجملة { إنه غفور شكور } تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة : أي غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم وقيل إن هذه الجملة هي خبر إن وتكون جملة يرجون في محل نصقب على الحال والأول أولى (4/495)
31 - { والذي أوحينا إليك من الكتاب } يعني القرآن وقيل اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية أو ابتدائية وجملة { هو الحق } خبر الموصول { ومصدقا لما بين يديه } منتصب على الحال : أي موافقا لما تقدمه من الكتب { إن الله بعباده لخبير بصير } أي محيط بجميع أمورهم (4/495)
32 - { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } المفعول الأول لأورثنا الموصول والمفعول الثاني الكتاب وإنما قدم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب والمعنى : ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب وهو القرآن : أي قضينا وقدرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك ومعنى اصطفائهم اختيارهم واستخلاصهم ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم قال مقاتل : يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذي اصطفينا من عبادنا وقيل إن المعنى : أورثناه من الأمم السالفة : أي أخرناه عنهم وأعطيناه الذين اصطفينا والأول أولى ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام فقال : { فمنهم ظالم لنفسه } قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم وهو من اصطفاهم من العباد فكيف يكون من اصطفاه الله ظالما لنفسه ؟ فقيل إن التقسيم هو راجع إلى العباد : أي فمن عبادنا ظالم لنفسه وهو الكافر ويكون ضمير يدخلونها عائدا إلى المقتصد والسابق وقيل المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به وهو المرجأ لأمر الله وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله : { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب } وهذا فيه نظر لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء وقيل الظالم لنفسه : هو الذي عمل الصغائر وقدروي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة وهذا هو الراجح لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي ووجه كونه ظالما لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظا عظيما وقيل الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر
وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد فقال عكرمة وقتادة والضحاك : إن المقتصد المؤمن العاصي والسابق التقي على الإطلاق وبه قال الفراء وقال مجاهد في تفسير الآية : فمنهم ظالم لنفسه أصحاب المشأمة { ومنهم مقتصد } أصحاب الميمنة { ومنهم سابق بالخيرات } السابقون من الناس كلهم وقال المبرد : إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها وقال الحسن : الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته والسابق من رجحت حسناته على سيئاته وقال مقاتل : الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد والمقتصد الذي لم يصب كبيرة والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة وحكى النحاس أن الظالم صاحب الكبائر والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير قال : وهذا قول جماعة من أهل النظر لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى وقال الضحاك فيهم ظالم لنفسه : أي من ذريتهم ظالم لنفسه وقال سهل بن عبدالله : السابق العالم والمقتصد المتعلم والظالم لنفسه الجاهل وقال ذو النون المصري : الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط والمقتصد الذاكر بقلبه والسابق الذي لا ينساه وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال والمقتصد صاحب الأفعال والسابق صاحب الأحوال وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق وقيل الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار والمقتصد الذي يعبده طمعا في الجنة والسابق الذي يعبده لا لسبب وقيل الظالم الذي يحب نفسه والمقتصد الذي يحب دينه والسابق الذي يحب ربه وقيل الظالم الذي ينتصف ولا ينصف والمقتصد الذي ينتصف وينصف والسابق الذي ينصف ولا ينتصف وقد ذكر الثعلبي وغيره أقوالا كثيرة ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم والمقتصد والسابق معروفة وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير هلا فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوتها من الثواب وإن كان قائما بما أوجب الله عليه تاركا لما نهاه الله عنه فهو من هذه الحيثية ممن اصطفاه الله ومن أهل الجنة فلا إشكال في الآية ومن هذا قول آدم { ربنا ظلمنا أنفسنا } وقول يونس { إني كنت من الظالمين } ومعنى المقتصد هو من يتوسط في أمر الدين ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط وهذا من أهل الجنة وأما السابق فهو الذي سبق غيره في أمور الدين وهو خير الثلاثة
وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه والسابق أفضل منهم فقيل إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشر على أهل الخير وتقديم المفضولين علىالفاضلين وقيل وجه التقديم هنا أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل العاصي قليل والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقل قليل فقدم الأكثر على الأقل والأول أولى فإن الكثرة يمجردها لا تقتضي تقديم الذكر وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به والإشارة بقوله : { ذلك } إلى توريث الكتاب والاصطفاء وقيل إلى السبق بالخيرات والأول أولى وهو مبتدأ وخبره { هو الفضل الكبير } أي الفضل الذي لا يقادر قدره (4/495)
وارتفاع 33 - { جنات عدن } على أنها مبتدأ وما عبدها خبرها أو على البدل من الفضل لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب وعلى هذا فتكون جملة { يدخلونها } مستأنفة وقد قدمنا أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة فلا وجه لقصره على الصنف الأخير وقرأ زر بن حبيش والترمذي جنة بالإفراد وقرأ الجحدري جنات بالنصب على الاشتغال وجوز أبو البقاء أن تكون جنات خبرا ثانيا لاسم الإشارة وقرأ أبو عمرو { يدخلونها } على البناء للمفعول وقوله : { يحلون } خبر ثان لجنات عدن أو حال مقدرة وهو من حليت المرأة فهي حال وفيه إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيرا للدخول فلما قال { يحلون فيها } أشار أن دخولهم على وجه السرعة { من أساور من ذهب } من الأولى تبعيضية والثانية بيانية : أي يحلون بعض أساور كائنة من ذهب والأساور جمع أسورة جمع سوار وانتصاب { لؤلؤا } بالعطف على محل { من أساور } وقرئ بالجر عطفا على ذهب { ولباسهم فيها حرير } قد تقدم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج (4/497)
34 - { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } قرأ الجمهور { الحزن } بفتحتين وقرأ جناح بن حبيش بضم الحاء وسكون الزاي والمعنى : أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة قال قتادة : حزن الموت وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف رد الطاعات وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة وقيل حزن أهوال يوم القيامة وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة وقال سعيد بن جبير : هم الخبز في الدنيا وقيل هم المعيشة وقال الزجاج : أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد وهذا أرجح الأقوال فإن الدنيا وإن بلغ نعيمها أي بلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان وخصوصا أهل الإيمان فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه مضطربي القلوب في كل حين هل تقبل أعمالهم أو ترد ؟ حذرين من عاقبة السوء وخاتمة الشر ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة وأما أهل العصيان : فهم وإن نفس عن خناقهم قليلا في حياة الدنيا التي هي دار الغرور وتناسوا دار القرار يوما من دهرهم فلا بد أن يشتد وجلهم وتعظم مصيبتهم وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت وقربوا من منازل الآخرة ثم إذا قبضت أرواحهم ولاح لهم ما يسوؤهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غما وحزنا فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة وأدخلهم الجنة فقد أذهب عنهم أحزانهم وأزال غمومهم وهمومهم { إن ربنا لغفور شكور } أي غفور لمن عصاه شكور لمن أطاعه (4/498)
35 - { الذي أحلنا دار المقامة من فضله } أي دار الإقامة التي يقام فيها أبدا ولا ينتقل عنها تفضلا منه ورحمة { لا يمسنا فيها نصب } أي لا يصيبنا في الجنة عناء ولا تعب ولا مشقة { ولا يمسنا فيها لغوب } وهو الإعياء من التعب والكلال من النصب
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ثمرات مختلفا ألوانها } قال : الأبيض والأحمر والأسود وفي قوله : { ومن الجبال جدد } قال : طرائق { بيض } يعني الألوان وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الغربيب الأسود الشديد السواد وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { ومن الجبال جدد } قال : طرائق تكون في الجبل بيض { وحمر } فتلك الجدد { وغرابيب سود } قال : جبال سود { ومن الناس والدواب والأنعام } قال : { كذلك } اختلاف الناس والدواب والأنعام كاختلاف الجبال ثم قال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } قال : فصل لما قبلها وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } قال : العلماء بالله الذين يخافونه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي عن ابن مسعود قال : ليس العلم من كثرة الحديث ولكن العلم من الخشية وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والطبراني عنه قال : كفى بخشية الله علما وكفى باغترار بالله جهلا وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضا قال : ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال : بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } قال : هم أمة محمد صلى الله عليه و سلم ورثهم الله كل كتاب أنزل فظالمهم مغفور له ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب وأخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه قال في هذه الآية { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } قال : هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم يدخلون الجنة ] وفي إسناده رجلان مجهولان قال الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا شعبة عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلا من ثقيف
يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : قال الله { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } فأما الذين سبقوا فأولئك الذي يدخلون الجنة بغير حساب وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طلول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور } إلى آخر الآية ] قال البيهقي : إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا اه وفي إسناد أحمد محمد بن إسحاق وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول لأنه رواه من طريق الأعمش عن رجل عن أبي ثابت عن أبي الدرداء ورواه ابن جرير عن الأعمش قال : ذكر أبو ثابت وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أمتي ثلاثة أثلاث : فثلث يدخلون الجنة بغير حساب وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم
يدخلون الجنة وثلث يمحصون ويكشفون ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون : لا إله إلا الله وحده فيقول الله : أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب وهي التي قال الله : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } وتصديقا في التي ذكر في الملائكة قال الله تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } فجعلهم ثلاثة أفواج فمنهم ظالم لنفسه فهذا الذي يكشف ويمحص ومنهم مقتصد وهو الذي يحاسب حسابا يسيرا ومنهم سابق بالخيرات فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب بإذن الله يدخلونها جميعا ] قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث : غريب جدا اهـ وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ويجب المصير إليها ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر ويؤيدها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد : { فمنهم ظالم لنفسه } الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة ] وما أخرجه الطيالسي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قال : قلت لعائشة أرأيت قول الله { ثم أورثنا الكتاب } الآية قالت : أما السابق فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فشهد له بالجنة وأما المقتصد فمن تبع آثارهم فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك ومن اتبعنا وكل في الجنة وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب وثلث يحاسبون حسابا يسيرا وثلث يجيئون بذنوب عظام إلا أنهم لا يشركوا فيقول الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ثم قرأ { ثم أورثنا الكتاب } الآية وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا نزع بهذه الآية { ثم أورثنا الكتاب } قال : ألا إن سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له وأخرجه العقيلي وابن مردويه والبيقهي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعا وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعا وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية ثم قال : ألا إن سابقنا أهل جهدنا ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ألا وإن ظلمنا أهل بدونا وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله : { فمنهم ظالم لنفسه } الآية قال : أشهد على الله أنه يدخلهم جميعا الجنة وأخرج الفريابي و ابن جرير و ابن مردويه عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } قال : كلهم ناج وهي هذه الأمة وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال : هي مثل التي في الواقعة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون : صنفان ناجيان وصنف هالك وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي عنه في قوله : { فمنهم ظالم لنفسه } قال : هو الكافر والمقتصد أصحاب اليمين وهذا المروي عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني ولا يوافق ما قدمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن جماعة من الصحابة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن الحرث أن ابن عباس سأكل كعبا عن هذه الآية فقال نجوا كلهم ثم قال : تحاكت مناكبهم ورب الكعبة ثم أعطوا الفضل بأعمالهم وقد قدمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين فتعارضت الأقوال عنه وأخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه و سلم تلا قول الله : { جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا } فقال : إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وقالوا الحمد لله } الآية قال : هم قوم في الدنيا يخافون الله ويجتهدون له في العبادة سرا وعلانية وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت فعندها { قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور } غفر لنا العظيم وشكر لنا القليل من أعمالنا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في الآية قال : حزن النار (4/498)
ثم لما فرغ سبحانه من ذكر جزاء عباده الصالحين ذكر جزاء عباده الصالحين فقال : 36 - { والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا } أي لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ويستريحوا من العذاب { ولا يخفف عنهم من عذابها } بل { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه { لا يموت فيها ولا يحيا } قرأ الجمهور فيموتوا بالنصب جوابا للنفي وقرأ عيسى بن عمر والحسن بإثبات النون قال المازني : على العطف على يقضى وقال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة ولا وجه لهذا التضعيف بل هي كقوله : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } { كذلك نجزي كل كفور } أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل من هو مبالغ في الكفر وقرأ أبو عمرو { يجزى } على البناء للمفعول (4/502)
37 - { وهم يصطرخون فيها } من الصراخ وهو الصياح أي وهم يستغيثون في النار رافعين أصواتهم والصارخ : المستغيث ومنه قول الشاعر :
( كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الطنابيب )
{ ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } أي وهم فيها يصطرخون يقولون : ربنا إلخ قال مقاتل : هو أنهم ينادون : ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل من الشرك والمعاصي فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر والطاعة بدل المعصية وانتصاب صالحا على ا ه صفة لمصدر محذوف : أي عملا صالحا أو صفة لموصوف محذوف : أي نعمل شيئا صالحا قيل وزيادة قوله : { غير الذي كنا نعمل } للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحه فأجاب الله سبحانه عليهم بقوله : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } والاستفهام للتقريع والتوبيخ والواو للعطف على مقدر كما في نظائره وما نكرة موصوفة : أي أو لم نعمركم عمرا يتمكن من التذكر فيه من تذكر فقيل هو ستون سنة وقيل أربعون وقيل ثماني عشرة سنة قال بالأول جماعة من الصحابة وبالثاني الحسن ومسروق وغيرهما وبالثالث عطاء وقتادة وقرأ الأعمش ما يذكر بالإدغام { وجاءكم النذير } قال الواحدي : قال جمهور المفسرين : هو النبي صلى الله عليه و سلم وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسن بن الفضل والفراء وابن جرير : هو الشيب ويكون معناه على هذا القول : أو لم نعمركم حتى شبتم وقيل هو القرآن وقيل الحمى قال الأزهري : معناه : أن الحمى رسول الموت : أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه والشيب نذير أيضا لأنه يأتي في سن الاكتهال وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب وقيل هو موت الأهل والأقارب وقيل هو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب وقيل هو موت الأهل والأقارب وقيل هو كمال العقل وقيل البلوغ { فذوقوا فما للظالمين من نصير } أي فذوقوا عذاب جهنم لأنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله ويحول بينكم وبينه وقال مقاتل : فذوقوا العذاب فما للمشركين من مانع يمنعهم (4/503)
38 - { إن الله عالم غيب السموات والأرض } قرأ الجمهور بإضافة عالم إلى غيب وقرأ جناح بن حبيش بالتنوين ونصب غيب والمعنى : أنه عالم بكل شيء ومن ذلك أعمال لا تخفى عليه منها خافية فلو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا كما قال سبحانه : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } { إنه عليم بذات الصدور } تعليل لما قبله لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى من كل شيء علم ما فوقها بالأولى وقيل هذه الجملة مفسرة للجملة الأولى (4/503)
39 - { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } أي جعلكم أمة خالفة لمن قبلها قال قتادة : خلفا بعد خلف وقرنا بعد قرن والخلف : هو التالي للمتقدم وقيل جعلكم خلفاءه في أرضه { فمن كفر } منكم هذه النعمة { فعليه كفره } أي عليه ضرر كفره لا يتعداه إلى غيره { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا } أي غضبا وبغضا { ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } أي نقصا وهلاكا والمعنى : أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلا المقت ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا الخسار (4/504)
ثم أمره سبحانه أن يوبخهم ويبكتهم فقال : 40 - { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله } أي أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهة وعبدتموهم من دون الله وجملة { أروني ماذا خلقوا من الأرض } بدل اشتمال من أرأيتم والمعنى : أخبروني عن شركائكم أروني أي شيء خلقوا من الأرض ؟ وقيل إن الفعلان وهما أرأيتم و أروني من باب التنازع وقد أعمل الثاني على ما هو اختيار البصريين { أم لهم شرك في السموات } أي أم لهم شركة مع الله في خلقها أو ملكها أو التصرف فيها حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية { أم آتيناهم كتابا } أي أم أنزلنا عليهم كتابا بالشركة { فهم على بينة منه } أي على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم { بينة } بالتوحيد وقرأ الباقون بالجمع قال مقاتل : يقول هل أعطينا كفار مكة كتابا فهم على بيان منه بأن مع الله شريكا ثم أضرب سبحانه عن هذا إلى غيره فقال : { بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } أي ما يعد الظالمون بعضهم بعضا كما يفعله الرؤساء والقادة من المواعيد لأتباعهم إلا غرورا يغرونهم به ويزينونه لهم وهو الأباطيل التي تغر ولا حقيقة لها وذلك قولهم : إن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله وتشفه لهم عنده وقيل إن الشياطين تعد المشركين بذلك وقيل المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضا هو أنهم ينصرون على المسلمين ويغلبونهم (4/504)
وجملة 41 - { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } مستأنفة لبيان قدرة الله سبحانه وبديع صنعه بعد بيان ضعف الأصنام وعدم قدرتها على شيء وقيل المعنى : إن شركهم يقتضي زوال السموات والأرض كقوله : { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا } { ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } أي ما أمسكهما من أحد من بعد إمساكه أو من بعد زوالهما والجملة سادة مسد جواب القسم والشرط ومعنى { أن تزولا } لئلا تزولا أو كراهة أن تزولا قال الزجاج : المعنى أن الله يمنع السموات والأرض من أن تزولا فلا حاجة إلى التقدير قال الفراء : أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد قال : وهو مثل قوله : { ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون } وقيل المراد زوالهما يوم القيامة وجملة { إنه كان حليما غفورا } تعليل لما قبلها من إمساكه تعالى للسموات والأرض (4/504)
42 - { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } المراد قريش أقسموا قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم بهذا القسم حين أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ومعنى { من إحدى الأمم } يعني المكذبة للرسل والنذير : النبي والهدى : الاستقامة وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كان الرسل في بني إسرائيل { فلما جاءهم } ما تمنوه وهو رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي هو أشرف { نذير } وأكرم مرسل وكان من أنفسهم { ما زادهم } مجيئه { إلا نفورا } منهم عنه وتباعدا عن إجابته (4/505)
43 - { استكبارا في الأرض } أي لأجل الاستكبار والعتو { و } لأجل { ومكر السيئ } أي مكر العمل السيء أو مكروا المكر السيء والمكر هو الحيلة والخداع والعمل القبيح وأضيف إلى صفته كقوله : مسجد الجامع وصلاة الأولى وأنث إحدى لكون أمة مؤنة كما قال الأخفش وقيل المعنى : من إحدى الأمم على العموم وقيل من الأمم التي يقال لها إحدى الأمم تفضيلا لها قرأ الجمهور { ومكر السيئ } بخفض همزة السيء وقرأ الأعمش وحمزة بسكونها وصلا وقد غلط كثير من النحاة هذه القراءة ونزهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها قالوا : وإنما كان يقف بالسكون فغلط من روى عنه أنه كان يقرأ بالسكون وصلا وتوجيه هذه القراءة ممكن بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف كما في قول الشاعر :
( فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل )
بسكون الباء من أشرب ومثله قراءة من قرأ { وما يشعركم } بسكون الراء ومثل ذلك قراءة أبي عمرو { إلى بارئكم } بسكون الهمزة وغير ذلك كثير قال أبو علي الفارسي : هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف وقرأ ابن مسعود ومكرا سيئا { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } أي لا تنزل عاقبة السوء إلا بمن أساء قال الكلبي : يحيق بمعنى يحيط والحوق الإحاطة يقال حاق به كذا إذا أحاط به وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب ولكن قطرب فسره هنا بينزل وأنشد :
( وقد رفعوا المنية فاستقلت ... ذراعا بعد ما كانت تحيق )
أي تنزل { فهل ينظرون إلا سنة الأولين } أي فهل ينتظرون إلا سنة الأولين : أي سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك { فلن تجد لسنة الله تبديلا } أي لا يقدر أحد أن يبدل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلا عنه { ولن تجد لسنة الله تحويلا } بأن يحول ما جرت به سنة الله من العذاب فيدفعه عنهم ويضعه على غيرهم ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما (4/505)
44 - { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها وتأكيده : أي ألم يسيروا في الأرض فينظروا ما أنزلنا بعاد وثماد ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل فإن ذلك هو من سنة الله في المكذبين التي لا تبدل ولا تحول وآثار عذابهم وما أنزل الله بهم موجودة في مساكنهم ظاهرة في منازلهم { و } الحال أن أولئك { كانوا أشد منهم قوة } وأطول أعمارا وأكثر أموالا وأقوى أبدانا { وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض } أي ما كان ليسبقه ويفوته من شيء من الأشياء كائنا ما كان فيهما { إنه كان عليما قديرا } أي كثير العلم وكثير القدرة لا يخفى عليه شيء ولا يصعب عليه أمر (4/506)
45 - { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا } من الذنوب وعملوا من الخطايا { ما ترك على ظهرها } أي الأرض { من دابة } من الدواب التي تدب كائنة ما كانت أما بنو آدم فلذنوبهم وأما غيرهم فلشؤم معاصي بني آدم وقيل المراد ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب من بني آدم والجن وقد قال بالأول ابن مسعود وقتادة وقال بالثاني الكلبي وقال ابن جريج والأخفش والحسين بن الفضل : أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } وهو يوم القيامة { فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا } أي بمن يستحق منهم الثواب ومن يستحق منهم العقاب والعامل في إذا هو : جاء إلى بصيرا وفي هذا تسلية للمؤمنين ووعيد للكافرين
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عباس في قوله : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } قال : ستين سنة وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه أن النبي صلى الله علهي وسلم قال : [ إذا كان يوم القيامة قيل أين أبناء الستين ؟ وهو العمر الذي قال الله : أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ] وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي وفيه مقال وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري والنسائي والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة ] وأخرج عبد بن حميد والطبراني والحاكم وابن مردويه عن سهل بن سعد مرفوعا نحوه وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب قال : العمر الذي عيرهم الله به ستون سنة وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم وابن المنذر والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك ] قال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ثم أخرجه في موضع آخر من كتاب الزهد وقال : هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة وقد روي من غير وجه عنه وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : هو ست وأربعون سنة وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } أربعون سنة وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني في الإفراد وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول على المنبر : [ قال وقع في نفس موسى هل ينام الله عز و جل ؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصفقت يداه وانكسرت القارورتان قال : ضرب الله له مثلا إن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض ] وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن سلام أن موسى قال : يا جبريل هل ينام ربك ؟ فذكر نحوه وأخرج أبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أن موسى فذكره نحوه وأخرج الفريابي وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنه كاد الجعل ليعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } الآية (4/506)
سورة يس
هي ثلاث وثمانون آية
وهي مكية قال القرطبي : بالإجماع إلا أن فرقة قالت { ونكتب ما قدموا وآثارهم } نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وسيأتي بيان ذلك وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : سورة يس نزلت بمكة وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله وأخرج الدارمي والترمذي ومحمد بن نصر والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس من قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ] قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن وفي إسناده هارون أو محمد وهو شيخ مجهول وفي الباب عن أبي بكر ولا يصح لضعف إسناده وأخرج البزار من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ] ثم قال بعد إخراجه : لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد : يعني زيد بن الحباب عن حميد المكي مولى آل علقمة وأخرج الدارمي وأبو يعلى والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة ] قال ابن كثير : إسناده جيد وأخرج ابن حبان والضياء عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له ] وإسناده في صحيح ابن حبان هكذا : حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد الكوبي حدثنا أبي حدثنا زياد بن خيثمة حدثنا محمد ابن جحادة عن الحسن عن جندب بن عبد الله قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومحمد بن نصر وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يس قلب القرآن لا يقرأها عبد يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه فاقرأوها على موتاكم ] وقد ذكر له أحمد إسنادين : أحدهما فيه مجهول والآخر ذكر فيه عن أبي عثمان وقال : وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قرأ يس فكأنما قرأ القرآن عشر مرات ] وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والخطيب والبيهقي عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سورة يس تدعى في التوراة المعممة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة تكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعلى الدافعة والقاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة من قرأها عدلت عشرين حجة ومن سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل الله ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف بركة وألف رحمة ونزعت عنه كل غل وداء ] قال البيهقي : تقرب به عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن رافع الجندي وهو منكر قلت : وهذا الحديث هو الذي تقدمت الإشارة من الترمذي إلى ضعف إسناده ولا يبعد أن يكون موضوعا فهذه الألفاظ كلها منكرة بعيدة عن كلام من أوتي جوامع الكلم وقد ذكره الثعلبي من حديث عائشة وذكره الخطيب من حديث أنس وذكر نحوه الخطيب من حديث علي بأخصر منه وأخرج البزار عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم في سورة يس : [ لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ] وإسناده هكذا : قال حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من داوم على قراءة يس كل ليلة ثم مات مات شهيدا ] وأخرج الدارمي عن ابن عباس قال : من قرأ يس حين يصبح أعطي يسر يمه حتى يمسي ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح
قوله : 1 - { يس } قرأ الجمهوربسكون النون وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بإدغام النون في الواو الذي بعدها وقرأ عيسى بن عمر بفتح النون وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم بكسرها فالفتح على البناء أو على أنه مفعول فعل مقدر تقديره : اتل يس والكسر على البناء أيضا كجير وقيل الفتح والكسر للفرار من التقاء الساكنين وأما وجه قراءة الجمهور بالسكون للنون فلكونها مسرودة على نمط التعديد فلا حظ لها من الإعراب وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميفع والكلبي بضم النون على البناء كمنذ وحيث وقط وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي هذه يس ومنعت من الصرف للعملية والتأنيث
واختلف في معنى هذه اللفظة فقيل معناها يا رجل أو يا إنسان قال ابن الأنباري : الوقف على يس حسن لمن قال هو افتتاح للسورة ومن قال معناه يا رجل لم يقف عليه وقال سعيد بن جبير وغيره : هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه و سلم دليله { إنك لمن المرسلين } ومنه قول السعد الحميري :
( يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة ... على المودة إلا آل ياسين )
ومنه قوله : { سلام على إل ياسين } أي على آل محمد وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين قال الواحدي : قال ابن عباس والمفسرون : يريد يا إنسان : يعني محمدا صلى الله عليه و سلم وقال أبو بكر الوراق : معناه يا سيد البشر وقال مالك : هو اسم من أسماء الله تعالى وروى ذلك عنه أشهب وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أن معناه يا سيد وقال كعب : هو قسم أقسم الله به ورجح الزجاج أن معناه يا محمد
واختلفوا هل هو عربي أو غير عربي ؟ فقال سعيد بن جبير وعكرمة : حبشي وقال الكلبي : سرياني تكلمتبه العرب فصار من لغتهم وقال الشعبي : هو بلغة طي وقال الحسن : هو بلغة كلب وقد تقدم في طه وفي مفتتح سورة البقرة ما يغني عن التطويل ها هنا (4/509)
2 - { والقرآن الحكيم } بالجر على أنه مقسم به ابتداء وقيل هو معطوف على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمار القسم قال النقاش : لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا لمحمد صلى الله عليه و سلم تعظيما له وتمجيدا والحكيم المحكم الذي لا يتناقض ولا يتخالف أو الحكيم قائله (4/511)
وجواب القسم 3 - { إنك لمن المرسلين } وهذا رد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم : { لست مرسلا } (4/511)
وقوله : 4 - { على صراط مستقيم } خبر آخر لإن : أي إنك على صراط مستقيم والصراط المستقيم : الطريق القيم الموصل إلى المطلوب قال الزجاج : على طريقة الأنبياء الذين تقدموك ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال (4/511)
5 - { تنزيل العزيز الرحيم } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر برفع { تنزيل } على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هو تنزيل ويجوز أن يكون خبرا لقوله يس إن جعل اسما للسورة وقرأ الباقون بالنصب على المصدرية : أي نزل الله ذلك تنزيل العزيز الرحيم والمعنى : إنك يا محمد تنزيل العزيز الرحيم والأول أولى وقيل هو منصوب على المدح على قراءة من قرأ بالنصب وعبر سبحانه عن المنزل بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس التنزيل وقرأ أبو حيوة والترمذي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة { تنزيل } بالجر على النعت للقرآن أو البدل منه (4/511)
واللام في 6 - { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم } يجوز أن تتعلق بتنزيل أو بفعل مضمر يدل عليه من المرسلين : أي أرسلناك لتنذر و ما في { ما أنذر آباؤهم } هي النافية : أي لم ينذر آباؤهم ويجوز أن تكون موصولة أو موصوفة : أي لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم أو لتنذرهم عذابا أنذره آباؤهم ويجوز أن تكون مصدرية : أي إنذار آبائهم وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى : ما أنذر آباؤهم برسول من أنفسهم ويجوز أن يراد ما أنذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة وقوله : { فهم غافلون } متعلق بنفي الإنذار على الوجه الأول : أي لم ينذر آباؤهم فهم بسبب ذلك غافلون وعلى الوجوه الآخرة متعلق بقوله لتنذر : أي فهم غافلون عما أنذرنا به آباءهم وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم غافلون على ما قبله (4/511)
واللام في قوله : 7 - { لقد حق القول على أكثرهم } هي الموطئة للقسم أي والله لقد حق القول على أكثرهم ومعنى حق : ثبت ووجب القول : أي العذاب على أكثرهم : أي أكثر أهل مكة أو أكثر الكفار على الإطلاق أو أكثر كفار العرب وهم من مات على الكفر وأصر عليه طول حياته فيتفرع قوله : { فهم لا يؤمنون } على ما قبله بهذا الاعتبار : أي لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه وقيل المراد بالقول المذكور هنا هو قوله سبحانه : { فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك } (4/511)
وجملة 8 - { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم { فهي } أي الأغلال منتهية { إلى الأذقان } فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ولا يتمكنون من عطفها وهو معنى قوله : { فهم مقمحون } أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم قال الفراء والزجاج : المقمح : الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح البعير رأسه وقمح : إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء
قال الأزهري : أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم رؤوسهم صعداء فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها وقال قتادة : معنى مقمحون : مغلولون والأول أولى ومنه قول الشاعر :
( ونحن على جوانبها قعود ... نعض الطرف كالإبل القماح )
قال الزجاج : قيل للكانونين شهرا قماح لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدة البرد وأنشد قول أبي زيد الهذلي :
( فتى ما ابن الأغر إذا استوينا ... وجب الزاد في شهري قماح )
قال أبو عبيدة : قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب وقال أبو عبيدة أيضا : هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول كما يقال فلان حمار : أي لا يبصر الهدى وكما قال الشاعر :
( لهم عن الرشد أغلال وأقياد )
وقال الفراء : هذا ضرب مثل : أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله وهو كقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } وبه قال الضحاك وقيل الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم } وقرأ ابن عباس إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا قال الزجاج : أي في أيديهم قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف قال : وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة التقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان فلفظ هي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق والعرب تحذف مثل هذا ونظيره { سرابيل تقيكم الحر } وتقديره : وسرابيل تقيكم البرد لأن ما وقى من الحر وقى من البرد لأن الغل إذا كان في العنق فلا بدل أن يكون في اليد ولا سيما وقد قال الله { فهي إلى الأذقان } فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون : أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه وروي عن ابن عباس أنه قرأ إنا جعلنا في أيديهم أغلالا وعن ابن مسعود أنه قرأ إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا كما روي من قراءة ابن عباس (4/512)
9 - { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا } أي منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد والسد بضم السين وفتحها لغتان ومن هذا المعنى في الآية قول الشاعر :
( ومن الحوادث لا أبالك أنني ... ضربت علي الأرض بالأسداد )
( لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العذيب وبين أرض مراد )
{ فأغشيناهم } أي غطينا أبصارهم { فهم } بسبب ذلك { لا يبصرون } أي لا يقدرون على إبصار شيء قال الفراء : فألبسنا أبصارهم غشوة : أي عمي فهم لا يبصرون سبيل الهدى وكذا قال قتادة : إن المعنى لا يبصرون الهدى وقال السدي : لا يبصرون محمدا حين ائتمروا على قتله وقال الضحاك : { وجعلنا من بين أيديهم سدا } : أي الدنيا { ومن خلفهم سدا } : أي الآخرة { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } : أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا وقيل ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا قرأ الجمهور بالغين المعجمة : أي غطينا أبصارهم فهو على حذف مضاف وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز والحسن ويحيى بن يعمر وأبو رجاء وعكرمة بالغين المهملة من العشا وهو ضعف البصر ومنه { ومن يعش عن ذكر الرحمن } (4/513)
10 - { وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } أي إنذارك إياهم وعدمه سواء قال الزجاج : أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار (4/513)
إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله : 11 - { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } أي اتبع القرآن وخشي الله في الدنيا وجملة لا يؤمنون مستأنفة مبينة لما قبلها من الاستواء أو في محل نصب على الحال أو بدل وبالغيب في محل نصب على الحال من الفاعل أو المفعول { فبشره بمغفرة وأجر كريم } أي بشر هذا الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب بمغفرة عظيمة وأجر كريم : أي حسن وهو الجنة (4/513)
ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى فقال : 12 - { إنا نحن نحيي الموتى } أي نبعثهم بعد الموت وقال الحسن والضحاك : أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل والأول أولى ثم توعدهم بكتب آثارهم فقال : { ونكتب ما قدموا } أي أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة { وآثارهم } أي ما أبقوه من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت : كمن سن سنة حسنة أو نحو ذلك أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها : كمن سن سنة سيئة قال مجاهد وابن زيد : ونظيره قوله : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } وقوله : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } وقيل المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين قال النحاس : وهو أولى ما قيل في الآية لأنها نزلت في ذلك ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر ومن الخير تعليم العليم وتصنيفه والوقف على القرب وعمارة المساجد والقناطر ومن الشر ابتداع المظالم وإحداث ما يضر بالناس ويقتدي به أهل الجور ويعملون عليه من مكس أو غيره ولهذا قال سبحانه : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } أي وكل شيء من أعمال العباد وغيرها كائنا ما كان في إمام مبين : أي كتاب مقتدى به موضح لكل شيء قال مجاهد وقتادة وابن زيد : أراد اللوح المحفوظ وقالت فرقة : أراد صحائف الأعمال قرأ الجمهور { ونكتب } على البناء للفاعل وقرأ زر ومسروق على البناء للمفعول وقرأ الجمهور { كل شيء أحصيناه } بنصب { كل } على الاشتغال وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وابن عباس في قوله { يس } قالا : يا محمد وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { يس } قال : يا إنسان وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك وعكرمة مثله وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم عمي لا يبصرون فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : ننشدك الله والرحم يا محمد قال : ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة فدعا النبي صلى الله عليه و سلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت { يس * والقرآن الحكيم } إلى قوله : { أم لم تنذرهم لا يؤمنون } قال : فلم يؤمن من ذلك النفر أحد ] وفي الباب روايات في سبب نزول ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الأغلال ما بين الصدر إلى الذقن { فهم مقمحون } كما تقمح الدابة باللجام وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : { وجعلنا من بين أيديهم سدا } الآية قال : كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه و سلم فلا يرونه وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : اجتمعت قريش بباب النبي صلى الله عليه و سلم ينتظرون خروجه ليؤذوه فشق ذلك عليه فأتاه جبريل بسورة يس وأمره بالخروج عليهم فأخذ كفا من تراب وخرج وهو يقرأها ويذر التراب على رؤوسهم فما رأوه حتى جاز فجعل أحدهم يلمس رأسه فيجد التراب وجاء بعضهم فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا ننظر محمدا فقال : لقد رأيته داخلا المسجد قال : قوموا فقد سحركم وأخرج عبد الرزاق والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله : { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } فدعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إنه يكتب آثاركم ثم قرأ عليهم الآية فتركوا وأخرج الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس نحوه وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر قال [ إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحولوا قريبا من المسجد فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ] (4/514)
قوله : 13 - { واضرب لهم مثلا أصحاب القرية } قد تقدم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة وسورة النمل والمعنى : اضرب لأجلهم مثلا أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلا : أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية فعلى الأول لما قال تعالى : { إنك لمن المرسلين } وقال { لتنذر قوما } قال قل لهم : ما أنا بدعا من الرسل فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة وعلى الثاني لما قال : إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال النبي صلى الله عليه و سلم : اضرب لنفسك ولقومك مثلا : أي مثل لهم عند نفسك مثلا بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على الإيذاء وأنت جئت إليهم واحدا وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاءوا إلى أهل القرية وأنت بعثتك إلى الناس كافة والمعنى : واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية : أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية فترك المثل وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب وقيل لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى : اجعل أصحاب القرية لهم مثلا على أن يكون مثلا وأصحاب القرية مفعولين لاضرب أو يكون أصحاب القرية بدلا من مثلا وقد قدمنا الكلام على المفعول الأول من هذين المفعولين هل هو مثلا أو أصحاب القرية وقد قيل إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط } ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله : { وضربنا لكم الأمثال } أي بينا لكم أحوالا بديعة غريبة : هي في الغرابة كالأمثال فقوله سبحانه هنا { واضرب لهم مثلا } يصح اعتبار الأمرين فيه قال القرطبي : هذه القرية هي إنطاكية في قول جميع المفسرين وقوله : { إذ جاءها المرسلون } بدل اشتمال من أصحاب القرية والمرسلون : ÷م أصحاب عيسى بعثهم إلى أهل أنطاكية للدعاء إلى الله (4/516)
فأضاف الله سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله : 14 - { إذ أرسلنا إليهم اثنين } لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه ويجوز أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء فكذبوهما في الرسالة وقيل ضربوهما وسجنوهما قيل واسم الاثنين يوحنا وشمعون وقيل أسماء الثلاثة صادق ومصدوق وسلموم قاله ابن جرير وغيره وقيل سمعان ويحيى وبولس { فعززنا بثالث } قرأ الجمهور بالتشديد وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الزاي قال الجوهري فعززنا يخفف ويشدد : أي قوينا وشددنا فالقراءتان على هذا بمعنى وقيل التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا ومنه { وعزني في الخطاب } والتشديد بمعنى قوينا وكثرنا قيل وهذا الثالث هو شمعون وقيل غيره { فقالوا إنا إليكم مرسلون } أي قال الثلاثة جميعا وجاءوا بكلامهم هذا مؤكدا لسبق التكذيب للإثنين والتكذيب لهما تكذيب للثالث لأنهم أرسلوا جميعا بشيء واحد وهو الدعاء إلى الله عز و جل وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث ؟ (4/517)
وكذلك جملة 15 - { قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا } فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدر : كأنه قيل فما قال لهم أهل إنطاكية فقيل : قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا : أي مشاركون لنا في البشرية فليس لكم مزية علينا تختصون بها ثم صرحوا بجحود إنزال الكتب السماوية فقالوا : { وما أنزل الرحمن من شيء } مما تدعونه أنتم ويدعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم { إن أنتم إلا تكذبون } أي ما أنتم إلا تكذبون في دعوى ما تدعون من ذلك فأجابهم بإثبات رسلاتهم بكلام مؤكد تأكيدا بليغا لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية (4/517)
وهو قولهم : 16 - { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم : ربنا يعلم وبإن وباللام (4/517)
17 - { وما علينا إلا البلاغ المبين } أي ما يجب علينا من جهة ربنا إلا تبليغ رسالته على وجه الظهور والوضوح وليس علينا غير ذلك وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها (4/517)
وكذلك جملة 18 - { قالوا إنا تطيرنا بكم } فإنها مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر : أي إنا تشاءمنا بكم لم تجدوا جوابا تجيبون به على الرسل بها قال مقاتل : حبس عنهم المطر ثلاث سنين قيل إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين ثم رجعوا إلى التجبر والتكبر لما ضاقت صدورهم وأعيتهم العلل فقالوا : { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } أي لئن لم تتركوا هذه الدعوى وتعرضوا عن هذه المقالة لنرجمنكم بالحجارة { وليمسنكم منا عذاب أليم } أي شديد فظيع قال الفراء : عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل وقال قتادة : هو على بابه من الرجم بالحجارة قيل ومعنى العذاب الأليم : القتل وقيل الشتم وقيل هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص وهذا هو الظاهر (4/517)
ثم أجاب عليهم الرسل دفعا لما زعموه من التطير بهم فـ 19 - { قالوا طائركم معكم } أي شؤمكم معكم من جهة أنفسكم لازم في أعناقكم وليس هو من شؤمنا قال الفراء : طائركم معكم : أي رزقكم وعملكم وبه قال قتادة قرأ الجمهور { طائركم } اسم فاعل : أي ما طار لكم من الخير والشر وقرأ الحسن اطيركم أي تطيركم { أإن ذكرتم } قرأ الجمهور من السبعة وغيرهم بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه وقرأ أبو جعفر وزر بن حبيش وابن السميفع وطلحة بهمزتين مفتوحتين وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر والحسن أين بفتح الهمزة وسكون الباء على صيغة الظرف
واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب ؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط وعلى القولين فالجواب هنا محذوف : أي أإن ذكرتم فطائركم معكم لدلالة ما تقدم عليه وقرأ الماجشون أن ذكرتم بهمزة مفتوحة : أي لأن ذكرتم ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سببا للشؤم فقالوا : { بل أنتم قوم مسرفون } أي ليس الأمر كذلك بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية قال قتادة : مسرفون في تطيركم وقال يحيى بن سلام : مسرفون في كفركم وقال ابن بحر : السرف هنا الفساد والإسراف في الأصل مجاوزة الحد في مخالفة الحق (4/518)
20 - { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } هو حبيب بن إسرائيل النجار وكان نجارا وقيل إسكافا وقيل قصارا وقال مجاهد ومقاتل : هو حبيب بن إسرائيل نجارا وكان ينحت الأصنام وقال قتادة : كان يعبد الله في غار فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى وجملة { قال يا قوم اتبعوا المرسلين } مستأنفة جواب سؤال مقدر : كأنه قيل فماذا قال لهم عند مجيئه ؟ فقيل : يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم فإنهم جاءوا بحق (4/518)
ثم أكد ذلك وكرره فقال : 21 - { اتبعوا من لا يسألكم أجرا } أي لا يسألونكم أجرا على ما جاءوكم به من الهدى { وهم مهتدون } يعني الرسل (4/518)
ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه فقال : 22 - { وما لي لا أعبد الذي فطرني } ؟ أي أي مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه بل أرادهم بكلامه فقال : { وإليه ترجعون } ولم يقل إليه أرجع وفيه مبالغة في التهديد (4/518)
ثم عاد إلى المساق الأول لقصد التأكيد ومزيد الإيضاح فقال : 23 - { أأتخذ من دونه آلهة } فجعل الإنكار متوجها إلى نفسه وهم المرادون به : أي لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة وهو الذي فطرني ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارا عليهم وبيانا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال : { إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا } أي شيئا من النفع كائنا ما كان { ولا ينقذون } من ذلك الضر الذي أرادني الرحمن به وهذه الجملة صفة لآلهة أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع والدفع وقوله : { لا تغن } جواب الشرط وقرأ طلحة بن مصرف إن يردني بفتح الياء (4/519)
قال : 24 - { إني إذا لفي ضلال مبين } أي إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح وهذا تعريض بهم كما سبق والضلال الخسران (4/519)
ثم صرح بإيمانه تصريحا لا يبقى بعده شك فقال : 25 - { إني آمنت بربكم فاسمعون } خاطب بهذا الكلام المرسلين قال المفسرون : أرادوا القوم قتله فأقبل هو على المرسلين فقال : إني آمنت بربكم أيها الرسل فاسمعون : أي اسمعوا إيماني واشهدوا لي به وقيل إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبا في الدين وتشددا في الحق فلما قال هذا القول وصرح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه وقيل وطئوه بأرجلهم وقيل حرقوه وقيل حفروا له حفيرة وألقوه فيها وقيل إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء فهو في الجنة وبه قال الحسن وقيل نشروه بالمنشار (4/519)
26 - { قيل ادخل الجنة } أي قيل له ذلك تكريما له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله في شهداء عباده وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ولم يقتل يكون المعنى : أنهم لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل وقيل له ادخل الجنة فلما دخلها وشاهدها { قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر : أي فماذا قال بعد أن قيل له ادخل الجنة فدخلها فقيل قال يا ليت قومي إلخ (4/519)
و ما في 27 - { بما غفر لي } هي المصدرية : أي بغفران ربي وقيل هي الموصولة : أي بالذي غفر لي ربي والعائد محذوف : أي غفر ربي واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له وقال الفراء : إنها استفهامية بمعنى التعجب كأنه قال : بأي شيء غفر لي ربي قال الكسائي : لو صح هذا لقال بمن من غير ألف ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها وإن كان مكسورا بالنسبة إلى حذفها ومنه قول الشاعر :
( على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في دمان )
وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته إرغاما لهم وقيل إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله
وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله : { واضرب لهم مثلا أصحاب القرية } قال : هي أنطاكية وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان بين موسى بن عمران وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة ولم يكن بينهما فترة وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء وهو قوله : { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } والذي عزز به شمعون وكان من الحواريين وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : { طائركم معكم } قال : شؤمكم معكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وجاء من أقصى المدينة رجل } قال : هو حبيب النجار وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر قال اسم صاحب يس : حبيب وكان الجذام قد أسرع فيه وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال : لما قال صاحب يس { يا قوم اتبعوا المرسلين } خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال : { إني آمنت بربكم فاسمعون } أي فاشهدوا لي (4/519)
لما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له وعجل لهم النقمة وأهلكهم بالصيحة ومعنى 28 - { وما أنزلنا على قومه من بعده } أي على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له أو من بعد رفع الله له إلى السموات على الاختلاف السابق { من جند من السماء } لإهلاكهم وللانتقام منهم : أي لم نحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه { وما كنا منزلين } أي وما صح في قضائنا وحكمتنا أن ننزل لإهلاكهم جندا لسبق قضائنا وقدرنا بإن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند وقال قتادة ومجاهد والحسن : أي ما أنزلنا عليهم من رسالة من السماء ولا نبي بعد قتله وروي عن الحسن أنه قال : هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم وتصغير أمرهم : أي ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جندا من السماء (4/521)
بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله : 29 - { إن كانت إلا صيحة واحدة } أي إن كانت العقوبة أو النقمة أو الأخذة إلا صيحة واحدة صاح بها جبريل فأهلكهم قال المفسرون : أخذ جبريل بعضادتي باب المدنية ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت وهو معنى قوله : { فإذا هم خامدون } أي قوم خامدون ميتون شبههم بالنار إذا طفئت لأن الحياة كالنار الساطعة والموت كخمودها قرأ الجمهور { صيحة } بالنصب على أن كان ناقصة واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق كما قدمنا وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ومعاذ والقاري برفعها على أن كان تامة : أي وقع وحدث وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله : { إن كانت } قال أبو حاتم : فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال إن كان إلا صيحة وقدر الزجاج هذه القراءة بقوله : إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة وقدرها غيره : ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة وقرأ عبد الله بن مسعود إن كانت إلا زقية واحدة والزقية الصيحة قال النحاس : وهذا مخلف للمصحف وأيضا فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح ومنه المثل أثقل من الزواقي فكان يجب على هذا أن تكون زقوة ويجاب عنه بما ذكره الجوهري قال : الزقو والزقي مصدر وقد زقا الصدا يزقو زقا : أي صاح : وكل صائح زاق والزقية الصيحة (4/521)
30 - { يا حسرة على العباد } قرأ الجمهور بنصب حسرة على أنها منادى منكر كأنه نادى الحسرة وقال لها : هذا أوانك فاحضري وقيل إنها منصوبة على المصدرية والمنادى محذوف والتقدير : يا هؤلاء تحسروا حسرة وقرأ قتادة وأبي في رواية عنه بضم حسرة على النداء قال الفراء : في توجيه هذه القراءة : إن الاختيار النصب وإنها لو رفعت النكرة لكان صوابا واستشهد بأشياء نقلها عن العرب منها أنه سمع من العرب يا مهتم بأمرنا لا تهتم وأنشد :
( يا دار غيرها البلى تغييرا )
قال النحاس : وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره وتقدير ما ذكره : أي أيها المهتم لا تهتم بأمرنا وتقدير البيت : يا أيتها الدار وحقيقة الحسرة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرا قال ابن جرير : المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندما وتلهفا في استهزائهم برسل الله ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وعلي بن الحسين : يا حسرة العباد على الإضافة ورويت هذه القراءة عن أبي وقال الضحاك : إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل وقيل هي من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وقيل إن القائل : يا حسرة على العبادأب هم الكفار المكذبون والعباد الرسل وذلك أنهم لما رأوا العذاب تحسروا على قتلهم وتمنوا الإيمان قاله أبو العالية ومجاهد وقيل إن التحسر عليهم هو من الله عز و جل بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه وقرأ ابن هرمز ومسلم بن جندب وعكرمة وأبو الزناد يا حسرة بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف وقرئ يا حسرتا كما قرئ بذلك في سورة الزمر وجملة { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه من تكذيب الرسل والاستهزاء بهم وأن ذلك هو سبب التحسر عليهم (4/522)
ثم عجب سبحانه من حالهم حيث لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية فقال : 31 - { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون } أي ألم يعلموا كثرة من أهلكنا قبلهم من القرون التي أهلكناها من الأمم الخالية وجملة { أنهم إليهم لا يرجعون } بدل من كم أهلكنا على المعنى قال سيبويه : أن بدل من كم وهي الخبرية فلذلك جاء أن يبدل منها ما ليس باستفهام والمعنى : ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون وقال الفراء : كم في موضع نصب من وجهين : أحدهما بيروا واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود ألم يروا من أهلكنا والوجه الآخر أن تكون كم في موضع نصب بأهلكنا قال النحاس : القول الأول محال لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها لأنها استفهام ومحال أن يدخل الاستفهام في حيز ما قبله وكذا حكمها إذا كانت خبرا وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل أنهم بدلا من كم وقد رد ذلك المبرد أشد رد (4/522)
32 - { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } أي محضرون لدينا يوم القيامة للجزاء قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة { لما } بتشديدها وقرأ الباقون بتخفيفها قال الفراء : من شدد جعل لما بمعنى إلا وإن بمعنى ما : أي ما كل إلا جميع لدينا محضرون ومعنى جميع مجموعون فهو فعيل بمعنى مفعول و لدينا ظرف له وأما على قراءة التخفيف فإن هي المخففة من الثقيلة وما بعدها مرفوع بالابتداء وتنوين كل عوض عن المضاف إليه وما بعده الخبر واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية قال أبو عبيدة : و ما على هذه القراءة زائدة والتقدير عنده : وإن كل لجميع وقيل معنى محضرون معذبون والأولى أنه على معناه الحقيقي من الإحضار للحساب (4/522)
ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد والحشر مع تعداد النعم وتذكيرها فقال : 33 - { وآية لهم الأرض الميتة } فآية خبر مقدم وتنكيرها للتفخيم ولهم صفتها أو متعلقة بآية لأنها بمعنى علامة والأرض مبتدأ ويجوز أن تكون آية مبتدأ لكونها قد تخصصت بالصفة وما بعدها الخبر قرأ أهل المدينة { الميتة } بالتشديد وخففها الباقون وجملة { أحييناها } مستأنفة مبينة لكيفية كونها آية وقيل هي صفة للأرض فنبههم الله بهذا على إحياء الموتى وذكرهم نعمه وكمال قدرته فإنه سبحانه أحيا الأرض بالنبات : وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها ويتغذون بها وهو معنى قوله : { وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون } وهو ما يقتاتونه من الحبوب وتقديم منه للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل وأكثر ما يقوم به المعاش (4/523)
34 - { وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب } أي جعلنا في الأرض جنات من أنواع النخل والعنب وخصصهما بالذكر لأنهما على الثمار وأنفعها للعباد { وفجرنا فيها من العيون } أي فجرنا في الأرض بعضا من العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو المفعول العيون ومن مزيدة على رأي من جوز زيادتها في الإثبات وهو الأخفش ومن وافقه والمراد بالعيون عيون الماء قرأ الجمهور { فجرنا } بالتشديد وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظا ومعنى (4/523)
واللام في 35 - { ليأكلوا من ثمره } متعلق بجعلنا والضمير في من ثمره يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل وقيل هو راجع إلى ماء العيون لأن الثمر منه قال الجرجاني قرأ الجمهور ثمره بفتح الثاء والميم وقرأ حمزة والكسائي بضمهما وقرأ الأعمش بضم الثاء وإسكان الميم وقد تقدم الكلام في هذا في الأنعام وقوله : { وما عملته أيديهم } معطوف على ثمره : أي ليأكلوا من ثمره ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن ما موصولة وقيل هي نافية والمعنى : لم يعملوه بل العامل له الله : أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها وهو قول الضحاك ومقاتل قرأ الجمهور عملته وقرأ الكوفيون عملت بحذف الضمير والاستفهام في قوله : { أفلا يشكرون } للتقريع والتوبيخ لهم لعدم شكرهم للنعم (4/523)
وجملة 36 - { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } مستأنفة مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم من ترك الشكر لنعمه المذكورة والتعجب من إخلالهم بذلك وقد تقدم الكلام مستوفى في معنى سبحان وهو في تقدير الأمر للعباد بأن ينزهوه عما لا يليق به والأزواج : الأنواع والأصناف لأن كل صنف مختلف الألوان والطعوم والأشكال و { مما تنبت الأرض } بيان للأزواج والمراد كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها { ومن أنفسهم } أي خلق الأزواج من أنفسهم وهم الذكور والإناث { ومما لا يعلمون } من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض (4/524)
37 - { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } الكلام في هذا كما قدمنا في قوله : { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } والمعنى : أن ذلك علامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب إلهيته والسلخ : الكشط والنزع يقال سلخه الله من بدنه ثم يستمعل بمعنى الإخراج فجعل سبحانه ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء وهو استعارة بليغة { فإذا هم مظلمون } أي داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة يقال أظلمنا : أي دخلنا في ظلام الليل وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر وكذلك أصبحنا وأمسينا وقيل منه بمعنى عنه والمعنى : نسلخ عنه ضياء النهار قال الفراء : يرمي بالنهار على الليل فيأتي بالظلمة وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليه فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل : أي كشط وأزيل فتظهر الظلمة (4/524)
38 - { والشمس تجري لمستقر لها } يحتمل أن تكون الواو للعطف على الليل والتقدير : وآية لهم الشمس ويجوز أن تكون الواو ابتدائية والشمس مبتدأ وما بعدها الخبر ويكون الكلام مستأنفا مشتملا على ذكر آية مستقلة قيل وفي الكلام حذف والتقدير : تجري لمجرى مستقر لها فتكون اللام للعلة : أي لأجل مستقر لها وقيل اللام بمعنى إلى وقد قرئ بذلك قيل والمراد بالمستقر : يوم القيامة فعنده تستقر ولا يبقى لها حركة وقيل مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه ولا تجاوزه وقيل نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء وقيل مستقرها تحت العرش لأنها تذهب إلى هنالك فتسجد فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها وهذا هو الراجح وقال الحسن : إن للشمس في اسنة ثلثمائة وستين مطلعا تنزل في كل يوم مطلعا ثم لا تنزل إلى الحول فهي تجري في تلك المنازل وهو مستقرها وقيل غير ذلك وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر والصادق بن الباقر لا مستقر لها بلا التي لنفي الجنس وبناء مستقر على الفتح وقرأ ابن أبي عبلة : لا مستقر بلا التي بمعنى ليس ومستقر اسمها ولها خبرها والإشارة بقوله : { ذلك } إلى جري الشمس : أي ذلك الجري { تقدير العزيز } أي الغالب القاهر { العليم } : أي المحيط علمه بكل شيء ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى المستقر : أي ذلك المستقر : تقدير الله (4/524)
39 - { والقمر قدرناه منازل } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو برفع { القمر } على الابتداء وقرأ الباقون بالنصب على الاشتغال وانتصاب منازل على أنه مفعول ثان لأن قدرنا بمعنى صيرنا ويجوز أن يكون منتصبا على الحال : أي قدرنا سيره حال كونه ذا منازل ويجوز أن يكون منتصبا على الظرفية : أي في منازل واختار أبو عبيد النصب في القمر قال : لأن قبله فعلا وهو نسلخ وبعده فعلا وهو قدرنا قال النحاس : أهل العربية جميعأ فيما علمت على خلاف ما قال منهم الفراء قال : الرفع أعجب إلي قال : وإنما كان الرفع عندهم أولى لأنه معطوف على ما قبله ومعناه : وآية لهم القمر قال أبو حاتم : الرفع أولى لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء والمنازل : هي الثمانية والعشرون التي ينزل القمر في كل ليلة في واحد منها وهي معروفة وسيأتي ذكرها فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة ثم يستتر ليلتين ثم يطلع هلالا فيعود في قطع تلك المنازل في الفلك { حتى عاد كالعرجون القديم } قال الزجاج : العرجون هو عود العذق الذي فيه الشماريخ وهو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف : أي سار في منازله فإذا كان في آخرها دق واستقوس وصغر حتى صار كالعرجون القديم وعلى هذا فالنون زائدة قال قتادة : وهو العذق اليابس المنحني من النخلة قال ثعلب : العرجون الذي يبقى في النخلة إذا قطعت والقديم : البالي وقال الخليل : العرجون أصل العذق وهخو أصفر عريض يشبه به الهلال إذا انحنى وكذا قال الجوهري : إنه أصل العذق الذي يعوج ويقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسا وعرجته : ضربته بالعرجون وعلى هذا فالنون أصلية قرأ الجمهور { العرجون } بضم العين والجيم : وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان والقديم : العتيق (4/525)
40 - { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } الشمس مرفوعة بالابتداء لأنه لا يجوز أن تعمل لا في المعرفة : أي لا يصح ولا يمكن للشمس أن تدرك القمر في سرعة وتنزل في المنزل الذي فيه القمر لأن لكل واحد منهما سلطانا على انفراده فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله بالقيامة فتطلع الشمس من مغربها وقال الضحاك : معناه إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء وقال مجاهد : أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر وقال الحسن : إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة وكذا قال يحيى بن سلام وقيل معناه : إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منزل لا يشتركان فيه وقيل القمر في سماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة ذكره النحاس والمهدوي قال النحاس : وأحسن ما قيل في معناه وأبينه : أن سير القمر سير سريع والشمس لا تدركه في السير وأما قوله { وجمع الشمس والقمر } فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في الأنعام ويأتي في سورة القيامة أيضا وجمعهما علامة لاقنضاء الدنيا وقيام الساعة { ولا الليل سابق النهار } أي لا يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه ويجيء كل واحد منهما في وقته ولا يسبق صاحبه وقيل المراد من الليل والنهار آيتاهما وهما الشمس والقمر فيكون عكس قوله : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } أي ولا القمر سابق الشمس وإيراد السبق مكان الإدراك لسرعة سير القمر { وكل في فلك يسبحون } التنوين في كل عوض عن المضاف إليه : أي وكل واحد منهما والفلك : هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة والخلاف في كون السماء مبسوطة أو مستديرة معروف والسبح : السير بانبساط وسهولة والجمع في قوله : { يسبحون } باعتبار اختلاف مطالعهما فكأنهما متعددان بتعددها أو المراد : الشمس والقمر والكواكب
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { وما أنزلنا على قومه من بعده } الآية يقول : ما كابدناهم بالجموع : أي الأمر أيسر علينا من ذلك وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يا حسرة على العباد } يقول : يا ويلا للعباد وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : يا حسرة على العباد قال : الندامة على العباد الذين { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } يقول : الندامة عليهم يوم القيامة وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وما عملته أيديهم } قال : وجدوه معمولا لم تعمله أيديهم : يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها { أفلا يشكرون } لهذا وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه سلم عن قوله : { والشمس تجري لمستقر لها } قال : [ مستقرها تحت العرش ] وفي لفظ للبخاري وغيره من حديثه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد عند غروب الشمس فقال : [ يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله : { والشمس تجري لمستقر لها } ] وفي لفظ من حديثه أيضا عند أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم قال : [ يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الرجوع فيأذن لها وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ثم قرأ { تجري لمستقر لها } ] وذلك قراءة عبد الله وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما من قول ابن عمر نحوه وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في قوله : { والقمر قدرناه منازل } الآية قال : هي ثمانية وعشرون منزلا ينزلها القمر في كل شهر : أربعة عشر منها شامية وأربعة عشر منها يمانية أولها الشرطين والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والدبرة والصرفة والعواء والسماك وهو آخر الشامية والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلغ وسعد السعود وسعد الأخبية ومقدم الدلو ومؤخر الدلو والحوت وهو آخر اليمانية فإذا سار هذه الثمانية وعشرين منزلا { عاد كالعرجون القديم } كما كان في أول الشهر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : كاالعرجون القديم : يعني أصل العذق العتيق (4/525)
ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعا آخر مما امتن به على عباده من النعم فقال : 41 - { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } أي دلالة وعلامة وقيل معنى آية هنا العبرة وقيل النعمة وقيل النذارة
وقد اختلف في معنى { أنا حملنا ذريتهم } وإلى من يرجع الضمير لأن الضمير الأول وهو قوله : { وآية لهم } لأهل مكة أو لكفار العرب أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد صلى الله عليه و سلم فقيل الضمير يرجع إلى القرون الماضية والمعنى : أن الله حمل ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون فالضميران مختلفان وهذا حكاه النحاس عن علي بن سليمان الأخفش وقيل الضميران لكفار مكة ونحوهم والمعنى : أن الله حمل ذرياتهم من أولادهم وضعفائهم على الفلك فامتن الله عليهم بذلك : أي إنهم يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها وقل الذرية الآباء والأجداد والفلك هو سفينة نوح : أي إن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح قال الواحدي : والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد قال أبو عثمان : وسمي الآباء ذرية لأن منهم ذرء الأبناء وقيل الذرية النطف الكائنة في بطون النساء وشبه البطون بالفلك المشحون والراجح القول الثاني ثم الأول ثم الثالث وأما الرابع ففي غاية البعد والنكارة وقد تقدم الكالم في الذرية واشتقاقها في سورة البقرة مستوفى والمشحون المملوء الموقر والفلك يطلق على الواحد والجمع كما تقدم في يونس وارتفاع آية على أنها خبر مقدم والمبتدأ أنا حملنا أو العكس على ما قدمنا وقيل إن الضمير في قوله : { وآية لهم } يرجع إلى العباد المذكروين في قوله : { يا حسرة على العباد } لأنه قال بعد ذلك { وآية لهم الأرض الميتة } وقال : { وآية لهم الليل } ثم قال : { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } فكأنه قال : وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين البعض منهم وبالضمير الآخر البعض الآخر وهذا قول حسن (4/528)
42 - { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } أي وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن ما هي الموصولة قال مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير : وهي الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن يركبونها قاله الحسن والضحاك وأبو مالك قال النحاس : وهذا أصح لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس وقيل : هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح (4/528)
43 - { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون } هذا من تمام الآية التي امتن الله بها عليهم ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك والضمير يرجع إما إلى أصحاب الذرية أو إلى الذرية أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال والصريخ بمعنى المصرخ والمصرخ هو المغيث : أي فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا إغراقهم وقيل : هو المنعة ومعنى ينقذون : يخلصون يقال أنقذه واستنقذه إذا خلصه من مكروه (4/528)
44 - { إلا رحمة منا } استثناء مفرغ من أعم العلل : أي لا صريخ لهم ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة منا كذا قال الكسائي والزجاج وغيرهما وقيل هو استثناء منقطع : أي لكن لرحمة منا وقيل هو منصوب على المصدرية بفعل مقدر { و } انتصاب { متاعا } على العطف على رحمة : أي نمتعهم بالحياة الدنيا { إلى حين } وهو الموت قاله قتادة وقال يحيى بن سلام : إلى القيامة (4/529)
45 - { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم } أي ما بين أيديكم من الآفات والنوازل فإنها محيطة بكم وما خلفكم منها قال قتادة معنى { اتقوا ما بين أيديكم } أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم { وما خلفكم } في الآخرة وقال سعيد بن جبير ومجاهد { ما بين أيديكم } ما مضى من الذنوب { وما خلفكم } ما بقي منها وقيل { ما بين أيديكم } الدنيا { وما خلفكم } الآخرة قاله سفيان وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس وقيل { ما بين أيديكم } ما ظهر لكم { وما خلفكم } ما خفي عنكم وجواب إذا محذوف والتقدير : إذا قيل لهم ذلك أعرضوا كما يدل عليه { إلا كانوا عنها معرضين } { لعلكم ترحمون } أي رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا أو راجين أن ترحموا (4/529)
46 - { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } ما هي النافية وصيغة المضارع للدلالة على التجدد ومن الأولى مزيدة للتوكيد والثانية للتبعيض : والمعنى : ما تأتيهم من آية دالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال إلا كانوا عنها معرضين وظاهره يشمل الآيات التنزيلية والآيات التكوينية وجملة { إلا كانوا عنها معرضين } في محل نصب على الحال كما مر تقريره في غير موضع والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها وترك النظر الصحيح فيها وهذه الآية متعلقة بقوله : { يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } أي إذا جاءتهم الرسل كذبوا وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها (4/529)
47 - { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } أي تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم الله وأنعم به عليكم من الأموال قال الحسن : يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء وقال مقاتل : إن المؤمنين قالوا لكفار قريش : أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله : { قال الذين كفروا للذين آمنوا } استهزاء بهم وتكهما بقولهم { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } أي من لو يشاء الله رزقه وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون : إن الرزاق هو الله وأنه يغني من يشاء ويفقر من يشاء فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين وقالوا : نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا وأمر الغني أن يطعم الفقير وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة وقولهم : { من لو يشاء الله أطعمه } هو وإن كان كلاما صحيحا في نفسه ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله أو إنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا وقوله : { إن أنتم إلا في ضلال مبين } من تمام كلام الكفار والمعنى : أنكم أيها المسلمون في سؤال المال وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور وقيل هو من كلام الله سبحانه جوابا على هذه المقالة التي قالها الكفار وقال القشيري والماوردي : إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين ومناقضة لهم وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس (4/529)
48 - { ويقولون متى هذا الوعد } الذي تعدونا به من العذاب والقيامة والمصير إلى الجنة أو النار { إن كنتم صادقين } فيما تقولونه وتدونا به قالوا ذلك استهزاء منهم وسخرية بالمؤمنين ومقصودهم إنكار ذلك بالمرة ونفي تحققه وجحد وقوعه (4/530)
فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله : 49 - { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي نفخة إسرافيل في الصور { تأخذهم وهم يخصمون } أي يختصمون في ذات بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا وهذه هي النفخة الأولى وهي نفخة الصعق
وقد اختلف القراءة في يخصمون فقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم والمعنى : يخصم بعضهم بعضا فالمفعول محذوف وقرأ أبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد وقرأ نافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنهم أخلصوا فتحة الخاء وقرأ الباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد والأصل في القراءات الثلاث يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحة التاء إلى الساكن قبلها نقلا كاملا وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنبيها على أن الخاء أصلحها السكون والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان فكسروا أولهما وروي عن أبي عمرو وقالون أنهما قرآ بتسكين الخاء وتشديد الصاد وهي قراءة مشكلة لاجتماع ساكنين فيها وقرأ أبي يختصمون على ما هو الأصل (4/530)
50 - { فلا يستطيعون توصية } أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بماله وما عليه أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم { ولا إلى أهلهم يرجعون } أي إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها وقيل المعنى : لا يرجعون إلى أهلهم قولا وهذا أخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى (4/531)
ثم أخبر سبحانه عما ينزل بهم عند النفخة الثانية فقال : 51 - { ونفخ في الصور } وهي النفخة التي يبعثون بها من قبورهم ولهذا قال : { فإذا هم من الأجداث } أي القبور { إلى ربهم ينسلون } أي يسرعون وبين النفختين أربعون سنة وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال ونفخ تنبيها على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان وجعلوا هذه الآية مثالا له والصور بإسكان الواو : هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل كما وردت بذلك السنة وإطلاق هذا الاسم على القرن معروف في لغة العرب ومنه قول الشاعر :
( نحن نطحناهم غداة الغورين ... نطحا شديدا لا كنطح الصورين )
أي القرنين وقد مضى هذا في سورة الأنعام وقال قتادة : الصور جمع صورة : أي نفخ في الصور الأرواح والأجداث جمع جدثة وهو القبر وقرئ الأجداف بالفاء وهي لغة واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة والنسل والنصلان : الإسراع في السير يقال نسل ينسل كضرب يضرب ويقال ينسل بالضم ومنه قول امرئ القيس :
( فسلي ثيابي من ثيابك تنسل )
وقول الآخر :
( عسلان الذيب أمسى قارنا ... برد الليل عليه فنسل ) (4/531)
وقالوا : 52 - { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } أي قالوا عند بعثهم من القبور بالنفخة يا ويلنا : نادوا ويلهم كأنهم قالوا له احضر فهذا أوان حضورك وهؤلاء القائون هم الكفار قال ابن الأنباري : الوقف على يا ويلنا وقف حسن ثم يبتدئ الكلام بقوله : { من بعثنا من مرقدنا } ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياما قرأ الجمهور يا ويلنا وقرأ ابن أبي ليلى يا ويلتنا بزيادة التاء وقرأ الجمهور { من بعثنا } بفتح ميم من على الاستفهام وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب وعلى هذه القراءة تكون من متعلقة بالويل وقرأ الجمهور من بعثنا وفي قراءة أبي من أهبنا من هب من نومه : إذا انتبه وأنشد ثعلب على هذه القراءة :
( وعاذلة هبت بليل تلومني ... ولم يعتمدني قبل ذاك عذول )
وقيل إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم وقال ابو صالح : إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وجملة { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } جواب عليهم من جهة الملائكة أو من جهة المؤمنين وقيل هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض قال بالأول الفراء وبالثاني مجاهد وقال قتادة : هي من قول الله سبحانه و ما في قوله : { ما وعد الرحمن } موصولة وعائدها محذوف والمعنى : هذا الذي وعد الرحمن وصدق فيه المرسلون قد حق عليهم ونزل بكم ومفعولا الوعد والصدق محذوفان : أي وعدكموه الرحمن وصدقكموه المرسلون والأصل وعدكم به وصدقكم فيه أو وعدنا الرحمن وصدقناه المرسلون على أن هذا من قول المؤمنين أو من قول الكفار (4/531)
53 - { إن كانت إلا صيحة واحدة } أي ما كانت تلك النفخة المذكورة إلا صيحة واحدة صاحها إسرافيل بنفخة في الصور { فإذا هم جميع لدينا محضرون } أي فإذا هم مجمعون محضرون لدينا بسرعة للحساب والعقاب (4/532)
54 - { فاليوم لا تظلم نفس } من النفوس { شيئا } مما تستحقه : أي لا ينقص من ثواب عملها شيئا من النقص ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم { ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون } أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا أو إلا بما كنتم تعملونه : أي بسببه أو في مقابلته
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { أنا حملنا ذريتهم } الآية قال : في سفينة نوح حمل فيها من كل زوجين اثنين { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } قال : السفن التي في البحر والأنهار التي يركق الناس فيها وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } قال : هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : يعني الإبل خلقها الله كما رأيت فهي سفن البر يحملون عليها ويركبونها ومثله عن الحسن وعكرمة وعبد الله بن شداد ومجاهد وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله : { فلا يستطيعون توصية } الآية قال : تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح وفي حوائجهم فلا يستطيعون توصية { ولا إلى أهلهم يرجعون } وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن الزبير بن العوام قال : إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ثم قرأ : { فلا يستطيعون توصية } الآية وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب في قوله : { من بعثنا من مرقدنا } قال : ينامون قبل البعث نومة (4/532)
لما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ زيادة لحسرتهم وتكميلا لجزعهم وتتميما لما نزل بهم من البلاء وما شاهدوه من الشقاء فإذا رأوا ما أعده الله لهم من أنواع العذاب وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم بلغ ذلك من قلوبهم مبلغا عظيما وزاد في ضيق صدورهم بزيادة لا يقادر قدرها والمعنى 55 - { إن أصحاب الجنة } في ذلك { اليوم في شغل } بما هم فيه من اللذات الي هي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر عن الاهتمام بأمر الكفار ومصيرهم إلى النار وإن كانوا من قرابتهم والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين وقال قتادة ومجاهد : شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذاريى وقال وكيع : شغلهم بالسماع وقال ابن كيسان : بزيادة بعضهم بعضا وقيل شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله قرأ الكوفيون وابن عامر : { شغل } بضمتين وقرأ الباقون بضم الشين وسكون الغين : وهما لغتان كما قال الفراء وقرأ مجاهد وأبو السماك بفتحتين وقرأ يزيد النحوي وابن هبيرة بفتح الشين وسكون الغين وقراءة الجمهور { فاكهون } بالرفع على أنه خبر إن وفي شغل متعلق به أو في محل نصب على الحال : ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر إن وفاكهون خبر ثان وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف فاكهين بالنصب على أنه حال وفي شغل هو الخبر وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو حيوة وأبو رجاء وشيبة وقتادة ومجاهد فكهون قال الفراء : هما لغتان كالفاره والفره والحاذر والحذر وقال الكسائي وأبو عبيدة الفاكه : ذو الفاكهة مثل تامر ولابن والفكه : المتفكه والمتنعم وقال قتادة : الفكهون : المعجبون وقال أبو زيد : يقالك رجل فكه : إذا كان طيب النفس ضحوكا وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة وقال السدي كما قال الكسائي (4/534)
56 - { هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون } هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم سرورا وبهجة من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك فالضمير وهو هم مبتدأ و أزواجهم معطوف عليه والخبر متكئون ويجوز أن يكون هم تأكيدا للضمير في فاكهون و أزواجهم معطوف على ذلك الضمير وارتفاع متكئون على أنه خبر لمبتدأ محذوف و في ظلال متعلق به أو حال وكذا على الأرائك وجوز أبو البقاء أن يكون { في ظلال } هو الخبر و { على الأرائك } مستأنف قرأ الجمهور { في ظلال } بكسر الظاء وبالألف وهو جمع ظل وقرأ ابن مسعود وعبد بن عمير والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف { في ظلل } بضم الظاء من غير ألف جمع ظلة وعلى القراءتين فالمراد الفرش والستور التي تظللهم كالخيام والحجال والأرائك جمع أريكة كسفائن جميع سفينة والمراد بها السرر التي في الحجال قال أحمد بن يحيى ثعلب : الأريكة لا يكون إلا سريرا في قبة وقال مقاتل : إن المراد بالظلال أكنان القصور (4/534)
وجملة 57 - { لهم فيها فاكهة } مبينة لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب ونحوها والمراد فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه { ولهم ما يدعون } ما هذه هي الموصولة والعائد محذوف أو موصوفة أو مصدرية ويدعون مضارع ادعى قال أبو عبيدة : يدعون بتمنون والعرب تقول : ادع علي ما شئت : أي تمن وفلان في خير ما يدعي : أي ما يتمنى وقال الزجاج هو من الدعاء : أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من دعوت غلامي فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل وقيل افتعل بمعنى تفاعل : أي ما يتداعونه كقولهم ارتموا وتراموا وقيل المعنى : إن من اجعى منهم شيئا فهو له لأن الله قد طبعهم على أن لا يدعي أحد منهم شيئا إلا وهو يحسن ويجمل به أن يدعيه وما مبتدأ وخبرها لهم والجملة معطوفة على ما قبلها وقرئ يدعون بالتخفيف ومعناها واضح قال ابن الأنباري : والوقف على يدعون وقف حسن (4/535)
ثم يبتدئ 58 - { سلام } على معنى لهم سلام وقيل إن سلام هو خبر ما : أي مسلم خالص أو ذو سلامة وقال الزجاج : سلام مرفوع على البدل من ما : أي ولهم أن يسلم الله عليهم وهذا منى أهل الجنة والأولى أن يحمل قوله : { ولهم ما يدعون } على العموم وهذا السلام يدخل تحته دخولا أوليا ولا وجه لقصره على نوع خاص وإن كان أشرف أنواعه تحقيقا لمعنى العموم ورعاية لما يقتضيه النظم القرآني وقيل إن سلام مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي سلام يقال لهم { قولا } وقيل إن سلام مبتدأ وخبره الناصب لقولا : أي سلام يقال لهم قولا وقيل خبره من رب العالمين وقيل التقدير : سلام عليكم هذا على قراءة الجمهور وقرأ أبي وابن مسعود وعيسى سلاما بالنصب إما على المصدرية أو على الحالية بمعنى خالصا والسلام : إما من التحية أو من السلامة وقرأ محمد بن كعب القرظي سلم كأنه قال سلم لهم لا يتنازعون فيه وانتصاب قولا على المصدرية بفعل محذوف على معنى : قال الله لهم ذلك قولا أو يقوله لهم قولا أو يقال لهم قولا { من رب رحيم } أي من جهته قيل يرسل الله سحابة إليهم بالسلام وقال مقاتل : إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون : سلام عليكم يا أهل الجنة من رب رحيم (4/535)
59 - { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } هو على إضمال القول مقابل ما قيل للمؤمنين : أي ويقال للمجرمين امتازوا : أي انعزلوا من مازه غيره يقال مزت الشيء من الشيء : إذا عزلته عنه ونحيته قال مقاتل : معناه اعتزلوا اليوم : يعني في الآخرة من الصالحين وقال السدي : كونوا على حدة وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين وقال قتادة : عزلوا عن كل خير وقال الضحاك : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض فيمتاز اليهود فرقة والنصارى فرقة والمجوس فرقة والصابئون فرقة وعبدة الأوثان فرقة وقال داود بن الجراح : يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء فإنهم يكونون مع المجرمين (4/535)
ثم وبخهم الله سبحانه وقرعهم بقوله : 60 - { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } وهذا من جملة ما يقال لهم والعهد الوصية : أي ألم أوصكم وأبلغكم عن ألسن رسلي أن لا تعبدوا الشيطان : أي لا تطيعوه قال الزجاج : المعنى ألم أتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم وقال مقاتل : يعني الذين أمروا بالاعتزال قال الكسائي ك لا للنهي وقيل المراد بالعهد هنا : الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم وقيل هو ما نصبه الله لهم من الدلائل العقلية التي في سمواته وأرضه وجملة { إنه لكم عدو مبين } تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان وقبول وسوسته (4/536)
وجملة 61 - { وأن اعبدوني } عطف على أن لا تعبدوا وأن في الموضعين هي المفسرة للعهد الذي فيه معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية فيهما : أي لم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا بأن اعبدوني أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي { هذا صراط مستقيم } أي عبادة الله وتوحيده أو الإشارة إلى دين الإسلام (4/536)
ثم ذكر سبحانه عداوة الشيطان لبني آدم فقال : 62 - { ولقد أضل منكم جبلا كثيرا } اللام هي الموطئة للقسم والجملة مستأنفة للتقريع والتوبيخ أي والله لقد أضل إلخ قرأ نافع وعاصم { جبلا } بكسر الجيم والباء وتشديد اللام وقرأ ابن أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين مع تشديد اللام وكذلك قرأ الحسن وعيسى بن عمر والنضر بن أنس وقرأ أبو يحيى وحماد بن سلمة والأشهب العقيلي بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام قال النحاس : وأبينها القراءة الأولى والدليل على ذلك أنهم قد قرأوا جميعا : والجبلة الأولين بكسر الجيم والباء وتشديد اللام فيكون جبلا جمع جبلة واشتقاق الكل من جبل الله الخلق : أي خلقهم ومعنى الآية : أن الشيطان قد أغوى خلقا كثيرا كما قال مجاهد وقال قتادة : جموعا كثيرة وقال الكلبي : أمما كثيرة قال الثعلبي : والقراءات كلها بمعنى الخلق وقرئ جيلا بالجيم والياء التحتية قال الضحاك : الجيل الواحد عشرة آلاف والكثير ما لا يحصيه إلا الله عز و جل ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب والهمزة في قوله : { أفلم تكونوا تعقلون } للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام كما تقدم في نظائره : أي أتشاهدون آثار العقوبات أفلم تكونوا تعقلون أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكن أو أفلم تكونوا تعقلون شيئا أصلا قرأ الجمهور { أفلم تكونوا تعقلون } بالخطاب وقرأ طلحة وعيسى بالغيبة (4/536)
63 - { هذه جهنم التي كنتم توعدون } أي ويقال لهم عند أن يدنوا من النار : هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل والقائل لهم الملائكة (4/537)
ثم يقولون لهم : 64 - { اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون } أي قاسوا حرها اليوم وادخلوها وذوقوا أنواع العذاب فيها بما كنتم تكفرون : أي بسبب كفركم بالله في الدنيا وطاعتكم للشيطان وعبادتكم للأوثان وهذا الأمر أمر تنكيل وإهانة كقوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } (4/537)
65 - { اليوم نختم على أفواههم } اليوم ظرف لما بعده وقرئ يختم على البناء للمفعول والنائب الجار والمجرور بعده قال المفسرون : إنهم ينكرون الشرك وتكذيب الرسل كما في قولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } فيختم الله على أفواههم ختما لا يقدرون معه على الكلام وفي هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم ثم قال : { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } أي تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون قرأ الجمهور { تكلمنا } و { تشهد } وقرأ طلحة بن مصرف ولتكلمنا ولتشهد بلام كي وقيل سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف وقيل ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز وقيل ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم في معاصي الله صارت شهودا عليهم وجعل ما تنطق به الأيدي كلاما وإقرارا لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي وجعل نطق الأرجل شهادة لأنها حاضرة عند كل معية وكلام الفاعل إقرار وكلام الحاضر شهادة وهذا اعتبار بالغالب وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها (4/537)
66 - { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } أي أذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن قال الكسائي : طمس يطمس ويطمس والمطموس والطميس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شق كما في قوله : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } ومفعول المشيئة محذوف : أي لو نشاء أن نطمس على أعينهم لطمسنا قال السدي والحسن : المعنى لتركناهم عميا يترددون لا يبصرون طريق الهدى واختار هذا ابن جرير { فاستبقوا الصراط } معطوف على لطمسنا : أي تبادروا إلى الطريق ليجوزوه ويمضوا فيه والصراط منصوب بنزع الخافض : أي فاستبقوا إليه وقال عطاء ومقاتل وقتادة : المعنى لو نشاء لفقأنا أعينهم وأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم واهتدوا وتبادروا إلى طريق الآخرة ومعنى { فأنى يبصرون } أي كيف يبصرون الطريق ويحسنون سلوكه ولا أبصار لهم وقرأ عيسى بن عمر فاستبقوا على صيغة الأمر : أي فيقال لهم استبقوا وفي هذا تهديد لهم (4/537)
ثم كرر التهديد لهم فقال : 67 - { ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم } المسخ تبديل الخلقة إلى حجر أو غيره من الجماد أو بهيمة والمكانة المكان : أي لو شئنا لبدلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه قيل والمكانة أخص من المكان كالمقامة والمقام قال الحسن : أي لأقعدناهم { فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون } أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء قال الحسن : فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر وقيل المعنى : لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم وقيل لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية وقال يحيى بن سلام : هذا كله يوم القيامة قرأ الجمهور { على مكانتهم } بالإفراد وقرأ الحسن والسلمي وزر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم { مكانتهم } بالجمع وقرأ الجمهور مضيا بضم الميم وقرأ أبو حيوة مضيا بفتحها وروي عنه أنه قرأ بكسرها ورويت هذه القراءة عن الكسائي قيل والمعنى : ولا يستطيعون رجوعا فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة يقال مضى يمضي مضيا : إذا ذهب في الأرض ورجع يرجع رجوعا : إذا عاد من حيث جاء (4/538)
68 - { ومن نعمره ننكسه في الخلق } قرأ الجمهور { ننكسه } بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الكاف مخففة وقرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة والمعنى : من نطل عمره نغير خلقه ونجعله على عكس ما كان عليه أولا من القوة والطراوة قال الزجاج : المعنى من أطلنا عمره نكسنا خلقه فصار بدل القوة الضعف وبدل الشباب الهرم ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } وقوله { ثم رددناه أسفل سافلين } ومعنى { أفلا تعقلون } أفلا تعلمون بعقولكم أن من قدر على ذلك قدر على البعث والنشور قرأ الجمهور { يعقلون } بالتحتية وقرأ نافع وابن ذكوان بالفوقية على الخطاب (4/538)
ولما قال كفار مكة : إن القرآن شعر وإن محمدا شاعر رد الله عليهم بقوله : 69 - { وما علمناه الشعر } والمعنى : نفى كون القرآن شعرا ثم نفى أن يكون النبي شاعرا فقال : { وما ينبغي له } أي لا يصح له الشعر ولا يتأتى منه ولا يسهل عليه لو طلبه وأراد أن يقوله : بل كان صلى الله عليه و سلم إذا أراد أن ينشد بيتا قد قاله شاعر متمثلا به كسر وزنه فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور وهو قوله :
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود )
قال : ويأتيك من لم تزوده بالأخبار وأنشد مرة أخرى قول العباس بن مرداس السلمي :
( أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... د بين عيينة والأقرع )
فقال : بين الأقرع وعيينة وأنشد أيضا
( كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا )
فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما قال الشاعر :
( كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا )
فقال : أشهد أنك رسول الله يقول الله عز و جل { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وقد وقع منه صلى الله عليه و سلم كثير من مثل هذا قال الخليل كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير من الكلام ولكن لا يتأتى منه اهـ ووجه عدم تعليمه الشعر وعدم قدرته عليه التكميل للحجة والدحض للشبهة كما جعله الله أميا لا يقرأ ولا يكتب وأما ما روي عنه من قوله صلى الله عليه و سلم :
( هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت )
وقوله :
( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب )
ونحو ذلك فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن وليس بشعر ولا مراد به الشعر بل اتفق ذلك اتفاقا كما يقع في كثير من كلام الناس فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر ولا يعدونه شعرا وذلك كقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وقوله : { وجفان كالجواب وقدور راسيات } على أنه قد قال الأخفش إن قوله :
( أنا النبي لا كذب )
ليس بشعر وقال الخليل في كتاب العين : إن ما جاء من السجع على جزءين لا يكون شعرا قال ابن العربي : والأظهر من حاله أنه قال لا كذب برفع الباء من كذب وبخفضها من عبد المطلب قال النحاس قال بعضهم : إنما الرواية بالإعراب وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرا لأنه إذا فتح الباء من الأول أو ضمهما أو نونها وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر وقيل إن الضمير في له عائد إلى القرآن أي وما ينبغي للقرآن أن يكون شعرا { إن هو إلا ذكر } أي ما القرآن إلا ذكر من الأذكار وموعظة من المواعظ { وقرآن مبين } أي كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية (4/539)
70 - { لينذر من كان حيا } أي لينذر القرآن من كان حيا : أي قلبه صحيح يقبل الحق ويأبى الباطل أو لينذر الرسول من كان حيا قرأ الجمهور بالياء التحتية وقرأ نافع وابن عامر بالفوقية فعلى القراءة الأوىل المراد القرآن وعلى الثانية المراد النبي صلى الله عليه و سلم { ويحق القول على الكافرين } أي وتجب كلمة العذاب على المصرين على الكفر الممتنعين من الإيمان بالله وبرسله
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { في شغل فاكهون } قال : في افتضاض الأبكار وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال : شغلهم افتضاض العذارى وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وقتادة مثله وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن عمر قال : إن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء وقد روي نحوه مرفوعا عن أبي سعيد مرفوعا عند الطبراني في الصغير وأبي الشيخ في العظمة وروي أيضا نحوه عن أبي هريرة مرفوعا عند الضياء المقدسي في صفة الجنة وأخرج ابن أبي حاتم أب عن ابن عباس في قوله : { في شغل فاكهون } قال : ضرب الأوتار قال أبو حاتم : هذا لعله خطأ من المستمع وإنما هو افتضاض الأبكار وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : { فاكهون } فرحون وأخرج ابن ماجه وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن أبي حاتم والآجري في الرؤية وابن مردويه عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول الله { سلام قولا من رب رحيم } قال : فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ] قال ابن كثير : في إسناده عليهم وأخرج وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : إن الله هو يسلم عليهم وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والبزار وابن أبي الدنيا في التوبة واللفظ له وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس في قوله : { اليوم نختم على أفواههم } قال : [ كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فضحك حتى بدت نواجذه قال : أتدرون مما ضحكت ؟ قلنا لا يا رسول الله قال : من مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول بلى فيقول : إني لا أجيز علي إلا شاهدا مني فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ] وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يلقى العبد ربه فيقول الله : قل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع ؟ فيقول بلى أي رب فيقول أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا فيقول : إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول مثل ذلك ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول : آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه وفمه وعظامه بعمله ما كان وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط عليه ] وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } قال : أعميناهم وأضللناهم عن الهدى { فأنى يبصرون } فكيف يهتدون وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ولو نشاء لمسخناهم } قال : أهلكناهم { على مكانتهم } قال : في مساكنهم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال بلغني أنه [ قيل لعائشة : هل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان أبغض الحديث إليه غير إنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل أوله آخره يقول : ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر : ليس هكذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي ] وهذا يرد ما نقلناه عن الخليل سابقا أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من كثير من الكلام وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة :
( ويأتيك بالأخبار من لم تزود )
وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة قالت : [ ما جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا :
( تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تحقق )
قالت عائشة : ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعرا ] وإسناده هكذا : قال أخبرنا أبو عبيد الله الحافظ : يعني الحاكم حدثنا أبو حفص بن أحمد بن نعيم حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير حدثنا علي بن عمرو الأنصاري حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره وقد سئل المزي عن هذا الحديث فقال : هو منكر ولم يعرف شيخ الحاكم ولا الضرير (4/540)
ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة وإنعامه على عبيده وجحد الكفار لنعمه فقال : 71 - { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما } والهمزة للإنكار والتعجيب من حالهم والواو للعطف على مقدر كما في نظائره والرؤية هي القلبية : أي أو لم يعلموا بالتفكر والاعتبار { أنا خلقنا لهم } : أي لأجلهم { مما عملت أيدينا } : أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق كما يقول الواحد منا : عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله وما بمعنى الذي وحذف العائد لطول الصلة ويجوز أن تكون مصدرية والأنعام جمع نعم وهي البقر والغنم والإبل وقد سبق تحقيق الكلام فيها ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام فقال : { فهم لها مالكون } أي ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاءوا ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم ولم يقدروا على ضبطها ويجوز أن يكون المراد أنها صارت في أملاكهم ومعدودة من جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك (4/543)
72 - { وذللناها لهم } أي جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح ويقودها الصبي فتنقاد له ويزجرها فتنزجر والفاء في قوله : { فمنها ركوبهم } لتقريع أحكام التذليل عليه : أي فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال ناقة حلوب : أي محلوبة قرأ الجمهور ركوبهم بفتح الراء وقرأ الأعمش والحسن وابن السميفع بضم الراء على المصدر وقرأ أبي وعائشة ركوبتهم والركوب والركوبة واحد مثل الحلوب والحلوبة والحمول والحمولة وقال أبو عبيدة : الركوبة تكون للواحدة والجماعة والركوب لا يكون إلا للجماعة وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز فمنها ركوبهم بضم الراء لأنه مصدر والركوب ما يركب وأجاز ذلك الفراء كما يقال : فمنها أكلهم ومنها شربهم ومعنى { ومنها يأكلون } ما يأكلونه من لحمها ومن للتبعيض (4/543)
73 - { ولهم فيها منافع } أي لهم في الأنعام منافع غير الركوب لها والأكل منها وهي ما ينتفعون به من أصوافها وأوبارها وأشعارها وما يتخذونه من الأدهان من شحومها وكذلك الحمل عليها والحراثة بها { ومشارب } أي ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها { أفلا يشكرون } الله على هذه النعم ويوحدونه ويخصونه بالعبادة (4/543)
ثم ذكر سبحانه جهلهم واغترارهم ووضعهم كفران النعم مكان شكرها فقال : 74 - { واتخذوا من دون الله آلهة } من الأصنام ونحوها يعبدونها ولا قدرة لها على شيء ولم يحصل لهم منها فائدة ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة { لعلهم ينصرون } أي رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب أو دهمهم أمر من الأمور (4/543)
وجملة 75 - { لا يستطيعون نصرهم } مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها وأملوه من نفعها وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون { وهم لهم جند محضرون } أي والكفار جند للأصنام محضرون : أي يحضرونهم في الدنيا قال الحسن : يمنعون منهم ويدفعون عنهم وقال قتادة : أي يغضبون لهم في الدنيا قال الزجاج : ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم وقيل المعنى : يعبدون الآلهة ويقومون بها فهم لهم بمنزلة الجند هذه الأقوال على جعل ضميرهم للمشركين وضمير لهم للآلهة وقيل وهم : أي الآلهة لهم : أي للمشركين جند محضرون معهم في النار فلا يدفع بعضهم عن بعض وقيل معناه : وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم لأنهم يلعنونهم ويتبرأنون منهم وقيل المعنى : إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم (4/543)
ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم فقال : 76 - { فلا يحزنك قولهم } هذا القول هو ما يفيده قوله : { واتخذوا من دون الله آلهة } فإنهم لا بد أن يقولوا هؤلاء آلهتنا وإنها شركاء لله في المعبودية ونحو ذلك وهو نهي من خاطبه عن الحضور لديه لا نهي نفسه عن الرؤية وهذا بعيد والأول أولى والكلام من باب التسلية كما ذكرنا ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو قولهم : إنه ساحر وشاعر ومجنون وجملة { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } لتعليل ما تقدم من النهي فإن علمه سبحانه بما يظهرون ويضمرون مستلزم للمجازاة لهم بذلك وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافيا أو باديا سرا أو جهرا مظهرا أو مضمرا وتقديم السر على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات (4/544)
وجملة 77 - { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة } مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث وللتعجيب من جهله فإنه مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام وردها كما كانت والإنسان المذكور في الآية المراد به جنس الإنسان كما في قوله : { أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل : إنه عبد الله بن أبي وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث وقال الحسن : هو أمية بن خلف وقال سعيد بن جبير : فهو العاص بن وائل السهمي وقال قتادة ومجاهد : هو أبي بن خلف الجمحي فإن أحد هؤلاء وإن كان سببا للنزول فمعنى الآية خطاب الإنسان من حيث هو لا إنسان معين ويدخل من كان سببا للنزول تحت جنس الإنسان دخولا أوليا والنطفة هي اليسير من الماء وقد تقدم تحقيق معناها { فإذا هو خصيم مبين } هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام وإذا هي الفجائية : أي ألم ير الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه والخصيم الشديد الخصومة الكثير الجدال ومعنى المبين : المظهر لما يقوله الموضح له بقوة عارضته وطلاقة لسانه (4/544)
وهكذا جملة 78 - { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه } معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان وبيان جهله بالحقائق وإهماله للتفكر في نفسه فضلا عن التفكر في سائر المخلوقات الله ويجوز أن تكون جملة { فإذا هو خصيم } معطوفة على خلقنا وهذه معطوفة عليها : أي أورد في شأننا قصة غريبة كالمثل : وهي إنكاره أحيانا للعظام ونسي خلقه : أي خلقنا إياه وهذه الجملة معطوفة على ضرب أو في محل نصب على الحال بتقدير قد وجملة { قال من يحيي العظام وهي رميم } استئناف جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل ما هذا المثل الذي ضربه ؟ فقيل قال : من يحيي العظام وهي رميم وهذا الاستفهام للإنكار لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر يقال رم العظم يرم رما إذا بلي فهو رميم ورمام وإنما قال رميم ولم يقل رميمة مع كونه خبرا للمؤنث لأه اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات وقيل لكونه معدولا عن فاعله وكل معدول عن وجهه يكون مصروفا عن إعرابه كما في قوله : { وما كانت أمك بغيا } لأنه مصروف عن باغية كذا قال البغوي والقرطبي وقال بالأول صاحب الكشاف والأولى أن يقال إنه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث كما قيل في جريح وصبور (4/545)
ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل فقال : 79 - { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } أي ابتدأها وخلقها أول مرة من غير شيء ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية { وهو بكل شيء عليم } لا يخفى عليه خافية ولا يخرج عن علمه خارج كائنا ما كان وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة وقال الشافعي : لا تحله الحياة وأن المراد بقوله { من يحيي العظام } من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر (4/545)
80 - { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا } هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم فنبه سبحانه على وحدانيته ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود الندي الرطب وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار وهما أخضران وقيل المرخ هو الذكر والعقار هو الأنثى ويسمى الأول الزند والثاني الزندة وقال الأخضر ولم يقل الخضراء اعتبارا باللفظ وقرئ الخضر اعتبارا بالمعنى وقد تقرر أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه كما في قوله : { نخل منقعر } وقوله : { نخل خاوية } فبنو تميم ونجد يذكرونه وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادران والموصول بدل من الموصول الأول { فإذا أنتم منه توقدون } أي تقدحون منه النار وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر (4/545)
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم خلقا من الإنسان فقال : 81 - { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر كنظائره ومعنى الآية : أن من قدر على خلق السموات والأرض وهما في غاية العظم وكبر الأجزاء يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكر ضعيف القوة ما قال سبحانه : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } قرأ الجمهور { بقادر } بصيغة اسم الفاعل وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والأعرج وسلام بن المنذر وأبو يعقوب الحضمري يقدر بصيغة الفعل المضارع ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريري بقوله : { بلى وهو الخلاق العليم } أي بلى هو قادر على ذلك وهو المبالغ في الخلق والعلم على أكمل وجه وأتمه وقرأ الحسن والجحدري ومالك بن دينار وهو الخالق (4/546)
ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته وتيسر المبدأ والإعادة عليه فقال : 82 - { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } أي إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له احدث فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلا وقد تقدم تفسير هذا في سورة النحل وفي البقرة قرأ الجمهور { فيكون } بالرفع على الاستئناف وقرأ الكسائي بالنصب عطفا على يقول (4/546)
83 - { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت والرحموت كأنه قال : فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية قال قتادة : ملكوت كل شيء : مفاتح كل شيء قرأ الجمهور ملكوت وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي ملكة بزنة شجرة وقرئ مملكة بزنة مفعلة وقرئ ملك والملكوت أبلغ من الجميع وقرأ الجمهور { وإليه ترجعون } بالفوقية على الخطاب مبنيا للمفعول وقرأ السلمي وزر بن جحش وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة مبنيا للمفعول أيضا وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل : أي ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد البعث
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في معجمه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : [ جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعظم حائل ففته بيده فقال : يا محمد أيحيي الله هذا بعد ما أرى ؟ قال : نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم ] فنزلت الآيات من أخر يس { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة } إلى آخر السورة وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال : جاء عبد الله بن أبي في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه و سلم وذكر مثل ما تقدم قال ابن كثير : وهذا منكر لأن السورة مكية وعبد الله بن أبي إنما كان بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : جاء أبي بن خلف الجمحي وذكر نحو ما تقدم وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : نزلت في أبي جهل وذكر نحو ما تقدم (4/546)
سورة الصافات
هي مائة واثنتان وثمانون آية
وهي مكية قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس وابن النحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت بمكة وأخرج النسائي والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات قال ابن كثير : تفرد به النسائي وأخرج ابن أبي داود في فضائل القرآن وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعد الورداني عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ يس والصافات يوم الجمعة ثم سأل الله أعطاه سؤله ] وأخرج أبو نعيم في الدلائل والسلفي في الطيوريات عن ابن عباس : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سأله ملوك حضر موت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئا مما أنزل الله قرأ { الصافات صفا } حتى بلغ { رب المشارق والمغارب } ] الحديث
قوله : 1 - { والصافات صفا } قرأ أبو عمرو وحمزة وقيل حمزة فقط بإدغام التاء من الصافات في صاد صفا وإدغام التاء من الزاجرات في زاي زجرا وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكرا وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها قال النحاس : وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات : الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد ولا من مخرج الزاي ولا من مخرج الدال ولا من أخواتهن الجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة وقال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ألا ترى أنهما من طرف اللسان وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك والواو للقسم والمقسم به الملائكة : الصافات والزاجرات والتاليات والمراد بالصافات : التي تصف في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وقيل إنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد وقال الحسن : صفا كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم وقيل المراد بالصافات هنا الطير كما في قوله : { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات } والأول أولى والصف : ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة والأول أولى والصف : ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة وقيل الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد ذكره القشيري (4/547)
والمراد بـ 2 - { الزاجرات } الفاعلات للزجر من الملائكة إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدي وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح وقال قتادة : المراد بالزاجرات الزواجر من القرآن وهي كل ما ينهى ويزجر عن القبيح والأول أولى وانتصاب صفا و { زجرا } على المصدرية لتأكيد ما قبلهما وقيل المراد بالزاجرات العلماء لأنهم الذين يزجرون أهل المعاصي والزجر في الأصل : الدفع بقوة وهو هنا قوة التصويت ومنه قول الشاعر :
( زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم )
ومنه زجرت الإبل والغنم : إذا أفزعتها بصوتك (4/548)
والمراد بـ 3 - { التاليات ذكرا } الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي وقيل المراد جبريل وحده فذكر بلفظ الجمع تعظيما له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة وقال قتادة : المراد كل من تلا ذكر الله وكتبه وقيل المراد آيات القرآن ووصفها بالتلاوة وإن كانت متلوة كما في قوله : { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل } وقيل لأن بعضهم يتلو بعضا ويتبعه وذكر الماوردي أن التاليات هم الأنبياء يتلون الذكر على أممهم وانتصاب ذكرا على أنه مفعول به ويجوز أن يكون مصدرا كما قبله من قوله صفا وزجرا قيل وهذه الفاء في قوله فالزاجرات فالتاليات إما لترتيب الصفات أنفسها في الوجد أو لترتيب موصوفاتها في الفضل وفي الكل نظر (4/549)
وقوله : 4 - { إن إلهكم لواحد } جواب القسم : أي أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك وأجاز الكسائي فتح إن الواقعة في جواب القسم (4/549)
5 - { رب السموات والأرض } يجوز أن يكون خبرا ثانيا وأن يكون بدلا من لواحد وأن يكون خبر مبتدأ محذوف قال ابن الأنباري : الوقف على لواحد وقف حسن ثم يبتدئ رب السموات والأرض على معنى هو رب السموات والأرض قال النحاس : ويجوز أن يكون بدلا من لواحد والمعنى في الآية : أن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته وأنه رب ذلك كله : أي خالقه ومالكه والمراد بما بينهما : ما بين السموات والأرض من المخلوقات والمراد ب { المشارق } مشارق الشمس قيل إن الله سبحانه خلق للشمس كل يوم مشرقا ومغربا بعدد أيام السنة تطلع كل يوم من واحد منها وتغرب من واحد كذا قال ابن الأنباري وابن عبد البر وأما في قوله في سورة الرحمن { رب المشرقين ورب المغربين } فالمراد بالمشرقين : أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال وأقصر يوم في الأيام القصار وكذلك في المغربين وأما ذكر المشرق والمغرب بالإفراد فالمراد به الجهة التي تشرق منها الشمس والجهة التي تغرب منها ولعله قد تقدم لنا في هذا كلام أوسع من هذا (4/549)
6 - { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } المراد بالسماء الدنيا التي تلي الأرض من الدنو وهو القرب فهي أقرب السموات إلى الأرض قرأ الجمهور { بزينة الكواكب } بإضافة زينة إلى الكواكب والمعنى : زيناها بتزيين الكواكب : أي بحسنها وقرأ مسروق والأعمش والنخعي وحمزة بتنوين زينة وخفض الكواكب على أنها بدل من الزينة على أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر والتقدير بعد طرح المبدل منه : إنا زينا السماء بالكواكب فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين زينة ونصب الكواكب على أن الزينة مصدر وفاعله محذوف والتقدير : بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني أو بدلا من السماء بدل اشتمال وانتصاب حفظا على المصدرية بإضمار فعل : أي حفظناها حفظا أو على أنها مفعول لأجله : أي زيناها بالكواكب للحفظ أو بالعكف على محل زينة كأنه قال : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء (4/549)
7 - { حفظا من كل شيطان مارد } أي متمرد خارج عن الطاعة يرمى بالكواكب كقوله : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } (4/550)
8 - وجملة { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } مستأنفة لبيان حالهم بعد السماء منهم وقال أبو حاتم : أي لئلا يسمعوا ثم حذف إن فرفع الفعل وكذا قال الكلبي والملأ الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها وسمي الكل منهم أعلى بإضافته إلى ملإ الأرض والضمير في يسمعون إلى الشياطين وقيل إن جملة لا يسمعون صفة لكل شيطان وقيل جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل : فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم ؟ فقال : { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } قرأ الجمهور يسمعون بسكون السين وتخفيف الميم وقرأ حمزة و الكسائي و عاصم في رواية حفص عنه بتشديد الميم والسين والأصل يتسمعون فأدغم التاء في السين فالقراءة الأولى تدل على انتفاء سماعهم دون استماعهم والقراءة الثانية تدل على انتفائهما وفي معنى القراءة الأولى قوله تعالى : { إنهم عن السمع لمعزولون } قال مجاهد : كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون واختار أبوعبيدة القراءة الثانية قال : لأن العرب لا تكاد تقول : سمعت إليه وتقول تسمعت إليه (4/550)
9 - { ويقذفون من كل جانب * دحورا } أي يرمون من كل جانب من جوانب السماء بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع وانتصاب دحورا على أنه مفعول لأجله والدحور الطرد تقول دحرته دحرا ودحورا : طردته قرأ الجمهور { دحورا } بضم الدال وقرأ علي والسلمي ويعقوب الحضرمي وابن أبي عبلة بفتحها وروي عن أبي عمرو أنه قرأ يقذفون مبنيا للفاعل وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني وقيل إن انتصاب دحورا على الحال : أي مدحورين وقيل هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالا أيضا وقيل إنه مصدر لمقدر : أي يدحرون دحورا وقال الفراء : إن المعنى يقذفون بما يدحرهم : أي بدحور ثم حذفت الباء فانتصب بنزع الخافض
واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده فقال بالأول طائفة وبالآخر آخرون وقالت طائفة بالجمع بين القولين : إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رميا يقطعها عن السمع ولكن كانت ترمى وقتا لا ترمى وقتا آخر وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر ثم بعد المبعث رميت في كل وقت ومن كل جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع إلا من اختطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ومعنى { ولهم عذاب واصب } ولهم عذاب دائم لا ينقطع والمراد به العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب وقال مقاتل : يعني دائما إلى النفخة الأولى والأول أولى وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب الدائم وقال السدي وأبو صالح والكلبي : هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب مأخوذ من الوصب وهو المرض وقيل هو الشديد (4/550)
والاستثناء في قوله : 10 - { إلا من خطف الخطفة } هو من قوله لا يسمعون أو من قوله ويقذفون وقيل الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله : { إنهم عن السمع لمعزولون } بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض والخطف الاختلاس مسارقة وأخذ الشيء بسرعة قرأ الجمهور { خطف } بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة وقرأ قتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء وهي لغة تميم بن مر وبكر بن وائل وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء وقيل إن الاستثناء منقطع { فأتبعه شهاب ثاقب } أي لحقه وتبعه شهاب ثاقب : نجم مضيء فيحرقه وربما لا يحرقه فيلقي إلى إخوانه ما خطفه وليست الشهب التي يرجم بها هي من الكواكب الثواب بل من غير الثوابت وأصل الثقوب الإضاءة قال الكسائي : ثقبت النار تثقب ثقابة وثقوبا : إذا اتقدت وهذه الآية هي كقوله : { إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين } (4/551)
11 - { فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا } أي اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشد خلقا وأقوى أجساما وأعظم أعضاء أم من خلقنا من السموات والأرض والملائكة ؟ قال الزجاج : المعنى فاسألهم سؤال تقرير أهم أشد خلقا : أي أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة ؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب ؟ ثم ذكر خلق الإنسان فقال : { إنا خلقناهم من طين لازب } أي إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من طين لازب : أي لاصق يقال لزب يلزب لزوبا : إذا لصق وقال قتادة وابن زيد : اللازب اللازق وقال عكرمة : اللازب اللزج وقال سعيد بن جبير : اللازب الجيد الذي يلصق باليد وقال مجاهد : هو اللازم والعرب تقول : طين لازب ولازم تبدل الباء من الميم واللازم الثابت كما يقال : صار الشيء ضربة لازب ومنه قول النابغة :
( لا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب )
وحكى الفراء عن العرب : طين لاتب بمعنى لازم واللاتب الثابت قال الأصمعي واللاتب اللاصق مثل اللازب والمعنى في الآية : أن هؤلاء كيف يستعبدون المعاد وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف ولم ينكره من هو مخلوق خلقا أقوى منهم وأعظم وأكمل وأتم وقيل اللازب هو المنتن قاله مجاهد والضحاك قرأ الجمهور { أم من خلقنا } بتشديد الميم وهي أم المتصلة وقرأ الأعمش بالتخفيف وهو استفهام ثان على قراءته قيل وقد قرئ لازم ولاتب ولا أدري من قرأ بذلك (4/552)
ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق فقال : 12 - { بل عجبت } يا محمد من قدرة الله سبحانه : { ويسخرون } منك بسبب تعجبك أو ويسخرون منك بما تقوله من إثبات المعاد قرأ الجمهور بفتح التاء من { عجبت } على الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وقرأ حمزة والكسائي بضمها ورويت هذه القراءة عن علي وابن مسعود وابن عباس واختارها أبو عبيد والفراء قال الفراء : قرأها الناس بنصب التاء ورفعها والرفع أحب إلي لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس قال : والعجب أن أسند إلي الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد قال الهروي : وقال بعض الأئمة : معنى قوله : { بل عجبت } بل جازيتهم على عجبهم لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق كما قال : { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } وقالوا : { إن هذا لشيء عجاب } { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم } وقال علي بن سليمان : معنى القراءتين واحد والتقدير : قل يا محمد بل عجبت لأن النبي صلى الله عليه و سلم مخاطب بالقرآن قال النحاس : وهذا قول حسن وإضمار القول كثير وقيل إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين قال الهروي : ويقال معنى عجب ربكم : أي رضي ربكم وأثاب فسماه عجبا وليس بعجب في الحقيقة فيكون معنى عجبت هنا عظم فعلهم عندي وحكى النقاش أن معنى بل عجبت : بل أنكرت قال الحسن بن الفضل : التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب وقيل معناه : أنه بلغ في كمال قدرته وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجبت منها وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها والواو في ويسخرون للحال : أي بل عجبت والحال أنهم يسخرون ويجوز أن تكون للاستئناف (4/552)
13 - { وإذا ذكروا لا يذكرون } أي وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله أو مواعظ رسوله لا يذكرون : أي لا يتعظون بها ولا ينتفعون بما فيها قال سعيد بن المسيب : أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا (4/553)
14 - { وإذا رأوا آية } أي معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه و سلم { يستسخرون } أي يبالغون في السخرية قال قتادة : يسخرون ويقولون إنها سخرية يقال سخر واستسخر بمعنى مثل قر واستقر وعجب واستعجب والأول أولى لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى وقيل معنى يستسخرون : يستدعون السخرى من غيرهم وقال مجاهد : يستهزئون (4/553)
15 - { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر (4/553)
16 - { أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما } الاستفهام للإنكار : أي أنبعث إذا متنا ؟ فالعامل في إذا هو ما دل عليه { أإنا لمبعوثون } وهو أنبعث لا نفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل وما نزل عليهم واستهزأوا بما جاءوا به من المعجزات وقد تقدم تفسير معنى هذه الآية في مواضع (4/553)
17 - { أو آباؤنا الأولون } هو مبتدأ وخبره محذوف : أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون وقيل معطوف على محل إن واسمها وقيل على الضمير في مبعوثون لوقوع الفصل بينهما والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو وقرأ ابن عامر وقالوا بسكونها على أن أو هي العاطفة وليست الهمزة للاستفهام (4/553)
ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتا لهم فقال : 18 - { قل نعم وأنتم داخرون } أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون ذليلون قال الواحدي : والدخور أشد الصغار وجملة وأنتم داخرون في محل نصب على الحال (4/553)
ثم ذكر سبحانه أن بعثهم يقع بزجرة واحدة فقال : 19 - { فإنما هي زجرة واحدة } الضمير للقصة أو البعثة المفهومة مما قبلها : أي إنما قصة البعث أو البعثة زجرة واحدة : أي صيحة واحدة من إسرافيل بنفخه في الصور عند البعث { فإذا هم ينظرون } أي يبصرون ما يفعل الله بهم من العذاب وقال الحسن : هي النفخة الثانية وسميت الصيحة زجرة لأن المقصود منها الزجر وقيل معنى ينظرون ينتظرون ما يفعل بهم والأول أولى
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود { والصافات صفا } قال : الملائكة { فالزاجرات زجرا } قال : الملائكة { فالتاليات ذكرا } قال : الملائكة وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة مثله وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس مثله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أنه كان يقرأ { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } مخففة وقال : إنهم كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : { عذاب واصب } قال : دائم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضا { فأتبعه شهاب ثاقب } وأخرج ابن جرير و ابن المنذر عنه أيضا { فأتبعه شهاب ثاقب } قال : لا يقتلون بالشهاب ولا يموتون ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { من طين لازب } قال : ملتصق وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { من طين لازب } قال : اللزج الجيد وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : اللازب والحمأ والطين واحد : كان أوله ترابا ثم صار حمأ منتنا ثم صار طينا لازبا فخلق الله منه آدم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : اللازب الذي يلصق بعضه إلى بعض وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه كان يقرأ { بل عجبت ويسخرون } بالرفع للتاء من عجبت (4/554)
قوله : 20 - { وقالوا يا ويلنا } أي قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا يا ويلنا دعوا بالويل على أنفسهم قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة وقال الفراء : إن أصله يا وي لنا ووي بمعنى الحزن كأنه قال : يا حزن لنا قال النحاس : ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل ولا نعلم أحدا يكتبه إلا متصلا وجملة { هذا يوم الدين } تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم والدين الجزاء فكأنهم قالوا هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا من الكفر والتكذيب للرسل فأجاب عليهم الملائكة بقولهم (4/555)
21 - { هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون } ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض والفصل الحكم والقضاء لأنه يفصل فيه بين المحسن والمسيء (4/555)
وقوله : 22 - { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } هو أمر من الله سبحانه للملائكة بأن يحشروا المشركين وأزواجهم وهم أشباههم في الشرك والمتابعون لهم في الكفر والمشايعون لهم في تكذيب الرسل كذا قال قتادة وأبو العالية وقال الحسن ومجاهد : المراد بأزواجهم نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر والظلم وقال الضحاك : أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كل كافر من شيطانه وبه قال مقاتل (4/555)
23 - { وما يعبدون من دون الله } من الأصنام والشياطين وهذا العموم المستفاد من ما الموصولة فإنها عبارة عن المعبودين لا عن العابدين كما قيل مخصوص لأن من طوئف الكفار من عبد المسيح ومنهم من عبد الملائكة فيخرجون بقوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها وتخلجيلهم وإظهار أنها لا تنفع ولا تضر { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } أي عرفوا هؤلاء المحشورين طريق النار وسوقوهم إليها يقال هديته الطريق وهديته إليها : أي دللته عليها وفي هذا تهكم بهم (4/555)
24 - { وقفوهم إنهم مسؤولون } أي احبسوهم يقال وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا يتعدى ولا يتعدى وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم : أي وقفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك وجملة { إنهم مسؤولون } تعليل للجملة الأولى قال الكلبي : أي مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم وقال الضحاك : عن خطاياهم وقيل عن لا إله إلا الله وقيل عن ظلم العباد وقيل عن ظلم العباد (4/556)
وقيل هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله : 25 - { ما لكم لا تناصرون } أي أي شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا وهذا توبيخ لهم وتقريع وتهكم بهم وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا قرأ الجمهور { إنهم مسؤولون } بكسر الهمزة وقرأ عيسى بن عمر بفتحها قال الكسائي : أي لأنهم أو بأنهم وقيل الإشارة بقوله : { ما لكم لا تناصرون } إلى قول أبي جهل يوم بدر { نحن جميع منتصر } (4/556)
ثم أضرب سبحانه عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك فقال : 26 - { بل هم اليوم مستسلمون } أي منقادون لعجزهم عن الحيلة قال قتادة : مستسلمون في عذاب الله وقال الأخفش : ملقون بأيديهم يقال استسلم للشيء : إذا انقاد له وخضع (4/556)
27 - { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } أي أقبل بعض الكفار على بعض يتساءلون قيل هم الأتباع والرؤساء يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة وقال مجاهد : هو قول الكفار للشياطين وقال قتادة : هو قول الإنس للجن (4/556)
والأول أولى لقوله : 28 - { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } أي كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين : أي من جهة الحق والدين والطاعة وتصدونا عنها قال الزجاج : كنتم تأتوننا من قبل الدين فتروننا أن الدين والحق ما تضلوننا به واليمين عبارة عن الحق وهذا كقوله تعالى إخبارا عن إبليس { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم } قال الواحدي : قال أهل المعاني : إن الرؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم فمعنى { تأتوننا عن اليمين } أي من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها قال : والمفسرون على القول الاول وقيل المعنى : تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك عن جهة النصح والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح وقيل اليمين بمعنى القوة : أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر كما في قوله : { فراغ عليهم ضربا باليمين } أي بالقوة وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر (4/556)
وكذلك كجملة 29 - { قالوا بل لم تكونوا مؤمنين } فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدر والمعنى : أنه قال الرؤساء أو الشياطين لهؤلاء القائلين : كنتم تأتوننا عن اليمين بل لم تكونوا مؤمنين ولم نمنعكم من الإيمان والمعنى : أنكم لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر بل كنتم من الأصل على الكفر فأقمتم عليه (4/557)
30 - { وما كان لنا عليكم من سلطان } من تسلط بقهر وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان ونخرجكم من الكفر { بل كنتم قوما طاغين } أي متجاوزين الحد في الكفر والضلال (4/557)
وقوله : 31 - { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } من قول المتبوعين : أي وجب علينا وعليكم ولزمنا قول ربنا يعنون قوله تعالى : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } إنا لذائقو العذاب : أي إنا جميعا لذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد قال الزجاج : أي إن المضل والضال في النار (4/557)
32 - { فأغويناكم } أي أضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغي وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر { إنا كنا غاوين } فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية ومعنى الآية : أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية فاقروا ها هنا بأنهم تسببوا لإغوائهم لكن لا بطريق القهر والغلبة ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم وغلبوهم فقالوا : { وما كان لنا عليكم من سلطان } (4/557)
ثم أخبر الله سبحانه عن الأتباع والمتبوعين بقوله : 33 - { فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون } كما كانوا مشتركين في الغواية (4/557)
34 - { إنا كذلك نفعل بالمجرمين } أي إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين : أي أهل الإجرام وهم المشركون (4/557)
كما يفيده قوله : 35 - { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } أي إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله يستكبرون عن القبول ومحل يستكبرون النصب على أنه خبر كان أو الرفع على أنه خبر إن وكان ملغاة (4/557)
36 - { ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } يعنون النبي صلى الله عليه و سلم : أي لقول شاعر مجنون (4/557)
فرد الله سبحانه عليهم بقوله : 37 - { بل جاء بالحق } يعني القرآن المشتمل على التوحيد والوعد والوعيد { وصدق المرسلين } أي صدقهم فيما جاءوا به من التوحيد والوعيد وإثبات الدار الآخرة ولم يخالفهم ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله (4/557)
38 - { إنكم لذائقوا العذاب الأليم } أي إنكم بسبب شرككم وتكذيبكم لذائقو العذاب الشديد الألم قرأ الجمهور { لذائقوا } بحذف النون وخفض العذاب وقرأ أبان بن ثعلب عن عاصم وأبو السماك بحذفها ونصب العذاب وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون والنصب للعذاب قول الشاعر :
( فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا )
وأجاز سيبويه أيضا { والمقيمي الصلاة } بنصب الصلاة على هذا التوجيه وقد قرئ بإثبات النون ونصب العذاب على الأصل (4/557)
ثم بين سبحانه أن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم فقال : 39 - { وما تجزون إلا ما كنتم تعملون } أي إلا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي أو إلا بما كنتم تعملون (4/558)
ثم استثنى المؤمنين فقال : 40 - { إلا عباد الله المخلصين } قرأ أهل المدينة والكوفة { المخلصين } بفتح اللام : أي الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده وقرأ الباقون بكسرها : أي الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في تجزون لجميع المكلفين أو منقطع : أي لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب (4/558)
والإشارة بقوله : 41 - { أولئك } إلى المخلصين وهو مبتدأ وخبره قوله : { لهم رزق معلوم } أي لهؤلاء المخلصين رزق يرزقهم الله إياه معلوم في حسنه وطيبه وعدم انقطاعه قال قتادة : يعني الجنة وقيل معلوم الوقت وهو أن يعطوا منه بكرة وعشية كما في قوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } وقيل هو المذكور في قوله بعده (4/558)
42 - { فواكه } فإنه بدل من رزق أو خبر مبتدأ محذوف : أي هو فواكه وهذا هو الظاهر والفواكه جمع الفاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها وخصص الفواكه بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل والأول أن يقال : إن تخصيصها بالذكر لأنها أطيب ما يأكلونه وأذ ما تشتهيه أنفسهم وقيل إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة ذكرها يغني عن ذكر غيرها وجملة { وهم مكرمون } في محل نصب على الحال : أي ولهم من الله عز و جل إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده وسماع كلامه ولقائه في الجنة قرأ الجمهور { مكرمون } بتخفيف الراء وقرأ أبو مقسم بتشديدها (4/558)
وقوله 43 - { في جنات النعيم } يجوز أن يتعلق بمكرمون وأن يكون حبرا ثانيا وأن يكون حالا (4/558)
وقوله : 44 - { على سرر } يحتمل أن يكون حالا وأن يكون خبرا ثالثا وانتصاب { متقابلين } على الحالية من الضمير في مكرمون أو من الضمير في متعلق على سرر قال عكرمة ومجاهد : معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعض وقيل إنها تدور بها الأسرة كيف شاءوا فلا يرى بعضهم قفا بعض قرأ الجمهور سرر بضم الراء وقرأ أبو السماك بفتحها وهي لغة بعض تميم (4/558)
ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم فقال : 45 - { يطاف عليهم بكأس من معين } ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير متقابلين والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء فيه الشراب فإن كان فارغا فليس بكأس وقال الضحاك والسدي : كل كأس في القرآن فهي الخمر قال النحاس : وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول لقدح إذا كان فيه خمر كأس فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام مائدة فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة ومن معين متعلق بمحذوف هو صفة لكأس قال الزجاج : بكأس من معين : أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض والمعين الماء الجاري (4/559)
وقوله : 46 - { بيضاء لذة للشاربين } صفتان لكأس قال الزجاج : أي ذات لذة فحذفت المضاف ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذة فلا يحتاج إلى تقدير المضاف قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن له لذة لذيذة يقال شراب لذ ولذيذ كما يقال نبات غض وغضيض ومنه قول الشاعر :
( بحديثها اللذ الذي لو كلمت ... أسد الفلاة به أتين سراعا )
واللذيذ : كل شيء مستطاب وقيل البيضاء : هي التي لم يعتصرها الرجال (4/559)
ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا فقال : 47 - { لا فيها غول } أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع { ولا هم عنها ينزفون } أي يسكرون : يقال نزف الشارب فهو منزوف ونزيف إذا سكر ومنه قول امرئ القيس :
( وإذا هي تمشي كمش النزيـ ... ف يصرعه بالكثيب البهر )
وقال أيضا :
( نزيف إذا قامت لوجه تمايلت )
ومنه قول الآخر :
( فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج )
قال الفراء : العرب تقول ليس فيها غلية وغائلة وغول سواء وقال أبو عبيدة : الغول أن تغتال عقولهم وأنشد قول مطيع بن إياس :
( وما زالت الكأس تغتالهم ... وتذهب بالأول الأول )
وقال الواحدي : الغول حقيقته الإهلاك يقال غاله غولا واغتاله : أي أهلكه والغول كل ما اغتالك : أي أهلكك قرأ الجمهور { ينزفون } بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الرجل : إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ومنزف يقال أحصد الزرع : إذا حان حصاده وأقطف الكرم : إذا حان قطافه قال الفراء : من كسر الزاي فله معنيان يقال أنزف الرجل : إذا فنيت خمره وأنزف : إذا ذهب عقله من السكر وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة قال النحاس : والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى لأن معنى لا ينزفون عند جمهور المفسرين : لا تذهب عقولهم فنفى الله عز و جل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر وقال الزجاج وأبو علي الفارسي معنى : لا ينزفون بكسر الزاي : لا يسكرون قال المهدوي : لا يكون معنى ينزفون يسكرون لأن قبله { لا فيها غول } أي لا تغتال عقولهم فيكون تكريرا وهذا يقوي ما قاله قتادة : إن الغول وجع البطن وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال الحسن : إن الغول الصداع وقال ابن كيسان : هو المغص فيكون معنى الآية : لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص أو وجع بطن أو صداع أو عربدة أو لغو أو تأثيم ولا هم يسكرون منها ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء يقال اغتاله اغتيالا : إذا أفسد عليه أمره في خفية ومنه الغول والغيلة القتل خفية وقرأ ابن أبي إسحاق ينزفون بفتح الياء وكسر الزاء وقرأ طلحة بن مصرف بفتح الياء وضم الزاي (4/559)
ولما ذكر سبحانه صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم فقال : 48 - { وعندهم قاصرات الطرف } أي نساء قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والقصر معناه الحبس ومنه قول امرئ القيس :
( من القاصرات الطرف لودب محول ... من الذر فوق الأتب منها لأثرا )
والمحول الصغير من الذر والأتب القميص وقيل القاصرات : المحبوسات على أزواجهن والأول أولى لأنه قال : قاصرات الطرف ولم يقل مقصورات والعين عظام العيون جمع عيناء وهي الواسعة العين قال الزجاج : معنى { عين } كبار الأعين حسناها وقال مجاهد : العين حسان العيون وقال الحسن : هن الشديدات بياض العين الشديدات سوادها والأول أولى (4/560)
49 - { كأنهن بيض مكنون } قال الحسن وأبو زيد : شبههن بيض النعام تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار فلونه أبيض في صفرة وهو أحسن ألوان النساء وقال سعيد بن جبير والسدي : شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي وبه قال ابن جرير ومنه قول امرئ القيس :
( وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل )
قال المبرد : وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة كأنه بيض النعام المغطى بالريش وقيل المكنون : المصون عن الكسر : أي إنهن عذارى وقيل المراد بالبيض اللؤلؤ كما في قوله : { وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون } ومثله قول الشاعر :
( وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون )
والأول أولى وإنما قال مكنون ولم يقل مكنونات لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } قال : تقول الملائكة للزبانية هذا القول وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } قال : أمثالهم الذين هم مثلهم : يجيء أصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر أزواج في الجنة وأزواج في النار وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } قال : أشباههم وفي لفظ : نظراءهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } قال : وجوههم وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : دلوهم { إلى صراط الجحيم } قال : طريق النار وأخرج عنه أيضا في قوله : { وقفوهم إنهم مسؤولون } قال : احبسوهم إنهم محاسبون وأخرج البخاري في تاريخه والدارمي والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا معه يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا ثم قرأ { وقفوهم إنهم مسؤولون } ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } قال : ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : { كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } قال : كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون { ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } لا يعقل قال : فحكى الله صدقه فقال : { بل جاء بالحق وصدق المرسلين } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ] وأنزل الله في كتابه وذكر قوما استكبروا فقال : { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } وقال : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على قضية المدة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { يطاف عليهم بكأس من معين } قال : الخمر { لا فيها غول } قال ليس فيها صداع { ولا هم عنها ينزفون } قال : لا تذهب عقولهم وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله خمر الجنة عنها فقال : { لا فيها غول } لا تغول عقولهم من السكر { ولا هم عنها ينزفون } قال : يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { لا فيها غول } قال : هي الخمر ليس فيها وجع بطن وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه أيضا في قوله : { وعندهم قاصرات الطرف } يقول : من غير أزواجهن { كأنهن بيض مكنون } قال : اللؤلؤ المكنون وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { كأنهن بيض مكنون } قال : بياض البيضة ينزع عنها فوفها وغشاؤها (4/560)
قوله : 50 - { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } معطوف على يطاف : أي يسأل هذا ذاك وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا وذلك من تمام نعيم الجنة والتقدير : فيقبل بعضهم على بعض وإنما عبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه (4/563)
51 - { قال قائل منهم } أي قال قائل من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض الحديث وسؤال بعضهم لبعض { إني كان لي قرين } أي صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له (4/563)
كما يدل عليه قوله : { أإنك لمن المصدقين } يعني بالبعث والجزاء وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ ذلك المؤمن وتبكيته بإيمانه وتصديقه بما وعد الله به من البعث وكان هذا القول منه في الدنيا (4/563)
ثم ذكر ما يدل على الاستبعاد للبعث عنده وفي زعمه فقال : 53 - { أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون } أي مجزيون بأعمالنا ومحاسبون بها بعد أن صرنا ترابا وعظاما وقيل معنى مدينون مسوسون يقال دانه : إذا ساسه قال سعيد بن جبير : قرينه شريكه وقيل أراد بالقرين الشيطان الذي يقارنه وأنه كان يوسوس إليه بإنكار البعث وقد مضى ذكر قصتهما في سورة الكهف والاختلاف في اسميها قرأ الجمهور { لمن المصدقين } بتخفيف الصاد من التصديق / أي لمن المصدقين بالبعث وقرئ بتشديدها ولا أدري من قرأ بها ومعناها بعيد لأنها من التصدق لا من التصديق ويمكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدق بماله لطلب الثواب وعلل ذلك باستبعاد البعث
وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام والباقون بالاستفهام في جميعها ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعده ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وعاصم وحمزة بهمزتين (4/563)
54 - { قال هل أنتم مطلعون } القائل هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا : أي هل أنتم مطلعون إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة كيف منزلته في النار ؟ قال ابن الأعرابي : الاستفهام هو بمعنى الأمر : أي اطلعوا وقيل القائل هو الله سبحانه وقيل الملائكة والأول أولى (4/563)
55 - { فاطلع فرآه في سواء الجحيم } أي فاطلع على النار ذلك المؤمن الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا فرأى قرينه في وسط الجحيم قال الزجاج : سواء كل شيء وسطه قرأ الجمهور { مطلعون } بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطلع ماضيا مبنيا للفاعل من الطلوع وقرأ ابن عباس ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو مطلعون بسكون الطاء وفتح النون فأطلع بقطع الهمزة مضمومة وكسر اللام ماضيا مبنيا للمفعول قال النحاس : فأطلع فيه قولان على هذه القراءة أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا : أي فأطلع أنا ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام والقول الثاني أن يكون فعلا ماضيا وقرأ حماد بن أبي عمار مطلعون بتخفيف الطاء وكسر النون فاطلع مبنيا للمفعول وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وغيره قال النحاس : هي لحن لأنه لا يجوز الجمع بين النون والإضافة ولو كان مضافا لقال هل أنتم مطلعي وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله وأنشدا :
( هم القائلون الخير والآمورنه ... إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما )
ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب (4/564)
56 - { قال تالله إن كدت لتردين } أي قال ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع على قرينه ورآه في النار : تالله إن كدت لتردين : أي لتهلكني بالإغواء قال الكسائي : لتردين لتهلكني والرد الهلاك قال المبرد : لو قيل لتردين لتوقعني في النار لكان جائزا قال مقاتل : المعنى والله لقد كدت أن تغويني فأنزل منزلتك والمعنى متقارب فمن أغوى إنسانا فقد أهلكه (4/564)
57 - { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } أي لولا رحمة ربي وإنعامه علي بالإسلام وهدايتي إلى الحق وعصمتي عن الضلال لكنت من المحضرين معك في النار قال الفراء : أي لكنت معك في النار محضرا قال الماوردي : وأحضر لا يستعمل إلا في الشر (4/564)
ولما تم كلامه مع ذلك القرين الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال : 58 - { أفما نحن بميتين } والهمزة للاسفتها التقريري وفيها معنى التعجيب والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره : أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين (4/564)
59 - { إلا موتتنا الأولى } التي كانت في الدنيا وقوله هذا كان على طريقة الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع وأنهم مخلدون لا يموتون أبدا وقوله : { وما نحن بمعذبين } هو من تمام كلامه : أي وما نحن بمعذبين كما يعذب الكفار ثم قال مشيرا إلى ما هم فيه من النعيم (4/564)
60 - { إن هذا لهو الفوز العظيم } أي إن هذا الأمر العظيم والنعيم المقيم والخلود الدائم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يكن الإحاطة بوصفه (4/565)
وقوله : 61 - { لمثل هذا فليعمل العاملون } من تمام كلامه : أي لمثل هذا العطاء والفضل العظيم فليعمل العاملون فإن هذه هي التجارة الرابحة لا العمل للدنيا الزائلة فإنها صفقة خاسرة نعيمها منقطع وخيرها زائل وصاحبها عن قريب منها راحل وقيل إن هذا من قول الله سبحانه وقيل من قول الملائكة والأول أولى قرأ الجمهور بميتين وقرأ زيد بن علي بمايتين وانتصاب إلا موتتنا على المصدرية والاستثناء مفرغ ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا أي لكن الموتة الأولى التي كانت في الدنيا (4/565)
62 - { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم } الإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكره من نعيم الجنة وهو مبتدأ وخبره خير ونزلا تمييز والنزل في اللغة الرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره قال الزجاج : المعنى أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلا أم نزل أهل النار وهو قوله : { أم شجرة الزقوم } وهو ما يكره تناوله قال الواحدي : وهو شيء مر كريه يكره أهل النار على تناوله فهم يتزقمونه وهي على هذا مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أم لا على قولين : أحدهما أنها معروفة من شجر الدنيا فقال قطرب : إنها شجرة مرة تكون بتهامة من أخبث الشجر وقال غيره : بل هو كل نبات قاتل القول الثاني أنها غير معروفة في شجر الدنيا قال قتادة : لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا : كيف تكون في النار شجرة (4/565)
فأنزل الله تعالى 63 - { إنا جعلناها فتنة للظالمين } قال الزجاج : حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها وقيل معنى جعلها فتنة لهم : أنها محنة لهم لكونها يعذبون بها والمراد بالظالمين هنا الكفار أو أهل المعاصي الموجبة للنار (4/565)
ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة ردا على منكريها فقال : 64 - { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أي في قعرها قال الحسن : أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترفع إلى دركاتها (4/565)
ثم قال 65 - { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } أي ثمرها وما تحمله كأنه في تناهي قبحه وشناعة منظره رؤوس الشياطين فشبه المحسوس بالمتخيل وإن كان غير مرئي للدلالة على أنه غاية في القبح كما تقول في تشبيه من يستقبحونه : كأنه شيطان وفي تشبيه من يستحسنونه : كأنه ملك كما في قوله { ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } ومنه قول
( أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال )
وقال الزجاج والفراء : الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسما وقيل إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له الاستن ويقال له الشيطان قال النحاس : وليس ذلك معروفا عند العرب وقيل هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين (4/565)
66 - { فإنهم لآكلون منها } أي من الشجرة أو من طلعها والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة { فمالئون منها البطون } وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة (4/566)
67 - { ثم إن لهم عليها } بعد الأكل منها { لشوبا من حميم } الشوب الخلط قال الفراء : يقال شاب طعامه وشرابه : إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبا وشيابة والحميم الماء الحار فأخبر سبحانه أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحار ليكون أفظع لعذابهم وأشنع لحالهم كما في قوله : { وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } قرأ الجمهور { شوبا } بفتح الشين وهو مصدر وقرأ شيبان النحوي بالضم قال الزجاج : المفتوح مصدر والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقص بمعنى المنقوص (4/566)
68 - { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } أي مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى الجحيم وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل ثم يردون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه : { يطوفون بينها وبين حميم آن } وقيل إن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولها قال أبو عبيدة : ثم بمعنى الواو وقرأ ابن مسعود ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم (4/566)
وجملة 69 - { إنهم ألفوا } أي وجدوا { آباءهم ضالين } تعليل لاستحقاقهم ما تقدم ذكره أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم تقليدا وضلالة لا لحجة أصلا (4/566)
70 - { فهم على آثارهم يهرعون } الإهراع الإسراع قال الفراء : الإهراع : الإسراع برعدة وقال أبو عبيدة : يهرعون : يستحثون من خلفهم يقال جاء فلان يهرع إلى النار : إذا استحثه البرد إليها وقال المفضل يزعجون من شدة الإسراع قال الزجاج : هرع وأهرع : إذا استحث وانزعج والمعنى : يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم (4/566)
71 - { ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين } أي ضل قبل هؤلاء المذكورين أكثر الأولين من الأمم الماضية (4/566)
72 - { ولقد أرسلنا فيهم منذرين } أي أرسلنا في هؤلاء الأولين رسلا أنذروهم العذاب وبينوا لهم الحق فلم ينجع ذلك فيهم (4/566)
73 - { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } أي الذين أنذرتهم الرسل فإنهم صاروا إلى النار قال مقاتل : يقول كان عاقبتهم العذاب يحذر كفار مكة (4/566)
ثم استثنى عباده المؤمنين فقال : 74 - { إلا عباد الله المخلصين } أي إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد وقرئ { المخلصين } بكسر اللام : أي الذين أخلصوا لله طاعاتهم ولم يشوبوها بشيء مما يغيرها
وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { فاطلع فرآه في سواء الجحيم } قال : اطلع ثم التفت إلى أصحابه فقال : لقد رأيت جماجم القوم تغلي وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : قول الله لأهل الجنة - { كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } - قال هنيئا : أي لا تموتون فيها فعند ذلك قالوا : { أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم } قال : هذا قول الله { لمثل هذا فليعمل العاملون } وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده في يدي فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر ثم جثى على ركبتيه فجعل يبكي حتى بل الثرى ثم قال : { لمثل هذا فليعمل العاملون } وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : دخلت مع النبي صلى الله عليه و سلم على مريض يجود بنفسه فقال : { لمثل هذا فليعمل العاملون } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جالس فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى } فلما سمع أبو جهل قال : من توعد يا محمد ؟ قال إياك قال بما توعدني ؟ قال أوعدك بالعزيز الكريم فقال أبو جهل : أليس أنا العزيز الكريم ؟ فأنزل الله { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم } إلى قوله { ذق إنك أنت العزيز الكريم } فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه فأخرج إليهم زبدا وتمرا فقال : تزقموا من هذا فو الله ما يتوعدكم محمد إلا بهذا فأنزل الله { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } إلى قوله : { ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم } وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال : لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم وأخرج ابن جرير و ابن المنذر عنه أيضا { ثم إن لهم عليها لشوبا } قال : لمزجا وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال في قوله : { لشوبا من حميم } يخالط طعامهم ويشاب بالحميم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء أهل الجنة وأهل النار وقرأ ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إنهم ألفوا آباءهم ضالين } قال : وجدوا آباءهم (4/567)
لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين ذكر تفصيل بعض ما أجمله فقال : { ولقد نادانا نوح } واللام هي الموطئة للقسم وكذا اللام في قوله : { فلنعم المجيبون } أي نحن والمراد أن نوحا دعا ربه على قومه لما عصوه فأجاب الله دعاءه وأهلك قومه بالطوفان فالنداء هنا هو نداء الدعاء لله والاستغاثة به كقوله : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } وقوله : { أني مغلوب فانتصر } قال الكسائي : أي فلنعم المجيبون له كنا (4/569)
76 - { ونجيناه وأهله من الكرب العظيم } المراد بأهله أهل دينه وهم من آمن معه وكانوا ثمانين والكرب العظيم هو الغرق وقيل تكذيب قومه له وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا (4/569)
77 - { وجعلنا ذريته هم الباقين } وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ولم يبق منهم باقية ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ولم يبق إلا أولاده قال سعيد بن المسيب : كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب : السند والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم ويافث أبو الصقالب والترك والخرز ويأجوج ومأجوج وغيرهم وقيل إنه كان لمن مع نوح ذرية كما يدل عليه قوله { ذرية من حملنا مع نوح } وقوله { قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } فيكون على هذا معنى { وجعلنا ذريته هم الباقين } وذريته وذرية من معه دون ذرية من كفر فإن الله أغرقهم فلم يبق لهم ذرية (4/569)
78 - { وتركنا عليه في الآخرين } يعني في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم (4/569)
والمتروك هذا هو قوله : 79 - { سلام على نوح } أي تركنا هذا الكلام بعينه وارتفاعه على الحكاية والسلام هو الثناء الحسن : أي يثنون عليه ثناء حسنا ويدعون له ويترحمون عليه قال الزجاج : تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة وذلك الذكر هو قوله : { سلام على نوح } قال الكسائي : في ارتفاع سلام وجهان : أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام على نوح والوجه الثاني أن يكون المعنى : وأبقينا عليه وتم الكلام ثم ابتدأ فقال : سلام على نوح : أي وسلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين قال المبرد : أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية : يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقوله : { سورة أنزلناها } وقيل إنه ضمن تركنا معنى قلنا قال الكوفيون : جملة سلام على نوح في العالمين في محل نصب مفعول تركنا لأنه ضمن معنى قلنا قال الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود سلاما منصوب بتركنا : أي تركنا عليه ثناء حسنا وقيل المراد بالآخرين أمة محمد صلى الله عليه و سلم وفي العالمين متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبرا وهو على نوح : أي سلام ثابت أو مستمر أو مستقر على نوح في العالمين من الملائكة والجن والإنس وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه و سلم كما قيل (4/569)
80 - { إنا كذلك نجزي المحسنين } هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه وبقاء الثناء من الله عليه وبقاء ذريته : أي إنا كذلك نجزي من كان محسنا في أقواله وافعاله راسخا في الإحسان معروفا به والكاف في كذلك نعت مصدر محذوف : أي جزاء كذلك الجزاء (4/570)
81 - { إنه من عبادنا المؤمنين } هذا بيان لكونه من المحسنين وتعليل له بأنه كان عبدا مؤمنا مخلصا لله (4/570)
82 - { ثم أغرقنا الآخرين } أي الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ولا صدقوا نوحا (4/570)
ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم وبين أنه ممن شايع نوحا فقال : { وإن من شيعته لإبراهيم } أي من أهل دينه وممن شايعه ووافقه على الدعاء إلى الأعوان وهو مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد وقال الفراء : المعنى وإن من شيعته محمد لإبراهيم فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه و سلم وكذا قال الكلبي ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق (4/570)
والظرف في قوله : 84 - { إذ جاء ربه بقلب سليم } منصوب بفعل محذوف : أي اذكر وقيل بما في الشيعة من معنى المتابعة قال أبو حيان : لا يجوز لأن فيه الفصل بي العامل والمعمول بأجنبي وهو إبراهيم والأول أن يقال : إن لام الابتداء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها والقلب السليم المخلص من الشرك والشك وقيل هو الناصح لله في خلقه وقيل الذي يعلم أن الله حق وأن الساعة قائمة وأن الله يبعث من في القبور ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين : أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته الثاني عند إلقائه في النار (4/570)
وقوله : 85 - { إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون } بدل من الجملة الأولى أو ظرف لسليم أو ظرف لجاء والمعنى : وقت قال لأبيه آزر وقومه من الكفار : أي شيء تعبدون (4/570)
86 - { أئفكا آلهة دون الله تريدون } انتصاب إفكا على أنه مفعول لأجله وانتصاب آلهة على أنه مفعول تريدون والتقدير / أتريدون آلهة من دون الله للإفك ودون ظرف لتريدون وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام وقيل انتصاب إفكا على أنه مفعول به لتريدون وآلهة بدل منه جعلها نفس الإفك مبالغة وهذا أولى من الوجه الأول وقيل انتصابه على الحال من فاعل تريدون : أي أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك قال المبرد : الإفك أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبت ويضطرب ومنه ائتفكت بهم الأرض (4/570)
87 - { فما ظنكم برب العالمين } أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وما ترونه يصنع بكم ؟ وهو تحذير مثل قوله { ما غرك بربك الكريم } وقيل المعنى أي شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره (4/570)
88 - { فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم } قال الواحدي : قال المفسرون : كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه وأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم : وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدل بهم على حاله فلما نظر إليها قال إني سقيم أي سأسقم وقال الحسن : إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي : أي فيما طلع له منه فعلم أن كل شيء يسقم (4/571)
89 - { فقال إني سقيم } قال الخليل والمبرد : يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره : نظر في النجوم وقيل كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى وقال الضحاك : معنى إني سقيم : سأسقم سقم الموت لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت وهذا تورية وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارة هي أختي : يعني أخوة الدين وقال سعيد بن جبير : أشار لهم إلى مرض يسقم ويعدي وهو الطاعون وكانوا يهربون من ذلك (4/571)
ولهذا قال : 90 - { فتولوا عنه مدبرين } أي تركوه وذهبوا مخافة العدوى (4/571)
91 - { فراغ إلى آلهتهم } يقال راغ يروغ روغا وروغانا : إذا مال ومنه طريق رائغ أي مائل ومنه قول الشاعر :
( فيريك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب )
وقال السدي : ذهب إليهم وقلا أبو مالك : جاء إليهم وقال الكلبي : أقبل عليهم والمعنى متقارب { فقال ألا تأكلون } أي فقال إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاء وسخرية : ألا تأكلون من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها وخاطبها كما يخاطب من يعقل لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة (4/571)
وكذا قوله : 92 - { ما لكم لا تنطقون } فإنه خاطبهم خطاب من يعقل والاستفهام للتهكم بهم قد علم أنها جمادات لا تنطق قيل إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم وقيل تركوه للسدنة وقيل إن إبراهيم هو الذي قرب إليهم الطعام مستهزئا بها (4/571)
93 - { فراغ عليهم ضربا باليمين } أي فمال عليهم يضربهم ضربا باليمين فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف أو هو مصدر لراغ لأنه بمعنى ضرب قال الواحدي : قال المفسرون : يعني بيده اليمنى يضربهم بها وقال السدي : بالقوة والقدرة لأن اليمين أقوى اليدين قال الفراء وثعلب ضربا بالقوة واليمين القوة وقال الضحاك والربيع بن أنس : المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال : { وتالله لأكيدن أصنامكم } وقيل المراد باليمين هنا العدل كما في قوله : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين } أي بالعدل واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور وأول هذه الأقوال أولاها (4/571)
94 - { فأقبلوا إليه يزفون } أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما علموا بما صنعه بها ويزفون في محل نصب على الال من فاعل أقبلوا قرأ الجمهور { يزفون } بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة وقرأ حمزة بضم الياء من أزف يزف : أي دخل في الزفيف آو يحملون غيرهم على الزفيف قال الأصمعي : أزففت الإبل : أي حملتها على أن تزف وقيل هما لغتان يقال زف القوم وأزفوا وزفت العروس وأزففتها حكي ذلك عن الخليل قال النحاس : زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة : يعني يزفون بضم الياء وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم أطردت الرحل : أي صيرته إلى ذلك وقال المبرد : الزفيف الإسراع وقال الزجاج : الزفيف أول عدو النعام وقال قتادة والسدي : ومعنى يزفون يمشون وقال الضحاك : يسعون وقال يحيى بن سلام : يرعدون غضبا وقال مجاهد : يختالون : أي يمشون مشي الخيلاء وقيل يتسللون تسللا بين المشي والعدو والأولى تفسير يزفون بيسرعون وقرئ يزفون على البناء للمفعول وقرئ يزفون كيرمون وحكى الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميفع أنهم قرأوا يرفون بالراء المهملة وهي ركض بين المشي والعدو (4/572)
95 - { قال أتعبدون ما تنحتون } لما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها فقال مبكتا لهم ومنكرا عليهم { أتعبدون ما تنحتون } أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها والنحت النجر والبري نحته ينحته بالكسر نحتا : أي براه والنحاتة البراية (4/572)
وجملة 96 - { والله خلقكم وما تعملون } في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون وما في وما تعملون موصولة : أي وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولا أوليا ويكون معنى العمل هنا التصوير والنحت ونحوهما ويجوز أن تكون مصدرية : أي خلقكم وخلق عملكم ويجوز أن تكون استفهامية ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقريع : أي وأي شيء تعملون ويجوز أن تكون نافية أي إن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئا وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال إنها مصدرية ولكم بما لا طائل تحته وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام (4/572)
97 - { قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم } مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطا من حجارة ويملأوه حطبا ويضرموه ثم يلقوه فيه والجحيم النار الشديدة الاتقاد قال الزجاج وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه : أي في جحيم ذلك البنيان (4/572)
ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها وجعلها عليه : بردا وسلاما وهو معنى قوله : 98 - { فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين } الكيد : المكر والحيلة : أي احتالوا لإهلاكه فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ولا يمكنهم جحدها فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها بردا وسلاما ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل وصار المنكر له سافلا ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحا ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين وظهرت حجة الله لإبراهيم وقامت براهين نبوته وسطعت أنوار معجزته (4/572)
99 - { قال إني ذاهب إلى ربي } أي مهاجر من بلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصبا للأصنام وكفرا بالله وتكذيبا لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه أو إلى حيث أتمكن من عبادته { سيهدين } أي سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه أو إلى مقصدي
وقيل إن الله سبحانه أمره بالمسير إلى الشام وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى (4/573)
قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال : 100 - { رب هب لي من الصالحين } أي ولدا صالحا من الصالحين يعينني على طاعتك ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد فتحمل عند الاطلاق عليه وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله : { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا } وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد (4/573)
فقوله : 101 - { فبشرناه بغلام حليم } يدل على أنه ما أراد بقوله : { رب هب لي من الصالحين } إلا الولد ومعنى حليم : أن يكون حليما عند كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ويصير حليما لأن الصغير لا يوصف بالحلم قال الزجاج : هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم (4/573)
102 - { فلما بلغ معه السعي } في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة والتقدير : فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه قال مجاهد : { فلما بلغ معه السعي } أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم وقال مقاتل : لما مشى معه قال الفراء كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقال الحسن : هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة وقال ابن زيد : هو السعي في العبادة وقيل هو الاحتلام { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ : إني رأيت في المنام هذه الرؤيا قال مقاتل : رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات قال قتادة : رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه
وقد اختلف أهل العلم في الذبيح ؟ هل هو إسحاق أو إسماعيل قال القرطبي : فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابن عبد الله وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود ورواه أيضا عن جابر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب قال : فهؤلاء سبعة من الصحابة قال : ومن التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم قالوا الذبيح إسحاق وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى واختاره غير واحد منهم النحاس وابن جرير الطبري وغيرهما قال وقال آخرون : هو إسماعيل وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة قال ابن كثير في تفسيره : وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة وليس في ذلك كتاب ولا سنة وما أظن ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب وأخذ مسلما من غير حجة وكتاب الله شاهد مرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم وذكر أنه الذبيح وقال بعد ذلك { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين } اهـ
واحتج القائلون بأنه إسحاق بأن الله عز و جل قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } أنه دعا فقال : { رب هب لي من الصالحين } فقال تعالى { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب } ولأن الله قال : { وفديناه بذبح عظيم } فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق لأنه قال : { وبشرناه بإسحاق } وقال هنا { بغلام حليم } وذلك قبل أن يعرف هاجر وقبل أن يصير له إسماعيل وليس في القرآن أنه بشر بولد إلى إسحاق قال الزجاج الله أعلم أيهما الذبيح اه وما استدل به الفريقان يمكن الجواب عنه والمناقشة له
ومن جملة ما احتج به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله : { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } وهو صبره على الذبح ووصفه بصدق الوعد في قوله : { إنه كان صادق الوعد } لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به ولأن الله سبحانه قال : { وبشرناه بإسحاق نبيا } فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا وأيضا فإن الله قال : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة فدل على أن الذبيح إسماعيل ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعا ببيت المقدس وكل هذا أيضا يحتمل المناقشة { فانظر ماذا ترى } قرأ حمزة والكسائي { تري } بضم الفوقية وكسر الراء والمفعولان محذوفان : أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء والراء من الرأي وهو مضارع رأيت وقرأ الضحاك والأعمش ترى بضم التاء وفتح الراء مبنيا للمفعول : أي ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى : انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره وإنما قال العلماء ماذا تشير : أي ما تريك نفسك من الرأي وقال أبو عبيد : إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة وكذا قال أبو حاتم وغلطهما النحاس وقال : هذا يكون من رؤية العين وغيرها ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله وإلا فرؤيا الأنبياء وحي وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم { قال يا أبت افعل ما تؤمر } أي ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي وما موصولة وقيل مصدرية على معنى افعل أمرك والمصدر مضاف إلى المفعول وتسمية المأمور به أمرا والأول أولى { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } على ما ابتلاني به من الذبح والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركا بها منه (4/573)
103 - { فلما أسلما } أي استسلما لأمر الله وأطاعاه وانقادا له قرأ الجمهور أسلمنا وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس فلما سلما أي فوضا أمرهما إلى الله وروي عن ابن عباس أنه قرأ استسلما قال قتادة : أسلم أحدهما نفسه لله وأسلم الآخر ابنه يقال : سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد
وقد اختلف في جواب لما ماذا هو ؟ فقيل هو محذوف وتقديره ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما أو فديناه بكبش هكذا قال البصريون وقال الكوفيون الجواب هو ناديناه والواو زائدة مقحمة واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني ولا يجوز أن تزداد وقال الأخفش الجواب { وتله للجبين } والواو زائدة وروي هذا أيضا عن الكوفيين واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأول { وتله للجبين } التل : الصرع والدفع يقال تللت الرجل : إذا ألقيته والمراد أنه أضجعه على جبينه على الأرض والجبين أحد جانبي الجبهة فللوجه جبينان والجبهة بينهما وقيل كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرقة لقلبه
واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل هو مكة في المقام وقيل في المنحر بمعنى عند الجمار وقيل على الصخرة التي بأصل جبل ثبير وقيل بالشام (4/575)
104 - { وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا } أي عزمت على الإتيان بما رأيته قال المفسرون : لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وجعله مصدقا بمجرد العزم وإن لم يذبحه لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب استسلامهما لأمر الله وقد فعلا قال القرطبي : قال أهل السنة إن نفس الذبح لم يقع ولو وقع لم يتصور رفعه فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء (4/576)
قال : ومعنى 105 - { صدقت الرؤيا } فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك هذا أصح ما قيل في هذا الباب وقالت طائفة : ليس هذا مما ينسخ بوجه لأن معنى ذبحت الشيء قطعته وقد كان إبراهيم يأخذ السكين فيمر بها على حلقه فتنقلب كما قال مجاهد وقال بعضهم : كان كلما قطع جزءا التأم وقالت طائفة منهم السدي : ضرب الله على عنقه صفيحة نحاس فجعل إبراهيم يحز ولا يقطع شيئا وقال بعضهم إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي فلما أتى بما به من الإضجاع قيل له قد { صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين } أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد والسلامة من المحن فالجملة كالتعليل لما قبلها قال مقاتل : جزاه الله سبحانه بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه (4/576)
106 - { إن هذا لهو البلاء المبين } البلاء والابتلاء : الاختبار والمعنى : إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ولده وقيل المعنى : إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من الذبح وفداه بالكبش يقال أبلاه الله إبلاء وبلاء : إذا أنعم عليه : والأول أولى وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير والشر ومنه { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } ولكن المناسب للمقام المعنى الأول قال أبو زيد : هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده قال : وهذا من البلاء المكروه (4/576)
107 - { وفديناه بذبح عظيم } الذبح : اسم المذبوح وجمع ذبوح كالطحن اسم للمطحون وبالفتح المصدر ومعنى عظيم : عظيم القدر ولم يرد عظم الجثة وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح أو لأنه متقبل قال النحاس : العظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف وأهل التفسير على أنه ها هنا للشريف : أي المتقبل قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا وقال الحسن : ما فدي إلا بتيس من الأورى أهبط عليه من ثبير فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه قال الزجاج : قد قيل إنه فدي بوعل والوعل التيس الجبلي ومعنى الآية : جعلنا الذبح فداء له وخلصناه به من الذبح (4/577)
108 - { وتركنا عليه في الآخرين } (4/577)
109 - { وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم } أي في الأمم الآخرة التي تأتي بعده والسلام الثناء الجميل وقال عكرمة : سلام منا وقيل سلامة من الآفات والكلام في هذا كالكلام في قوله : { سلام على نوح في العالمين } وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه ووجه إعرابه (4/577)
110 - { كذلك نجزي المحسنين } أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من انقاد لأمر الله (4/577)
111 - { إنه من عبادنا المؤمنين } أي الذين أعطوا العبودية حقها ورسخوا في الإيمان بالله وتوحيده (4/577)
112 - { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين } أي بشرنا إبراهيم بولد يولد له ويصير نبيا بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك وانتصاب نبيا على الحال وهي حال مقدرة قال الزجاج : إن كان الذبيح إسحاق فيظهر كونها مقدرة والأولى أن يقال إن من فسر الذبيح بإسحاق جعل البشارة هنا خاصة بنبوته وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة فإن وجود ذي الحال ليس بشرط وإنما الشرط المقارنة للفعل ومن الصالحين كما يجوز أن يكون صفة لنبيا يجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر فيه فتكون أحوالا متداخلة (4/577)
113 - { وباركنا عليه وعلى إسحاق } أي على إبراهيم وعلى إسحاق بمرادفة نعم الله عليهما وقيل كثرنا ولدهما وقيل إن الضمير في عليه يعود إلى إسماعيل وهو بعيد وقيل المراد بالمباركة هنا : هي الثناء الحسن عليهما إلى يوم القيامة { ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } أي محسن في عمله بالإيمان والتوحيد وظالم لها بالكفر والمعاصي لما ذكر سبحانه البركة في الذرية بين أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف والحتد المبارك ليس بنافع لهم بل إنما ينتفعون بأعمالهم لا بآبائهم فإن اليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال البين والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وجعلنا ذريته هم الباقين } يقول : لم يبق إلا ذرية نوح { وتركنا عليه في الآخرين } يقول : يذكر بخير وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وجعلنا ذريته هم الباقين } قال : حام وسام ويافث وأخرج ابن سعد وأحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن سمرة أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم ] والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة وفي سماعه منه مقال معروف وقد قيل إنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة فقط وما عداه فبواسطة قال ابن عبد البر : وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله وأخرج البزار وابن أبي حاتم والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ولد نوح ثلاثة : سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان ] وهو من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عنه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { فأقبلوا إليه يزفون } قال : يخرجون وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : { قال إني ذاهب إلى ربي } قال : حين هاجر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { فلما بلغ معه السعي } قال : العمل وأخرج الطبراني عنه أيضا قال : لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق قال لأبيه : إذا ذبحتني فاعتزل لا اضطرب فينتضح عليك دمي فشده فلما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه { أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا } وأخرج أحمد عنه أيضا مرفوعا مثله مع زيادة وأخرجه عنه موقوفا وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضا في قوله : { وإن من شيعته لإبراهيم } قال : من شيعة نوح على منهاجه وسننه { فلما بلغ معه السعي } قال شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل { فلما أسلما } سلما ما أمر به { وتله } وضع وجهه إلى الأرض فقال لا تذبحني وأنت تنظر عسى أن ترحمني فلا تجهز الأرض فلما أدخل يده ليذبحه فلم تحل المدية حتى نودي : { أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا } فأمسك يده قوله : { وفديناه بذبح عظيم } بكبش عظيم متقبل وزعم ابن عباس أن الذبح إسماعيل وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رؤيا الأنبياء وحي ] وأخرجه البخاري وغيره من قول عبيد بن عمير واستدل بهذه الآية وأخرج ابن جرير والحاكم من طريق عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس قال : المفدي إسماعيل وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ابن عباس قال : الذبيح إسماعيل وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق مجاهد ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال الذبيح إسماعيل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير من طريق يوسف بن ماهك وأبي الطفيل عن ابن عباس قال الذبيح إسماعيل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عمر في قوله : { وفديناه بذبح عظيم } قال : إسماعيل ذبح عنه إبراهيم الكبش وأخرج عبد بن حميد من طريق الفرزدق الشاعر قال : رأيت أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقول : إن الذي أمر بذبحه إسماعيل وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قال نبي الله داود : يا رب أسمع الناس يقولون : رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني رابعا قال : إن إبراهيم ألقي في النار فصبر من أجلي وإن إسحاق جاد لي بنفسه وإن يعقوب غاب عنه يوسف وتلك بلية لم تنلك ] وفي إسناده الحسن بن دينار البصري وهو متروك عن علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه وأخرج الدارقطني في الأفراد والديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الذبيح إسحاق ] وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ الذبيح إسحاق ] وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا مثله وأخرج ابن مردويه عن بهار وكانت له صحبة قال : إسحاق ذبيح الله وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال سئل النبي صلى الله عليه و سلم من أكرم الناس ؟ قال : [ يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ] وأخرج عبد الرزاق والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : الذبيح إسحاق وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال : الذبيح إسحاق وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الذبيح إسحاق وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : صرعه للذبح وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله : { وفديناه بذبح عظيم } قال : كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير وأخرج ابن أبي شيبة ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وفديناه بذبح عظيم } قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا وأخرج عبد بن حميد عنه قال : فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلا قال : نذرت لأنحر نفسي فقال ابن عباس : لقد كان لكم في روسل الله أسوة حسنة ثم تلا { وفديناه بذبح عظيم } فأمره بكبش فذبحه وأخرج الطبراني من طريق أخرى عنه نحوه وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين } قال : إنما بشر به نبيا حين فداه الله من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده
وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحاق أو إسماعيل وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن في المقام ما يوجب القطع أو يتعين رجحانه تعينا ظاهرا وقد رجح كل قول طائفة من المحققين المنصفين كابن جرير فإنه رجح أنه إسحاق ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض مما سقناه ها هنا وكابن كثير فإنه رجح أنه إسماعيل وجعل الأدلة على ذلك أقوى وأصح وليس الأمر كما ذكره فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن الذبيح إسحاق لم تكن فوقها ولا أرجح منها ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك شيء وما روي عنه فهو إما موضوع أو ضعيف جدا ولم يبق إلا مجرد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق وهي محتملة ولا تقوم حجة بمحتمل فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته وفي السلامة من الترجيح بلا مرجح ومن الاستدلال بما هو محتمل (4/577)
لما فرغ سبخانه من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح وما من عليه بعد ذلك من النبوة ذكر ما من به على موسى وهارون فقال : 114 - { ولقد مننا على موسى وهارون } يعني بالنبوة وغيرهما من النعم العظيمة التي أنعم الله بها عليهما (4/580)
115 - { ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم } المراد بقومهما هم المؤمنون من بني إسرائيل والمراد بالكرب العظيم هو ما كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم وما كان نصيبهم من جهته من البلاء وقيل هو الغرق الذي أهلك فرعون وقومه والأول أولى (4/581)
116 - { ونصرناهم } جاء بضمير الجماعة قال الفراء : الضمير لموسى وهارون وقومهما لأن قبله ونجيناهما وقومهما والمراد بالنصر التأييد لهم على عدوهم { فكانوا } بسبب ذلك { هم الغالبين } على عدوهم بعد أن كانوا تحت أسرهم وقهرهم وقيل الضمير في نصرناهم عائد على الاثنين موسى وهارون تعظيما لهما والأول أولى (4/581)
117 - { وآتيناهما الكتاب المستبين } المراد بالكتاب التوراة : والمستبين : البين الظاهر يقال استبان كذا أي صار بينا (4/581)
118 - { وهديناهما الصراط المستقيم } أي القيم لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام فإنه الطريق الموصلة إلى المطلوب (4/581)
119 - { وتركنا عليهما في الآخرين } (4/581)
120 - { وتركنا عليهما في الآخرين * سلام على موسى وهارون } أي أبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل وقد قدمنا الكلام في السلام وفي وجه إعرابه بالرفع وكذلك تقدم تفسير (4/581)
121 - { إنا كذلك نجزي المحسنين } (4/581)
122 - { إنا كذلك نجزي المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين } في هذه السورة (4/581)
123 - { وإن إلياس لمن المرسلين } قال المفسرون : هو نبي من أنبياء بني إسرائيل وقصته مشهورة مع قومه قيل وهو إلياس بن يس من سبط هارون أخي موسى قال ابن إسحاق وغيره : كان إلياس هو القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع وقيل هو إدريس والأول أولى قرأ الجمهور { إلياس } بهمزة مكسورة مقطوعة وقرأ ابن ذكوان بوصلها ورويت هذه القراءة عن ابن عامر وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وإن إدريس لمن المرسلين وقرأ أبي وإن إبليس بهمزة مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم لام مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم سين مهملة مفتوحة (4/581)
124 - { إذ قال لقومه ألا تتقون } هو ظرف لقوله من المرسلين أو متعلق بمحذوف : أي اذكر يا محمد إذ قال والمعنى : ألا تتقون عذاب الله (4/582)
ثم أنكر عليهم بقوله : 125 - { أتدعون بعلا } هو اسم لصنم كانوا يعبدونه : أي أتعبدون صنما وتطلبون الخير منه
قال ثعلب : اختلف الناس في قول سبحانه بعلا فقالت طائفة : البعل هنا الصنم وقالت طائفة : البعث هنا ملك وقال ابن إسحاق : امرأة كانوا يعبدونها قال الواحدي : والمفسرون يقولون ربا وهو بلغة اليمن يقولون للسيد والرب البعل قال النحاس : القولان صحيحان : أي أتدعون صنما عملتوه ربا { وتذرون أحسن الخالقين } أي وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق (4/582)
وانتصاب الاسم الشريف في قوله : 126 - { الله ربكم ورب آبائكم الأولين } على أنه بدل من أحسن هذا على قراءة حمزة والكسائي والربيع بن خثيم وابن أبي إسحاق ويحيى بن وثاب والأعمش فإنهم قرأوا بنصب الثلاثة الأسماء وقيل النصب على المدح وقيل على عطف البيان وحكى أبو عبيد أن النصب على النعت قال النحاس : وهو غلط وإنما هو بدل ولا يجوز النعت لأنه ليس بتحلية واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع بالرفع قال أبو حاتم : بمعنى هو الله ربكم قال النحاس : وأولى ما قيل إنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف وحكي عن الأخفش أن الرفع أولى وأحسن قال ابن الأنباري : من رفع أو نصب لم يقف على أحسن الخالقين على جهة التمام لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعا والمعنى أنه خالقكم وخالق من قبلكم فهو الذي تحق له العبادة (4/582)
127 - { فكذبوه فإنهم لمحضرون } أي فإنه بسبب تكذيبه لمحضرون في العذاب وقد تقدم أن الإحضار المطلق مخصوص بالشر (4/582)
128 - { إلا عباد الله المخلصين } أي من كان مؤمنا به من قومه قرئ بكسر اللام وفتحها كما تقدم والمعنى على قراءة الكسر : أنهم أخلصوا لله وعلى قراءة الفتح : أن الله استخلصهم من عباده (4/582)
وقد تقدم تفسير 129 - { وتركنا عليه في الآخرين } (4/582)
وقد تقدم تفسير 130 - { وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إل ياسين } قرأ نافع وابن عامر والأعرج وشيبة { على إل ياسين } بإضافة آل بمعنى آل ياسين وقرأ الباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بياسين إلا الحسن فإنه قرأ الياسين بإدخال آلة التعريف على ياسين قيل المراد على هذه القراءات كلها إلياس وعليه وقع التسليم ولكنه اسم أعجمي والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها قال ابن جني : العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا فياسين وإلياس وإلياسين شيء واحد قال الأخفش : العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم فيقولون المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب قال : فعلى هذا إنه سمى كل رجل منهم بالياسين قال الفراء : يذهب بالياسين إلى أن يجعله جمعا فيجعل أصحابه داخلين معه في اسمه قال : أبو علي الفارسي : تقديره الياسيين إلى أن الياءين للنسبة حذفتا كما حذفتا في الأشعرين والأعجمين ورجح الفراء وأبو عبيدة قراءة الجمهور قالا : لأنه لم يقل في شيء من السور على آل فلان إنما جاء بالاسم كذلك الياسين لأنه إنما هو بمعنى إلياس أو بمعنى إلياس وأتباعه وقال الكلبي : المراد بآل ياسين آل محمد قال الواحدي : وهذا بعيد لأن ما بعده من الكلام وما قبله لا يدل عليه (4/582)
وقد تقدم تفسير 131 - { إنا كذلك نجزي المحسنين } (4/583)
وقد تقدم تفسير 132 - { إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين } مستوفى (4/583)
133 - { وإن لوطا لمن المرسلين } قد تقدم ذكر قصة لوط مستوفاة (4/583)
134 - { إذ نجيناه وأهله أجمعين } الظرف متعلق بمحذوف هو اذكر ولا يصح تعلقه بالمرسلين لأنه لم يرسل وقت تنجيته (4/583)
135 - { إلا عجوزا في الغابرين } قد تقدم أن الغابر يكون بمعنى الماضي ويكون بمعنى الباقي فالمعنى : إلا عجوزا في الباقين في العذاب أو الماضين الذين قد هلكوا (4/583)
136 - { ثم دمرنا الآخرين } أي أهلكناهم بالعقوبة والمعنى : أن في نجاته وأهله جميعا إلا العجوز وتدمير الباقين من قومه الذين لا يؤمنوا به دلالة بينة على ثبوت كونه من المرسلين (4/583)
137 - { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين } خاطب بهذا العرب أو أهل مكة على الخصوص : أي تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب وقت الصباح (4/583)
138 - { وبالليل } والمعنى تمرون على منازلهم في ذهابكم إلى الشام ورجوعكم منه نهارا وليلا { أفلا تعقلون } ما تشاهدونه في ديارهم من آثار عقوبة الله النازلة بهم فإن في ذلك عبرة للمعتبرين وموعظة للمتدبرين (4/583)
139 - { وإن يونس لمن المرسلين } يونس هو ذو النون وهو ابن متى قال المفسرون : وكان يونس قد وعد قومه العذاب (4/583)
فلما تأخر عنهم العذاب خرج عنهم وقصد البحر وركب السفينة فكان بذهابه إلى البحر كالفار من مولاه فوصف بالإباق وهو معنى قوله : 140 - { إذ أبق إلى الفلك المشحون } وأصل الإباق الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه وصف به وقال المبرد تأويل أبق بباعد : أي ذهب إليه ومن ذلك قولهم عبد آبق
وقد اختلف أهل اعلم هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه أو بعده ؟ ومعنى المشحون : المملوء (4/583)
141 - { فساهم فكان من المدحضين } المساهمة أصلها المغالبة وهي الاقتراع وهو أن يخرج السهم على من غلب قال المبرد : أي فقارع قال : وأصله من السهام التي تجال ومعنى { فكان من المدحضين } فصار من المغلوبين قال : يقال دحضت حجته ودحضها الله وأصله من الزلق عن مقام الظفر ومنه قول الشاعر :
( قتلنا المدحضين بكل فج ... فقد قرت بقتلهم العيون )
أي المغلوبين (4/583)
142 - { فالتقمه الحوت وهو مليم } يقال لقمت اللقمة والتقمتها : إذا ابتلعتها : أي فابتلعه الحوت ومعنى { وهو مليم } وه مستحق للوم يقال : رجل مليم إذا أتى بما يلام عليه وأما الملوم فهو الذي يلام سواء أتى بما يستحق أن يلام عليه أم لا وقيل المليم المعيب يقال ألام الرجل إذا عمل شيئا صار به معيبا ومعنى هذه المساهمة : أن يونس لما ركب السفينة احتبست فقال الملاحون : ها هنا عبد أبق من سيده وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس فقال أنا الآبق وزج نفسه في الماء قال سعيد بن جبير : لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغرا فاه ينتظر أمر ربه حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت (4/584)
143 - { فلولا أنه كان من المسبحين } أي الذاكرين لله أو المصلين له (4/584)
144 - { للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } أي لصار بطن الحوت له قبرا إلى يوم البعث وقيل للبث في بطنه حيا
واختلف المفسرون كم أقام في بطن الحوت ؟ فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان : أربعين يوما وقال الضحاك : عشرين يوما وقال عطاء : سبعة أيام وقال مقاتل بن حبان : ثلاثة أيام وقيل ساعة واحدة وفي هذه الآية ترغيب في ذكر الله وتنشيط للذاكرين له (4/584)
145 - { فنبذناه بالعراء وهو سقيم } النبذ الطرح والعراء قال ابن الأعرابي : هو الصحراء وقال الأخفش : الفضاء وقال أبو عبيدة : الواسع من الأرض وقال الفراء : المكان الخالي وروي عن أبي عبيدة أيضا أنه قال : هو وجه الأرض وأنشد لرجل من خزاعة :
( ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي )
والمعنى : أن الله طرحه من بطن الحوت في الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها وهو عند إلقائه سقيم لما ناله في بطن الحوت من الضرر قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد
وقد استشكل بعض المفسرين الجمع بين ما وقع هنا من قوله : { فنبذناه بالعراء } وقوله في موضع آخر : { لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم } فإن هذه الآية تدل على أنه لم ينبذ بالعراء وأجاب النحاس وغيره بأن الله سبحانه أخبرها هنا أنه نبذ بالعراء وهو غير مذموم ولوا رحمته عز و جل لنبذ بالعراء وهو مذموم (4/584)
146 - { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } أي شجرة فوقه تظللعليه وقيل معنى عليه عنده وقيل معنى عليه له واليقطين هي شجرة الدباء وقال المبرد : اليقطين يقال لكل شجرة ليس لها ساق بل تمتد على وجه الأرض نحو الدباء والبطيخ والحنظل فإن كان لها ساق يقلها فيقال لها شجرة فقط وهذا قول الحسن ومقاتل وغيرهما وقال سعيد بن جبير : هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه قال الجوهري : اليقطين ما لا ساق له من شجر كشجر القرع ونحوه قال الزجاج : اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان : أي أقام به فهو يفعيل وقيل هو اسم أعجمي قال المفسرون : كان يستظل بظلها من الشمس وقيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشية (4/584)
فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره ثم أرسله الله بعد ذلك وهو معنى قوله : 147 - { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } هم قومه الذي هرب منهم إلى البحر وجرى له ما جرى بعد هربه كما قصه الله علينا في هذه السورة وهم أهل نينوى قال قتادة : أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل وقد مر الكلام على قصته في سورة يونس مستوفى وأو في أو يزيدون قيل هي بمعنى الواو والمعنى : ويزيدون وقال الفراء : أو ها هنا بمعنى بل وهو قول مقاتل والكلبي وقال المبرد والزجاج والأخفش : أو هنا على أصله والمعنى : أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون فالشك إنما دخل على حكاية قول المخلوقين قال مقاتل والكلبي : كانوا يزيدون عشرين ألفا وقال الحسن : بضعا وثلاثين ألفا وقال سعيد بن جبير : سبعين ألفا وقرأ جعفر بن محمد ويزيدون بدون ألف الشك
وقد وقع الخلاف بين المفسرين هل هذا الإرسال المذكور هو الذي كان قبل التقام الحوت له وتكون الواو في وأرسلناه لمجرد الجمع بين ما وقع له مع الحوت وبين إرساله إلى قومه من غير اعتبار تقديم ما تقدم في السياق وتأخير ما تأخر أو هو إرسال له بعد ما وقع له مع الحوت ما وقع على قولين وقد قدمنا الإشارة إلى الاختلاف بين أهل العلم هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر أو لم يرسل إلا بعد ذلك ؟ والراجح أنه كان رسولا قبل أن يذهب إلى البحر كما يدل عليه ما قدمنا في سورة يونس وبقي مستمرا على الرسالة وهذا الإرسال المذكور هنا هو بعد تقدم نبوته ورسالته (4/585)
1480 - { فآمنوا فمتعناهم إلى حين } أي وقع منهم الإيمان بعد ما شاهدوا أعلام نبوته فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ومنتهى أعمارهم
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إلياس هو إدريس وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الخضر هو إلياس ] وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل وضعفه عن أنس قال [ كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فنزل منزلا فإذا رجل في الوادي يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه و سلم المرحومة المغفور المثاب لها فأشرفت على الوادي فإذا طوله ثمانون ذراعا وأكثر فقال من أنت ؟ فقلت : أنس خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أين هو ؟ فقلت : هو ذا يسمع كلامك قال فأته وأقرئه مني السلام وقل له أخوك إلياس يقرئك السلام فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته فجاء حتى عانقه وقعدا يتحدثان فقال له : يا رسول الله إني إنما آكل في كل سنة يوما وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت فنزلت عليهما المائدة من السماء خبز وحوت وكرفس فأكلا وأطعماني وصليا العصر ثم ودعه ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء ] قال الذهبي متعقبا لتصحيح الحاكم له : بل موضوع قبح الله من وضعه وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أتدعون بعلا } قال : صنما وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله : { سلام على إل ياسين } قال : نحن آل محمد آل ياسين وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله يونس إلى أهل قريته فردوا عليه ما جاءهم به فامتنعوا منه فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليهم إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا فاخرج من بين أظهرهم فاعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إياهم فقالوا ارمقوه فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم فلما كانت الليل التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها أدلج فرآه القوم فحذروا فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرقوا بين كل دابة وولدها ثم عجوا إلى الله وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال ما فعل أهل القرية ؟ قال : إن نبيهم لما خرج من بين أظهرهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها ثم عجوا إلى الله وتابوا إليه فتقبل منهم وأخر عنهم العذاب فقال يونس عند ذلك : لا أرجع إليهم كذابا أبدا ومضى على وجهه وقد قدمنا الكلام على قصته وما روي فيها من سورة يونس فلا نكرره وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { فساهم } قال : اقترع { فكان من المدحضين } قال : المقروعين وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وهو مليم } قال : مسيء وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : من المصلين وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فلولا أنه كان من المسبحين } قال : من المصلين وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { فنبذناه بالعراء } قال : ألقيناه بالساحل وأخرج هؤلاء عنه أيضا { شجرة من يقطين } قال : القرع وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عنه أيضا قال : اليقطين كل شيء يذهب على وجه الأرض وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عنه أيضا قال : إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت ثم تلا { فنبذناه بالعراء } إلى قوله : { وأرسلناه إلى مائة ألف } وقد تقدم عنه ما يدل على أن رسالته كانت من قبل ذلك : وليس في الآية : ما يدل على ما ذكره كما قدمنا وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } قال : يزيدون عشرين ألفا قال الترمذي : غريب وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يزيدون ثلاثين ألفا وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وثلاثين ألفا وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وأربعين ألفا ولا يتعلق بالخلاف في هذا كثير فائدة (4/585)
لما كانت قريش وقبائل من العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم باستفتائهم على طريقة التقريع والتوبيخ فقال : 149 - { فاستفتهم } يا محمد : أي استخبرهم { ألربك البنات ولهم البنون } أي كيف يجعلون لله على تقدير صدق ما زعموه من الكذب أدنى الجنسين وأوضعهما وهو الإناث ولهم أعلاهما وأرفعهما وهم الذكور وهل هذا إلا حيف في القسمة لضعف عقولهم وسوء إدراكهم ومثله قوله : { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } (4/588)
ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال : 150 - { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون } فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت والتهكم بهم : أي كيف جعلوهم إناثا وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم وهذا كقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم } فبين سبحانه أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة ولم يشهدوا ولا دل دليل على قولهم من السمع ولا هو مما يدرك بالعقل حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم (4/588)
ثم أخبر سبحانه عن كذبهم فقال : 151 - { ألا إنهم من إفكهم ليقولون } (4/588)
ثم أخبر سبحانه عن كذبهم فقال : 152 - { ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون } فبين سبحانه أن قولهم هذا هو من الإفك والافتراء من دون دليل ولا شبهة دليل فإنه لم يلد ولم يولد قرأ الجمهور { ولد الله } فعلا ماضيا مسندا إلى الله قرئ بإضافة ولد إلى الله على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي يقولون الملائكة ولد الله والولد بمعنى مفعول يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث (4/588)
ثم كرر سبحانه تقريعهم وتوبيخهم فقال : 153 - { أصطفى البنات على البنين } قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري وقد حذف معها همزة الوصل استغناء به عنها وقرأ نافع في رواية عنه وأبو جعفر وشيبة والأعمش بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجا ويكون الاستفهام منويا قاله الفراء وحذف حرفه للعلم به من المقام أو على أن اصطفى وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول وعلى تقدير عدم الاستفهام والبدل فقد حكى جماعة من المحققين منهم الفراء أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما في قوله : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } وقيل هو على إضمار القول (4/588)
154 - { ما لكم كيف تحكمون } جملتان استفهاميتان ليس لأحدهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب : استفهمهم أولا عما استقر لهم وثبت استفهام بإنكار وثانيا استفهام تعجب من هذا الحكم الذي حكموا به والمعنى : أي شيء ثبت لكم كيف تحكون لله بالبنات وهم القسم الذي تكرهونه ولكم بالبنين وهم القسم الذي تحبونه (4/588)
155 - { أفلا تذكرون } أي تتذكرون فحذفت إحدى التاءين والمعنى : ألا تعتبرون وتتفكرون فتتذكرون بطلان قولكم (4/589)
156 - { أم لكم سلطان مبين } أي حجة واضحة ظاهرة على هذا الذي تقولونه وهو إضراب عن توبيخ إلى توبيخ وانتقال من تقريع إلى تقريع (4/589)
157 - { فاتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } أي فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا إن كنتم صادقين فيما تقولونه أو فأتوا بالكتاب الذي ينطق لكم بالحجة ويشتمل عليها (4/589)
158 - { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } قال أكثر المفسرين : إن المراد بالجنة هنا الملائكة قيل لهم جنة لأنهم لا يرون وقال مجاهد : هم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة وقال أبو مالك : إنما قيل لهم الجنة لأنهم خزان على الجنان والنسب الصهر قال قتادة والكلبي : قالوا لعنهم الله : إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من أولادهم قالا : والقائل بهذه المقالة اليهود وقال مجاهد والسدي ومقاتل : إن القائل بذلك كنانة وخزاعة قالوا : إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عباده الله فهو النسب الذي جعلوه ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله : { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } أي علموا أن هؤلاء الكفار الذي قالوا هذا القول يحضرون النار ويعذبون فيها وقيل علمت الجنة أنهم أنفسهم يحضرون للحساب والأول أولى لأن الإحضار إذا أطلق فالمراد بالعذاب : وقيل المعنى : ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون إلى الجنة (4/589)
ثم نزه سبحانه نفسه فقال : 159 - { سبحان الله عما يصفون } أو هو حكاية لتنزيه الملك لله عز و جل عما وصفه به المشركون (4/589)
والاستثناء في قوله : 160 - { إلا عباد الله المخلصين } منقطع والتقدير : لكن عباد الله المخلصين بريئون عن أن يصفوا الله بشيء من ذلك وقد قرئ بفتح اللام وكسرها ومعناهما ما بيناه قريبا وقيل هو استثناء من المحضرين : أي إنهم يحضرون النار إلا من أخلص فيكون متصلا لا منقطعا وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة (4/589)
ثم خاطب الكفار على العموم أو كفار مكة على الخصوص فقال : 161 - { فإنكم وما تعبدون } (4/589)
ثم خاطب الكفار على العموم أو كفار مكة على الخصوص فقال : 162 - { فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين } أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بفاتنين على الله بإفساد عباده وإضلالهم وعلى متعلقة بفاتنين والواو في وما تعبدون إما للعطف على اسم إن أو هو بمعنى مع وما موصولة أو مصدرية : أي فإنكم والذي تعبدون أو وعبادتكم ومعنى فاتنين مضلين يقال فتنت الرجل وأفتنته ويقال فتنه عن الشيء وبالشيء كما يقال أضله على الشيء وأضله به قال الفراء : أهل الحجاز يقولون فتنته وأهل نجد يقولون أفتنته ويقال فتن فلان على فلان امرأته : أي أفسدها عليه فالفتنة هنا بمعنى الإضلال والإفساد قال مقاتل : يقول ما أنتم بمضلين أحدا بآلهتكم إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم وما في وما أنتم نافية وأنتم خطاب لهم ولمن يعبدونه على التغليب قال الزجاج : أهل التفسير مجمعون فيما علمت أن المعنى : ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدر الله عز و جل عليه أن يضل ومنه قول الشاعر :
( فرد ... بفتنته كيده وكان لنا فاتنا )
أي مضلا (4/589)
163 - { إلا من هو صال الجحيم } قرأ الجمهور صال بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت الياء لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ من وأفرد كما أفرد هو وقرأ الحسن وابن أبي عبلة بضم اللام مع واو بعدها وروي عنهما أنهما قرآ بضم اللام بدون واو فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو حملا على معنى من وحذفت نون الجمع للإضافة وأما بدون الواو فيحتمل أن يكون جمعا وإنما حذفت الواو خطا كما حذفت لفظا ويحتمل أن يكون مفردا وحقه على هذا كسر اللام قال النحاس : وجماعة أهل التفسير يقولون : إنه لحن لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة والمعنى : أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله إلا من هو من أهل انار وهم المصرون على الكفر وإنما يصير على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة وإنه ممن يصلى النار : أي يدخلها ثم قال الملائكة مخبرين للنبي صلى الله عليه و سلم كما حكاه الله سبحانه عنهم (4/590)
164 - { وما منا إلا له مقام معلوم } وفي الكلام حذف والتقدير : وما منا أحد أو وما منا ملك إلا له مقام معلوم في عبادة الله وقيل التقدير : وما منا إلا من له مقام معلوم رجح البصريون التقدير الأول ورجح الكوفين الثاني قال الزجاج : هذا قول الملائكة وفيه مضمر المعنى وما منا مل إلا له مقام معلوم (4/590)
ثم قالوا : 165 - { وإنا لنحن الصافون } أي في مواقف الطاعة قال قتادة : هم الملائكة صفوا أقدامهم وقال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض (4/590)
166 - { وإنا لنحن المسبحون } أي المنزهون لله المقدسون له عما أضافه إليه المشركون وقيل المصلون وقيل المراد بقولهم المسبحون مجموع التسبيح باللسان وبالصلاة والمقصود أن هذه الصفات هي صفات الملائكة وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله (4/590)
167 - { وإن كانوا ليقولون } هذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين : أي كانوا قبل المبعث المحمدي إذا عيوا بالجهل قالوا (4/590)
168 - { لو أن عندنا ذكرا من الأولين } أي كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل (4/590)
169 - { لكنا عباد الله المخلصين } أي لأخلصنا العبادة له ولم نكفر به وإن في قوله : { وإن كانوا } هي المخففة من الثقيلة وفيها ضمير شأن محذوف واللام هي الفارقة بينها وبين النافية : أي وإن الشأن كان كفار العرب ليقولون إلخ (4/590)
والفاء في قوله : 170 - { فكفروا به } هي الفصيحة الدالة على محذوف مقدر في الكلام قال الفراء : تقديره فجاءهم محمد بالذكر فكفروا به وهذا على طريق التعجب منهم { فسوف يعلمون } أي عاقبة كفرهم ومغبته وفي هذا تهديد لهم شديد (4/590)
وجملة 171 - { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } مستأنفة مقررة للوعيد والمراد بالكلمة ما وعدهم الله به من النصر والظفر على الكفار قال مقاتل : عنى بالكلمة قوله سبحانه : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } وقال الفراء : سبقت كلمتنا بالسعادة لهم (4/591)
والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا فإنه قال : 172 - { إنهم لهم المنصورون } (4/591)
والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا فإنه قال : 173 - { إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } فهذه الكلمة المذكورة سابقا وهذا تفسير لها والمراد بجند الله حزبه وهم الرسل وأتباعهم قال الشيباني : جاء هنا على الجمع : يعني قوله : { لهم الغالبون } من أجل أنه رأس آية وهذا الوعد لهم بالنصر والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن وغلبة الكفار لهم فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء وغلبته لهم فخرج الكلام مخرج الغالب على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال وفي كل موطن كما قال سبحانه : { والعاقبة للمتقين } (4/591)
ثم أمر الله سبحانه رسوله بالإعراض عنهم والإغماض عما يصدر منهم من الجهالات والضلالات فقال : 174 - { فتول عنهم حتى حين } أي أعرض عنهم إلى مدة معلومة عند الله سبحانه وهي مدة الكف عن القتال قال السدي ومجاهد : حتى نأمرك بالقتال وقال قتادة : إلى الموت وقيل إلى يوم بدر وقيل إلى يوم فتح مكة وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف (4/591)
175 - { وأبصرهم فسوف يبصرون } أي وأبصرهم إذا نزل بهم العذاب بالقتل والأسر فسوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار وعبر بالإبصار عن قرب الأمر : أي فسوف يبصرون عن قريب وقيل المعنى : فسوف يبصرون العذاب يوم القيامة (4/591)
ثم هددهم بقوله سبحانه : 176 - { أفبعذابنا يستعجلون } كانوا يقولون من فرط تكذيبهم : متى هذا العذاب ؟ (4/591)
177 - { فإذا نزل بساحتهم } أي إذا نزل عذاب الله لهم بفنائهم والساحة في اللغة : فناء الداء الواسع قال الفراء : نزل بساحتهم ونزل بهم سواء قال الزجاج : وكان عذاب هؤلاء بالقتل قيل المراد به نزول رسول الله صلى الله عليه و سلم بساحتهم يوم فتح مكة قرأ الجمهور نزل مبنيا للفاعل وقرأ عبد الله بن مسعود على البناء للمفعول والجار والمجرور قائم مقام الفاعل { فساء صباح المنذرين } أي بئس صباحهم وخص الصباح بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه (4/591)
ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيدا للوعد بالعذاب فقال : 178 - { وتول عنهم حتى حين } (4/591)
ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيدا للوعد بالعذاب فقال : 179 - { وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون } وحذف مفعول أبصر ها هنا وذكره أولا إما لدلالة الأول عليه فتركه هنا اختصارا أو قصدا إلى التعميم للإيذان بأن ما يبصره من أنواع عذابهم لا يحيط به الوصف وقيل هذه الجملة المراد بها أحوال القيامة والجملة الأولى المراد بها عذابهم في الدنيا وعلى هذا فلان يكون من باب التأكيد بل من باب التأسيس (4/591)
ثم نزه سبحانه نفسه عن قبيح ما يصدر منهم فقال : 180 - { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } العزة الغلبة والقوة والمراد تنزيهه عن كل ما يصفونه به مما لا يليق بجنابه الشريف ورب العزة بدل من ربك (4/592)
ثم ذكر ما يدل على تشريف رسله وتكريمهم فقال : 181 - { وسلام على المرسلين } أي الذين أرسلهم إلى عباده وبلغوا رسالاته وهو من السلام الذي هو التحية وقيل معناه : أمن لهم وسلامه من المكاره (4/592)
182 - { والحمد لله رب العالمين } إرشاد لعباده إلى حمده على إرسال رسله إليهم مبشرين ومنذرين وتعليم لهم كيف يصنعون عند إنعامه عليهم وما يثنون عليه به وقيل إنه الحمد على هلاك المشركين ونصر الرسل عليهم والأولى أنه حمد لله سبحانه على كل ما أنعم به على خلقه أجمعين كما يفيده حذف المحمود عليه فإن حذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني والحمد هو الثناء الجميل بقصد التعظيم
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } بقال : زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { فإنكم وما تعبدون } قال : فإنكم يا معشر المشركين وما تعبدون : يعني الآلهة { ما أنتم عليه بفاتنين } قال : بمضلين { إلا من هو صال الجحيم } يقول : إلا من سبق في علمي أنه سيصلى الجحيم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية يقول : إنكم لا تضلون أنتم ولا أيضا في الآية قال : لا تفتنون إلا من هو صال الجحيم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه أيضا في قوله : { وما منا إلا له مقام معلوم } قال الملائكة : { وإنا لنحن الصافون } قال الملائكة : { وإنا لنحن المسبحون } قال : الملائكة وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة { وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون } ] وأخرج محمد بن نصر وابن عساكر عن العلاء بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوما لأصحابه [ أطت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد ثم قرأ { وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون } ] وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : [ إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائما أو ساجدا ثم قرأ { وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون } ] وأخرج الترمذي وحسنه ابن جرير وابن مردويه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله ] وقد ثبت في الصحيح وغيره [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الصحابة أن يصفوا كما تصف الملائكة عند ربهم فقالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم قال : يقيمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف ] وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لو أن عندنا ذكرا من الأولين } قال : لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأولين وعلم الآخرين كفروا بالكتاب { فسوف يعلمون } وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال [ صبح رسول الله
صلى الله عليه و سلم خيبر وقد خرجوا بالمساحي فلما نظروا إليه قالوا : محمد والخميس فقال : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ] الحديث وأخرج ابن سعد وابن مردويه من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا سلمتم على المرسلين فسلموا علي فإنما أنا بشر من المرسلين ] وأخرج ابن مردويه من طريق أبي العوام عن قتادة عن أنس مرفوعا نحوه بأطول منه وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن مردويه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا أراد أن يسلم من صلاته قال : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : كنا نعرف انصراف رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصلاة بقوله : { سبحان ربك } إلى أخر الآية وأخرج الخطيب نحوه من حديث أبي سعيد وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من قال دبر كل صلاة : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر ] وأخرج حميد بن زنجويه في ترغيبه من طريق الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب نحوه
وإلى هنا انتهى الجزء الثالث من هذا التفسير المبارك بمعونة الله المقبول بفضل الله بقلم مصنفه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار الخميس الحادي والعشرين من شهر محرم الحرام من شهور سنة تسعو عشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية حامدا لله شاكرا له مصليا مسلما على رسوله وآله ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة ص
انتهى سماع هذا الجزء على مؤله حفظه الله في يوم الاثنين غرة شهر جمادي الآخرة سنة 1239هـ
كتبه
يحيى بن علي الشوكاني
غفر الله لهما (4/592)
سورة ص
آياتها ست وثمانون وقيل خمس وثمانون وقيل ثمان وثمانون آية
وهي مكية : قال القرطبي : في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة ص بمكة وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : [ لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقال : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقى عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى الله عليه و سلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب : أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول قال : وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم : كلمة واحدة نعم وأبيك عشرا قالوا فما هي ؟ قال :
لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } فنزل فيهم { ص والقرآن ذي الذكر } إلى قوله : { بل لما يذوقوا عذاب } ]
قوله : 1 - { ص } قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور فإنها ساكنة الأواخر على الوقف وقرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن أبي عبلة وأبو السماك بكسر الدال من غير تنوين ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين وقيل وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض - والمعنى صاد القرآن بعملك : أي عارضة بعملك وقابله فاعمل به وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري وقال : إنه فسر قراءته هذه بهذا وعنه أن المعنى : اتله وتعرض لقراءته وقرأ عيسى بن عمر : الصاد بفتح الدال والفتح لالتقاء الساكنين وقيل نصب على الإغراء وقيل معناه : صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو وروي عن ابن أبي إسحاق أيضا أنه قرأ صاد بالكسر والتنوين تشبيها لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات وقرأ هارون الأعور وابن السميفع صاد بالصم من غير تنوين على البناء نحو منذ وحيث
وقد اختلف في معنى صاد فقال الضحاك : معناه صدق الله وقال عطاء : صدق محمد وقال سعيد بن جبير : هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين وقال محمد بن كعب : هو مفتاح اسم الله وقال قتادة : هو اسم من أسماء الله وروي عنه أنه قال : هو اسم من أسماء الرحمن وقال مجاهد : هو فاتحة السورة وقيل هو مما استأثر الله بعلمه وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة قيل وهو إما اسم للحروف مسرودا على نمط التعبد أو اسم للسورة أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب بإضمار اذكر أو اقرأ والواو في قوله : { والقرآن ذي الذكر } هي واو القسم والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره وعلو محله ومعنى { ذي الذكر } أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شيء قال مقاتل : معنى { ذي الذكر } ذي البيان وقال الضحاك : ذي الشرف كما في قوله : { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم } أي شرفكم وقيل : أي ذي الموعظة
واختلف في جواب هذا القسم ما هو ؟ فقال الزجاج والكسائي والكوفيون غير الفراء : إنه قوله : { إن ذلك لحق } وقال الفراء : لا نجده مستقيما لتأخره جدا عن قوله : { والقرآن } ورجح هو وثعلب أن الجواب قوله : { كم أهلكنا } وقال الأخفش : الجواب هو { إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب } وقيل هو صاد لأن معناه حق فهو جواب لقوله والقرآن كما تقول حقا والله وجب والله ذكره ابن الأنباري ن وروي أيضا عن ثعلب والفراء وهو مبني على أن جواب القسم يجوز تقدمه وهو ضعيف وقيل الجواب محذوف والتقدير : والقرآن ذي الذكر لتبعثن ونحو ذلك وقال ابن عطية تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار والقول بالحذف أولى وقيل إن قوله ص مقسم به وعلى هذا القول تكون الواو في والقرآن للعطف عليه ولما كان الإقسام بالقرآن دالا على صدقه وأنه حق وأنه ليس بمحل للريب (4/595)
قال سبحانه : 2 - { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } فأضرب عن ذلك وكأنه قال لا ريب فيه قطعا ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه بل هم في عزة عن قبول الحق : أي تكبر وتجبر وشقاق : أي وامتناع عن قبول الحق والعزة عند العرب : الغلبة والقهر يقال : من عز بز أي من غلب سلب ومنه و { عزني في الخطاب } أي غلبني ومنه قول الشاعر :
( يعز على الطريق بمنكبيه ... كما انترك الخليع على القداح )
والشقاق : مأخوذ من الشق وقد تقدم بيانه (4/596)
ثم خوفهم سبحانه وهددهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار فقال 3 - { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } يعني الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل : أي كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين كانوا أمنع من هؤلاء وأشد قوة وأكثر أموالا وكم هي الخبرية الدالة على التكثير وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به و من قرن تمييز و من في من قبلهم هي لابتداء الغاية { فنادوا ولات حين مناص } النداء هنا : هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم وليس الحين حين مناص قال الحسن : نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل والمناص مصدر ناص ينوص وهو الفوت والتأخر ولات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن وقال النحويون : هي لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم : رب وربت وثم وثمت قال الفراء : النوص التأخر وأنشد قول امرئ القيس :
( أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص )
قال : يقال يناص عن قرنه ينوص نوصا : أي فر وزاغ قال الفراء : ويقال ناص ينوص : إذا تقدم وقيل المعنى : أنه قال بعضهم لبعض مناص : أي عليكم بالفرار والهزيمة فلما أتاهم العذاب قالوا مناص فقال الله : { ولات حين مناص } قال سيبويه : لات مشبهة بليس والاسم فيها مضمر : أي ليس حيننا حين مناص قال الزجاج : التقدير وليس أواننا قال ابن كيسان : والقول كما قال سيبويه والوقف عليها عند الكسائي بالهاء وبه قال المبرد والأخفش قال الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش : والتاء تكتب منقطعة عن حين وكذلك هي في المصاحف وقال أبو عبيد : تكتب متصلة بحين فيقال ولا تحين ومنه قول أبي وجرة السعدي :
( العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم )
وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر :
( تذكر حب ليلى لات حينا ... وأمسى الشيب قد قطع القرينا )
قال أبو عبيد : لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن قلت : بل قد يزيدونها في غير ذلك كما في قول الشاعر :
( فلتعرفن خلائقا مشمولة ... ولتندمن ولات ساعة مندم )
وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلا به على أن من العرب من يخفض بها وجملة { ولات حين مناص } في محل نصب على الحال من ضمير نادوا قرأ الجمهور لات بفتح التاء وقرئ لات بالكسر كجير (4/597)
4 - { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } أي عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزة وشقاق أن جاءهم منذر منهم : أي رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمروا على الكفر وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي من أن جاءهم وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم { وقال الكافرون هذا ساحر كذاب } قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر : أي هذا المدعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات كذاب فيما يدعيه من أن الله أرسله قيل ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالواه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر (4/598)
ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه و سلم من التوحيد وما نفاه من الشركاء لله فقالوا : 5 - { أجعل الآلهة إلها واحدا } أي صيرها إلها واحدا وقصرها على الله سبحانه { إن هذا لشيء عجاب } أي لأمر بالغ العجاب بالضم والعجاب بالتشديد أكثر منه قرأ الجمهور عجاب مخففا وقرأ علي والسلمي وعيسى بن عمر وابن مقسم بتشديد الجيم قال مقاتل : عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة قيل والعجاب بالتخفيف والتشديد يدلان على أنه قد تجاوز الحد في العجب كما يقال الطويل الذي فيه طول والطوال الذي قد تجاوز حد الطول وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدد الجيم لا بالمخفف وقد قدمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات (4/598)
6 - { وانطلق الملأ منهم } المراد بالملأ : الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز أي انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين { أن امشوا } أي قائلين لبعضهم بعضا امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه { واصبروا على آلهتكم } أي اثبتوا على عبادتها وقيل المعنى : وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام امشوا واصبروا على آلهتكم و أن في قوله : { أن امشوا } هي المفسرة للقول المقدر أو لقوله وانطلق لأنه مضمن معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر أو للمذكور : أي بأن امشوا وقيل المراد بالانطلاق : الاندفاع في القول وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها : أي اجتمعوا وأكثروا وهو بعيد جدا وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما وخلاف ما تقدم في سبب النزول وجملة { إن هذا لشيء يراد } تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر : أي يريده محمد بنا وبآلهتنا ويود تمامه ليعلو علينا وتكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد فيكون هذا الكلام خارجا مخرج التحذير منه والتنفير عنه وقيل المعنى : إن هذا الأمر يريده الله سبحانه وما أراده فهو كائن لا محالة فاصبروا على عبادة آلهتكم وقيل المعنى : إن دينكم لشيء يراد : أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه والأول أولى (4/598)
7 - { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } أي ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي وقال مجاهد : يعنون ملة قريش وروي مثله عن قتادة أيضا وقال الحسن : المعنى ما سمعنا : أن هذا يكون آخر الزمان وقيل المعنى : ما سمعنا من اليهود والنصارى أن محمد رسول { إن هذا إلا اختلاق } أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه (4/598)
ثم استنكروا أن يخص الله ورسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا : 8 - { أأنزل عليه الذكر من بيننا } والاستفهام للإنكار : أي كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والأشراف قال الزجاج : قالوا كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ونحن أكبر سنا وأعظم شرفا منه وهذا مثل قولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم دونهم بين السبب الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما جاء به فقال : { بل هم في شك من ذكري } أي من القرآن أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله { بل لما يذوقوا عذاب } أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن ولم يشكوا فيه (4/599)
9 - { أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب } أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا فما لهم ولإنكار ما تفضر الله به على هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته والمعنى : بل أعندهم لأن أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة والعزيز الغالب القاهر والوهاب : المعطي بغير حساب (4/599)
10 - { أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } أي بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء وقوله : { فليرتقوا في الأسباب } جواب شرط محذوف : أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء وإلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون أو فليصعدوا وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه و سلم والأسباب : أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها قاله مجاهد وقتادة ومنه قول زهير :
( ولو رام أسبابا السماء بسلم )
قال الربيع بن أنس : الأسباب أدق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى وقال السدي { في الأسباب } في الفضل والدين وقيل فليعملوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة وهو قول أبي عبيدة وقيل الأسباب الحبال : يعني إن وجدوا حبالا يصعدون فيها إلى السماء فعلوا والأسباب عند أهل اللغة كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائنا ما كان وفي هذا الكلام تهكم بهم وتعجيز لهم (4/599)
11 - { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه و سلم بالنصر عليهم والظفر بهم وجند مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم جند يعني الكفار مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بهم ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك من الكيد و ما في قوله : ما هنالك هي صفة لجند لإفادة التعظيم والتحقير : أي جند أي جند وقيل هي زائدة يقال هزمت الجيش كسرته وتهزمت القرية : إذا تكسرت وهذا الكلام متصل بما تقدم وهو قوله : { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } وهم جند من الأحزاب مهزومون فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم فإن أسلب عزهم وأهزم جمعهم وقد وقع ذلك ولله الحمد في بدر وفيما بعده من مواطن الله
وقد أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن { ص } فقال : لا ندري ما هو وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : ص محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير عنه { والقرآن ذي الذكر } قال : ذي الشرف وأخرج أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن التميمي قال : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : { فنادوا ولات حين مناص } قال : ليس بحين نزو ولا فرار وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه في الآية قال : نادوا النداء حين ينفعهم وأنشد :
( تذكرت ليلى لات حين تذكر ... وقد بنت منها والمناص بعيد )
وأخرج عنه أيضا في الآية قال : ليس هذا حين زوال وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عنه أيضا قال : لا حين فرار وأخرج بن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وانطلق الملأ منهم } الآية قال : نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن مردويه عنه { وانطلق الملأ منهم } قال : أبو جهل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } قال : النصرانية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { فليرتقوا في الأسباب } قال : في السماء (4/600)
لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر أمثالهم ممن تقدمهم وعمل عملهم من الكفر والتكذيب فقال : 12 - { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } قال المفسرون : كانت له أوتاد يعذب بها الناس وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض وقيل المراد بالأوتاد : الجموع والجنود الكثيرة يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون سلطانه كما تقوي الأوتاد ما ضربت عليه فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا قال ابن قتيبة : العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد وملك ثابت الأوتاد يريدون ملكا دائما شديدا وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد وقيل المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم : أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة قال الضحاك : والبنيان يسمى أوتادا والأوتاد جمع وتد أفصحها فتح الواو وكسر التاء ويقال وتد بفتحها وود بإدغام التاء في الدال وودت قال الأصمعي ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل وأنشد :
( لاقت على الما جديلا واتدا ... ولم يكن يخلفها المواعدا ) (4/601)
13 - { وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة } الأيكة الغيضة وقد تقدم تفسيرها واختلاف القراء في قراءتها في سورة الشعراء ومعنى { أولئك الأحزاب } أنهم الموصوفون بالقوة والكثرة كقولهم : فلان هو الرجل وقريش وإن كانوا حزبا كما قال الله سبحانه فيما تقدم { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عددا وأقوى أبدانا وأوسع أموالا وأعمارا وهذه الجملة يجوز أن تكون خبرا والمبتدأ قوله وعاد كذا قال أبو البقاء وهو ضعيف بل الظاهر أن عاد وما بعده معطوفات على قوم نوح والأولى أن تكون هذه الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أو بدلا من الأمم المذكورة (4/602)
14 - { إن كل إلا كذب الرسل } إن هي النافية والمعنى : ما كل حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل أو هو من مقابلة الجمع بالجمع والمراد تكذيب كل حزب لرسوله والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال : أي كل أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل { فحق عقاب } أي فحق عليهم عقابي بتكذيبهم ومعنى حق : ثبت ووجب وإن تأخر فكأنه واقع بهم وكل ما هو آت قريب قرأ يعقوب بإثبات الياء في عقاب وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي (4/602)
15 - { وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة } أي ما ينتظرون إلا صيحة وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة وقيل هي النفخة الثانية وعلى الأول المراد من عاصر نبينا صلى الله عليه و سلم من الكفار وعلى الثاني المراد كفار الأمم المذكورة : أي ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية وقيل المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر :
( صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان )
وجملة { ما لها من فواق } في محل نصب صفة لصيحة قال الزجاج : فواق وفواق بفتح الفاء وضمها أي ما لها من رجوع والفواق ما بين حلبتي الناقة وهو مشتق من الرجوع أيضا لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين وأفاق من مرضه : أي رجع إلى الصحة ولهذا قال مجاهد ومقاتل : إن الفواق الرجوع وقال قتادة ما لها من مثنوية وقال السدي : ما لها من إفاقة وقيل ما لها من مرد قال الجوهري : ما لها من نظرة وراحة وإفاقة ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم فإذا جاءت لم ترجع ولا ترد عنهم ولا تصرف منهم ولا تتوقف مقدار فواق ناقة وهي ما بين حلبتي الحالب لها ومنه قول الأعشى :
( حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شق النفس لو رضعا )
والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين وجمعها فيق وأفواق قرأ حمزة والكسائي { ما لها من فواق } بضم الفاء وقرأ الباقون بفتحها قال الفراء وأبو عبيدة : الفواق بفتح الفاء الراحة : أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشي عليه وبالضم الانتظار (4/602)
16 - { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا هذه المقالة استهزاءا وسخرية والقط في اللغة النصيب من القط وهو القطع وبهذا قال قتادة وسعيد بن جبير قال الفراء : القط في كلام العرب الحظ والنصيب ومنه قيل للصك قط قال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتاب بالجوائز والجمع القطوط ومنه قول الأعشى :
( ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق )
ومعنى يأفق يصلح ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب وهو مثل قوله { ويستعجلونك بالعذاب } وقيل السدي : سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به وقال إسماعيل بن أبي خالد : المعنى عجل لنا أرزاقنا وبه قال سعيد بن حبير والسدي وقال أبو العالية والكلبي ومقاتل : لما نزل { فأما من أوتي كتابه بيمينه } { وأما من أوتي كتابه بشماله } قالت قريش : زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (4/603)
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال 17 - { اصبر على ما يقولون } من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها وهذه الآية منسوخة بآية السيف { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } لما فرغ من ذكر قرون الضلالة وأمم الكفر والتكذيب وأمر نبيه صلى الله عليه و سلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته بذكر قصة داود وما بعدها ومعنى { اذكر عبدنا داود } اذكر قصته فإنك تجد فيها ما تتسلى به والأيد : القوة ومنه رجل أيد : أي قوي وتأيد الشيء : تقوى والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوة على العباد قال الزجاج : وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة ومن قوته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه و سلم أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان يصلي نصف الليل وكان لا يفر إذا لاقى العدو وجملة { إنه أواب } تعليل لكونه ذا الأيد والأواب : الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه ولا يستطيع ذلك إلا من كان قويا في دينه وقيل : معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب عنه وهذا داخل تحت المعنى الأول يقال آب يؤوب : إذا رجع (4/603)
18 - { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } أي يقدسن الله سبحانه وينزهنه عما لا يليق به وجملة يسبحن في محل نصب على الحال وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه قال مقاتل : كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه وكان يفقه تسبيح الجبال وقال محمد بن إسحاق : أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن فهذا معنى تسبيح الجبال والأول أولى وقيل معنى يسبحن يصلين و معه متعلق بسخرنا ومعنى بالعشي والإشراق قال الكلبي : غدوة وعشية يقال أشرقت الشمس : إذا أضاءت وذكل وقت الضحى وأما شروقها فطلوعها قال الزجاج : شرقت الشمس : إذا طلعت وأشرقت : إذا أضاءت (4/604)
19 - { والطير محشورة } معطوف على الجبال وانتصاب محشورة على الحال من الطير : أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة : أي مجموعة إليه تسبح الله معه قيل كانت تجمعها إليه الملائكة وقيل كانت تجمعها الريح { كل له أواب } أي كل واحد من داود والجبال والطير رجاع إلى طاعة الله وأمره والضمير في له راجع إلى الله عز و جل وقيل الضمير لداود : أي لأجل تسبيح داود مسبح فوضع أواب موضع مسبح والأول أولى وقد قدمنا أن الأواب : الكثير الرجوع إلى الله سبحانه (4/604)
20 - { وشددنا ملكه } قويناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم وقيل بكثرة الجنود { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } المراد بالحكمة النبوة والمعرفة بكل ما يحكم به وقال مقاتل : الفهم والعلم وقال مجاهد : العدل وقال أبو العالية : العلم بكتاب الله وقال شريح : السنة والمراد بالفصل الخطاب الفصل في القضاء وبه قال الحسن والكلبي ومقاتل وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود والإيمان لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذا وقيل هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل (4/604)
21 - { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة لما فيها من الأخبار العجيبة قال مقاتل : بعث الله إلى داود ملكين جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة فأتياه وهو في محرابه قال النحاس : ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان والخصم مصدر يقع على الواحد والاثنين والجماعة ومعنى { تسوروا المحراب } أتوه من أعلى سوره ونزلوا إليه والسور : الحائط المرتفع وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهم إثنين نظرا إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع ومنه قول الشاعر :
( وخصم غضاب قد نفضت لحاهم ... كنفض البراذين العراب المخاليا )
والمحراب : الغرفة لأنهم تسوروا عليه وهو فيها كذا قال يحيى بن سلام وقال أبو عبيدة : إنه صدر المجلس ومنه محراب المسجد وقيل إنهما كانا إنسيين ولم يكونا ملكين (4/604)
والعامل في إذ في قوله : 22 - { إذ دخلوا على داود } النبأ : أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم وبهذا قال ابن عطية ومكي وأبو البقاء وقيل العامل فيه أتاك وقيل معمول للخصم وقيل معمول لمحذوف : أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم وقيل هو معمول لتسوروا وقيل هو بدل مما قبله وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما { ففزع منهم } وذكل لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم ودخلوا عليه بغير إذنه ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس قال ابن الأعرابي : وكان محراب داود من المتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة وجملة { قالوا لا تخف } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالوا لداود لما فزع منهم وارتفاع { خصمان } على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي نحن خصمان وجاء فيما سبق بلفظ الجمع وهنا بلفظ التثنية لما ذكر من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد والمثنى والمجموع فالكل جائز قال الخليل : هو كما تقول نحن فعلنا كذا : إذا كنتما إثنين وقال الكسائي : جمع لما كان خبرا فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة أخبر الإثنان عن أنفسهما فقالا خصمان وقوله : { بغى بعضنا على بعض } هو على سبيل الفرض والتقدير وعلى سبيل التعريض لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق ونهياه عن الجور فقالا : { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } أي لا تجر في حكمك يقال شط الرجل وأشط شططا وإشطاطا : إذا جار في حكمه قال أبو عبيد : شططت لعيه وأشططت : أي جرت وقال الأخفش : معناه لا تسرف وقيل لا تفرط وقيل لا تمل والمعنى متقارب والأصل فيه البعد من شطت الدار : إذا بعدت قال أبو عمرو : الشطط مجاوزة القدر في كل شيء { واهدنا إلى سواء الصراط } سواء الصراط : وسطه والمعنى : أرشدنا إلى الحق واحملنا عليه (4/605)
23 - { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة } المراد بالأخوة هنا : أخوة الدين أو الصحبة والنعجة هي الأنثى من الضأن وقد يقال لبقر الوحش نعجة { ولي نعجة واحدة } قال الواحدي : النعجة البقرة الوحشية والعرب تكني عن المرأة بها وتشبه النساء بالنعاج من البقر قرأ الجمهور { تسع وتسعون } بكسر التاء الفوقية وقرأ الحسن وزيد بن علي بفتحها قال النحاس : وهي لغة شاذة وإنما عني بـ هذا داود لأنه كان له تسع وتسعون امرأة وعني بقوله ولي نعجة واحدة أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود كما سيأتي بيان ذلك { فقال أكفلنيها } أي ضمها إلي وانزل لي عنها حتى أكفلها وأصير بعلا لها قال ابن كيسان : اجعلها كفلي ونصيبي { وعزني في الخطاب } أي غلبني يقال عزه يعزه عزا : إذا غلبه وفي المثل من عز بز أي من غلب سلب والاسم العزة : وهي القوة قال عطاء : المعنى إن تكلم كان أفصح مني وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وعازني في الخطاب أي غالبني من المعازة وهي المغالبة (4/605)
24 - { قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول واللام هي الموطئة للقسم وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما يسمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر قال النحاس ويقال إن خطيئة داود هي قوله : { لقد ظلمك } لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت { وإن كثيرا من الخلطاء } وهم الشركاء واحدهم خليط : وهو المخالط في المال { ليبغي بعضهم على بعض } أي يتعدى بعضهم على بعض ويظلمه غير مراع لحقه { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم يتحامون ذلك ولا يظلمون خليطا ولا غيره { وقليل ما هم } أي وقليل هم وما زائدة للتوكيد والتعجيب وقيل هي موصولة وهم مبتدأ وقليل خبره { وظن داود أنما فتناه } قال أبو عمرو والفراء : ظن يعني أيقن ومعنى فتناه ابتليناه والمعنىأنه عند أن تخاصما إليه وقال ما قال علم عند ذلك أن المراد وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته قال الواحدي : قال المفسرون : فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فعند ذلك علم داود بما أراده قرأ الجمهور : { فتناه } بالتخفيف للتاء وتشديد النون وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء بالتشديد للتاء والنون وهي مبالغة في الفتنة وقرأ الضحاك افتناه وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميفع { فتناه } بتخفيفهما وإسناد الفعل إلى الملكين ورويت هذه القراءة عن السجود قال ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود فإن السجود هو الميل والركوع هو الانحناء وأحدهما يدخل في الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة ثم جاء في هذا على تسمية أحدهما بالآخر وقيل المعنى للسجود راكعا : أي مصليا وقيل بل كان ركوعهم سجودا وقيل بل كان سجودهم ركوعا { وأناب } أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه
وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه على أقوال : الأول أنه نظر إلى امرأة الرجل التي أراد أن تكون زوجة له كذا قال سعيد بن جبير وغيره قال الزجاج : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها وصارت الأولى له والثانية عليه القول الثاني أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة الثالث أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته فاغتم لذلك أوريا فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة السادس أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا
وأقول الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضا لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء فقد نبه الله على ذلك وعرض له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه فاستغفر وتاب وقد قال سبحانه : { وعصى آدم ربه فغوى } وهو أبو البشر وأول الأنبياء ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه (4/606)
ثم أخبر سبحانه أنه قبل استغفاره وتوبته قال : 25 - { فغفرنا له ذلك } أي ذلك الذنب الذي استغفر منه قال عطاء الخراساني وغيره : إن داود بقي ساجدا أربعين يوما حتى نبت الرعي حول وجهه وغمر رأسه قال ابن الأنباري : الوقف على قوله : { فغفرنا له ذلك } تام ثم يبتدئ الكلام بقوله : { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } الزلفى : القربة والكرامة بعد المغفرة لذنبه قال مجاهد : الزلفى الدنو من الله عز و جل يوم القيامة والمراد بحسن المآب : حسن المرجع وهو الجنة
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ما لها من فواق } قال : من رجعة { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا } قال : سألوا الله أن يعجل لهم وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن عدي عنه { عجل لنا قطنا } قال : نصيبنا من الجنة وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : { ذا الأيد } قال : القوة وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الأواب المسبح وأخرج الديلمي عن مجاهد قال : سألت ابن عمر عن الأواب [ فقال سألت النبي صلى الله عليه و سلم عنه فقال : هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله ] وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : الأواب الموقن وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني عنه قال : لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا قال : لقد أتى علي زمان وما أدري وجه هذه الآية { يسبحن بالعشي والإشراق } حتى رأيت الناس يصلون الضحى وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه قال : كنت أمر بهذه الآية { يسبحن بالعشي والإشراق } فما أدري ما هي ؟ حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها يوم الفتح فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى ثم قال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق وأخرج ابن جرير وابن مردويه من وجه آخر عنه نحوه والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جدا قد ذكرناها في شرحنا للمنتقى وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم فقال : إن هذا غصبني بقرا لي فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما فقاما من عنده فأتي داود في منامه فقيل له : اقتل الرجل الذي استعدى فقال : إن هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت فأتي الليلة الثانية في منامه فأمر أن يقتل الرجل فلم يفعل ثم أتي الليلة الثالثة فقيل له : اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله فأرسل داود إلى الرجل فقال : إن الله أمرني أن أقتلك قال : تقتلني بغير بينة ولا تثبت ؟ قال نعم والله لأنفذن أمر الله فيك فقال الرجل : لا تعجل لعلي حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وشدد به ملكه فهو قول الله { وشددنا ملكه } وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه { وآتيناه الحكمة } قال : أعطي الفهم وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن أبي موسى الأشعري قال : أول من قال أما بعد داود عليه السلام { و } هو { فصل الخطاب } وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول : فصل الخطاب الذي أوتي داود أما بعد وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن داود حدث نفسه إذا ابتلي أنه يعتصم فقيل له : إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك فقيل له اليوم الذي تبتلى فيه فأخذ الزبور ودخل المحراب وأغلق باب المحراب وأخذ الزبور في حجره وأقعد منصفا : يعني خادما على الباب وقال : لا تأذن لأحد علي اليوم فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون الطير فيه من كل لون فجعل يدور بين يديه فدنا منه فأمكن أن يأخذه فتناوله بيده ليأخذه فاستوفز من خلفه فأطبق الزبور وقام إليه ليأخذه فطار فوقع على كوة المحراب فدنا منه ليأخذه فأفضى فوقع على خص فأشرف عليه لينظر أين وقع ؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغسل من الحيض فلما رأت ظله حركت رأسها فغطت جسدها أجمع بشعرها وكان زوجها غازيا في سبيل الله فكتب داود إلى
رأس الغزاة : انظر أوريا فاجعله في حملة التابوت وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم وأما أن يقتلوا فقدمه في حملة التابوت فقتل فلما انقضت عدتها خطبها داود فاشترط عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة من بعده وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل وكتب عليه بذلك كتابا فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان وشب فتسور عليه الملكان المحراب وكان شأنهما ما قص الله في كتابه وخر داود ساجدا فغفر الله له وتاب عليه وأخرج الحاكم وصححه والبيقي في الشعب قال : ما أصاب داود بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عجب عجب بنفسه وذلك أنه قال : يا رب ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك أو يسبح أو يكبر وذكر أشياء فكره الله ذلك فقال : يا داود إن ذلك لم يكن إلابي فلولا عوني ما قويت عليه وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوما قال : يا رب فأخبرني به فأخبر به فأصابته الفتنة ذلك اليوم وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس مرفوعا بإسناد ضعيف وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطولة وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { إن هذا أخي } قال : على ديني وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير والطبراني عنه قال : ما زاد داود على أن قال { أكفلنيها } وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أكفلنيها } قال ما زاد داود على أن قال : تحول لي عنها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وقليل ما هم } يقول : قليل الذي هم فيه وفي قوله : { وظن داود أنما فتناه } قال : اختبرناه وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضا أنه قال في السجود في ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسجد فيها وأخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم سجد في ص وقال : سجدها داود ونسجدها شكرا وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم سجد في ص وأخرج ابن مردويه عن أنس مثله مرفوعا وأخرج الدارمي وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال : [ قرأ رسول الله
صلى الله عليه و سلم وهو على المنبر { ص } فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود فقال : إنما هي توبة ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود فنزل فسجد ] وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه ذكر يوم القيامة فعظم شأنه وشدته قال : ويقول الرحمن عز و جل لداود عليه السلام : مر بين يدي فيقول داود : يا رب أن تدخضني خطيئتي فيقول : خذ بقدمي فيأخذ بقدمه عز و جل فيمر قال : فتلك الزلفى التي قال الله { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } (4/607)
لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا : أي وقفنا له 26 - { يا داود إنا } استخلفناك على الأرض أو { جعلناك خليفة } لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر { فاحكم بين الناس بالحق } أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده { ولا تتبع الهوى } أي هوى النفس في الحكم بين العباد وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس { فيضلك عن سبيل الله } بالنصب على أنه جواب للنهي وفاعل يضلك هو الهوى ويجوز أن يكون الفعل مجزوما بالعطف على النهي وإنما حرك لالتقاء الساكنين فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة وسبيل الله : هو طريق الحق أو طريق الجنة وجملة { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد } تعليل للنهي عن اتباع الهوى والوقوع في الضلال والباء في { بما نسوا يوم الحساب } للسببية ومعنى النسيان الترك : أي بسبب تركهم العمل لذلك اليوم : قال الزجاج : أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين وإن كانوا ينذرون ويذكرون وقال عكرمة والسدي : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا : أي تركوا القضاء بالعدل والأول أولى (4/610)
وجملة 27 - { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } مستأنفة مقررة لما قبلها من أمر البعث والحساب : أي ما خلقنا هذه الأشياء خلقا باطلا خارجا عن الحكمة الباهرة بل خلقناها للدلالة على قدرتنا فانتصاب باطلا على المصدرية أو على الحالية أو على أنه مفعول لأجله والإشارة بقوله : { ذلك } إلى المنفي قبله وهو مبتدأ وخبره { ظن الذين كفروا } أي مظنونهم فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض ويقولون إنه لا قيامة ولا بعث ولا حساب وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلا { فويل للذين كفروا من النار } والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل : أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم (4/611)
ثم وبخهم وبكتهم فقال : 28 - { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض } قال مقاتل : قال كفار قريش للمؤمنين : إنا نعطى في الآخرة كما تعطون فنزلت وأم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة : أي نجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا بفرائضه كالمفسدين في الأرض بالمعاصي ثم أضرب سبحانه إضرابا آخر وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه فقال : { أم نجعل المتقين كالفجار } أي بل نجعل أتقياء المؤمنين كأشقاء الكافرين والمنافقين والمنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين وقيل إن الفجار هنا خاص بالكافرين وقيل المراد بالمتقين الصحابة ولا وجه للتخصيص بغير مخصص والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (4/611)
29 - { كتاب أنزلناه إليك مبارك } ارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف وأنزلناه إليك صفة له ومبارك خبر ثان للمبتدأ ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب لما تقرر من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح وقد جوزه بعض النحاة والتقدير : القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخير والبركة وقرئ مباركا على الحال وقوله : { ليدبروا } أصله ليتدبر فأدغمت التاء في الدار وهو متعلق بأنزلناه وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه لا لمجرد التلاوة بدون تدبر قرأ الجمهور ليدبروا بالإدغام وقرأ أبو جعفر وشيبة لتدبروا بالتاء الفوقية على الخطاب ورويت هذه القراءة عن عاصم والكسائي وهي قراءة علي رضي الله عنه واوصل لتتدبروا بتاءين فحذف إحداهما تخفيفا { وليتذكر أولو الألباب } أي ليتعظ أهل العقول والألباب جمع لب : وهو العقل (4/611)
30 - { ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب } أخبر سبحانه بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولدا ثم مدح سليمان فقال : { نعم العبد } والمخصوص بالمدح محذوف : أي نعم العبد سليمان وقيل إن المدح هنا بقوله : نعم العبد هو لداود والأول أولى وجملة { إنه أواب } تعليل لما قبلها من المدح والأواب : الرجاع إلى الله بالتوبة كما تقدم بيانه (4/612)
والظرف في قوله : 31 - { إذ عرض عليه } متعلق بمحذوف وهو اذكر : أي اذكر ما صدر عنه وقت عرض الصافنات الجياد عليه { بالعشي } وقيل هو متعلق بنعم وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت وقيل متعلق بأواب ولا وجه لتقييد كونه أوابا بذلك الوقت والعشي من الظهر أو العصر إلى آخر النهار والصافنات جمع صافن
وقد اختلف أهل اللغة في معناه فقال القتيبي والفراء : الصافن في كلام العرب الوقف من الخيل أو غيرها وبه قال قتادة ومنه الحديث [ من أحب أن يتمثل له الناس صفونا فليتبوأ مقعده من النار ] أي يديمون القيام له واستدلوا بقول النابغة :
( لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهاري والجياد والصوافن )
ولا حجة لهم في هذا فإنه استدلال بمحل النزاع وهو مصادرة لأن النزاع في الصافن ماذا هو ؟ وقال الزجاج هو الذي يقف على أحدى اليدين ويرفع الأخرى ويجعل على الأرض طرف الحافر منها حتى كأنه يقوم على ثلاث وهي الرجلان وإحدى اليدين وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه وهي علامة الفراهة وأنشد الزجاج قول الشاعر :
( ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسير )
ومن هذا قول عمرو بن كلثوم :
( تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا )
فإن قوله صفونا لا بد أن يحمل على معنى غير مجرد القيام لأن مجرد القيام قد استفيد من قوله : عاكفة عليه وقال أبو عبيد : الصافن هو الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المتخيم والجياد جمع جواد يقال للفرس إذا كان شديد العدو وقيل إنها الطوال الأعناق مأخوذ من الجيد وهو العنق قيل كانت مائة فرس وقيل كانت عشرين ألفا وقيل كانت عشرين فرسا وقيل إنها خرجت له من البحر وكانت لها أجنحة (4/612)
32 - { فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } انتصاب حب الخير على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى آثرت قال الفراء : يقول آثرت حب الخير وكل من أحب شيئا فقد آثره وقيل انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد والناصب له أحببت وقيل هو مصدر تشبيهي : أي حبا مثل حب الخير والأول أولى والمراد بالخير هنا الخيل قال الزجاج : الخير هنا الخيل وقال الفراء : الخير والخيل في كالم العرب واحد قال النحاس : وفي الحديث [ الخيل معقود بنواصيها الخير ] فكأنها سميت خيرا لهذا وقيل إنها سميت خيرا لما فيها من المنافع وعن في { عن ذكر ربي } بمعنى على والمعنى : آثرت حب الخيل على ذكر ربي : يعني صلاة العصر { حتى توارت بالحجاب } يعني الشمس ولم يتقدم لها ولكن المقام يدل على ذلك قال الزجاج : إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر وقد جرى هنا الدليل وهو قوله بالعشي والتواري : الاستتار عن الأبصار والحجاب : ما يحجبها عن الأبصار قال قتادة وكعب : الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق وهو قالف وسمي الليل حجابا لأنه يستر ما فيه وقيل الضمير في قوله : { حتى توارت } للخيل : أي حتى توارت في المسابقة عن الأعين والأول أولى (4/613)
وقوله : { ردوها علي } من تمام قول سليمان : أي أعيدوا عرضها علي مرة أخرى قال الحسن : إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله وقال رجوها علي : أي أعيدوها وقيل الضمير في ردوها إلى الشمس ويكون ذلك معجزة له وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر والأول أولى والفاء في قوله : { فطفق مسحا بالسوق والأعناق } هي الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام والتقدير هنا : فردوها عليه قال أبو عبيدة : طفق يفعل مثل ما زال يفعل وهو مثل ظل وبات وانتصاب مسحا على المصدرية بفعل مقدر : أي مسح مسحا لأنه خبر طفق لا يكون إلا فعلا مضارعا وقيل هو مصدر في موضع الحال والأول أولى والسوق جمع ساق والأعناق جمع عنق والمراد أنه طفق يضرب أعناقها وسوقها يقال مسح علاوته : أي ضرب عنقه قال الفراء : المسح هنا القطع قال : والمعنى أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها لأنها كانت سبب فوت صلاته وكذا قال أبو عبيدة قال الزجاج : ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له وجائز أن يباح ذلك لسليمان ويحضر في هذا الوقت
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية فقال قوم : المراد بالمسح ما تقدم وقال آخرون منهم الزهري وقتادة : إن المراد به المسح على سوقها وأعناقها لكشف الغبار عنها حبا لها والقول الأول أولى بسياق الكلام فإنه ذكر أنه آخرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر ثم أمرهم بردها عليه ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك وما صده عن عبادة ربه وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردها عليه هو كشف الغبار عن سوقها وأعناقها بالمسح عليها بيده أو بثوبه ولا متمسك لمن قال : إن فساد المال لا يصدر عن النبي فإن هذا مجرد استعباد باعتبار ما هو المتقرر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح على أن إفساد المال المنهي عنه في شرعنا إنما هو مجرد إضاعته لغير غرض صحيح وأما لغرض صحيح فقد جاز مثله في شرعنا كما وقع منه صلى الله عليه و سلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض } قال : الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحارث والمفسدين في الأرض عتبة وشيبة والوليد وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : { الصافنات الجياد } خيل خلقت على ما ئاء وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { الصافنات } قال : صفون الفرس رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر وفي قوله : { الجياد } السراع وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : { حب الخير } قال : الماء وفي قوله ردوها عليقال : الخيل { فطفق مسحا } قال : عقرا بالسيف وأخرج وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : الصلاة التي فرط فيها سليمان صلاة العصر وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله : { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد } قال : كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة فعقرها وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن مسعود بقوله : { حتى توارت بالحجاب } قال : توارت من وراء ياقوتة خضراء فخضرة السماء منها وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس قال : كان سليمان لا يكلم إعظاما له فلقد فاتته صلاة العصر وما استطاع أحد أن يكلمه وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { عن ذكر ربي } يقول : من ذكر ربي { فطفق مسحا بالسوق والأعناق } قال : قطع سوقها وأعناقها بالسيف (4/613)
قوله : 34 - { ولقد فتنا سليمان } أي ابتليناه واختبرناه قال الواحدي قال أكثر المفسرين : تزوج سليمان امرأة من بنات الملوك فعبدت الصنم في داره ولم يعلم بذلك سليمان فامتحن بسبب غفلته عن ذل وقيل إن سبب الفتنة أنه تزوج سليمان امرأة يقال لها جرادة وكان يحبها حبا شديدا فاختصم إليه فريقان : أحدهما من أهل جرادة فأحب أن يكون القضاء لهم ثم قضى بينهم بالحق وقيل إن السبب أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد وقيل إنه تزوج جرادة هذه وهي مشركة لأنه عرض عليها الإسلام فقالت : اقتلني ولا أسلم وقال كعب الأحبار : إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه وقال الحسن : إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره وقيل إنه أمر أن لا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غيرهم وقيل إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال : لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله وقيل غير ذلك ثم بين سبحانه ما عاقبه به فقال : { وألقينا على كرسيه جسدا } انتصاب جسدا على أنه مفعول ألقينا وقيل انتصابه على الحال على تأويله بالمشتق : أي ضعيفا أو فارغا والأول أولى قال أكثر المفسرين : هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان هو شيطان اسمه صخر وكان متمردا عليه غير داخل في طاعته ألقى الله شبه سليمان عليه وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان وذلك عند دخول سليمان الكنيف لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف فجاء صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان فقعد على سرير سليمان وأقام أربعين يوما على ملكه وسليمان هارب وقال مجاهد : إن شيطانا قال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد الشيطان على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن وكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفونني أطعموني ؟ فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوما حوتا فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وهو معنى قوله : { ثم أناب } أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوما وقيل معنى أناب : رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه وهذا هو الصواب (4/615)
وتكون جملة 35 - { قال رب اغفر لي } بدلا من جملة أناب وتفسيرا له : أي اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله ثم لما قدم التوبة والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة طلبته فقال : { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } قال أبو عبيدة : معنىلا ينبغي لأحد من بعدي : لا يكون لأحد من بعدي وقيل المعنى : لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة أو لا يصح لأحد من بعيد لعظمته وليس هذا من سؤال نبي الله سليمان عليه السلام للدنيا وملكها والشرف بين أهلها بل المراد بسؤاله الملك أن يتمكن به من إنفاذ أحكام الله سبحانه والأخذ على يد المتمردين من عباده من الجن والإنس ولو لم يكن من المقتضيات لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله وجملة { إنك أنت الوهاب } تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده : أي فإنك كثير الهبات عظيم الموهوبات (4/616)
ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته وإعطاءه لمسألته فقال : 36 - { فسخرنا له الريح } أي ذللناها له وجعلناها منقادة لأمره ثم بين كيفية التسخير لها بقوله : { تجري بأمره رخاء } أي لينة الهبوب ليس بالعاصف مأخوذ من الرخاوة والمعنى أنها ريح لينة لا تزعزع ولا تعصف مع قوة هبوبها وسرعة جريها ولا ينافي هذا قوله في آية أخرى { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره } لأن المراد أنها في قوة العاصفة ولا تعصف وقيل إنها كانت تارة رخاء وتارة عاصفة على ما يريده سليمان ويشتهيه وهذا أولى في الجمع بين الآيتين { حيث أصاب } أي حيث أراد قال الزجاج : إجماع أهل اللغة والمفسرين أن معنى حيث أصاب : حيث أراد وحقيقة حيث قعد وقال الأصمعي وابن الأعرابي : العرب تقول : أصاب الصواب وأخطأ الجواب وقيل إن معنى أصاب بلغة حمير أراد وليس من لغة العرب وقيل هو بلسان هجر والأول أولى وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض (4/616)
37 - { والشياطين } معطوف على الريح : أي وسخرنا له الشياطين وقوله : { كل بناء وغواص } بدل من الشياطين : أي كل بناء منهم وغواص منهم يبنون له ما يشاء من المباني ويغوصون في البحر فيستخرجون له الدر منه ومن هذا قول الشاعر :
( إلا سليمان إذ قال الجليل له ... قم في البرية فاحددها عن الفند )
( وخبر الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تذمر بالصفاح والعمد ) (4/616)
38 - { وآخرين مقرنين في الأصفاد } معطوف على كل داخل في حكم البدل وهم مردة الشياطين سخروا له حجتى قرنهم في الأصفاد يقال قرنهم في الجبال إذا كانوا جماعة كثيرة والأصفاد : الأغلال واحدها صفد قال الزجاج : هي السلاسل فكل ما شددته شدا وثيقا بالحديد وغيره فقد صفدته قال أبو عبيدة : صفدت الرجل فهو مصفود وصفدته فهو مصفد ومن هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
( فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا )
قال يحيى بن سلام : ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم والإشارة بقوله هذا إلى ما تقدم من تسخير الريح والشياطين له (4/617)
وهو بتقدير القول : أي وقلنا له : 39 - { هذا عطاؤنا } الذي أعطيناكه من الملك العظيم الذي طلبته { فامنن أو أمسك } قال الحسن والضحاك وغيرهما : أي فأعط من شئت وامنع من شئت { بغير حساب } لا حساب عليك في ذلك الإعطاء أو الإمساك أو عطاؤنا لك بغير حساب لكثرته وعظمته وقال قتادة : إن قوله : { هذا عطاؤنا } إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع وهذا لا وجه لقصر الآية عليه لو قدرنا أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات فكيف يدعي اخصاص الآية به مع عدم ذكره (4/617)
40 - { وإن له عندنا لزلفى } أي قربة في الآخرة { وحسن مآب } وحسن مرجع وهو الجنة
وقد أخرج الفريابي والحكيم الترمذي والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا } قال : هو الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوما وكان لسليمان امرأة يقال لها جرادة وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء فكان لا يدري أيأتيه من السماء أم من الأرض ؟ وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم قال السيوطي بسند قوي عن ابن عباس قال : أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى لجرادة خاتمه وكانت جرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي فأعطته فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان من الخلاء قال هاتي خاتمي قالت قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت لست سليمان فجعل لا يأتي أحدا يقول أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن : ينكرن من أمر سليمان شيئا ؟ قلن نعم إنه يأتينا ونحن نحيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرأوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال : تحمل لي هذا السمك ؟ قال نعم قال بكم قال بسمكة من هذا السمك فحمل سليمان السمك ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطانا مريدا فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يتب في مكان من البيت إلا انباط معه الرصاص فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخله في جوفه ثم شد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله : { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا } يعني الشيطان الذي كان سلط عليه وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وألقينا على كرسيه جسدا } قال : صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن عفريتا من الجن جعل يتفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي وإن الله أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } فرده الله خاسئا ] وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فامنن } يقول : اعتق من الجن من شئت وأمسك منهم من شئت (4/617)
قوله : 41 - { واذكر عبدنا أيوب } معطوف على قوله { واذكر عبدنا داود } وأيوب عطف بيان و { إذ نادى ربه } بدل اشتمال من عبدنا { أني مسني الشيطان } قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه به ولو لم يحكه لقال إنه مسه وقرأ عيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول وفي قصة أيوب إرشاد لرسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره قرأ الجمهور بضم النون من قوله : { بنصب } وصكون الصاد فقيل هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد وأسد وقيل هو لغة في النصب نحو رشد ورشد وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة وحفص ونافع في رواية عنه بضمتين ورويت هذه القراءة عن الحسن وقرأ أبو حيوة ويعقوب وحفص في بفتح وسكون وهذه القراءات كلها بمعنى واحد وإنما اختلفت القراءات باختلاف اللغات وقال أبو عبيدة : إن النصب بفتحتين : التعب والإعياء وعلى بقية القراءات الشر والبلاء ومعنى قوله : { وعذاب } أي ألم قال قتادة ومقاتل : النصب في الجسد والعذاب في المال قال النحاس وفيه بعد كذا قال والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي وهو التعب والإعياء وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب وهو الألم وكلاهما راجع إلى البدن (4/619)
42 - { اركض برجلك } هو بتقدير القول : أي قلنا له : اركض برجلك كذا قال الكسائي : والركض الدفع بالرجل يقال ركض الدابة برجله : إذا ضربها بها وقال المبرد : الركض التحريك قال الأصمعي : يقال ركضت الدابة ولا يقال ركضت هي لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك وحكى سيبويه : ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر { هذا مغتسل بارد وشراب } هذا أيضا من مقول القول المقدر : المغتسل هو الماء الذي يغتسل به والشراب الذي يشرب منه وقيل إن المغتسل هو المكان الذي يغتسل فيه قال قتادة : هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية فاغتسل من إحداهما فأذهب الله ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه وكذا قال الحسن وقال مقاتل نبعث عين جارية فاغتسل فيها فخرج صحيحا ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماءا عذبا باردا وفي الكلام حذف والتقدير : فركض برجله فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل إلخ وأسند المس إلى الشيطان مع أن الله سبحانه هو الذي مسه بذلك : إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب فقد قيل إنه أعجب بكثرة ماله وقيل استغاثة مظلوم فلم يغثه وقيل إنه قال ذلك على طريقة الأدب وقيل إنه قال ذلك لأن الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه من تحسين الجزع وعدم الصبر على المصيبة وقيل غير ذلك (4/619)
وقوله : 43 - { ووهبنا له أهله } معطوف على مقدر كأنه قيل : فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله قيل أحياهم الله بعد أن أماتهم : وقيل جمعهم بعد تفرقهم وقيل غيرهم مثلهم ثم زاده مثلهم معهم وهو معنى قوله : { ومثلهم معهم } فكانوا مثل ما كانوا من قبل ابتلائه وانتصاب قوله : { رحمة منا وذكرى لأولي الألباب } على أنه مفعول لأجله : أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليتذكر بحاله أولو الألباب فيصبروا على الشدائد كما صبر وقد تقدم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده (4/620)
44 - { وخذ بيدك ضغثا } معطوف على اركض أو على وهبنا أو التقدير وقلنا له { خذ بيدك ضغثا } والضغث : عثكال النخل بشماريخه وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان وأصل المادة تدل على جمع المختلطات قال الواحدي : الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ { فاضرب به ولا تحنث } أي اضرب بذلك الضغث ولا تحنث في يمينك والحنث : الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة
واختلف في سبب ذلك فقال سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة وقيل باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئا وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام فلهذا حلف ليضربنها وقيل جاءها إبليس في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب فقال أداويه على أنه إذا برئ قال أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت نعم فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها
وقد اخلتف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم ؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك قال الشافعي : إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو بقلبه فكيفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية حكاه ابن المنذر عنه وعن أبي ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء : هو خاص بأيوب ورواه ابن القاسم عن مالك ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال : { إنا وجدناه صابرا } أي على البلاء الذي ابتليناه به فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وأهله وولده فصبر { نعم العبد } أي أيوب { إنه أواب } أي رجاع إلى الله بالاستغفار والتوبة (4/620)
45 - { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } قرأ الجمهور { عبادنا } بالجمع وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير { عبدنا } بالإفراد فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم وإسحاق ويعقوب عطف بيان وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم وقد يقال لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه وقيل إن إبراهيم وما بعده بدل أو النصب بإضمار أعني وعطف البيان أظهر وقراءة الجمهور أبين وقد اختارها أبو عبيد وأبو حاتم { أولي الأيدي والأبصار } الأيدي جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة قال قتادة : أعطوا قوة في العبادة ونصرا في الدين قال الواحدي : وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والمفسرون قال النحاس : أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم وأما الأيدي فمختلف في تأويلها فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين وقوم يقولون : الأيدي جمع يد وهي النعمة : أي هم أصحاب النعم : أي الذين أنعم الله عز و جل عليهم وقيل هم أصحاب النعم على الناس والإحسان إليهم لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا واختار هذا ابن جرير قرأ الجمهور أولي الأيدي بإثبات الياء في الأيدي وقرأ ابن مسعود والأعمش والحسن وعيسى الأيد بغير ياء فقيل معناها معنى القراءة الأولى وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها وقيل الأيد : القوة (4/621)
وجملة 46 - { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } تعليل لما وصفوا به قرأ الجمهور { بخالصة } بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص فيكون ذكرى منصوبا به أو بمعنى الإخلاص فيكون ذكرى منصوبا به أو بمعنى الخلوص فيكون ذكرى مرفوعا به أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه وذكرى بدل منها أو بيان لها أو بإضمار أعني أو مرفوعة بإضمار مبتدأ والدار يجوز أن تكون مفعولا به لذكرى وأن تكون ظرفا : إما على الاتساع أو على إسقاط الخافض وعلى كل تقدير فخالصة صفة لموصوف محذوف والباء للسببية : أي بسبب خصلة خالصة وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى على أن الإضافة للبيان لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله والفاعل محذوف أي بأن أخلصوا ذكرى الدار أو مصدر بمعنى الخلوص مضافا إلى فاعله قال مجاهد : معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله وقال السدي : أخلصوا بخوف الآخرة قال الواحدي : فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار والخالصة مصدر بمعنى الخلوص والذكرى بمعنى التذكر : أي خلص لهم تذكر الدار وهو أنهم يذكرون التأهب له ويزهدون في الدنيا وذلك من شأن الأنبياء وأما من أضاف فالمعنى : أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل والذكرى على هذا المعنى الذكر (4/621)
47 - { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } الاصطفاء : الاختيار والأخيار جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشددا ومخففا والمعنى : إنهم عندنا لمن المختارين من أنباء جنسهم من الأخيار (4/622)
48 - { واذكر إسماعيل } قيل وجه إفراده بالذكر بعد ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا { واليسع وذا الكفل } قد تقدم ذكر اليسع والكلام فيه في الأنعام وتقدم ذكر ذا الكفل والكلام فيه في سورة الأنبياء والمراد من ذكر هؤلاء أنهم من جملة من صبر من الأنبياء وتحملوا الشدائد في دين الله أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر { وكل من الأخيار } يعني الذين اختارهم الله لنبوته واصطفاهم من خلقه (4/622)
49 - { هذا ذكر } الإشارة إلى ما تقدم من ذكر أوصافهم : أي هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به أبدا { وإن للمتقين لحسن مآب } أي لهم مع هذا الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة والمآب : المرجع والمعنى : أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنته (4/622)
ثم بين حسن المرجع فقال : 50 - { جنات عدن } قرأ الجمهور جنات بالنصب بدلا من حسن مآب سواء كان جنات عدن معرفة أو نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس ويجوز أن يكون جنات عطف بيان إن كانت نكرة ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة وقد جوزه بعضهم ويجوز أن يكون نصب جنات بإضمار فعل والعدن في الأصل الإقامة يقال عدن بالمكان : إذا أقام فيه وقيل هو اسم لقصر في الجنة وقرئ برفع جنات على أنها مبتدأ وخبرها مفتحة أو على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي هن جنات عدن وقوله : { مفتحة لهم الأبواب } حال من جنات والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل والأبواب مرتفعة باسم الفعول : كقوله : { وفتحت أبوابها } والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر أي منها أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير إذ الأصل أبوابها وقيل إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات وبه قال أبو علي الفارسي : أي مفتحة هي الأبواب قال الفراء : المعنى مفتحة أبوابها والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة وقال الزجاج : المعنى مفتحة لهم الأبواب منها قال الحسن : إن الأبواب يقال لها : انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق وقيل تفتح لهم الملائكة الأبواب (4/622)
وانتصاب 51 - { متكئين فيها } على الحال من ضمير لهم والعامل فيه مفتحة وقيل هو حال من { يدعون } قدمت على العامل { فيها } أي يدعون في الجنات حال كونهم متكئين لدلالة الأول عليه وعلى جعل متكئين حالا من ضمير لهم والعامل فيه مفتحة فتكون جملة يدعون مستأنفة لبيان حالهم وقيل إن يدعون في محل نصب على الحال من ضمير متكئين (4/623)
52 - { وعندهم قاصرات الطرف أتراب } أي قاصرات طرفهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم وقد مضى بيانه في سورة الصافات والأتراب : المتحجات في السن أو المتساويات في الحسن وقال مجاهد : معنى أتراب أنهن متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن وقيل أترابا للأزواج والأتراب جمع ترب واشتقاقه من التراب لأنه يمسهن في وقت واحد لاتحاد مولدهن (4/623)
53 - { هذا ما توعدون ليوم الحساب } أي هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء أو المعنى في يوم الحساب وقرأ الجمهور { ما توعدون } بالفوقية على الخطاب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ويعقوب بالتحتية على الخبر واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله وإن للمتقين فإنه خبر (4/623)
54 - { إن هذا لرزقنا } أي إن هذا المذكور من النعم والكرامات لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم { ما له من نفاد } أي انقطاع ولا يفنى أبدا ومثله قوله : { عطاء غير مجذوذ } فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها
وقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن الشيطان عرج إلى السماء فقال : يا رب سلطني على أيوب قال الله : لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده فنزل فجمع جنوده فقال لهم : قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم فصاروا نيرانا ثم صاروا ماء فبينما هم في المشرق إذا هم بالمغرب وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق فأرسل طائفة منهم إلى زرعه وطائفة إلى أهله وطائفة إلى بقره وطائفة إلى غنمه وقال : إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف فأتوه بالمصائب بعضها على بعض فجاء صاحب الزرع فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك نارا فأحرقته ؟ ثم جاء صاحب الإبل فقال يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدوا فذهب بها ؟ ثم جاءه صاحب الغنم فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على غنمك عدوا فذهب بها ؟ وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم فبينما هم يأكلون ويشربون إذا هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم ؟ فقال له أيوب : فأين كنت ؟ قال كنت معهم قال : فكيف انفلت ؟ قال انفلت قال : أيوب أنت الشيطان ثم قال أيوب : أنا اليوم كيوم ولدتني أمي فقام فحلق رأسه وقام يصلي فرن إبليس رنة سمعها أهل السماء وأهل الأرض ثم عرج إلى السماء فقال : أي رب إنه قد اعتصم فسلطني عليه فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال : قد سلطتك على جسده ولم أسطلك على قلبه فكانت امرأته تسعى عليه حتى قالت له : الا ترى يا أيوب قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعث قروني برغيف فأطعمتك فادع الله أن يشفيك ويريحك قال : ويحك كنا في النعيم سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاما فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل يوما فدعا بيده ثم قال قم فقام فنحاه عن مكانه وقال : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عين فقال اغتسل فاغتسل منها ثم جاء أيضا فقال : اركض برجلك فنبعت عين أخرى فقال له اشرب منها وهو قوله : { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت : يا عبد الله أين المبتلى الذي كان ها هنا ؟ لعل الكلاب قد ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة فقال : ويحك أنا أيوب قد رد الله عليه جسدي ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم وأمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه وينشر كساءه ويأخذه فيجعل فيه فأوحى الله إليه يا أيوب أما شبعت ؟ قال : يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك وفي هذا نكارة شديدة فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلط عليه هذا التسليط العظيم
وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتا يداوي الناس فقالت امرأة أيوب : يا عبد الله إن ها هنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه قال : نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجرا غيره فأتت أيوب فذكرت له ذلك فقال : ويحك ذاك الشيطان لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به فأخذ عذقا فيه مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : { وخذ بيدك ضغثا } قال : هو الأسل وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : الضغث القبض من المرعى الرطب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الضغث الحزمة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها ممن حملك ؟ قالت من فلان المقعد فسئل المقعد فقال صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر نحوه من طريق أخرى عن أبي أماة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد نحوه وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال : أيوب رأس الصابرين يوم القيامة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { أولي الأيدي } قال : القوة في العبادة { والأبصار } قال : الفقه في الدين وأخرج ابن أبي حاتم عنه { أولي الأيدي } قال : النعمة وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } قال : أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها (4/623)
قوله : 55 - { هذا } قال الزجاج : هذا خبر مبتدإ محذوف : أي الأمر هذا فيوقف على هذا قال ابن الأنباري : وهذا وقف حسن ثم يبتدئ { وإن للطاغين } ويجوز أن يكون هذا مبتدأ وخبره محذوف : أي هذا كما ذكر أو هذا ذكر ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشر بعد أن ذكر ما لأهل الخير فقال : { وإن للطاغين لشر مآب } أي الذين طغوا على الله وكذبوا رسله لشر مآب لشر منقلب بنقلبون إليه (4/626)
ثم بين ذلك فقال : 56 - { جهنم يصلونها } وانتصاب جهنم على أنها بدل من شر مآب أو منصوبة بأعني ويجوز أن يكون عطف بيان على قول البعض كما سلف قريبا ويجوز أن يكون منصوبا على الاشتغال : أي يصلون جهنم يصلونها ومعنى يصلونها يدخلونها وهو في محل نصب على الحالية { فبئس المهاد } أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وهو الفراش مأخوذ من مهد الصبي ويجوز أن يكون المراد بالمهد الموضع والمخصوص بالذم محذوف : أي بئس المهاد هي كما في قوله : { لهم من جهنم مهاد } شبه الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالمهاد (4/626)
57 - { هذا فليذوقوه حميم وغساق } وهذا في موضع رفع بالابتداء وخبره حميم وغساق على التقدير والتأخير : أي هذا حميم وغساق فليذوقوه قال الفراء والزجاج : تقدير الآية : هذا حميم وغساق فليذوقوه : أو يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره والغساق ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد من قولهم غسقت عينه إذا انصبت والغسقان الانصباب قال النحاس : ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدإ محذوف : أي هو حميم وغساق ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده : أي ليذوقوا هذا فليذوقوه ويجوز أن يكون حميم مرتفع على الابتداء وخبره مقدر قبله : أي منه حميم ومنه غساق ومثله قول الشاعر :
( حتى ما إذا أضاء البرق في غلس ... وغودر البقل ملوي ومخضود )
أي منه ملوي ومنه مخضود وقيل الغساق ما قتل ببرده ومنه قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار وقيل هو الزمهرير وقيل الغساق المنتن وقيل الغساق عين في جهنم يسيل منه كل ذوب حية وعقرب وقال قتادة : هو ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم يسيل من دموع أهل النار يسقونه مع الحميم وكذا قال ابن زيد وقال مجاهد ومقاتل : هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده وتفسير الغساق بالبارد أنسب بما تقتضيه لغة العرب ومنه قول الشاعر :
( إذا ما تذكرت الحياة وطيبها ... إلي جرى دمع من الليل غاسق )
أي بارد وأنسب أيضا بمقابلة الحميم وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين من غساق وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة بالتشديد وهما لغتان بمعنى واحد كما قال الأخفش وقيل معناهما مختلف فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب ومن شدد قال : هو اسم فاعل للمبالغة نحو ضراب وقتال (4/626)
58 - { وآخر من شكله } قرأ الجمهور { وأخر } مفرد مذكر وقرأ أبو عمرو { وآخر } بضم الهمزة على أنه جمع وأنكر قراءة الجمهور لقوله أزواج وأنكر عاصم الجحدري قراءة أبي عمرو وقال : لو كانت كما قرأ لقال من شكلها وارتفاع آخر على أنه مبتدأ وخبره أزواج ويجوز أن يكون من شكله خبرا مقدما وأزواج مبتدأ مؤخرا والجملة خبر آخر ويجوز أن يكون خبر آخر مقدرا : أي وآخر لهم و { من شكله أزواج } جملة مستقلة ومعنى الآية على قراءة الجمهور : وعذاب آخر أو مذوق آخر أو نوع آخر من شكل ذلك المذوق أو النوع المتقدم وإفراد الضمير في شكله على تأويل المذكور : أي من شكل المذكور ومعنى { أزواج } أجناس وأنواع وأشباه وحاصل معنى الآية : أن لأهل النار حميما وغساقا وأنواعا من العذاب من مثل الحميم والغساق قال الواحدي : قال المفسرون : هو الزمهرير ولا يتم هذا الذي حكاه عن المفسرين إلا على تقدير أن الزمهرير أنواع مختلفة وأجناس متفاوتة ليطابق معنى أزواج أو على تقدير أن لكل فرد من أهل النار زمهريرا (4/627)
59 - { هذا فوج مقتحم معكم } الفوج الجماعة والاقتحام الدخول وهذا حكاية لقول الملائكة الذين هم خزنة النار وذلك أن القادة والرؤساء إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة : هذا فوج يعنون الأتباع مقتحم معكم : أي داخل معكم إلى النار وقوله : { لا مرحبا بهم } من قول القادة والرؤساء لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا لا مرحبا بهم : أي لا اتسعت منازلهم في النار والرحب السعة والمعنى : لا كرامة لهم وهذا إخبار من الله سبحانه بانقطاع المودة بين الكفار وأن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة وجملة لا مرحبا بهم دعائية لا محل لها من الإعراب أو صفة للفوج أو حال منه أو بتقدير القول : أي مقولا في حقهم لا مرحبا بهم وقيل إنها من تمام قول الخزنة والأول أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي وجملة { إنهم صالوا النار } تعليل من جهة القائلين لا مرحبا بهم : أي إنهم صالوا النار كما صليناها ومستحقون لها كما استحقيناها (4/628)
وجملة 60 - { قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم } مستأنفة جواب سؤال مقدر : أي قال الأتباع عند سماع ما قاله الرؤساء لهم بل أنتم لا مرحبا بكم : أي لا كرامة لكم ثم عللوا ذلك بقولهم : { أنتم قدمتموه لنا } أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى لنا وأوقعتمونا فيه ودعوتمونا إليه بما كنتم تقولون لنا من أن الحق ما أنتم عليه وأن الأنبياء غير صادقين فيما جاءوا به { بئس القرار } أي بئس المقر جهنم لنا ولكم (4/628)
ثم حكى عن الأتباع أيضا أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر وهو 61 - { قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار } أي زده عذابا ذا ضعف والضعف بأن يزيد عليه مثله ومعنى من قدم لنا هذا من دعانا إليه وسوغه لنا قال الفراء : المعنى من سوغ لنا هذا وسنه وقيل معناه : قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى الكفر فزده عذابا ضعفا في النار : أي عذابا بكفره وعذابا بدعائه إيانا فصار ذلك ضعفا ومثله قوله سبحانه : { ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار } وقوله : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } وقيل المراد بالضعف هنا الحيات والعقارب (4/628)
62 - { وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار } قيل هو من قول الرؤساء وقيل من قول الطاغين المذكورين سابقا قال الكلبي : ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم من المؤمنين معهم فيها فعند ذلك قالوا : ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار وقيل يعنون فقراء المؤمنين كعمار وخباب وصهيب وبلال وسالم وسلمان وقيل أرادوا أصحاب محمد على العموم (4/628)
63 - { أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار } قال مجاهد : المعنى اتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا أم زاغت عنهم الأبصار فلم نعلم مكانهم ؟ والإنكار المفهوم من الاستفهام متوجه إلى كل واحد من الأمرين قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا : اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم الأبصار قال الفراء : والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن كثير والأعمش بحذف همزة اتخذناهم في الوصل وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خبرا محضا وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية لرجالا وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة أم عليها فتكون أم على الوجه الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة : أي بل زاغت عنهم الأبصار على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار ثم الإضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير وعلى الثاني أم هي المتصلة وقرأ الباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل ولا محل للجملة حينئذ وفيه التوبيخ لأنفسهم على الأمرين جميعا لأن أم على هذه القراءة هي للتسوية وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة والمفضل وهبيرة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي { سخريا } بضم السين وقرأ الباقون بكسرها : قال ابو عبيدة : من كسر جعله من الهزء ومن ضم جعله من التسخير (4/628)
والإشارة بقوله : 64 - { إن ذلك } إلى ما تقدم من حكاية حالهم وخبر إن قوله : { لحق } أي لواقع ثابت في الدار الآخرة لا يختلف ألبتة و { تخاصم أهل النار } خبر مبتدإ محذوف والجملة بيان لذلك وقيل بيان لحق وقيل بدل منه وقيل بدل من محل ذلك ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر وهذا على قراءة الجمهور برفع تخاصم والمعنى : إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بد أن يتكلموا به وهو تخاصم أهل النار فيها وما قالته الرؤساء للأتباع وما قالته الأتباع لهم وقرأ ابن أبي عبلة بنصب تخاصم على أنه بدل من ذلك أو بإضمار أعني وقرأ ابن السميفع تخاصم بصيغة الفعل الماضي فتكون جملة مستأنفة (4/629)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول قولا جامعا بين التخويف والإرشاد إلى التوحيد فقال : 65 - { قل إنما أنا منذر } أي مخوف لكم من عقاب الله وعذابه { وما من إله } يستحق العبادة { إلا الله الواحد } الذي لا شريك له { القهار } لكل شيء سواه (4/629)
66 - { رب السموات والأرض وما بينهما } من المخلوقات { العزيز } الذي لا يغالبه مغالب { الغفار } لمن أطاعه وقيل معنى العزيز المنيع الذي لا مثل له ومعنى الغفار الستار لذنوب خلقه (4/629)
ثم أمره سبحانه أن يبالغ في إنذارهم ويبين لهم عظم الأمر وجلالته فقال : 67 - { قل هو نبأ عظيم } أي ما أنذرتكم به من العقاب وما بينته لكم من التوحيد هو خبر عظيم ونبأ جليل من شأنه العناية به والتعظيم له وعدم الاستخفاف به ومثل هذه الآية قوله : { عم يتساءلون * عن النبإ العظيم } وقال مجاهد وقتادة ومقاتل : هو القرآن فإنه نبأ عظيم لأنه كلام الله قال الزجاج : قل النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم : يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين وذلك دليل على صدقه ونبوته لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله (4/629)
وجملة 68 - { أنتم عنه معرضون } توبيخ لهم وتقريع لكونهم أعرضوا عنه ولم يتفكروا فيه فيعلموا صدقه ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث (4/630)
وقوله : 69 - { ما كان لي من علم بالملإ الأعلى } استئناف مسوق لتقرير أنه نبأ عظيم والملأ الأعلى هم الملائكة { إذ يختصمون } أي وقت اختصامهم فقوله : { بالملإ الأعلى } متعلق بعلم على تضمينه معنى الإحاطة وقوله إذ يختصمون متعلق بمحذوف : أي ما كان لي فيما سبق علم بوجه من الوجوه بحال الملإ الأعلى وقت اختصامهم والضمير في يختصمون راجع إلى الملأ الأعلى والخصومة الكائنة بينهم هي في أمر آدم كما يفيده ما سيأتي قريبا (4/630)
وجملة 70 - { إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين } معترضة بين اختصامهم المجمل وبين تفصيله بقوله : { إذ قال ربك للملائكة } والمعنى : ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين قال الفراء : المعنى ما يوحى إلي ألا أنني نذير مبين أبين لكم ما تأتون من الفرائض والسنن وما تدعون من الحرام والمعصية قال : كأنك قلت ما يوحى إلي إلا الإنذار قال النحاس : ويجوز أن تكون في محل نصب بمعنى ما يوحى إلي إلا لأنما أنا نذير مبين قرأ الجمهور بفتح همزة أنما على أنها وما في حيزها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل : أي ما يوحى إلي إلا الإنذار أو إلا كوني نذيرا مبينا أو في محل نصب أو جر بعد إسقاط لام العلة والقائم مقام الفاعل على سبيل الحكاية كأنه قيلما يوحى إلي إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين وقيل إن الضمير في يختصمون عائد إلى قريش يعني قول من قال منهم : الملائكة بنات الله والمعنى : ما كان لي علم بالملائكة إذ تختصم فيهم قريش والأول أولى
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وغساق } قال : الزمهرير { وآخر من شكله } قال : من نحوه { أزواج } قال : ألوان من العذاب وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو أن دلوا من غساق يهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ] قال الترمذي بعد إخراجه : لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد قلت : ورشدين فيه مقال معروف وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله : { فزده عذابا ضعفا في النار } قال : أفاعي وحيات وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بالملإ الأعلى } قال : الملائكة حين شوروا في خلق آدم فاختصموا فيه وقالوا : لا تجعل في الأرض خليفة وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون } قال : هي الخصومة في شأن آدم حيث قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن نصر في كتاب الصلاة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أتاني الليلة ربي في أحسن صورة أحسبه قال في المنام قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت لا فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو في نحري فعلمت ما في السموات والأرض ثم قال لي : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت نعم في الكفارات والكفارات : المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإبلاغ الوضوء في المكاره ] الحديث وأخرج الترمذي وصححه ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وابن مردويه من حديث معاذ بن جبل نحوه بأطول منه وقال [ وإسباغ الوضوء في السبرات ] وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث جابر بن سمرة نحوه بأخصر منه وأخرجا أيضا من حديث أبي هريرة نحوه وفي الباب أحاديث (4/630)
لما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالا فيما تقدم ذكرها هنا تفصيلا فقال : 71 - { إذ قال ربك للملائكة } إذ هذه هي بدل من { إذ يختصمون } لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة وقيل : هي منصوبة بإضمار اذكر والأول إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدم ذكره فالثاني أولى { إني خالق بشرا من طين } أي خالق فيما سيأتي من الزمن بشرا : أي جسما من جنس البشر مأخوذ من مباشرته للأرض أو من كونه بادي البشرة وقوله { من طين } متعلق بمحذوف هو صفة لبشر أو بخالق (4/632)
ومعنى 72 - { فإذا سويته } صورته على صورة البشر وصارت أجزاؤه مستوية { ونفخت فيه من روحي } أي من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري وقيل هو تمثيل ولا نفخ ولا منفوخ فيه والمراد جعله حيا بعد أن كان جمادا لا حياة فيه وقد مر الكلام في هذا في سورة النساء { فقعوا له ساجدين } هو أمر من وقع يقع وانتصاب ساجدين على الحال والسجود هنا هو سجوز التحية لا سجود العبادة وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة (4/632)
73 - { فسجد الملائكة } في الكلام حذف تدل عليه الفاء والتقدير : فخلقه فسواه ونفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة وقوله : { كلهم } يفيد أنهم سجدوا جميعا ولم يبق منهم أحد وقوله : { أجمعون } يفيد أنهم اجتمعوا على السجود في وقت واحد : فالأول لقصد الإحاطة والثاني لقصد الاجتماع قال في الكشاف : فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات وقيل إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم (4/632)
74 - { إلا إبليس } الاستثناء متصل على تقدير أنه كان متصفا بصفات الملائكة داخلا في عدادهم فغلبوا عليه أو منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم : أي لكن إبليس { استكبر } أي أنف من السجود جهلا منه بأنه طاعة لله { و } كان استكباره استكبار كفر فلذلك { كان من الكافرين } أي صار منهم بمخالفته لأمر الله واستكباره عن طاعته أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة والأعراف وبني إسرائيل والكهف وطه (4/632)
ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به فـ 75 - { قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } أي ما صرفك وصدك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة وأضاف خلقه إلى نفسه تكريما له وتشريفا مع أنه سبحانه خالق كل شيء أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد قال مجاهد : اليد هنا بمعنى التأكيد والصلة مجازا كقوله : { ويبقى وجه ربك } وقيل أراد باليد القدرة يقال : مالي بهذا الأمر يد ومالي به يدان : أي قدرة ومنه قول الشاعر :
( تحملت من ذلفاء ما ليس لي يد ... ولا للجبال الراسيات يدان )
وقيل التثنية في اليد للدلالة على أنها ليس بمعنى القوة والقدرة بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه و ما في قوله لما خلقت هي المصدرية أو الموصولة وقرأ الجحدري لما بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى حين كما قال أبو علي الفارسي وقرئ بيدي على الإفراد { أستكبرت } قرأ الجمهور بهمزة الاستفهام وهو استفهام توبيخ وتقريع و { أم } متصلة وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بألف وصل ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر :
( تروح من الحي أم تبتكر )
وقول الآخر :
( بسبع رمين الجمر أم بثمانيا )
ويحتمل أن يكون خبرا محضا من غير إرادة للاستفهام فتكون أم منقطعة والمعنى : استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل أ { كنت من العالين } أي المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك وقيل المعنى : استكبرت عن السجود الآن أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك (4/632)
وجملة 76 - { قال أنا خير منه } مستأنفة جواب سؤال مقدر ادعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن ثم علل ما ادعاه من كونه خيرا منه بقوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم وإن استغني عنها طردتن وأيضا فالطين يستولي على النار فيطفئها وأيضا فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض وعلى كل حال فقد شرف آدم بشرف وكرم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر وذلك أن الله خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه والجواهر في أنفسها متجانسة وإنما تشرف بعارض من عوارضها (4/633)
وجملة 77 - { قال فاخرج منها } مستأنفة كالتي قبلهاك أي فاخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة ثم علل أمره بالخروج بقوله : { فإنك رجيم } أي مرجوم بالكواكب مطرود من كل خير (4/633)
78 - { وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين } أي طردي لك عن الرحمة وإبعادي لك منها ويوم الدين يوم الجزاء فأخبر سبحانه وتعالى أن تلك اللغة مستمرة له دائمة عليه ما دامت الدنيا ثم في الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق وليس المراد أن اللعنة تزول عنه في الآخرة بل هو ملعون أبدا ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسي عنده اللعنة ويذهل عند الوقوع فيه منها صارت كأنها لم تكن بجنب ما يكون فيه (4/633)
79 - { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } مستأنفة كما تقدم فيها قبلها : أي أمهلني ولا تعاجلني إلى غاية هي يوم يبعثون : يعني آدم وذريته (4/634)
80 - { قال فإنك من المنظرين } أي الممهلين (4/634)
81 - { إلى يوم الوقت المعلوم } الذي قدره الله لفناء الخلائق وهو عند النفخة الآخرة وقيل هو النفخة الأولى قيل إنما طلب إبليس الإنظار إلى يوم البعث ليتخلص من الموت لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فأجيب بما يبطل مراده وينقض عليه مقصده وهو الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهو الذي يعلمه الله ولا يعلمه غيره (4/634)
فلما سمع اللعين إنظار الله له إلى ذلك الوقت 82 - { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين } فأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم وإدخال الشبه عليهم حتى يصيروا غاوين جميعا (4/634)
ثم لما علم أن كيده لا ينجع إلا في أتباعه وأحزابه من أهل الكفر والمعاصي استثنى من لا يقدر على إضلاله ولا يجد السبيل إلى إغوائه فقال : 83 - { إلا عبادك منهم المخلصين } أي الذين أخلصتهم لطاعتك وعصمتهم من الشيطان الرجيم وقد تقدم تفسير هذه الآيات في سورة الحجر وغيرها وقد أقسم ها هنا بعزة الله وأقسم في موضع آخر بقوله { فبما أغويتني } ولا تنافي بين القسمين فإن إغواءه إياه من آثار عزته سبحانه (4/634)
وجملة 84 - { قال فالحق والحق أقول } مستأنفة كالجمل التي قبلها قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب أو هما منصوبان على الإغراء : أي الزموا الحق أو مصدران مؤكدان لمضمون (4/634)
قوله : 85 - { لأملأن جهنم } وقرأ ابن عباس ومجاهد والأعمش وعاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني فرفع الأول على أنه مبتدأ وخبره مقدر : أي فالحق مني أو فالحق أنا أو خبره لأملأن أو هو خبر مبتدإ محذوف وأما نصب الثاني فبالفعل المذكور بعده : أي وأنا أقول الحق وأجاز الفراء وأبو عبيد أن يكون منصوبا بمعنى حقا لأملأن جهنم واعترض عليهما بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها وروي عن سيبويه والفراء أيضا أن المعنى فالحق أن إملاء جهنم وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قرآ برفعها فرفع الأول على ما تقدم ورفع الثاني بالابتداء وخبره الجملة المذكورة بعده والعائد محذوف وقرأ ابن السميفع وطلحة بن مصرف بخلضهما على تقدير حرف القسم قال الفراء : كما يقول الله عز و جل لأفعلن كذا وغلطه أبو العباس ثعلب وقال : لا يجوز الخفض بحر مضمر وجملة { لأملأن جهنم } جواب القسم على قراءة الجمهور وجملة { والحق أقول } معترضة بين القسم وجوابه ومعنى { منك } أي من جنسك من الشياطين { وممن تبعك منهم } أي من ذرية آدم فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية و { أجمعين } تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه : أي لأملأنها من الشياطين وأتباعهم أجميعن (4/634)
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره لا عرض الدنيا الزائل فقال : 86 - { قل ما أسألكم عليه من أجر } والضمير في عليه راجع إلى تبليغ الوحي ولم يتقدم له ذكر ولكنه مفهوم من السياق وقيل هو عائد إلى ما تقدم من قوله : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } وقيل الضمير راجع إلى القرآن وقيل إلى الدعاء إلى الله على العموم فيشمل القرآن وغيره من الوحي ومن قول الرسول لله والمعنى ما أطلب منكم من جعل تعطونيه عليه { وما أنا من المتكلفين } حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه والتكلف : التصنع (4/635)
87 - { إن هو إلا ذكر للعالمين } أي ما هذا القرآن أو الوحي أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر من الله عز و جل للجن والإنس قال الأعمش : من القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين (4/635)
88 - { ولتعلمن } أيها الكفار { نبأه } أي ما أنبأ عنه وأخبر به من الدعاء إلى الله وتوحيده والترغيب إلى الجنة والتحذير من النار { بعد حين } قال قتادة والزجاج والفراء : بعد الموت وقال عكرمة وابن زيد : يوم القيامة وقال الكلبي : من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا ومن مات علمه بعد الموت وقال السدي : وذلك يوم بدر
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { إذ يختصمون } أن الخصومة هي : { إذ قال ربك } إلخ وأخرج ابن جرير وابن الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر قال : خلق الله أربعا بيده : العرش وجنة عدن والقلم وآدم وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الهل بن الحارث قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خلق الله ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس الفردوس بيده ] وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { فالحق والحق أقول } قال : أنا الحق أقول الحق وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قل ما أسألكم عليه من أجر } قال : قل يا محمد { ما أسألكم عليه } ما أدعوكم إليه { من أجر } عرض دنيا وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال : بينما رجل يحدث في المسجد فقال فيما يقول : { يوم تأتي السماء بدخان مبين } قال : دخان يكون يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام قال : قمنا حتى دخلنا على عبد الله وهو في بيته وكان متكئا فاستوى قاعدا فقال : يا أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } وأخرج البخاري عن عمر قال : نهينا عن التكلف وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي عن سلمان قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتكلف للضيف (4/635)
سورة الزمر
هي اثنتان وسبعون آية وقيل خمس وسبعون
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة الزمر بمكة وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال : نزلت بمكة سورة الزمر سوى ثلاثة آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الثلاث الآيات وقال آخرون : إلى سبع آيات من قوله : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } إلى آخر السبع وأخرج النسائي عن عائشة قالت [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر ] وأخرجه الترمذي عنها بلفظ : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل ]
قوله : 1 - { تنزيل الكتاب } ارتفاعه على أنه خبر مبتدإ محذوف هو اسم إشارة : أي هذا تنزيل وقال أبو حيان إن المبتدأ المقدر لفظ هو ليعود على قوله : { إن هو إلا ذكر للعالمين } كأنه قيل : وهذا الذكرما هو ؟ فقيل هو تنزيل الكتاب وقيل ارتفاعه على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده : أي تنزيل كائن من الله وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء قال الفراء : ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل وأجاز الفراء والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدر : أي اتبعوا أو اقرأوا تنزيل الكتاب وقال الفراء : يجوز نصبه على الإغراء : أي الزموا والكتاب هو القرآن وقوله : { من الله العزيز الحكيم } على الوجه الأول صلة للتنزيل أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدإ محذوف أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدر (4/636)
2 - { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } الباء سببية متعلقة بالإنزال : أي أنزلناه بسبب الحق ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو حال من الفاعل : أي متلبسين بالحق أو من المفعول : أي متلبسا بالحق والمراد كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف قال مقاتل : يقول لم ننزله باطلا لغير شيء (4/637)
3 - { فاعبد الله مخلصا له الدين } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وانتصاب مخلصا على الحال من فاعل اعبد والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه والدين العبادة والطاعة ورأسها توحيد الله وأنه لا شريك له قرأ الجمهور الدين بالنصب على أنه مفعول مخلصا وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن مخلصا مسند إلى الدين على طريقة المجاز قيل وكان عليه أن يقرأ مخلصا بفتح اللام وفي الآية دليل على وجوب النية وإخلاصها عن الشوائب لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأم في الأقوال والأفعال النية كما في حديث [ إنما الأعمال بالنيات ] وحديث [ لا قول ولا عمل إلا بنية ] (4/638)
وجملة 4 - { ألا لله الدين الخالص } مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإخلاص : أي إن الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص الذي أمر به قال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله { والذين اتخذوا من دونه أولياء } لما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص وأن الدين الخالص له لا لغيره بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص والموصول عبارة عن المشركين ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله { إن الله يحكم بينهم } وجملة { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } في محل نصب على الحال بتقدير القول والاستثناء مفرغ من أعم العلل والمعنى : والذين لم يخلصوا العبادة لله بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريبا والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام وهم المرادون بالأولياء والمراد بقوله : { إلا ليقربونا إلى الله زلفى } الشفاعة كما حكاه الواحدي عن المفسرين قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا : الله فيقال لهم : ما معنى عبادتكم للأصنام ؟ قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده قال الكلبي : جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف : { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة } والزلفى اسم أقيم مقام المصدر كأنه قال : إلا ليقربونا إلى الله تقريبا وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد قالوا ما نعبدهم ومعنى { إن الله يحكم بينهم } أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحقه وقيل بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا وحذف الأول لدلالة الحالة عليه ومعنى { في ما هم فيه يختلفون } في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك فإن كل طائفة تدعي أن الحق معها { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } أي لا يرشد لدينه ولا يوفق للاهتداء إلى الحق من هو كاذب في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله وكفر باتخاذها آلهة وجعلها شركاء لله والكفار صيغة مبالغة تدل على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية وقرأ الحسن والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار ورويت هذه القراءة عن أنس (4/638)
5 - { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى } هذا مقرر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق فلو أراد أن يتخذ ولدا لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ولم يتأت ذلك إلا بأن يصطفي { مما يخلق ما يشاء } أي يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق لعدم المجانسة بينهما فلم يبق إلا أن يصطفيه عبدا كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ فمعنى الآية : لو أراد أن يتخذ ولدا لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته ولهذا نزه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد عن الاطلاق فقال : { سبحانه } أي تنزيها له عن ذلك وجملة { هو الله الواحد القهار } مبينة لتنزهه بحسب الصفات بعد تنزهه بحسب الذات : أي هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له القهار لكل مخلوقاته ومن كان متصفا بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه لأن الولد مماثل لوالده ولا مماثل له سبحانه ومثل هذه الآية قوله سبحانه { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا } (4/638)
ثم لما ذكر سبحانه كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحداص قهارا ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال : 6 - { خلق السموات والأرض بالحق } أي لم يخلقهما باطلا لغير شيء ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد ثم بين كيفية تصرفه في السموات والأرض فقال { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض يقال كور المتاع : إذا ألقى بعضه على بعض ومنه كور العمام فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه ومعنى تكوير النهار على الليل : تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته وهو معنى قوله تعالى : { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا } هكذا قال قتادة وغيره وقال الضحاك : أي يلقى هذا على هذا وهذا على هذا وهو مقارب للقول الأول وقيل معنى الآية : أن ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل وهو معنى قوله : { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } وقيل المعنى : إن هذا يكر على هذا وهذا يكر على هذا كرورا متتابعا قال الراغب : تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة اهـ والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما قال الرازي : إن النور والظلمة عسكران عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل وهما الشمس والقمر فقال : { وسخر الشمس والقمر } أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ثم بين كيفية هذا التسخير فقال : { كل يجري لأجل مسمى } أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وذلك يوم القيامة وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة يس { ألا هو العزيز الغفار } ألا حرف تنبيه والمعنى : تنبهوا أيها العباد فالله هو الغالب الساتر لذنونب خلقه بالمغفرة ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته وبديع صنعه فقال : { خلقكم من نفس واحد } وهي نفس آدم { ثم جعل منها زوجها } جاء بثم للدلالة على ترتيب خلق حواء على خلق آدم وتراخيه عنه لأنها خلقت منه والعطف : إما على مقدر هو صفة لنفس قال الفراء والزجاج التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ثم جعل منها زوجها ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة : أي من نفس انفردت ثم جعل إلخ والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته الباهرة فقال : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } وهو معطوف على خلقكم وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها فيكون الإنزال حقيقة ويحتمل أن يكون مجازا لأنها لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعي بالماء والماء منزل من السماء كانت الأنعام كأنها منزلة لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله :
( إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا )
وقيل إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل أو بمعنى أعطى وقيل جعل الخلق إنزالا لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء والثمانية الأزواج هي ما في قوله : { من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع الذكر والأنثى وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأنعام ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته البديعة فقال : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم وخلقا مصدر مؤكد للفعل المذكور و { من بعد خلق } صفة له : أي خلقا كائنا من بعد خلق قال قتادة والسدي : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما وقال ابن زيد : خلقكم خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم وقوله : { في ظلمات ثلاث } متعلق بقوله يخلقكم وهذه الظلمات الثلاث هي : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وقال سعيد بن جبير : ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل وقال أبو عبيدة : ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم والإشارة بقوله : { ذلك الله } إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة والاسم الشريف خبره { ربكم } خبر آخر { له الملك } الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شركة لغير فيه وهو خبر ثالث وقوله : { لا إله إلا هو } خبر رابع { فأنى تصرفون } أي فكيف تنصرفون عن عبادته وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره قرأ حمزة { أمهاتكم } بكسر الهمزة والميم وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم
وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال : [ يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا قال : يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له ثم تلا هذه الآية { ألا لله الدين الخالص } ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يكور الليل } قال : يحمل الليل وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { خلقا من بعد خلق } قال : علقة ثم مضغة ثم عظاما { في ظلمات ثلاث } البطن والرحم والمشيمة (4/639)
لما ذكر سبحانه النعمالتي أنعم بها على عباده وبين لهم من بديع صنعه وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله : 7 - { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } أي غير محتاج إليكم ولا إلى أيمانكم ولا إلى عبادتكم له فإنه الغني المطلق { و } مع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن فهو أيضا { لا يرضى لعباده الكفر } أي لا يرضى لأحد من عباده الكفر ولا يحبه ولا يأمر به ومثل هذه الآية قوله : { إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد } ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه و سلم : [ يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ]
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها وإن الكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر أو هي خاصة ؟ والمعنى : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث وتابعه على ذلك عكرمة والسدي وغيرهما ثم اختلفوا في الآية اختلافا آخر فقال قوم : إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه وقال آخرون : إنه لا يريده ولا يرضاه والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جدا وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية والمثبتون للإرادة مع عدم الرضى بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه { يضل من يشاء } { ويهدي من يشاء } { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز ثم لما ذكر سبحانه أنه لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر فقال : { وإن تشكروا يرضه لكم } أي يرضى لكم الشكر المدلول عليه بقوله وإن تشكروا ويثبكم عليه وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه : { لئن شكرتم لأزيدنكم } قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم بإسكان الهاء من يرضه وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان وابن كثير والكسائي وابن محيصن وورش عن نافع واختلس الباقون { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى { ثم إلى ربكم مرجعكم } يوم القيامة { فينبئكم بما كنتم تعملون } من خير وشر وفيه تهديد شديد { إنه عليم بذات الصدور } أي ما تضمره القلوب وتستره فكيف بما تظهره وتبديه (4/642)
8 - { وإذا مس الإنسان ضر } أي ضر كان من مرض أو فقر أو خوف { دعا ربه منيبا إليه } أي راجعا إليه مستغيثا به في دفع ما نزل به تاركا ما كان يدعوه ويستغيث به من ميت أو حي أو صنم أو غير ذلك { ثم إذا خوله نعمة منه } أي أعطاء وملكه يقال خوله أي ملكه إياه وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد :
( هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا )
ومنه قول أي النجم :
( أعطى ولم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول )
{ نسي ما كان يدعو إليه من قبل } أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله وقيل نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضرع إليه ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله وهو معنى قوله : { وجعل لله أندادا } أي شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها ويعبدها { ليضل عن سبيله } أي ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد وقال السدي : يعني أندادا من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره ثم أمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يهدد من كان متصفا بتلك الصفة فقال : { قل تمتع بكفرك قليلا } أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا فمتاع الدنيا قليل ثم علل ذلك بقوله : { إنك من أصحاب النار } أي مصيرك إليها عن قريب وفيه من التهديد أمر عظيم قال الزجاج : لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد والوعيد قرأ الجمهور { ليضل } بضم الياء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها (4/364)
ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال : 9 - { أمن هو قانت آناء الليل } وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه و سلم والمعنى ذلك الكافر أحسن حالا ومالا أمن هو قائم بطاعات الله في السراء والضراء في ساعات الليل مستمر على ذلك غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به قرأ الحسن وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي { أمن } بالتشديد وقرأ نافع وابن كثير وحمزة ويحيى بن وثاب والأعمش بالتخفيف فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة وأدغمت الميم في الميم وأم هي المتصلة معادلها محذوف تقديره : الكافر خير أم الذي هو قانت وقيل هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة أي بل أمن هو قانت كالكافر وأما على القراءة الثانية فقيل الهمزة للاستفهام دخلت على من والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف : أي أمن هو قانت كمن كفر وقال الفراء : إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ومن منادى وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه و سلم المأمور بقوله قل تمتع والتقدير : يا من هو قانت قيل كيت وكيت وقيل التقدير : يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء وضعف ذلك أبو حيان وقال : هو أجنبي عما قبله وعما بعده وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو علي الفارسي واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدراية
وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل المطيع وقيل الخاشع في صلاته وقيل القائم في صلاته وقيل الداعي لربه قال النحاس : أصل القنوت الطاعة فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة والمراد بآناء الليل ساعاته وقيل جوفه وقيل ما بين المغرب والعشاء وانتصاب { ساجدا وقائما } على الحال أي جامعا بين السجود والقيام وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة ومحل { يحذر الآخرة } النصب على الحال أيضا : أي يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل { ويرجو رحمة ربه } فيجمع بين الرجاء والخوف وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز قيل وفي الكلام حذف والتقدير : كمن لا يفعل شيئا من ذلك كما يدل عليه السياق ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم قولا آخر يتبين به الحق من الباطل فقال { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } أي الذي يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق والذين لا يعلمون ذلك أو الذي يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك أو المراد العلماء والجهال ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل ولا بين العالم والجاهل قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي وقيل المراد بالذين يعلمون : هم العاملون بعلمهم فإنهم المنتفعون به لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم { إنما يتذكر أولو الألباب } أي إنما يتعظ ويتدبر ويتفكر أصحاب العقول وهم المؤمنون لا الكفار فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولا فهي كالعدم وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله سبحانه (4/644)
10 - { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم } لما نفى سبحانه المساواه بين من يعلم ومن لا يعلم وبين أنه { إنما يتذكر أولو الألباب } أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به والمعنى : يا أيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معاصيه وإخلاص الإيمان له ونفي الشركاء عنه والمراد قل لهم قولي هذا بعينه ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } أي للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة وهي الجنة وقوله : { في هذه الدنيا } متعلق بأحسنوا وقيل هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها فيكون المعنى : للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية والظفر والغنيمة والأول أولى ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال : { وأرض الله واسعة } أي فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله والعمل بما أمر به والترك لما نهى عنه ومثل ذلك قوله سبحانه : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء وقيل المراد بالأرض هنا : أرض الجنة رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله : { جنة عرضها السموات والأرض } والأول أولى ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا وكان لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة وعلى كف النفس عن الشهوات أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } أي يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب : أي بما لا يقدر على حصره حاصر ولا يستطيع حسبانه حاسب قال عطاء : بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف وقال مقاتل : أجرهم الجنة وأرزاقهم فيها بغير حساب والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه وهذه فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه ويقيدها بقيده فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل ولا يجلب خيرا قد سلب ولا يدفع مكروها قد وقع وإذا تصورالعاقل هذا حق تصوره وتقله حق تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم وظفر بهذا الجزاء الخطير وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع وما أحسن قول من قال :
( أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب )
( هناك يحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه للضرورة أوجب ) (4/645)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال : 11 - { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : ما يحملك على الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها ؟ فأنزل الله الآية وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة (4/646)
12 - { وأمرت لأن أكون أول المسلمين } أي من هذه الأمة وكذلك كان صلى الله عليه و سلم فإنه أول من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد واللام للتعليل : أي وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون وقيل إنها مزيدة للتأكيد والأول أولى
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } يعني الكفار الذي لم يردالله أن يطهر قلوبهم فيقولون لا إله إلا الله ثم قال : { ولا يرضى لعباده الكفر } وهم عباده المخلصون الذين قال : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة { ولا يرضى لعباده الكفر } قال : لا يرضى لعباده المسلمين الكفر وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : والله ما رضي الله لعبد ضلالة ولا أمره بها ولا دعا إليها ولكن رضي لكم طاعته وأمركم بها ونهاكم عن معصيته وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن عمر أنه تلا هذه الآية : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة } قال : ذاك عثمان بن عفان وفي لفظ : نزلت في عثمان بن عفان وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { أمن هو قانت } الآية قال : نزلت في عمار بن ياسر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يحذر الآخرة } يقول : يحذر عذاب الآخرة وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس قال [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على رجل وهو في الموت فقال : كيف تجدك ؟ قال : أرجو الله وأخاف ذنوني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه الذي يخاف ] أخرجوه من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال الترمذي : غريب وقد رواه بعضهم عن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا (4/646)
قوله : 13 - { قل إني أخاف إن عصيت ربي } أي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده والدعاء إلى ترك الشرك وتضليل أهله { عذاب يوم عظيم } وهو يوم القيامة قال أكثر المفسرين : المعنى إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله قال أبو حمزة اليماني وابن المسيب : هذه الآية منسوخة بقوله : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب لأن قلبه { إنما أمرت أن أعبد الله } فالمراد عصيان هذا الأمر (4/647)
14 - { قل الله أعبد } التقديم مشعر بالاختصاص : أي لا أعبد غيره لا استقالا ولا على جهة الشركة ومعنى { مخلصا له ديني } أنه خالص لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما وقد تقدم تحقيقه في أول السورة قال الرازي : فإن قيل ما معنى التكرير في قوله : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } وقوله : { قل الله أعبد مخلصا له ديني } قلنا : ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان والعبادة والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحدا غير الله (4/647)
15 - { فاعبدوا ما شئتم } أن تعبدوه { من دونه } هذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ كقوله : { اعملوا ما شئتم } وقيل إن الأمر على حقيقته وهو منسوخ بآية السيف والأول أولى { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } أي إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء لأن من دخل النار فقد خسر نفسه وأهله قال الزجاج : وهذا عيني به الكفار فإنهم خسروا وأنفسهم بالتخليد في النار وخسروا أهليلهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة وجملة { ألا ذلك هو الخسران المبين } مستأنفة لتأكيد ما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران ووصفه بكونه مبينا فإنه يدل على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران وأنه لا خسران يساويه ولا عقوبة تدانيه (4/648)
ثم بين سبحانه هذا الخسران الذي حل بهم والبلاء النازل فوقهم بقوله : 16 - { لهم من فوقهم ظلل من النار } الظلل عبارة عن أطباق النار : أي لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم { ومن تحتهم ظلل } أي أطباق من النار وسمي ما تحتهم ظللا لأنها تظل من تحتها من أهل النار لأن طبقات النار صار في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار ومثل هذه الآية قوله : { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } وقوله : { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من وصف عذابهم في النار وهو مبتدأ وخبره قوله : { يخوف الله به عباده } أي يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب ليخافوه فيتقوه وهو معنى { يا عباد فاتقون } أي اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم وقيل هو للكفار وأهل المعاصي وقيل هو عام للمسلمين والكفار (4/648)
17 - { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } الموصول مبتدأ وخبره قوله : { لهم البشرى } والطاغوت بناء مبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت وهو الأوثان والشيطان وقال مجاهد وابن زيد : هو الشيطان وقال الضحاك والسدي : هو الأوثان وقيل إنه الكاهن وقيل هو اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وقيل إنه اسم عربي مشتق من الطغيان قال الأخفش : الطاغوت جمع ويجوز أن يكون واحده مؤنثا ومعنى اجتنبوا الطاغوت : أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله عز و جل وقوله : أن يعبدوها في محل نصب على البدل من الطاغوت بدل اشتمال كأنه قال : اجتنبوا عبادة الطاغوت وقد تقدم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة وقوله : { وأنابوا إلى الله } معطوف على اجتنبوا والمعنى : رجعوا إليه وأقبلوا على عبادته معرضين عما سواه { لهم البشرى } بالثواب الجزيل وهو الجنة وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل أو عند حضور الموت أو عند البعث (4/648)
18 - { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } المراد بالعباد هنا العموم فيدخل الموصوفون بالاجتناب والإنابة إليه دخولا أوليا والمعنى : يستمعون القول الحق من كتاب الله وسنة رسوله فيتبعون أحسنه أي محكمه ويعملون به قال السدي : يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه وقيل هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به وقيل يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص وقيل يأخذون بالعفو ويتركون العقوبة ثم أثنى سبحانه على هؤلاء المذكورين فقال : { أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب } أي هم الذين أوصلهم الله إلى الحق وهم أصحاب العقول الصحيحة لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم ولم ينتفع من عداهم بعقولهم (4/649)
ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة وحرم السعادة فقال : 19 - { أفمن حق عليه كلمة العذاب } من هذه يحتمل أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء وخبرها محذوف : أي كمن يخاف أو فأنت تخلصه أو تتأسف عليه ويحتمل أن تكون شرطية وجوابه { أفأنت تنقذ من في النار } فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معين الإنكار وقال سيبويه إنه كرر الاستفهام لطول الكلام وقال الفراء : المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب والمراد بكلمة العذاب هنا هي قوله تعالى لإبليس : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } وقوله : { لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } ومعنى الآية التسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه كان حريصا على إيمان قومه فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمنا قال عطاء : يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه و سلم عن الإيمان وفي الآية تنزيل لمن يستحق العذاب بمن قد صار فيه وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار (4/649)
ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللا من فوقهم النار ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة فقال : 20 - { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية } وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض ومعنى مبنية أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها وقوة بنائها وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها { تجري من تحتها الأنهار } أي مت تحت تلك الغرف وفي ذلك كما لبهجتها وزيادة لرونقها وانتصاب { وعد الله } على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة لأن قوله { لهم غرف } في معنى وعدهم الله بذلك وجملة { لا يخلف الله الميعاد } مقررة للوعد : أي لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير والشر
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } الآية قال : هم الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { خسروا أنفسهم وأهليهم } قال : أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله فغيبوهم وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : كان سعيد بن زيد وأبو ذر وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول والكلام لا إله إلا الله قالوا بها فأنزل الله على نبيه { يستمعون القول فيتبعون أحسنه } الآية وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد : [ قال لما نزل { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم مناديا فنادى : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة فاستقبل عمر الرسول فرده فقال : يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس فلا يعملون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا ولو يعلمون قدر سخط ربي وعقابه لاستصغروا أعمالهم ] وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة (4/649)
لما ذكر سبحانه الآخرة ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها والنفرة منها فذكر تمثيلا لها في سرعة زوالها وقريب اضمحلالها مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة وصنعه البديع فقال : 21 - { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } أي من السحاب مطرا { فسلكه ينابيع في الأرض } أي فأدخله وأسكنه فيها والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع منها الماء والمعنى أدخل الماء النازل من السماء في الأرض وجعله فيها عيونا جارية أو جعله في ينابيع : أي في أمكنة ينبع منها الماء فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض قال مقاتل : فجعله عيونا وركايا في الأرض { ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه } أي يخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا ألوانه من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر أو من بر وشعير وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف { ثم يهيج } يقال هاج النبت يهيج هيجا إذا تم جفافه قال الجوهري : يقال هاج النبت هياجا : إذا يبس وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر وأهاجت الريح النبت أيبسته قال المبرد : قال الأصمعي : يقال هاجت الأرض تهيج : إذا أدبر نبتها وولى قال : وكذلك هاج النبت { فتراه مصفرا } أي تراه بعد خضرته ونضارته وحسن رونقه مصفرا قد ذهبت خضرته ونضارته { ثم يجعله حطاما } أي متفتتا منكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس { إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } أي فيما تقدم ذكره تذكير لأهل العقول الصحيحة فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها فيتفكرون ويعتبرون ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم وقرب التقضي وذهاب بهجتها وزوال رونقها ونضارتها فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها والميل إليها وإيثارها على دار النعيم الدائم والحياة المستمرة واللذة الخالصة ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر لأن من قدر على هذا قدر على ذلك وقيل هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض والمعنى : أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين ثم يخرجبه دينا بعضه أفضل من بعض فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير وقرأ الجمهور { ثم يجعله } بالرفع عطفا على ما قبله وقرأ أبو بشر بالنصب بإضمار أن ولا وجه لذلك (4/651)
ثم لما ذكر سبحانه أن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ذكر شرح الصدر للإسلام لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به فقال : 22 - { أفمن شرح الله صدره للإسلام } أي وسعه لقبول الحق وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير قال السدي : وسع صدره للإسلام للفرح به والطمأنينة إليه والكلام في الهمزة والفاء كما تقدم في { أفمن حق عليه كلمة العذاب } ومن مبتدأ وخبرها محذوف تقديره كم قسا قلبه وجرح صدره ودل على هذا الخبر المحذوف قوله : { فويل للقاسية قلوبهم } والمعنى : أفمن وسع الله صدره للإسلام فقلبه واهتدى بهديه { فهو } بسبب ذلك الشرح { على نور من ربه } يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء اختياره فصار في ظلمات الضلالة وبليات الجهالة قال قتادة : النور كتاب الله به يؤخذ وإليه ينتهى قال الزجاج : تقدير الآية : أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } قال الفراء والزجاج ك أي عن ذكر الله كما تقول أتخمت عن طعام أكلته ومن طعام أكلته والمعنى : أنه غلظ قلبه وجفا عن قبول ذكر الله يقال قسا القلب إذا صلب وقلب قاس : أي صلب لا يرق ولا يلين وقيل معنى من ذكر الله من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب والمعنى : أنه إذا ذكر الله اشمأزوا والأول أولى ويؤيده قراءة من قرأ عنذكر الله والإشارة بقوله : { أولئك } إلى القاسية قلوبهم وهو مبتدأ وخبره { في ضلال مبين } أي ظاهر واضح (4/651)
ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز فقال : 23 - { الله نزل أحسن الحديث } يعني القرآن وسماه حديثا لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحدث به قومه ويخبرهم بما ينزل عليه منه وفيه بيان أن أحسن القول المذكور سابقا هو القرآن وانتصاب { كتابا } على البدل من أحسن الحديث ويحتلم أن يكون حالا منه { متشابها } صفة لكتابا : أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والإحكام وصحة المعاني وقوة المباني وقيل يشبه كتب الله المنزلة عن أنبيائه و { مثاني } صفة أخرى لكتابا : أي تثنى فيه القصص وتنكرر فيه المواعظ والأحكام وقيل يثنى من التلاوة فلا يمل سامعه ولا يسأم قارئه قرأ الجمهور { مثاني } بفتحالياء وقرأ هشام عن ابن عامر وبشر بسكونها تخفيفا واستثقالا لتحريكها أو على أنها خبر مبتدإ محذوف : أي هو مثاني وقال الرازي في تبيين مثانية أن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكررة زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفصل وأحوال السموات والأرض والجنة والنار والنور والظلمة واللوح والقلم والملائكة والشياطين والعرش والكرسي والوعد والوعيد والرجاء والخوف والمقصود من ذلك البيان بأن كل ما سوى الحق زوج وأن الفرد الأحد الحق هو الله ولا يخفى ما في كلامه هذا من التكلف والبعد عن مقصود التنزيل { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } هذه الجملة يجوز أن تكون صفة لكتابا وأن تكون حالا منه لأنه وإن كان نكرة فقد تخصص بالصفة أو مستأنفة لبيان ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه والاقشعرار التقبض يقال اقشعر جلده : إذا تقبض وتجمع من الخوف والمعنى : أنها تأخذهم منه قشعريرة قال الزجاج : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله { ثم تلين جلودهم وقلوبهم } إذا ذكرت آيات الرحمة قال الواحدي : وهذا قول جميع المفسرين ومن ذلك قول امرئ القيس :
( فبت أكابد ليل التمام ... والقلب من خشية مقشعر )
وقيل المعنى : أن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرت الجلود منه إعظاما له وتعجبا من حسنه وبلاغته ثم تلين جلودهم وقلوبهم { إلى ذكر الله } عدي تلين بإلى لتضمينه فعلا يتعدى بها كأنه قيل : سكنت واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة ومفعول ذكر الله محذوف والتقدير : إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته وحذف للعلم به قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنها تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذكر في أهلالبدع وهو من الشيطان والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات وهو مبتدأ و { هدى الله } خبره : أي ذلك الكتاب هى الله { يهدي به من يشاء } أي يهديه من عباده وقيل إن الإشارة بقوله ذلك إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه ورجاء ثوابه { ومن يضلل الله } أي يجعل قلبه قاسيا مظلما غير قابل للحق { فما له من هاد } يهديه الحق ويخلصه من الضلال قرأ الجمهور { من هاد } بغير ياء وقرأ ابن كثير وابن محيصن بالياء (4/652)
ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب فقال : 24 - { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة } والاستفهام للإنكار وقد تقدم الكلام فيه وفي هذه الفاء الداخلة على من في قوله : { أفمن حق عليه كلمة العذاب } ومن مبتدأ وخبرها محذوف لدلالة المقام عليه والمعنى : أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كم هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك ولا يحتاج إلى الاتقاء قال الزجاج : المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة قال عطاء وابن زيد : يرمى به مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه وجهه وقال مجاهد يجر على وجهه في النار قال الأخفش : المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد ؟ مثل قوله : { أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة } ثم أخبر سبحانه عما تقوله الخزنة للكفار فقال : { وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون } وهو معطوف على يتقي : أي ويقال لهم وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق قال عطاء : أي جزاء ما كنتم تعملون ومثل هذه الآية قوله : { هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } وقد تقدم الكلام على معنى الذوق في غير موضع (4/653)
ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار فقال : 25 - { كذب الذين من قبلهم } أي من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه و سلم والمعنى : أنهم كذبوا رسلهم { فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } أي من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها وذلك عند أمنهم وغفلتهم عن عقوبة الله لهم بتكذيبهم (4/654)
26 - { فأذاقهم الله الخزي } أي الذل والهوان { في الحياة الدنيا } بالمسخ والخسف والقتل والأسر وغير ذلك { ولعذاب الآخرة أكبر } لكونه في غاية الشدة مع دوامه { لو كانوا يعلمون } أي لو كانوا ممن يعلم الأشياء ويتفكر فيها ويعمل بمقتضى علمه قال المبرد : يقال لكم ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته : أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما قال : والخزي المكروه
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } الآية قال : ما في الأرض ماء إلا نزل من السماء ولكنعروق في الأرض تغيره فذلك قوله : { فسلكه ينابيع في الأرض } فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعده وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } قال : أبو بكر الصديق وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : [ تلا النبي صلى الله عليه و سلم هذه الآية { أفمن شرح الله صدره } قلنا يا نبي الله كيف انشراح صدره ؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا : فما علامة ذلك يا رسول الله ؟ فقال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت ] وأخرج ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعا مرسلا وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر [ أن رجلا قال : يا نبي الله أي المؤمنين أكيس ؟ قال : أكثرهم ذكرا للموت وأحسنهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع فقالوا : ما آية ذلك يا نبي الله قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت ] وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بنحوه وزاد فيه ثم قرأ { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } وأخرج الترمذي وابن مردويه وابن شاهين في الترغيب في الذكر والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعدالناس من الله القلب القاسي ] وأخرج ابن جرير عن ابن عباس [ قال : قالوا يا رسول الله لو حدثتنا فنزل { الله نزل أحسن الحديث } الآية ] وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { مثاني } قال : القرآن كله مثاني وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآي قال : القرآن يشبه بعضه بعضا ويرد بعضه إلى بعض وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : كتاب الله مثاني ثني فيه الأمر مرارا وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قرأوا القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت : فإن ناسا ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية قالت : أعوذ بالله من الشيطان وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } قال : ينطلق به إلى النار مكتوفا ثم يرمى به فيها ما تمس وجهه النار (4/654)
قوله : 27 - { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } قد قدمنا تحقيق المثل وكيفية ضربه في غير موضع ومعنى { من كل مثل } ما يحتاجون إليه وليس المراد ما هو أعم من ذلك فهو هنا كما في قوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } أي من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم وقيل المعنى : ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء { لعلهم يتذكرون } يتعظمون فيعتبرون (4/656)
وانتصاب 28 - { قرآنا عربيا } على الحال من هذا وهي حال مؤكدة وتسمى هذه حالا موطئة لأن الحال في الحقيقة هو عربيا وقرآنا توطئة له نحو جاءني زيد رجلا صالحا : كذا قال الأخفش ويجوز أن ينتصب على المدح قال الزجاج : عربيا منتصب على الحال وقرآنا توكيد ومعنى { غير ذي عوج } لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه قال الضحاك : أي غير مختلف قال النحاس أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك وقيل غير متضاد وقيل غير ذي لبس وقيل غير ذي لحن وقيل غير ذي شك كما قال الشاعر :
( وقد أتاك يمين غير ذي عوج ... من الإله وقول غير مكذوب )
{ لعلهم يتقون } علة أخرى بعد العلة الأولى وهي { لعلهم يتذكرون } أي لكي يتقوا الكفر والكذب (4/656)
ثم ذكر سبحانه مثلا من الأمثال القرآنية للتذكير والإيقاظ فقال : 29 - { ضرب الله مثلا } أي تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها ثم بين المثل فقال : { رجلا فيه شركاء متشاكسون } قال الكسائي : نصب رجلا لأنه تفسير للمثل وقيل هو منصوب بنزع الخافض : أي ضرب الله مثلا برجل وقيل إن رجلا هو المفعول الأول ومثلا هو المفعول الثاني وأخر المفعول الأول ليتصل بما هو من تمامه وقد تقدم تحقيق هذا في سورة يس وجملة { فيه شركاء } في محل نصب صفة لرجل والتشاكس التخالف قال الفراء : أي مختلفون وقال المبرد : أي متعاسرون من شكس يشكس شكسا فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر قال الجوهري : التشاكس الاختلاف قال : ويقال رجل شكس بالتسكين : أي صعب الخلق وهذا مثل من أشرك بالله وعبد آلة كثيرة ثم قال : { ورجلا سلما لرجل } أي خالصا له وهذا مثل من يعبد الله وحده قرأ الجمهور { سلما } بفتح السين واللام وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية بكسر السين وسكون اللام وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب { سلما } بالألف وكسر اللام اسم فاعل من سلم له فهو سالم واختار هذه القراءة أبو عبيد قال : لأن السالم الخالص ضد المشترك والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب ها هنا وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما فالسلم وإن كان ضد الحرب فله معنى آخر بمعنى سالم من سلم له كذ : إذا خلص له وأيضا يلزمه في سالم ما ألزمه به لأنه قال شيء سالم : أي لا عاهة به واختار أبو حاتم القراءة الأولى والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة أو على حذف مضاعف : أي ذا سلم ومثلها قراءة سعيد بن جبير ومن معه ثمجاء سبحانه بما يدل على التفاوت بين الرجلين فقال : { هل يستويان مثلا } وهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد والمعنى : هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ونياتهم متباينة يستخدمه كل واحد منهم فيتعب وينصب مع كون كل واحد منهم غير راض بخدمته وهذا الذي يخدم واحدا لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه وإذا عصاه عفا عنه فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا قدر عاقل أن يتفوه باستوائهما لأن أحدهما في أعلى المنزل والآخر في أدناها وانتصاب مثلا على التمييز المحول عن الفاعل لأن الأصل هل يستوي مثلهما وأفرد التمييز ولم يثنه لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبينا للجنس وجملة { الحمد لله } تقرير لما قبلها من نفي الاستواء وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به ثم أضرب سحانه عن نفي الاستواء المفهوم عن الاستفهام الإنكاري إلى بيان أكثر الناس لا يعلمون فقال : { بل أكثرهم لا يعلمون } وهم المشركون فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره ووضوحه قال الواحدي والبغوي : والمراد بالأكثر الكل والظاهر خلاف ما قالاه فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه وعلو مكانه وإن الشرك لا يماثله بوجه من الوجوه ولا يساويه في وصف من الأوصاف ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة وأن الحمد مختص به (4/656)
ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بأن الموت يدركه ويدركهم لا محالة فقال : 30 - { إنك ميت وإنهم ميتون } قرأ الجمهور { ميت } و { ميتون } بالتشديد وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق واليماني مائت ومائتون وبها قرأ عبد الله بن الزبير وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته وموتهم مستقبلا ولا وجه للاستحسان فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى قال الفراء والكسائي : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت والميت بالتخفيف من قدمات وفارقته الروح قال قتادة : نعيت إلى النبي صلى الله عليه و سلم نفسه ونعيت إليهم أنفسهم ووجه هذا الاختيار الإعلام للصحابة بأنه يموت (4/657)
فقد كان بعضهم يعتق أنه لا يموت مع كونه توطئة وتمهيدا لما بعده حيث قال : 31 - { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } أي تخاصمهم يا محمد وتحتج عليهم بأنك قد بلغتهم وأنذرتهم وهم يخاصمونك أو يخاصم المؤمن الكافر والظالم والمظلوم (4/657)
ثم بين سبحانه حال كل فريق من المختصمين فقال : 32 - { فمن أظلم ممن كذب على الله } أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له ولدا أو شريكا أو صاحبة { وكذب بالصدق إذ جاءه } وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من دعاء الناس إلى التوحيد وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور وما أعد الله للمطيع والعاصي ثم استفهم سبحانه استفهاما تقريريا فقال : { أليس في جهنم مثوى للكافرين } أي أليس لهؤلاء المفترين المكذبين بالصدق والمثوى المقام وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواء وثوبا مثل مضى مضاء ومضيا وحكى أبو عبيد أنه يقال أثوى وأنشد قول الأعشى :
( أثوى وأقصر ليله ليرودا ... فمضت وأخلف من قبيلة موعدا )
وأنكر ذلك الأصمعي وقال لا نعرف أثوى (4/657)
ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدقين فقال : 33 - { والذي جاء بالصدق وصدق به } الموصول في موضع رفع الابتداء وهو عبارة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن تابعه وخبره { أولئك هم المتقون } وقيل الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي صدق أبو بكر وقال مجاهد : الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي صدق به علي بن أبي طالب وقال السدي : الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال قتادة ومقاتل وابن زيد : الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه و سلم والذي صدق به المؤمنون وقال النخعي : الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة وقيل إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله وأرشد إلى ما شرعه لعباده واختار هذا ابن جرير وهو الذي اختاره من هذه الأقوال ويؤيده قراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به ولفظ كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفردا فمعناه الجمع لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله : { أولئك هم المتقون } أي المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة وقرأ أبو صالح وصدق به مخخفا : أي صدق به الناس (4/658)
ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدقين في الآخرة : 34 - { لهم ما يشاؤون عند ربهم } أي لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات ودفع المضرات وتكفير السيئات وفي هذا ترغيب عظيم وتشويق بالغ والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من جزائهم وهو مبتدأ وخبره قوله : { جزاء المحسنين } أي الذين أحسنوا في أعمالهم وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (4/658)
ثم بين سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم فقال : 35 - { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا } فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى واللام متعلقة بيشاءون أو بالمحسنين أو بمحذوف قرأ الجمهور { أسوأ } على أنه أفعل تفضيل وقيل ليست للتفضيل بل بمعنى سيء الذي عملوا وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسواء بألف بين الهمزة والواو بزنة أجمال جمع سوء { ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } لما ذكر سبحانه ما يدل على المضار عنهم ذكر ما يدل على جلب أعظم المنافع إليهم وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصدا إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل قال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم المساوئ
وقد أخرج الآجري والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { غير ذي عوج } قال : غير مخلوق وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ضرب الله مثلا رجلا } الآية قال : الرجل يعبد آلهة شتى فهذا مثل ضربه الله لأهل الأوثان { ورجلا سلما } يعبد إلها واحدا ضرب لنفسه مثلا وأخرجا عنه أيضا في قوله : { ورجلا سلما } قال : ليس لأحد فيه شيء وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال : لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبلنا { إنك ميت وإنهم ميتون } الآية حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها نزلت فينا وأخرج نعيم بن حماد في الفتن والحاكم وصححه وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عنه أيضا قال : نزلت علينا الآية { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة فقلنا هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن منيع وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام قال : [ لما نزلت { إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } قلت : يا رسول الله أيكرر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه قال الزبير : فوالله إن الأمر لشديد ] وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سيعد الخدري قال : لما نزلت { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { والذي جاء بالصدق } يعني بلا إله إلا الله { وصدق به } يعني برسول الله صلى الله عليه و سلم { أولئك هم المتقون } يعني اتقوا الشرك وأخرج ابن جرير والباوردي في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان وله صحبة عن علي بن أبي طالب قال : الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه و سلم وصدق به أبو بكر وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مثله (4/658)
قوله : 36 - { أليس الله بكاف عبده } قرأ الجمهور { عبده } بالإفراد وقرأ حمزة والكسائي { عباده } بالجمع فعلى القراءة الأولى المراد النبي صلى الله عليه و سلم أو الجنس ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم دخولا أوليا وعلى القراءة الأخرى المراد الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع واختار أبو عبيد قراءة الجمهور لقوله عقبه ويخوفونك والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه كأنه بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره وقيل المراد بالعبد والعباد ما يعم المسلم والكافر قال الجرجاني : إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر هذا بالثواب وهذا بالعقاب وقرئ بكافي عباده بالإضافة وقرئ يكافي بصيغة المضارع وقوله : { ويخوفونك بالذين من دونه } يجوز أن يكون في محل نصب على الحال إذ المعنى أليس كافيك حال تخويفهم إياك ويجوز أن تكون مستأنفة والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها { ومن يضلل الله فما له من هاد } أي من حق عليه القضاء بضلاله فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة (4/660)
37 - { ومن يهد الله فما له من مضل } يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلالة { أليس الله بعزيز } أي غالب لكل شيء قاهر له { ذي انتقام } ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه وما ينزله بهم من سوط عقابه (4/660)
38 - { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله سبحانه مع عبادتهم للأوثان واتخاذهم الآلهة من دون الله وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة وجهالة عظيمة لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم ولما يعبدون من دون الله هو الله سبحانه فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة ؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الإدراك والفطنة التامة ولكنهم لما قلدوا أسلافهم وأحسنوا الظن بهم هجروا ما يقتضيه العقل وعملوا بما هو محض الجهل ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف ويوبخهم فقال : { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره } أي أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر والضر هو الشدة أو أعلى : { أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته } عني بحيث لا تصل إلي والرحمة النعمة والرخاء قرأ الجمهور ممسكات وكاشفات في الموضعين بالإضافة وقرأهما أبو عمر بالتنوين قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه و سلم فسكتوا وقال غيره : قالوا لا تدفع شيئا من قدر الله ولكنها تشفع فنزل { قل حسبي الله } في جميع أموري في جلب النفع ودفع الضر { عليه يتوكل المتوكلون } أي عليه لا على غيره يعتمد المعتمدون واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة أبي عمرو لأن كاشفات اسم فاعل في معنى الاستقبال وما كان كذلك فتنوينه أجود وبها قرأ الحسن وعاصم (4/661)
ثم أمره الله أن يهددهم ويتوعدهم فقال : 39 - { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } أي على حالتكم التي أنتم عليها وتمكنتم منها { إني عامل } أي على حالتي التي أنا عليها وتمكنت منها وحذف ذلك للعلم به مما قبله (4/661)
40 - { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } أي يهينه ويذله في الدنيا فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة ثم ذكر عذاب الآخرة فقال : { ويحل عليه عذاب مقيم } أي دائم مستمر في الدار الآخرة وهو عذاب النار (4/661)
ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه و سلم إضرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان لا بأن يهدي من ضل فقال : 41 - { إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس } أي لأجلهم ولبيان ما كلفوا به و { بالحق } حال من الفاعل أو المفعول : أي محقين أو متلبسا بالحق { فمن اهتدى } طريق الحق وسلكها { فلنفسه ومن ضل } عنها { فإنما يضل عليها } أي على نفسه فضرر ذلك عليه لا يتعدى إلى غيره { وما أنت عليهم بوكيل } أي بمكلف بهدايتهم مخاطب بها بل ليس عليك إلا البلاغ وقد فعلت وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بأحكام الإسلام (4/662)
ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال : 42 - { الله يتوفى الأنفس حين موتها } أي يقبضها عند حضور أجلها ويخرجها من الأبدان { والتي لم تمت في منامها } أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت : أي لم يحضر أجلها في منامها
وقد اختلف في هذا فقيل يقبضها عن التصرف مع بقاء الروح في الجسد وقال الفراء : المعنى ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال : وقد يكون توفيها نومها فيكون التقدير على هذا : والتي لم تمت وفاتها نومها قال الزجاج : لكل إنسان نفسان : أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس قال القشيري : في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ولهذا قال : { فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى } أي النائمة { إلى أجل مسمى } وهو الوقت المضروب لموته وقد قال بمثل قول الزجاج ابن الأنباري وقال سعيد بن جبير : إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف { فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى } فيعيدها والأولى أن يقال إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس وحصول الآفة به في محل الحس فيمسك التي قضى عليها الموت ولا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها قيل ومعنى { يتوفى الأنفس حين موتها } هو على حذف مضاف : أي عند موت أجسادها
وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو شيئان ؟ والكلام في ذلك يطول جدا وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن قرأ الجمهور قضى مبنيا للفاعل : أي قضى الله عليها الموت وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله : { الله يتوفى الأنفس } والإشارة بقوله : { إن في ذلك } إلى ما تقدم من التوفي والإمساك والإرسال للنفوس { لآيات } أي لآيات عجيبة بديع دال على القدرة الباهرة ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل { لقوم يتفكرون } في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله وكمال قدرته فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } الآية قال : نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فيتوفى الله النفس في منامها ويدع الروح في جوفه تتقلب وتعيش فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح فمات وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والضياء في المختارة عنه في الآية قال : تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام فيتساءلون بينهم ما شاء الله ثم يمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء في أجسادهم { إلى أجل مسمى } لا يغلط بشيء منها فذلك قوله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا في الآية قال : كل نفس لها سبب تجري فيه فإذا قضي عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب والتي لم تمت في منامها تترك وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أوى أحدكم إلى فراشه لينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ] (4/662)
قوله : 43 - { أم اتخذوا من دون الله شفعاء } أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة : أي بل اتخذوا من دون الله آلهة شفعاء تشفع لهم عند الله { قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على محذوف مقدر : أي أيشفعون ولو كانوا إلخ وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم : أي وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم ومعنى لا يملكون شيئا أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء وتدخل الشفاعة في ذلك دخولا أوليا أو يعقلون شيئا من الأشياء لأنها جمادات لا عقل لها وجمعهم بالواو والنون لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون (4/664)
ثم أمره سبحانه بأن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال : 44 - { قل لله الشفاعة جميعا } فليس لأحد منها شيء إلا أن يكون بإذنه لمن ارتضى كما في قوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقوله : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وانتصاب جميعا على الحال وإنما أكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان فصاعدا لأنها مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة ثم وصفه بسعة الملك فقال : { له ملك السموات والأرض } أي يملكهما ويملك ما فيهما ويتصرف في ذلك كيف يشاء ويفعل ما يريد { ثم إليه ترجعون } لا إلى غيره وذلك بعد البعث (4/664)
45 - { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } انتصاب وحده على الحال عند يونس وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه والاشمئزاز في اللغة النفور قال أبو عبيدة : اشمأزت نفرت وقال المبرد : انقبضت وبالأول قال قتادة وبالثاني قال مجاهد المعنى متقارب وقال المؤرج : أنكرت وقال أبو زيد : اشمأز الرجل ذعر من الفزع والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت وهو في الأصل الازورار وكان المشركون إذا قيل لهم لا إله إلا الله انقبضوا كما حكاه الله عنهم في قوله : { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } ثم ذكر سبحانه استبشارهم بذكر أصنامهم فقال : { وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } أي يفرحون بذلك يوبتهجون به والعامل في إذا في قوله : { وإذا ذكر الله } الفعل الذي بعدها وهو اشمأزت والعامل في إذا في قوله : { وإذا ذكر الذين من دونه } الفعل العامل في إذا الفجائية والتقدير : فاجئوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه (4/664)
ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به صلى الله عليه و سلم من الدعاء إلى الخير وصمموا على كفرهم أمره الله سبحانه أن يرد الأمر فقال : 46 - { قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون } وقد تقدم تفسير فاطر السموات وتفسير عالم الغيب والشهادة وهما منصوبان على النداء ومعنى { تحكم بين عبادك } تجازي المحسن بإحسانه وتعاقب المسيء بإساءته فإنه بذلك يظهر من هو المحق ومن هو المبطل ويرتفع عنده خلاف المختلفين وتخاصم المتخاصمين (4/664)
ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر الله والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدل على شدة عذابهم وعظيم عقوبتهم فقال : 47 - { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا } أي جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر { ومثله معه } أي منضما إليه { لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة } أي من سوء عذاب ذلك اليوم وقد مضى تفسير هذا في آل عمران { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } أي ظهر لهم من عقوبات الله وسخطه وشدة عذابه ما لم يكن في حسابهم وفي هذا وعيد عظيم وتهديد بالغ وقال مجاهد : عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات وكذا قال السدي وقال سفيان الثوري : ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم وقال عكرمة بن عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا فقيل له ما هذا الجزع ؟ قال : أخاف آية من كتاب الله { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب (4/665)
48 - { وبدا لهم سيئات ما كسبوا } أي مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله وما يحتمل أن تكون مصدرية : أي سيئات كسبهم وأن تكون موصولة : أي سيئات الذي كسبوه { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } أي أحاط بهم ونزل بهم ما كانوا يستهزئون به من الإنذار الذي كان ينذرهم به رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت } الآية قال : قست ونفرت { قلوب } هؤلاء الأربعة { الذين لا يؤمنون بالآخرة } أبو جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبي بن خلف { وإذا ذكر الذين من دونه } اللات والعزى : { إذا هم يستبشرون } وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ] (4/665)
قوله : 49 - { فإذا مس الإنسان } المراد بالإنسان هنا الجنس باعتبار بعض أفراده أو غالبها وقيل المراد به الكفار فقط والأول أولى ولا يمنع من حمله على الجنس خصوص سببه لأن الاعتبار بعموم اللفظ وفاء بحق النظم القرآني ووفاء بمدلوله والمعنى : أن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه ضر من مرض أو فقر أو غيرهما دعا الله وتضرع إليه في رفعه ودفعه { ثم إذا خولناه نعمة منا } أي أعطيناه نعمة كائنة من عندنا { قال إنما أوتيته على علم } مني بوجوه المكاسب أو على خير عندي أو على علم من الله بفضلي وقال الحسن : على علم علمني الله إياه وقيل قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة وجاء بالضمير في أوتيته مذكرا مع كونه راجعا إلى النعمة لأنها بمعنى الإنعام وقيل إن الضمير عائد إلى ما وهي موصولة والأول أولى { بل هي فتنة } هذا رد لما قاله أي ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت بل هو محنة لك واختبار لحالك أتشكر أم تكفر ؟ قال الفراء : أنث الضمير في قوله هي لتأنيث الفتنة ولو قال بل هو فتنة لجاز وقال النحاس : بل عطيته فتنة وقيل تأنيث الضمير باعتبار لفظ الفتنة وتذكير الأول في قوله أوتيته باعتبار معناها { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن ذلك استدراج لهم من الله وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر (4/666)
50 - { قد قالها الذين من قبلهم } أي قال هذه الكلمة التي قالوها وهي قولهم : إنما أوتيته على علم الذين من قبلهم كقارون وغيره فإن قارون قال : { إنما أوتيته على علم عندي } { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } يجوز أن تكون ما هذه نافية : أي لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا وأن تكون استفهامية : أي أي شيء أغنى عنهم ذلك (4/667)
51 - { فأصابهم سيئات ما كسبوا } أي جزاء سيئات كسبهم أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم وسمي الجزاء سيئات لوقوعها في مقابلة سيئاتهم فيكون ذلك من باب المشاكلة كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره فقال : { والذين ظلموا من هؤلاء } الموجودين من الكفار { سيصيبهم سيئات ما كسبوا } كما أصاب من قبلهم وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط والقتل والأسر والقهر { وما هم بمعجزين } أي يفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة (4/667)
52 - { أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء } أي يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه له { ويقدر } أي يقبضه لمن يشاء أن يقبضه ويضيقه عليه قال مقاتل : وعظهم الله ليعتبروا في توحيده وذلك حين مطروا بعد سبع سنين فقال : أو لم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء ويقتر على من يشاء { إن في ذلك لآيات } أي في ذلك المذكور لدلالات عظيمة وعلامات الوعيد عقبة بذكر سعة رحمته وعظيم مغفرته (4/667)
وأمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يبشرهم بذلك فقال : 53 - { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } المراد بالإسراف الإفراط في المعاصي والاستكثار منها ومعنى لا تقنطوا : لا تيأسوا من رحمة الله من مغفرته ثم لما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه ويجعل الرجاء مكان القنوط فقال : { إن الله يغفر الذنوب جميعا }
واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : { إن الله يغفر الذنوب } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان إلا ما أخرجه النص القرآني وهو الشرك { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب بل أكد ذلك بقوله : { جميعا } فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو الملتدئين به في مغفرة ذنوبهم وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلا إنه هو الغفور الرحيم أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما فمن أبى هذا التفضل العظيم والعطاء الجسيم وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به فقد ركب أعظم الشطط وغلط أقبح الغلط فإن التبشير وعدم التقنيط الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز والمسلك الذي سلكه رسوله صلى الله عليه و سلم كما صح عنه من قوله [ يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ]
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجمع بين هذه الآية وبين قوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وهو أن كل ذنب كائنا ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له على أنه يمكن أن يقال إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعا يدل على أنه يشاء غفرانها جميعا وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات فهو جمع بين الضب والنون وبين الملاح والحادي وعلى نفسها براقش تجني ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبية لم يكن لها كثير موقع فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجاع المسلمين وقد قال { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فلو كانت التوبة قيدا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة وقد قال سبحانه : { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } قال الواحدي : المفسرون كلهم قالوا : إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي صلى الله عليه و سلم
قلت : هب أنها في هؤلاء القوم فكان ماذا ؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم ولو كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة إن لم ترتفع كلها واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله
وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في هذا الباب ما إن عرفه المطلع عليه حق معرفته وقدره حق قدره علم صحة ما ذكرناه وعرف حقية ما حررناه قرأ الجمهور { يا عبادي } بإثبات الياء وصلا ووقفا وروى أبو بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء وقرأ الجمهور { تقنطوا } بفتح النون وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسرها (4/667)
54 - { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } أي ارجعوا إليه بالطاعة لما بشرهم سبحانه بأنه يغفر الذنوب جميعا أمرهم بالرجوع إليه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي وليس في هذا ما يدل على تقييد الآية الأولى بالتوبة لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام بل غاية ما فيها أنه بشرهم بتلك البشارة العظمى ثم دعاهم إلى الخير وخوفهم من الشر على أنه يمكن أن يقال : إن هذه الجملة مستأنفة خطابا للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله : { وأسلموا له } جاء بها لتحذير الكفار وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى وتبشيرهم وهذا وإن كان بعيدا ولكنه يمكن أن يقال به والمعنى على ما هو الظاهر : أن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم والأمر بالإنابة إليه والإخلاص له والاستسلام لأمره والخضوع لحكمه وقوله : { من قبل أن يأتيكم العذاب } أي عذاب الدنيا كما يفيده قوله : { من قبل أن يأتيكم } فليس في ذلك ما يدل على ما زعمه الزاعمون وتمسك به القانطون المقنطون والحمد لله رب العالمين (4/669)
55 - { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } يعني القرآن يقول : أحلوا حلاله وحرموا حرامه والقرآن كله حسن قال الحسن : التزموا طاعته واجتنبوا معاصيه وقال السدي : الأحسن ما أمر الله به في كتابه وقال ابن زيد : يعني المحكمات وكلوا علم المتشابه إلى عالمه وقيل الناسخ دون المنسوخ وقيل العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام وقيل أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية { من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون } أي من قبل أن يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه لا تشعرون به وقيل أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب والأول أولى لأن الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر والخوف والجدب لا عذاب الآخرة ولا الموت لأنه لم يسند الإتيان إليه (4/669)
56 - { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } قال البصريون : أي حذرا أن تقول وقال الكوفيون : لئلا تقول قال المبرد : بادروا خوف أن تقول أو حذرا من أن تقول نفس وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله قيل والمراد بالنفس هنا النفس الكافرة وقيل المراد به التكثير كما في قوله : { علمت نفس ما أحضرت } قرأ الجمهرو { يا حسرتى } بالألف بدلا من الياء المضاف إليها والأصل يا حسرتي وقرأ ابن كثير { يا حسرتنا } بهاء السكت وقفا وقرأ أبو جعفر يا حسرتي بالياء على الأصل والحسرة : الندامة ومعنى { على ما فرطت في جنب الله } على ما فرطت في طاعة الله قاله الحسن وقال الضحاك : على ما فرطت في ذكر الله ويعني به القرآن والعمل به وقال أبو عبيدة { في جنب الله } أي في ثواب الله وقال الفراء : الجنب القرب والجوار : أي في قرب الله وجواره ومنه قوله : { والصاحب بالجنب } والمعنى على هذا القول على ما فرطت في طلب جنب الله : أي في طلب جواره وقربه وهو الجنة وبه قال ابن الأعرابي وقال الزجاج : أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب : أي قصرت في الجانب الذيب يؤدي إلى رضى الله ومنه قول الشاعر :
( للناس جنب والأمير جنب )
أي الناس من جانب والأمير من جانب { وإن كنت لمن الساخرين } أي وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا ومحل الجملة النصب على الحال قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها (4/670)
57 - { أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين } أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا } فهي كلمة حق يريدون بها باطلا (4/671)
ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوا فقال : 58 - { أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة } أي رجعة إلى الدنيا { فأكون من المحسنين } المؤمنين بالله الموحدين له المحسنين في أعمالهم وانتصاب أكون إما لكونه معطوفا على كرة فإنها مصدر وأكون في تأويل المصدر : كما في قول الشاعر :
( للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف )
وأنشد الفراء على هذا :
( فما لك منها غير ذكرى وخشية ... وتسأل عن ركبانها أين يمموا )
وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله : { لو أن لي كرة } (4/671)
ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفوس المتمنية المتعللة بغير علة فقال : 59 - { بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } المراد بالآيات هي الآيات التنزيلية وهو القرآن ومعنى التكذيب بها قوله : إنها ليس من عند الله وتكبر عن الإيمان بها وكان مع ذلك التكذيب والاستكبار من الكافرين بالله وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله : جاءتك وكذبت واستكبرت وكنت لأن النفس تطلق على المذكر والمؤمن قال المبرد : تقول العرب نفس واحد : أي إنسان واحد وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور وقرأ الجحدري وأبو حيوة ويحيى بن يعمر بكسرها في جميعها وهي قراءة أبي بكر وابنته عائشة وأم سلمة ورويت عن ابن كثير (4/671)
60 - { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } أي ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء وصاحبة وولدا وجوههم مسودة لما أحاط بهم من العذاب وشاهدوه من غضب الله ونقمته وجملة وجوههم مسودة في محل نصب على الحال قال الأخفش : ترى غير عامل في وجوههم مسودة إنما هو مبتدأ وخبر والأول أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية فجملة وجوههم مسودة حالية وإن كانت قلبية فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى والاستفهام في قوله : { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } للتقرير : أي ليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله والكبر هو بطر الحق وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح (4/671)
61 - { وينجي الله الذين اتقوا } أي اتقوا الشرك ومعاصي الله والباء في { بمفازتهم } متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول : أي ملتبسين بمفازتهم قرأ الجمهور { بمفازتهم } بالإفراد على أنها مصدر ميمي والفوز : الظفر باخير والنجاة من الشر قال المبرد : المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة وإن جمع فحسن : كقولك السعادة والسعادات والمعنى ينجيهم الله بفوزهم : أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر { بمفازتهم } جمع مفازة وجمعها مع كونها مصدرا لاختلاف الأنواع وجملة { لا يمسهم السوء } في محل نصب على الحال من الموصول وكذلك جملة { ولا هم يحزنون } في محل نصب على الحال : أي ينفي السوء والحزن عنهم يوجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية : أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم لأنهم رضوا بثواب الله وأمنوا من عقابه
وقد أخرج ابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صيحيح وابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت { قل يا عبادي الذين أسرفوا } الآية في مشركي أهل مكة وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال : كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئا عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم وكانوا يقولونه لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أنزل الله فيهم { يا عبادي الذين أسرفوا } الآيات قال ابن عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : لما أسلم وحشي أنزل أنزل الله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } قال وحشي وأصحابه : قد ارتكبنا هذا كله فأنزل الله { قل يا عبادي الذين أسرفوا } الآية وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال : [ خرج النبي صلى الله عليه و سلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون فقال : والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ثم انصرف وأبكى القوم وأوحى الله إليه : يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أبشروا وسددوا وقاربوا ] وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن أفتن وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوه إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك وقتل الأنفس وغير ذلك وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه واليبيهقي في الشعب عن ثوبان : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } إلى آخر الآية فقال رجل ومن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه و سلم قال ألا ومن أشرك ثلاث مرات ] وأخرج أحمد وعبد بن حيمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه مر على قاض يذكر الناس فقال : يا مذكر الناس لا تقنط الناس ثم قرأ { يا عبادي الذين أسرفوا } الآية وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال : قال علي : أي آية أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن { من يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الآية ونحوها فقال علي : ما في القرآن أوسع من { يا عبادي } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية قال : قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله ومن زعم أن عزيزا ابن الله ومن زعم أن الله فقير ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء من { قال أنا ربكم الأعلى } وقال { ما علمت لكم من إله غيري } قال ابن عباس ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أن تقول نفس } قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا وعلمهم قبل أن يعلموا (4/671)
قوله : 62 - { الله خالق كل شيء } من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة كائنا ما كان من غير فرق بين شيء وشيء وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأنعام { وهو على كل شيء وكيل } أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك له (4/674)
63 - { له مقاليد السموات والأرض } المقاليد واحدها مقليد ومقلاد أو لا واحد له من لفظه كأساطير وهي مفاتيح السموات والأرض والرزق والرحمة قاله مقاتل وقتادة وغيرهما وقال الليث : المقلاد الخزانة ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض والرزق والرحمة قاله مقاتل وقتادة وغيرهما وقال الليث : المقلاد الخزانة ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض وبه قال الضحاك والسدي وقيل خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات وقيل هي عبارة عن قدرته سبحانه وحفظه لها والأول أولى قال الجوهري : الإقليد المفتاح ثم قال : والجمع المقاليد وقيل هي لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وقيل غير ذلك { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } أي بالقرآن وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه وتوحيده ومعنى الخاسرون : الكاملون في الخسران لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار (4/674)
64 - { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } الاستفهام للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر كنظائره وغير منصوب بأعبد وأعبد معمول لتأمروني على تقدير أن المصدرية فلما حذفت بطل عملها والأصل : أفتأمروني أن أعبد غير الله قال الكسائي وغيره ويجوز أن يكون غير منصوبا بتأمروني وأعبد بدل منه بدل اشتمال وأن مضمرة معه أيضا ويجوز أن يكون غير منصوبة بفعل مقدر : أي أفتلزموني غير الله : أي عبادة غير الله أو أعبد غير الله أعبد أمره سبحانه أن يقول هذا للكفار لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك قرأ الجمهور { تأمرنا } بإدغام نون الرفع في نون الوقاية على خلاف بينهم في فتح الياء وتسكينها وقرأ نافع { تأمروني } بنون خفيفة وفتح الياء وقرأ ابن عامر { تأمروني } بالفك وسكون الياء (4/674)
65 - { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك } أي من الرسل { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } هذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير والإنذار للعباد من الشرك لأنه إذا كان موجبا لإحباط عمل الأنبياء على الفرض والتقدير فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى قيل وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير : ولد أوحى إليك لئن أشركت وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك قال مقاتل : أي أوحى إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف ثم قال : لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك وهو خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم خاصة وقيل إفراد الخطاب في قوله : { لئن أشركت } باعتبار كل واحد من الأنبياء : كأنه قيل أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام وهو لئن أشركت وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } وقل هذا خالص بالأنبياء لأن الشرك منهم أعظم ذنبا من الشرك من غيرهم والأول أولى (4/675)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بتوحيده فقال : 66 - { بل الله فاعبد } وفي هذا رد على المشركين حيث أمروه بعبادة الأصنام ووجه الرد ما يفيده التقديم من القصر قال الزجاج : لفظ اسم الله منصوب باعبد قال : ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين وقال الفراء : هو منصوب بإضمار فعل وروي مثله عن الكسائي والأول أولى قال الزجاج : والفاء في فاعبد للمجازاة وقال الأخفش : زائدة قال عطاء ومقاتل معنى فاعبد وحد لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده { وكن من الشاكرين } لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه واختصك به من الرسالة (4/675)
67 - { وما قدروا الله حق قدره } قال المبرد : أي ما عظموه حق عظمته من قولك فلان عظيم القدر وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر قدروا بالتشديد { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون : هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه وكذا قوله : { والسموات مطويات بيمينه } فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك قال الأخفش بيمينه يقول في قدرته نحو قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } أي ما كانت لكم قدرة عليه وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد ومنه قوله سبحانه : { لأخذنا منه باليمين } أي بالقوة والقدرة ومنه قول الشاعر :
( إذا ما راية نصبت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين )
وقول الآخر :
( ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيمين )
وقول الآخر :
( عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعدا غير قائم )
وجملة { والأرض جميعا قبضته } في محل نصب على الحال : أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة قرأ الجمهور برفع { قبضته } على أنها خبر المبتدأ وقرأ الحسن بنصبها ووجه ابن خالويه بأنه على الظرفية : أي في قبضته وقرأ الجمهور { مطويات } بالرفع على أنها خبر المبتدأ والجملة في محل نصب على الحال كالتي قبلها وبيمينه متعلق بمطويات أو حال من الضمير في مطويات على الأرض وتكون قبضته خبرا على الأرض والسموات وتكون مطويات حالا أو تكون مطويات منصوبة بفعل مقدر وبيمينه الخب { وخص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لأن الدعاوى تنقطع فيه كما قال سبحانه { الملك يومئذ لله } وقال { مالك يوم الدين } ثم نزه سبحانه نفسه فقال : { سبحانه وتعالى عما يشركون } به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة والحكمة الباهرة (4/675)
68 - { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض } هذه هي النفخة الأولى والصور هو القرن الذين ينفخ فيه إسرافيل وقد تقدم غير مرة ومعنى صعق : زالت عقولهم فخروا مغشيا عليهم وقيل ماتوا قال الواحدي : قال المفسرون مات من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض قرأ الجمهور { الصور } بسكون الواو وقرأ قتادة وزيد بن علي بفتحها جمع صورة والاستثناء في قوله : { إلا من شاء الله } متصل والمستثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وقيل رضوان وحملة العرش وخزنة الجنة والنار { ثم نفخ فيه أخرى } يجوز أن يكون أخرى في محل رفع على النيابة وهي صفة لمصدر محذوف : أي نفخة أخرى ويجوز أن يكون في محل نصب والقائم مقام الفاعل فيه { فإذا هم قيام ينظرون } يعني الخلق كلهم قيام على أرجلهم ينظرون ما يقال لهم أو ينتظرون ذلك قرأ الجمهور قيام بالرفع على أنه خبر وينظرون في محل نصب على الحال وقرأ زيد بن علي بالنصب على أنه حال والخبر ينظرون والعامل في الحال ما عمل في إذا الفجائية قال الكسائي كا تقول خرجت فإذا زيد جالسا (4/676)
69 - { وأشرقت الأرض بنور ربها } الإشراق الإضاءة يقال أشرقت الشمس : إذا أضاءت وشرقت : إذا طلعت ومعنى بنور ربها : بعدل ربها قاله الحسن وغيره وقال الضحاك : بحكم ربها والمعنى : أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها وما قضى به من الحق فيهم فالعدل نور والظلم ظلمات وقيل إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس والقمر ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي فإن الله سبحانه هو نور السموات والأرض قرأ الجمهور { أشرقت } مبنيا للفاعل وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على البناء للمفعول ووضع الكتاب قيل هو اللوح المحفوظ وقال قتادة : يعني الكتب والصحف التي فيها أعمال بني آدم فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وكذا قال مقاتل وقيل هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه : أي وضع الكتاب للحساب { وجيء بالنبيين } أي جيء بهم إلى الموقف فسئلوا عما أجابتهم به أممهم { والشهداء } الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه و سلم كما في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } وقيل المراد بالشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله وقيل هم الحفظة كما قال تعالى : { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } { وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون } أي وقي بين العباد بالعدل والصدق والحال أنهم لا يظلمون : أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم (4/677)
70 - { ووفيت كل نفس ما عملت } من خير وشر { وهو أعلم بما يفعلون } في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد وإنما وضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة (4/677)
ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت فقال : 71 - { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا } أي سيق الكافرون إلى النار حال كونهم زمرا : أي جماعات متفرقة بعضها يتلو بعضا قال أبو عبيدة والأخفش زمرا جماعات متفرقة بعضها إثر بعض ومنه قول الشاعر :
( وترى الناس إلى أبوابه ... زمرا تنتابه بعد زمر )
واشتقاقه من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه { حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها } أي فتحت أبواب النار ليدخلوها وهي سبعة أبواب وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر { وقال لهم خزنتها } جمع خازن نحو سدنة وسادن { ألم يأتكم رسل منكم } أي من أنفسكم { يتلون عليكم آيات ربكم } التي أنزلها عليهم { وينذرونكم لقاء يومكم هذا } أي يخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه قالوا لهم هذا القول تقريعا وتوبيخا فأجابوا بالاعتراف ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لانكشاف الأمر وظهوره ولهذا { قالوا بلى } أي قد أتتنا الرسل بآيات الله وأنذرونا بما سنلقاه { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } وهي { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } (4/677)
فلما اعترفوا هذا الاعتراف 72 - { قيل ادخلوا أبواب جهنم } التي قد فتحت لكم لتدخلوها وانتصاب { خالدين } على الحال : أي مقدرين الخلود { فبئس مثوى المتكبرين } المخصوص بالذم محذوف : أي بئس مثواهم جهنم وقد تقدم تحقيق المثوى في غير موضع
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مقاليد السموات والأرض } قال : مفاتيحها وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في سننه وأبو الحسن القطان وابن السني وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله { له مقاليد السموات والأرض } فقال لي : يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك مقاليد السموات والارض : لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد الله وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو والأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ثم ذكر فضل هذه الكلمات ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن عثمان قال : جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له : أخبرني عن مقاليد السموات والأرض فذكره وأخرجه الحارث بن أبي أسامة وابن مردويه عن أبي هريرة عن عثمان وأخرجه العقيلي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر عن عثمان وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وسمل أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء ويطأون عقبه فقالوا له : هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي فجاء بالوحي { قل يا أيها الكافرون } إلى آخر السورة وأنزل الله عليه { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } إلى قوله : { من الخاسرين } وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ ] وفي الباب أحاديث وآثار تقتضي حمل
الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل ولا تعسف لقال وقيل وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : [ قال رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه فقال : أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قال الله : { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله ] وأخرج أبو يعلى والدارقطني في الإفراد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { إلا من شاء الله } قال : هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة ] الحديث وأخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد من أقوال أبي هريرة وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو نصر السجزي في الإبانة وابن مردويه [ عن أنس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسم عن قوله : { إلا من شاء الله } فقال : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل
وحملةالعرش ] وأخرج ابن المنذر عن جابر في قوله : { إلا من شاء الله } قال : موسى لأنه كان صعق قبل والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { وجيء بالنبيين والشهداء } قال : النبيين الرسل والشهداء الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان ولا لعان وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه في الآية قال : يشهدون بتبليغ الرسالة وتكذيب الأمم إياهم (4/678)
لما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم ذكر هنا حال المتقين وسوقهم إلى الجنة فقال 73 - { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا } أي ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم وقد سبق بيان معنى الزمر { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } جواب إذا محذوف قال المبرد تقديره : سعدوا وفتحت وأنشد قول الشاعر :
( فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا )
فحذف جواب لو والتقدير : لكان أروح وقال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير : حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخلوها وحذف لأن في الكلام دليلا عليه وقال الأخفش والكوفيون : الجواب فتحت والواو زائدة وهو خطأ عند البصريين لأن الواو من حروف المعاني فلا تزاد وقيل إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله والتقدير : حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } وحذفت الواو في قصة أهل النار لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا ذكر معناه النحاس منسوبا إلى بعض أهل العلم قال : ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد : أي جاءوها وقد فتحت لهم الأبواب وقيل إنها واو الثمانية وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد : خمسة ستة سبعة وثمانية وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى وفي سورة الكهف أيضا ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال : { وقال لهم خزنتها سلام عليكم } أي سلام لكم من كل آفة { طبتم } في الدنيا فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي قال مجاهد : طبتم بطاعة الله وقيل بالعمل الصالح والمعنى واحد قال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا طيبوا قال لهم رضوان وأصحابه { سلام عليكم } الآية { فادخلوها } أي ادخلوا الجنة { خالدين } أي مقدرين الخلود (4/680)
فعند ذلك قال أهل الجنة 74 - { الحمد لله الذي صدقنا وعده } بالبعث والثواب بالجنة { وأورثنا الأرض } أي أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم فلمكوها وتصرفوا فيها وقيل إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين قاله أكثر المفسرين وقيل إنها أرض الدنيا وفي الكلام تقديم وتأخير { نتبوأ من الجنة حيث نشاء } أي نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء { فنعم أجر العاملين } المخصوص بالمدح محذوف : أي فنعم أجر العاملين في الجنة وهذا من تمام قول أهل الجنة (4/681)
وقيل هو من قول الله سبحانه 75 - { وترى الملائكة حافين من حول العرش } أي محيطين محدقين به يقال حف القوم بفلان إذا أطافوا به ومن مزيدة قاله الأخفش أو للابتداء والمعنى : أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم وجملة { يسبحون بحمد ربهم } في محل نصب على الحال : أي حال كونهم مسبحين لله ملتبسين بحمده وقيل معنى يسبحون يصلون حول العرش شكرا لربهم والحافين جمع حاف قاله الأخفش وقال الفراء : لا واحد له إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين { وقضي بينهم بالحق } أي بين العباد بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار وقيل بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق وقيل بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم والأول أولى { وقيل الحمد لله رب العالمين } القائلون هم المؤمنون حمدوا لله على قضائه بينهم وبين أهل النار بالحق وقيل القائلون هم الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم وقضائه بين عباده بالحق
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة ] وأخرجه وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب الريان لا يدخله إلا الصائمون ] وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أبواب أحاديث في الصحيحين وغيرهما وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وأورثنا الأرض } قال : أرض الجنة وأخرج هناد عن أبي العالية مثله (4/681)
سورة غافر
وهي سورة المؤمن وتسمى سورة الطول
وهي مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر قال الحسن : إلا قوله : { وسبح بحمد ربك } لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما { إن الذين يجادلون في آيات الله } والتي بعدها وهي خمس وثمانون آية وقيل اثنتان وثمانون آية وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت سورة حم المؤمن بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت الحواميم السبع بمكة وأخرج ابن مردويه والديلمي عن سمرة بن جندب قال نزلت الحواميم جميعا بمكة وأخرج محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله أعطاني السبع الحواميم مكان التوراة وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي ] وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال : إن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن ال حم وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : الحواميم ديباج روضات دمثات أتأنق فيهن وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الحوميم ديباج القرآن ] وأخرج البيهقي في الشعب عن خليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الحواميم سبع وأبواب النار سبع تجيء كل حم منها تقف على باب من هذه الأبواب تقول : اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني ] وأخرج أبو عبيد وابن سعد ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ حم المؤمن إلى { إليه المصير } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ]
قوله : 1 - { حم } قرأ الجمهور بفتح الحاس مشبعا وقرأ حمزة والكسائي بإمالته إمالة محضة وقرأ أبو عمرو بإمالته بين بين وقرأ الجمهور حم بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر أو مبتدأ والخبر ما بعده وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها على أنها منصوبة بفعل مقدر أو على أنها حركة بناء لا حركة إعراب وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين أو بتقدير القسم وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم وقرأ أبو جعفر بقطعها
وقد اختلف في معناه فقيل هو اسم من أسماء الله وقيل اسم من أسماء القرآن وقال الضحاك والكسائي معناه قضى وجعلاه بمعنى حم : أي قضى ووقع وقيل معناه حم أمر الله : أي قرب نصره لأوليائه وانتقامه من أعدائه وهذا كله تكلف لا موجب له وتعسف لا ملجئ إليه والحق أن هذه الفاتحة لهذه وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه كما قدمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة (4/682)
2 - { تنزيل الكتاب } هو خبر لحم على تقدير أنه مبتدأ أو خبر لمبتدأ مضمر أو هو مبتدأ وخبره { من الله العزيز العليم } قال الرازي : المراد بتنزيل : المنزل والمعنى : أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه والعزيز الغالب القاهر والعليم : الكثير العلم بخلقه وما يقولونه ويفعلونه (4/684)
3 - { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } قال الفراء : جعلها كالنعت للمعرفة وهي نكرة ووجه قوله هذا أن إضافتها لفظية ولكنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية كما قال سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة وأما الكوفيون فلم يستثنوا شيئا بل جعلوا الصفة المشبهة كاسم الفاعل في جواز جعلها إضافة محضة وذلك حيث لا يراد بها زمان مخصوص فيجوزون في شديد هنا أن تكون إضافته محضة وعلى قول سيبويه لا بد من تأويله بمشدد وقال الزجاج : إن هذه الصفات الثلاث مخفوضة على البدل وروي عنه أنه جعل غافر وقابل مخفوضين على الوصف وشديد مخفوض على البدل والمعنى : غافر الذنب لأوليائه وقابل توبتهم وشديد العقاب لأعدائه والتوب مصدر بمعنى التوبة من تاب يتوب توبة وتوبا وقيل هو جمع توبة وقيل غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله وقابل التوب من الشرك وشديد العقاب لمن لا يوحده وقوله : { ذي الطول } يجوز أن يكون صفة لأنه معرفة وأن يكون بدلا وأصل الطول الأنعام والتفضل : أي ذي الإنعام على عباده والتفضل عليهم وقال مجاهد : ذي الغنى والسعة ومنه قوله : { ومن لم يستطع منكم طولا } أي غنى وسعة وقال عكرمة : ذي الطول ذي المن قال الجوهري : والطول بالفتح المن يقال منه طال عليه ويطول عليه إذا امتن عليه وقال محمد بن كعب : ذي الطول ذي التفضل قال الماوردي : والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب والتفضل إحسان غير مستحق ثم ذكر ما يدل على توحيده وأنه الحقيق بالعبادة فقال : { لا إله إلا هو إليه المصير } لا إلى غيره وذلك في اليوم الآخر (4/684)
ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله فقال : 4 - { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا والمراد الجدال بالباطل والقصد إلى دحض الحق كما في قوله : { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } فأما الجدال لاستيضاح الحق ورفع اللبس والبحث عن الراجح والمرجوح وعن المحكم والمتشابه ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن وردهم بالجدال إلى المحكم فهو من أعظم ما يتقرب المتقربون وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب فقال : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } وقال : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } وقال { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } لما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله صلى الله عليه و سلم عن أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية فقال : فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة في البلاد وما يحصلونه من الأرباح ويجمعونه من الأموال فإنهم معاقبون عما قليل وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون قال الزجاج : لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم فإن عاقبتهم الهلاك قرأ الجمهور { لا يغررك } بفك الإدغام وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير بالإدغام (4/685)
ثم بين حال من كان قبلهم وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب فقال : 5 - { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم } الضمير في بعدهم يرجع إلى قوم نوح : أي وكذبت الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح كعاد وثمود { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } أي همت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم الذي أرسل إليهم ليأخذوه ليتمكنوا منه فيحبسوه ويعذبوه ويصيبوا منه ما أرادوا وقال قتادة والسدي : ليقتلوه والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك كقوله : { ثم أخذتهم فكيف كان نكير } والعرب تسمي الأسير الأخيذ { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } أي خاصموا رسولهم بالباطل من القول ليدحضوا به الحق ليزيلوه ومنه مكان دحض : أي مزلقة ومزلة أقدام والباطل داحض لأنه يزلق ويزول فلا يستقر قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان { فأخذتهم فكيف كان عقاب } أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به وحذف ياء المتكلم من عقاب اجتزاء بالكسرة عنها وصلا ووقفا لأنها رأس آية (4/685)
6 - { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا } أي وجبت وثبتت ولزمت يقال حق الشيء إذا لزم وثبت والمعنى : وكما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم حقت على الذين كفروا به وجادلوا بالباطل وتحزبوا عليك وجملة { أنهم أصحاب النار } للتعليل : أي لأجل أنهم مستحقون للنار قال الأخفش : أي لأنهم أو بأنهم ويجوز أن تكون في محل رفع بدلا من كلمة قرأ الجمهور { كلمة } بالتوحيد وقرأ نافع وابن عامر { كلمات } بالجمع (4/686)
ثم ذكر أحال حملة العرش ومن حوله فقال : 7 - { الذين يحملون العرش ومن حوله } والموصول مبتدأ وخبره يسبحون بحمد ربهم والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم يضمون إلى تسبيحهم لله والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا والمراد بمن حول العرش : هم الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين وهو في محل رفع عطفا على الذين يحملون العرش وهذا هو الظاهر وقيل يجوز أن تكون في محل نصب عطفا على العرش والأول أولى والمعنى : أن الملائكة الذين يحملون العرش وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله ملتبسين بحمده على نعمه ويؤمنون بالله ويستغفرون الله لعباده المؤمنين به ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكيا عنهم { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } وهو بتقدير القول : أي يقولون ربنا أو قائلين : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما انتصاب رحمة وعلما على التمييز المحول عن الفاعل والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } أي أوقعوا التوبة عن الذنوب واتبعوا سبيل الله وهو دين الإسلام { وقهم عذاب الجحيم } أي احفظهم منه (4/686)
8 - { ربنا وأدخلهم جنات عدن } وأدخلهم معطوف على قوله : قهم ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير ووصف جنات عدن بأنها { التي وعدتهم } إياها { ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } أي وأدخل من صلح والمراد بالصلاح ها هنا : الإيمان بالله والعمل بما شرعه الله فمن فعل ذلك فقد صلح لدخول الجنة ويجوز عطف ومن صلح على الضمير في وعدتهم : أي ووعدت من صلح والأولى عطفه على الضمير الأول في وأدخلهم قال الفراء والزجاج : نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم وإن شئت على الضمير في وعدتهم قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح وقرأ ابن أبي عبلة بضمها وقرأ الجمهور { وذرياتهم } على الجمع وقرأ عيسى بن عمر على الإفراد { إنك أنت العزيز الحكيم } أي الغالب القاهر الكثير الباهرة (4/686)
9 - { وقهم السيئات } أي العقوبات أو جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف قال قتادة : وقهم ما يسؤوهم من العذاب { ومن تق السيئات يومئذ } أي يوم القيامة { فقد رحمته } يقال وقاه يقيه وقاية : أي حفظه ومعنى { فقد رحمته } أي رحمته من عذابك وأدخلته جنتك والإشارة بقوله : { وذلك } إلى ما تقدم من إدخالهم الجنات ووقايتهم السيئات وهو مبتدأ وخبره { هو الفوز العظيم } أي الظفر الذي لا ظفر مثله والنجاة التي لا تساويها نجاة
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : { حم } اسم من أسماء الله وأخرج عبد الرزاق في المصنف وأبو عبيد وابن سعد وابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه عن المهلب بن أبي صفرة قال : [ حدثني من سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول ليلة الخندق إن أتيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون ] وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والحاكم وابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إنكم تلقون عدوكم فليكن شعاركم حم لا ينصرون ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { ذي الطول } قال : ذي السعة والغنى وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { غافر الذنب } الآية قال : غافر الذنب لمن يقول لا إله إلا الله { قابل التوب } ممن يقول لا إله إلا الله { شديد العقاب } لمن لا يقول لا إله إلا الله { ذي الطول } ذي الغنى { لا إله إلا هو } كانت كفار قريش لا يوحدونه فوحد نفسه { إليه المصير } مصير من يقول لا إله إلا الله فيدخله الجنة ومصير من لا يقول لا إله إلا الله فيدخله النار وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن جدالا في القرآن كفر ] وأخرج عبد بن حميد وأبو داود عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مراء في القرآن كفر ] (4/687)
لما ذكر سبحانه حال أصحاب النار وأنها حقت عليهم كلمة العذاب وأنهم أصحاب النار ذكر أحوالهم بعد دخول النار فقال : 10 - { إن الذين كفروا ينادون } قال الواحدي قال المفسرون : إنهم لما رأوا أعمالهم ونظروا في كتابهم وأدخلوا النار ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد { لمقت الله } إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون { أكبر من مقتكم أنفسكم } اليوم قال الأخفش : هذه اللام في لمقت هي لام الابتداء أوقعت بعد ينادون لأن معناه يقال لهم والنداء قول قال الكلبي : يقول كل إنسان لنفسه من أهل النار : مقتك يا نفس فتقول الملائكة لهم وهم في النار : لمقت الله إياكم في الدنيا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم وقال الحسن : يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون : لمقت الله إياكم في الدنيا { إذ تدعون إلى الإيمان } أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار والظرف في { إذ تدعون } منصوب بمقدر محذوف دل عليه المذكور : أي مقتكم وقت دعائكم وقيل بمحذوف هو اذكروا وقيل بالمقت المذكور والمقت أشد البغض (4/688)
ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار فقال : 11 - { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } اثنتين في الموضعين نعتان لمصدر محذوف : أي أمتنا إماتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين والمراد بالإماتتين : أنهم كانوا نطفا لا حياة لهم في أصلاب آبائهم ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا والمراد بالإحياءتين : أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا ثم أحياهم عند البعث ومثل هذه الآية قوله : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } وقيل معنى الآية : أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة ولا حياة للنطفة ووجه القول الأول أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل وقد ذهب إلى تفسير الأول جمهور السلف وقال ابن زيد : المراد بالآية أنه خلقهم في ظهر آدم واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا فقال حاكيا عنهم { فاعترفنا بذنوبنا } التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرسل والإشراك بالله وترك توحيده فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف وندموا حيث لا ينفعهم الندم وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم { فهل إلى خروج من سبيل } أي هل إلى خروج لنا من النار ورجوع لنا إلى الدنيا من سبيل ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم { هل إلى مرد من سبيل } وقوله : { فارجعنا نعمل صالحا } وقوله : { يا ليتنا نرد } الآية (4/688)
ثم أحاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله : 12 - { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به وتركتم توحيده { وإن يشرك به } غيره من الأصنام أو غيرها { تؤمنوا } بالإشراك به وتجيبوا الداعي إليه فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء ومحل ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بذلك السبب وفي الكلام حذف والتقدير : فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد وذلك لأنكم كنتم إذا دعي الله إلخ { فالحكم لله } وحده دون غيره وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار وعدم الخروج منها و { العلي } المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا صفاته و { الكبير } الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك (4/689)
13 - { هو الذي يريكم آياته } أي دلائل توحيده وعلامات قدرته { وينزل لكم من السماء رزقا } يعني المطر فإنه سبب الأرزاق جمع سبحانه بين إظهار الآيات وإنزال الأرزاق لأن بإظهار الآيات قوام الأديان وبالأرزاق قوام الأبدان وهذه الآيات هي التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سمواته وأرضه وما فيهما وما بينهما قرأ الجمهور { ينزل } بالتشديد وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف { وما يتذكر إلا من ينيب } أي ما يتذكر ويتعظ بتلك الآيات الباهرة فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد إلا من ينيب : أي يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله (4/689)
ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال : 14 - { فادعوا الله مخلصين له الدين } أي إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها { ولو كره الكافرون } ذلك فلا تلتفتوا إلى كراهتهم ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم (4/690)
15 - { رفيع الدرجات } وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر على المبتدأ المتقدم : أي هو الذي يريكم آياته وهو رفيع الدرجات وكذلك { ذو العرش } خبر ثالث ويجوز أن يكون رفيع الدرجات مبتدأ وخبره ذو العرش ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف ورفيع صفة مشبهة والمعنى : رفيع الصفات أو رفيع درجات ملائكته : أي معارجهم أو رفيع درجات أنبيائه وأوليائه في الجنة وقال الكلبي وسعيد بن جبير : رفيع السموات السبع وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى رافع ومعنى ذو العرش : مالكه وخالقه والمتصرف فيه وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه ومن كان كذلك فهو الذي يحق له العبادة ويجب له الإخلاص وجملة { يلقي الروح من أمره } في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدم أو للمقدر ومعنى ذلك أنه سبحانه يلقي الوحي { على من يشاء من عباده } وسمي الوحي روحا لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح وقوله : { من أمره } متعلق بيلقي ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من الروح ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } وقيل الروح جبريل كما في قوله : { نزل به الروح الأمين * على قلبك } وقوله : { نزله روح القدس من ربك بالحق } وقوله { على من يشاء من عباده } هم الأنبياء ومعنى { من أمره } من قضائه { لينذر يوم التلاق } قرأ الجمهور لينذر مبنيا للفاعل ونصب اليوم والفاعل هو الله سبحانه أو الرسول أو من يشاء والمنذر به محذوف تقديره : لينذر العذاب يوم التلاق وقرأ أبي وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازا وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميفع لتنذر بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول أو ضمير يرجع إلى الروح لأنه يجوز تأنيثها وقرأ اليماني لينذر على البناء للمفعول ورفع يوم على النيابة ومعنى { يوم التلاق } يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر وبه قال قتادة وقال أبو العالية ومقاتل : يوم يلتقي العابدون والمعبودون وقيل الظالم والمظلوم وقيل الأولون والآخرون وقيل جزاء الأعمال والعاملون (4/690)
وقوله : 16 - { يوم هم بارزون } بدل من يوم التلاق وقال ابن عطية : هو منتصب بقوله : { لا يخفى على الله } وقيل منتصب بإضمار اذكر والأول أولى ومعنى بارزون : خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء وجملة { لا يخفى على الله منهم شيء } مستأنفة مبينة لبروزهم ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير بارزون ويجوز أن تكون خبرا ثانيا للمبتدأ : أي لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا وجملة { لمن الملك اليوم } مستأنفة جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا يقال لبروز الخلائق في ذلك اليوم ؟ فقيل : يقال لمن الملك اليوم ؟ قال المفسرون : إذا هلك كل من في السموات والأرض فيقول الرب تبارك وتعالى : { لمن الملك اليوم } يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فيجيب تعالى نفسه وقول { لله الواحد القهار } قال الحسن : هو السائل تعالى وهو المجيب حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه وقيل إنه سبحانه يأمر مناديا ينادي بذلك فيقول أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم { لله الواحد القهار } وقيل إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار وقيل هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوي المبطلين كما في قوله تعالى : { وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } (4/691)
وقوله : 17 - { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب } من تمام الجواب على القول بأن المجيب هو الله سبحانه وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم أو بعضهم فهو مستأنف لبيان ما يقول الله سبحانه بعد جوابهم : أي اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير وشر لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه { إن الله سريع الحساب } أي سريع حسابه لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة (4/691)
ثم أمر الله سبحانه رسوله بإنذار عباده فقال 18 - { وأنذرهم يوم الآزفة } أي يوم القيامة سميت بذلك لقربها يقال أزف فلان : أي قرب يأزف أزفا ومنه النابغة :
( أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل بركابنا وكأن قد )
ومنه قوله تعالى : { أزفت الآزفة } أي قربت الساعة وقيل إن يوم الآزفة هو يوم حضور الموت والأول أولى قال الزجاج : وقيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس أمرها وما هو كائن فهو قريب { إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين } وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة كقوله : { وبلغت القلوب الحناجر } { كاظمين } مغمومين مكروبين ممتلئين غما قال الزجاج : المعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم قال قتادة : وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها وقيل هو إخبار عن نهاية الجزع وإنما قال كاظمين باعتبار أهل القلوب لأن المعنى : إذ قلوب الناس لدى حناجرهم فيكون حالا منهم وقيل حالا من القلوب وجمع الحال منها جمع العقلاء لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء فجمعت جمعه ثم بين سبحانه أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال : { ما للظالمين من حميم } أي قريب ينفعهم { ولا شفيع يطاع } في شفاعته لهم ومحل يطاع الجر على أنه صفة لشفيع (4/692)
ثم وصف سبحانه شمول علمه لكل شيء وإن كان في غاية الخفاء فقال : 19 - { يعلم خائنة الأعين } وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل النظر إليه والجملة خبر آخر لقوله : { هو الذي يريكم } قال المؤرج : فيه تقديم وتأخير : أي يعلم الأعين الخائنة وقال قتادة : خائنة الأعين : الهمز بالعين فيما لا يحب الله وقال الضحاك : هو قول الإنسان ما رأيت وقد رأى ورأيت وما رأى وقال سفيان : هي النظرة بعد النظرة والأول أولى وبه قال مجاهد { وما تخفي الصدور } من الضمائر وتسره من معاصي الله (4/692)
20 - { والله يقضي بالحق } فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر { والذين تدعون من دونه } أي تعبدونهم من دون الله { لا يقضون بشيء } لأنهم لا يعلمون شيئا ولا يقدرون على شيء : قرأ الجمهور { يدعون } بالتحتية يعني الظالمين واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ نافع وشيبة وهشام بالفوقية على الخطاب لهم { إن الله هو السميع البصير } فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : { أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } قال : هي مثل التي في البقرة { كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } كانوا أمواتا في صلب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم أماتهم ثم يحييهم بعد الموت وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة فهما موتتان وحياتان كقوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم } الآية وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يوم التلاق } قال : يوم القيامة يلتقي فيه آدم وآخر ولده وأخرج عنه أيضا قال : { يوم التلاق } يوم الآزفة ونحو هذا من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية عنه أيضا قال : ينادي مناد بين يدي الساعة : يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث والديلمي عن أبي سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال [ يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط فأول ما يتكلم أن ينادي مناد { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب } فأول ما يبديه من الخصومات الدماء ] وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } قال : الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها وإذا غفلوا لحظ إليها وإذا نظروا غض بصره عنها وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال : إذا نظر إليها يريد الخيانة أم لا { وما تخفي الصدور } قال : إذا قدر عليها أيزني بها أم لا ؟ ألا أخبركم بالتي تليها { والله يقضي بالحق } قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة وأخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد قال : [ لما كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى الله عليه و سلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال : اقتلوهم وإن وجتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلى البيعة جاء به فقال : يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى بيعته ثم أقبل على أصحابه فقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقول إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟ فقالوا : ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك ؟ فقال : إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين ] (4/692)
لما خوفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال : 21 - { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم } أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم فإن الذين كفروا مضوا من الكفار { كانوا هم أشد منهم قوة } من هؤلاء الحاضرين من الكفار وأقوى { وآثارا في الأرض } بما عمروا فيها من الحصون والقصور وبما لهم من العدد والعدة فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله وقوله : { فينظروا } إما مجزوم بالعطف على يسيروا أو منصوب بجواب الاستفهام وقوله : { كانوا أشد منهم قوة } بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك وقوله : { وآثارا } عطف على قوة قرأ الجمهور { أشد منهم } وقرأ ابن عامر { أشد منكم } على الالتفات { فأخذهم الله بذنوبهم } أي بسبب ذنوبهم { وما كان لهم من الله من واق } أي من دافع يدفع عنهم العذاب وقد مر تفسير هذه الآية في مواضع (4/695)
والإشارة بقوله : 22 - { ذلك } إلى ما تقدم من الأخذ { بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } أي بالحجج الواضحة { فكفروا } بما جاءوهم به { فأخذهم الله إنه قوي } يفعل كل ما يريده لا يعجزه شيء { شديد العقاب } لمن عصاه ولم يرجع إليه (4/695)
ثم ذكر سبحانه قصة موسى وفرعون ليعتبروا فقال : 23 - { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } هي التسع الآيات التي قد تقدم ذكرها في غير موضع { وسلطان مبين } أي حجة بينة واضحة وهي التوراة (4/695)
24 - { إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا } إنه { ساحر كذاب } أي فيما جاء به وخصهم بالذكر لأنهم رؤساء المكذبين بموسى ففرعون الملك وهامان الوزير وقارون صاحب الأموال والكنوز (4/695)
25 - { فلما جاءهم بالحق من عندنا } وهي معجزاته الظاهرة الواضحة { قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم } قال قتادة : هذا قتل غير القتل الأول لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل فكان يأمر بقتل الذكور وترك النساء ومثل هذا قول فرعون { سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم } { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } أي في خسران ووبال لأنه يذهب باطلا ويحيق بهم ما يريده الله عز و جل (4/695)
26 - { وقال فرعون ذروني أقتل موسى } إنما قال هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب والمعنى : اتركوني أقتله { وليدع ربه } الذي يزعم أنه أرسله إلينا فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك : أي لا يهولنكم ذلك فإنه لا رب له حقيقة بل أنا ربكم الأعلى ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله فقال : { إني أخاف أن يبدل دينكم } الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلهم في دينه الذي هو عبادة الله وحده { أو أن يظهر في الأرض الفساد } أي يوقع بين الناس الخلاف والفتنة جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا وليس الفساد إلا ما هو عليه هو من تابعه قرأ الكوفيون ويعقوب { أو أن يظهر } بأو التي للإبهام والمعنى : أنه لا بد من وقوع أحد الأمرين وقرأ الباقون { وإن يظهر } بدون ألف على معنى وقوع الأمرين جميعا وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من { إني أخاف } وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص يظهر بضم الياء وكسر الهاء من أظهر وفاعله ضمير موسى والفساد نصبا على أنه مفعول به وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء ورفع الفساد على الفاعلية (4/695)
27 - { وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { عذت } بإدغام الذال وقرأ الباقون بالإظهار لما هدده فرعون بالقتل استعاذ بالله عز و جل من كل متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث والنشور ويدخل فرعون في هذا العموم دخولا أوليا (4/696)
28 - { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه } قال الحسن ومقاتل والسدي : كان قبطيا وهو ابن عم فرعون وهو الذي نجا مع موسى وهو المراد بقوله : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى } الآية وقيل كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير : وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون قال القشيري : ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه : { ولا يكتمون الله حديثا } وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول
وقد اختلف في اسم هذا الرجل فقيل حبيب وقيل حزقيل وقيل غير ذلك وقرأ الجمهور { رجل } بضم الجيم وقرأ الأعمش وعبد الوارث بسكونها وهي لغة تميم ونجد والأولى هي الفصيحة وقرئ بكسر الجيم ومؤمن صفة لرجل ومن آل فرعون صفة أخرى ويكتم إيمانه صفة ثالثة والاتفهام في { أتقتلون رجلا } للإنكار و { أن يقول ربي الله } في موضع نصب بنزع الخافض : أي لأن يقول أو كراهة أن يقول وجملة { وقد جاءكم بالبينات من ربكم } في محل نصب على الحال : أي والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والدلالات الظاهرات على نبوته وصحة رسالته ثم تلطف لهم في الدفع عنه فقال : { وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم } ولم يكن قوله هذا لشك منه فإنه كان مؤمنا كما وصفه الله ولا يشك المؤمن ومعنى { يصبكم بعض الذي يعدكم } أنه إذا لم يصبكم كله فلا أقل من أن يصيبكم بعضه وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفا لكثرة الاستعمال : كما قال سيبويه وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم : بعض هنا بمعنى كل : أي يصبكم كل الذي يعدكم وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد :
( تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها )
أي كل النفوس وقد اعترض عليه وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكل كما في قول الشاعر :
( قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل )
وقول الآخر :
( إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا )
وليس في البيتين ما يدل على ما زعموه وأما بيت لبيد فقيل إنه أراد ببعض النفوس نفسه ولا ضرورة تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك لأنه أراد التنزل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوته كما يفيده قوله : { يكتم إيمانه } قال أهل المعاني : وهذا على المظاهرة في الحجاج كأنه قال لهم : أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل : وقال الليث : بعض ها هنا صلة يريد : يصبكم الذي يعدكم وقيل يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب وقيل إنه وعدهم بالثواب والعقاب فإذا كفروا أصابهم العقاب وهو بعض ما وعدهم به { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } هذا من تمام كلام الرجل المؤمن وهو احتجاج آخر ذو وجهين : أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات ولا أيده بالمعجزات وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها والكذاب المفتري (4/696)
29 - { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله ولا يتمادوا في كفرهم ومعنى ظاهرين : الظهور على الناس والغلبة لهم والاستعلاء عليهم والأرض أرض مصر وانتصاب ظاهرين على الحال { فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا } أي من يمنعنا من عذابه ويحول بيننا وبينه عند مجيئه وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم وإنزال عذابه عليهم فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم ولهذا قال : { ما أريكم إلا ما أرى } قال ابن زيد : أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي وقال الضحاك ما أعلمكم إلا ما أعلم والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية والمفعول الثاني هو إلا ما أرى { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } أي ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحق قرأ الجمهور الرشاد بتخفيف الشين وقرأ معاذ بن جبل بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضراب وقال النحاس : هي لحن ولا وجه لذلك
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون } قال : لم يكون في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال : { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } قال ابن المنذر : أخبرت أن اسمه حزقيل وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال : اسمه حبيب وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة قال : قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي يفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة والبزار عن علي بن أبي طالب أنه قال : أيها الناس أخبروني من أشجع الناس ؟ قالوا أنت قال : أما أني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس ؟ قالوا لا نعلم فمن ؟ قال أبو بكر رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذته قريش فهذا يجنبه وهذا يتلتله وهم يقولون أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا قال : فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجيء هذا ويتلتل هذا وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم رفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال : أشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ؟ فسكت القوم فقال : ألا تجيبون ؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن من آل فرعون وذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه (4/698)
ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم فقال الله حاكيا عنه 30 - { وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } أي مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم وأفرد اليوم لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه (4/699)
ثم فسر الأحزاب فقال : 31 - { مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم } أي مثل حالهم في العذاب أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب { وما الله يريد ظلما للعباد } أي لا يعذبهم بغير ذنب ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب (4/699)
ثم زاد في الوعظ والتذكير فقال : 32 - { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد } قرا الجمهور التناد بتخفيف الدال وحذف الياء والأصل التنادي وهو التفاعل من النداء يقال تنادى القوم : أي نادى بعضهم بعضا وقرأ الحسن وابن السميفع ويعقوب وابن كثير ومجاهد بإثبات الياء على الأصل وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة بتشديد الدال قال بعض أهل اللغة هو لحن لأنه من ند يند : إذا مر على وجهه هاربا قال النحاس : وهذا غلط والقراءة حسنة على معنى التنافي قال الضحاك : في معناه أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندوا هربا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفا من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه فذلك قوله : { يوم التناد } وعلى قراءة الجمهور المعنى : يوم ينادي بعضهم بعضا أو ينادي أهل النار أهل الجنة وأهل الجنة أهل النار أو ينادي فيه بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء أو يوم ينادي فيه كل أناس بإمامهم ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني (4/700)
وقوله : 33 - { يوم تولون مدبرين } بدل من يوم التناد : أي منصرفين عن الموقف إلى النار أو فارين منها قال قتادة ومقاتل : المعنى إلى النار بعد الحساب وجملة { ما لكم من الله من عاصم } في محل نصب على الحال : أي ما لكم من يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه { ومن يضلل الله فما له من هاد } يهديه إلى طريق الرشاد (4/700)
ثم زاد في وعظهم وتذكيرهم فقال : 34 - { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } أي يوسف بن يعقوب والمعنى : أن يوسف بن يعقوب جاءهم بالمعجزات والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم : أي جاء إلى آبائكم فجعل المجيء إلى الآباء مجيئا إلى الأبناء وقيل المراد بيوسف هنا يوسف بن إفرائيم بن يوسف ين يعقوب وكان أقام فيهم نبيا عشرين سنة وحكى النقاش عن الضحاك أن الله بعث إليهم رسولا من الجن يقال له يوسف والأول أولى وقد قيل إن فرعون موسى أدرك أيام يوسف بن يعقوب لطول عمره { فما زلتم في شك مما جاءكم به } من البينات ولم تؤمنوا به { حتى إذا هلك } يوسف { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا } فكفروا به في حياته وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } أي مثل ذلك الضلال الواضح يضل الله من هو مسرف في معاصي الله مستكثر منها مرتاب في دين الله شاك في وحدانيته ووعده ووعيده (4/700)
والموصول في قوله : 35 - { الذين يجادلون في آيات الله } بدل من من والجمع باعتبار معناها أو بيان لها أو صفة أو في محل نصب بإضمار أعني أو خبر مبتدأ محذوف : أي هم الذين أو مبتدأ وخبره يطبع { بغير سلطان } متعلقق بيجادلون : أي يجادلون في آيات الله بغير حجة واضحة و { أتاهم } صفة لسلطان { كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا } يحتمل أن يراد به التعجب وأن يراد به الذم كبئس وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من يجادلون وقيل فاعله ضمير يعود إلى من في من هو مسرف والأول أولى وقوله : { عند الله } متعلق بكبر وكذلك { عند الذين آمنوا } قيل هذا من كلام الرجل المؤمن وقيل ابتداء كلام من الله سبحانه { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } أي كما طبع على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك يطبع : أي يختم على كل قلب متكبر جبار قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر فحذف كل الثانية لدلالة الأولى عليها والمعنى : أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام بتنوين قلب على أن متكبر صفة له فيكون القلب مرادا به الجملة لأن القلب هو محل التكبر وسائر الأعضاء تبع له في ذلك وقرأ ابن مسعود على قلب كل متكبر (4/700)
ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره وتجبره معرضا عن الموعظة نافرا من قبولها وقال { يا هامان ابن لي صرحا } أي قصرا مشيدا كما تقدم بيان تفسيره { لعلي أبلغ الأسباب } أي الطرق قال قتادة والزهري والسدي والأخفش : هي الأبواب (4/701)
وقوله : 37 - { أسباب السموات } بيان للأسباب لأن الشيء إذا أبهم ثم فسر كان أوقع في النفوس وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير :
( ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم )
وقيل أسباب السموات الأمور التي يستمسك بها { فأطلع إلى إله موسى } قرأ الجمهور بالرفع عطفا على أبلغ فهو على هذا داخل في حيز الترجي وقرأ الأعرج والسملي وعيسى بن عمر وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله : { ابن لي } أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيدة وغيره قال النحاس : ومعنى النصب خلاف معنى الرفع لأن معنى النصب : متى بلغت الأسباب اطلعت ومعنى الرفع : لعلي أبلغ الأسباب ولعلي أطلع بعد ذلك وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدا { وإني لأظنه كاذبا } أي وإني لأظن موسى كاذبا في ادعائه بأن له إلها أو فيما يدعيه من الرسالة { وكذلك زين لفرعون سوء عمله } أي ومثل ذلك التزيين زين الشيطان لفرعون سوء عمله من الشرك والتكذيب فتمادى في الغي واستمر على الطغيان { وصد عن السبيل } أي سبيل الرشاد قرأ الجمهور { وصد } بفتح الصاد والدال : أي صد فرعون الناس عن السبيل وقرأ الكوفيون { وصد } بضم الصاد مبنيا للمفعول واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في { زين } من البناء للمفعول وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة صد بكسر الصاد وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد وضم الدال منونا على أنه مصدر معطوف على سوء عمله : أي زين له الشيطان سوء العمل والصد { وما كيد فرعون إلا في تباب } التباب : الخسار والهلاك ومنه { تبت يدا أبي لهب } (4/701)
ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير كما حكى الله عنه بقوله : 38 - { وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } أي اقتدوا بي في الدين أهدكم طريق الرشاد وهو الجنة وقيل هذا من قول موسى والأول أولى وقرأ معاذ بن جبل الرشاد بتشديد بتشديد الشين كما تقدم قريبا في قول فرعون ووقع في المصحف اتبعون بدون ياء وكذلك قرأ أبو عمرو ونافع بحذفها في الوقف وإثباتها في الأصل وقرأ يعقوب وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا وقرأ الباقون بحذفها وصلا ووقفا فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل ومن حذفها فلكونها حذفت في المصحف (4/702)
39 - { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } يتمتع بها أياما ثم تنقطع وتزول { وإن الآخرة هي دار القرار } أي الاستقرار لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول (4/702)
40 - { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت فلا يجزى إلا مثلها ولا يعذب إلا بقدرها والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة وقيل هي خاصة بالشرك ولا وجه لذلك { ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } أي من عمل عملا صالحا مع كونه مؤمنا بالله وبما جاءت به رسله { فأولئك } الذين جمعوا بين العمل الصالح والإيمان { يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب } أي بغير تقدير ومحاسبة قال مقاتل : يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير وقيل العمل الصالح هو لا إله إلا الله قرأ الجمهور { يدخلون } بفتح التحتية مبنيا للفاعل وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بضمها مبنيا للمفعول
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس { مثل دأب } قال : مثل حال وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة { مثل دأب قوم نوح } قال : هم الأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } قال : رؤيا يوسف وفي قوله : { الذين يجادلون في آيات الله } قال يهود وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إلا في تباب } قال : خسران وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إنما هذه الحياة الدنيا متاع } قال : الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة التي نظرت إليها سرتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها ] (4/702)
كرر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم وأنه إنما يتصدى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقوله الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه فقال : 41 - { ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار } أي أخبروني عنكم كيف هذه الحال : أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك قيل معنى { ما لي أدعوكم } ما لكم أدعوكم كما تقول : مالي أراك حزينا أي مالك (4/704)
ثم فسر الدعوتين فقال : 42 - { تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم } فقوله تدعونني بدل من تدعونني الأولى أو بيان لهم { ما ليس لي به علم } أي ما لا علم لي بكونه شريكا لله { وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار } أي إلى العزيز في انتقامه بمن كفر الغفار لذنب من آمن به (4/704)
43 - { لا جرم } قد تقدم تفسير هذا في سورة هود وجرم فعل ماض بمعنى حق ولا الداخلة عليه لنفي ما ادعوه ورد ما زعموه وفاعل هذا الفعل هو قوله : { أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة } أي حق ووجب بطلان دعوته قال الزجاج : معناه ليس له استجابة دعوة تنفع وقيل ليس له دعوة توجب له الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة وقال الكلبي : ليس له شفاعة { وأن مردنا إلى الله } أي مرجعنا ومصيرنا إليه بالموت أولا وبالبعث آخرا فيجازى كل أحد بما يستحقه من خير وشر { وأن المسرفين هم أصحاب النار } أي المستكثرين من معاصي الله قال قتادة وابن سيرين : يعني المشركين وقال مجاهد والشعبي : هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها وقال عكرمة : الجبارون والمتكبرون وقيل هم الذين تعدوا حدود الله وأن في الموضعين عطف على أن في قوله : { أنما تدعونني إليه } والمعنى : وحق أن مردنا إلى الله وحق أن المسرفين إلخ (4/704)
44 - { فستذكرون ما أقول لكم } إذا نزل لكم العذاب وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم وفي هذا الإبهام من التخويف والتهديد ما لا يخفى { وأفوض أمري إلى الله } أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه قيل إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به قال مقاتل : هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه وقيل القائل هو موسى والأول أولى (4/704)
45 - { فوقاه الله سيئات ما مكروا } أي وقاه الله ما أرادوا به من المكر السيء وما أرادوا به من الشر قال قتادة : نجاه الله مع بني إسرائيل { وحاق بآل فرعون سوء العذاب } أي أحاط بهم ونزل عليهم سوء العذاب قال الكسائي : يقال حاق يحيق حيقا وحيوقا : إذا نزل ولزم قال الكلبي : غرفوا في البحر ودلوا النار والمراد بآل فرعون : فرعون وقومه وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره لكونه أولى بذلك منهم أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه والأول أولى لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعا بالغرق وسيعذبون في الآخرة بالنار (4/705)
ثم بين سبحانه ما أجمله من سوء العذاب فقال : 46 - { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره يعرضون والأول أولى ورجحه الزجاج وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر وقرئ بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى : أي يصلون النار يعرضون عليها أو على الاختصاص وأجاز الفراء الخفض على البدل من العذاب وذهب الجمهور أن هذا العرض هو في البرزخ وقيل هو في الآخرة قال الفراء : ويكون في الآية تقديم وتأخير : أي أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ولا ملجئ إلى هذا التكلف فإن قوله : { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ وقوله : { أدخلوا } هو بتقدير القول : أي يقال للملائكة أدخلوا آل فرعون و { أشد العذاب } هو عذاب النار قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص { أدخلوا } بفتح الهمزة وكسر الخاء وهو على تقدير القول كما ذكر وقرأ الباقون { ادخلوا } بهمزة وصل من يدخل أمرا لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء : أي ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب (4/705)
47 - { وإذ يتحاجون في النار } الظرف منصوب بإصمار اذكر والمعنى : اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار ثم بين سبحانه هذا التخاصم فقال : { فيقول الضعفاء للذين استكبروا } عن الانقياد للأنبياء والاتباع لهم وهم رؤساء الكفر { إنا كنا لكم تبعا } جمع لتابع كخدم وخادم أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل : أي تابعين أو على حذف مضاف : أي ذوي تبع قال البصريون : التبع يكون واحدا ويكون جمعا وقال الكوفيون هو جمع لا واحد له { فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار } أي هل تدفعون عنا نصيبا منها أو تحملونه معنا وانتصاب نصيبا بفعل مقدر يدل عليه مغنون : أي هل تدفعون عنا نصيبا أو تمنعون على تضمينه معنى حاملين : أي هل أنتم حاملون معنا نصيبا أو على المصدرية (4/705)
48 - { قال الذين استكبروا إنا كل فيها } هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر والمعنى : إنا نحن وأنتم جميعا في جهنم فكيف نغني عنكم قرأ الجمهور { كل } بالرفع على الابتداء وخبره فيها والجملة خبر إن قاله الأخفش وقرأ ابن السميفع وعيسى بن عمر كلا بالنصب قال الكسائي والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى كلنا وتنوينه عوض عن المضاف إليه وقيل على الحال ورجحه ابن مالك { إن الله قد حكم بين العباد } أي قضى بينهم بأن فريقا في الجنة وفريقا في السعير (4/705)
49 - { وقال الذين في النار } من الأمم الكافرة مستكبرهم وضعيفهم { لخزنة جهنم } جمع خازن وهو القوام بتعذيب أهل النار { ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } يوما ظرف ليخفف ومفعول يخفف محذوف : أي يخفف عنا شيئا من العذاب مقدار يوم أو في يوم (4/706)
وجملة 50 - { قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام للتوبيخ والتقريع { قالوا بلى } أي أتونا بها فكذبناهم ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة فلما اعترفوا { قالوا } أي قال لهم الملائكة الذين هم خزنة جهنم { فادعوا } أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئا فقالوا : { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } أي في ضياع وبطلان وخسار وتبار (4/706)
وجملة 51 - { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } مستأنفة من جهته سبحانه : أي نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم والموصول في محل نصب عطفا على رسلنا : أي لننصر رسلنا وننصر الذين آمنوا معهم { في الحياة الدنيا } بما عودهم الله من الانتقام منهم بالقتل والسلب والأسر والقهر { ويوم يقوم الأشهاد } وهو يوم القيامة قال زيد بن أسلم : الأشهاد هم الملائكة والنبيون وقال مجاهد والسدي : الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب قال الزجاج الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب قال النحاس : ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه ولكن ما جاء منه مسموعا أدي على ما يسمع فهو على هذا جمع شهيد مثل شريف وأشراف ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد أن الله يجازيهم بأعمالهم فيدخلهم الجنة ويكرمهم بكراماته ويجازي الكفار بأعمالهم فيلعنهم ويدخلهم النار (4/706)
وهو معنى قوله : 52 - { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة } أي البعد عن الرحمة { ولهم سوء الدار } أي النار ويوم بدل من يوم يقوم الأشهاد وإنما لم تنفعهم المعذرة لأنها معذرة باطلة وتعلة داحضة وشبهة زائغة قرأ الجمهور { تنفع } بالفوقية وقرأ نافع والكوفيون بالتحتية والكل جائز في اللغة
وقد أخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { وأن المسرفين هم أصحاب النار } قال : السفاكين للدماء بغير حقها وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ] زاد ابن مردويه ثم قرأ { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } وأخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر ؟ قال : المال والولد والصحة وأشباه ذلك قلنا : وما إثابته في الآخرة ؟ قال : عذابا دون العذاب وقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ] وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } ] وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله (4/706)
قوله : 53 - { ولقد آتينا موسى الهدى } هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريبا من نصره لرسله : أي آتيناه التوراة والنبوة كما قي قوله سبحانه : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } قال مقاتل : الهدى من الضلالة : يعني التوراة (4/708)
54 - { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب * هدى وذكرى لأولي الألباب } المراد بالكتاب التوراة ومعنى أورثنا أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم وتوارثوها خلفا عن سلف وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى وهدى وذكرى في محل نصب على أنهما مفعول لأجله : أي لأجل الهدى والذكر أو على أنهما مصدران في موضع الحال أي هاديا ومذكرا والمراد بأولي الألباب أهل العقول السليمة (4/708)
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بالصبر على الأذى فقال : 55 - { فاصبر إن وعد الله حق } أي اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل إن وعد الله الذي وعد به رسله حق لا خلف فيه ولا شك في وقوعه كما في قوله : { إنا لننصر رسلنا } وقوله : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } قال الكلبي : نسخ هذا بآية السيف ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه فقال : { واستغفر لذنبك } قيل المراد ذنب أمتك فهو على حذف مضاف وقيل المراد الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء وقيل هو مجرد تعبد له صلى الله عليه و سلم بالاستغفار لزيادة الثواب وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر { وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } أي دم على تنزيه الله ملتبسا بحمده وقيل المراد صل في الوقتين صلاة العصر وصلاة الفجر قاله الحسن وقتادة وقيل هما صلاتان ركعتان غدوة وركعتان عشية وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس (4/708)
56 - { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } أي بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه { إن في صدورهم إلا كبر } أي ما في قلوبهم إلا تكبرا عن الحق يحملهم على تكذيبك وجملة { ما هم ببالغيه } صفة لكبر قال الزجاج : المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه فجعله على حذف المضاف وقال غيره : ما هم ببالغي الكبر وقال ابن قتيبة : المعنى إن في صدورهم إلا كبر : أي تكبر على محمد صلى الله عليه و سلم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك وقيل المراد بالكبر الأمر الكبير : أي يطلبون النبوة أو يطلبون أمرا كبيرا يصلون به إليك من القتل ونحوه ولا يبلغون ذلك وقال مجاهد : معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها والمراد بهذه الآية المشركون وقيل اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم فقال : { فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير } أي فالتجئ إليه من شرهم وكيدهم وبغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية (4/708)
ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } أي أعظم في النفوس وأجل في الصدور لعظم أجرامهما واستقرارهما من غير عمد وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله : { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } قال أبو العالية : المعنى خلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود وقال يحيى بن سلام : هو احتجاج على منكري البعث : أي هما أكبر من إعادة خلق الناس { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } بعظيم قدرة الله وأنه لا يعجزه شيء (4/709)
ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالا للباطل والحق وأنهما لا يستويان فقال : { وما يستوي الأعمى والبصير } أي الذي يجادل بالباطل والذي يجادل بالحق { والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء } أي ولا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح والمسيء بالكفر والمعاصي وزيادة لا في ولا المسيء للتأكيد { قليلا ما تتذكرون } قرأ الجمهور { يتذكرون } بالتحتية على الغيبة واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات : أي تذكرا قليلا ما تتذكرون (4/709)
59 - { إن الساعة لآتية لا ريب فيها } أي لا شك في مجيئها وحصولها { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } بذلك ولا يصدقونه لقصور أفهامهم وضعف عقولهم عن إدراك الحجة والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث (4/709)
ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود فأمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو 60 - { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } قال أكثر المفسرين المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم وقيل المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر قيل الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة قلت : بل الثاني أولى لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعا هو الطلب فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة ووعده الحق وما يبدل القول لديه ولا يخلف الميعاد ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أي ذليلين صاغرين وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله وفيه لطف بعباده عظيم وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة فيا عباد الله وجهوا رغباتكم وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه وأرشدكم إلى التعويل عليه وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين قيل وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة : أي أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه : { فيكشف ما تدعون إليه إن شاء } الله قرأ الجمهور { سيدخلون } بفتح الياء وضم الخاء مبنيا للفاعل وقرأ ابن كثير وابن محيصن وورش وأبو جعفر بضم الياء وفتح الخاء مبنيا للمفعول (4/709)
ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال : 61 - { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلما باردا تناسبه الراحة بالسكون والنوم { والنهار مبصرا } أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم { إن الله لذو فضل على الناس } يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } النعم ولا يعترفون بها إما لجحودهم لها وكفرهم بها كما هو شأن الكفار أو لإغفالهم للنظر وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم وهم الجاهلون (4/710)
62 - { ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو } بين سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده قرأ الجمهور { خالق } بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأول عن المبتدأ وقرأ زيد بن علي بنصبه على الاختصاص { فأنى تؤفكون } أي فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده (4/710)
63 - { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون } أي مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده (4/710)
ثم ذكر لهم سبحانه نوعا آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية فقال : 64 - { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء } أي موضع قرار فيها تحيون وفيها تموتون { والسماء بناء } : أي سقفا قائما ثابتا ثم بين بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال : { وصوركم فأحسن صوركم } أي خلقكم في أحسن صورة قال الزجاج : خلقكم أحسن الحيوان كله قرأ الجمهور { صوركم } بضم الصاد وقرأ الأعمش وأبو رزين بكسرها قال الجوهري : والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها { ورزقكم من الطيبات } أي المستلذات { ذلكم } المبعوث بهذه النعوت الجليلة { الله ربكم فتبارك الله رب العالمين } أي كثرة خيره وبركته (4/710)
65 - { هو الحي لا إله إلا هو } أي الباقي الذي لا يفنى المنفرد بالألوهية { فادعوه مخلصين له الدين } أي الطاعة والعبادة { الحمد لله رب العالمين } قال الفراء : هو خبر وفيه إضمار أمر : أي احمدوه
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صحيح عن أبي العالية قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون في أمره فعظموا أمره وقالوا : نصنع كذا ونصنع كذا فأنزل الله { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } قال : لا يبلغ الذي يقول { فاستعذ بالله } فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال : هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { إن في صدورهم إلا كبر } قال : عظمة قريش وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الدعاء هو العبادة ثم قرأ { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي } قال : عن دعائي { سيدخلون جهنم داخرين } ] قال الترمذي : حسن صحيح وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الدعاء هو العبادة { قال ربكم ادعوني أستجب لكم } ] وأخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله : { ادعوني أستجب لكم } قال : وحدوني أغفر لكم وأخرج الحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله في الآية قال : اعبدوني وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الدعاء الاستغفار ] وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وأحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لم يدع الله يغضب عليه ] وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والطبراني عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء ] وأخرج الترمذي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الدعاء مخ العبادة ] وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : أفضل العبادة الدعاء وقرأ { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } الآية وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت : سئل النبي صلى الله عليه و سلم أي العبادة أفضل ؟ فقال : دعاء المرء لنفسه وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : من قال لا إله إلآ الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله : { فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين } (4/711)
أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره وأمره بالتوحيد فقال : 66 - { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } وهي الأصنام ثم بين وجه النهي فقال : { لما جاءني البينات من ربي } وهي الأدلة العقلية والنقلية فإنها توجب التوحيد { وأمرت أن أسلم لرب العالمين } أي أستسلم له بالانقياد والخضوع (4/713)
ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة على التوحيد فقال : { هو الذي خلقكم من تراب } أي خلق أباكم الأول وهو آدم وخلقه من تراب يستلزم خلق ذريته منه { ثم من نطفة ثم من علقة } قد تقدم تفسير هذا في غير موضع { ثم يخرجكم طفلا } أي أطفالا وأفرده لكونه اسم جنس أو على معنى يخرج كل واحد منكم طفلا { ثم لتبلغوا أشدكم } وهي الحالة التي تجتمع فيها القوة والعقل وقد سبق بيان الأشد مستوفى في الأنعام واللام التعليلية في لتبلغوا غاية الكمال وقوله : { ثم لتكونوا شيوخا } معطوف على لتبلغوا قرأ نافع وحفص وأبو عمرو وابن محيصن وهشام { شيوخا } بضم الشين وقرأ الباقون بكسرها وقرئ شيخا على الإفراد لقوله طفلا والشيخ من جاوز الأربعين سنة { ومنكم من يتوفى من قبل } أي من قبل الشيخوخة { ولتبلغوا أجلا مسمى } أي وقت الموت أو يوم القيامة واللام هي لام العاقبة { ولعلكم تعقلون } أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة (4/713)
68 - { هو الذي يحيي ويميت } أي يقدر على الإحياء والإماتة { فإذا قضى أمرا } من الأمور التي يريدها { فإنما يقول له كن فيكون } من غير توقف وهو تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها وقد تقدم تحقيق معناه في البقرة وفيما بعدها (4/713)
ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله فقال : 69 - { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله } وقد سبق بيان معنى المجادلة { أنى يصرفون } أي كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد قال ابن زيد : هم المشركون بدليل قوله : { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا } قال القرطبي : وقال أكثر المفسرين نزلت في القدرية قال ابن سيرين : إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت (4/714)
ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدل على غير ما قالوه فقال : { الذين كذبوا بالكتاب } أي بالقرآن وهذا وصف لا يصح أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام والموصول إما في محل جر على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منمه ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم والمراد بالكتاب إما القرآن أو جنس الكتب المنزلة من عند الله وقوله : { وبما أرسلنا به رسلنا } معطوف على قوله بالكتاب ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن { فسوف يعلمون } عاقبة أمرهم ووبال كفرهم وفي هذا وعيد شديد (4/714)
والظرف في قوله : { إذ الأغلال في أعناقهم } متعلق بيعلمون : أي فسوف يعلمون وقت كون الأغلال في أعناقهم { والسلاسل } معطوف على الأغلال والتقدير : إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ وخبره محذوف لدلالة في أعناقهم عليه ويجوز أن يكون خبره { يسحبون * في الحميم } بحذف العائد : أي يسحبون بها في الحميم وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وأبو الجوزاء بنصبها وقرأوا يسحبون بفتح الياء مبنيا للفاعل فتكون السلاسل مفعولا مقدما وقرأ بعضهم بجر السلاسل قال الفراء : وهذه القراءة محمولة على المعنى إذ المعنى : أعناقهم في الأغلال والسلاسل وقال الزجاج : المعنى على هذه القراءة : وفي السلاسل يسحبون واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية ومحل يسحبون على تقدير عطف السلاسل على الأغلال وعلى تقدير كونها مبتدأ وخبرها في أعناقهم النصب على الحال أو لا محل له بل هو مستأنف جواب سؤال مقدر (4/714)
والحميم هو المتناهي في الحر وقيل الصديد وقد تقد تفسيره 72 - { ثم في النار يسجرون } يقال سجرت التنور : أي أوقدته وسجرته ملأته بالوقود ومنه { والبحر المسجور } أي المملوء فالمعنى توقد بهم النار أو تملأ بهم قال مجاهد ومقاتل : توقد بهم النار فصاروا وقودها (4/714)
73 - { وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله } هذا توبيخ وتقريع لهم : أي أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله (4/714)
74 - { قالوا ضلوا عنا } أي ذهبوا وفقدانهم فلا نراهم ثم أضربوا عن ذلك وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم وأنه لا وجود لهم فقالوا { بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا } أي لم نكن نعبد شيئا قالوا هذا لما نبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع وليس هذا إنكارا منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة { كذلك يضل الله الكافرين } أي مثل ذلك الضلال يضل الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار (4/714)
والإشارة بقوله : 75 - { ذلكم } إلى الإضلال المدلول عليه بالفعل : أي ذلك الإضلال بـ سبب { ما كنتم تفرحون في الأرض } أي بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله والسرور بمخالفة رسله وكتبه وقيل بما كنتم تفرحون به من المال والأتباع والصحة وقيل بما كنتم تفرحون به من إنكار البعث وقيل المراد بالفرح هنا البطر والتكبر وبالمرح الزيادة في البطر وقال مجاهد وغيره : تمرحون : أي تبطرون وتأشرون وقال الضحاك : الفرح السرور والمرح العدوان وقال مقاتل المرح : البطر والخيلاء (4/715)
76 - { ادخلوا أبواب جهنم } حال كونكم { خالدين فيها } أي مقدرين الخلود فيها { فبئس مثوى المتكبرين } عن قبول الحق جهنم (4/715)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بالصبر فقال : 77 - { فاصبر إن وعد الله حق } أي وعده بالانتقام منهم كائن لا محالة إما في الدنيا أو في الآخرة ولهذا قال : { فإما نرينك بعض الذي نعدهم } من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر وما في فإما زائدة على مذهب المبرد والزجاج والأصل فإن نرك ولحقت بالفعل نون التأكيد وقوله : { أو نتوفينك } معطوف على نرينك : أي أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم { فإلينا يرجعون } يوم القيامة فنعذبهم (4/715)
78 - { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك } أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوه من قومهم { ومنهم من لم نقصص عليك } خبره ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه وبين قومه { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } لا من قبل نفسه والمراد بالآية المعجزة الدالة على نبوته { فإذا جاء أمر الله } أي إذا جاء الوقت المعين لعذابهم في الدنيا أو في الآخرة { قضي بينهم بالحق } فيما بينهم فينجي الله بقضائه الحق على عباده المحقين { وخسر هنالك } أي في ذلك الوقت { المبطلون } الذين يتبعون الباطل ويعملون به (4/715)
ثم امتن سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى فقال : 79 - { الله الذي جعل لكم الأنعام } أي خلقها لأجلكم قال الزجاج : الأنعام ها هنا الإبل وقيل الأزواج الثمانية { لتركبوا منها } من للتبعيض وكذلك في قوله : { ومنها تأكلون } ويجوز أن تكون لابتداء الغاية في الموضعين ومعناها ابتداء الركوب وابتداء الأكل والأول أولى والمعنى : لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها (4/715)
80 - { ولكم فيها منافع } أخر غير الركوب والأكل من الوبر والصوف والشعر والزبد والسمن والجبن وغير ذلك { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } قال مجاهد ومقاتل وقتادة : تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد وقد تقدم بيان هذا مستوفى في سورة النحل { وعليها وعلى الفلك تحملون } أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر وقيل المراد بالحمل على الأنعام هنا حمل الولدان والنساء بالهوادج (4/715)
81 - { ويريكم آياته } أي دلالاته الدالة على كمال قدرته ووحدانيته { فأي آيات الله تنكرون } فإنها كلها من الظهور وعدم الخفاء بحيث لا ينكرها منكر ولا يجحدها جاحد وفيه تقريع لهم وتوبيخ عظيم ونصب أي بتنكرون وإنما قدم على العامل فيه لأن له صدر الكلام (4/716)
ثم أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار والتفكر في آيات الله فقال : 82 - { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } من الأمم التي عصت الله وكذبت رسلها فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدل على ما نزل بهم من العقوبة وما صاروا إليه من سوء العاقبة ثم بين سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة فقال : { كانوا أكثر منهم وأشد قوة } أي أكثر منهم عددا وأقوى منهم أجسادا وأوسع منهم أموالا { و } أظهر منهم { آثارا في الأرض } بالعمائر والمصانع والحرث { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } يجوز أن تكون ما الأولى استفهامية : أي أي شيء أغنى عنهم أو نافية : أي لم يغن عنهم وما الثانية يجوز أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية (4/716)
83 - { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات } أي بالحجج الواضحات والمعجزات الظاهرات { فرحوا بما عندهم من العلم } أي أظهروا الفرح بما عندهم مما يدعون أنه من العلم من الشبه الداحضة والدعاوى الزائغة وسماه علما تهكما بهم أو على ما يعتقدونه وقال مجاهد : قالوا نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث وقيل المراد من علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله : { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } وقيل الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل وذلك أنه لما كذبهم قومهم أعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين ومنجي المؤمنين ففرحوا بذلك { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } أي أحاط بهم جزاء استهزائهم (4/716)
84 - { فلما رأوا بأسنا } أي عاينوا عذابنا النازل بهم { قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها (4/716)
85 - { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } أي عند معاينة عذابنا لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه فإنه إنما ينفع الإيمان الاختياري لا الإيمان الاضطراري { سنة الله التي قد خلت في عباده } أي التي قد مضت في عباده والمعنى : أن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب وقد مضى بيان هذا في سورة النساء وسورة التوبة وانتصاب سنة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة وعد الله وما أشبهه من المصادر المؤكدة وقيل هو منصوب على التحذير : أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في الأمم الماضية والأول أولى { وخسر هنالك الكافرون } أي وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه قال الزجاج : الكافر خاسر في كل وقت ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب
وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن عبد الله بن عمرو قال [ تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { إذ الأغلال في أعناقهم } إلى قوله : { يسجرون } فقال : لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى جمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قال قعرها ] وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن ابن عباس قال : يسبحون في الحميم فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ولحم وعرق حتى يصير في عقبه حتى إن لحمه قدر طوله وطوله ستون ذراعا ثم يكسى جلدا آخر ثم يسجر في الحميم وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله : { ومنهم من لم نقصص عليك } قال : بعث الله عبدا حبشيا فهو ممن لم يقصص على محمد (4/716)
سورة فصلت
وتسمى سورة حم السجدة وهي أربع وخمسون آية وقيل ثلاث وخمسون
قال القرطبي : وهي مكية في قول الجميع وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال [ اجتمع قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه ؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا ائت يا أبا الوليد فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك أما والله ما رأينا سخلة قط اشأم على قومك منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا والله ما تنتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجنك عشرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فرغت ؟ قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته } حتى بلغ { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فقال عتبة : حسبك حسبك ما عندك غير هذا ؟ قال : لا فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته فقالوا : فهل أجابك قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال ؟ قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة ] وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال : [ لما قرأ النبي صلى الله عليه و سلم على عتبة بن ربيعة { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم } أتى أصحابه فقال : يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذني قط كلاما مثله وما دريت ما أراد عليه ] وفي هذا الباب روايات تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته صلى الله عليه و سلم أول هذه السورة عليه
قوله : 1 - { حم } قد تقدم الكلام على إعرابه ومعناه في السورة التي قبل هذه السورة فلا نعيده (4/717)
وكذلك تقدم الكلام على معنى 2 - { تنزيل } وإعرابه قال الزجاج والأخفش : تنزيل مرفوع بالابتداء وخبره { كتاب فصلت } وقال الفراء : يجوز أن يكون على إضمار هذا ويجوز أن يقال كتاب بدل من قوله تنزيل و { من الرحمن الرحيم } متعلق بتنزيل (4/719)
ومعنى 3 - { فصلت آياته } بينت أو جعلت أساليب مختلفة قال قتادة : فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته وقال الحسن : بالوعد والوعيد وقال سفيان : بالثواب والعقاب ولا مانع من الحمل على الكل والجملة في محل نصب صفة لكتاب وقرئ فصلت بالتخفيف : أي فرقت بين الحق والباطل وانتصاب { قرآنا عربيا } على الحال أي فصلت آياته حال كونه قرآنا عربيا وقال الأخفش : نصب على المدح وقيل على المصدرية : أي يقرأه قرآنا وقيل مفعول ثان لفصلت وقيل على إضمار فعل يدل عليه فصلت : أي فصلناه قرآنا عربيا { لقوم يعلمون } أي يعلمون معانيه ويفهمونها : وهم أهل اللسان العربي قال الضحاك أي يعلمون أي يعلمون معانيه ويفهمونها : وهم أهل اللسان العربي قال الضحاك أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله وقال مجاهد : أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل واللام متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآن : أي كائنا لقوم أو متعلق بفصلت والأول أولى (4/719)
وكذلك 4 - { بشيرا ونذيرا } صفتان أخريان لقرآنا أو حالان من كتاب والمعنى بشيرا لأولياء الله ونذيرا لأعدائه وقرئ بشير ونذير بالرفع على أنهما صفة لكتاب أو خبر مبتدأ محذوف { فأعرض أكثرهم } المراد بالأكثر هنا الكفار : أي فأعرض الكفار عما اشتمل عليه من النذارة { فهم لا يسمعون } سماعا ينتفعون به لإعراضهم عنه (4/719)
5 - { وقالوا قلوبنا في أكنة } أي في أغطية مثل الكنانة التي فيها السهام فهي لا تفقه ما تقول ولا يصل إليها قولك والأكنة جمع كنان هو الغطاء قال مجاهد : الكنان للقلب كالجنة للنبل وقد تقدم بيان هذا في البقرة { وفي آذاننا وقر } أي صمم وأصل الوقر الثقل وقرأ طلحة بن مصرف وقر بكسر الواو وقرئ بفتح الواو والقاف ومن في { ومن بيننا وبينك حجاب } لابتداء الغاية والمعنى : أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك فالمسافة المتوسطة بين جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق ومج وأسماعهم له وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم { فاعمل إننا عاملون } أي اعمل على دينك إننا عاملون على ديننا وقال الكلبي : اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك وقال مقاتل : اعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها وقيل اعمل لآخرتك فإنا عاملون لدنيانا (4/720)
ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال : 6 - { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } أي إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقر ومن بيني وبينكم حجاب ولم أدعكم إلى ما يخالف العقل وإنما أدعوكم إلى التوحيد قرأ الجمهور { يوحى } مبنيا للمفعول وقرأ الأعمش والنخعي مبنيا للفاعل : أي يوحي الله إلي وقيل ومعنى الآية : أني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إلي التوحيد والأمر به فعلي البلاغ وحده فإن قبلتم رشدتم وإن أبيتم هلكتم وقيل المعنى : إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي ألي دونكم فصرت بالوحي نبيا ووجب عليكم اتباعي وقال الحسن في معنى الآية : إن الله سبحانه علم رسوله صلى الله عليه و سلم كيف يتواضع { فاستقيموا إليه } عداه بإلى لتضمنه معنى توجهوا والمعنى : وجهوا استقامتكم إليه بالطاعة ولا تميلوا عن سبيله { واستغفروه } لما فرط منكم من الذنوب ثم هدد المشركين وتوعدهم فقال : { وويل للمشركين } (4/720)
ثم وصفهم بقوله : 7 - { الذين لا يؤتون الزكاة } أي يمنعونها ولا يخرجونها إلى الفقراء وقال الحسن وقتادة : لا يقرون بوجوبها وقال الضحاك ومقاتل : لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة وقيل معنى الآية لا يشهدون أن لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس وتطهيرها وقال الفراء : كان المشركون ينفقون النفقات ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم فنزلت فيهم هذه الآية { وهم بالآخرة هم كافرون } معطوف على لا يؤتون داخل معه في حيز الصلة : أي منكرون للآخرة جاحدون لها والمجيء بضمير الفصل لقصد الحصر (4/720)
8 - { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } أي غير مقطوع عنهم يقال مننت الحبل : إذا قطعته ومنه قول الأصبغ الأودي :
( إني لعمرك ما آبى بذي علق ... على الصديق ولا خيري بممنون )
وقيل الممنون المنقوص قاله قطرب وأنشد قول زهير :
( فضل الجواد على الخيل البطاقا ... يعطي بذلك ممنونا ولا مرقا )
قال الجوهري : المن القطع ويقال النقص ومنه قوله تعالى : { لهم أجر غير ممنون } وقال لبيد :
( عنسا كواسب لا يمن طعامها )
وقال مجاهد غير ممنون : غير محسوب وقيل معنى الآية لا يمن عليهم به لأنه إنما يمن بالتفضل فأما الأجر فحق أداؤه وقال السدي : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه (4/721)
ثم أمر الله سبحانه رسوله لله أن يوبخهم ويقرعهم فقال : 9 - { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } أي لتكفرون بمن شأنه هذا الشأن العظيم وقدرته هذه القدرة الباهرة قيل اليومان هما يوم الأحد ويوم الاثنين وقيل المراد مقدار يومين لأن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض والسماء قرأ الجمهور { أإنكم } بهمزتين الثانية بين بين وقرأ ابن كثير بهمزة وبعدها ياء خفيفة { وتجعلون له أندادا } أي أضدادا وشركاء والجملة معطوفة على تكفرون داخلة تحت الاستفهام والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الموصول المتصف بما ذكر وهو مبتدأ وخبره { رب العالمين } ومن جملة العالمين ما تجعلونها أندادا لله فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته (4/721)
10 - وقوله : { وجعل فيها رواسي } معطوف على خلق : أي كيف تكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي : أي جبالا ثوابت من فوقها وقيل جملة وجعل فيها رواسي مستأنفة غير معطوفة على خلق لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي والأول أولى لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها فكانت بمنزلة التأكيد ومعنى { من فوقها } أنها مرتفعة عليها لأنها من أجزاء الأرض وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها { وبارك فيها } أي جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها من المنافع للعباد قال السدي : أنبت فيها شجرها { وقدر فيها أقواتها } قال قتادة ومجاهد : خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها وقال الحسن وعكرمة والضحاك : قدر فيها أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع جعل في كل بلد ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد ومعنى { في أربعة أيام } أي في تتمة أربعة أيام باليومين المتقدمين قاله الزجاج وغيره قال ابن الأنباري : ومثاله قول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما : أي في تتمة خمسة عشر يوما فيكون المعنى أن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام وانتاب { سواء } وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد بخفضه على أنه سفة لأيام وقرأ أبو جعفر برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الحسن : المعنى في أربعة أيام مستوية تامة وقوله : { للسائلين } متعلق بسواء : أي مستويات للسائلين أو بمحذوف كأنه قيل هذا الحصر للسائلين في كم خلقت الأرض وما فيها ؟ أو متعلق بقدر : أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين المحتاجين إليها قال الفراء : في الكلام تقديم وتأخير والمعنى : وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام واختار هذا ابن جرير (4/721)
ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها ذكر كيفية خلق للسموات فقال : 11 - { ثم استوى إلى السماء } أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا قال الرازي : هو من قولهم : استوى إلى مكان كذا : إذ توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ونظيره قولهم استقام إليه ومنه قوله تعالى : { فاستقيموا إليه } والمعنى : ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض وما فيها قال الحسن : معنى الآية صعد أمره إلى السماء { وهي دخان } الدخان ما ارتفع من لهب النار ويستعار لما يرى من بخار الأرض قال المفسرون : هذا الدخان هو بخار الماء وخص سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجها إليها وإلى الأرض كما يفيده قوله : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } استغناء بما تقدم من ذكر تقديرها وتقدير ما فيها ومعنى ائتيا : افعلا ما آمركما به وجيئا به كما يقال ائت ما هو الأحسن أي افعله قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله سبحانه قال : أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك وأما أنت يا أرض فتشققي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك قرأ الجمهور { ائتيا } أمرا من الإتيان وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد آتيا قالتا آتينا بالمد فيهما وهو إما من المؤاتاة وهي الموافقة : أي لتوافق كل منكما الأخرى أو من الإيتاء وهو الإعطاء فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا وعلى الثاني افعلا كأكرما { طوعا أو كرها } مصدران في موضع الحال : أي طائعين أو مكرهتين وقرأ الأعمش كرها بالضم قال الزجاج : أطيعا طاعة أو تكرهان كرها قيل ومعنى هذا الأمر لهما التسخير : أي كونا فكانتا كما قال تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته واستحالة امتناعها { قالتا أتينا طائعين } أي أتينا أمرك منقادين وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء قال القرطبي : قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد سبحانه وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما وتأثير القدرة الربانية فيهما (4/722)
12 - { فقضاهن سبع سماوات } أي خلقهن وأحكمهن وفرغ منهن كما في قول الشاعر :
( وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود إذ صبغ السوابغ تبع )
والضمير في قضاهن إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سموات أو مبهم مفسر بسبع سموات وانتصاب سبع سموات على التفسير أو على البدل من الضمير وقيل إن انتصابه على أنه المفعول الثاني لقضاهن لأنه مضمن معنى صبرهن وقيل على الحال : أي قضاهن حال كونهن معدودات بسبع ويكون قضى بمعنى صنع وقيل على التمييز ومعنى { في يومين } كما سبق في قوله : { خلق الأرض في يومين } فالجملة ستة أيام كما في قوله سبحانه : { خلق السماوات والأرض في ستة أيام } وقد تقدم بيانه في سورة الأعراف قال مجاهد : ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون قال عبد الله بن سلام : خلق الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين وقد فيها أقواتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة وقوله : { وأوحى في كل سماء أمرها } عطف على قضاهن قال قتادة والسدي : أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلوج وقيل المعنى : أوحى فيها ما أراده وما أمر به والإيحاء قد يكون بمعنى الأمر كما في قوله : { بأن ربك أوحى } وقوله : { وإذ أوحيت إلى الحواريين } أي أمرتهم
وقد استشكل الجمع بين هذه الآية وبين قوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } فإن ما في هذه الآية من قوله : { ثم استوى إلى السماء } مشعر بأن خلقها متأخر عن خلق الأرض وظاهره يخالف قوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } فقيل إن ثم في { ثم استوى إلى السماء } ليست للتراخي الزماني بل للتراخي الرتبي فيندفع الإشكال من أصله وعلى تقدير أنها للتراخي الزماني فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء ودحوها بمعنى بسطها هو أمر زائد على مجرد خلقها فهي متقدمة خلقا متأخرة دحوا وهذا ظاهر ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح { و } انتصاب { حفظا } على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف : أي وحفظناها حفظا أو على أنه مفعول لأجله على تقدير : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا والأول أولى قال أبو حيان : في الوجه الثاني هو تكلف وعدول عن السهل البين والمراد بالحفظ حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم ذكره { تقدير العزيز العليم } أي البليغ القدرة الكثير العلم (4/723)
13 - { فإن أعرضوا } عن التدبر والتفكر في هذه المخلوقات { فقل أنذرتكم } أي فقل يا محمد أنذرتكم خوفتكم { صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } أي عذابا مثل عذابهم والمراد بالصاعقة العذاب المهلك من كل شيء قال المبرد : الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان قرأ الجمهور صاعقة في الموضعين وقد تقدم بيان معنى الصاعقة والصعقة في البقرة (4/724)
وقوله : 14 - { إذ جاءتهم الرسل } ظرف لأنذرتكم أو لصاعقة لأنها بمعنى العذاب : أي أنذرتكم العذاب الواقع وقت مجيء الرسل أو حال من صاعقة عاد وهذا أولى من الوجهين الأولين لأن الإنذار لم يقع وقت مجيء الرسل فلا يصح أن يكون ظرفا له وكذلك الصاعقة لا يصح أن يكون الوقت ظرفا لها وقوله : { من بين أيديهم ومن خلفهم } متعلق بجاءتهم : أي جاءتهم من جميع جوابنهم وقيل المعنى جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم منزلة مجيئهم أنفسهم فكأن الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقولهم : { أن لا تعبدوا إلا الله } أي بأن لا تعبدوا على أنها المصدرية ويجوز أن تكون التفسيرية أو المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل فقال : { قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } أي لأرسلهم إلينا ولم يرسل إلينا بشرا من جنسنا ثم صرحوا بالكفر ولم يتلعثموا فقالوا { فإنا بما أرسلتم به كافرون } أي كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا فكيف اختصكم برسالته دوننا وقد تقدم دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها في غير موضع
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة } قال : لا يشهدون أن لا إله إلا الله وفي قوله : { لهم أجر غير ممنون } قال : غير منقوص وأخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عنه [ أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه و سلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال : خلق الله الأرض في يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والحجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام فقال تعالى : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه فخلق من أول ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات وفي الثانية ألقى فيها من كل شيء مما ينتفع به وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها
في آخر ساعة قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد ؟ قال ثم استوى على العرش قالوا : قد أصبت لو أتممت قالوا ثم استراح فغضب النبي صلى الله عليه و سلم غضبا شديدا فنزل { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب * فاصبر على ما يقولون } ] وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وقدر فيها أقواتها } قال : شق الأنهار وغرس الأشجار ووضع الجبال وأجرى البحار وجعل في هذه ما ليس في هذه وفي هذه ما ليس في هذه وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال : إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء ثم خلق خامسا فسماه الخميس وذكر نحو ما تقدم وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أن الله فرغ من خلقه في ستة أيام وذكر نحو ما تقدم ] وأخرج ابن جرير عن أبي بكر نحو ما تقدم عن ابن عباس وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } قال : قال للسماء أخرجي شمسك وقمرك ونجومك وللأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك { قالتا أتينا طائعين } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ائتيا } قال أعطيا وفي قوله : { قالتا أتينا } قال : أعطينا (4/724)
لما ذكر سبحانه عادا وثمود إجمالا ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلا فقال : 15 - { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق } أي تكبروا عن الإيمان بالله وتصديق رسله واستعلوا على من في الأرض بغير الحق : أي بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر والتجبر ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر عنهم من الأقوال الدالة على الاستكبار فقال : { وقالوا من أشد منا قوة } وكانوا ذوي أجسام طوال وقوة شديدة فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هود بالعذاب ومرادهم بهذا القول أنهم قادرون على دفع ما ينزل بهم من العذاب فرد الله عليهم بقوله : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } والاستفهام للاستنكار عليهم والتوبيخ لهم : أي أو لم يعلموا بأن الله أشد منهم قدرة فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء بقوله كن فيكون { وكانوا بآياتنا يجحدون } أي بمعجزات الرسل التي خصهم الله بها وجعلها دليلا على نبوتهم أو بآياتنا التي أنزلناها على رسلنا أو بآياتنا التكوينية التي نصبناها لهم وجعلناها حجة عليهم أو بجميع ذلك (4/726)
ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال : 16 - { فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا } الصرصر الريح الشديدة الصوت من الصرة وهي الصيحة قال أبو عبيدة : معنى صرصر شديدة عاصفة وقال الفراء : هي الباردة تحرق كما تحرق النار وقال عكرمة وسعيد بن جبير وقتادة : هي الباردة وأنشد قطرب قول الحطيئة :
( المطعمون إذا هبت بصرصرة ... والحاملون إذا استودوا عن الناس )
أي إذا سئلوا الدية وقال مجاهد : هي الشديدة السموم والأولى تفسيرها بالبرد لأن الصر في كلام العرب البرد ومنه قول الشاعر :
( لها غدر كقرون النسا ... ء ركبن في يوم ريح وصر )
قال ابن السكيت : صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد ويجوز أن يكون من صرصر الباب ومن الصرة وهي الصيحة ومنه فأقبلت امرأته في صرة ثم بين سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم فقال : { في أيام نحسات } أي مشؤومات ذوات نحوس قال مجاهد وقتادة : كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما وقيل نحسات باردات وقيل متتابعات وقيل شداد وقيل ذوات غبار قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { نحسات } بإسكان الحاء على أنه جمع نحس وقرأ الباقون بكسرها واختار أبو حاتم القراءة الأولى لقوله : { في يوم نحس مستمر } واختار أبو عبيد القراءة الثانية { لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } أي لكي نذيقهم والخزي هو الذل والهوان بسبب ذلك الاستكبار { ولعذاب الآخرة أخزى } أي أشد إهانة وذلا ووصف العذاب بذلك وهو في الحقيقة وصف للمعذبين لأنهم الذين صاروا متصفين بالخزي { وهم لا ينصرون } أي لا يمنعون من العذاب النازل بهم ولا يدفعه عنهم دافع (4/727)
ثم ذكر حال الطائفة الأخرى فقال : 17 - { وأما ثمود فهديناهم } أي بينا له سبيل النجاة ودللناهم على طريق الحق بإرسال الرسل إليهم ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ويصدق رسله قال الفراء : معنى الآية دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل قرأ الجمهور { وأما ثمود } بالرفع ومنع الصرف وقرأ الأعمش وابن وثاب بالرفع والصرف وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعاصم في رواية بالنصب والصرف وقرأ الحسن وابن هرمز وعاصم في رواية بالنصب والمنع فأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر وأما النصب فعلى الاشتغال وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب أو الحي وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة { فاستحبوا العمى على الهدى } أي اختاروا الكفر على الإيمان وقال أبو العالية اختاروا العمى على البيان وقال السدي : اختاروا المعصية على الطاعة { فأخذتهم صاعقة العذاب الهون } قد تقدم أن الصاعقة اسم للشيء المهلك لأي شيء كان والهون الهوان والإهانة فكأنه قال أصابهم مهلك العذاب ذي الهوان أو الإهانة ويقال عذاب هون : أي مهين كقوله : { ما لبثوا في العذاب المهين } والباء في { بما كانوا يكسبون } للسببية أي بسبب الذي كانوا يكسبونه أو بسبب كسبهم (4/727)
18 - { ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } وهم صالح ومن معه من المؤمنين فإن الله نجاهم من ذلك العذاب (4/828)
ثم لما ذكر سبحانه ما عاقبهم به في الدنيا ذكر ما عاقبهم به في الآخرة فقال : 19 - { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار } وفي وصفهم بكونهم أعداء الله مبالغة في ذمهم والعامل في الظرف محذوف دل عليه ما بعده تقديره : يساق الناس يوم يحشر أو باذكر : أي اذكر يوم يحشرهم قرأ الجمهور يحشر بتحتية مضمومة ورفع أعداء على النيابة وقرأ نافع نحشر بالنون ونصب أعداء ومعنى حشرهم إلى النار سوقهم إليها أو إلى موقف الحساب لأنه يتبين عنده فريق الجنة وفريق النار { فهم يوزعون } أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وجتمعوا كذا قال قتادة والسدي وغيرهما وقد سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى (4/728)
20 - { حتى إذا ما جاؤوها } أي جاءوا النار التي حشروا إليها أو موقف الحساب وما مزيدة للتوكيد { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } في الدنيا من المعاصي قال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمت الألسن من عملهم بالشرك والمراد بالجلود هي جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين وقال السدي وعبيد الله بن أبي جعفر والفراء : أراد بالجلود الفروج والأول أولى (4/728)
21 - { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } وجه تخصيص الثلاثة بالشهادة دون غيرها ما ذكره الرازي أن الحواس الخمس : وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس وآلة اللمس هي الجلد فالله سبحانه ذكر هنا ثلاثة أنواع من الحواس وهي السمع والبصر واللمس وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم فالذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام وكذلك الشم لا يتأتى حتي تصير جلدة الحنك مماسة لجرم الشموم فكانا داخلين في جنس اللمس وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس فكان تأتي المعصية من جهتها أكثر وأما على قول من فسر الجلود بالفروج فوجه تخصيصها بالسؤال ظاهر لأن ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحا وأجلب للخزي والعقوبة وقد قدمنا وجه إفراد السمع وجمع الأبصار { قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أي أنطق كل شيء مما ينطق من مخلوقاته فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح وقيل المعنى : ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله والأول أولى { وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } قيل هذا من تمام كلام الجلود وقيل مستأنف من كلام الله والمعنى : أن من قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ورجعكم إليه (4/728)
22 - { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } هذا تقريع لهم وتوبيخ من جهة الله سبحانه أو من كلام الجلود : أي ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذرا من شهادة الجوارح عليكم ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية وقيل معنى الاستتار الاتقاء : أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة وأن في قوله : { أن تشهد } في محل نصب على العلة : أي لأجل أن تشهد أو مخافة أن تشهد وقيل منصوبة بنزع الخافض وهو الباء أو عن أو من وقيل إن الاستتار مضمن معنى الظن : أي وما كنتم تظنون أن تشهد وهو بعيد { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون } من المعاصي فاجترأتم على فعلها قيل كان الكفار يقولون : إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسر قال قتادة : الظن هنا بمعنى العلم وقيل أريد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما هو فوقه من العلم (4/729)
23 - { و } الإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما ذكر من ظنهم وهو مبتدأ وخبره { ظنكم الذي ظننتم بربكم } وقوله : { أرداكم } خبر آخر للمبتدأ : وقيل إن أرداكم في محل نصب على الحال المقدرة وقيل إن ظنكم بدل من ذلكم والذي ظننتم خبره وأرداكم خبر آخر أو حال وقيل إن ظنكم خبر أول والموصول وصلته خبر ثان وأرداكم خبر ثالث والمعنى : أن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم وطرحكم في النار { فأصبحتم من الخاسرين } أي الكاملين في الخسران (4/729)
ثم أخبر على حالهم فقال : 24 - { فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } أي فإن يصبروا على النار فالنار مثواهم : أي محل استقرارهم وإقامتهم لا خروج لهم منها وقيل المعنى : فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم { وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } يقال أعتبني فلان : أي أرضاني بعد إسخاطه إياي واستعتبته طلبت منه أن يرضى والمعنى : أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع لأنهم لا يستحقون ذلك قال الخليل : تقول استعتبته فأعتبني : أي استرضيته فأرضاني ومعنى الآية : إن يطلبوا الرضى لم يقع الرضى عنهم بل لا بد لهم من النار قرأ الجمهور { يستعتبوا } بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية الثانية مبنيا للفاعل وقرأوا { من المعتبين } بفتح الفوقية اسم مفعول وقرأ الحسن وعبيد بن عمير وأبو العالية يستعتبوا مبنيا للمفعول فما هم من المعتبين اسم فاعل : أي إنهم إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }
وقد أخرج الطبراني عبن ابن عباس في قوله : { فهم يوزعون } قال : يحبس أولهم على آخرهم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : يدفعون وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر : قرشي وثقيفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخران : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه فقال الآخران : إن سمع منه شيئا سمعه كله قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم } إلى قوله : { من الخاسرين } وأخرج عبد الرزاق وأحمد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم : [ تحشرون ها هنا وأومأ بيده إلى الشام مشاة وركبانا وعلى وجوهكم وتعرضون على الله وعلى أفواهكم الفدام وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكتفه وتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } ] وأخرج أحمد وأبو داود الطيالسي وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله فقال الله : { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } ] (4/729)
قوله : 25 - { وقيضنا لهم قرناء } أي هيأنا قرناء من الشياطين وقال الزجاج : سببنا لهم قرناء حتى أضلوهم وقيل سلطنا عليهم قرناء وقيل قدرنا والمعاني متقاربة وأصل التقييض التيسير والهيئة والقرناء جمع قرين وهم الشياطين جعلهم بمنزلة الأخلاء لهم وقيل إن الله قيض لهم قرناء في النار والأولى أن ذلك في الدنيا لقوله : { فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم } فإن المعنى : زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة فقالوا : لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار وقال الزجاج : ما بين أيديهم ما عملوه وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه وروي عن الزجاج أيضا أنه قال : ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار وما خلفهم من أمر الدنيا { وحق عليهم القول } أي وجب وثبت عليهم العذاب وهو قوله سبحانه : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } و { في أمم } في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم والمعنى : كائنين في جملة أمم وقيل في بمعنى مع : أي مع أمم من الأمم الكافرة التي { قد خلت } ومضت { من قبلهم من الجن والإنس } على الكفر وجملة { إنهم كانوا خاسرين } تعليل لاستحقاقهم العذاب (4/731)
26 - { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن } أي قال بعضهم لبعض لا تسمعوه ولا تنصتوا له وقيل معنى لا تسمعوا : لا تطيعوا يقال سمعت لك : أي أطعتك { والغوا فيه } أي عارضوه باللغو والباطل أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له وقال مجاهد : الغوا فيه بالمكاء والتصدية والتصفيق والتخليط في الكلام حتى يصير لغوا وقال الضحاك : أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول وقال أبو العالية : قعوا فيه وعيبوه قرأ الجمهور { والغوا } بفتح الغين من لغا إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه أو من لغى بالفتح يلغى بالفتح أيضا كما حكاه الأخفش وقرأ عيسى بن عمر والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وبكر بن حبيب السهمي وقتادة والسماك والزعفراني بضم الغين وقد تقدم الكلام في اللغو في سورة البقرة { لعلكم تغلبون } أي لكي تغلبوهم فيسكتوا (4/732)
ثم توعدهم سبحانه على ذلك فقال : 27 - { فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا } وهذا وعيد لجميع الكفار ويدخل فيهم الذين السياق معهم دخولا أوليا { ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون } أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا قال مقاتل : وهو الشرك وقيل المعنى : أنه يجازيهم بمساوئ أعمالهم لا بمحاسنها كما يقع منهم من صلة الأرحام وإكرام الضيف لأن ذلك باطل لا أجر له مع كفرهم (4/732)
والإشارة بقوله : 28 - { ذلك } إلى ما تقدم وهو مبتدأ وخبره جزاء أعداء الله أو خبر مبتدإ محذوف : أي الأمر ذلك وجملة { جزاء أعداء الله النار } مبينة للجملة التي قبلها والأول أولى وتكون النار عطف بيان للجزاء أو بدلا منه أو خبر مبتدإ محذوف أو مبتدأ والخبر { لهم فيها دار الخلد } وعلى الثلاثة الوجوه الأولى تكون جملة لهم فيها دار الخلد مستأنفة مقررة لما قبلها ومعنى دار الخلد : دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها { جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون } أي يجزون جزاء بسبب جحدهم بآيات الله قال مقاتل : يعني القرآن يجحدون أنه من عند الله وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سببا له إقامة للسبب مقام المسبب (4/732)
29 - { وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس } قالوا هذا وهم في النار وذكره بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه والمراد أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريق الجن والإنس من الشياطين الذين كانوا يسولون لهم ويحملونهم على المعاصي ومن الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر وقيل المراد إبليس وقابيل لأنهما سنا المعصية لبني آدم قرأ الجمهور { أرنا } بكسر الراء وقرأ ابن محيصن والسوسي عن أبي عمرو وابن عامر بسكون الراء وبها قرأ أبو بكر والمفضل وهما لغتان بمعنى واحد وقال الخليل : إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه وبالسكون أعطنيه { نجعلهما تحت أقدامنا } أي ندوسهما بأقدامنا لنشتفي منهم وقيل نجعلهم أسفل منا في النار { ليكونا من الأسفلين } فيها مكانا أو ليكونا من الأذلين المهانين وقيل ليكونوا أشد عذابا منا (4/732)
ثم لما ذكر عقاب الكافرين وما أعده لهم ذكر حال المؤمنين وما أنعم عليهم به فقال 30 - { إن الذين قالوا ربنا الله } أي وحده لا شريك له { ثم استقاموا } على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله قال جماعة من الصحابة والتابعين : معنى الاستقامة إخلاص العمل لله وقال قتادة وابن زيد : ثم استقاموا على طاعة الله وقال الحسن : استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته وقال مجاهد وعكرمة : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا وقال الثوري : عملوا على وفاق ما قالوا ؟ وقال الربيع : أعرضوا عما سوى الله وقال الفضيل بن عياض : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية { تتنزل عليهم الملائكة } من عند الله سبحانه بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع أو دفع ضرر أو رفع حزن قال ابن زيد ومجاهد : تتنزل عليهم عند الموت وقال مقاتل وقتادة : إذا قاموا من قبورهم للبعث وقال وكيع : البشرى في ثلاثة مواطن : عند الموت وفي القبر وعند البعث { أ } ن { لا تخافوا ولا تحزنوا } أن هي المخففة أو المفسرة أو الناصبة ولا على الوجهين الأولين ناهية وعلى الثالث نافية والمعنى : لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال قال مجاهد : لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم فإن الله خليفتكم عليهم وقال عطاء : لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين وعدم تقييد نفي الخوف والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } بها في الدنيا فإنكم واصلون إليها مستقرون بها خالدون في نعيمها (4/733)
ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من ذلك كله فقال : 31 - { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } أي نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب ونجا من كل مخافة وقيل إن هذا من قول الملائكة قال مجاهد : يقولون لهم نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قالوا : لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة وقال السدي : نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة وقيل إنهم يشفعون لهم في الآخرة ويتلقونهم بالكرامة { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } من صنوف اللذات وأنواع النعم { ولكم فيها ما تدعون } أي ما تتمنون افتعال من الدعاء بمعنى الطلب وقد تقدم بيان معنى هذا في قوله { ولهم ما يدعون } مستوفى والفرق بين الجملتين أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم والثانية باعتبار ما يطلبونه أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أولا وقال الرازي : الأقرب عندي أن قوله : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله { دعواهم فيها سبحانك اللهم } الآية (4/733)
وانتصاب 32 - { نزلا من غفور رحيم } على الحال من الموصول أو من عائده أو من فاعل تدعون أو هو مصدر مؤكد لفعل محذوف : أي أنزلناه نزلا النزل : ما يعد لهم حال نزولهم من الرزق والضيافة وقد تقدم تحقيقه في سورة آل عمران (4/734)
33 - { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } أي إلى توحيد الله وطاعته قال الحسن : هو المؤمن أجاب الله دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من طاعته { وعمل صالحا } في إجابته { وقال إنني من المسلمين } لربي وقال ابن سيرين والسدي وابن زيد : هو رسول الله صلى الله عليه و سلم وروري هذا أيضا عن الحسن وقال عكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد : نزلت في المؤذنين ويجاب عن هذا بأن الآية مكية والأذان إنما شرع بالمدينة والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ ويدخل فيها من كان سببا لنزولها دخولا أوليا فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله وعمل عملا صالحا وهو تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه وكان من المسلمين دينا لا من غيرهم فلا شيء أحسن منه ولا أوضح من طريقته ولا أكثر ثوابا من عمله (4/734)
ثم بين سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال ومساويها فقال : 34 - { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } أي لا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها ولا السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي فإن اللفظ أوسع من ذلك وقيل الحسنة التوحيد والسيئة الشرك وقيل الحسنة المدارة والسيئة الغلطة وقيل الحسنة العفو والسيئة الانتصار وقيل الحسنة العلم والسيئة الفحش قال الفراء لا في قوله ولا السيئة زائدة { ادفع بالتي هي أحسن } أي ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان والذنب بالعفو والغضب بالصبر والإغضاء عن الهفوات والاحتمال للمكروهات وقال مجاهد وعطاء : { بالتي هي أحسن } : يعني بالسلام إذا لقي من يعاديه وقيل بالمصافحة عند التلاقي { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن والمعنى : أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق والبعيد عنك كالقريب منك وقال مقاتل : نزلت في أبي سفيان بن حرب كان معاديا للنبي صلى الله عليه و سلم فصار له وليا بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه ثم أسلم فصار وليا في الإسلام حميما بالمصاهرة وقيل غير ذلك والأولى حمل الآية على العموم (4/734)
35 - { وما يلقاها إلا الذين صبروا } قال الزجاج : ما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ واحتمال المكروه { وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } في الثواب والخير وقال قتادة : الحظ العظيم في الجنة : أي ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة وقيل الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة وقيل راجع إلى كلمة التوحيد قرأ الجمهور يلقاها من التلقية وقرأ طلحة بن مصرف وابن كثير في رواية عنه يلاقاها من الملاقاة (4/734)
ثم أمره سبحانه بالاستعاذة من الشيطان فقال : 36 - { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } النزغ شبيه النخس شبه به الوسوسة لأنها تبعث على الشر والمعنى : وإن صرفك الشيطان عن شيء مما شرعه الله لك أو عن الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره وجعل النزغ نازغا على المجاز العقلي كقولهم : جد جده وجملة { إنه هو السميع العليم } تعليل لما قبلها : أي السميع لكل ما يسمع والعليم بكل ما يعلم ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ به
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن فأنزل الله : { لا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن قوله : { ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس } قال : هو ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه عن أنس قال : [ قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال : قد قالها ناس من الناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حين يموت فهو ممن استقام عليها ] وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عمران عن أبي بكر الصديق في قوله : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال : الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئا وأخرج ابن راهويه وأبو نعيم في الحلية من طريق الأسود بن هلال عن أبي بكر الصديق أنه قال : ما تقولون في هاتين الآيتين { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } و { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } قالوا : الذين قالوا ربنا الله ثم عملوا لها واستقاموا على أمره فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لم يذنبوا قال : لقد حملتوهما على أمر شديد { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } يقول بشرك والذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان وأخرج ابن مردويه عن بعض الصحابة : ثم استقاموا على فرائض الله وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس { ثم استقاموا } قال : على شهادة أن لا إله إلا الله وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر عن عمر بن الخطاب { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال : استقاموا بطاعة الله ولم يروغوا روغان الثعلب وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن سفيان الثقفي [ أن رجلا قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك قال : قل آمنت بالله ثم استقم قلت : فما أتقي ؟ فأوى إلى لسانه ] قال الترمذي : حسن صحيح وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة في قوله : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } قالت : المؤذن { وعمل صالحا } قالت : ركعتان فيما بين الأذان والإقامة وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت : ما أرى هذه الآية نزلت إلا في المؤذنين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن } قال : أمر المسلمين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم { كأنه ولي حميم } وأخرج ابن مردويه عنه { ادفع بالتي هي أحسن } قال : القه بالسلام فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله : { وما يلقاها إلا الذين صبروا } قال : الرجل يشتمه أخوه فيقول : إن كنت صادقا فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سليمان بن صرد قال : [ استب رجلان عند النبي صلى الله عليه و سلم فاشتد غضب أحدهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل : أمجنون تراني ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } ] (4/735)
شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة الدالة على كمال قدرته وقوة تصرفه للاستدلال بها على توحيده فقال : 37 - { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر } ثم لما بين أن ذلك من آياته نهاهم عن عبادة الشمس والقمر وأمرهم بأن يسجدوا لله عز و جل فقال { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } لأنهما مخلوقان من مخلوقاته فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته { واسجدوا لله الذي خلقهن } أي خلق هذه الأربعة المذكورة لأن جمع ما لا يعقل حكمه حكم جمع الإناث أو الآيات أو الشمس والقمر لأن الاثنين جمع عند جماعة من الأئمة { إن كنتم إياه تعبدون } قيل كان ناس يسجدون للشمس والقمر كاصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن ذلك فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بلا خلاف وإنما اختلفوا في مواضع السجدة فقيل موضعه عند قوله : { إن كنتم إياه تعبدون } لأنه متصل بالأمر وقيل عند قوله : { وهم لا يسأمون } لأنه تمام الكلام (4/737)
38 - { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون } أي إن استكبر هؤلاء عن الامتثال فالملائكة يديمون التسبيح لله سبحانه بالليل والنهار وهم لا يملون ولا يفترون (4/737)
39 - { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } الخطاب هنا لكل من يصلح له أو لرسول الله صلى الله عليه و سلم والخاشعة : اليابسة الجدبة وقيل الغبراء التي لا تنبت قال الأزهري : إذا يبست الأرض ولم تمطر قيل قد خشعت { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } أي ماء المطر ومعنى اهتزت تحركت بالنبات : يقال اهتز الإنسان : إذا تحرك ومنه قول الشاعر :
( تراه كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرئ السوء مطعما )
ومعنى ربت انتفخت وعلت قبل أن تنبت : قاله مجاهد وغيره وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير وتقديره : ربت واهتزت وقيل الاهتزاز والربو قد يكونان قبل خروج النبات وقد يكونان بعده ومعنى الربو لغة الارتفاع كما يقال للموضع المرتفع ربوة ورابية وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الحج وقيل اهتزت استبشرت بالمطر وربت انتفخت بالنبات وقرأ أبو جعفر وخالد { وربت } { إن الذي أحياها لمحيي الموتى } بالبعث والنشور { إنه على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء كائنا ما كان (4/737)
40 - { إن الذين يلحدون في آياتنا } أي يميلون عن الحق والإلحاد الميل والعدول ومنه اللحد في القبر لأنه أميل إلى ناحية منه : يقال ألحد في دين الله : أي مال وعدل عنه ويقال لحد وقد تقدم تفسير الإلحاد قال مجاهد : معنى يميلون عن الإيمان بالقرآن وقال مجاهد : يميلون عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية واللغو والغناء وقال قتادة : يكذبون في آياتنا وقال السدي : يعاندون ويشاقون وقال ابن زيد يشركون { لا يخفون علينا } بل نحن نعلمهم فنجازيهم بما يعملون ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال : { أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة } هذا الاستفهام للتقرير : والغرض منه التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار وأن المؤمنين بها يأتون آمنين يوم القيامة وظاهر الآية العموم اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقيل المراد بمن يلقى في النار : أبو جهل ومن يأتي آمنا : النبي صلى الله عليه و سلم وقيل حمزة وقيل عمر بن الخطاب وقيل أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } هذا أمر تهديد : أي اعملوا من أعمالكم التي تلقيكم في النار ما شئتم إنه بما تعملون بصير فهو مجازيكم على كل ما تعملون قال الزجاج لفظه لفظ الأمر ومعناه الوعيد (4/738)
41 - { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها وخبر إن محذوف : أي إن الذين كفروا بالقرآن لما جاءهم يجازون بكفرهم أو هالكون أو يعذبون وقيل هو قوله : { ينادون من مكان بعيد } وهذا بعيد وإن رجحه أبو عمرو بن العلاء وقال الكسائي : إنه سد مسده الخير السابق وهو { لا يخفون علينا } وقيل إن الجملة بدل من الجملة الأولى وهي : الذين يلحدون في آياتنا وخبر إن هو الخبر السابق { وإنه لكتاب عزيز } أي القرآن الذي كانوا يلحدون فيه : أي عزيز عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون منيع عن كل عيب (4/738)
ثم وصفه بأنه حق لا سبيل للباطل إليه بوجه من الوجوه فقال : 42 - { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } قال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه وبه قال قتادة والسدي ومعنى الباطل على هذا : الزيادة والنقصان وقال مقاتل : لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله وبه قال الكلبي وسعيد بن جبير وقيل الباطل هو الشيطان : أي لا يستطيع أن يزيد فيه ولا ينقص منه وقيل : لا يزاد فيه ولا ينقص منه لا من جبريل ولا من محمد صلى الله عليه و سلم { تنزيل من حكيم حميد } هو خبر لمبتدإ محذوف أو صفة أخرى لكتاب عند من يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح وقيل إنه الصفة لكتاب وجملة لا يأتيه معترضة بين الموصوف والصفة (4/738)
ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم على ما كان يتأثر له من أذية الكفار فقال : 43 - { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } أي ما يقال لك من هؤلاء الكفار من وصفك بالسحر والكذب والجنون إلا مثل ما قيل للرسل من قبلك فإن قومهم كانوا يقولون لهم مثل ما يقول لك هؤلاء وقيل المعنى : ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة لله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك وقيل هو استفهام : أي أي شيء يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك { إن ربك لذو مغفرة } لمن يستحق مغفرته من الموحدين الذين بايعوك وبايعوا من قبلك من الأنبياء { وذو عقاب أليم } للكفار المكذبين المعادين لرسل الله وقيل لذو مغفرة للأنبياء وذو عقاب لأعدائهم (4/739)
44 - { ولو جعلناه قرآنا أعجميا } أي لو جعلنا القرآن الذي تقرأه على الناس بغير لغة العرب { لقالوا لولا فصلت آياته } أي بينت بلغتنا فإننا عرب لا نفهم لغة العجم والاستفهام في قوله : { أعجمي وعربي } للإنكار وهو من جملة قول المشركين : أي لقالوا أكلام أعجمي ورسول عربي والأعجمي : الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم والأعجم ضد الفصيح : وهو الذي لا يبين كلامه ويقال للحيوان غير الناطق أعجم قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي { أعجمي } بهمزتين محققتين وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم وهشام بهمزة واحدة على الخبر وقرأ الباقون بتسهيل الثانية بين بين وقيل المراد : هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يجيبهم فقال : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } أي يهتدون به إلى الحق ويشتفون به من كل شك وشبهة ومن الأسقام والآلام { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر } أي صمم عن سماعه وفهم معانيه ولهذا تواصوا باللغو فيه { وهو عليهم عمى } قال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه وقال السدي : عميت قلوبهم عنه والمعنى : وهو عليهم ذو عمى أو وصف بالمصدر للمبالغة والموصول في قوله : { والذين لا يؤمنون } مبتدأ وخبره { في آذانهم وقر } أو الموصول الثاني عطف على الموصول الأول ووقر عطف على هدى عند من جوز العطف على عاملين مختلفين والتقدير : هو للأولين هدى وشفاء وللآخرين وقر في آذانهم قرأ الجمهور { عمى } بفتح الميم منونة على أنه مصدر وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعمرو بن العاص وابن عمر بكسر الميم منونة على أنه اسم منقوص على أنه وصف به مجازا وقرأ عمرو بن دينار بكسر الميم وفتح الياء على أنه فعل ماض واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لقوله أولا هدى وشفاء ولم يقل هاد وشاف وقيل المعنى : والوقر عليهم عمى والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الذين لا يؤمنون وما في حيزه وخبره { ينادون من مكان بعيد } مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم للقرآن حال من ينادى من مسافة بعيدة لا يسمع صوت من يناديه منها قال الفراء : تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك أنت تنادي من مكان بعيد وقال الضحاك : ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد وقال مجاهد من مكان بعيد من قلوبهم
وقد أخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يسجد بآخر الآيتين من حم السجدة وكان ابن مسعود يسجد بالأولى منهما وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق نافع عن ابن عمر أنه كان يسجد بالأولى وأخرج سعيد بن منصور عنه أنه كان يسجد في الآية الأخيرة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا } قال : هو أن يضع الكلام على غير موضعه وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { أفمن يلقى في النار } قال : أبو جهل بن هشام { أم من يأتي آمنا يوم القيامة } قال : أبو بكر الصديق وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عن بشير بن تميم قال : نزلت هذه الآية في أبي جهل وعمار بن ياسر وأخرج ابن عساكر عن عكرمة مثله وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { اعملوا ما شئتم } قال : هذا لأهل بدر خاصة وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ولو جعلناه قرآنا أعجميا } الآية يقول : لو جعلنا القرآن أعجميا ولسانك يا محمد عربي لقالوا أعجمي وعربي تأتينا به مختلفا أو مختلطا { لولا فصلت آياته } هلا بينت آياته فكان القرآن مثل اللسان يقول : فلم نفعل لئلا يقولوا فكانت حجة عليهم (4/739)
قوله : 45 - { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } هذا كلام مستأنف يتضمن تسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم عما كان يحصل له من الاغتمام بكفر قومه وطعنهم في القرآن فأخبره أن هذا عادة قديمة في أمم الرسل فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة إليهم والمراد بالكتاب التوراة والضمير من قوله فيه راجع إليه وقيل يرجع إلى موسى والأول أولى { ولولا كلمة سبقت من ربك } في تأخير العذاب عن المكذبين من أمتك كما في قوله : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } { لقضي بينهم } بتعجيل العذاب لمن كذب منهم { وإنهم لفي شك منه مريب } أي من كتابك المنزل عليك وهو القرآن ومعنى الشك المريب : الموقع في الريبة أو الشديد الريبة وقيل إن المراد اليهود وأنهم في شك من التوراة مريب والأول أولى (4/741)
46 - { من عمل صالحا فلنفسه } أي من أطاع الله وآمن برسوله ولم يكذبهم فثواب ذلك راجع إليه ونفعه خاص به { ومن أساء فعليها } أي عقاب إساءته عليه لا على غيره { وما ربك بظلام للعبيد } فلا يعذب أحدا إلا بذنبه ولا يقع منه الظلم لأحد كما في قوله سبحانه : { إن الله لا يظلم الناس شيئا } وقد تقدم الكلام على معنى هذه الآية في سورة آل عمران عند قوله : { وأن الله ليس بظلام للعبيد } وفي سورة الأنفال أيضا (4/741)
ثم أخبر سبحانه أن علم القيامة ووقت قيامها لا يعلمه غيره فقال : 47 - { إليه يرد علم الساعة } فإذا وقع السؤال عنها وجب على المسؤول أن يرد علمها إليه لا إلى غيره وقد روي أن المشركين قالوا : يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى تقوم الساعة ؟ فنزلت وما في قوله : { وما تخرج من ثمرات من أكمامها } نافية ومن الأولى للاستغراق ومن الثانية لابتداء الغاية وقيل هي موصولة في محل جر عطفا على الساعة : أي علم الساعة وعلم التي تخرج والأول أولى والأكمام جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الثمرة ويطلق على كل ظرف لمال أو غيره قال أبو عبيدة : أكمامها أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة قال الراغب : الكم ما يغطي اليد من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام وهذا يدل على أن الكم بضم الكاف لأنه جعله مشتركا بين كم القميص وكم الثمرة ولا خلاف في كم القميص أنه بالضم ويمكن أن يقال : إن في الكم الذي هو وعاء الثمر لغتين ؟ قرأ الجمهور { من ثمرة } بالإفراد وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالجمع { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } أي ما تحمل أنثى حملا في بطنها ولا تضع ذلك الحمل إلا بعلم الله سبحانه والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال : أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع في حال من الأحوال إلا كائنا بعلم الله فإليه يرد علم الساعة كما إليه يرد علم هذه الأمور { ويوم يناديهم } أي ينادي الله سبحانه المشركين وذلك يوم القيامة فيقول لهم : { أين شركائي } الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في الدنيا من الأصنام وغيرها فادعوهم الآن فليشفعوا لكم أو يدفعوا عنكم العذاب وهذا على طريقة التهكم بهم قرأ الجمهور { شركائي } بسكون الياء وقرأ ابن كثير بفتحها والعامل في يوم محذوف : أي اذكر { قالوا آذناك ما منا من شهيد } يقال آذن يأذن : إذا أعلم ومنه قول الشاعر :
( آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء )
والمعنى : أعلمناك ما منا أحد يشهد بأن لك شريكا وذلك أنهم لما عاينوا القيامة تبرأوا من الشركاء وتبرأت منهم تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها وقيل إن القائل بهذا هي المعبودات التي كانوا يعبدونها : أي ما منا من شهيد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين والأول أولى (4/742)
48 - { وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل } أي زال ويطل في الآخرة ما كانوا يعبدون في الدنيا من الأصنام ونحوها { وظنوا ما لهم من محيص } أي أيقنوا وعلموا أنه لا محيص لهم يقال حاص يحيص حيصا : إذا هرب وقيل الظن على معناه الحقيقي لأنه بقي لهم في تلك الأحوال ظن ورجاء والأول أولى (4/743)
ثم ذكر سبحانه بعض أحوال الإنسان فقال : 49 - { لا يسأم الإنسان من دعاء الخير } أي لا يمل من دعاء الخير لنفسه وجلبه إليه والخير هنا : المال والصحة والسلطان والرفعة قال السدي : والإنسان هنا يراد به الكافر وقيل الوليد بن المغيرة وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف والأول حمل الآية على العموم باعتبار الغالب فلا ينافيه خروج خلص العباد وقرأ عبد الله بن مسعود لا يسأم الإنسان من دعاء المال { وإن مسه الشر فيؤوس قنوط } أي وإن مسه البلاء والشدة والفقر والمرض فيؤوس من روح الله قنوط من رحمته وقيل يؤوس من إجابة دعائه قنوط بسوء الظن بربه وقيل يؤوس من زوال ما به من المكروه قنوط بما يحصل له من ظن دوامه وهما صيغتان مبالغة يدلان على أنه شديد اليأس عظيم القنوط (4/743)
50 - { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته } أي ولئن آتيناه خيرا وعافية وغنى من بعد شدة ومرض وفقر { ليقولن هذا لي } أي هذا شيء أستحقه على الله لرضاه بعملي فظن أن تلك النعمة التي صار فيها وصلت إليه باستحقاقه لها ولم يعلم أن الله يبتلي عباده بالخير والشر ليتبين له الشاكر من الجاحد والصابر من الجزع قال مجاهد : معناه هذا بعملي وأنا محقوق به { وما أظن الساعة قائمة } أي ما أظنها تقوم كما يخبرنا به الأنبياء أو لست على يقين من البعث وهذا خاص بالكافرين والمنافقين فيكون المراد بالإنسان المذكور في صدر الآية الجنس باعتبار غالب أفراده لأن اليأس من رحمة الله والقنوط من خيره والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين أو المتزلزلين في الدين المتظهرين بالإسلام المبطنين بالكفر { ولئن رجعت إلى ربي } على تقدير صدق ما يخبرنا به الأنبياء من قيام الساعة وحصول البعث والنشور { إن لي عنده للحسنى } أي للحالة الحسنى من الكرامة فظن أنه استحق خير الدنيا بما فيه من الخير واستحق خير الآخرة بذلك الذي اعتقده في نفسه وأثبته لها وهو اعتقاد باطل وظن فاسد { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا } أي لنخبرنهم بها يوم القيامة { ولنذيقنهم من عذاب غليظ } شديد بسبب ذنوبهم واللام هذه والتي قبلها هي الموطئة للقسم (4/743)
51 - { وإذا أنعمنا على الإنسان } أي على هذا الجنس باعتبار غالب أفراده { أعرض } عن الشكر { ونأى بجانبه } أي ترفع عن الانقياد للحق وتكبر وتجبر والجانب هنا مجاز عن النفس ويقال نأيت وتناءيت : أي بعدت وتباعدت والمنتأى : الموضع البعيد ومنه قول النابغة :
( فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع )
وقرأ يزيد بن القعقاع { ونأى بجانبه } بالألف قبل الهمزة { وإذا مسه الشر } أي البلاء والجهد والفقر والمرض { فذو دعاء عريض } أي كثير والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة مجازا يقال أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء : إذا أكثر والمعنى : أنه إذا مسه الشر تضرع إلى الله واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به واستكثر من ذلك فذكره في الشدة ونسيه في الرخاء واستغاث به عند نزول النقمة وتركه عند حصول النعمة وهذا صنيع الكافرين ومن كان غير ثابت القدم من المسلمين (4/743)
ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة الكفار ومحاجتهم فقال 52 - { قل أرأيتم } أي أخبروني { إن كان من عند الله } أي القرآن { ثم كفرتم به } أي كذبتم به ولم تقبلوه ولا عملتم بما فيه { من أضل ممن هو في شقاق بعيد } أي لا أحد أضل منكم لفرط شقاوتكم وشدة عداوتكم والأصل أي شيء أضل منكم فوضع { من هو في شقاق } موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة وأنها السبب الأعظم في ضلالهم (4/744)
53 - { سنريهم آياتنا في الآفاق } أي سنريهم دلالات صدق القرآن وعلامات كونه من عند الله في الآفاق { وفي أنفسهم } الآفاق جمع أفق وهو الناحية والأفق بضم الهمزة والفاء وكذا قال أهل اللغة ونقل الراغب أنه يقال أفق بفتحهما والمعنى : سنريهم آياتنا في النواحي وفي أنفسهم حوادث الأرض وقال مجاهد : في الآفاق فتح القرى التي يسر الله فتحها لرسولها وللخلفاء من بعده ونصار دينه في آفاق الدنيا شرقا وغربا ومن الظهور على الجبابرة والأكاسرة وفي أنفسهم فتح مكة ورجح هذا ابن جرير وقال قتادة والضحاك : في الآفاق وقائع الله في الأمم وفي أنفسهم في يوم بدر وقال عطاء : في الآفاق : يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة كما في قوله : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } { حتى يتبين لهم أنه الحق } الضمير راجع إلى القرآن وقيل إلى الإسلام الذي جاءهم به رسول الله وقيل إلى ما يريهم الله ويفعل من ذلك وقيل إلى محمد صلى الله عليه و سلم أنه الرسول الحق من عند الله والأول أولى { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } الجملة مسوقة لتوبيخهم وتقريعهم وبربك في موضع رفع على أن الفاعل ليكف والباء زائدة وأنه بدل من ربك والهمزة للإنكار والمعنى : ألم يغنهم عن الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن أنه سبحانه شهيد على جميع الأشياء وقيل المعنى : أو لم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار وقيل أو لم يكف بربك شاهدا على أن القرآن منزل من عنده والشهيد بمعنى العالم أو هو بمعنى الشهادة التي هي الحضور قال الزجاج : ومعنى الكناية ها هنا أن الله عز و جل قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة والمعنى : أو لم يكف ربك أنه على كل شيء شهيد شاهد للأشياء لا يغيب عنه شيء (4/744)
54 - { ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم } أي في شك من البعث والحساب والثواب والعقاب { ألا إنه بكل شيء محيط } أحاط علمه بجميع المعلومات وأحاطت قدرته بجميع المقدورات يقال أحاط يحيط إحاطة وحيطة وفي هذا وعيد شديد لأن من أحاط بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء جازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : في قوله : { ولولا كلمة سبقت من ربك } سبق لهم من الله حين وأجل هم بالغوه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وما تخرج من ثمرات من أكمامها } قال : حين تطلع وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { آذناك } قال : أعلمناك وأخرج عبد بن حيمد وابن المنذر عن عكرمة في قوله : { لا يسأم الإنسان } قال : لا يمل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : { سنريهم آياتنا في الآفاق } قال : محمدا صلى الله عليه و سلم وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه في الآية قال : ما يفتح الله من القرى { وفي أنفسهم } قال : فتح مكة وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : أمسك المطر عن الأرض كلها { وفي أنفسهم } قال : البلايا التي تكون في أجسامهم وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال : كانوا يسافرون فيرون آثار عاد وثمود فيقولون : والله لقد صدق محمد وما أراهم في أنفسهم : قال الأمراض (4/745)
سورة الشورى
هي ثلاث وخمسون آية وهي مكية كلها
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت { حم * عسق } بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وكذا قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا أربع آيات منها أنزلت بالمدينة { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } إلى آخرها وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ونعيم بن حماد والخطيب عن أرطأة بن المنذر قال : جاء رجل إلى ابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان فقال : أخبرني عن تفسير حم عسق فأعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه وكرر مقالته ثم كررها الثالثة فلم يجبه فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها لم كرهها ؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد إله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقا يجتمع فيهما كل جبار عنيد فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف افتلتت فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا فذلك قوله : { حم * عسق } يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء جمع : يعني عدلا منه سين : يعني سيكون ق لهاتين المدينتين أقول : هذا الحديث لا يصح ولا يثبت وما أظنه إلا من الموضوعات المكذوبات والحامل لواضعه عليه ما يقع لكثير من الناس من عداوة الدول والحط من شأنهم والإزراء عليهم وأخرج أبو يعلى وابن عساكر قال السيوطي بسند ضعيف : قلت : بل بسند موضوع ومتن مكذوب عن أبي معاوية قال : صعد عمر بن الخطاب المنبر فقال : أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه و سلم يفسر حم عسق فوثب ابن عباس فقال : إن حم اسم من أسماء الله قال : فعين قال : عاين المذكور عذاب يوم بدر قال : فسين قال : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } قال : فقاف فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن العباس وقال : قاف قارعة من السماء تصيب الناس قال ابن كثير في الحديث الأول : إنه غريب عجيب منكر وفي الحديث الثاني : إنه أغرب من الحديث الأول وعندي أنهما موضوعان مكذوبان
قوله : 1 - { حم } (4/746)
2 - { حم * عسق } قد تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح وسئل الحسن بن الفضل لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص فقال : لأنها سور أولها حم فجرت مجرى نظائرها فكأن حم مبتدأ وعسق خبره ولأنهما عدا آيتين وأخواتهما مثل : كهيعص والمر والمص آية واحدة وقيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير واختلفوا في حم فقيل معناها حم : أي قضى كما تقدم وقيل إن ح حلمه وم مجده وع علمه وق قدرته أقسم الله بها وقيل غير ذلك مما هو متكلف متعسف لم يدل عليه دليل ولا جاءت به حجة ولا شبهة حجة وقد ذكرنا قبل هذا ما روي في ذلك مما لا أصل له والحق ما قدمناه لك في فاتحة سورة البقرة وقيل هما اسمان للسورة وقيل اسم واحد لها فعلى الأول يكونان خبرين لمبتدأ محذوف وعلى الثاني يكون خبرا لذلك المبتدأ المحذوف وقرأ ابن مسعود وابن عباس حم سق (4/746)
3 - { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } هذا كلام مستأنف غير متعلق بما قبله : أي مثل ذلك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة عليهم المشتملة على الدعوة إلى التوحيد والبعث يوحى إليك يا محمد في هذه السورة وقيل إن حم عسق أوحيت إلى من قبله من الأنبياء فتكون الإشارة بقوله كذلك إليها قرأ الجمهور { يوحى } بكسر الحاء مبنيا للفاعل وهو الله وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن بفتحها مبنيا للمفعول والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على كذلك والتقدير : مثل ذلك الإيحاء يوحي هو إليك أو القائم مقام الفاعل إليك أو الجملة المذكورة : أي يوحي إليك هذا اللفظ أو القرآن أو مصدر يوحي وارتفاع الاسم الشريف على أنه فاعل لفعل محذوف كأنه قيل من يوحي ؟ فقيل الله العزيز الحكيم وأما قراءة الجمهور فهي واضحة اللفظ والمعنى وقد تقدم مثل هذا في قوله : { يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال } وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان نوحي بالنون فيكون قوله : { الله العزيز الحكيم } في محل نصب والمعنى : نوحي إليك هذا اللفظ (4/748)
4 - { له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم } ذكر سبحانه لنفسه هذا الوصف وهو ملك جميع ما في السموات والأرض لدلالته على كمال قدرته ونفوذ تصرفه في جميع مخلوقاته (4/748)
5 - { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } قرأ الجمهور { تكاد } بالفوقية وكذلك { يتفطرن } قرأوه بالفوقية مع تشديد الطاء وقرأ نافع والكسائي وابن وثاب { تكاد السماوات يتفطرن } بالتحتية فيهما وقرأ أبو عمرو والمفضل وأبو بكر وأبو عبيد { يتفطرن } بالتحتية والنون من الانفطار كقوله { إذا السماء انفطرت } والتفطر : التشقق قال الضحاك والسدي : يتفطرن يتشققن من عظمة الله وجلاله من فوقهن وقيل المعنى : تكاد كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله ولدا وقيل من فوقهن : من فوق الأرضين والأول أولى ومن في من فوقهن لابتداء الغاية : أي يبتدئ التفطر من جهة الفوق وقال الأخفش الصغير : إن الضمير يعود إلى جماعات الكفار : أي من فوق جماعات الكفار وهو بعيد جدا ووجه تخصيص جهة الفوق أنها أقرب إلى الآيات العظيمة والمصنوعات الباهرة أو على طريق المبالغة كأن كلمة الكفار مع كونها جاءت من جهة التحت أثرت في جهة الفوق فتأثيرها في جهة التحت بالأولى { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } أي ينزهونه عما لا يليق به ولا يجوز عليه متلبسين بحمده وقيل إن التسبيح موضوع موضع التعجب : أي يتعجبون من جراءة المشركين على الله وقيل معنى بحمد ربهم بأمر ربهم قاله السدي { ويستغفرون لمن في الأرض } من عباد الله المؤمنين كما في قوله { ويستغفرون للذين آمنوا } وقيل الاستغفار منهم بمعنى السعي فيما يستدعي المغفرة لهم وتأخير عقوبتهم طمعا في إيمان الكافر وتوبة الفاسق فتكون الآية عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين وإن كانوا داخلين فيها دخولا أوليا { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } أي كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته وأوليائه أو لجميع عباده فإن تأخير عقوبة الكفار والعصاة نوع من أنواع مغفرته ورحمته (4/748)
6 - { والذين اتخذوا من دونه أولياء } أي أصناما يعبدونها { الله حفيظ عليهم } أي يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها { وما أنت عليهم بوكيل } أي لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بذنوبهم ولا وكل إليك هدايتهم وإنما عليك البلاغ قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف (4/749)
7 - { وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا } أي مثل ذلك الإيحاء أوحينا إليك وقرآنا مفعول أوحينا والمعنى : أنزلنا عليك قرآنا عربيا بلسان قومك كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه { لتنذر أم القرى } وهي مكة والمراد أهلها { ومن حولها } من الناس والمفعول الثاني محذوف : أي لتنذرهم العذاب { وتنذر يوم الجمع } أي ولتنذر بيوم الجمع : وهو يوم القيامة لأنه مجمع الخلائق وقيل المراد جمع الأرواح بالأجساد وقيل جمع الظالم والمظلوم وقيل جمع العامل والعمل { لا ريب فيه } أي لا شك فيه والجملة معترضة مقررة لما قبلها أو صفة ليوم الجمع أو حال منه { فريق في الجنة وفريق في السعير } قرأ الجمهور برفع { فريق } في الموضعين إما على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور وشاع الابتداء بالنكرة لأن المقام مقام تفصيل أو على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور وشاع الابتداء بالنكرة لأن المقام مقام تفصيل أو على أن الخبر مقدر قبله : أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير أو أنه خبر مبتدإ محذوف وهو ضمير عائد إلى المجموعين المدلول عليهم بذكر الجمع : أي هم فريق في الجنة وفريق في السعير وقرأ زيد بن علي فريقا بالنصب في الموضعين على الحال من جملة محذوفة : أي افترقوا حال كونهم كذلك وأجاز الفراء والكسائي النصب على تقدير لتنذر فريقا (4/749)
8 - { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } قال الضحاك : أهل دين واحد إما على هدى وإما على ضلالة ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية وهو معنى قوله : { ولكن يدخل من يشاء في رحمته } في الدين الحق : وهو الإسلام { والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } أي المشركون ما لهم من ولي يدفع عنهم العذاب ولا نصير ينصرهم في ذلك المقام ومثل هذا قوله : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } وقوله : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } وها هنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على ما درج عليه أسلافهم فدبوا عليه من بعدهم وليس بنا إلى ذكر شيء من ذلك فائدة كما هو عادتنا في تفسيرها هذا فهو تفسير سلفي يمشي مع الحق ويدور مع مدلولات النظم الشريف وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه وتبرأ من التعصب قلبه ولحمه ودمه (4/749)
وجملة 9 - { أم اتخذوا من دونه أولياء } مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء كون للظالمين وليا ونصيرا وأم هذه هي المنقطعة المقدرة ببل المفيدة للانتقال وبالهمزة المفيدة للإنكار : أي بل أإتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها ؟ { فالله هو الولي } أي هو الحقيق بأن يتخذوه وليا فإنه الخالق الرازق الضار النافع وقيل الفاء جواب شرط محذوف : أي إن أرادوا أن يتخذوا وليا في الحقيقة فالله هو الولي { وهو } أي ومن شأنه أنه { يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير } أي يقدر على كل مقدور فهو الحقيق بتخصيصه بالألوهية وإفراده بالعبادة (4/750)
10 - { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } هذا عام في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين فإن حكمه ومرجعه إلى الله يحكم فيه يوم القيامة بحكمه ويفصل خصومة المختصمين فيه وعند ذلك يظهر المحق من المبطل ويتميز فريق الجنة وفريق النار قال الكلبي : وما اختلفتم فيه من شيء : أي من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه وقال مقاتل : إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن به بعضهم فنزلت والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويمكن أن يقال : معنى حكمه إلى الله : أنه مردود إلى كتابه فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين أنه يرد إلى كتاب الله ومثله قوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وقد حكم سبحانه بأن الدين هو الإسلام وأن القرآن حق وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقا إلا في الدار الآخرة وعدهم الله بذلك يوم القيامة { ذلكم } الحاكم بهذا الحكم { الله ربي عليه توكلت } اعتمدت عليه في جميع أموري لا على غيره وفوضته في كل شؤوني { وإليه أنيب } أي أرجع في كل شيء يعرض لي لا إلى غيره { فاطر السموات والأرض } قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر آخر لذلكم أو خبر مبتدإ محذوف أو مبتدأ وخبره ما بعده أو نعت لربي لأن الإضافة محضة ويكون { عليه توكلت وإليه أنيب } معترضا بين الصفة والموصوف وقرأ زيد بن علي فاطر بالجر على أنه نعت للاسم الشريف في قوله إلى الله وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في عليه أو إليه وأجاز الكسائي النصب على النداء وأجاز غيره على المدح والفاطر : الخالق المبدع وقد تقدم تحقيقه (4/750)
11 - { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } أي خلق لكم من جنسكم نساء أو المراد حواء لكونها خلقت من ضلع آدم وقال مجاهد : نسلا بعد نسل { ومن الأنعام أزواجا } أي وخلق للأنعام من جنسها إناثا أو خلق لكم من الأنعام أصنافا من الذكور والإناث وهي الثمانية التي ذكرها في الأنعام { يذرؤكم فيه } أي يبثكم فيه من الذرء : وهو البث أو يخلقكم وينشئكم والضمير في يذرؤكم للمخاطبين والأنعام إلا أنه غلب فيه العقلاء وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل وقيل راجع إلى ما ذكر من التدبير وقال الفراء والزجاج وابن كيسان : معنى يذرؤكم فيه يكثركم به : أي يكثركم بجعلكم أزواجا لأن ذلك سبب النسل وقال ابن قتيبة : يذرؤكم فيه : أي في الزوج وقيل في البطن وقيل في الرحم { ليس كمثله شيء } المراد بذكر المثل هنا المبالغة في النفي بطريق الكناية فإنه إذا نفي عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى : كقولهم : مثلك لا يبخل وغيرك لا يجود وقيل إن الكاف زائدة للتوكيد : أي ليس مثله شيء وقيل إن مثل زائدة قاله ثعلب وغيره كما في قوله { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } أي بما آمنتم به ومنه قول أوس بن حجر :
( وقتلى كمثل جذوع النخيـ ... ل يغشاهم مطر منهمر )
أي كجذوع والأول أولى فإن الكناية باب مسلوك للعرب ومهيع مألوف لهم ومنه قول الشاعر :
( ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل )
وقال آخر :
( على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن بات من ليلى على اليأس طاويا )
وقال آخر :
( سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... فما كمثلهم في الناس من أحد )
قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول : مثلي لا يقال له هذا : أي أنا لا يقال لي وقال أبو البقاء مرجحا لزيادة الكاف : إنها لو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال إذ يكون المعنى : أن له مثلا وليس لمثله مثل وفي ذلك تناقض لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل وهو هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال وهذا تقرير حسن ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجا مخرج الكناية ومن فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله : { وهو السميع البصير } فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للمماثل قد اشتمل على برد اليقين وشفاء الصدور وانثلاج القلوب فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة والبرهان القوي فإنك تحطم بها كثيرا من البدع وتهشم بها رؤوسا من الضلالة وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين ولا سيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه : { ولا يحيطون به علما } فإنك حينئذ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام وعلم أصول الدين :
( ودع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديث ما حديث الرواحل ) (4/751)
12 - { له مقاليد السموات والأرض } أي خزائنهما أو مفاتيحهما وقد تقدم تحقيقه في سورة الزمر وهي جمع إقليد وهو المفتاح جمع على خلاف القياس قال النحاس : والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن ثم لما ذكر سبحانه أن بيده مقاليد السموات ذكر بعده البسط والقبض فقال : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يوسعه لمن يشاء من خلقه ويضيقه على من يشاء { إنه بكل شيء } من الأشياء { عليم } فلا تخفى عليه خافية وإحاطة علمه بكل شيء يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع ومعصية العاصي فهو يجازي كلا بما يستحقه من خير وشر
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال : [ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي يده كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان ؟ قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله قال : للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ثم قال للذي في شماله : هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه ؟ فقال : سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أن عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل له قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بيديه فنبذهما ثم قال : فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير ] قال الترمذي بعد إخراجه : حديث حسن صحيح غريب وروى ابن جرير طرفا منه عن ابن عمرو موقوفا عليه قال ابن جرير : وهذا الموقوف أشبه بالصواب قلت : بل المرفوع أشبه بالصواب فقد رفعه الثقة ورفعه زيادة ثابتة من وجه صحيح ويقوي الرفع ما أخرجه ابن مردويه عن البراء قال : [ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في يده كتاب ينظر فيه قالوا انظروا إليه كيف وهو أمي لا يقرأ قال : فعلمها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء قبائلهم لا يزاد منهم ولا ينقص منهم وقال : فريق في الجنة وفريق في السعير فرغ ربكم من أعمال العباد ] (4/752)
الخطاب في قوله : 13 - { شرع لكم من الدين } لأمة محمد صلى الله عليه و سلم : أي بين وأوضح لكم من الدين { ما وصى به نوحا } من التوحيد ودين الإسلام وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل وتوافقت عليها الكتب { والذي أوحينا إليك } من القرآن وشرائع الإسلام والبراءة من الشرك والتعبير عنه بالموصول لتفخيم شأنه وخص ما شرعه لنبينا صلى الله عليه و سلم بالإيحاء مع كون ما بعده وما قبله مذكورا بالتوصية للتصريح برسالته { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } مما تطابقت عليه الشرائع ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال : { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } مما تطابقت عليه الشرائع ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال : { أن أقيموا الدين } أي توحيد الله والإيمان به وطاعة رسله وقبول شرائعه وأن هي المصدرية وهي وما بعدها في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف كأنه قيل ما ذلك الذي شرعه الله ؟ فقيل هو إقامة الدين أو هي في محل نصب بدلا من الموصول أو في محل جر بدلا من الدين أو هي المفسرة لأنه قد تقدمها فيه معنى القول قال مقاتل : يعني التوحيد قال مجاهد : لم يبعث الله نبيا قط إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة فذلك دينه الذي شرع لهم وقال قتادة : يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام وخص إبراهيم وموسى وعيسى بالذكر مع نبينا صلى الله عليه و سلم لأنهم أرباب الشرائع ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين نهاهم عن الاختلاف فيه فقال : { ولا تتفرقوا فيه } أي لا تختلفوا في التوحيد والإيمان بالله وطاعة رسله وقبول شرائعه فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع وتوافقت فيها الأديان فلا ينبغي الخلاف في مثلها وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة وتتعارض فيها الأمارات وتتباين فيها الأفهام فإنها من مطارح الاجتهاد ومواطن الخلاف ثم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين شق على المشركين فقال : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } أي عظم وشق عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد ورفض الأوثان قال قتادة : كبر على المشركين واشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وحده وضاق بها إبليس وجنوده فأبى الله إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها ويظفرها على من ناوأها ثم خص أولياءه فقال : { الله يجتبي إليه من يشاء } أي يختار والاجتباء الاختيار والمعنى : يختار لتوحيده والدخول في دينه من يشاء من عباده { ويهدي إليه من ينيب } أي يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته ويقبل إلى عبادته (4/754)
ثم لما ذكر سبحانه ما شرعه لهم من إقامة الدين وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع في التفرق والاختلاف فقال : 14 - { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة ففعلوا ذلك التفرق للبغي بينهم بطلب الرياسة وشدة الحمية قيل المراد قريش هم الذين تفرقوا بعد ما جاءهم العلم وهو محمد صلى الله عليه و سلم { بغيا } منهم عليه وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير } الآية وبقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وقيل المراد أمم الأنبياء المتقدمين وأنهم فيما { بينهم } اختلفوا لما طال بهم المدى فآمن قوم وكفر قوم وقيل اليهود والنصارى خاصة كما في قوله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } { ولولا كلمة سبقت من ربك } وهي تأخير العقوبة { إلى أجل مسمى } وهو يوم القيامة كما في قوله : { بل الساعة موعدهم } وقيل إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر والذل والقهر { لقضي بينهم } أي لوقع القضاء بينهم بإنزال العقوبة بهم معجلة وقيل لقضى بين من آمن منهم ومن كفر بنزول العذاب بالكافرين ونجاة المؤمنين { وإن الذين أورثوا الكتاب } من اليهود والنصارى { من بعدهم } من بعد من قبلهم من اليهود والنصارى { لفي شك منه } أي من القرآن أو من محمد { مريب } موقع في الريب لذلك لم يؤمنوا وقال مجاهد : معنى من بعدهم من قبلهم : يعني من قبل مشركي مكة وهم اليهود والنصارى وقيل المراد كفار المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم وصفهم بأنه في شك من القرآن مريب قرأ الجمهور { أورثوا } وقرأ زيد بن علي ورثوا بالتشديد (4/754)
15 - { فلذلك فادع واستقم } أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك أو فلأجل أنه شرع من الدين ما شرع فادع واستقم أي فادع كما تقول : دعوت إلى فلان ولفلان وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد وقيل في الكلام تقديم وتأخير والمعنى : كبر على المشركين ما ندعوهم إليه فلذلك فادع قال قتادة : استقم على أمر الله وقال سفيان : استقم على القرآن وقال الضحاك : استقم على تبليغ الرسالة { كما أمرت } بذلك من جهة الله { ولا تتبع أهواءهم } الباطلة وتعصباتهم الزائغة ولا تنظر إلى خلاف من خالفك في ذكر الله { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله لا كالذين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض { وأمرت لأعدل بينكم } في أحكام الله إذا ترافعتم إلي ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه الله أو بنقصان منه وأبلغ إليكم ما أمرني الله بتبليغه كما هو واللام لام كي : أي أمرت بذلك الذي أمرت به لكي أعدل بينكم وقيل هي زائدة والمعنى : أمرت أن أعدل والأول أولى قال أبو العالية : أمرت لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول والظاهر أن الآية عامة في كل شيء والمعنى : أمرت لأعدل بينكم في كل شيء { الله ربنا وربكم } أي إلهنا وإلهكم وخالقنا وخالقكم { لنا أعمالنا } أي ثوابها وعقابها خاص بنا { ولكم أعمالكم } أي ثوابها وعقابها خاص بكم { لا حجة بيننا وبينكم } أي لا خصومة بيننا وبينكم لأن الحق قد ظهر ووضح { الله يجمع بيننا } في المحشر { وإليه المصير } أي المرجع يوم القيامة فيجازي كلا بعمله : وهذا منسوخ بآية السيف قيل الخطاب لليهود وقيل للكافر على العموم (4/755)
16 - { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له } أي يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا فيه قال مجاهد : من بعد ما أسلم الناس قال : وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود وقال قتادة : هم اليهود والنصارى ومحاجتهم قولهم : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب وأنهم أولاد الأنبياء وكان المشركون يقولون { أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا } ؟ فنزلت هذه الآية والموصول مبتدأ وخبره الجملة بعده وهي { حجتهم داحضة عند ربهم } أي لا ثبات لها كالشيء الذي يزول عن موضعه يقال : دحضت حجته دحوضا : بطلت والإدحاض : الإزلاق ومكان دحض : أي زلق ودحضت رجله : زلقت وقيل الضمير في له راجع إلى الله وقيل راجع إلى محمد صلى الله عليه و سلم والأول أولى { وعليهم غضب } أي غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل { ولهم عذاب شديد } في الآخرة (4/756)
17 - { الله الذي أنزل الكتاب بالحق } المراد بالكتاب : الجنس فيشمل جميع الكتب المنزلة على الرسل وقيل المراد به القرآن خاصة وبالحق متعلق بمحذوف : أي ملتبسا بالحق وهو الصدق { و } المراد بـ { الميزان } العدل كذا قال أكثر المفسرين قالوا وسمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق وقيل : الميزان ما بين في الكتب المنزلة مما يجب على كل إنسان أن يعمل به وقيل : هو الجزاء على الطاعة والثواب وعلى المعصية بالعقاب وقيل إنه الميزان نفسه أنزله الله من السماء وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس كما في قوله : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } وقيل هو محمد صلى الله عليه و سلم { وما يدريك لعل الساعة قريب } أي أي شيء يجعلك داريا بها عالما بوقتها لعلها شيء قريب أو قريب مجيئها أو ذات قرب وقال قريب ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي قال الزجاج : المعنى لعل البعث أو لعل مجيء الساعة قريب وقال الكسائي : قريب نعت ينعت به المؤنث والمذكر كما في قوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ومنه قول الشاعر :
( وكنا قريبا والديار بعيدة ... فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا )
قيل إن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا متى تكون الساعة ؟ تكذيبا لها فأنزل الله الآية (4/756)
ويدل على هذا قوله : 18 - { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } استعجال استهزاء منهم بها وتكذيبا بمجيئها { والذين آمنوا مشفقون منها } أي خائفون وجلون من مجيئها قال مقاتل : لأنهم لا يدرون على ما يهجمون عليه وقال الزجاج : لأنه يعلمون أنهم محاسبون ومجزيون { ويعلمون أنها الحق } أي أنها آتية لا ريب فيها ومثل هذا قوله : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } ثم بين ضلال الممارين فيها فقال : { ألا إن الذين يمارون في الساعة } أي يخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة من الممارة وهي المخاصمة والمجادلة أو من المرية وهي الشك والريبة { لفي ضلال بعيد } عن الحق لأنهم لم يتفكروا في الموجبات للإيمان بها من الدلائل التي هي مشاهدة لهم منصوبة لأعينهم مفهومة لعقولهم ولو تفكروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء قادر على الإعادة
وقد أخرج ابن جرير عن السدي { أن أقيموا الدين } قال : اعملوا به وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } قال : ألا تعلموا أن الفرقة هلكة وأن الجماعة ثقفة { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } قال : استكبر المشركون أن قيل لهم : لا إله إلا الله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد { الله يجتبي إليه من يشاء } قال : يخلص لنفسه من يشاء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له } قال : هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ويصدونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله وقال : هم قوم من أهل الضلالة وكانوا يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : { والذين يحاجون في الله } الآية قال : هم اليهود والنصارى وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } قال المشركون لمن بين أظهرهم من المؤمنين : قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا فنزلت { والذين يحاجون في الله } الآية (4/757)
قوله : 19 - { الله لطيف بعباده } أي كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم قال مقاتل : لطيف بالبار والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم قال عكرمة : بار بهم وقال السدي : رفيق بهم وقيل حفي بهم وقال القرطبي : لطيف بهم في العرض والمحاسبة وقيل غير ذلك والمعنى : أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم ومن جملة ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا وهو معنى قوله : { يرزق من يشاء } منهم كيف يشاء فيوسع هذا ويضيق على هذا { وهو القوي } العظيم القوة الباهرة القادرة { العزيز } الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء (4/758)
20 - { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } الحرث في اللغة : الكسب يقال هو يحرث لعياله ويحترث : أي يكتسب ومنه سمي الرجل حارثا وأصل معنى الحرث : إلقاء البذر في الأرض فأطلق على ثمرات الأعمال وفوائدها بطريق الاستعارة : والمعنى : من كان يريد أعماله وكسبه ثواب الآخرة يضاعف الله له ذلك الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقيل : معناه يزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبل الخير له { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا وهو متاعها وما يرزق الله به عباده منها نعطه منها ما قضت به مشيئتنا وقسم له في قضائنا قال قتادة أيضا : إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا قال القشيري : والظاهر أن الآية في الكافر وهو تخصيص بغير مخصص ثم بين سبحانه أن هذا الذي يريد بعمله الدنيا لا نصيب له في الآخرة فقال : { وما له في الآخرة من نصيب } لأنه لم يعمل للآخرة فلا نصيب له فيها وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء (4/759)
21 - { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } لما بين سبحانه القانون في أمر الدنيا والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار والهمزة لاستفهام التقرير والتقريع وضمير شرعوا عائد إلى الشركاء وضمير لهم إلى الكفار وقيل العكس والأول أولى ومعنى { ما لم يأذن به الله } ما لم يأذن به من الشرك والمعاصي { ولولا كلمة الفصل } وهي تأخير عذابهم حيث قال { بل الساعة موعدهم } { لقضي بينهم } في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين والمشركين أو إلى المشركين وشركائهم { وإن الظالمين لهم عذاب أليم } أي المشركين والمكذبين لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة قرأ الجمهور { وإن الظالمين } بكسر الهمزة على الاستئناف وقرأ مسلم والأعرج وابن هرمز بفتحها عطفا على كلمة الفصل (4/759)
22 - { ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا } أي خائفين وجلين مما كسبوا من السيئات وذلك الخوف والوجل يوم القيامة { وهو واقع بهم } الضمير راجع إلى ما كسبوا بتقدير مضاف قاله الزجاج : أي وجزاء ما كسبوا واقع منهم نازل عليهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا والجملة في محل نصب على الحال ولما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين فقال { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } روضات جمع روضة قال أبو حيان : اللغة الكثيرة تسكين الواو ولغة هذيل فتحها والروضة : الموضع النزه الكثير الخضرة وقد مضى بيان هذا في سورة الروم وروضة الجنة : أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا لأحسن أمكنتها { لهم ما يشاؤون عند ربهم } من صنوف النعم وأنواع المستلذات والعامل في عند ربهم يشاءون أو العامل في روضات الجنات وهو الاستقرار والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر للمؤمنين قبله وخبره الجملة المذكورة بعده وهي { هو الفضل الكبير } أي الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى معرفة حقيقته (4/759)
والإشارة بقوله : 23 - { ذلك الذي يبشر الله عباده } إلى الفضل الكبير : أي يبشرهم به ثم وصف العباد بقوله : { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فهؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل بما أمر الله به وترك ما نهى عنه هم المبشرون بتلك البشارة قرأ الجمهور { يبشر } مشددا من بشر وقرأ مجاهد وحميد بن قيس بضم التحتية وسكون الموحدة وكسر الشين من أبشر وقرأ بفتح التحتية وضم الشين بعض السبعة وقد تقدم بيان القراءات في هذه اللفظة ثم لما ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلى الله عليه و سلم من هذه الأحكام الشريفة التي اشتمل عليها كتابه أمره بأنه يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ ثوابا منهم فقال : { قل لا أسألكم عليه أجرا } أي قل يا محمد : لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا نفعا { إلا المودة في القربى } هذا الاستثناء يجوز أن يكون متصلا : أي إلا أن تودوني لقرابتي بينكم أو تودوا أهل قرابتي ويجوز أن يكون منقطعا قال الزجاج : إلا المودة استثناء ليس من الأول : أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني والخطاب لقريش وهذا قول عكرمة ومجاهد وأبي مالك والشعبي فيكون المعنى على الانقطاع : لا أسألكم أجرا قط ولكن أسألكم المودة في القربى التي بيني وبينكم ارقبوني فيها ولا تعجلوا إلي ودعوني والناس وبه قال قتادة ومقاتل والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم وهو الثابت عن ابن عباس كما سيأتي وقال سعيد بن جبير وغيره : هم آل محمد وسيأتي ما استدل به القائلون بهذا وقال الحسن وغيره : معنى الآية : إلا التودد إلى الله عز و جل والتقرب بطاعته وقال الحسن بن الفضل : ورواه ابن جرير عن الضحاك إن هذه الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرهم الله بمودته فلما هاجر أوته الأنصار ونصروه فأنزل الله عليه { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } وأنزل عليه { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } وسيأتي في آخر البحث ما يتضح به الثواب ويظهر به معنى الآية إن شاء الله { ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا } أصل القرف الكسب يقال فلان لعياله : أي يكتسب والاقتراف : الاكتساب مأخوذ من قولهم رجل فرقة : إذا كان محتالا والمعنى : من يكتسب حسنة نزد له هذه الحسنة حسنا بمضاعفة ثوابها قال مقاتل : المعنى من يكتسب حسنة واحدة نزد له فيها حسنا نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا وقيل المراد بهذه الحسنة هي المودة في القربى والحمل على العموم أولى ويدخل تحته المودة في القربى دخولا أوليا { إن الله غفور شكور } أي كثير المغفرة للمذنبين كثير الشكر للمطيعين قال قتادة : غفور للذنوب شكور للحسنات وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد (4/760)
24 - { أم يقولون افترى على الله كذبا } أم هي المنقطعة : أي بل أيقولون افترى محمد على الله كذبا بدعوى النبوة والإنكار للتوبيخ ومعنى افتراء الكذب : اختلاقه ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال : { فإن يشإ الله يختم على قلبك } أي لو افترى على الله الكذب لشاء عدم صدوره منه وختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله شيئا مما كذب فيه كما تزعمون قال قتادة : يختم على قلبك فينسيك القرآن فأخبرهم أنه لو افترى عليه لفعل به ما أخبرهم به في هذه الآية وقال مجاهد ومقاتل : إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم وقيل الخطاب له والمراد بالكفار : أي إن يشأ يختم على قلوب الكفار ويعاجلهم بالعقوبة ذكره القشيري وقيل المعنى : لو حدثتك نفسك أن تفتري على الله كذبا لطبع على قلبك فإنه يجترئ على الكذب إلا من كان مطبوعا على قلبه والأول أولى وقوله : { ويمح الله الباطل } استئناف مقرر لما قبله من نفي الافتراء قال ابن الأنباري : يختم على قلبك تام يعني وما بعده مستأنف وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير : أي والله يمحو الباطل وقال الزجاج : أم يقولون افترى على الله كذبا تام وقوله : { ويمح الله الباطل } احتجاج على من أنكر ما أتى به النبي صلى الله عليه و سلم : أي لو كان ما أتى به النبي صلى الله عليه و سلم باطلا لمحاه كما جرت به عادته في المفترين { ويحق الحق } أي الإسلام فيبينه { بكلماته } أي بما أنزل من القرآن { إنه عليم بذات الصدور } عالم بما في قلوب العباد وقد سقطت الواو من ويمحو في بعض المصاحف كما حكاه الكسائي (4/761)
25 - { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } أي يقبل من المذنبين من عباده توبتهم إليه مما عملوا من المعاصي واقترفوا من السيئات والتوبة الندم على المعصية والعزم على عدم المعاودة لها وقيل يقبل التوبة عن أوليائه وأهل طاعته والأول أولى فإن التوبة مقبولة من جميع العباد مسلمهم وكافرهم إذا كانت صحيحة صادرة عن خلوص نية وعزيمة صحيحة { ويعفو عن السيئات } على العموم لمن تاب عن سيئته { ويعلم ما تفعلون } من خير وشر فيجازي كلا بما يستحقه قرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف { تفعلون } بالفوقية على الخطاب وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر واختار القراءة الثانية أبو عبيد وأبو حاتم لأن هذا الفعل وقع بين خبرين (4/761)
26 - { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الموصول في موضع نصب : أي يستجيب الله للذين آمنوا ويعطيهم ما طلبوه منه يقال أجاب واستجاب بمعنى وقيل المعنى يقبل عبادة المخلصين وقيل التقدير ويستجيب لهم فحذف الكلام كما حذف في قوله وإذا كالوهم أي كالوا لهم وقيل إن الموصول في محل رفع : أي يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله : { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } قال المبرد : معنى { ويستجيب الذين آمنوا } ويستدعي الذين آمنوا الإجابة هكذا حقيقة معنى استفعل فالذين في موضع رفع والأول أولى { ويزيدهم من فضله } أي يزيدهم على ما طلبوه منه أو على ما يستحقونه من الثواب تفضلا منه وقيل يشفعهم في إخوانهم { والكافرون لهم عذاب شديد } هذا للكافرين مقابلا ما ذكره للمؤمنين فيما قبله (4/262)
27 - { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } أي لو وسع الله لهم رزقهم لبغوا في الأرض لعصوا فيها وبطروا النعمة وتكبروا وطلبوا ما ليس لهم طلبه وقيل المعنى : لو جعلهم سواء في الرزق لما انقاد بعضهم لبعض ولتطلعت الصنائع والأول أولى والظاهر عموم أنواع الرزق وقيل هو المطر خاصة { ولكن ينزل بقدر ما يشاء } أي ينزل من الرزق لعباده بتقدير على حسب مشيئته وما تقتضيه حكمته البالغة { إنه بعباده خبير } بأحوالهم { بصير } بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه فيقدر لكل أحد منهم ما يصلحه ويكفه عن الفساد بالبغي في الأرض (4/762)
28 - { وهو الذي ينزل الغيث } أي المطر الذي هو أنفع أنواع الرزق وأعمها فائدة وأكثرها مصلحة { من بعد ما قنطوا } أي من بعد ما أيسوا عن ذلك فيعرفون بهذا الإنزال للمطر بعد القنوط مقدار رحمته لهم ويشكرون له ما يجب الشكر عليه { وهو الولي } للصالحين من عباده بالإحسان إليهم وجلب المنافع لهم ودفع الشرور عنهم { الحميد } المستحق للحمد منهم على إنعامه خصوصا وعموما
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { من كان يريد حرث الآخرة } قال : عيش الآخرة { نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } الآية قال : من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيبا في الآخرة إلا النار ولم يزدد بذلك من الدنيا شيئا إلا رزقا فرغ منه وقسم له وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وابن حبان عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ] وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة : قال تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { من كان يريد حرث الآخرة } الآية ثم قال : [ يقول الله : ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك ] وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن علي قال : الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون وحرث الآخرة الباقيات الصالحات وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه من طريق طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { إلا المودة في القربى } قال سعيد بن جبير : قربى آل محمد قال ابن عباس : أعجلت أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عنه قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم ] وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال : أكثر الناس علينا في هذه الآية { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان واسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وله فيه قرابة فقال الله : { قل لا أسألكم عليه أجرا } على ما أدعوكم إليه { إلا المودة في القربى } أن تودوني لقرابتي منكم وتحفظوني بها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال : [ كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم قرابة من جمع قريش فلما كذبوه
وأبوا أن يبايعوه قال : يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي منكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفطي ونصرتي منكم ] وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عنه نحوه وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا نحوه وأخرج ابن مردويه عنه أيضا نحوه وأخرج ابن مردويه عنه أيضا من طريق أخرى نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق مقسم عن ابن عباس قال : [ قالت الأنصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا فقال العباس : لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتاهم في مجالسهم فقال : يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : أفلا تجيبون ؟ قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك ؟ ألم يكذبوك فصدقناك ؟ ألم يخذلوك فنصرناك ؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ورسوله فنزلت { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } ] وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف والأولى أن الآية مكية لا مدنية وقد أشرنا في أول السورة إلى قول من قال إن هذه الآية وما بعدها مدنية وهذا متمسكهم وأخرج أبو نعيم والديلمي من طريق
مجاهد عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } أي تحفظوني في أهل بيتي وتودونهم بي ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي : بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : [ لما نزلت هذه الآية { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } قالوا : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وولدها ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية بمكة وكان المشركون يودون رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله قل لهم يا محمد : { لا أسألكم عليه } يعني على ما أدعوكم إليه { أجرا } عرضا من الدنيا { إلا المودة في القربى } إلا الحفظ لي في قرابتي فيكم فلما هاجر إلى المدينة أحب أن يلحقه بإخوته من الأنبياء فقال : { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } يعني ثوابه وكرامته في الآخرة كما قال نوح { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } وكما قال هود وصالح وشعيب لم يستثنوا أجرا كما استثنى النبي صلى الله عليه و سلم فرده عليهم وهي منسوخة وأخرج أحمد
وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية : قل لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا إلا أن تودوا الله وأن تتقربوا إليه بطاعته هذا حاصل ما روي عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية والمعنى الأول هو الذي صح عنه ورواه عنه الجمع الجم من تلامذته فمن بعدهم ولا ينافيه ما روي عنه من النسخ فلا مانع من أن يكون قد نزل القرآن في مكة بأن يوده كفار قريش لما بينه وبينهم من القربى ويحفظوه بها ثم ينسخ ذلك ويذهب هذا الاستثناء من أصله كما يدل عليه ما ذكرنا مما يدل على أنه لم يسأل على التبليغ أجرا على الإطلاق ولا يقوى ما روي من حملها على آل محمد صلى الله عليه و سلم على معارضة ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة وقد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم من الفضائل الجليلة والمزايا الجميلة وقد بينا بعض ذلك عند تفسيرنا لقوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } وكما لا يقوى هذا على المعارضة فكذلك لا يقوى ما روي عنه أن المراد بالمودة في القربى أن يودوا الله وأن يتقربوا إليه بطاعته ولكنه يشد من عضد هذا أنه
تفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإسناده عند أحمد في المسند هكذا : حدثنا حسن بن موسى حدثنا قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة به وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب قال السيوطي بسند صحيح عن أبي هانيء الخولاني قال : سمعت عمر بن حريث وغيره يقولون : إنما نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } وذلك أنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن علي مثله (4/762)
ذكر سبحانه بعض آياته الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده وصدق ما وعد به من البعث فقال : 29 - { ومن آياته خلق السموات والأرض } أي خلقهما على هذه الكيفية العجيبة والصنعة الغريبة { وما بث فيهما من دابة } يجوز عطفه على خلق ويجوز عطفه على السموات والدابة اسم لكل ما دب قال الفراء : أراد ما بث في الأرض دون السماء كقوله : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما يخرج من الملح دون العذاب وقال أبو علي الفارسي : تقديره وما بث في أحدهما فحذف المضاف قال مجاهد : يدخل في هذا الملائكة والناس وقد قال تعالى : { ويخلق ما لا تعلمون } { وهو على جمعهم } أي حشرهم يوم القيامة { إذا يشاء قدير } الظرف متعلق بجمعهم لا بقدير قال أبو البقاء لأن ذلك يؤدي وهو على جمعهم قدير إذا يشاء فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه كونه محالا على مذهب أهل السنة فإن كان يقول بقول المعتزلة وهو أن القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده (4/766)
30 - { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } أي ما أصابكم من المصائب كائنة ما كانت فبسبب ما كسبت أيديكم من المعاصي قرأ نافع وابن عامر { بما كسبت } بغير فاء وقرأ الباقون بالفاء وما في وما أصابكم هي الشرطية ولهذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة الجمهور ولا يجوز حذفها عند سيبويه والجمهور وجوز الأخفش الحذف كما في قوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } وقول الشاعر :
( من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان )
وقيل هي الموصولة فيكون الحذف والإثبات جائزين والأول أولى قال الزجاج : إثبات الفاء أجود لأن الفاء مجازاة جواب الشرط ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي والمعنى : الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم قال الحسن : المصيبة هنا الحدود على المعاصي والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي ودخول من الاستغراقية عليها { ويعفو عن كثير } من المعاصي التي يفعلها العباد فلا يعاقب عليها فمعنى الآية : أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ويعفو عن كثير من الذنوب وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه أو يكفر عنه من ذنوبه وقيل هذه الآية مختصة ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه أو يكفر عنه من ذنوبه وقيل هذه الآية مختصة بالكافرين على معنى : أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفرا عنهم لذنب ولا محصلا لصواب وبترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة والأولى حمل الآية على العموم والعفو يصدق على تأخير العقوبة كما يصدق على محو الذنب ورفع الخطاب به قال الواحدي : وهذه أرجى آية في كتاب الله لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين : صنف كفره عنهم بالمصائب وصنف عفا عنه في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين وأما الكافر فإن لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة (4/766)
31 - { وما أنتم بمعجزين في الأرض } أي بفائتين عليه هربا في الأرض ولا في السماء لو كانوا فيها بل ما قضاه عليهم من المصائب واقع عليهم نازل بهم { وما لكم من دون الله من ولي } يواليكم فيمنع عنكم ما قضاه الله { ولا نصير } ينصركم من عذاب الله في الدنيا ولا في الآخرة (4/767)
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آياته العظيمة الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال : 32 - { ومن آياته الجوار } قرأ نافع وأبو عمرو الجواري بإثبات الياء في الوصل وأما في الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف وهي السفن واحدتها جارية : أي سائرة { في البحر كالأعلام } أي الجبال جمع علم وهو الجبل ومنه قول الخنساء :
( وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار )
فقال الخليل : كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم وقال مجاهد : الأعلام القصور واحدها علم (4/767)
33 - { إن يشأ يسكن الريح } قرأ الجمهور بهمز يشأ وقرأ ورش عن نافع بلا همز وقرأ الجمهور { الريح } بالإفراد وقرأ نافع { الرياح } على الجمع : أي يسكن الريح التي بها السفن { فيظللن } أي السفن { رواكد } أي سواكن ثوابت { على ظهره } البحر يقال ركد الماء ركودا : سكن وكذلك ركدت الريح وركدت السفينة وكل ثابت في مكان فهو راكد قرأ الجمهور { فيظللن } بفتح اللام الأولى وقرأ قتادة بكسرها وهي لغة قليلة { إن في ذلك } الذي ذكر من أمر السفن { لآيات } دلالات عظيمة { لكل صبار شكور } أي لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء قال قطرب : الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر قال عون بن عبد الله :
( فكم من منعم عليه غير شاكر ... وكم من مبتلى غير صابر ) (4/767)
34 - { أو يوبقهن بما كسبوا } معطوف على يسكن : أي يهلكهن بالغرق والمراد أهلهن بما كسبوا من الذنوب وقيل بما أشركوا والأول أولى فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك يقال أوبقه : أي أهلكه { ويعف عن كثير } من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم فينجيهم من الغرق قرأ الجمهور { يعف } بالجزم عطفا على جواب الشرط قال القشيري : وفي هذه القراءة إشكال لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد أو يهلكها بذنوب أهلها فلا يحسن عطف يعف على هذا لأنه يصير المعنى : إن يشأ يعف وليس المعنى ذلك بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى وقد قرأ قوم ويعفو بالرفع وهي جيدة في المعنى قال أبو حيان : وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى : إلا أنه تعالى أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم وقرأ الأعمش ويعفو بالرفع وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار أن بعد الواو كما في قول النابغة :
( فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام )
( وتأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام )
بنصب وتأخذ (4/768)
35 - { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } قرأ الجمهور بنصب { يعلم } قال الزجاج : على الصرف قال : ومعنى الصرف صرف العطف على اللفظ إلى العطف على المعنى قال : وذلك أنه لما لم يحسن عطف ويعلم مجزوما على ما قبله إذ يكون المعنى : إن يشأ بعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار أن لتكون مع الفعل في تأويل اسم ومن هذا بيتا النابغة المذكوران قريبا وكما قال الزجاج : قال المبرد وأبو علي الفارسي : واعترض على هذا الوجه بما لا طائل تحته وقيل النصب على العطف على تعليل محذوف والتقدير : لينتقم منهم ويعلم واعترضه أبو حيان بأنه ترتيب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن تقدير لينتقم منهم وقرأ نافع وابن عامر برفع { يعلم } على الاستئناف وهي قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ وقرئ بالجزم عطفا على المجزوم قبله على معنى : وإن يشأ يجمع بين الإهلاك والنجاة والتحذير ومعنى { ما لهم من محيص } ما لهم من فرار ولا مهرب قاله قطرب وقال السدي : ما لهم من ملجأ وهو مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة : إذا رمى به ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق : أي يميل عنه (4/768)
36 - { فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا } لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد ذكر التنفير عن الدنيا : أي ما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق فإنما هو متاع قليل في أيام قليلة ينقضي ويذهب ثم رغبهم في ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال : { وما عند الله خير وأبقى } أي ما عند الله من ثواب الطاعات والجزاء عليها بالجنات خير من متاع الدنيا وأبقى لأنه دائم لا ينقطع ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة ثم بين سبحانه لمن هذا فقال : { للذين آمنوا } أي صدقوا وعملوا على ما يوجبه الإيمان { وعلى ربهم يتوكلون } أي يفوضون إليه أمورهم ويعتمدون عليه في كل شؤونهم لا على غيره (4/769)
37 - { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } الموصول في محل جر معطوف على الذين آمنوا أو بدلا منه أو في محل نصب بإضمار : أعني والأول : أولى والمعنى : أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وللذين يجتنبون والمراد بكبائر الإثم : الكبائر من الذنوب وقد قدمنا تحقيقها في سورة النساء قرأ الجمهور { كبائر } بالجمع وقرأ حمزة والكسائي { كبير } بالإفراد وهو يفيد مفاد الكبائر لأن الإضافة للجنس كاللام والفواحش هي من الكبائر ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها فوقها وذلك كالقتل والزنا ونحو ذلك وقال مقاتل : الفواحش موجبات الحدود وقال السدي : هي الزنا { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ويكظمون الغيظ ويحملون على من ظلمهم وخص الغضب بالغفران لأن استيلاءه على طبع الإنسان وغلبته عليه شديدة فلا يغفر عند سورة الغصب إلا من شرح الله صدره وخصه بمزية الحلم ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران { والكاظمين الغيظ } قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين : صنفا يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم وصنفا ينتصرون من ظالمهم وهم الذين سيأتي ذكرهم (4/769)
38 - { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة } أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه وأقاموا ما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة قال ابن زيد : هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم إثنى عشر نقيبا منهم قبل الهجرة وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها { وأمرهم شورى بينهم } أي يتشاورون فيما بينهم ولا يعجلون ولا ينفردون بالرأي والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى قال الضحاك : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم وورود النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له وقيل المراد تشاورهم في كل أمر يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي وما أحسن ما قاله بشار بن برد :
( إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم )
( ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الحوافي قوة للقوادم )
وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يشاور أصحابه في أموره وأمره الله صبحانه بذلك فقال { وشاورهم في الأمر } وقد قدمنا في آل عمران كلاما في الشورى { ومما رزقناهم ينفقون } أي ينفقونه في سبيل الخير ويتصدقون به على المحاويج (4/769)
ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها فقال : 39 - { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } أي أصابهم بغي من بغى عليهم بغير حق ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } فالانتصار عند البغي فضيلة كما أن العفو عند الغضب فضيلة قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء (4/770)
ولكن هذا الانتضار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله : 40 - { وجزاء سيئة سيئة مثلها } فبين سبحانه أن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة وظاهر هذا العموم وقال مقاتل والشافعي وأبو حنيفة وسفيان : إن هذا خاص بالمجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال أخزاك الله يقول أخزاك الله من غير أن يعتدي وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه أو على طريق المشاكلة لتشابهما في الصورة ثم لما بين سبحانه أن جزاء السيئة بمثلها حق جائز بين فضيلة العفو فقال : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } أي من عفا عمن ظلمه وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه : أي أن الله سبحانه يأجره على ذلك وأبهم الأجر تعظيما لشأنه وتنبيها على جلالته قال مقاتل : فكان العفو من الأعمال الصالحة وقد بينا هذا في سورة آل عمران ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال : { إنه لا يحب الظالمين } أي المبتدئين بالظلم قال مقاتل : يعني من يبدأ بالظلم وبه قال سعيد بن جبير وقيل لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد فيه لأن المجاوزة ظلم (4/770)
41 - { ولمن انتصر بعد ظلمه } مصدر مضاف إلى المفعول : أي بعد أن ظلمه الظالم له واللام هي لام الابتداء وقال ابن عطية : هي لام القسم والأول أولى ومن هي الشرطية وجوابه { فأولئك ما عليهم من سبيل } بمؤاخذة وعقوبة ويجوز أن تكون من هي الموصولة ودخلت الفاء في جوابها تشبيها للموصولة بالشرطية والأول أولى (4/771)
ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بين من عليه السبيل فقال : 42 - { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } أي يتعدون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر وقال ابن جريج : أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم { ويبغون في الأرض بغير الحق } أي يعملون في النفوس والأموال بغير الحق كذا قال الأكثر وقال مقاتل : بغثهم عملهم بالمعاصي وقيل يتكبرون ويتجبرون وقال أبو مالك : هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام دينا والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الذين يظلمون الناس وهو مبتدأ وخبره { لهم عذاب أليم } أي لهم بهذا السبب عذاب شديد الألم (4/771)
ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال : 43 - { ولمن صبر وغفر } أي صبر على الأذى وغفر لمن ظلمه ولم ينتصر والكلام في هذه اللام ومن كالكلام في { ولمن انتصر } { إن ذلك } الصبر والمغفرة { لمن عزم الأمور } أي أن ذلك منه فحذف لظهوره كما في قولهم :
( السمن منوان بدرهم )
قال مقاتل : من الأمور التي أمر الله بها وقال الزجاج : الصابر يؤتى بصبره ثوابا فالرغبة في الثواب أتم عزما قال ابن زيد : إن هذا كله منسوخ بالجهاد وأنه خاص بالمشركين وقال قتادة : إنه عام وهو ظاهر النظم القرآني { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } أي فما له من أحد يلي هدايته وينصره وظاهر الآية العموم وقيل هي خاصة بمن أعرض عن النبي صلى الله عليه و سلم ولم يعمل بما دعاه إليه من الإيمان بالله والعمل بما شرعه والأول أولى
وقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن منيع وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن علي بن أبي طالب قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وقرأ { وما أصابكم } الآية ] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الكفارات وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين أنه دخل عليه بعض أصحابه وكان قد ابتلي في جسده فقال : إنا لنبتئس لك لما نرى فيك قال : فلا تبتئس لما ترى فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ثم تلا هذه الآية { وما أصابكم من مصيبة } إلى آخرها وأخرج أحمد عن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله عنه به سيئاته ] وأخرج ابن مردويه عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما عثرة قدم ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر ] وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله : { فيظللن رواكد على ظهره } قال : يتحركن ولا يجرين في البحر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : رواكد قال : وقوفا { أو يوبقهن } قال : يهلكهن وأخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة قالت [ دخلت علي زينب وعندي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبلت علي فسبتني فردعها النبي صلى الله عليه و سلم فلم تنته فقال لي سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله عليه و سلم يتهلل سرورا ] وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المستبان ما قالا من شيء فعلى البادئ حتى يعتدي المظلوم ] ثم قرأ { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجر فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ] وذلك قوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ينادي مناد من كان له أجر على الله فليدخل الجنة مرتين فيقوم من عفا عن أخيه قال الله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } ] (4/771)
قوله : 44 - { وترى الظالمين } أي المشركين المكذبين بالبعث { لما رأوا العذاب } أي حين نظروا النار وقيل نظروا ما أعده الله لهم عند الموت { يقولون هل إلى مرد من سبيل } أي هل إلى الرجعة إلى الدنيا من طريق (4/773)
45 - { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل } أي ساكنين متواضعين عند أن يعرضوا على النار لما لحقهم من الذل والهوان والضمير في عليها راجع إلى العذاب وأنثه لأن العذاب هو النار وقوله يعرضون في محل نصب على الحال لأن الرؤية بصرية وكذلك خاشعين ومن الذل يتعلق بخاشعين أي من أجله { ينظرون من طرف خفي } من هي التي لابتداء الغاية : أي يبتدئ نظرهم إلى النار ويجوز أن تكون تبعيضية والطرف الخفي الذي يخفي نظره كالمصبور بنظر إلى السيف لما لحقهم من الذل والخوف والوجل قال مجاهد : { من طرف خفي } أي ذليل قال : وإنما ينظرون بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا وعين القلب طرف خفي وقال قتادة وسعيد بن جبير والسدي والقرظي : يسارقون النظر من شدة الخوف وقال يونس : إن من في من طرف بمعنى الباء : أي ينظرون بطرف ضعيف من الذل والخوف وبه قال الأخفش { وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } أي أن الكاملين في الخسران : هم هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس والأهلين في يوم القيامة وأما خسرانهم لأنفسهم فلكونهم صاروا في النار معذبين بها وأما خسرانهم لأهليهم فلأنهم إن كانوا معهم في النار فلا ينتفعون بهم وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وبينهم وقيل خسران الأهل : أنهم لو آمنوا لكان لهم في الجنة أهل من الحور العين { ألا إن الظالمين في عذاب مقيم } هذا يجوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه : أي هم في عذاب دائم لا ينقطع (4/773)
46 - { وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله } أي لم يكن لهم أعوان يدفعون عنهم العذاب وأنصار ينصرونهم في ذلك الموطن من دون الله بل هو المتصرف سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن { ومن يضلل الله فما له من سبيل } أي من طريق يسلكها إلى النجاة (4/774)
ثم أمر سبحانه عباده بالاستجابة له وحذرهم فقال : 47 - { استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله } أي استجيبوا دعوته لكم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله من قبل أن يأتي يوم لا يقدر أحد على رده ودفعه على معنى : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد أو لا يرده الله بعد أن حكم به على عباده ووعدهم به والمراد به يوم القيامة أو يوم الموت { ما لكم من ملجأ يومئذ } تلجأون إليه { وما لكم من نكير } أي إنكار والمعنى : ما لكم من إنكار يومئذ بل تعترفون بذنوبكم وقال مجاهد { وما لكم من نكير } أي ناصر ينصركم وقيل النكير بمعنى المنكر كالأليم بمعنى المؤلم : أي لا تجدون يومئذ منكرا لما ينزل بكم من العذاب قاله الكلبي وغيره والأول أولى قال الزجاج : معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها (4/774)
48 - { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا } أي حافظا تحفظ أعمالهم حتى تحاسبهم عليها ولا موكلا بهم رقيبا عليهم { إن عليك إلا البلاغ } أي ما عليك إلا البلاغ لما أمرت بإبلاغه وليس عليك غير ذلك وهذا منسوخ بآية السيف { وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها } أي إذا أعطيناه رخاء وصحة وغنى وفرح بها بطرا والمراد بالإنسان الجنس ولهذا قال : { وإن تصبهم سيئة } أي بلاء وشدة ومرض { بما قدمت أيديهم } من الذنوب { فإن الإنسان كفور } أي كثير الكفر لما أنعم به عليه من نعمه غير شكور له عليها وهذا باعتبار غالب جنس الإنسان (4/774)
ثم ذكر سبحانه سعة ملكه ونفاذ تصرفه فقال : 49 - { لله ملك السموات والأرض } أي له التصرف فيهما بما يريد لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع { يخلق ما يشاء } من الخلق { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } قال مجاهد والحسن والضحاك وأبو مالك وأبو عبيدة : يهب لمن يشاء إناثا لا ذكور معهن ويهب لمن يشاء ذكورا لا إناث معهم قيل وتعريف الذكور بالألف واللام للدلالة على شرفهم على الإناث ويمكن أن يقال إن التقديم للإناث قد عارض ذلك فلا دلالة في الآية على المفاضلة بل هي مسوقة لمعنى آخر وقد دل على شرف الذكور قوله سبحانه : { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله } وغير ذلك من الأدلة الدالة على شرف الذكور على الإناث وقيل تقديم الإناث لكثرتهن بالنسبة إلى الذكور وقيل لتطييب قلوب آبائهن وقيل لغير ذلك مما لا حاجة إلى التطويل بذكره (4/774)
50 - { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } أي يقرن بين الإناث والذكور ويجعلهم أزواجا فيهبهما جميعا لبعض خلقه قال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية ثم تلد غلاما ثم تلد جارية وقال محمد ابن الحنفية : هو أن تلد توأما غلاما وجارية وقال القتيبي : التزويج هنا هو الجمع بين البنين والبنات تقول العرب : زوجت إبلي : إذا جمعت بين الصغار والكبار ومعنى الآية أوضح من أن يختلف في مثله فإنه سبحانه أخبر أنه يهب لبعض خلقه إناثا ويهب لبعض ذكورا ويجمع بين الذكور والإناث { ويجعل من يشاء عقيما } لا يولد له ذكر ولا أنثى والعقيم الذي لا يولد له يقال رجل عقيم وامرأة عقيم وعقمت المرأة تعقم عقما وأصله القطع ويقال نساء عقم ومنه قول الشاعر :
( عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم )
{ إنه عليم قدير } أي بليغ العلم عظيم القدرة (4/775)
51 - { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } أي ما صح لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله بوجه من الوجوه إلا بأن يوحي إليه فيلهمه ويقذف ذلك في قلبه قال مجاهد : نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاما منه كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم في ذبح ولده { أو من وراء حجاب } كما كلم موسى يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى وهو تمثيل بحال الملك المحتجب الذي يكلم خواصه من وراء حجاب { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } أي يرسل ملكا فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحي إليه قال الزجاج : المعنى أن كلام الله للبشر : إما أن يكون بإلهام يلهمهم أو يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى أو برسالة ملك إليهم وتقدير الكلام : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيا أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل رسولا ومن قرأ { يرسل } رفعا أراد وهو يرسل فهو ابتداء واستئناف اهـ قرأ الجمهور بنصب { أو يرسل } وبنصب { فيوحي } على تقدير أن وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين على وحيا ووحيا في محل الحال والتقدير : إلا موحيا أو مرسلا ولا يصح عطف أو يرسل على أن يكلمه لأنه يصير التقدير : وما كان لبشر أن يرسل الله رسولا وهو فاسد لفظا ومعنى وقد قيل في توجيه قراءة الجمهور غير هذا مما لا يخلو عن ضعف وقرأ نافع { أو يرسل } بالرفع وكذلك { فيوحي } بإسكان الياء على أنه خبر مبتدإ محذوف والتقدير : أو هو يرسل كما قال الزجاج وغيره وجملة { إنه علي حكيم } تعليل لما قبلها : أي متعال عن صفات النقص حكيم في كل أحكامه
قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى فنزلت (4/775)
52 - { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } أي وكالوحي الذي أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك روحا من أمرنا المراد به القرآن وقيل النبوة قال مقاتل : يعني الوحي بأمرنا ومعناه القرآن لأنه يهتدي به ففيه حياة من موت الكفر ثم ذكر سبحانه صفة رسوله قبل أن يوحي إليه فقال : { ما كنت تدري ما الكتاب } أي أي شيء هو لأنه صلى الله عليه و سلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وذلك أدخل في الإعجاز وأدل على صحة نبوته ومعنى { ولا الإيمان } أنه كان صلى الله عليه و سلم لا يعرف تفاصيل الشرائع ولا يهتدي إلى معالمها وخص الإيمان أنه رأسها وأساسها وقيل أراد بالإيمان هنا الصلاة قال بهذا جماعة من أهل العلم : منهم إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة واحتج بقوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } يعني الصلاة فسماها إيمانا وذهب جماعة إلى أن الله سبحانه لم يبعث نبيا إلا وقد كان مؤمنا به وقالوا معنى الآية : ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان وقيل كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلا وفي المهد وقال الحسين بن الفضل : إنه على حذف مضاف : أي ولا أهل الإيمان وقيل المراد بالإيمان دين الإسلام وقيل الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل ما كلف الله به العباد { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء } أي ولكن جعلنا الروح الذي أوحيناه إليك ضياء ودليلا على التوحيد والإيمان نهدي به من نشاء هدايته { من عبادنا } ونرشده إلى الدين الحق { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } قال قتادة والسدي ومقاتل : وإنك لتدعو إلى الإسلام فهو الصراط المستقيم قرأ الجمهور { لتهدي } على البناء للفاعل وقرأ ابن حوشب على البناء للمفعول وقرأ ابن السميفع بضم التاء وكسر الدال من أهدى وفي قراءة أبي وإنك لتدعو (4/776)
ثم بين الصراط المستقيم بقوله : 53 - { صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } وفي هذه الإضافة للصراط إلى الاسم الشريف من التعظيم له والتفخيم لشأنه ما لا يخفى ومعنى { له ما في السموات وما في الأرض } أنه المالك لذلك والمتصرف فيه { ألا إلى الله تصير الأمور } أي تصير إليه يوم القيامة لا إلى غيره جميع أمور الخلائق وفيه وعيد بالبعث المستلزم للمجازاة
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { ينظرون من طرف خفي } قال : ذليل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد مثله وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن كعب قال : يسارقون النظر إلى النار وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من بركة المرأة ابتكارها بالأنثى لأن الله قال : { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ويجعل من يشاء عقيما } قال : الذي لا يولد له وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } قال : إلا أن يبعث ملكا يوحي إليه من عنده أو يلهمه فيقذف في قلبه أو يكلمه من وراء حجاب وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } قال : القرآن وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن علي قال : [ قيل لمحمد صلى الله عليه و سلم ؟ هل عبدت وثنا قط ؟ قال : لا قالوا : فهل شربت خمرا قط ؟ قال : لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان وبذلك نزل القرآن { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } ] (4/776)
سورة الزخرف
هي تسع وثمانون آية
قال القرطبي : هي مكية بالإجماع وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة حم الزخرف بمكة قال مقاتل : إلا قوله : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } يعني فإنها نزلت بالمدينة
قوله : 1 - { حم } (4/777)
قوله : 2 - { حم * والكتاب المبين } الكلام ها هنا في الإعراب كالكلام الذي قدمناه في { يس * والقرآن الحكيم } فإن جعلت حم قسما كانت الواو عاطفة وإن لم تجعل قسما فالواو للقسم (4/778)
وجواب القسم 3 - { إنا جعلناه } وقال ابن الأنباري : من جعل جواب والكتاب حم كما تقول : نزل والله وجب والله وقف على الكتاب المبين ومعنى جعلناه : أي سميناه ووصفناه ولذلك تعدى إلى مفعولين وقال السدي : المعنى أنزلناه { قرآنا } وقال مجاهد : قلناه وقال سفيان الثوري : بيناه { عربيا } وكذا قال الزجاج : أي أنزل بلسان العرب لان كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه وقال مقاتل : لأن لسان أهل الجنة عربي { لعلكم تعقلون } أي جعلنا ذلك الكتاب قرآنا عربيا لكي تفهموه وتتعقلوا معانية وتحيطوا بما فيه قال ابن زيد : لعلكم تتفكرون (4/778)
4 - { وإنه في أم الكتاب } أي وإن القرآن في اللوح المحفوظ { لدينا } أي عندنا { لعلي حكيم } رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقص والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم أو مستأنفة مقررة لما قبلها قال الزجاج : أم الكتاب أصل الكتاب وأصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال : { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } وقال ابن جريح : المراد بقوله وإنه أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية قال قتادة أخبر عن منزلته وشرفه وفضله : أي إن كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل (4/778)
5 - { أفنضرب عنكم الذكر صفحا } يقال ضربت عنه وأضرت عنه : إذا تركته وأمسكت عنه كذا قال الفراء والزجاج وغيرهما وانتصاب صفحا على المصدرية وقيل على الحال على معنى : أفنضرب عنكم الذكر صافحين والصفح مصدر قولهم : صفحت عنه إذا أعرضت عنه وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك المراد بالذكر هنا القرآن والاستفهام للإنكار والتوبيخ قال الكسائي : المعنى أفنضرب عنكم الذكر طيا فلا توعظون ولا تؤمرون وقال مجاهد وأبو صالح والسدي : أنفضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم وقال قتادة : المعنى أنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم وروي عنه أنه قال : المعنى أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به وقيل الذكر التذكير كأنه قال : أنترك تذكيركم { أن كنتم قوما مسرفين } قرأ نافع وحمزة والكسائي { إن كنتم } بكسر إن على أنها الشرطية والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه وقرأ الباقون بفتحها على التعليل : أي لأن كنتم قوما منهمكين في الإسراف مصرين عليه واختار أبو عبيد قراءة الفتح (4/779)
ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم فقال : 6 - { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } كم هي الخبرية التي معناها التكثير والمعنى : ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة (4/779)
7 - { وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون } كاستهزاء قومك بك (4/779)
8 - { فأهلكنا أشد منهم بطشا } أي أهلكنا قوما أشد قوة من هؤلاء القوم وانتصاب بطشا على التمييز أو الحال : أي باطشين { ومضى مثل الأولين } أي سلف في القرآن ذكرهم غير مرة وقال قتادة : عقوبتهم وقيل صفتهم والمثل الوصف والخبر وفي هذا تهديد شديد لأنه يتضمن أن الأولين أهلكوا بتكذيب الرسل وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم (4/779)
9 - { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } أي لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية أقروا بأن الله خالقهن ولم ينكروا وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله خالقهن ولم ينكروا وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكا له بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر من المخلوقات وهي الأصنام فجعلوها شركاء الله (4/779)
ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم نعمته على عباده وكمال قدرته في مخلوقاته فقال : 10 - { الذي جعل لكم الأرض مهدا } وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله ولو كان متصلا بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا الذي جعل لنا الأرض مهادا والمهاد الفراش والبساط وقد تقدم بيانه قرأ الجمهور { مهادا } وقرأ الكوفيون { مهدا } { وجعل لكم فيها سبلا } أي طرقا تسلكونها إلى حيث تريدون وقيل معايش تعيشون بها { لعلكم تهتدون } بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم (4/780)
11 - { والذي نزل من السماء ماء بقدر } أي بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زرائعكم ويهدم منازلكم ويهلككم بالغرق ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى { فأنشرنا به بلدة ميتا } أي أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات قرأ الجمهور { ميتا } بالتخفيف وقرأ عيسى وأبو جعفر بالتشديد { كذلك تخرجون } من قبوركم : أي مثل ذلك الإحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها تبعثون من قبوركم أحياء فإن من قدر على هذا قدر على ذلك وقد مضى بيان هذا في آل عمران والأعراف قرأ الجمهور { تخرجون } مبنيا للمفعول وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر مبنيا للفاعل (4/780)
12 - { والذي خلق الأزواج كلها } المراد بالأزواج هنا الأصناف قال سعيد بن جبير : الأصناف كلها وقال الحسن : الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات والأرض والجنة والنار وقيل أزواج الحيوان من ذكر وأنثى وقيل أزواج النبات كقوله : { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } و { من كل زوج كريم } وقيل ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر وإيمان وكفر والأول أولى { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } في البحر والبر : أي ما تركبونه (4/780)
13 - { لتستووا على ظهوره } الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد وقال الفراء : أضاف الظهور إلى واحد لأن المراد ظهور هذا الجنس والاستواء الاستعلاء : أي لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } أي هذه النعمة التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبر وقال مقاتل والكلبي : هو أن يقول الحمد الله الذي رزقني هذا وحملني عليه { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا } أي ذلل لنا هذا المركب وقرأ علي بن أبي طالب سبحان من سخر لنا هذا قال قتادة : قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم ومعنى { وما كنا له مقرنين } ما كنا له مطيقين يقال أقرن هذا البعير : إذا أطاقه وقال الأخفش وأبو عبيدة : مقرنين ضابطين وقيل مماثلين له في القوة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة وأنشد قطرب قول عمرو بن معدي كرب :
( لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا )
قال آخر :
( ركبتم صعبتي أشر وجبن ... ولستم للصعاب بمقرنينا )
والمراد بالأنعام هنا الإبل خاصة وقيل الإبل والبقر والأول أولى (4/780)
14 - { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أي راجعون إليه وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة (4/781)
ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال : 15 - { وجعلوا له من عباده جزءا } قال قتادة : أي عدلا يعني ما عبد من دون الله وقال الزجاج والمبرد : الجزء هنا البنات والجزء عند أهل العربية البنات يقال قد أجزأت المرأة : إذا ولدت البنات ومنه قول الشاعر :
( إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا )
وقد جعل صاحب الكشاف تفسير الجزء بالبنات من بدع التفسير وصرح بأنه مكذوب على العرب ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد وهما إمامة اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهي في معرفتها ويؤيد تفسير الجزء بالبنات ما سيأتي من قوله : { أم اتخذ مما يخلق بنات } وقوله : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن } وقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } وقيل المراد الجزاء هنا الملائكة فإنهم جعلوهم أولاد الله سبحانه قاله مجاهد والحسن قال الأزهري : ومعنى الآية أنهم جعلوا لله من عباده نصيبا مبالغ فيه قيل المراد بالغنسان هنا الكافر فإنه الذي يجحد نعم الله عليه جحودا بينا (4/781)
ثم أنكر عليهم هذا فقال : 16 - { أم اتخذ مما يخلق بنات } وهذا استفهام تقريع وتوبيخ و { أم } هي المنقطعة والمعنى : أتخذ ربكم لنفسه البنات { وأصفاكم بالبنين } فجعل لنفسه المفضول من الصنفين ولكم الفاضل منهما يقال أصفيته بكذا : أي آثرته به وأصفيته الود : أخلصته له ومثل هذه الآية قوله : { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } وقوله { أفأصفاكم ربكم بالبنين } وجملة { وأصفاكم } معطوفة على { اتخذ } داخلة معها تحت الإنكار (4/781)
ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال : 17 - { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا } أي بما جعله للرحمن سبحانه من كونه جعل لنفسه البنات والمعنى : أنه إذا بشر أحدهم بأنها ولدت له بنت اغتم لذلك وظهر عليه أثره وهو معنى قوله : { ظل وجهه مسودا } أي صار وجهه مسودا بسبب حدوث الأنثى له حيث لم يكن الحادث له ذكرا مكانها { وهو كظيم } أي شديد الحزن كثير الكرب مملوء منه قال قتادة : حزين وقال عكرمة : مكروب وقيل ساكت وجملة { وهو كظيم } في محل نصب على الحال (4/782)
ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال 18 - { أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } معنى ينشأ يربى والنشوء التربية والحلية الزينة ومن في محل نصب بتقدير مقدر معطوف على جعلوا والمعنى : أو جعلوا له سبحانه من شأنه أن يربى في الزينة وهو عاجز عن أن يقوم بأمور نفسه وإذا خوصم لا يقدر على إقامة حجته ودفع ما يجادله به خصمه لنقصان عقله وضعف رأيه قال المبرد : تقدير الآية : أو يجعلون له من ينشأ في الحلية : أي ينبت في الزينة قرأ الجمهور { ينشأ } بفتح الياء وإسكان النون وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين واختار القراءة الأولى أبو حاتم واختار الثانية أبو عبيد قال الهروي : الفعل على القراءة الأولى لازم وعلى الثانية متعد والمعنى : يربى ويكبر في الحلية قال قتادة : قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها وقال ابن زيد والضحاك : الذي ينشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة (4/782)
19 - { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء كما تقول : جعلت زيدا أفضل الناس : أي قلت بذلك وحكمت له به قرأ الكوفيون { عباد } بالجمع وبها قرأ ابن عباس وقرأ الباقون { عند الرحمن } بنون ساكنة واختار القراءة الأولى أبو عبيد لأن الإسناد فيها أعلى ولأن الله إنما كذبهم في قوله : إنهم بنات الله فأخبرهم أنهم عباده ويؤيد هذا القراءة قوله : { بل عباد مكرمون } واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال : وتصديق هذه القراءة قوله : { إن الذين عند ربك } ثم وبخهم وقرعهم فقال : { أشهدوا خلقهم } أي أحضروا خلق الله إياهم فهو من الشهادة التي هي الحضور وفي هذا تهكم بهم وتجهيل لهم قرأ الجمهور { أشهدوا } على الاستفهام بدون واو وقرأ نافع { أشهدوا } وقرأ الجمهور { ستكتب شهادتهم } بضم التاء الفوقية وبناء الفعل للمفعول ورفع شهادتهم وقرأ السلمي وابن السميفع وهبيرة عن حفص بالنون وبناء الفعل للفاعل ونصب شهادتهم وقرأ أبو رجاء شهاداتهم بالجمع والمعنى : سنكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في ديوان أعمالهم لنجازيهم على ذلك { ويسألون } عنها يوم القيامة (4/782)
20 - { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } هذا فن آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية ومعناه : لو شاء الرحمن في زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة وهذا كلام حق يراد به باطل وقد مضى بيانه في الأنعام فبين سبحانه جهلهم بقوله : { ما لهم بذلك من علم } أي ما لهم بما قالوه من أن الله لو شاء عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم من علم بل تكلموا بذلك جهلا وأرادوا بما صورته صورة الحق باطلا وزعموا أنه إذا شاء فقد رضي ثم بين انتفاء علمهم بقوله : { إن هم إلا يخرصون } أي ما هم إلا يكذبون فيما قالوا ويتملحون تمحلا باطلا وقيل الإشارة بقوله : { ذلك } إلى قوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } قاله قتادة ومقاتل والكلبي وقال مجاهد وابن جريج : أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن أول ما خلق الله من شيء القلم وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة والكتاب عنده ثم قرأ { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } وأخرج ابن مردويه نحوه عن أنس مرفوعا وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أفنضرب عنكم الذكر صفحا } قال : أحببتم أن يصفح عنكم ولم تفعلوا ما أمرتم به وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثا ثم قال : { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وما كنا له مقرنين } قال : مطيقين وأخرج عبد بن حميد عنه { أو من ينشأ في الحلية } قال : هو النساء فرق بين زيهن وزي الرجال ونقصهن من الميراث وبالشهادة وأمرهن بالقعدة وسماهن الخوالف وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال : كنت أقرأ هذا الحرف { الذين هم عباد الرحمن إناثا } فسألت ابن عباس فقال : عباد الرحمن ؟ قلت : فإنها في مصحفي عند الرحمن قال : فامحها واكتبها عباد الرحمن (4/783)
قوله : 21 - { أم آتيناهم كتابا من قبله } أم هي المنقطعة : أي بل ءأعطيناهم كتابا من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله { فهم به مستمسكون } يأخذون بما فيه ويحتجون به ويجعلونه لهم دليلا ويحتمل أن تكون أم معادة لقوله أشهدوا فتكون متصلة والمعنى أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا إلخ وقيل إن الضمير في { من قبله } يعود إلى ادعائهم : أي أم آتيناهم كتابا من قبل ادعائهم ينطق بصحة ما يدعونه والأول أولى (4/784)
ثم بين سبحانه أنه لا حجة بأيديهم ولا شبهة ولكنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة فقال : 22 - { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } فاعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم ومعنى على أمة : على طريقة ومذهب قال أبو عبيد : هي الطريقة والدين وبه قال قتادة وغيره قال الجوهري : والأمة الطريقة والدين يقال فلان لا أمة له : أي لا دين له ولا نحلة ومنه قول قيس بن الخطيم :
( كنا على أمة آبائنا ... ونقتدي بالأول الأول )
وقول الآخر :
( وهل يستوي ذا أمة وكفور )
وقال الفراء وقطرب : على قبلة وقال الأخفش : على استقامة وأنشد قول النابغة :
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع )
قرأ الجمهور { أمة } بمض الهمزة وقرأ مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز بكسرها قال الجوهري : والإمة بالكسر : النعمة والإمة : أيضا لغة في الأمة ومنه ول عدي بن زيد :
( ثم بعد الفلاح والملك والأمـ ... ة وارتهم هناك قبور ) (4/785)
ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة وقال بها فقال : 23 - { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } مترفوها : أغنياؤها ورؤساؤها قال قتادة : مقتدون متبعون ومعنى الاهتداء والاقتداء متقارب وخصص المترفين تنبيها على أن التنعم هو سبب إهمال النظر (4/785)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يرد عليهم فقال : 24 - { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم قال الزجاج : المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه قرأ الجمهور { قال أو لو جئتكم } وقرأ ابن عامر وحفص { قال أو لو جئتكم } وهو حكاية ملا جرى بين المنذرين وقومهم : أي قال كل منذر من أولئك المنذرين لأمته وقيل إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء وقومهم كأنه قال : لكل نبي قل بدليل قوله : { قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد وقبحه فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم ويتبعون آثارهم ويقتدون بهم فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير ولا حجة واضحة بل بمجرد قال وقيل لشبهة داحضة وحجة زائفة ومقالة باطلة قالوا بما قاله المترفون من هذه الملل : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون أو بما يلاقي معناه معنى ذلك فإن قال لهم الداعي إلى الحق : قد جمعتنا الملة الإسلامية وشملنا هذا الدين المحمدي ولم يتعبدنا الله ولا تعبدكم وتعبد آباءكم من قبلكم إلا بكتابه الذي أنزله على رسوله وبما صح عن رسوله فإنه المبين لكتاب الله الموضح لمعانيه الفارق بين محكمه ومتشابهه فتعالوا نرد ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فإن الرد إليهما أهدى لنا ولكم من الرد إلى ما قاله أسلافكم ودرج عليه آباؤكم نفروا نفور الوحوش ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } ولا قوله : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } فإن قال لهم القائل : هذا العالم الذي تقتدون به وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبدا بكتاب الله وسنة رسوله مطلوبا منه ما هو مطلوب منكم وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل فذلك رخصة له لا يحل أن يتبعه غيره عليها ولا يجوز له العمل بها وقد وجدوا الدليل الذي لم يجده وها أنا أوجدكموه في كتاب الله أو فيما صح من سنة رسوله وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم قالوا : لا نعمل بهذا ولا سمع لك ولا طاعة ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب والسنة ولم يسلموا ذلك ولا أذعنوا له وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكأون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة وهي أنهم يقولون : إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنة رسوله وذلك لأن أذهانهم قد تصورت من يقتدون به تصورا عظيما بسبب تقدم العصر وكثرة الأتباع وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم فإنه لو قيل لهم إن في التابعين من هو أعظم قدرا وأقدم عصرا من صاحبكم فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية حتى توجب الاقتداء فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصرا وأجل قدرا فإن أبيتم ذلك فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدرا وأجل خطرا وأكثر أتباعا وأقدم عصرا وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم رسول الله إلينا وإليكم فتعالوا فهذه سنته موجودة في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر وهذا كتاب ربنا خالق الكل ورازق الكل وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص ولا تحريف ولا تصحيف ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ويتعقل معانيه فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه ونشرب صفو الماء من منبعه فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا : لا سمع ولا طاعة إما بلسان المقال أو بلسان الحال فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير ومزعة من حياء وحصة من دين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب فارجع إليه إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب وتنقشع لك سحائب التقليد (4/785)
25 - { فانتقمنا منهم } وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح وعاد وثمود { فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } من تلك الأمم فإن آثارهم موجودة (4/787)
26 - { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه } أي واذكر لهم وقت قوله لأبيه وقومه الذين قلدوا آباءهم وعبدوا الأصنام { إنني براء مما تعبدون } البراء مصدر نعت به للمبالغة وهو يستعمل للواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث قال الجوهري : وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل (4/787)
ثم استثنى خالقه من البراءة فقال : 27 - { إلا الذي فطرني } أي خلقني { فإنه سيهدين } سيرشدني لدينه ويثبتني على الحق والاستثناء إما منقطع : أي لكن الذي فطرني أو متصل من عموم ما لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام وإخباره بأنه سيهديه جزما لثقته بالله سبحانه وقوة يقينه (4/787)
28 - { وجعلها كلمة باقية في عقبه } الضمير في جعلها عائد إلى قوله : { إلا الذي فطرني } وهي بمعنى التوحيد كأنه قال : وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه وفاعل جعلها إبراهيم وذلك حيث وصاهم بالتوحيد وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } الآية وقيل الفاعل هو الله عز و جل : أي وجعل الله عز و جل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم والعقب من بعد قال مجاهد وقتادة : الكلمة لا إله إلا الله لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة وقال عكرمة : هي الإسلام قال ابن زيد : الكلمة هي قوله : { أسلمت لرب العالمين } وجملة { لعلهم يرجعون } تعليل للجعل : أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد وقيل الضمير في لعلهم راجع إلى أهل مكة : أي لعل أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها إلخ قال السدي : لعلهم يتوبون فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله (4/787)
ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم فقال : 29 - { بل متعت هؤلاء وآباءهم } أضرب عن الكلام الأول إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس والأهل والأموال وأنواع النعم وما متع به آباءهم ولم يعاجلهم بالعقوبة فاغتروا بالمهلة وأكبوا على الشهوات { حتى جاءهم الحق } يعني القرآن { ورسول مبين } يعني محمدا صلى الله عليه و سلم ومعنى مبين ظاهر الرسالة واضحها أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه (4/788)
ثم بين سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحق فقال : 30 - { ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون } أي جاحدون فسموا القرآن سحرا وجحدوه واستحقروا رسول الله صلى الله عليه و سلم (4/788)
31 - { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } المراد بالقريتين مكة والطائف وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف كذا قال قتادة وغيره وقال مجاهد وغيره : عتبة بن ربيعة من مكة وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف وقيل غير ذلك وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسود في قومه والمعنى : أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين (4/788)
فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله : 32 - { أهم يقسمون رحمة ربك } يعني النبوة أو ما هو أعم منها والاستفهام للإنكار ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } ولم نفوض ذلك إليهم وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ورفع درجات بعضهم على بعض فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة وتفويضها إلى من يشاء من خلقه قال مقاتل : يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاءوا قرأ الجمهور { معيشتهم } بالإفراد وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن معايشهم بالجمع { و } معنى { رفعنا بعضهم فوق بعض درجات } أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم ثم ذكر العلة لرفع درجات بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض فقال : { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } أي ليستخدم بعضهم بعضا فيستخدم الغني الفقير والرئيس والمرؤوس والقوي الضعيف والحر العبد والعاقل من هو دونه من العقل والعالم الجاهل وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين فجعل البعض محتاجا إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا ويحتاج هذا إلى هذا ويصنع هذا هذا ويعطي هذا هذا قال السدي وابن زيد : سخرنا خولنا وخدما يسخر الأغنياء الفقراء فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض وقال قتادة والضحاك : ليملك بعضهم بعضا وقيل هو السخرية التي بمعنى الاستهزاء وهذا وإن كان مطابقا للمعنى اللغوي ولكنه بعيد من معنى القرآن ومناف لما هو مقصود السياق { ورحمة ربك خير مما يجمعون } يعني بالرحمة ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة وقيل هي النبوة لأنها المراد بالرحمة المتقدمة في قوله : { أهم يقسمون رحمة ربك } ولا مانع من أن يراد كل ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولا أو بدلا ومعنى مما يجمعون ما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا (4/788)
ثم بين سبحانه حاقرة الدنيا عنده فقال : 33 - { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلا إلى الدنيا وزخرفها { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة } جمع الضمير في بيوتهم وأفرده في يكفر باعتبار معنى من ولفظها و لبيوتهم بدل اشتمال من الموصول والسقف جمع سقف قرأ الجمهور بضم السين والقاف كرهن ورهن قال أبو عبيدة : ولا ثالث لهما وقال الفراء : هو جمع سقيف نحو كثير وكثب ورغيف ورغف وقيل هو جمع سقوف فيكون جمعا للجمع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد ومعناه الجمع لكونه للجنس قال الحسن : معنى الآية : لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله وقال أكثر المفسرين وقال ابن زيد : لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا واختيارهم لها على الآخرة وقال الكسائي : المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها { ومعارج عليها يظهرون } المعارج : الدرج جمع معراج والمعراج السلم قال الأخفش : إن شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج مثل : مرقاة ومرقاة والمعنى : فجعلنا لهم معارج في فضة عليها يظهرون أي على المعارج يرتقون ويصعدون يقال ظهرت على البيت : أي علوت سطحه ومنه قول النابغة :
( بلغنا السماء مجدا وفخرا وسؤددا ... وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا )
أي مصعدا (4/789)
34 - { ولبيوتهم أبوابا وسررا } أي وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة { عليها يتكئون } أي على السرر وهو جمع سرير وقيل جمع أسرة فيكون جمعا للجمع والاتكاء والتوكؤ : التحامل على الشيء ومنه { أتوكأ عليها } واتكأ على الشيء فهو متكئ والموضع متكأ والزخرف : الذهب وقيل الزينة أعم من أن تكون ذهبا أو غيره قال ابن زيد : هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث وقال الحسن : النقوش وأصله الزينة يقال زخرفت الدار : أي زينتها (4/789)
35 - { و } انتصاب { زخرفا } بفعل مقدر : أي وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا أو بنزع الخافض : أي أبوابا وسررا من فضة ومن ذهب فلما حذفت الخافض انتصب ثم أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا فقال : { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } قرأ الجمهور { لما } بالتخفيف وقرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر بالتشديد فعلى القراءة الأولى تكون إن هي المخففة من الثقيلة وعلى القراءة الثانية هي النافية و لما بمعنى إلا : أي ما كل ذلك إلا شيء يتمتع به في الدنيا وقرأ أبو رجاء بكسر اللام من لما على أن اللام للعلة وما موصولة والعائد محذوف : أي للذي هو متاع { والآخرة عند ربك للمتقين } أي لمن اتقى الشرك والمعاصي وآمن بالله وحده وعمل بطاعته فإنها الباقية التي لا تفنى ونعيمها الدائم الذي لا يزول
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { إنا وجدنا آباءنا على أمة } قال : على دين وأخرج عبد بن حميد عنه { وجعلها كلمة باقية } قال : لا إله إلا الله { في عقبه } قال : عقب إبراهيم ولده وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا أنه سئل عن قول الله { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } ما القريتان ؟ قال : الطائف ومكة قيل فمن الرجلان ؟ قال : عمير بن مسعود وخيار قريش وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا قال : يعني بالقريتين مكة والطائف والعظيم الوليد بن المغيرة القرشي وحبيب بن عمير الثقفي وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : يعنون أشرف من محمد للوليد بن المغيرة من أهل مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { لولا أن يكون الناس أمة واحدة } الآية يقول : لولا أن نفعل الناس كلهم كفارا لجعلت لبيوت الكفار سقفا من فضة ومعارج من فضة وهي درج عليها يصعدون إلى الغرف وسرر فضة و زخرفا : هو الذهب وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء ] (4/790)
قوله : 36 - { ومن يعش عن ذكر الرحمن } يقال عشوت إلى النار : قصدتها وعشوت عنها أعرضت عنها كما تقول : عدلت إلى فلان وعدلت عنه وملت إليه وملت عنه كذا قال الفراء والزجاج وأبو الهيثم والأزهري فالمعنى : ومن يعرض عن ذكر الحمن قال الزجاج : معنى الآية أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينا له فلا يهتدي مجازاة له حين آثر بالباطل على الحق البين وقال الخليل : العشو النظر الضعيف ومنه :
( لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... إذا الريح هبت والمكان جديب )
والظاهر أن معنى البيت القصد إلى النار لا النظر إليها ببصر ضعيف كما قال الخليل فيكون دليلا على ما قدمنا من أنه يأتي بمعنى القصد وبمعنى الإعراض وهكذا ما أنشده الخليل مستشهدا به على ما قاله من قول الحطيئة :
( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد )
فإن الظاهر أن معناه : تقصد إلى ضوء ناره لا تنظر إليها ببصر ضعيف ويمكن أن يقال : إن المعنى في البيتيت المبالغة في ضوء النار وسطوعها بحيث لا ينظرها الناظر إلا كما ينظر من هو معشى البصر لما يلحق بصره من الضعف عندما يشاهده من عظم وقودها وقال أبو عبيدة والأخفش : إن معنى { ومن يعش } ومن تظلم عينه وهو نحو قول الخليل وهذا على قراءة الجمهور { ومن يعش } بضم الشين من عشا يعشو وقرأ ابن عباس وعكرمة ومن يعش بفتح الشين يقال عشى الرجل يعشى عشيا إذا عمي ومنه قول الأعشى :
( رأت رجلا غايب الوافدين ... ومختلف الخلق أعشى ضريرا )
وقال الجوهري : والعشا مقصور مصدر الأعشى : وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار والمرأة عشواء وقرئ يعشو بالواو على أن من موصولة غير متضمنة معنى الشرط قرأ الجمهور { نقيض له شيطانا } بالنون وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم والأعمش بالتحتية مبنيا للفاعل وقرأ ابن عباس بالتحتية مبنيا للمفعول ورفع شيطان على النيابة { فهو له قرين } أي ملازم له لا يفارقه أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه بل يتبعه في جميع أموره ويطيعه في كل ما يوسوس به إليه (4/791)
37 - { وإنهم ليصدونهم عن السبيل } أي وإن الشياطين الذين يقيضهم الله لكل أحد ممن يعشو عن ذكر الرحمن كما هو معنى من ليصدونهم : أي يحولون بينهم وبين سبيل الحق ويمنعونهم منه ويوسوسون لهم أنهم على الهدى حتى يظنون صدق ما يوسوسون به وهو معنى قوله : { ويحسبون أنهم مهتدون } أي يحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم أو يحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم في أنفسهم مهتدون (4/792)
38 - { حتى إذا جاءنا } قرأ الجمهور بالتثنية : أي الكافر والشيطان المقارن له وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص بالإفراد : أي الكافر أو جاء كل واحد منها { قال } الكافر مخاطبا للشيطان { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب المشرق على المغرب قال مقاتل : يتمنى الكافر أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة من مشرق أقصر يوم في السنة والأول أولى وبه قال الفراء { فبئس القرين } المخصوص بالذم محذوف أي أنت أيها الشيطان (4/792)
39 - { ولن ينفعكم اليوم } هذا حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة { إذ ظلمتم } أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا وقيل إن إذا بدل من اليوم لأنه تبين في ذلك اليوم أنهم ظلموا أنفسهم في الدنيا قرأ الجمهور { أنكم في العذاب مشتركون } بفتح أن على أنها وما بعدها في محل رفع على الفاعلية : أي لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب قال المفسرون : لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب لأن لكل أحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر منه وقيل إنها للتعليل لنفي النفع : أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركني في سببه في الدنيا ويقوي هذا المعنى قراءة ابن عامر على اختلاف عليه فيها بكسر إن (4/792)
ثم ذكر سبحانه أنها لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة فقال : 40 - { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي } الهمزة لإنكار التعجب : أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وإخبار له أنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز و جل وقوله : { ومن كان في ضلال مبين } عطف على العمي : أي إنك لا تهدي من كان كذلك ومعنى الآية : أن هؤلاء الكفار بمنزلة الصم الذين لا يعقلون ما جئت به وبمنزلة العمي الذين لا يبصرونه فإفراطهم في الضلالة وتمكنهم من الجهالة (4/793)
41 - { فإما نذهبن بك } بالموت قبل أن ينزل العذاب بهم { فإنا منهم منتقمون } إما في الدنيا أو في الآخرة وقيل المعنى : تخرجنك من مكة (4/793)
42 - { أو نرينك الذي وعدناهم } من العذاب قبل موتك { فإنا عليهم مقتدرون } متى شئنا عذبناهم قال كثير من المفسرين : قد أراه الله ذلك يوم بدر وقال الحسن وقتادة : هي في أهل الإسلام يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه و سلم من الفتن وقد كان بعد النبي صلى الله عليه و سلم فتنة شديدة فأكرم الله نبيه صلى الله عليه و سلم فلم يره في أمته شيئا من ذلك والأول أولى (4/793)
43 - { فاستمسك بالذي أوحي إليك } أي من القرآن وإن كذب به من كذب { إنك على صراط مستقيم } أي طريق واضح والجملة تعليل لقوله : فاستمسك (4/793)
44 - { وإنه لذكر لك ولقومك } أي وإن القرآن لشرف لك ولقومك من قريش إذ نزل عليك وأنت منهم بلغتك ولغتهم ومثله قوله : { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم } وقيل بيان لك ولأمتك فيما لكم إليه حاجة وقيل تذكرة تذكرون بها أمر الدين وتعلمون به { وسوف تسألون } عما جعله الله لكم من الشرف كذا قال الزجاج والكلبي وغيرهما وقيل يسألون عما يلزمهم من القيام به فيه والعمل به (4/793)
45 - { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد : إن جبريل قال ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم لما أسري به فالمراد سؤال الأنبياء في ذلك الوقت عند ملاقاته لهم وبه قال جماعة من السلف وقال المبرد والزجاج وجماعة من العلماء : إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا وبه قال مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن ومعنى الآية على القولين : سؤالهم هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل وهل سوغ ذلك لأحد منهم ؟ والمقصود تقريع مشركي قريش بأن ما هم عليه لم يأت في شريعة من الشرائع
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أن قريشا قالت : قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله فأتاه وهو في القوم فقال أبو بكر : إلام تدعوني ؟ قال : أدعوك إلى عبادة اللات والعزى قال أبو بكر : وما اللات ؟ قال أولاد الله قال : وما العزى قال : بنات الله قال أبو بكر : فمن أمهم ؟ فسكت طلحة فلم يجبه فقال لأصحابه : أجيبوا الرجل فسكت القوم فقال طلحة : قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأنزل الله : { ومن يعش عن ذكر الرحمن } الآية وثبت في صحيح مسلم وغيره أن مع كل إنسان قرينا من الجن وأخرج ابن مردويه عن علي في قوله : { فإما نذهبن بك } قال : ذهب نبيه صلى الله عليه و سلم وبقيت نقمته في عدوه وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أو نرينك الذي وعدناهم } قال : يوم بدر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عنه في قوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } قال : شرف لك ولقومك وأخرج ابن عدي وابن مردويه عن علي وابن عباس قالا : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور فإذا قالوا لمن الملك بعدك ؟ أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت { وإنه لذكر لك ولقومك } فكان بعد إذا سئل قال لقريش فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن ابن عباس في قوله : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } قال اسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا (4/793)
لما أعلم الله سبحانه نبيه بأن منتقم له من عدوه وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد أتبعه بذكر قصة موسى وفرعون وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة فقال : 46 - { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } وهي التسع تقدم بيانها { إلى فرعون وملئه } الملأ : الأشراف { فقال إني رسول رب العالمين } أرسلني إليكم (4/795)
47 - { فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون } استهزاء وسخرية وجواب لما هو إذا الفجائية لأن التقدير : فاجئوا وقت ضحكهم (4/795)
48 - { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } أي كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها وأعظم قدرا مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها وقيل المعنى : إن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح ومعنى الأخوة بين الآيات : أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه : أي هما قرينتان في المعنى وجملة { إلا هي أكبر من أختها } في محل جر صفة لآية وقيل المعنى : أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظن الظان أنها أكبر من سائر الآيات ومثل هذا قول القائل :
( من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري )
{ وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون } أي بسبب تكذيبهم بتلك الآيات والعذاب هو المذكور في قوله : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات } الآية وبين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو رجاء رجوعهم (4/795)
ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات والدلالات الواضحات ظنوا أن ذلك من قبيل السحر 49 - { وقالوا يا أيها الساحر } وكانوا يسمون العلماء سحرة ويوقرون السحرة ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم قال الزجاج : خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر { ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي بما أخبرتنا من عهده إليك إنا إذا آمنا كشف عنا العذاب وقيل المراد بالعهد النبوة وقيل استجابة الدعوة على العموم { إننا لمهتدون } أي إذا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان ومؤمنون بما جئت به (4/795)
50 - { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } في الكلام حذف والتقدير : فدعا موسى ربه فكشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون في الكلام حذف والتقدير : فدعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب فلما كشف عنهم العذاب فاجئوا وقت نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء والنكث : النقض (4/795)
51 - { ونادى فرعون في قومه } قيل لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم أو أمر مناديا ينادي بقوله : { يا قوم أليس لي ملك مصر } لا ينازعني فيه أحد ولا يخالفني مخالف { وهذه الأنهار تجري من تحتي } أي من تحت قصري والمراد أنها النيل وقال قتادة : المعنى تجري بين يدي وقال الحسن تجري بأمري : أي تجري تحت أمري وقال الضحاك : أراد بالأنهار القواد والرؤساء والجبابرة وأنهم يسيرون تحت لوائه وقيل أراد بالأنهار الأموال والأول أولى والواو في هذه عاطفة على ملك مصر وتجري في محل نصب على الحال أو هي واو الحال واسم الإشارة مبتدأ والأنهار صفة له وتجري خبره والجملة في محل نصب { أفلا تبصرون } ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظيم قدري وضعف موسى عن مقاومتي (4/795)
52 - { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين } أم هي المنقطعة المقدرة ببل التي للإضطراب دون الهمزة التي للإنكار : أي بل أنا خير قال أبو عبيدة : أم بمعنى بل والمعنى : قال فرعون لقومه : بل أنا خير وقال الفراء : إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله وقيل هي زائدة وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة والمعنى : أنا خير من هذا وقال الأخفش : في الكلام حذف والمعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون ؟ ثم ابتدأ فقال { أنا خير } وروي عن الخليل وسيبويه نحو قول الأخفش ويؤيد هذا أن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي وقفا على أم على تقدير أم تبصرون فحذف لدلالة الأول عليه وعلى هذا فتكون أم متصلة لا منقطعة والأول أولى ومثله قول الشاعر الذي أنشده الفراء :
( بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح )
أي بل أنت وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ أما أنا خير أي ألست خيرا من هذا الذي هو مهين : أي ضعيف حقير ممتهن في نفسه لا عز له { ولا يكاد يبين } الكلام لما في لسانه من العقدة وقد تقدم بيانه في سورة طه (4/796)
53 - { فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب } أي فهلا حلي بأساورة الذهب إن كان عظيما وكان الرجل فيهم إذا سودوه سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب قرأ الجمهور { أسورة } جمع أسورة جمع سوار وقال أبو عمرو بن العلاء : واحد الأساورة والأساور والأساوير أسوار وهي لغة في سوار وقرأ حفص أسورة جمع سوار وقرأ أبي : أساور وابن مسعود أساوير قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته { أو جاء معه الملائكة مقترنين } معطوف على ألقي والمعنى : هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقا يعينونه على أمره ويشهدون له بالنبوة فأوهم اللعين قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة ومحفوفين بالملائكة (4/796)
54 - { فاستخف قومه فأطاعوه } أي حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده وغروره فأطاعوه فيما أمرهم به وقبلوا وكذبوا موسى { إنهم كانوا قوما فاسقين } أي خارجين عن طاعة الله قال ابن الأعرابي : المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه بخفة أحلامهم وقلة عقولهم يقال استخفه الفرح : أي أزعجه واستخفه : أي حمله ومنه { ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } وقيل استخف قومه : أي وجدهم خفاف العقول وقد استخف بقومه وقهرهم حتى اتبعوه (4/796)
55 - { فلما آسفونا انتقمنا منهم } قال المفسرون : أغضبونا والأسف الغضب وقيل أشد الغضب وقيل السخط وقيل المعنى : أغضبوا رسلنا ثم بين العذاب الذي وقع به الانتقام فقال : { فأغرقناهم أجمعين } في البحر (4/797)
56 - { فجعلناهم سلفا } أي قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب قرأ الجمهور { سلفا } بفتح السين واللام جمع سالف كخدم وخادم ورصد وراصد وحرس وحارس يقال سلف يسلف : إذا تقدم ومضى قال الفراء والزجاج : جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون وقرأ حمزة والكسائي : { سلفا } بضم السين واللام قال الفراء : هو جمع سليف نحو سرر وسرير وقال أبو حاتم هو جمع سلف نحو خشب وخشب وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس بضم السين وفتح اللام جمع سلفة وهي الفرقة المتقدمة نحو غرف وغرفة كذا قال النضر بن شميل { ومثلا للآخرين } أي عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ولا يكاد يبين } قال : كانت بموسى لثغة في لسانه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { فلما آسفونا } قال : أسخطونا وأخرجا عنه أيضا آسفونا قال : أغضبونا وفي قوله : { سلفا } قال : أهواء مختلفة وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له وقرأ { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين } ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن طارق بن شهاب قال : كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة فقال : تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر { فلما آسفونا انتقمنا منهم } (4/797)
لما قال سبحانه : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا : ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله 57 - { ولما ضرب ابن مريم مثلا } كذا قال قتادة ومجاهد وقال الواحدي : أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزعبري مع النبي صلى الله عليه و سلم لما نزل قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } فقال ابن الزعبري : خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة ؟ ففرح بذلك من قوله فأنزل الله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } ونزلت هذه الآية المذكورة هنا وقد مضى هذا في سورة الأنبياء ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعري مندفع من أصله وباطل برمته فإن الله سبحانه قال : { إنكم وما تعبدون } ولم يقل ومن تعبدون حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح وعزير والملائكة { إذا قومك منه يصدون } أي إذا قومك يا محمد من ذلك المثل المضروب يصدون : أي يضجون ويصيحون فرحا بذلك المثل المضروب والمراد بقومه هنا كفار قريش قرأ الجمهور { يصدون } بكسر الصاد وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بضمها قال الكسائي والفراء والزجاج والأخفش : هما لغتان ومعناهما : يضجون قال الجوهري : صد يصد صديدا : أي ضج وقيل إنها بالضم : الإعراضن وبالكسر من الضجيج قاله قطرب قال أبو عبيد : لو كانت من الصدود عن الحق لقال : إذا قومك عنه يصدون وقال الفراء : هما سواء منه وعنه وقال أبو عبيدة : من ضم فمعناه يعدلون ومن كسر فمعناه يضجون (4/798)
58 - { وقالوا أآلهتنا خير أم هو } أي ءآلهتنا خير أم المسيح ؟ قال السدي وابن زيد : خاصموه وقالوا : إن كان كل من عبد غير الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة وقال قتادة يعنون محمدا : أي ءآلهتنا خير أم محمد ؟ ويقوي هذا قراءة ابن مسعود : ءآلهتنا خير أم هذا قرأ الجمهور بتسهيل الهمزة الثانية بين بين وقرأ الكوفيون ويعقوب بتحقيقها { ما ضربوه لك إلا جدلا } أي ما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك على أن جدلا منتصب على العلة أو مجادلين على أنه مصدر في موضع الحال وقرأ ابن مقسم جدالا { بل هم قوم خصمون } أي شديدو الخصومة كثيرو اللدد عظيموا الجدل (4/799)
ثم بين سبحانه أن عيسى ليس برب وإنما هو عبد من عباده اختصه بنبوته فقال : 59 - { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } بما أكرمناه به { وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } أي آية وعبرة لهم يعرفون به قدرة الله سبحانه فإنه كان من غير أب وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وكل مريض (4/799)
60 - { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } أي لو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة في الأرض يخلفون : أي يخلفونكم فيها قال الأزهري : ومن قد تكون للبدل كقوله : { لجعلنا منكم } يريد بدلا منكم وقيل المعنى : لو نشاء لجعلنا من بني آدم ملائكة والأول أولى ومقصود الآية : أنا لو نشاء لأسكنا الملائكة الأرض وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا وقيل معنى يخلفون يخلف بعضهم بعضا (4/799)
61 - { وإنه لعلم للساعة } قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة : إن المراد المسيح وإن خروجه مما يعلم به قيام الساعة لكونه شرطا من أشراطها لأن الله سبحانه ينزله من السماء قبيل تمام الساعة كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة وقال الحسن وسعيد بن جبير : المراد القرآن لأنه يدل على قرب مجيء الساعة وبه يعلم وقتها وأهوالها وأحوالها وقيل المعنى : أن حدوث المسيح من غير أب وإحياءه للموتى دليل على صحة البعث وقيل الضمير لمحمد صلى الله عليه و سلم والأول أولى قرأ الجمهور لعلم بصيغة المصدر جعل المسيح علما مبالغة لما يحصل من العلم بحصولها عند نزوله وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري وقتادة ومالك بن دينار والضحاك وزيد بن علي بفتح العين واللام : أي للعلامة التي يعرف بها قيام الساعة { فلا تمترن بها } أي فلا تشكن في وقوعها ولا تكذبن بها فإنها كائنة لا محالة { واتبعون هذا صراط مستقيم } أي اتبعوني فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك وفرائض الله التي فرضها عليكم هذا الذي آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك وفرائض الله التي فرضها عليكم هذا الذي آمركم به وأدعوكم إليه طريق قيم موصل إلى الحق قرأ الجمهور بحذف الياء من { اتبعون } وصلا ووقفا وكذلك قرأوا بحذفها في الحالين في { أطيعون } وقرأ يعقوب بإثباتها وصلا ووقفا فيهما وقرأ أبو عمرو وهي رواية عن نافع بحذفها في الوصل دون الوقف (4/799)
62 - { ولا يصدنكم الشيطان } أي لا تغتروا بوساوسه وشبهه التي يوقعها في قلوبكم فيمنعكم ذلك من اتباعي فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه ثم علل نهيهم عن أن يصدهم الشيطان ببيان عداوته لهم فقال : { إنه لكم عدو مبين } أي مضر لعداوته لكم غير متحاش عن ذلك ولا متكتم به كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين آدم وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بني آدم إلا عباد الله المخلصين (4/800)
63 - { ولما جاء عيسى بالبينات } أي جاء إلى بني إسرائيل بالمعجزات الواضحة والشرائع قال قتادة : البينات هنا : الإنجيل { قال قد جئتكم بالحكمة } أي النبوة وقيل الإنجيل وقيل ما يرغب في الجميل ويكف عن القبيح { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } من أحكام التوراة وقال قتادة : يعني اختلاف الفرق الذي تحزبوا في أمر عيسى قال الزجاج : الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه وقيل إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وقال أبو عبيدة إن البعض هنا بمعنى الكل كما في قوله : { يصبكم بعض الذي يعدكم } وقال مقاتل : هو كقوله : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } : يعني ما أحل في الإنجيل مما كان محرما في التوراة كلحم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت واللام في { ولأبين لكم } معطوفة على مقدر كأنه قال : قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم ثم أمرهم بالتقوى والطاعة فقال : { فاتقوا الله } أي اتقوا معاصيه { وأطيعون } فيما آمركم به من التوحيد والشرائع (4/800)
64 - { إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه } هذا بيان لما أمرهم بأن يطيعوه فيه { هذا صراط مستقيم } أي عبادة الله وحده والعمل بشرائعه (4/801)
65 - { فاختلف الأحزاب من بينهم } قال مجاهد والسدي : الأحزاب هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى وقال الكلبي ومقاتل : هم فرق النصارى اختلفوا في أمر عيسى قال قتادة : ومعنى من بينهم : أنهم اختلفوافيما بينهم وقيل اختلفوا من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى والأحزاب هي الفرق المتحزبة { فويل للذين ظلموا } من هؤلاء المتخلفين وهم الذين أشركوا بالله ولم يعملوا بشرائعه { من عذاب يوم أليم } أي أليم عذابه وهو يوم القيامة (4/801)
66 - { هل ينظرون إلا الساعة } أي هل يرتقب هؤلاء الأحزاب وينتظرون إلا الساعة { أن تأتيهم بغتة } أي فجأة { وهم لا يشعرون } أي لا يفطنون بذلك وقيل المراد بالأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه و سلم وكذبوه وهم المرادون بقوله : { هل ينظرون إلا الساعة } والأول أولى (4/801)
67 - { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } أي الأخلاء في الدنيا المتحابون فيها يوم تأتيهم الساعة بعضهم لبعض عدو : أي يعادي بعضهم بعضا لأنها قد انتقطعت بينهم العلائق واشتغل كل واحد منهم بنفسه ووجدوا تلك الأمور التي كانوا فيها أخلاءأسبابا للعذاب فصاروا أعداء ثم استثنى المتقين فقال : { إلا المتقين } فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة لأنهم وجدوا تلك الخلة التي كانت بينهم من أسباب الخير والثواب فبقيت خلتهم على حالها (4/801)
68 - { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } أي يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله بهذه المقالة فيذهب عند ذلك خوفهم ويرتفع حزنهم (4/801)
69 - { الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } الموصول يجوز أن يكون نعتا لعبادي أو بدلا منه أو عطف بيان له أو مقطوعا عنه في محل نصب على المدح أو في محل رفع بالابتداء وخبره { ادخلوا الجنة } على تقدير : يقال لهم ادخلوا الجنة والأول أولى وبه قال الزجاج قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد يا عبادي لا خوف عليكم فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقال : الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس أهل الأوثان رؤوسهم غير المسلمين قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو { يا عبادي } بإثبات الياء ساكنة وصلا ووقفا وقرأ أبو بكر وزر بن حبيش بإثباتها وفتحها في الحالين وقرأ الباقون بحذفها في الحالين (4/801)
70 - { ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم } المراد بالأزواج نساؤهم المؤمنات وقيل قرناؤهم من المؤمنين وقيل زوجاتهم من الحور العين { تحبرون } تكرمون وقيل تنعمون وقيل تفرحون وقيل تسرون وقيل تعجبون وقيل تلذذون بالسماع والأولى تفسير ذلك بالفرح والسرور الناشئين عن الكرامة والنعمة (4/801)
71 - { يطاف عليهم بصحاف من ذهب } الصحاف جمع صحفة : وهي القصعة الواسعة العريضة قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة وهي تشبع عشرة ثم الصحفة وهي تشبه خمسة ثم المكيلة وهي تشبه الرجلين والثلاثة والمعنى : أن لهم في الجنة أطعمة يطاف عليهم بها في صحاف الذهب { و } لهم فيها أشربة يطاف عليهم بها في الـ { أكواب } وهي جمع كوب قال الجوهري : الكوب كوز لا عروة له والجمع أكواب قال الأعشى :
( صريفية طيب طعمها ... لها زبد بين كوب ودن )
وقال آخر :
( متكئا تصفق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب )
قال قتادة : الكوب المدور القصير العنق القصير العروة والإبريق المستطيل العنق الطويل العروة وقال الأخفش : الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها وقال قطرب : هي الأباريق التي ليس لها عرى { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } وقرأ الجمهور { تشتهي } وقرأ نافع وابن عامر وحفص { تشتهيه } بإثبات الضمير العائد على الموصول والمعنى : ما تشتهيه أنفس أهل الجنة من فنون الأطعمة والأشربة ونحوهما مما تطلبه النفس وتهواه كائنا ما كان وتلذ الأعين من كل المستلذات التي تستلذ بها وتطلب مشاهدتها تقول لذ الشيء يلذ لذاذا ولذاذة : إذا وجده لذيذا والتذ به وفي مصحف عبد الله بن مسعود تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين { وأنتم فيها خالدون } لا تموتون ولا تخرجون منها (4/802)
72 - { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } أي يقال لهم يوم القيامة هذه المقالة : أي صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث بما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة واسم الإشارة مبتدأ والجنة صفته والتي أورثتموها صفة للجنة والخبر بما كنتم تعملون وقيل الخبر الموصول مع صلته والأول أولى (4/802)
73 - { لكم فيها فاكهة كثيرة } الفاكهة كعروفة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها : أي لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف { منها تأكلون } من تبعيضية أو ابتدائية وقدم الجار لأجل الفاصلة
وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لقريش : [ إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير قالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا وقد عبدته النصارى ؟ فإن كنت صادقا فإنه كآلهتهم فأنزل الله { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } قلت : وما يصدون ؟ قال : يضجون { وعنده علم الساعة } قال : خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة ] وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال ثم تلا هذه الآية { ما ضربوه لك إلا جدلا } ] وقد ورد في ذم الجدال بالباطل أحاديث كثيرة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس [ أن المشركين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : أرأيت ما نعبد من دون الله أين هم ؟ قال : في النار قالوا : والشمس والقمر ؟ قال : والشمس والقمر قالوا : فعيسى ابن مريم قال : قال الله : { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } ] وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق عنه في قوله : { وإنه لعلم للساعة } قال : خروج عيسى قبل يوم القيامة وأخرج الحاكم وابن مردويه عنه مرفوعا وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة نحوه وأخرج ابن مردويه عن سعد بن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلت الأنساب وذهبت الأخوة إلا الأخوة في الله وذلك قوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وحميد بن زنجويه في ترغيبه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب في قوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } قال : خليلان مؤمنان وخليلان كافران توفي أحد المؤمنين فبشر بالجنة فذكر خليله وقال : اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك اللهم لا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وترضى عنه كما رضيت عني فيقال له : اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا ولبكيت قليلا ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال : ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه : نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل وإذا مات أحد الكافرين بشر بالنار فيذكر خليله فيقول : اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير وينبئني أني غير ملاقيك اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي فيموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال : ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل منهما لصاحبه : بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل وأخرج ابن جرير عن ابن عبسا قال : الأكواب الجرار من الفضة وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله : { وتلك الجنة التي أورثتموها } ] (4/802)
قوله : 74 - { إن المجرمين } أي أهل الإجرام الكفرية كما يدل عليه إيرادهم في مقابلة المؤمنين الذين لهم ما ذكره الله سبحانه قبل هذا { في عذاب جهنم خالدون } لا ينقظع عنهم العذاب أبدا (4/804)
75 - { لا يفتر عنهم } أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب والجملة في محل نصب على الحال { وهم فيه مبلسون } أي آيسون من النجاة وقيل ساكتون سكوت يأس وقد مضى تحقيق معناه في الأنعام (4/804)
76 - { وما ظلمناهم } أي ما عذبناهم بغير ذنب ولا بزيادة على ما يستحقونه { ولكن كانوا هم الظالمين } لأنفسهم بما فعلوا من الذنوب قرأ الجمهور { الظالمين } بالنصب على أنه خبر كان والضمير ضمير فصل وقرأ ابو زيد النحوي الظالمون بالرفع على أن الضمير مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر كان (4/804)
77 - { ونادوا يا مالك } أي نادى المجرمون هذا النداء ومالك هو خازن النار قرأ الجمهور { يا مالك } بدون ترخيم وقرأ علي وابن مسعود ويحيى بن وثاب والأعمش يا مال بالترخيم { ليقض علينا ربك } بالموت توسلوا بمالك إلى الله سبحانه ليسأله لهم أن يقضي عليهم بالموت ليستريحوا من العذاب { قال إنكم ماكثون } أي مقيمون في العذاب قيل سكت عن إجابتهم ثمانين سنة ثم أجابهم بهذا الجواب وقيل سكت عنهم ألف عام وقيل مائة سنة وقيل أربعين سنة (4/804)
78 - { لقد جئناكم بالحق } يحتمل أن يكون هذا من كلام الله سبحانه ويحتمل أن يكون من كلام مالك والأول أظهر والمعنى : إنا أرسلنا إليكم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب فدعوكم فلم تقبلوا ولم تصدقوا وهو معنى قوله : { ولكن أكثركم للحق كارهون } لا يقبلونه والمراد بالحق : كل ما أمر الله به على ألسن رسله وأنزله في كتبه وقيل هو خاص بالقرآن قيل ومعنى أكثرهم : كلكم وقيل أراد الرؤساء والقادة ومن عداهم أتباع لهم (4/805)
79 - { أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون } أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة : أي بل أبرموا أمرا وفي ذلك انتقال من توجع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء والإبرام : الإتقان والإحكام يقال أبرمت الشيء : أحكمته وأتقنته وأبرم الحبل : إذا أحكم فتله والمعنى : بل أحكموا كيدا للنبي صلى الله عليه و سلم فإنا محكمون لهم كيدا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد ومثل هذا قوله تعالى : { أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون } وقيل المعنى : أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب (4/805)
قاله الكلبي : 80 - { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم } أي بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يسرون به في أنفسهم أو ما يتحدثون به سرا في مكان خال وما يتناجون به فيما بينهم { بلى } نسمع ذلك ونعمل به { ورسلنا لديهم يكتبون } أي الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل والجملة في محل نصب على الحال أومعطوفة على الجملة التي تدل عليها بلى (4/805)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول للكفار قولا يلزمهم به الحجة ويقطع ما يوردونه من الشبهة فقال : 81 - { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد كذا قال ابن قتيبة وقال الحسن والسدي : إن المعنى ما كان للرحمن ولد ويكون قوله : { فأنا أول العابدين } ابتداء كلام وقيل المعنى : قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته ولكنه يستحيل أن يكون له ولد وفيه نفي للولد على أبلغ وجه وأتم عبارة وأحسن أسلوب وهذا هو الظاهر من النظم القرآني ومن هذا القبيل قوله تعالى : { إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره : إن تثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به فتكون إن في إن كان شرطية ورجح هذا ابن جرير وغيره وقيل معنى العابدين : الآنفين من العبادة وهو تكلف لا ملجئ إليه ولكنه قرأ أبو عبد الرحمن اليماني العبدين بغير ألف يقال عبد يعبد عبدا بالتحريك : إذا أنف وغضب فهو عبد والاسم العبدة مثل الأنفة ولعل الحامل لمن قرأ هذه القراءة الشاذة البعيدة هو استبعاد معنى { فأنا أول العابدين } وليس بمستعد ولا مستنكر وقد حكى الجوهري : عن أبي عمرو في قوله : { فأنا أول العابدين } أنه من الأنف والغضب وحكاه الماوردي عن الكسائي والقتيبي وبه قال الفراء وكذا قال ابن الأعرابي : إن معنى العابدين الغضاب الآنفين وقال أبو عبيدة : معناه الجاحدين وحكي عبدني حقي : أي جحدني وقد أنشدوا على هذا المعنى الذي قالوه قول الفرزدق :
( أولئك أحلاسي فجئني بمثلهم ... وأعبد أن أهجو كليبا بدارم )
وقوله أيضا :
( أولاك أناس لو هجوني هجوتهم ... وأعبد أن يهجى كليب بدارم )
ولا شك أن عبد وأعبد بمعنى أنف أو غضب ثابت في لغة العرب وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجئ إليه ومن التعسف الواضح وقد رد ابن عرفة ما قالوه فقال : إنما يقال عبد يعبد فهو عبد وقل ما يقال عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ قرأ الجمهور { ولد } بالإفراد وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما { ولد } بضم الواو وسكون اللام (4/805)
82 - { سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون } أي تنزيها له وتقديسا عما يقولون من الكذب بأن به ولدا ويفترون عليه سبحانه ما لا يليق بجانبه وهذا إن كان من كلام الله سبحانه فقد نزه نفسه عما قالوه وإن كان من تمام كلام رسوله الذي أمره بأن يقوله فقد أمره بأن يضم إلى ما حكاه عنهم بزعمهم الباطل تنزيه ربه وتقديسه (4/806)
83 - { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } أي اترك الكفار حيث لم يهتدوا بما هديتهم به ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه يخوضوا في أباطيلهم ويلهوا في دنياهم { حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } وهو يوم القيامة وقيل العذاب في الدنيا قيل وهذا منسوخ بآية السيف وقيل هو غير منسوخ وإنما أخرج مخرج التهديد قرأ الجمهور { يلاقوا } وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد وابن السميفع حتى يلقوا بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو (4/806)
84 - { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } الجار والمجرور في الموضعين متعلق بإله لأنه بمعنى معبود أو مستحق للعبادة والمعنى : وهو الذي معبود في السماء ومعبود في الأرض أو مستحق للعبادة في السماء والعبادة في الأرض قال أبو علي الفارسي : وإله في الموضعين مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف : أي وهو الذي في السماء هو إله وفي الأرض هو إله وحسن حذفه لطول الكلام قال : والمعنى على الإخبار بإلاهيته لا على الكون فيهما قال قتادة : يعبد في السماء والأرض وقيل في بمعنى على : أي هو القادر على السماء والأرض كما في قوله : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله على تضمين العلم معنى المشتق فيتعلق به الجار والمجرور من هذه الحيثية { وهو الحكيم العليم } أي البليغ الحكمة الكثير العلم (4/806)
85 - { وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما } تبارك تفاعل من البركة وهي كثيرة الخيرات والمراد بما بينهما الهواء وما فيه من الحيوانات { وعنده علم الساعة } أي علم الوقت الذي يكون قيامها فيه { وإليه ترجعون } فيجازى كل أحد بما يستحقه من خير وشر وفيه وعيد شديد قرأ الجمهور { ترجعون } بالفوقية وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتحتية (4/807)
86 - { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } أي لا يملك من يدعونه من دون الله من الأصنام ونحوها الشفاعة عند الله كما يزعمون أنهم يشفعون لهم قرأ الجمهور { يدعون } بالتحتية وقرأ السلمي وابن وثاب بالفوقية { إلا من شهد بالحق } أي التوحيد { وهم يعلمون } أي هم على علم وبصيرة بما شهدوا به والاستثناء يحتمل أن يكون متصلا والمعنى : إلا من شهد بالحق وهم المسيح وعزير والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة لمن يستحقها وقيل هو منقطع والمعنى : لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء ويجوز أن يكون المستثنى منه محذوفا : أي لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق قال سعيد بن جبير وغيره : معنى الآية : أنه لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة وقال قتادة : لا يشفعون لعابديها بل يشفعون لمن شهد بالوحدانية وقيل مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاما لكل ما يعبد من دون الله ومدار الانقطاع على جعله خاصا بالأصنام (4/807)
87 - { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } اللام هي الموطئة للقسم والمعنى : لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام من خلقهم أقروا واعترفوا بأن خالقهم الله ولا يقدرون على الإنكار ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه { فأنى يؤفكون } أي فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان وعبده مع الله أو عبده وحده فقد عبد بعض مخلوقات الله وفي هذا من الجهل ما لا يقادر قدره يقال أفكه يأفكه إفكا : إذا قلبه وصرفه عن الشيء وقيل المعنى : ولئن سألت المسيح وعزيرا والملائكة من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفك هؤلاء الكفار في اتخاذهم لها آلهة وقيل المعنى : ولئن سألت العابدين والمعبودين جميعا (4/807)
قرأ الجمهور 88 - { وقيله } بالنصب عطفا على محل الساعة كأنه قيل : إنه يعلم الساعة ويعلم قيله أو عطفا على سرهم ونجواهم : أي يعلم سرهم ونجواهم ويعلم قيله أو عطفا على مفعول يكتبون المحذوف : أي يكتبون ذلك ويكتبون قيله أو عطفا على مفعول يعلمون المحذوف : أي يعلمون ذلك ويعلمون قيله أو هي مصدر : أي قال قيله أو منصوب بإضمار فعل : أي الله يعلم قيل رسوله أو هو معطوف على محل بالحق : أي شهد بالحق وبقيله أو منصوب على حذف حرف القسم ومن المجوزين للوجه الأول المبرد وابن الأنباري ومن المجوزين للثاني الفراء والأخفش ومن المجوزين للنصب على المصدرية الفراء والأخفش أيضا وقرأ حمزة وعاصم { وقيله ي } بالجر عطفا على لفظ الساعة : أي وعنده علم الساعة وعلم قيله والقول والقال والقيل بمعنى واحد أو على أن الواو للقسم وقرأ قتادة ومجاهد والحسن وأبو قلابة والأعرج وابن هرمز ومسلم بن جندب وقيله بالرفع عطفا على علم الساعة : أي وعنده علم الساعة وعنده قيله أو على الابتداء وخبره الجملة المذكورة بعده أو خبره محذوف تقديره وقيله كيت وكيت أو وقيله مسموع قال أبو عبيد : يقال قلت قولا وقيلا وقالا والضمير في وقيله راجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال قتادة : هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه وقيل : الضمير عائد إلى المسيح وعلى الوجهين فالمعنى : أنه قال مناديا لربه { يا رب إن هؤلاء } الذين أرسلتني إليهم { قوم لا يؤمنون } (4/808)
ثم لما نادى ربه بهذا أجابه بقوله : 89 - { فاصفح عنهم } أي أعرض عن دعوتهم { وقل سلام } أي أمري تسليم منكم ومتاركة لكم قال عطاء : يريد مداراة حتى ينزل حكمي ومعناه المتاركة كقوله : { سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } وقال قتادة : أمره بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخا بالسيف وقيل هي محكمة لم تنسخ { فسوف تعلمون } فيه تهديد شديد ووعيد عظيم من الله عز و جل قرأ الجمهور { يعلمون } بالتحتية وقرأ نافع وابن عامر بالفوقية قال الفراء : إن سلام مرفوع بإضمار عليكم
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله : { ونادوا يا مالك } قال : يمكث عنهم ألف سنة ثم يجيبهم { إنكم ماكثون } وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها وقرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم : ترون أن الله يسمع كلامنا ؟ فقال واحد منهم : إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إن كان للرحمن ولد } يقول : إن يكن للرحمن ولد { فأنا أول العابدين } قال : الشاهدين وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في قوله : { إن كان للرحمن ولد } قال : هذا معروف من كلام العرب إن كان هذا الأمر قط : أي ما كان وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه (4/808)
سورة الدخان
هي تسع وخمسون وقيل سبع وخمسون آية
قال القرطبي هي مكية باتفاق إلا قوله : { إنا كاشفوا العذاب } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير أن سورة الدخان نزلت بمكة وأخرج الترمذي والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك ] قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمرو بن أبي خثعم ضعيف قال البخاري : منكر الحديث وأخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له ] قال الترمذي بعد إخراجه : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهشام بن المقدام يضعف والحسن لم يسمع من أبي هريرة كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد ويشهد له ما أخرجه ابن الضريس والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره وما أخرجه ابن الضريس عن الحسن مرفوعا بنحوه وهو مرسل وما أخرجه الدارمي ومحمد بن نصر عن أبي رافع قال : من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له وزوج من الحور العين وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ سورة حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بها بيتا في الجنة ]
قوله : 1 - { حم } (4/809)
قوله : 2 - { حم * والكتاب المبين } قد تقدم في السورتين المتقدمتين قبل هذه السورة الكلام على هذا معنى وإعرابا (4/810)
وقوله : 3 - { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } جواب القسم وإن جعلت الجواب حم كانت هذه الجملة مستأنفة وقد أنكر بعض النحويين أن تكون هذه الجملة جوابا للقسم لأنها صفة للمقسم به ولا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم وقال الجواب { إنا كنا منذرين } واختاره ابن عطية وقيل إن قوله : { إنا كنا منذرين } جواب ثان أو جملة مستأنفة مقررة للإنزال وفي حكم العلة له كأنه قال : إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والضمير في أنزلناه راجع إلى الكتاب المبين وهو القرآن وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة والضمير في أنزلناه راجع إلى القرآن على معنى أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزلة أنه أنزل القرآن والأولى أولى والليلة المباركة : ليلة القدر كما في قوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ولها أربعة أسماء : الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة القدر قال عكرمة : الليلة المباركة هنا ليلة النصف من شعبان وقال قتادة : أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم أنزله الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه و سلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا في البقرة عند قوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وقال مقاتل : كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام ووصف الله سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لنزول القرآن فيها وهو مشتمل على مصالح الدين والدنيا ولكونها تتنزل فيها الملائكة والروح كما سيأتي في سورة القدر (4/810)
ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه ها هنا بقوله : 4 - { فيها يفرق كل أمر حكيم } ومعنى يفرق : يفصل ويبين من قولهم : فرقت الشيء أفرقه فرقا والأمر الحكيم : المحكم وذلك أن سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت وبسط وقبض وخير وشر وغير ذلك كذا قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم : وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض أو مستأنفة لتقرير ما قبلها قرأ الجمهور { يفرق } بضم الياء وفتح الراء مخففا وقرأ الحسن والأعمش والأعرج بفتح الياء وضم الراء ونصب كل أمر ورفع حكيم على أنه الفاعل والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان لأن الله سبحانه أجملها هنا وبينها في سورة البقرة بقوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وبقوله في سورة القدر : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف ولا ما يقتضي الاشتباه (4/811)
5 - { أمرا من عندنا } قال الزجاج والفراء : انتصاب أمرا بيفرق : أي يفرق فرقا لأن أمرا بمعنى فرقا والمعنى : إنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ فهو على هذا منتصب على المصدرية مثل قولك يضرب ضربا قال المبرد : أمرا في موضع المصدر والتقدير أنزلناه إنزالا وقال الأخفش : انتصابه على الحال : أي آمرين وقيل هو منصوب على الاختصاص : أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا وفيه تفخيم لشأن القرآن وتعظيم له وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب أمرا إثني عشر وجها أظهرها ما ذكرناه وقرأ زيد بن علي أمر بالرفع : أي هو أمر { إنا كنا مرسلين } هذه الجملة إما بدل من قوله : { إنا كنا منذرين } أو جواب ثالث للقسم أو مستأنفة قال الرازي : المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء (4/811)
6 - { رحمة من ربك } انتصاب رحمة على العلة : أي أنزلناه للرحمة قاله الزجاج وقال المبرد : إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين : أي إنا كنا مرسلين رحمة وقيل هي مصدر في موضع الحال : أي راحمين قاله الأخفش وقرأ الحسن رحمة بالرفع على تقدير هي رحمة { إنه هو السميع العليم } لمن دعاه { العليم } بكل شيء (4/811)
ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم قدرته الباهرة فقال : { رب السموات والأرض وما بينهما } قرأ الجمهور { رب } بالرفع عطفا على السميع العليم أو على أنه مبتدأ وخبره لا إله إلا هو أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف : أي هو رب وقرأ الكوفيون { رب } بالجر على أنه بدل من ربك أو بيان له أو نعت { إن كنتم موقنين } بأنه رب السموات والأرض وما بينهما وقد أقروه بذلك كما حكاه الله عنهم في غير موضع (4/811)
وجملة 8 - { لا إله إلا هو } مستأنفة مقررة لما قبلها أو خبر رب السموات كما مر وكذلك جملة { يحيي ويميت } فإنها مستأنفة مقررة لما قبلها { ربكم ورب آبائكم الأولين } قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ : أي هو ربكم أو على أنه بدل من رب السموات أو بيان أو نعت له وقرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه وابن محيصن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة والحسن بالجر ووجه الجر ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجر في رب السموات (4/811)
9 - { بل هم في شك يلعبون } أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شك من التوحيد والبعث وفي إقرارهم بأن الله خالقهم وخالق سائر المخلوقات وأن ذلك منهم على طريقة اللعب والهزو ومحل يلعبون الرفع على أنه خبر ثان أو النصب على الحال (4/812)
10 - { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لأن كونهم في شك ولعب يقتضي ذلك والمعنى : فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين وقيل المعنى : احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين
وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي ؟ فقيل إنه من أشراط الساعة وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما وقد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة وقيل إنه أمر قد قضى وهو ما أصاب قريشا بدعاء النبي صلى الله عليه و سلم حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما : وذلك حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه و سلم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام وكان الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد وقيل إنه يوم فتح مكة وسيأتي في آخر البحث بيان ما يدل على هذه الأقوال (4/812)
وقوله : 11 - { يغشى الناس } صفة ثانية لدخان : أي يشملهم ويحيط بهم { هذا عذاب أليم } أي يقولون هذا عذاب أليم أو قائلين ذلك أو يقول الله لهم ذلك (4/812)
12 - { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي يقولون ذلك وقد روي أنهم أتوا النبي صلى الله عليه و سلم وقالوا : إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا والمراد بالعذاب الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال والراجح منها أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد وشدة الجوع ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة فإن ذلك دخان آخر ولا ينافيه أيضا ما قيل إنه الذي كان يوم فتح مكة فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه (4/812)
13 - { أنى لهم الذكرى } أي كيف يتذكرون ويتعظون بما نزل بهم { و } الحال أن { قد جاءهم رسول مبين } يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا (4/812)
14 - { ثم تولوا عنه } أي أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم ولم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه بل جاوزوه { وقالوا معلم مجنون } أي قالوا : إنما يعلمه القرآن بشر وقالوا إنه مجنون فكيف يتذكر هؤلاء وأنى لهم الذكرى (4/812)
ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله : 15 - { إنا كاشفوا العذاب قليلا } أي إنا نكشفه عنهم كشفا قليلا أو زمانا قليلا ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك ولا يفون بما وعدوه به من الإيمان فقال : { إنكم عائدون } أي إلى ما كنتم عليه من الشرك وقد كان الأمر هكذا فإن الله سبحانه لما كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعناد وقيل المعنى : إنكم عائدون إلينا بالبعث والنشور والأول أولى (4/813)
16 - { يوم نبطش البطشة الكبرى } الظرف منصوب بإضمار اذكر وقيل هو بدل من يوم تأتي السماء وقيل هو متعلق بمنتقمون وقيل بما دل عليه منتقمون وهو منتقم والبطشة الكبرى : هي يوم بدر قاله الأكثر والمعنى : أنهم لما عادوا إلى التكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر وقال الحسن وعكرمة : المراد بها عذاب النار واختار هذا الزجاج : والأول أولى قرأ الجمهور { نبطش } بفتح النون وكسر الطاء : أي نبطش بهم وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة وقرأ أبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { في ليلة مباركة } قال : أنزل القرآن في ليلة القدر ونزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم نجوما لجواب الناس وأخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فيها يفرق كل أمر حكيم } قال : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت وحياة ومطر حتى يكتب الحاج : يحج فلان ويحج فلان وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر { فيها يفرق كل أمر حكيم } قال : أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء والسعادة فإنه في كتاب الله لا يبدل ولا يغير وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال : إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى ثم قرأ { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } الآية يعني ليلة القدر قال : ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها وأخرج ابن زنجويه والديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى ] وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس وهذا مرسل ولا تقوم به حجة ولا تعارض بمثله صرائح القرآن وما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح وقد أورد ذلك صاحب الدر المنثور وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف ن شعبان وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود أن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبطأوا عن الإسلام قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل بنظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع فأنزل الله { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } الآية فأتي النبي صلى الله عليه و سلم فقيل : يا رسول الله استسق الله لمضر فاستسقى لهم فسقوا فأنزل الله { إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون } فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } فانتقم الله منهم يوم بدر فقد مضى البطشة والدخان واللزام وقد روي عن ابن مسعود نحو هذا من غير وجه وروي نحوه عن جماعة من التابعين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن أبي مليكة قال : دخلت على ابن عباس فقال : لم أنم هذه الليلة فقلت لم ؟ قال : طلع الكوكب فخشيت أن يطرق الدخان قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح وكذا صححه السيوطي ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية وقد عرفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع وبين كون الدخان من آيات الساعة وعلاماتها وأشراطها فقد وردت أحاديث صحاح وحسان وضعاف بذلك وليس فيها أن سبب نزول الآية فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن دخان قريش عند الجهد والجوع هو سبب النزول وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أن الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره وغيره وهكذا يندفع قول من قال إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكا بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال : كان يوم فتح مكة دخان وهو قول الله { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه ظن من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية ولهذا لم يصرح بأنه سبب نزولها وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : قال ابن عباس قال ابن مسعود : البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح وقال ابن كثير قبل هذا : فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم وروي أيضا عن ابن عباس من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب وجماعة وهو محتمل والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضا انتهى
قلت : بل الظاهر أنه يوم بدر وإن كان يوم القيامة يوم بطشة أكبر من كل بطشة فإن السياق مع قريش فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس والجن (4/813)
قوله : 17 - { ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون } أي ابتليناهم ومعنى الفتنة هنا أن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأمروهم بما شرعه لهم فكذبوهم أو وسع عليهم الأرزاق فطغوا وبغوا قال الزجاج : بلوناهم والمعنى : عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسل إليهم وقرئ فتنا بالتشديد { وجاءهم رسول كريم } أي كريم على الله كريم في قومه وقال مقاتل : حسن الخلق بالتجاوز والصفح وقال الفراء : كريم على ربه إذا اختصه بالنبوة (4/815)
18 - { أن أدوا إلي عباد الله } أن هذه هي المفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة والمعنى : أن الشأن والحديث أدوا إلي عباد الله ويجوز أن تكون مصدرية : أي بأن أدوا والمعنى : أنه طلب منهم أن يسلموا إليه بني إسرائيل قال مجاهد : المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب فعباد الله على هذا مفعول به وقيل المعنى : أدوا إلي عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله فيكون منصوبا على أنه منادى مضاف وقيل إدوا إلي سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربكم { إني لكم رسول أمين } هو تعليل لما تقدم : أي رسول من الله إليكم أمين على الرسالة غير متهم (4/815)
19 - { وأن لا تعلوا على الله } أي لا تتجبروا وتتكبروا عليه بترفعكم عن طاعته ومتابعة رسله وقيل لا تبغوا على الله وقيل لا تفتروا عليه والأول أولى وبه قال ابن جريج ويحيى بن سلام وجملة { إني آتيكم بسلطان مبين } تعليل لما قبله من النهي : أي بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها وقال قتادة : بعذر بين والأول أولى وبه قال يحيى بن سلام قرأ الجمهور بكسر همزة { إني } وقرئ بالفتح بتقدير اللام (4/815)
20 - { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } استعاذ بالله سبحانه لما توعدوه بالقتل والمعنى : من أن ترجمون قال قتادة : ترجموني بالحجارة وقيل تشتمون وقيل تقتلون (4/816)
21 - { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } أي إن لم تصدقوني وتقروا بنبوتي فاتركوني ولا تتعرضوا لي بأذى قال مقاتل : دعوني كفافا لا علي ولا لي وقيل كونوا بمعزل عني وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا وقيل فخلوا سبيلي والمعنى متقارب ثم لما لم يصدقوه ولم يجيبوا دعوته (4/816)
رجع إلى ربه بالدعاء كما حكى الله عنه بقوله : 22 - { فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون } قرأ الجمهور بفتح الهمزة على إضمار حرف الجر : أي دعاه بأن هؤلاء وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول وفي الكلام حذف : أي فكفروا فدعا ربه والمجرمون الكافرون وسماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرد كونهم مجرمين لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم (4/816)
23 - { فأسر بعبادي ليلا } أجاب الله سبحانه دعاءه فأمر أن يسري ببني إسرائيل ليلا يقال سرى وأسرى لغتان قرأ الجمهور فأسر بالقطع وقرأ أهل الحجاز بالوصل ووافقهم ابن كثير فالقراءة الأولى من أسرى والثانية من سرى والجملة بتقدير القول : أي فقال الله لموسى أسر بعبادي { إنكم متبعون } أي يتبعكم فرعون وجنوده وقد تقدم في غير موضع خروج فرعون بعدهم (4/816)
24 - { واترك البحر رهوا } أي ساكنا يقال رها يرهو رهوا : إذا سكن لا يتحرك قال الجوهري : يقال افعل ذلك رهوا : أي ساكنا على هيئتك وعيش راه : أي ساكن ورها البحر سكن وكذا قال الهروي وغيره وهو المعروف في اللغة ومنه قول الشاعر :
( والخيل تمرح رهوا في أعنتها ... كالطير تنجو من الشرنوب ذي الوبر )
أي والخيل تمرح في أعنتها ساكنة والمعنى : اترك البحر ساكنا على صفته بعد أن ضربته بعصاك ولا تأمره أن يرجع كما كان ليدخله آل فرعون بعدك وبعد بني إسرائيل فينطبق عليهم فيغرقون وقال أبو عبيدة : رها بين رجليه رهوا : أي فتح قال ومنه قوله : { واترك البحر رهوا } والمعنى : اتركه منفرجا كما كان بعد دخولكم فيه وكذا قال أبو عبيد : وبه قال مجاهد وغيره قال ابن عرفة : وهما يرجعان إلى معنى واحد وإن اختلف لفظاهما لأن البحر إذا سكن جريه انفرج قال الهروي : ويجوز أن يكون رهوا نعتا لموسى : أي سر ساكنا على هيئتك وقال كعب والحسن رهوا طريقا وقال الضحاك والربيع : سهلا وقال عكرمة : يبسا كقوله : { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا } وعلى كل تقدير فالمعنى اتركه ذا رهو أو اتركه رهوا على المبالغة في الوصف بالمصدر { إنهم جند مغرقون } أي إن فرعون وقومه مغرقون أخبر سبحانه موسى بذلك ليسكن قلبه ويطمئن جأشه قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف لقصد الإخبار بذلك وقرئ بالفتح على تقدير لأنهم (4/816)
25 - { كم } هي الخبرية المفيدة للتكثير وقد مضى الكلام في معنى الآية في سورة الشعراء (4/817)
قرأ الجمهور 26 - { ومقام } بفتح الميم على أنه اسم مكان للقيام وقرأ ابن هرمز وقتادة والسميفع وروي عن نافع بضمها اسم مكان الإقامة (4/817)
27 - { ونعمة كانوا فيها فاكهين } النعمة بالفتح التنعم : يقال نعمه الله وناعمه فتنعم وبالكسر المنة وما أنعم به عليك وفلان واسع النعمة : أي واسع المال ذكر معنى هذا الجوهري : قرأ الجمهور { فاكهين } بالألف وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو الأشهب والأعرج وأبو جعفر وشيبة { فكهين } بغير ألف والمعنى على القراءة الأولى : متنعمين طيبة أنفسهم وعلى القراءة الثانية : أشرين بطرين قال الجوهري : فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا والفكه أيضا : الأشر البطر قال : وفاكهين : أي ناعمين وقال الثعلبي : هما لغتان كالحاذر والحذر والفاره والفره وقيل إن الفاكة : هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة (4/817)
28 - { كذلك وأورثناها قوما آخرين } الكاف في محل رفع على أنها خبر لمبتدإ محذوف قال الزجاج : أي الأمر كذلك ويجوز أن تكون في محل نصب والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا : أي مثل ذلك السلب سلبناهم إياها وقيل مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وقيل مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم فعلى الوجه الأول يكون قوله وأورثناها معطوفا على تركوا وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوفا على الفعل المقدر والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل فإن الله سبحانه ملكهم أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين فصاروا لها وارثين : أي أنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث ومثل هذا قوله : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها } (4/817)
29 - { فما بكت عليهم السماء والأرض } هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم قال المفسرون : أي إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم به ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب يبكى عليهم به والمعنى : أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء ولا من أهل الأرض وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء والأرض : أي عمت مصيبته ومن ذلك قول جرير :
( لما أتى الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع )
ومنه قول النابغة :
( بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه خاشع متضائل )
وقال الحسن : في الكلام مضاف محذوف : أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس وقال مجاهد : إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحا وقيل إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته ومصاعد عمله { وما كانوا منظرين } أي ممهلين إلى وقت آخر بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم (4/817)
30 - { ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين } أي خلصناهم بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم للأعمال الشاقة (4/818)
وقوله : 31 - { من فرعون } بدل من العذاب إما على حذف مضاف : أي من عذاب فرعون وإما على المبالغة كأنه نفس العذاب فأبدل منه أو على أنه حال من العذاب تقديره صادرا من فرعون وقرأ ابن عباس من فرعون بفتح الميم على الاستفهام التحقيري كما يقال لمن افتخر بحسبه أو نسبه : من أنت ثم بين سبحانه حاله فقال : { إنه كان عاليا من المسرفين } أي عاليا في التكبر والتجبر من المسرفين في الكفر بالله وارتكاب معاصيه كما في قوله { إن فرعون علا في الأرض } (4/818)
ولما بين سبحانه كيفية دفعه للضر عن بني إسرائيل بين ما أكرمهم به فقال : 32 - { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } أي اختارهم الله على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك وليس المراد أنه اختارهم على جميع العالمين بدليل قوله في هذه الأمة { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وقيل على كل العالمين لكثرة الأنبياء فيهم ومحل على علم النصب على الحال من فاعل اخترناهم : أي حال كون اختيارنا لهم على علم منا وعلى العالمين متعلق باخترناهم (4/818)
33 - { وآتيناهم من الآيات } أي معجزات موسى { ما فيه بلاء مبين } أي اختبار ظاهر وامتحان واضح لننظر كيف يعملون وقال قتادة : الآيات إجاؤهم من الغرق وفلق البحر لهم وتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى لهم وقال ابن زيد : الآيات هي الشر الذي كفهم عنه والخير الذي أمرهم به وقال الحسن وقتادة : البلاء المبين : النعمة الظاهرة كما في قوله : { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } ومنه قول زهير :
( فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو ) (4/618)
والإشارة بقوله : 34 - { إن هؤلاء } إلى كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر (4/819)
35 - { ليقولون * إن هي إلا موتتنا الأولى } أي ما هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها في الدنيا ولا حياة بعدها ولا بعث وهو معنى قوله : { وما نحن بمنشرين } أي بمبعوثين وليس في الكلام قصد إلى إثبات موتة أخرى بل المراد ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية قال الرازي : المعنى : أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى (4/819)
ثم أوردوا على من وعدهم بالبعث ما ظنوه دليلا وهو حجة داحضة فقالوا : 36 - { فاتوا بآبائنا } أي أرجعوهم بعد موتهم إلى الدنيا { إن كنتم صادقين } فيما تقولونه وتخبرونا به من البعث (4/819)
ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله : 37 - { أهم خير أم قوم تبع } أي أهم خير في القوة والمنعة : أم قوم تبع الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه وغلب أهلها وقهرهم وفيه وعيد شديد وقيل المراد بقوم تبع جميع أتباعه لا واحد بعينه وقال الفراء : الخطاب في قوله : { فاتوا بآبائنا } لرسول الله صلى الله عليه و سلم وحده كقوله : { رب ارجعون } والأولى أنه خطاب له ولأتباعه من المسلمين { و } المراد بـ { الذين من قبلهم } عاد وثمود ونحوهم وقوله : { أهلكناهم } جملة مستأنفة لبيان حالهم وعاقبة أمرهم وجملة { إنهم كانوا مجرمين } تعليل لإهلاكهم والمعنى : أن الله سبحانه قد أهلك هؤلاء بسبب كونهم مجرمين فإهلاكه لمن هو دونهم بسبب كونه مجرما مع ضعفه وقصور قدرته بالأولى
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولقد فتنا } قال : ابتلينا { قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم } قال : هو موسى { أن أدوا إلي عباد الله } أرسلوا معي بني إسرائيل { وأن لا تعلوا على الله } قال : لا تعثوا { إني آتيكم بسلطان مبين } قال : بعذر مبين { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } قال : بالحجارة { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } أي خلوا سبيلي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : { أن أدوا إلي عباد الله } قال : يقول اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق وفي قوله : { وأن لا تعلوا على الله } قال : لا تفتروا وفي قوله : { أن ترجمون } قال : تشتمون وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { رهوا } قال : سمتا وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { رهوا } قال : كهيئته وامضه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه سأل كعبا عن قوله : { واترك البحر رهوا } قال : طريقا وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا قال : الرهو أن يترك كما كان وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ومقام كريم } قال : المنابر وأخرج ابن مردويه عن جابر مثله وأخرج الترمذي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والخطيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من عبد إلا وله بابان : باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية { فما بكت عليهم السماء والأرض } وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام صالح فتفقدهم فتبكي عليهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب نحوه من قول ابن عباس وأخرج أبو الشيخ عنه قال : يقال الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحا وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير عن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { فما بكت عليهم السماء والأرض } ثم قال : إنهما لا يبكيان على كافر ] وأخرج ابن المبارك وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا من طريق المسيب بن رافع عن علي بن أبي طالب قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا الآية وأخرج ابن المبارك وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : إن الأرض لتبكي على ابن آدم أربعين صباحا ثم قرأ الآية وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم ] وأخرجه أحمد والطبراني وابن ماجه وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر مثله وروي نحو هذا عن غيرهما من الصحابة والتابعين (4/819)
قوله : 38 - { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما } أي بين جنسي السماء والأرض { لاعبين } أي لغير غرض صحيح قال مقاتل : لم نخلقهما عابثين لغير شيء وقال الكلبي : لاهين وقيل غافلين قرأ الجمهور { وما بينهما } وقرأ عمرو بن عبيد وما بينهن لأن السموات والأرض جمع وانتصاب لاعبين على الحال (4/821)
39 - { ما خلقناهما } أي وما بينهما { إلا بالحق } أي إلا بالأمر الحق والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال وقال الكلبي : إلا للحق وكذا قال الحسن وقيل إلا لإقامة الحق وإظهاره { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الأمر كذلك وهم المشركون (4/821)
40 - { إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } أي إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ميقاتهم : أي الوقت المجعول لتمييز المحسن من المسيء والمحق من المبطل أجمعين لا يخرج عنهم أحد من ذلك وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على أنه خبر إن واسمها يوم الفصل وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه اسمها ويوم الفصل خبرها (4/821)
ثم وصف سبحانه ذلك اليوم فقال : 41 - { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا } يوم بدل من يوم الفصل أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل : أي يفصل بينهم يوم لا يغني ولا يجوز أن يكون معمولا للفصل لأنه قد وقع الفصل بينهما بأجنبي والمعنى : أنه لا ينفع في ذلك اليوم قريب قريبا ولا يدفع عنه شيئا ويطلق المولى على الولي وهو القريب والناصر { ولا هم ينصرون } الضمير راجع إلى المولى باعتبار المعنى لأنه نكرة في سياق النفي وهي من صيغ العموم : أي ولا هم يمنعون من عذاب الله (4/821)
42 - { إلا من رحم الله } قال الكسائي : الاستثناء منقطع : أي لكن من رحم الله وكذا قال الفراء وقيل هو متصل والمعنى : لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون ويجوز أن يكون مرفوعا على البدل من مولى الأول أو من الضمير في ينصرون { إنه هو العزيز الرحيم } أي الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه الرحيم لعباده المؤمنين (4/821)
ثم لما وصف اليوم ذكر بعده وعيد الكفار فقال 43 - { إن شجرة الزقوم } (4/822)
44 - { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم } شجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم وسماها الشجرة الملعونة فإذا جاع أهل النار التجأوا إليها فأكلوا منها وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات والأثيم الكثير الغثم قال في الصحاح : أثم الرجل بالكسر إثما ومأثما : إذا وقع في الإثم فهو آثم وأثيم وأثوم فمعنى طعام الأثيم : ذي الإثم (4/822)
45 - { كالمهل } وهو دردي الزيت وعكر القطران وقيل هو النحاس المذاب وقيل كل ما يذوب في النار { يغلي في البطون * كغلي الحميم } قرأ الجمهور { يغلي } بالفوقية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الشجرة والجملة خبر ثان أو حال أو خبر لبمتدإ محذوف : أي تغلي غليا مثل غلي الحميم وهو الماء الشديد الحرارة وقرأ ابن كثير وحفص وابن محيصن وورش عن يعقوب { يغلي } بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام وهو في معنى الشجرة ولا يصح أن يكون الضمير عائد إلى المهل لأنه مشبه به وإنما يغلي ما يشبه بالمهل (4/822)
وقوله : 46 - { كغلي الحميم } صفة مصدر محذوف : أي غليا كغلي الحميم (4/822)
47 - { خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم } أي يقال للملائكة الذين هم خزنة النار خذوه : أي الأثيم فاعتلوه العتل : القوة بالعنف يقال عتله يعتله إذا جره وذهب به إلى مكروه وقيل العتل : أن يأخذ بتلابيب الرجل ومجامعه فيجره ومنه قول الشاعر يصف فرسا :
( نقرعه قرعا ولسنا نعتله )
ومنه قول الفرزدق يهجو جريرا :
( حتى ترد إلى عطية تعتل )
قرأ الجمهور { فاعتلوه } بكسر التاء وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بضمها وهما لغتان { إلى سواء الجحيم } أي إلى وسطه كقوله : فرآه في سواء الجحيم (4/822)
48 - { ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } من هي التبعيضية : أي صبوا فوق رأسه بعض هذا النوع وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان : أي عذاب هو الحميم وهو الماء الشديد الحرارة كما تقدم (4/822)
49 - { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أي وقولوا له تهكما وتقريعا وتوبيخا : ذق العذاب إنك أنت العزيز الكريم وقيل إن أبا جهل كان يزعم أنه أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقولون له : ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك وفيما كنت تقوله قرأ الجمهور { إنك } بكسر الهمزة وقرأ الكسائي وروي ذلك عن علي بفتحها أي لأنك قال الفراء : أي بهذا القول الذي قلته في الدنيا (4/822)
والإشارة بقوله : 50 - { إن هذا } إلى العذاب { ما كنتم به تمترون } أي تشكون فيه حين كنتم في الدنيا والجمع باعتبار جنس الأثيم (4/823)
ثم ذكر سبحانه مستقر المتقين فقال 51 - { إن المتقين في مقام أمين } أي الذين اتقوا الكفر والمعاصي قرأ الجمهور { مقام } بفتح الميم وقرأ نافع وابن عامر بضمها فعلى القراءة الأولى هو موضع القيام وعلى القراءة الثانية هو موضع الإقامة قاله الكسائي وغيره وقال الجوهري : قد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة وقد يكون بمعنى موضع القيام (4/823)
ثم وصف المقام بأنه أمين يأمن صاحبه من جميع المخاوف 52 - { في جنات وعيون } بدل من مقام أمين أو بيان له أو خبر ثان (4/823)
53 - { يلبسون من سندس وإستبرق } خبر ثان أو ثالث أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور والسندس ما رق من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وقد تقدم بيانه في سورة الكهف وانتصاب { متقابلين } على الحال من فاعل يلبسون : أي متقابلين في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض (4/823)
والكاف في قوله : 54 - { كذلك } إما نعت مصدر محذوف : أي نفعل بالمتقين فعلا كذلك أو مرفوع على أنه خبر لمبتدإ محذوف : أي الأمر كذلك { وزوجناهم بحور عين } أي أكرمناهم بأن زوجناهم بحور عين والحور جمع حوراء : وهي البيضاء والعين جمع عيناء : وهي الواسعة العينين وقال مجاهد : إنما سميت الحوراء حوراء لأنه يحار الطرف في حسنها وقيل هو من حور العين : وهو شدة بياض العين في شدة سوادها كذا قال أبو عبيدة وقال الأصمعي : ما أدري ما الحور العين قال أبو عمرو : الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر قال : وليس في بني آدم حور وإنما قيل للنساء حور لأنهن شبهن بالظباء والبقر وقيل والمراد بقوله : { زوجناهم } قرناهم وليس من عقد التزويج لأنه لا يقال زوجته بامرأة وقال أبو عبيدة : وجعلناهم أزواجا لهن كما يزوج البعل بالبعل : أي جعلناهم اثنين اثنين وكذا قال الأخفش (4/823)
55 - { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } أي يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم آمنين من التختم والأسقام والآلام قال قتادة : آمنين من الموت والوصب والشيطان وقيل من انقطاع ما هم فيه من النعيم (4/823)
56 - { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } أي لا يموتون فيها أبدا إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا والاستثناء منقطع : أي لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا كذا قال الزجاج والفراء وغيرهما ومثل هذه الآية قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } وقيل إن إلا بمعنى بعد كقولك : ما كلمت رجلا اليوم إلا رجلا عندك : أي بعد رجل عندك وقيل هي بمعنى سوى : أي سوى الموتة الأولى وقال ابن قتيبة : إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم من الجنة وتفتح لهم أبوابها فإذا ماتوا في الدنيا فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها فيكون الاستثناء على هذا متصلا واختار ابن جرير أن إلا بمعنى بعد واختار كونها بمعنى سوى ابن عطية { ووقاهم عذاب الجحيم } قرأ الجمهور { وقاهم } بالتخفيف وقرأ أبو حيوة بالتشديد على المبالغة (4/823)
57 - { فضلا من ربك } أي لأجل الفضل منه أو أعطاهم ذلك عطاء فضلا منه { ذلك هو الفوز العظيم } أي ذلك الذي تقدم ذكره هو الفوز الذي لا فوز بعده المتناهي في العظم (4/824)
ثم لما بين سبحانه الدلائل وذكر الوعد والوعيد قال : 58 - { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون } أي إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه أو سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرأه لعلهم يتذكرون (4/824)
59 - { فارتقب إنهم مرتقبون } أي فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم على يدك فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت أو غيره وقيل انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر والمعنى متقارب
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } يقول : لست بعزيز ولا كريم وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال : [ لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا جهل فقال : إن الله أمرني أن أقول لك { أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى } قال : فنزع يده من يده وقال : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم } قال : المهل وأخرج عنه أيضا { ذق إنك أنت العزيز الكريم } قال : هو أبو جهل بن هشام
بحمد الله تعالى تم طبع الجزء الرابع ويليه : الجزء الخامس
وأوله : تفسير سورة الجاثية (4/824)
هي سبع وثلاثون آية وقيل ست وثلاثون
وهي مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إلا آية منها وهي قوله : { للذين آمنوا } إلى { أيام الله } فإنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب كما سيأتي
1 - قوله : { حم } قد تقدم الكلام في هذه الفاتحة وفي إعرابها في فاتحة سورة غافر وما بعدها فإن جعل اسما للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وإن جعل حروفا مسرودة على نمط التعديد فلا محل له (5/5)
وقوله : { تنزيل الكتاب } على الوجه الأول خبر ثان وعلى الوجه الثاني خبر المبتدأ وعلى الوجه الثالث خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره { من الله العزيز الحكيم } (5/6)
3 - ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة فقال : { إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين } أي فيها نفسها فإنها من فنون الآيات أو في خلقها (5/6)
4 - قال الزجاج : ويدل على أن المعنى في خلق السموات والأرض قوله : { وفي خلقكم } أي في خلقكم أنفسكم على أطوار مختلفة قال مقاتل : من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنسانا { وما يبث من دابة آيات } أي وفي خلق ما يبث من دابة وارتفاع آيات على أنها مبتدأ مؤخر وخبره الظرف قبله وبالرفع قرأ الجمهور وقرأ حمزة والكسائي { آيات } بالنصب عطفا على اسم إن والخبر قوله : { وفي خلقكم } كأنه قيل : وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات أو على أنها تأكيد لآيات الأولى وقرأ الجمهور أيضا { آيات لقوم يعلمون } بالرفع وقرأ حمزة والكسائي بنصبها مع اتفاقهم على الجر في اختلاف أما جر اختلاف فهو على تقدير حرف الجر : أي { و } في { اختلاف الليل والنهار } آيات فمن رفع آيات فعلى أنها مبتدأ وخبرها : في اختلاف وأما النصب فهو من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين قال الفراء : الرفع على الاستئناف بعد إن تقول العرب : إن لي عليك مالا وعلى أخيك مال ينصبون الثاني ويرفعونه وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين وحجج المجوزين له وجوابات المانعين له مقرر في علم النحو مبسوط في مطولاته ومعنى { ما يبث من دابة } ما يفرقه وينشره (5/6)
5 - { واختلاف الليل والنهار } تعاقبهما أو تفاوتهما في الطول والقصر وقوله : { وما أنزل الله من السماء من رزق } معطوف على اختلاف والرزق المطر لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به وإحياء الأرض : إخراج نباتها و { موتها } خلوها عن النبات { و } معنى { تصريف الرياح } أنها تهب تارة من جهة وتارة من أخرى وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة وتارة نافعة وتارة ضارة (5/7)
6 - { تلك آيات الله نتلوها عليك } أي هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه ومحل : نتلوها عليك النصب على الحال ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر اسم الإشارة وآيات الله بيان له أو بدل منه وقوله : { بالحق } حال من فاعل نتلو أو من مفعوله : أي محقين أو ملتبسة بالحق ويجوز أن تكون الباء للسببية فتتعلق بنفس الفعل { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } أي بعد حديث الله وبعد آياته وقيل إن المقصود : فبأي حديث بعد آيات الله وذكر الاسم الشريف ليس إلا لقصد تعظيم الآيات فيكون من باب : أعجبني زيد وكرمه وقيل المراد بعد حديث الله وهو القرآن كما في قوله : { الله نزل أحسن الحديث } وهو المراد بالآيات والعطف لمجرد التغاير العنواني قرأ الجمهور { تؤمنون } بالفوقية وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية والمعنى : يؤمنون بأي حديث وإنما قدم عليه لأن الاستفهام له صدر الكلام (5/7)
7 - { ويل لكل أفاك أثيم } أي لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه والويل واد في جهنم (5/7)
8 - ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى فقال : { يسمع آيات الله تتلى عليه } وقيل إن يسمع في محل نصب على الحال وقيل استئناف والأول أولى وقوله : { تتلى عليه } في محل نصب على الحال { ثم يصر } على كفره ويقيم على ما كان عليه حال كونه { مستكبرا } أي يتمادى على كفره متعظما في نفسه عن الانقياد للحق والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحني عليها صارا أذنيه قال مقاتل : إذا سمع من آيات القرآن شيئا اتخذها هزوا وجملة { كأن لم يسمعها } في محل نصب على الحال أو مستأنفة وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف { فبشره بعذاب أليم } هذا من باب التهكم : أي فبشره على إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم (5/7)
9 - { وإذا علم من آياتنا شيئا } قرأ الجمهور : { علم } بفتح العين وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل وقرأ قتادة ومطر الوراق على البناء للمفعول والمعنى : أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله { اتخذها } أي الآيات { هزوا } وقيل الضمير في اتخذها عائد إلى شيئا لأنه عبارة عن الآيات والأول أولى والإشارة بقوله : { أولئك } إلى كل أفاك متصف بتلك الصفات { لهم عذاب مهين } بسبب ما فعلوا من الإصرار والاستكبار عن سماع آيات الله واتخاذها هزوا والعذاب المهين هو المشتمل على الإذلال والفضيحة (5/7)
10 - { من ورائهم جهنم } أي من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر عن الحق جهنم فإنها من قدامهم لأنهم متوجهون إليها وعبر بالوراء عن القدام كقوله : { من ورائه جهنم } وقول الشاعر :
( أليس ورائي إن تراخت منيتي )
وقيل جعلها باعتبار إعراضهم عنها كأنها خلفهم { ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا } أي لا يدفع عنهم ما كسبوا من أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب الله ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع { ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء } معطوف على ما كسبوا : أي ولا يغني عنهم ما اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام و ما في الموضعين إما مصدرية أو موصولة وزيادة لا في الجملة الثانية للتأكيد { ولهم عذاب عظيم } في جهنم التي هي من ورائهم (5/8)
11 - { هذا هدى } جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر يعني هذا القرآن هدى للمهتدين به { والذين كفروا بآيات ربهم } القرآنية { لهم عذاب من رجز أليم } الرجز أشد العذاب قرأ الجمهور { أليم } بالجر صفة للرجز وقرأ ابن كثير وحفص وابن محيصن بالرفع صفة لعذاب (5/8)
12 - { الله الذي سخر لكم البحر } أي جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه { لتجري الفلك فيه بأمره } أي بإذنه وإقداره لكم { ولتبتغوا من فضله } بالتجارة تارة والغوص للدر والمعالجة للصيد وغير ذلك { ولعلكم تشكرون } أي لكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر (5/8)
13 - { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } أي سخر لعباده ما خلقه في سماواته وأرضه مما تتعلق به مصالحهم وتقوم به معايشهم ومما سخره لهم من مخلوقات السموات : الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح وانتصاب جميعا على الحال من ما في السموات وما في الأرض أو تأكيد له وقوله : منه يجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لجميعا : أي كائنة منه ويجوز أن يتعلق بسخر ويجوز أن يكون حالا من ما في السموات أو خبرا لمبتدأ محذوف والمعنى : أن كل ذلك رحمة منه لعباده { إن في ذلك } المذكور من التسخير { لآيات لقوم يتفكرون } وخص المتفكرين لأنه لا ينتفع بها إلا من تفكر فيها فإنه ينتقل من التفكر إلى الاستدلال بها على التوحيد (5/8)
14 - { قل للذين آمنوا يغفروا } أي قل لهم اغفروا يغفروا { للذين لا يرجون أيام الله } وقيل هو على حذف اللام والتقدير : قل لهم ليغفروا والمعنى : قل لهم يتجاوزوا عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه : أي لا يتوقعونها ومعنى الرجاء هنا الخوف وقيل هو على معناه الحقيقي والمعنى : لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين والأول أولى والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدم في تفسير قوله : { وذكرهم بأيام الله } قال مقاتل : لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية وذلك أنهم لا يؤمنون به فلا يخافون عقابه وقيل المعنى : لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه وقيل لا يخافون البعث قيل والآية منسوخة بآية السيف { ليجزي قوما بما كانوا يكسبون } قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { لنجزي } بالنون : أي لنجزى نحن وقرأ باقي السبعة بالتحتية مبنيا للفاعل : أي ليجزي الله وقرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم بالتحتية مبنيا للمفعول مع نصب قوما فقيل النائب عن الفاعل مصدر الفعل أي ليجزى الجزاء قوما وقيل إن النائب الجار والمجرور كما في قوله الشاعر :
( ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا )
وقد أجاز ذلك الأخفش والكوفيون ومنعه البصريون والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة والمراد بالقوم المؤمنون أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه وقيل المعنى : ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنه قال : لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن والأول أولى (5/9)
ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم والمشركين وأعمالهم فقال : 15 - { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } والمعنى : أن عمل كل طائفة من إحسان أو إساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره وفيه ترغيب وتهديد { ثم إلى ربكم ترجعون } فيجازي كلا بعمله إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : { جميعا منه } قال : منه النور والشمس والقمر وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كل شيء هو من الله وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب قال : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق ؟ فقال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال فمم خلق هؤلاء ؟ فقرأ ابن عباس { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه : عن ابن عباس في قوله : { قل للذين آمنوا يغفروا } الآية قال : كان نبي الله صلى الله عليه و سلم يعرض عن المشركين إذا آذوه وكانوا يستهزئون به ويكذبونه فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة فكان هذا من المنسوخ (5/9)
16 - قوله : { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة } المراد بالكتاب التوراة وبالحكم الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكم بين الناس وفصل خصوماتهم وبالنبوة من بعثه الله من الأنبياء فيهم { ورزقناهم من الطيبات } أي المستلذات التي أحلها الله لهم ومن ذلك المن والسلوى { وفضلناهم على العالمين } من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر ونحوه (5/11)
وقد تقدم بيان هذا في سورة الدخان 17 - { وآتيناهم بينات من الأمر } أي شرائع واضحات في الحلال والحرام أو معجزات ظاهرات وقيل العلم بمبعث النبي صلى الله عليه و سلم وشواهد نبوته وتعيين مهاجره { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلا بعد مجيء العلم إليهم بينانه وإيضاح معناه فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا لثبوته وقيل المراد بالعلم يوشع بن نون فإنه آمن به بعضهم وكفر بعضهم وقيل نبوة محمد صلى الله عليه و سلم فاختلفوا فيها حسدا وبغيا وقيل { بغيا } من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } من أمر الدين فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (5/11)
18 - { ثم جعلناك على شريعة من الأمر } الشريعة في اللغة المذهب والملة والمنهاج ويقال : لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه شريعة ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد فالمراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين والجمع شرائع : أي جعلناك يا محمد على منهاج واضع من أمر الدين يوصلك إلى الحق { فاتبعها } فاعمل بأحكامها في أمتك { ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } توحيد الله وشرائعه لعباده وهم كفار قريش ومن وافقهم (5/11)
19 - { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا } أي لا يدفعون عنك شيئا مما أراده الله بك إن اتبعت أهواءهم { وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض } أي أنصار ينصر بعضهم بعضا قال ابن زيد : إن المنافقين أولياء اليهود { والله ولي المتقين } أي ناصرهم والمراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي (5/11)
والإشارة بقوله : 20 - { هذا } إلى القرآن أو إلى اتباع الشريعة وهو مبتدأ وخبره { بصائر للناس } أي براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب وقرئ { هذا بصائر } : أي هذه الآيات لأن القرآن بمعناها كما قال الشاعر :
( سائل بني أسد ما هذه الصوت )
لأن الصوت بمعنى الصيحة { وهدى } أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به { ورحمة } من الله في الآخرة { لقوم يوقنون } أي من شأنهم الإيقان وعدم الشك والتزلزل بالشبه (5/11)
21 - { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني والهمزة لإنكار الحسبان والاجتراح الاكتساب ومنه الجوارح وقد تقدم في المائدة والجملة مستأنفة لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين وهو معنى قوله : { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي نسوي بينهم مع اجترامهم السيئات وبين أهل الحسنات { سواء محياهم ومماتهم } في دار الدنيا وفي الآخرة كلا لا يستوون فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة وقيل المراد إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة قرأ الجمهور { سواء } بالرفع على أنه خبر مقدم والمبتدأ محياهم ومماتهم والمعنى : إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء وقرأ حمزة والكسائي وحفص { سواء } بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله { كالذين آمنوا } أو على أنه مفعول ثان لحسب واختار قراءة النصب أبو عبيد وقال معناه : نجعلهم سواء وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر مماتهم بالنصب على معنى سواء في محياهم ومماتهم فلما سقط الخافض انتصب أو على البدل من مفعول نجعلهم بدل اشتمال { ساء ما يحكمون } أي ساء حكمهم هذا الذي حكموا به (5/11)
22 - { وخلق الله السموات والأرض بالحق } أي بالحق المقتضي للعدل بين العباد ومحل بالحق النصب على الحال من الفاعل أو من المفعول أو الباء للسببية وقوله : { ولتجزى كل نفس بما كسبت } يجوز أن يكون على الحق لأن كلا منهما سبب فعطف السبب على السبب ويجوز أن يكون معطوفا على محذوف والتقدير : خلق الله السموات والأرض ليدل بهما على قدرته ولتجزى ويجوز أن تكون اللام للصيرورة { وهم لا يظلمون } أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب ثم عجب سبحانه من حال الكفار (5/12)
23 - فقال : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال الحسن وقتادة : ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئا إلا ركبه وقال عكرمة : يعبد ما يهواه أو يستحسنه فإذا استحسن شيئا وهواه اتخذه إلاها قال سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر { وأضله الله على علم } أي على علم قد علمه وقيل المعنى : أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه وقال مقاتل : على علم منه أنه ضال لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضر قال الزجاج : على سوء في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه ومحل على علم النصب على الحال من الفاعل أو المفعول { وختم على سمعه وقلبه } أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى { وجعل على بصره غشاوة } أي غطاء حتى لا يبصر الرشد قرأ الجمهور { غشاوة } بالألف مع كسر الغين وقرأ حمزة والكسائي { غشاوة } بغير ألف مع فتح الغين ومنه قول الشاعر :
( لئن كنت ألبستني غشوة ... لقد كنت أصغيتك الود حينا )
وقرأ ابن مسعود والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين وهي لغة ربيعة وقرأ الحسن وعكرمة بعضهما وهي لغة عكل { فمن يهديه من بعد الله } أي من بعد إضلال الله له { أفلا تذكرون } تذكر اعتبار حتى تعلموا حقيقة الحال (5/12)
ثم بين سبحانه بعض جهالاتهم وضلالالتهم فقال : 24 - { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا } أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها { نموت ونحيا } أي يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة وقيل نموت نحن ويحيا فيها أولادنا وقيل نكون نطفا ميتة ثم نصير أحياء وقيل في الآية تقديم وتأخير : أي نحيا ونموت وكذا قرأ ابن مسعود وعلى كل تقدير فمرادهم بهذه المقالة إنكار البعث وتكذيب الآخرة { وما يهلكنا إلا الدهر } أي إلا مرور الأيام والليالي قال مجاهد : يعني السنين والأيام وقال قتادة : إلا العمر والمعنى واحد وقال قطرب : المعنى وما يهلكنا إلا الموت وقال عكرمة : وما يهلكنا إلا الله { وما لهم بذلك من علم } أي ما قالوا هذه المقالة إلا شاكين غير عالمين بالحقيقة ثم بين كون ذلك صادرا منهم لا عن علم فقال : { إن هم إلا يظنون } أي ما هم إلا قوم غاية ما عندهم الظن فما يتكلمون إلا به ولا يستندون إلا إليه (5/13)
25 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } أي إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها بينات واضحات ظاهرة المعنى والدلالة على البعث { ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } أنا نبعث بعد الموت : أي ما كان لهم حجة ولا متمسك إلا هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء وإنما سماه حجة تهكما بهم قرأ الجمهور بنصب حجتهم على أنه خبر كان واسمهما { إلا أن قالوا } وقرأ زيد بن علي وعمرو بن عبيد وعبيد بن عمر برفع { حجتهم } على أنها اسم كان (5/13)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يرد عليهم فقال : 26 - { قل الله يحييكم } أي في الدنيا { ثم يميتكم } عند انقضاء آجالكم { ثم يجمعكم إلى يوم القيامة } بالبعث والنشور { لا ريب فيه } أي في جمعكم لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } بذلك فلهذا حصل معهم الشك في البعث وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت ولو نظروا حق النظر لحصلوا على العلم اليقين واندفع عنهم الريب وأراحوا أنفسهم من ورطة الشك والحيرة
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر } يقول : على هدى من أمر دينه وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { سواء محياهم ومماتهم } قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن والكافر في الدنيا والآخرة كافر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال : ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان { وأضله الله على علم } يقول : أضله في سابق علمه وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عنه قال : كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر فأنزل الله : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : [ كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار فقال الله في كتابه : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } قال الله : يؤذيني ابن آدم [ يسب ] الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : قال الله
عز و جل : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ] (5/13)
لما ذكر سبحانه ما احتج به المشركون وما أجاب به عليهم ذكر اختصاصه بالملك فقال : 27 - { ولله ملك السموات والأرض } أي هو المتصرف فيهما وحده لا يشاركه أحد من عباده ثم توعد أهل الباطل فقال : { ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون } أي المكذبون الكافرون المتعلقون بالأبطال يظهر في ذلك اليوم خسرانهم لأنهم يصيرون إلى النار والعامل في يوم هو يخسر ويومئذ بدل منه والتنوين للعوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه فيكون التقدير : ويوم تقوم الساعة فيكون بدلا توكيديا والأولى أن يكون العامل في يوم هو ملك : أي ولله ملك يوم تقوم الساعة ويكون يومئذ معمولا ليخسر (5/14)
28 - { وترى كل أمة جاثية } الخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه و سلم والأمة الملة ومعنى جاثية : مستوفزة والمستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله وذلك عند الحساب وقيل معنى جاثية : مجتمعة قال الفراء : المعنى وترى أهل كل ذي دين مجتمعين وقال عكرمة : متميزة عن غيرها وقال مؤرج : معناه بلغة قريش : خاضعة وقال الحسن : باركة على الركب والجثو الجلوس على الركب تقول جثا يجثو ويجثي جثوا وجثيا : إذا جلس على ركبتيه والأول أولى ولا ينافيه ورود هذا اللفظ لمعنى آخر في لسان العرب وقد ورد إطلاق الجثوة على الجماعة من كل شيء في لغة العرب ومنه قول طرفة يصف قبرين :
( ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفائح منضد )
وظاهر الآية أن هذه الصفة تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان المتبعين للرسل وغيرهم من أهل الشرك وقال يحيى بن سلام : هو خاص بالكفار والأول أولى ويؤيده قوله : { كل أمة تدعى إلى كتابها } ولقوله فيما سيأتي : { فأما الذين آمنوا } ومعنى إلى كتابها : إلى الكتاب المنزل عليها وقيل إلى صحيفة أعمالها وقيل إلى حسابها وقيل اللوح المحفوظ والأول أولى قرأ الجمهور { كل أمة } بالرفع على الابتداء وخبره : تدعى وقرأ يعقوب الحضرمي بالنصب على البدل من كل أمة { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } أي يقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون من خير وشر (5/15)
29 - { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } هذا من تمام ما يقال لهم والقائل بهذا هم الملائكة وقيل هو من قول الله سبحانه : أي يشهد عليكم وهو استعارة يقال نطق الكتاب بكذا : أي بين وقيل إنهم يقرأونه فيذكرون ما عملوا فكأنه ينطق عليهم بالحق الذي لا زيادة فيه ولا نقصان ومحل ينطق النصب على الحال أو الرفع على أنه خبر آخر لاسم الإشارة وجملة { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } تعليل للنطق بالحق أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم : أي بكتبها وتثبيتها عليكم قال الواحدي : وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيجدون ذلك موافقا لما يعملونه قالوا : لأن الاستنساخ لا يكون إلا من أصل وقيل المعنى : نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون وقيل إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات وتركوا المباحات وقيل إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه أمر عز و جل أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب ويسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب (5/15)
30 - { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته } أي الإدخال في رحمته { ذلك هو الفوز المبين } أي الظاهر الواضح (5/16)
31 - { وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } أي فيقال لهم ذلك وهو استفهام توبيخ لأن الرسل قد أتتهم وتلت عليهم آيات الله فكذبوها ولم يعملوا بها { فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين } أي تكبرتم عن قبولها وعن الإيمان بها وكنتم من أهل الإحرام وهي الآثام والاجترام الاكتساب يقال فلان جريمة أهله : إذا كان كاسبهم فالمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي (5/16)
32 - { وإذا قيل إن وعد الله حق } أي وعده بالبعث والحساب أو يجمع ما وعد به من الأمور المستقبلة واقع لا محالة { والساعة } أي القيامة { لا ريب فيه } أي في وقوعها قرأ الجمهور { والساعة } بالرفع على الابتداء أو العطف على موضع اسم إن وقرأ حمزة بالنصب عطفا على اسم إن { قلتم ما ندري ما الساعة } أي أي شيء هي ؟ { إن نظن إلا ظنا } أي نحدس حدسا ونتوهم توهما قال المبرد : تقديره : إن نحن إلا نظن ظنا وقيل التقدير : إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا وقيل إن نظن مضمن معنى نعتقد : أي ما نعتقد إلا ظنا لا علما وقيل إن ظنا له صفة مقدرة : أي إلا ظنا بينا وقيل إن الظن يكون بمعنى العلم والشك فكأنهم قالوا : ما لنا اعتقاد إلا الشك { وما نحن بمستيقنين } أي لم يكن لنا يقين بذلك ولم يكن معنا إلا مجرد الظن أن الساعة آتية (5/16)
33 - { وبدا لهم سيئات ما عملوا } أي ظهر لهم سيئات أعمالهم على الصورة التي هي عليها { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } أي أحاط بهم ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار (5/16)
34 - { وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } أي نترككم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم وأضاف اللقاء إلى اليوم توسعا لأنه أضاف إلى الشيء ما هو واقع فيه { ومأواكم النار } أي مسكنكم ومستقركم الذين تأوون إليه { وما لكم من ناصرين } ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب (5/16)
35 - { ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا } أي ذلكم العذاب بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزوا ولعبا { وغرتكم الحياة الدنيا } أي خدعتكم بزخارفها وأباطيلها فظننتم أنه لا دار غيرها ولا بعث ولا نشور { فاليوم لا يخرجون منها } أي من النار قرأ الجمهور { يخرجون } بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول إلى الغيبة لتحقيرهم { ولا هم يستعتبون } أي لا يسترضون ويطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله لأنهم يوم لا تقبل فيه توبة ولا تنفع فيه معذرة (5/16)
36 - { فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين } لا يستحق الحمد سواه قرأ الجمهور { رب } في المواضع الثلاثة بالجر على الصفة للاسم الشريف وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن بالرفع في الثلاثة على تقدير مبتدأ : أي هو رب السموات الخ (5/17)
37 - { وله الكبرياء في السموات والأرض } أي الجلال والعظمة والسلطان وخص السموات والأرض لظهور ذلك فيهما { وهو العزيز الحكيم } أي العزيز في سلطانه فلا يغالبه مغالب الحكيم في كل أفعاله وأقواله وجميع أقضيته
وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين ] ثم قرأ سفيان ويرى كل أمة [ جاثية ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { وترى كل أمة جاثية } قال : كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه و سلم على كوم قد علا الخلائق فذلك المقام المحمود وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } قال : هو أم الكتاب فيه أعمال بني آدم { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } قال : هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه بمعناه مطولا فقام رجل فقال : يا ابن عباس ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة فقال ابن عباس إنكم لستم قوما عربا { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب وأخرج ابن جرير عنه نحوه أيضا وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب قال : إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روي عن ابن عباس وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أم الكتاب وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه وأخرج الطبراني عنه أيضا في الآية قال : إن الله وكل ملائكته ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس فيجدون ما رفع الحفظة موافقا لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } قال : نتركم وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله تبارك وتعالى : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار ] (5/17)
سورة الأحقاف
هي أربع وثلاثون آية وقيل خمس وثلاثون
وهي مكية قال القرطبي : في قول جميعهم : وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا : نزلت سورة حم الأحقاف بمكة وأخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : [ أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة الأحقاف وأقرأها آخر فخالف قراءته فقلت من أقرأكها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : والله لقد أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم غير ذا فأتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا ؟ قال : بلى وقال الآخر : ألم تقرئني كذا وكذا ؟ قال : بلى فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف ]
قوله : 1 - { حم } قد تقدم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى وذكرنا وجه الإعراب وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله (5/18)
2 - { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } قد تقدم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى وذكرنا وجه الإعراب وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله (5/19)
2 - { ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما } من المخلوقات بأسرها { إلا بالحق } هو استثناء مفرغ من أعلم الأحوال أي إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية وقوله : { وأجل مسمى } معطوف على الحق : أي إلا بالحق وبأجل مسمى على تقدير مضاف محذوف : أي وبتقدير أجل مسمى وهذا الأجل هو يوم القيامة فإنها تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما وتبدل الأرض غير الأرض والسموات وقيل المراد بالأجل المسمى هو انتهاء أجل كل فرد من أفراد المخلوقات والأول لغير شيء بل خلقه للثواب والعقاب { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } أي عما أنذروا وخوفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء معرضون عنه غير مؤمنين به وما في قوله : { ما أنذروا } يجوز أن تكون الموصولة ويجوز أن تكون المصدرية (5/19)
3 - { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله } أي أخبروني ما تعبدون من دون الله من الأصنام { أروني ماذا خلقوا من الأرض } أي أي شيء خلقوا منها وقوله : { أروني } يحتمل أن يكون تأكيدا لقوله أرأيتم : أي أخبروني أروني والمفعول الثاني لأرأيتم { ماذا خلقوا } ويحتمل أن لا يكون تأكيدا بل يكون هذا من باب التنازع لأن أرأيتم يطلب مفعولا ثانيا و { أروني } كذلك { أم لهم شرك في السموات } أم هذه هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة والمعنى : بل ألهم شركة مع الله فيها والاستفهام للتوبيخ والتقريع { ائتوني بكتاب من قبل هذا } هذا تبكيت لهم وإظهار لعجزهم وقصورهم عن الإتيان بذلك والإشارة بقوله هذا إلى القرآن فإنه قد صرح ببطلان الشرك وأن الله واحد لا شريك له وأن الساعة حق لا ريب فيها فهل للمشركين من كتاب يخالف هذا الكتاب أو حجة تنافي هذه الحجة { أو أثارة من علم } قال في الصحاح : أو أثارة من علم بقية منه وكذا الأثرة بالتحريك قال ابن قتيبة : أي بقية من علم الأولين وقال الفراء والمبرد : يعني ما يؤثر عن كتب الأولين قال الواحدي : وهو معنى قول المفسرين قال عطاء : أو شيء تأثرونه عن نبي كان قبل محمد صلى الله عليه و سلم قال مقاتل : أو رواية من علم عن الأنبياء وقال الزجاج أو أثارة : يقال أثرت الحديث آثره أثرة وأثارة وأثرا : إذا ذكرته عن غيرك قرأ الجمهور { أثارة } على المصدر كالسماحة والغواية وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وعكرمة والسلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف وقرأ الكسائي { أثارة } بضم الهمزة وسكون الثاء { إن كنتم صادقين } في دعواكم التي تدعونها وهي قولكم إن لله شريكا ولم تأتوا بشيء من ذلك فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي والنقلي على خلافه (5/19)
4 - { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له } أي لا أحد أضل منه ولا أجهل فإنه دعا من لا يسمع فكيف يطمع في الإجابة فضلا عن جلب نفع أو دفع ضر ؟ فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضل الضالين والاستفهام للترقيع والتوبيخ وقوله : { إلى يوم القيامة } غاية لعدم الاستجابة { وهم عن دعائهم غافلون } الضمير الأول للأصنام والثاني لعابديها والمعنى : والأصنام التي يدعونها عن دعائهم إياها غافلون عن ذلك لا يسمعون ولا يعقلون لكونهم جمادات والجمع في الضميرين باعتبار معنى من وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل (5/20)
5 - { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء } أي إذا حشر الناس العابدين للأصنام كان الأصنام لهم أعداء يتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا وقد قيل إن الله يخلق الحياة في الأصنام فتكذبهم وقيل المراد أنها تكذيبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال وأما الملائكة والمسيح وعزير والشيطاين فإنهم يتبرأون ممن عبدهم يوم القيامة كما في قوله تعالى : { تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } { وكانوا بعبادتهم كافرين } أي كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين : أي جاحدين مكذبين وقيل الضمير في { كانوا } للعابدين كما في قوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } والأول أولى (5/20)
6 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا } أي آيات القرآن حال كونها { بينات } واضحات المعاني ظاهرات الدلالات { قال الذين كفروا للحق } أي لأجله وفي شأنه وهو عبارة عن الآيات { لما جاءهم } أي وقت أن جاءهم { هذا سحر مبين } أي ظاهر السحرية (5/20)
7 - { أم يقولون افتراه } أم هي المنقطعة : أي بل أيقولون افتراه والاستفهام للإنكار والتعجب من صنيعهم وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحرا إلى قولهم : إن رسول الله افترى ما جاء به وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال : { قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا } أي قل إن افتريته على سبيل الفرض والتقدير : كما تدعون فلا تقدرون على أن تردوا عني عقاب الله فكيف افتري على الله لأجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني { هو أعلم بما تفيضون فيه } أي تخوضون فيه من التكذيب والإفاضة في الشيء الخوض فيه والاندفاع فيه يقال أفاضوا في الحديث : أي اندفعوا فيه وأفاض البعير : إذا دفع جرته من كرشه والمعنى : الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب له والقول بأنه سحر وكهانة : { كفى به شهيدا بيني وبينكم } فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده وأني قد بلغتكم ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود وفي هذا وعيد شديد { وهو الغفور الرحيم } لمن تاب وآمن وصدق بالقرآن وعمل بما فيه : أي كثير المغفرة والرحمة بليغهما (5/21)
8 - { قل ما كنت بدعا من الرسل } البدع من كل شيء المبدأ : أي ما أنا بأول رسول قد بعث الله قبلي كثيرا من الرسل قيل البدع بمعنى البديع كالخف والخفيف والبديع ما لم ير له مثل من الابتداع وهو الاختراع وشيء بدع بالكسر : أي مبتدع وفلان بدع في هذا الأمر : أي بديع كذا قال الأخفش وأنشد قطرب :
( فما أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالا غدت من بعد موسى وأسعدا )
وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة { بدعا } بفتح الدال على تقدير حذف المضاف : أي ما كنت ذا بدع وقرأ مجاهد بفتح الباب وكسر الدال على الوصف { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } أي ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة أو أخرج منها ؟ وهل أموت أو أقتل ؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون ؟ وهذا إنما هو في الدنيا وأما في الآخرة فقد علم أنه وأمته في الجنة وأن الكافرين في النار وقيل إن المعنى : ما أدري ما يفعل بي ولا يكم يوم القيامة وإنها لما نزلت فرح المشركون وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا وأنه لا فضل له علينا ؟ فنزل قوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } والأول أولى { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } قرأ الجمهور { يوحى } مبينا للمفعول : أي ما أتبع إلا القرآن ولا أبتدع من عندي شيئا والمعنى : قصر أفعاله صلى الله عليه و سلم على الوحي لا قصر اتباعه على الوحي { وما أنا إلا نذير مبين } أي أنذركم عقاب الله وأخوفكم عذابه على وجه الايضاح
وقد أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريف أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس { أو أثارة من علم } قال : الخط قال سفيان : لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم يعني أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم ] ومعنى هذا ثابت في الصحيح ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط وأين السند الصحيح إلى ذلك النبي أو إلى نبينا صلى الله عليه و سلم أن هذا الخط هو على صورة كذا فليس ما يفعله أهل الرمل إلا جهالات وضلالات وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم : { أو أثارة من علم } قال : حسن الخط وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم من طريق الشعبي عن ابن عباس : { أو أثارة من علم } قال : خط كان يخطه العرب في الأرض وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أو أثارة من علم } يقول : بينة من الأمر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : { قل ما كنت بدعا من الرسل } يقول لست بأول الرسل { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } فأنزل الله بعد هذا { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وقوله : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات } الآية فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين جميا وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضا أن هذه الآية منسوخة بقوله : { ليغفر لك الله } وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم العلاء قالت : [ لما مات عثمان بن مظعون قلت : رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وما يدريك أن الله أكرمه ؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم قالت أم العلاء : فوالله لا أزكي بعده أحدا ] (5/21)
9 - { قل أرأيتم } أي أخبروني { إن كان من عند الله } يعني ما يوحى إليه من القرآن وقيل المراد محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم والمعنى : إن كان مرسلا من عند غير الله وقوله : { وكفرتم به } في محل نصب على الحال بتقدير قد وكذلك قوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } والمعنى : أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله والحال أنكم قد كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على مثله : أي القرآن من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ وقال الجرجاني : مثل صلة والمعنى : وشهد شاهد عليه أنه من عند الله وكذا قال الواحدي : { فآمن } الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله ومن جنس ما ينزله على رسله وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة فيكون المراد بالشاهد رجلا من أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة وصدقه واختار هذا ابن جرير وسيأتي في آخر البحث ما يترجح به أنه عبد الله بن سلام وأن هذه الآية مدنية لا مكية وروي عن مسروق أن المراد بالرجل موسى عليه السلام وقوله : { واستكبرتم } معطوف على شهد : أي آمن الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } فحرمهم الله سبحانه الهداية لظلمهم لأنفسهم بالكفر بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان ومن فقد هداية الله له ضل
وقد اختلف في جواب الشرط ماذا هو ؟ فقال الزجاج : محذوف تقديره أتؤمنون وقيل قوله : { فآمن واستكبرتم } وقيل محذوف تقديره : فقد ظلمتم لدلالة { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } عليه وقيل تقديره : فمن أضل منكم كما في قوله : { أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل } الآية وقال أو علي الفارسي تقديره أتأمنون عقوبة الله وقيل التقدير : ألستم ظالمين (5/23)
ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من أقاويلهم الباطلة فقال : 10 - { وقال الذين كفروا للذين آمنوا } أي لأجلهم ويجوز أن تكون هذه اللام هي لام التبليغ { لو كان خيرا ما سبقونا إليه } أي لو كان ما جاء به محمد من القرآن والنبوة خيرا ما سبقونا إليه لأنهم عند أنفسهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة ولم يعلموا أن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويصطفي لدينه من يشاء { وإذ لم يهتدوا به } أي بالقرآن وقيل بمحمد صلى الله عليه و سلم وقيل بالإيمان { فسيقولون هذا إفك قديم } فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم كما قالوا أساطير الأولين والعامل في إذ مقدر : أي ظهر عنادهم ولا يجوز أن يعمل فيه فسيقولون لتضاد الزمانين : أعني المضي والاستقبال ولأجل الفاء أيضا وقيل إن العامل فيه فعل مقدر من جنس المذكور : أي لم يهتدوا به (5/24)
وإذا لم يهتدوا به فسيقولون : 11 - { ومن قبله كتاب موسى } قرأ الجمهور بكسر الميم من { من } على أنها حرف جر وهي مع مجرورها خبر مقدم وكتاب موسى مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة والكلام مسوق لرد قولهم { هذا إفك قديم } فإن كونه قد تقدم القرآن كتاب موسى وهو التوراة وتوافقا في أصول الشرائع يدل على أنه حق وأنه من عند الله ويقتضي بطلان قولهم وقرئ بفتح ميم من على أنها موصولة ونصب { كتاب } : أي وآتينا من قبله كتاب موسى ورويت هذه القراءة عن الكلبي { إماما ورحمة } أي يقتدي به في الدين ورحمة من الله لمن آمن به وهما منتصبان على الحال قاله الزجاج وغيره وقال الأخفش على القطع وقال أبو عبيدة : أي جعلناه إماما ورحمة { وهذا كتاب مصدق } يعني القرآن فإنه مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ولغيره من كتب الله وقيد مصدق للنبي صلى الله عليه و سلم وانتصاب { لسانا عربيا } على الحال الموطئة وصاحبها الضمير في مصدق العائد إلى كتاب وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا لمصدق والأول أولى وقيل هو على حذف مضاف : أي ذا لسان عربي وهو النبي صلى الله عليه و سلم { لينذر الذين ظلموا } قرأ الجمهور { لينذر } بالتحتية على أن فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب : أي لينذر الكتاب الذين ظلموا وقيل الضمير راجع إلى الله وقيل إلى الرسول والأول أولى وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه و سلم واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد وقوله : { وبشرى للمحسنين } في محل نصب عطفا على محل لينذر وقال الزجاج : الأجود أن يكون في محل رفع : أي وهو بشرى وقيل على المصدرية لفعل محذوف : أي وتبشر بشرى وقوله : { للمحسنين } متعلق ببشرى (5/24)
12 - { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } أي جمعوا بين التوحيد والاستقامة على الشريعة وقد تقدم تفسير هذا في سورة السجدة { فلا خوف عليهم } الفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط { ولا هم يحزنون } المعنى : أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم ولا يحزنون من فوات محبوب وأن ذلك مستمر دائم (5/25)
13 - { أولئك أصحاب الجنة } أي أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة التي هي دار المؤمنين حال كونهم { خالدين فيها } وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم فإن نفي الخوف والحزن على الدوام والاستقرار في الجنة على الأبد مما لا تطلب الأنفس سواه ولا تتشوف إلى ما عداه { جزاء بما كانوا يعملون } أي يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله وترك معاصيه (5/25)
14 - { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } قرأ الجمهور { حسنا } بضم الحاء وسكون السين وقرأ علي والسلمي بفتحهما وقرأ ابن عباس والكوفيون { إحسانا } وقد تقدم في سورة العنكبوت { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } من غير اختلاف بين القراء وتقدم في سورة الأنعام وسورة بني إسرائيل { وبالوالدين إحسانا } فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء في هذه الآية وعلى جميع هذه القراءات فانتصابه على المصدرية : أي وصيناه أن يحسن إليهما حسنا أو إحسانا وقيل على أنه مفعول به بتضمين وصينا معنى ألزمنا وقيل على أنه مفعول له { حملته أمه كرها ووضعته كرها } قرأ الجمهور { كرها } في الموضعين بضم الكاف وقرأ أبو عمر وأهل الحجاز [ بفتحها ] قال الكسائي : وهما لغتان بمعنى واحد قال أبو حاتم : الكره بالفتح لا يحسن لأنه الغضب والغلبة واختار أبو عبيد قراءة الفتح قال : لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلا التي في سورة البقرة { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } وقيل إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه وبالفتح ما حمل على غيره وإنما ذكر سبحانه حمل الأم ووضعها تأكيدا لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به والمعنى : أنها حملته ذات كره ووضعته ذات كره ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال : { حمله وفصاله ثلاثون شهرا } أي مدتهما هذه المدة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع : أي يفطم عنه وقد استدل بهذه الآية على أن أقل الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع سنتان : أي مدة الرضاع الكامل كما في قوله : { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك قرأ الجمهور { وفصاله } بالألف وقرأ الحسن ويعقوب وقتادة والجحدي { وفصاله } بفتح الفاء وسكون الصاد بغير ألف والفصل والفصال بمعنى : كالفطم والفطام والقطف والقطاف { حتى إذا بلغ أشده } أي بلغ استحكام قوته وعقله وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى ولا بد من تقدير جملة تكون حتى غاية لها : أي عاش واستمرت حياته حتى بلغ أشده قيل بلغ عمره ثماني عشرة سنة وقيل الأشد الحلم قاله الشعبي وابن زيد وقال الحسن : هو بلوغ الأربعين والأول أولى لقوله : { وبلغ أربعين سنة } فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد قال المفسرون : لم يبعث الله نبيا قط إلا بعد أربعين سنة { قال رب أوزعني } أي ألهمني قال الجوهري : استوزعت الله فأوزعني : أي استلهمته فألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } أي ألهمني شكر ما أنعمت به علي من الهداية وعلى والدي من التحنن علي منهما حين ربياني صغيرا وقيل أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة والأولى عدم تقييد النعمة عليه وعلى أبويه بنعمة مخصوصة { وأن أعمل صالحا ترضاه } أي وألهمني أن أعمل عملا صالحا ترضاه مني { وأصلح لي في ذريتي } أي اجعل ذريتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات وقد روي أنها نزلت في أبي بكر كما سيأتي في آخر البحث { إني تبت إليك } من ذنوبي { وإني من المسلمين } أي المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك (5/25)
والإشارة بقوله : 15 - { أولئك } إلى الإنسان المذكور والجمع لأنه يراد به الجنس وهو مبتدأ وخبره { الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } من أعمال الخير في الدنيا والمراد بالأحسن الحسن كقوله : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم } وقيل إن اسم التفضيل على معناه ويراد به ما يثاب العبد عليه من الأعمال لا ما لا يثاب عليه كالمباح فإنه حسن وليس بأحسن { ونتجاوز عن سيئاتهم } فلا نعاقبهم عليها قرأ الجمهور { يتقبل } و { نتجاوز } على بناء الفعلين للمفعول وقرأ حمزة والكسائي بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه والتجاوز الغفران وأصله من جزت الشيء : إذا لم تقف عليه ومعنى { في أصحاب الجنة } أنهم كائنون في عدادهم منتظمون في سلكهم فالجار والمجرور في محل النصب على الحال كقولك : أكرمني الأمير في أصحابه : أي كائنا في جملتهم وقيل إن في بمعنى مع : أي مع أصحاب الجنة وقيل إنهما خبر مبتدأ محذوف : أي هم في أصحاب الجنة { وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } ووعد الصدق مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن قوله : { أولئك الذين نتقبل عنهم } الخ في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز ويجوز أن يكون مصدر الفعل محذوف أي وعدهم الله وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به على ألسن الرسل في الدنيا
وقد أخرج أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن عوف بن مالك الأشجعي قال : [ انطلق النبي صلى الله عليه و سلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحط الله يحط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديهم السماء الغضب الذي عليه ] فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا فقال : أبيتم فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلقه فقال : كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل : أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود فقالوا والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال : فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل قالوا كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذبتم لن يقبل منكم قولكم فخرجنا ونحن ثلاثة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا وابن سلام فأنزل الله { قل أرأيتم إن كان من عند الله } إلى قوله : { لا يهدي القوم الظالمين } وصححه السيوطي وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال : نزل في آيات من كتاب الله نزلت في { وشهد شاهد من بني إسرائيل } ونزل في { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { وشهد شاهد من بني إسرائيل } قال عبد الله بن سلام وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : قال ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان فنزل { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه } وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال : كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله : يقال لها زنيرة وكان عمر يضربها على الإسلام وكان كفار قريش يقولون : لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله في شأنها { وقال الذين كفروا } الآية وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة يقولون لو كان خيرا ما جعلهم الله أول الناس فيه ] وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزل قوله : { ووصينا الإنسان بوالديه } الآية إلى قوله : { وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } في أبي بكر الصديق وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال : إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت لستة أشهر فأنكر الناس ذلك فقلت لعمر : لم تظلم ؟ قال كيف ؟ قلت اقرأ { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } كم الحول ؟ قال سنة قلت : كم السنة ؟ قال إثنا عشر شهرا قلت فأربعة وعشرون شهرا حولان كاملان ويؤخر الله من الحمل ما شاء ويقدم ما شاء فاستراح عمر إلى قولي وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه كان يقول : إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله يقول : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني } الآية فاستجاب الله له فأسلم والده جميعا وإخوته وولده كلهم ونزلت فيه أيضا { فأما من أعطى واتقى } إلى آخر السورة (5/27)
لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه وعلى والديه ذكر من قال لهما قولا يدل على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان فقال : 16 - { والذي قال لوالديه أف لكما } الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ولهذا أخبر عنه بالجمع وأف كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه قرأ نافع وحفص { أف } بكسر الفاء مع التنوين وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن بفتحها من غير تنوين وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين وهي لغات وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل واللام في قوله { لكما } لبيان التأفيف : أي التأفيف لكما كما في قوله : { هيت لك } قرأ الجمهور { أتعدانني } بنونين مخففتين وفتح ياءه أهل المدينة ومكة وأسكنها الباقون وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى ورويت هذه القراءة عن نافع وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى كأنهم فروا من توالي مثلين مكسورين وقرأ الجمهور { أن أخرج } بضم الهمزة وفتح الراء مبينا للمفعول وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبينا للفاعل والمعنى : أتعدانني أنني أن أبعث بعد الموت وجملة { وقد خلت القرون من قبلي } في محل نصب على الحال : أي والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا ولم يبعث منهم أحد وهكذا جملة { وهما يستغيثان الله } في محل نصب على الحال : أي والحال أنهما يستغيثان الله له ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان واستغاث يتعدى بنفسه وبالباء : يقال استغاث الله واستغاث به وقال الرازي : معناه يستغيثان بالله من كفره فلما حذف الجار وصل الفعل وقيل الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء قال الفراء : يقال أجاب الله دعاءه وغواثه وقوله : { ويلك } هو بتقدير القول : أي يقولان له ويلك وليس المراد به الدعاء عليه بل الحث له على الإيمان ولهذا قالا له : { آمن إن وعد الله حق } أي آمن بالبعث إن وعد الله حق لا خلف فيه { فيقول } عند ذلك مكذبا لما قالاه : { ما هذا إلا أساطير الأولين } أي ما هذا الذي تقولاته من البعث إلا أحاديث الأولين وأباطيلهم التي [ سطرونها ] في الكتب قرأ الجمهور : { إن وعد الله } بكسر إن على الاستئناف أو التعليل وقرأ عمر بن فايد والأعرج بفتحها على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء أي آمن بأن وعد الله بالبعث حق (5/29)
17 - { أولئك الذين حق عليهم القول } أي أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حق عليهم القول : أي وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } كما يفيده قوله : { في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } وجملة { إنهم كانوا خاسرين } تعليل لما قبله وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر وأنه الذي قال لوالديه ما قال فإنه من أفاضل المؤمنين وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب وسيأتي بيان النزول في آخر البحث إن شاء الله (5/30)
18 - { ولكل درجات مما عملوا } أي لكل فريق من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم قال ابن زيد : درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلا ودرجات أهل الجنة تذهب علوا { وليوفيهم أعمالهم } أي جزاء أعمالهم قرأ الجمهور { ليوفيهم } بالنون وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء التحتية واختار أبو عبيد القراءة الأولى واختار الثانية أبو حاتم { وهم لا يظلمون } أي لا يزاد مسيء ولا ينقص محسن بل يوفى كل فريق ما يستحقه من خير وشر والجملة في محل نصب على الحال أو مستأنفة مقررة لما قبلها (5/31)
19 - { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } الظرف متعلق بمحذوف : أي اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء فينظرون إلى النار ويقربون منها وقيل معنى يعرضون يعذبون من قولهم : عرضه على السيف وقيل في الكلام قلب والمعنى : تعرض النار عليهم { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } أي يقال لهم ذلك قيل وهذا القدر هو الناصب للظرف والأول أولى قرأ الجمهور : { أذهبتم } بهمزة واحدة وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية ويعقوب وابن كثير بهمزتين مخففتين ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ قال الفراء والزجاج : العرب توبخ بالاستفهام وبغيره فالتوبيخ كائن على القراءتين قال الكلبي : المراد بالطيبات اللذات وما كانوا فيه من المعايش { واستمتعتم بها } أي بالطيبات والمعنى : أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه ولم يبالوا بالذنب تكذيبا منهم لما جاءت به الرسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب { فاليوم تجزون عذاب الهون } أي العذاب الذي فيه ذل لكم وخزي عليكم قال مجاهد وقتادة : الهون الهوان بلغة قريش { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق } أي بسبب تكبركم عن عبادة الله والإيمان به وتوحيده { وبما كنتم تفسقون } أي [ تخرجون ] عن طاعة الله وتعملون بمعاصيه فجعل السبب في عذابهم أمرين : التكبر عن اتباع الحق والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى وهذا شأن الكفرة فإنهم قد جمعوا بينهما
وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان : إن هذا أنزل فيه { والذي قال لوالديه أف لكما } فقالت عائشة : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه قال مروان : سنة أبي بكر وعمر فقال عبد الرحمن سنة هرقل وقيصر فقال مروان : هذا الذي قال الله فيه { والذي قال لوالديه أف لكما } الآية فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان من لعنه الله وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هذا ابن لأبي بكر وأخرج نحوه أبو حاتم عن السدي ولا يصح هذا كما قدمنا (5/31)
قوله : 20 - { واذكر أخا عاد } أي واذكر يا محمد لقومك أخا عاد وهو هود بن عبد الله بن رباح كان أخاهم في النسب لا في الدين وقوله : { إذ أنذر قومه } بدل اشتمال منه : أي وقت إنذاره إياهم { بالأحقاف } وهي ديار عاد جمع حقف وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم والمعنى أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم ليتعظوا ويخافوا وقيل أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود ليقتدي به ويهون عليه تكذيب قومه قال عطاء : الأحقاف رمال بلاد الشحر وقال مقاتل : هي باليمين في حضر موت وقال ابن زيد : هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال ولم تبلغ أن تكون جبالا { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه } أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده كذا قال الفراء وغيره وفي قراءة ابن مسعود : من بين يديه ومن بعده
والجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود وبين قوله لقومه : { إني أخاف عليكم } والأول أولى والمعنى : أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره ثم رجع إلى كلام هود لقومه فقال حاكيا عنه { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } وقيل إن جعل تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام وأوفق بالمعنى (5/32)
21 - { قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا } أي لتصرفنا عن عبادتها وقيل لتزيلنا وقيل لتمنعنا والمعنى متقارب ومنه قول عروة بن أذينة :
( إن تك عن حسن الصنيعة مأفو ... كا ففي آخرين قد أفكوا )
يقول : إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك { فأتنا بما تعدنا } من العذاب العظيم { إن كنت من الصادقين } في وعدك لنا به (5/33)
22 - { قال إنما العلم عند الله } أي إنما العلم بوقت مجيئه عند الله لا عندي { وأبلغكم ما أرسلت به } إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار فأما العلم بوقت مجيء العذاب فما أوحاه إلي { ولكني أراكم قوما تجهلون } حيث بقيتم مصرين على كفركم ولم تهتدوا بما جئتكم به بل اقترحتم علي ما ليس من وظائف الرسل (5/33)
23 - { فلما رأوه عارضا } الضمير يرجع إلى ما في قوله : { بما تعدنا } وقال المبرد والزجاج : الضمير في { رأوه } يعود إلى غير مذكور وبينه قوله : { عارضا } فالضمير يعود إلى السحاب : أي فلما رأوا السحاب عارضا فعارضا نصب على التكرير : يعني التفسير وسمي السحاب عارضا لأنه يبدو في عرض السماء قال الجوهري : العارض السحاب يعترض في الأفق ومنه قوله : { هذا عارض ممطرنا } وانتصاب عارضا على الحال أو التمييز { مستقبل أوديتهم } أي متوجها نحو أوديتهم قال المفسرون : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم : يقال له المعتب فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا و { قالوا هذا عارض ممطرنا } أي غير فيه مطر وقوله : { مستقبل أوديتهم } صفة لعارض لأن إضافته لفظية لا معنوية فصح وصف النكرة به وهكذا ممطرنا فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هود فقال : { بل هو ما استعجلتم به } يعني من العذاب حيث قالوا : { فأتنا بما تعدنا } وقوله : { ريح } بدل من ما أو خبر مبتدأ محذوف وجملة { فيها عذاب أليم } صفة لريح والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه (5/33)
24 - { تدمر كل شيء بأمر ربها } هذه الجملة صفة ثانية لريح : أي تهلك كل شيء مرت به من نفوس عاد وأموالها والتدمير : الإهلاك وكذا الدمار وقرئ يدمر بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم ورفع كل على الفاعلية من دمر دمارا ومعنى { بأمر ربها } أن ذلك بقضائه وقدره { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } أي لا ترى أنت يا محمد أو كل من يصلح للرؤية إلا مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم قرأ الجمهور { لا ترى } بالفوقية على الخطاب ونصب { مساكنهم } وقرأ حمزة وعاصم بالتحتية مضمونة مبنيا للمفعول ورفع مساكنهم قال سيبويه : معناه لا يرى أشخاصهم إلا مساكنهم واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الثانية قال الكسائي والزجاج : معناها لا يرى شيء إلا مساكنهم فهي محمولة على المعنى كما تقول : ما قال إلا هند والمعنى : ما قام أحد إلا هند وفي الكلام حذف والتقدير : فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي مثل ذلك الجزاء نجزي هؤلاء وقد مر بيان هذه القصة في سورة الأعراف (5/34)
25 - { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } قال المبرد : ما في قوله فيما بمنزلة الذي وإن بمنزلة ما : يعني النافية وتقديره : ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال وطول العمر وقوة الأبدان وقيل إن زائدة وتقديره : ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه وبه [ قال ] القتيبي ومثله قول الشاعر :
( فما إن طبق جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا )
والأول أولى لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش وأمثالهم { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } أي إنهم أعرضوا عن قبول الحجة والتذكر مع ما أعطاها الله من الحواس التي بها تدرك الأدلة ولهذا قال : { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } أي فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد وصحة الوعد والوعيد وقد قدمنا من الكلام على وجه إفراد السمع وجمع البصر ما يغني عن الإعادة ومن في { من شيء } زائدة والتقدير : فما أغنى عنهم شيء من الإغناء ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع { إذ كانوا يجحدون بآيات الله } الظرف متعلق بأغنى وفيها معنى التعليل : أي لأنهم كانوا يجحدون { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا { فأتنا بما تعدنا } (5/34)
26 - { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } الخطاب لأهل مكة والمراد بما حولهم من القرى قرى ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان مجاورا لبلاد الحجاز وكانت أخبارهم متواترة عندهم { وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون } أي بينا الحجج ونوعناها لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا (5/35)
ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر فقال : 27 - { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة } أي فهلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم قال الكسائي : القربان كل ما يتقرب به إلى الله من طاعة ونسيكة والجمع قرابين كالرهبان والرهابين وأحد مفعولي اتخذوا ضمير راجع إلى الموصول والثاني آلهة وقربانا حال ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا وآلهة بدلا منه لفساد المعنى وقيل يصح ذلك ولا يفسد المعنى ورجحه ابن عطية وأبو البقاء وأبو حيان وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه { بل ضلوا عنهم } أي غابوا عن نصرهم ولم يحضروا عند الحاجة إليهم وقيل بل هلكوا وقيل الضمير في ضلوا راجح إلى الكفار : أي تركوا الأصنام وتبرأوا منها والأول أولى والإشارة بقوله : { وذلك } إلى ضلال آلهتهم والمعنى وذلك الضلال والضياع أثر { إفكهم } الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وزعمهم أنها تقربهم إلى الله قرأ الجمهور { إفكهم } بكسر الهمزة وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكا : أي كذبهم وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل : أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء : أي صيرهم آفكين قال أبو حاتم : يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمد وكسر الفاء بمعنى صارفهم { وما كانوا يفترون } معطوف على إفكهم : أي وأثر افترائهم أو أثر الذي كانوا يفترونه والمعنى : وذلك إفكهم : أي كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم { وما كانوا يفترون } أي يكذبون أنها آلهة
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأحقاف جبل بالشام وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه في قوله : { هذا عارض ممطرنا } قال : هو السحاب وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : [ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم مستجما ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه قلت : يارسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية قال : يا عائشة : وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : { هذا عارض ممطرنا } ] وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عنها قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا عصفت الريح قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به فإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مطرت سري عنه فسألته فقال : لا أدري لعله كما قال قوم عاد { هذا عارض ممطرنا } ] وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله : { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم } قالوا غيم فيه مطر فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من رجالهم ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالك عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليل وثمانية أيام حسوما لهم أنين ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر [ فهو ] قوله : { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } يقول : لم نمكنكم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : عاد مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة وكانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأطول أعمارا (5/35)
لما بين سبحانه أن في الإنس من آمن وفيهم من كفر بين أيضا أن في الجن كذلك فقال : 28 - { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } العامل في الظرف مقدر : أي واذكر إذ صرفنا أي وجهنا إليك نفرا من الجن وبعثناهم إليك وقوله : { يستمعون القرآن } في محل نصب صفة ثانية لنفرا أو حال لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى { فلما حضروه } أي حضروا القرآن عند تلاوته وقيل حضروا النبي صلى الله عليه و سلم ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة والأول أولى { قالوا أنصتوا } أي قال بعضهم لبعض اسكتوا أمروا بعضهم بعضا بذلك لأجل أن يسمعوا { فلما قضي } قرأ الجمهور { قضي } مبنيا للمفعول : أي فرغ من تلاوته وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ولاحق بن حميد وأبو مجلز على البناء للفاعل : أي فرغ النبي صلى الله عليه و سلم من تلاوته والقراءة أولى تؤيد أن الضمير في حضروه للقرآن والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبي صلى الله عليه و سلم { ولوا إلى قومهم منذرين } أي انصرفوا قاصدين إلى ما وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن ومحذرين لهم وانتصاب : منذرين على الحال المقدرة أي مقدرين الإنذار وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه و سلم وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك (5/37)
29 - { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } يعنون القرآن وفي الكلام حذف والتقدير : فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا قال عطاء : كانوا يهودا فأسلموا { مصدقا لما بين يديه } أي لما قبله من الكتب المنزلة { يهدي إلى الحق } أي إلى الدين الحق { وإلى طريق مستقيم } أي إلى طريق الله القويم قال مقاتل : لم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه و سلم (5/37)
30 - { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به } يعنون محمدا صلى الله عليه و سلم أو القرآن { يغفر لكم من ذنوبكم } أي بعضها وهو ما عدا حق العباد وقيل إن من هنا لابتداء الغاية والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى وقيل هي زائدة { ويجركم من عذاب أليم } وهو عذاب النار وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي وقال الحسن ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار وبه قال أبو حنيفة والأول أولى وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى وعلى القول الأول فقال القائلون به أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم : كونوا ترابا كما يقال للبهائم والثاني أرجح وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجن والإنس { ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان } فامتن سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ولا ينافي هذا الاقتصار هاهنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل ومما يؤيده هذا أيضا ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة وجزاء من عمل الصالحات الجنة وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم أم لا وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط كما في قوله : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } وقال : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } وقال سبحانه في إبراهيم الخليل : { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته وأما قوله تعالى في سورة الأنعام : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } فقيل المراد من مجموع الجنسين وصدق على أحدهما وهم الإنس : كقوله : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } أي من أحدهما (5/37)
31 - { ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض } أي لا يفوت الله ولا يسبقه ولا يقدر على الهرب منه لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها وفي هذا ترهيب شديد وليس له من دونه أولياء أي أنصار يمنعونه من عذاب الله بين سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره والإشارة بقوله : { أولئك } إلى من لا يجب داعي الله وأخبر أنهم { في ضلال مبين } أي ظاهر واضح (5/38)
ثم ذكر سبحانه دليلا على البعث فقال : 32 - { أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض } الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر : أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السموات والأرض ابتداء { ولم يعي بخلقهن } أي لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه يقال عي بالأمر وعيي : إذا لم يهتد لوجهه ومنه قول الشاعر :
( عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة )
قرأ الجمهور ولم يعي بسكون العين وفتح الياء مضارع عيي وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء { بقادر على أن يحيي الموتى } قال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد كما في قوله : { وكفى بالله شهيدا } قال الكسائي والفراء والزجاج : العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام فتقول ما أظنك بقائم والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر والأعرج والجحدي وابن أبي إسحاق ويعقوب وزيد بن علي { يقدر } على صيغة المضارع واختار أبو عبيدة القراءة الأولى واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال : لأن دخول الباء في خبر أن قبيح { بلى إنه على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء (5/38)