109 - { يومئذ لا تنفع الشفاعة } أي يوم يقع ما ذكر لا تنفع الشفاعة من شافع كائنا ما كان { إلا من أذن له الرحمن } أي إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع له { ورضي له قولا } أي رضي قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع والمعنى : إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له وكان له قول يرضى ومثل هذه الآية قوله : { لا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقوله : { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } وقوله : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } (3/553)
110 - { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } أي ما بين أيديهم من أمر الساعة وما خلفهم من أمر الدنيا والمراد هنا جميع الخلق وقيل المراد بهم الذين يتبعون الداعي وقال ابن جرير : الضمير يرجع إلى الملائكة أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها { ولا يحيطون به علما } أي بالله سبحانه لا تحيط علومهم بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته وقيل الضمير راجع إلى ما في الموضعين فإنهم لا يعلمون جميع ذلك (3/554)
111 - { وعنت الوجوه للحي القيوم } أي ذلت وخضعت قاله ابن الأعرابي قال الزجاج : معنى عنت في اللغة خضعت يقال عنى يعنو عنوا إذا خضع ومنه قيل للأسير : عان ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
( مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد )
وقيل هو من العناء بمعنى التعب { وقد خاب من حمل ظلما } أي خسر من حمل شيئا من الظلم وقيل هو الشرك (3/554)
112 - { ومن يعمل من الصالحات } أن الأعمال الصالحة { وهو مؤمن } بالله لأن العمل لا يقبل من غير إيمان بل هو شرط في القبول { فلا يخاف ظلما } يصاب به من نقص ثواب في الآخرة { ولا هضما } الهضم النقص والكسر يقال هضمت لك من حقي : أي جططته وتركته وهذا يهضم الطعام : أي ينقص ثقله وامرأة هضيم الكشح : أي ضامرة البطن وقرأ ابن كثير ومجاهد { لا يخف } بالجزم جوابا لقوله : ومن يعمل من الصالحات وقرأ الباقون { يخاف } على الخبر
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلا أتاه فقال رأيت قوله : { ونحشر المجرمين يومئذ زرقا } وأخرى { عميا } قال : إن يوم القيامة فيه حالات يكونون في حال زرقا وفي حال عميا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله { يتخافتون بينهم } قال يتساررون وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { أمثلهم طريقة } قال : أوفاهم عقلا وفي لفظ قال : أعلمهم في نفسه وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : قالت قريش كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة ؟ فنزلت { ويسألونك عن الجبال } الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فيذرها قاعا صفصفا } قال : لا نبات فيه { لا ترى فيها عوجا } قال : واديا { ولا أمتا } قال رابية وأخرج عبد بن حميد ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه سئل عن قوله : { قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } قال : كان ابن عباس يقول : هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { عوجا } قال ميلا { ولا أمتا } قال : الأمت الأثر مثل الشراك وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوي السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمنونه فذلك قول الله { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له } وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في الآية : قال لا عوج عنه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وخشعت الأصوات } قال : سكنت { فلا تسمع إلا همسا } قال : الصوت الخفي وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { إلا همسا } قال : صوت وطء الأقدام وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال : الصوت الخفي وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : سر الحديث وصوت الأقدام وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وعنت الوجوه } قال : ذلت وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة مثله وأخرج عبد بن حميد ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : خشعت وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : خضعت وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { وعنت الوجوه } الركوع والسجود وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج { وقد خاب من حمل ظلما } قال : شركا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة { وقد خاب من حمل ظلما } قال : شركا { فلا يخاف ظلما ولا هضما } قال : ظلما : أن يزاد في سيئاته { ولا هضما } قال : ينقص من حسناته وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : لا يخاف أن يظلم في سيئاته ولا يهضم في حسناته وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه { ولا هضما } قال : غصبا (3/554)
قوله : 113 - { وكذلك أنزلناه } معطوف على قوله { كذلك نقص عليك } أي مثل ذلك الإنزال أنزلناه : أي القرآن حال كونه { قرآنا عربيا } أي بلغة العرب ليفهموه { وصرفنا فيه من الوعيد } بينا فيه ضروبا من الوعيد تخويفا وتهديدا أو كررنا فيه بعضا منه { لعلهم يتقون } أي كي يخافوا الله فيتجنبوا معاصيه ويحذروا عقابه { أو يحدث لهم ذكرا } أي اعتبارا واتعاظا وقيل ورعا وقيل شرفا وقيل طاعة وعبادة لأن الذكر يطلق عليها وقرأ الحسن أو نحدث بالنون (3/556)
114 - { فتعالى الله الملك الحق } لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء : أي جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون في صفاته فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب وأنه الحق أي ذو الحق { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } أي يتم إليك وحيه قال المفسرون : كان النبي صلى الله عليه و سلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا منه على ما كان ينزل عليه منه فنهاه الله عن ذلك ومثله قوله : { لا تحرك به لسانك لتعجل به } على ما يأتي إن شاء الله وقيل المعنى : ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش من قبل أن تقضي بالنون ونصب وحيه { وقل رب زدني علما } أن سل ربك زيادة العلم بكتابه (3/556)
115 - { ولقد عهدنا إلى آدم } اللام هي الموطئة للقسم والجملة المستأنفة مقررة لما قبلها من تصريف الوعيد أي لقد أمرناه ووصيناه والمعهود محذوف وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة ومعنى { من قبل } أي من قبل هذا الزمان { فنسي } قرأ الأعمش بإسكان الياء والمراد بالنسيان هنا ترك العمل بما وقع به العهد إليه وينتهي عنه وبه قال أكثر المفسرين وقيل النسيان على حقيقته وأنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه وكان آدم مأخوذا بالنسيان في ذلك الوقت وإن كان النسيان مرفوعا عن هذه الأمة والمراد من الآية تسلية النبي صلى الله عليه و سلم على القول الأول أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم كذا قال ابن جرير والقشيري واعترضه ابن عطية قائلا بأن كون آدم مماثلا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء وقرئ فنسي بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنيا للمفعول : أي فنساه إبليس { ولم نجد له عزما } العزم في اللغة توطين النفس على الفعل والتصميم عليه والمضي على المعتقد في أي شيء كان وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر وقيل العزم الصبر أي لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة قال النحاس : وهو كذلك في اللغة يقال لفلان عزم : أي صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها ومنها { كما صبر أولو العزم من الرسل } وقيل المعنى : ولم نجد له عزما على الذنب وبه قال ابن كيسان : وقيل لم نجد له رأيا معزوما عليه وبه قال ابن قتيبة (3/556)
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه والعامل في إذ مقدر : أي 116 - { و } اذكر { إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازما بطريق الأولى وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى (3/557)
ومعنى 117 - { فتشقى } فتتعب في تحصيلر ما لا بد منه في المعاش كالحرث والزرع ولم يقل فتشقيا لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده (3/557)
ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال : 118 - { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى } أي في الجنة والمعنى : أن لك فيها أن تمتعا بأنواع المعايش وتنعما بأصناف النعم من المأكل الشهية والملابس البهية فإنه لما نفي عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له (3/557)
وهكذا قوله : 119 - { وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الري ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو يقال ضحى الرجل يضحى ضحوا : إذا برز للشمس فأصابه حرها فذكر سبحانه ها هنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش وتعب الكد في تحصيله ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والري والكسوة والكن وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله وإن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحل به التعب والنصب مما يدفع الجوع والعري والظمأ والضحو فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى قال الفراء : هو أن يأكل من كد يديه وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما { وأنك لا تظمأ } بفتح أن وقرأ الباقون بكسرها على العطف على إن لك (3/557)
120 - { فوسوس إليه الشيطان } قد تقدم تفسيره في الأعراف في قوله : { فوسوس لهما الشيطان } أي أنهى إليه وسوسته وجملة { قال يا آدم } إلى آخره إما بدل من وسوس أو مستأنفة بتقدير سؤال كأنه قيل : فماذا قال له في وسوسته ؟ { شجرة الخلد } هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا { وملك لا يبلى } أي لا يزول ولا ينقضي (3/558)
121 - { فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما } قد تقدم تفسير هذا وما بعده في الأعراف قال الفراء : ومعنى طفقا في العربية : أقبلا وقيل جعلا يلصقان عليهما من ورق التين { وعصى آدم ربه فغوى } أي عصاه بالأكل من الشجرة { فغوى } فضل عن الصواب أو عن مطلوبه وهو الخلود بأكل تلك الشجرة وقيل فسد عليه عيشة بنزوله إلى الدنيا وقيل جهل موضع رشده وقيل بشم من كثرة الأكل قال ابن قتيبة : أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدم ونية صحيحة فنحن نقول : عصى آدم ربه فغوى انتهى قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم قلت : لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه وكما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين ومما قلته في هذا المعنى :
( عصى أبو العالم وهو الذي ... من طينة صوره الله )
( وأسجد الأملاك من أجله ... وصير الجنة مأواه )
( أغواه إبليس فمن ذا أنا المسـ ... كين إن إبليس أغواه ) (3/558)
122 - { ثم اجتباه ربه } أي اصطفاه وقربه قال ابن فورك : كانت المعصية من آدم قبل النبوة بدليل ما في هذه الآية فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد ذكر المعصية وإذا كانت المعصية قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا { فتاب عليه وهدى } أي تاب عليه من معصيته وهداه إلى الثبات على التوبة قيل وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء بقولهما { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } وقد مر وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { أو يحدث لهم } أي القرآن { ذكرا } قال : جدا وورعا وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ولا تعجل بالقرآن } يقول : لا تعجل حتى نبينه لك وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال : لطم رجل امرأته فجاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم تطلب قصاصا فجعل النبي صلى الله عليه و سلم بينهما القصاص فأنزل الله { ولا تعجل بالقرآن } الآية فوقف النبي صلى الله عليه و سلم حتى نزلت { الرجال قوامون على النساء } الآية أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { ولا تعجل } الآية قال : لا تتله على أحد حتى نتمه لك وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن منده في التوحيد والطبراني في الصغير وصححه عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي وأخرج عبد الغني وابن سعد عن ابن عباس { ولقد عهدنا إلى آدم } أن لا تقرب الشجرة { فنسي } فترك عهدي { ولم نجد له عزما } قال : حفظا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { فنسي } فترك { ولم نجد له عزما } يقول : لم نجعل له عزما وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } قال : لا يصيبك فيها عطش ولا حر وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلمها مائة عام لا يقطعها وهي شجرة الخلد ] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ حاج آدم موسى قال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره علي قبل أن يخلقني قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فحج آدم موسى ] (3/558)
قوله : 123 - { قال اهبطا } قد مر تفسيره في البقرة : أي انزلا من الجنة إلى الأرض خصمهما الله سبحانه بالهبوط لأنهما أصل البشر ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال : { بعضكم لبعض عدو } والجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن يقال خاطبهما في هذا وما بعده خطاب الجمع لأنهما منشأ الأولاد ومعنى { بعضكم لبعض عدو } تعاديهم في أمر المعاش ونحوه فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام { فإما يأتينكم مني هدى } بإرسال الرسل وإنزال الكتب { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (3/560)
124 - { ومن أعرض عن ذكري } أي عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه ولم يتبع هداي { فإن له معيشة ضنكا } أي فإن له في هذه الدنيا معيشة ضنكا : أي عيشا ضيقا يقال : منزل ضنك وعيش ضنك مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث قال عنترة :
( إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل )
وقرئ ضنكي بضم الضاد على فعلى ومعنى الآية : أن الله عز و جل جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشا هنيا غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه كما قال سبحانه : { فلنحيينه حياة طيبة } وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشا ضيقا وفي تعب ونصب ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب فهو في الأخرى أشد تعبا وأعظم ضيقا وأكثر نصبا وذلك معنى { ونحشره يوم القيامة أعمى } أي مسلوب البصر وقيل المراد بالعمى عن الحجة وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها وقد قيل إن المراد بالعيشة الضنكي عذاب القبر وسيأتي ما يرجح هذه ويقويه (3/560)
125 - { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } في الدنيا (3/560)
126 - { قال كذلك } أي مثل ذلك فعلت أنت ثم فسره بقوله : { أتتك آياتنا فنسيتها } أي أعرضت عنها وتركتها ولم تنظر فيها { وكذلك اليوم تنسى } أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا تنسى : أي تترك في العمى والعذاب في النار قال الفراء : يقال إنه يخرج بصيرا من قبره فيعمى في حشره (3/560)
127 - { وكذلك نجزي من أسرف } أي مثل ذلك الجزاء نجزيه : والإسراف الانهماك في الشهوات وقيل الشرك { ولم يؤمن بآيات ربه } بل كذب بها { ولعذاب الآخرة أشد } أي أفظع من المعيشة الضنكى { وأبقى } أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع
وقد أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة ] وذلك أن الله يقول : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قافل : أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة ثم قرأ { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } قال : لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا في قوله : { معيشة ضنكا } قال : عذاب القبر ولفظ عبد الرزاق قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه وقد روي موقوفا قال ابن كثير : الموقوف أصح وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { فإن له معيشة ضنكا } قال : المعيشة الضنكى أن يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة ] وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه بأطول منه قال ابن كثير : رفعه منكر جدا وأخرج ابن أبي شيبة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { فإن له معيشة ضنكا } قال : عذاب القبر قال ابن كثير بعد إخراجه : إسناد جيد وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود في قوله : { فإن له معيشة ضنكا } قال : عذاب القبر ومجموع ما ذكرنا هنا يرجع تفسير المعيشة الضنكى بعذاب القبر وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن ابن مسعود أنه فسر المعيشة الضنكى بالشقاء وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وعن عكرمة في قوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى } قال : عمي عليه كل شيء إلا جهنم وفي لفظ : لا يبصر إلا النار وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله : { وكذلك نجزي من أسرف } قال : من أشرك بالله (3/560)
قوله : 128 - { أفلم يهد لهم } الاستفهام للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كما مر غير مرة والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وفاعل يهد هو الجملة المذكورة بعدها والمفعول محذوف وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجمل لا تقع فاعلا وجوزه غيرهم قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم قال النحاس : وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها وقال الزجاج : المعنى أو لم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه وحقيقته تدل على الهدى فالفاعل هو الهدى وقال { كم } في موضع نصب بأهلكنا وقيل إن فاعل يهد ضمير لله أو للرسول والجملة بعده تفسره ومعنى الآية على ما هو الظاهر : أفلم يتبين لأهل مكة خبر من { أهلكنا قبلهم من القرون } حال كون القرون { يمشون في مساكنهم } ويتقلبون في ديارهم أو حال كون هؤلاء يمشون في مساكن القرون اللذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة فيرون بلاد الأمم الماضية والقرون الخالية خاوية حاربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك وقرأ ابن عباس والسلمي نهد بالنون والمعنى على هذه القراءة واضح وجملة { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } تعليل للإنكار وتقرير للهداية والإشارة بقوله ذلك إلى مضمون كم أهلكنا إلى آخره والنهي : جمع نهية وهي العقل : أي لذوي العقول التي تنهي أربابها عن القبيح (3/562)
129 - { ولولا كلمة سبقت من ربك } أي ولولا الكلمة السابقة وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الدار الآخرة { لكان } عقاب ذنوبهم { لزاما } أي لازما لهم لا ينفك عنهم بحال ولا يتأخر وقوله : { وأجل مسمى } معطوف على كلمة قاله الزجاج وغيره والأجل المسمى هو يوم القيامة أو يوم بدر واللزام مصدر لازم قيل ويجوز عطف وأجل مسمى على الضمير المستتر في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد : أي لكان الأخذ العاجل { وأجل مسمى } لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود وفيه تعسف ظاهر (3/562)
ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر فقال 130 - { فاصبر على ما يقولون } من أنك ساحر كذاب ونحو ذلك من مطاعنهم الباطلة والمعنى : لا تحتفل بهم فإن لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر وقيل هذا منسوخ بآية القتال { وسبح بحمد ربك } أي متلبسا بحمده قال أكثر المفسرين : والمراد الصلوات الخمس كما يفيده قوله : { قبل طلوع الشمس } فإنه إشارة إلى صلاة الفجر { وقبل غروبها } فإنه إشارة إلى صلاة العصر { ومن آناء الليل } العتمة والمراد بالآناء الساعات وهي جمع إنى بالكسر والقصر وهو الساعة ومعنى { فسبح } أي فصل { وأطراف النهار } أي المغرب والظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول وأول طرف النهار الآخر وقيل إن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله : { وقبل غروبها } لأنها هي وصلاة العصر قبل غروب الشمس وقيل المراد بالآية صلاة التطوع ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات : أي قول القائل سبحان الله لم يكن ذلك بعيدا من الصواب والتسبيح في هذه الأوقات : أي قول القائل سبحان الله لم يكن ذلك بعيدا من الصواب والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة ولكنه مجاز والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي وجملة { لعلك ترضى } متعلقة بقوله { فسبح } : أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك هذا على قراءة الجمهور وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم { ترضى } بضم التاء مبنيا للمفعول : أي يرتضيك ربك (3/563)
131 - { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } قد تقدم تفسير هذه الآية في الحجر والمعنى : لا تطل نظر عينيك وأزواجا مفعول متعنا وزهرة منصوبة على الحال أو بفعل محذوف : أي جعلنا أو أعطينا ذكر معنى هذا الزجاج وقيل هي بدل من الهاء في به باعتبار محله وهو النصب لا باعتبار لفظه فإنه مجرور كما تقول مررت به أخاك ورجح الفراء النصب على الحال ويجوز أن تكون بدلا ويجوز أن تكون منتصبة على المصدر مثل { صبغة الله } و { عبد الله } و { زهرة الحياة الدنيا } زينتها وبهجتها بالنبات وغيره وقرأ عيسى بن عمر زهرة بفتح الهاء وهي نور النبات واللام في { لنفتنهم } فيه متعلق بمتعنا : أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة ابتلاء منا لهم كقوله : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم } وقيل لنعذبهم وقيل لنشدد عليهم في التكليف { ورزق ربك خير وأبقى } أي ثواب الله وما ادخر لصالحي عباده في الآخرة خير مما رزقهم في الدنيا على كل حال وأيضا فإن ذلك لا ينقطع وهذا ينقطع وهو معنى وأبقى وقيبل المراد بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها والأول أولى لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي وإن كان حلالا طيبا { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } (3/563)
132 - { وأمر أهلك بالصلاة } أمره الله سبحانه بأن يأمر أهله بالصلاة والمراد بهم أهل بيته وقيل جميع أمته ولم يذكر ها هنا الأمر من الله له بالصلاة بل قصر الأمر على أهله إما لكون إقامته لها أمرا معلوما أو لكون أمره بها قد تقدم في قوله : { وسبح بحمد ربك } إلى آخر الآية أو لكون أمره بالأمر لأهله أمرا له ولهذا قال : { واصطبر عليها } أن اصبر على الصلاة ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا { لا نسألك رزقا } أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك وتشتغل بذلك عن الصلاة { نحن نرزقك } ونرزقهم ولا نكلفك ذلك { والعاقبة للتقوى } أي العاقبة المحمودة وهي الجنة لأهل التقوى على حذف المضاف كما قال الأخفش وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها تدور دوائر الخير (3/564)
133 - { وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه } أي قال كفار مكة : هلا يأتينا محمد بآية من آيات ربه كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء ؟ وذلك كالناقة والعصا أو هلا يأتينا محمد بآ ] ة من آيات ربه كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء ؟ وذلك كالناقة والعصا أو هلا يأتينا بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه ؟ فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله : { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } يريد بالصحف الأولى التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة وفيها التصريح بنبوته والتبشير به وذلك يكفي فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم وقيل المعنى : أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم وقيل المراد أو لم تأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن فإنه برهان لما في سائر الكتب المنزلة وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص { أولم تأتهم } بالتاء الفوقية وقرأ الباقون بالتحتية لأن معنى البينة البيان والبرهان فذكروا الفعل اعتبارا بمعنى البينة واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قال الكسائي : ويجوز بينة بالتنوين قال النحاس : إذا نونت بينة ورفعت جعلت ما بدلا منها وإذا نصبت فعلى الحال والمعنى : أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبينا وهذا على ما يقتضيه الجواز النحوي وإن لم تقع القراءة به (3/564)
134 - { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله } أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه و سلم أو من قبل إتيان البينة لنزول القرآن { لقالوا } يوم القيامة { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } أي هلا أرسلت إلينا رسولا في الدنيا { فنتبع آياتك } التي يأتي بها الرسول { من قبل أن نذل } بالعذاب في الدنيا { ونخزى } بدخول النار وقرئ نذل ونخزى على البناء للمفعول وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم ولهذا حكى الله عنهم أنهم { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء } (3/564)
135 - { قل كل متربص فتربصوا } أي قل لهم يا محمد كل واحد منا ومنكم متربص : أي منتظر لما يؤول إليه الأمر فتربصوا أنتم { فستعلمون } عن قريب { من أصحاب الصراط السوي } أي فستعلمون بالنصر والعاقبة من هو من أصحاب الصراط المستقيم { ومن اهتدى } من الضلالة ونزع عن الغواية ومن في الموضعين في محل رفع بالابتداء قال النحاس : والفراء يذهب إلى أن معنى { من أصحاب الصراط السوي } من لم يضل وإلى أن معنى { من اهتدى } من ضل ثم اهتدى وقيل من في الموضعين في محل نصب وكذا قال الفراء وحكى عن الزجاج أنه قال : هذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وقرأ أبو رافع فسوف تعلمون وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري السوي على فعلي وردت هذه القراءة بأن تأنيث الصراط شاذ وقيل هي بمعنى الوسط والعدل اهـ
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { أفلم يهد لهم } ألم نبين لهم { كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم } نحو عاد وثمود ومن أهلك من الأمم وفي قوله : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } يقول هذا من مقاديم الكلام يقول لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : الأجل المسمى الكلمة التي سبقت من ربك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لكان لزاما } قال موتا وأخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وسبح بحمد ربك } الآية قال : هي الصلاة المكتوبة وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس } قال : قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا وقرأ { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } ] وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عمارة بن رؤبة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي وأبو نعيم عن أبي رافع قال : [ أضاف النبي صلى الله عليه و سلم ضيفا ولم يكن عند النبي صلى الله عليه و سلم ما يصلحه فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو سلفنا دقيقا إلى هلال رجب فقال : لا إلا برهن فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب بدرعي الجديد فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية { ولا تمدن عينيك } ] وكأنه يعزيه عن الدنيا وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال بركات الأرض ] وأخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت { وأمر أهلك بالصلاة } كان النبي صلى الله عليه و سلم يجيء إلى باب علي صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول : الصلاة رحمكم الله { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء نحوه وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ثابت قال [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله : يا أهلاه صلوا صلوا ] قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب بإسناد قال السيوطي صحيح عن عبد الله بن سلام قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وقرأ { وأمر أهلك بالصلاة } الآية (3/565)
سورة الأنبياء
وهي مكية قال القرطبي في قول الجميع وهي مائة واثنتا عشرة آية
وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال : بنو إسرائيل والكهف ومريم والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه و سلم واديا ما في العرب واد أفضل منه وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من عبدك فقال عامر : لا حاجة لي في قطعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }
يقال قرب الشيء واقترب وقد اقترب الحساب : أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه قال الزجاج : المعنى 1 - { اقترب للناس } وقت { حسابهم } أي القيامة كما في قوله : { اقتربت الساعة } واللام في للناس متعلقة بالفعل وتقديمها هي ومجرورها على الفاعل لإدخال الروعة ومعنى اقتراب وقت الحساب : دنوه منهم لأنه في كل ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها وقيل لأن كل ما هو آت قريب وموت كل إنسان قيام ساعته والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان فما بقي من الدنيا أقل مما مضى والمراد بالناس العموم وقيل المشركون مطلقا وقيل كفار مكة وعلى هذا الوجه قيل المراد بالحساب : عذابهم يوم بدر وجملة { وهم في غفلة معرضون } في محل نصب على الحال : أي هم في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله والقيام بفرائضه والانزجار عن مناهيه (3/566)
2 - { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } من لابتداء الغاية وقد استدل بوصف الذكر لكونه محدثا على أن القرآن محدث لأن الذكر هنا هو القرآن وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول فالمعنى محدث تنزيله وإنما النزاع في الكلام النفسي وهذه المسألة : أعني قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده والقصة أشهر من أن تذكر ومن أحب الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي بالقرآن مخلوق بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ولا نقل عنهم كلمة في ذلك فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه والتمسك بأذيال الوقف وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله والأمر لله سبحانه وقوله { إلا استمعوه } استثناء مفرغ في محل نصب على الحال وجملة { وهم يلعبون } في محل نصب على الحال أيضا من فاعل استمعوه (3/568)
و3 - { لاهية قلوبهم } حال أيضا والمعنى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب وقرئ لاهية بالرفع كما قرئ محدث بالرفع { وأسروا النجوى الذين ظلموا } النجوى اسم من التناجي والتناجي لا يكون إلا سرا فمعنى إسرار النجوى : المبالغة في الإخفاء وقد اختلف في محل الموصول على أقوال : فقيل إنه في محل رفع بدل من الواو في أسروا قاله المبرد وغيره وقيل هو في محل رفع على الذم وقيل هو فاعل لفعل محذوف والتقدير : يقول الذين ظلموا واختار هذا النحاس وقيل في محل نصب بتقدير أعني : وقيل في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد وقيل هو في محل رفع على أنه فاعل أسروا على لغة من يجوز الجمع بين فاعلين : كقولهم أكلوني البراغيث ذكر ذلك الأخفش ومثله { ثم عموا وصموا كثير منهم } ومنه قول الشاعر :
( فاهتدين البغال للأغراض )
وقول الآخر :
( ولكن دنا بي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه )
وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير : أي والذين ظلموا أسروا النجوى قال أبو عبيدة : أسروا هنا من الأضداد : يحتمل أن يكون بمعنى أخفوا كلامهم ويحتمل أن يكون بمعنى أظهروه وأعلنوه { هل هذا إلا بشر مثلكم } هذه الجملة بتقدير القول قبلها : أي قالوا هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشيء ؟ ويجوز أن تكون هذه الجملة بدلا من النجوى وهل بمعنى النفي : أي وأسروا هذا الحديث والهمزة في { أفتأتون السحر } للإنكار والفاء للعطف على مقدر كنظائره وجملة { وأنتم تبصرون } في محل نصب على الحال والمعنى : إذا كان بشرا مثلكم وكان الذي جاء به سحرا فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه فأطلع نبيه صلى الله عليه و سلم على ما تناجوا به (3/568)
وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال : 4 - { قال ربي يعلم القول في السماء والأرض } أي لا يخفى عليه شيء مما يقال فيهما وفي مصاحف أهل الكوفة { قال ربي } أي قال محمد : ربي يعلم القول فهو عالم بما تناجيتم به قيل القراءة الأولى أولى لأنهم أسروا هذا القول فأطلع الله رسول صلى الله عليه و سلم على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا قال النحاس : والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة آيتين { وهو السميع } لكل ما يسمع { العليم } بكل معلوم فيدخل في ذلك ما أسروا دخولا أوليا (3/566)
5 - { بل قالوا أضغاث أحلام } قال الزجاج : أي قالوا الذي تأتي به أضغاث أحلام قال القتيبي : أضغاث الأحلام الرؤيا الكاذبة وقال اليزيدي : الأضغاث ما لم يكن له تأويل وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا القول ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم : أضغاث أحلام قال : { بل افتراه } أي بل قالوا افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا { بل هو شاعر } وما أتى به من جنس الشعر وفي هذا الاضطراب منهم والتلون والتردد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه ؟ أو كانوا قد علموا أنه حق وأنه من عند الله ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان ثم بعد هذا كله قالوا : { فليأتنا بآية } وهذا جواب شرط محذوف : أي إن لمن يكن كما قلنا : فليأتنا بآية { كما أرسل الأولون } أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها وصالح بالناقة ومحل الكاف الجر صفة لآية ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك كما قال { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } قال الزجاج : اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال (3/570)
فقال الله مجيبا لهم 6 - { ما آمنت قبلهم من قرية } أي قبل مشركي مكة : ومعنى من قرية من أهل قرية ووصف القرية بقوله : { أهلكناها } أي أهلكنا أهلها أو أهلكناها بإهلاك أهلها وفيه بيان أن سنة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ومن في من قرية مزيدة للتأكيد والمعنى : ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء فكيف نعطيهم ما يقترحون وهم أسوة من قبلهم والهمزة في { أفهم يؤمنون } للتقريع والتوبيخ والمعنى : إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا (3/570)
ثم أجاب سبحانه عن قولهم : هل هذا إلا بشر مثلك بقوله : 7 - { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } أي لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالا من البشر ولم نرسل إليهم ملائكة كما قال سبحانه { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا } وجملة يوحي إليهم مستأنفة لبيان كيفية الإرسال ويجوز أن تكون صفة لرجالا : أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم قرأ حفص وحمزة والكسائي { نوحي } بالنون وقرأ الباقون بالياء التحتية ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وأهل الذكر هم أهل الكتابين : اليهود والنصارى ومعنى إن كنتم لا تعلمون : إن كنتم لا تعلمون أن رسل الله من البشر كذا قال أكثر المفسرين وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه وتقدير الكلام : إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنة لا عن الرأي البحت وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة : سميناها القول المفيد في حكم التقليد (3/570)
ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال : 8 - { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون والجسد جسم الإنسان قال الزجاج : هو واحد يعني الجسد ينبئ عن جماعة : أي وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام فجملة لا يأكلون الطعام صفة لجسدا : أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل بل هو محتاج إلى ذلك { وما كانوا خالدين } بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون فأجاب الله عليهم بهذا (3/571)
وجملة 9 - { ثم صدقناهم الوعد } معطوفة على جملة يدل عليها السياق والتقدير : أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم الوعد : أي أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم ولهذا قال سبحانه : { فأنجيناهم ومن نشاء } من عبادنا المؤمنين والمراد إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي والمراد بـ { المسرفين } المجاوزون للحد في الكفر والمعاصي وهم المشركون
وقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وهم في غفلة معرضون } قال : في الدنيا وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قال : من أمر الدنيا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { بل قالوا أضغاث أحلام } أي فعل الأحلام وإنما هي رؤيا رآها { بل افتراه بل هو شاعر } كل هذا قد كان منه { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } كما جاء عيسى وموسى بالبينات والرسل { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها } أي أن الرسل كانوا إذا جاءوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه و سلم : إذا كان من ما تقوله حقا ويسرك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبا فأتاه جبريل فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا وإن شئت استأنيت بقومك قال : بل أستأني بقومي فأنزل الله { ما آمنت قبلهم } الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } يقول : لم نجعلهم جسدا ليس يأكلون الطعام إنما جعلناهم جسدا يأكلون الطعام (3/571)
نبه عباده على عظيم نعمته عليهم بقوله : 10 - { لقد أنزلنا إليكم كتابا } يعني القرآن { فيه ذكركم } صفة لكتابا والمراد بالذكر هنا الشرف : أي فيه شرفكم كقوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } وقيل : فيه ذكركم : أي ذكر أمر دينكم وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب وقيل فيه حديثكم قاله مجاهد وقيل مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم وقيل فيه العمل بما فيه حياتكم قاله سهل بن عبد الله وقيل فيه موعظتكم والاستفهام في قوله { أفلا تعقلون } للتوبيخ والتقريع : أي أفلا تعقلون أن الأمر كذلك أو لا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر (3/572)
ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال : 11 - { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } كم في محل نصب على أنها مفعول قصمنا وهي الخبرية المفيدة للتكثير والقصم كسر الشيء ودقه يقال : قصمت ظهر فلان إذا كسرته واقتصمت سنه إذا انكسرت والمعنى هنا : الإهلاك والعذاب وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة وجملة كانت ظالمة في محل جر صفة لقرية وفي الكلام مضاف محذوف : أي ولك قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين : أي كافرين بالله مكذبين بآياته والظلم في الأصل وضع الشيء في غير موضعه وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان { وأنشأنا بعدها قوما آخرين } أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها قوما ليسوا منها (3/573)
12 - { فلما أحسوا بأسنا } أي أدركوا أو رأوا عذابنا وقال الأخفش : خافوا وتوقعوا أو البأس العذاب الشديد { إذا هم منها يركضون } الركض الفرار والهرب والانهزام وأصله من ركض الرجل الدابة برجليه يقال ركض الفرس إذا كده بساقيهن ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا ومنه { اركض برجلك } والمعنى : أنهم يهربون منها راكضين دوابهم (3/573)
فقيل لهم : 13 - { لا تركضوا } أي لا تهربوا قيل إن الملائكة كنادتهم عند فرارهم وقيل إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم والمترف المنعم يقال أترف فلان : أي وسع عليه في معاشه { ومساكنكم } أي وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها { لعلكم تسألون } أي تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم وقيل المعنى : لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به وقيل لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم قال المفسرون وأهل الأخبار : إن المراد بهذه الآية أهل حضور من اليمن وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبيا اسمه شعيب بن مهدم وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضين وبينه وبين حضور نحو بريد قالوا : وليس هو شعيبا صاحب مدين قلت : وآثار القبر بجبل ضين موجودة والعامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم (3/573)
14 - { قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين } أي قالوا لما قالت لهم الملائكة لا تركضوا يا ويلنا : أي بإهلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا مستوجبين العذاب بما قدمنا فاعترفوا على أنفسهم بالظلم الموجب للعذاب (3/573)
15 - { فما زالت تلك دعواهم } أي ما زالت هذه الكلمة دعواهم : أي دعوتهم والكلمة هي قولهم يا ويلنا أي يدعون بها ويرددونها { حتى جعلناهم حصيدا } أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل والحصيد هنا بمعنى المحصود ومعنى { خامدين } أنهم ميتون من خمدت النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ (3/573)
16 - { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } أي لم نخلقهما عبثا ولا باطلا بل للتنبيه على أن لهما خالقا قادرا يجب امتثال أمره وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها (3/574)
17 - { لو أردنا أن نتخذ لهوا } اللهو ما يتلهى به قيل اللهو الزوجة والولد وقيل الزوجة فقط وقيل الولد فقط قال الجوهري : قد يكنى باللهو عن الجماع ويدل على ما قاله قول امرئ القيس :
( ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي )
ومنه قول الآخر :
( وفيهن ملهى للصديق ومنظر )
والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها وجواب لو قوله : { لاتخذناه من لدنا } أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم قال المفسرون : أي من الحور العين وفي هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقيل أراد الرد على من قال : الأصنام أو الملائكة بنات الله وقال ابن قتيبة : الآية رد على النصارى { إن كنا فاعلين } قال الواحدي قال المفسرون : ما كنا فاعلين قال الفراء والمبرد والزجاج : يجوز أن تكون إن للنفي كما ذكره المفسرون : أي ما فعلناه ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولدا ويجوز أن تكون للشرط : أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا قال الفراء : وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية (3/574)
18 - { بل نقذف بالحق على الباطل } هذا إضراب عن اتخاذ اللهو : أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل { فيدمغه } أي يقهره وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ومنه الدامغة قال الزجاج : المعنى نذهبه ذهاب الصغار والإذلال وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب قيل أراد بالحق الحجة اهـ وبالباطل شبههم وقيل الحق المواعظ والباطل المعاصي وقيل الباطل الشيطان وقيل كذبهم ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته { فإذا هو زاهق } أي زائل ذاهب وقيل هالك تالف والمعنى متقارب وإذا هي الفجائية { ولكم الويل مما تصفون } أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم له بما لا يجوز عليه وقيل الويل واد في جهنم وهو وعيد لقريش بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك ومن هي التعليلية (3/574)
19 - { وله من في السماوات والأرض } عبيدا وملكا وهو خالقهم ورازقهم ومالكهم فكيف يجوز أن يكون له بعض مخلوقاته شريكا يعبد كما يعبد وهذه الجملة مقررة لما قبلها { ومن عنده } يعني الملائكة وفيه رد على القائلين بأن الملائكة بنات الله وفي التعبير عنهم بكونهم عند إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم وأنهم بمنزلة المقربين عند الملوك ثم وصفهم بقوله : { لا يستكبرون عن عبادته } أي لا يتعاظمون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه والتذلل له { ولا يستحسرون } أي لا يعيون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب يقال : حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل واستحسر وتحسر مثله وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى قال أبو زيد : لا يكلون وقال ابن الأعرابي : لا يفشلون قال الزجاج : معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها كقوله : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته } وقيل المعنى : لا ينقطعون عن عبادته وهذه المعاني متقاربة (3/574)
20 - { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } أي ينزهون الله سبحانه دائما لا يضعفون عن ذلك ولا يسأمون وقيل يصلون الليل والنهار قال الزجاج : مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء فكذلك تسبيحهم دائم وهذه الجملة إما مستأنفة جواب سؤال مقدر أو في محل نصب على الحال (3/575)
21 - { أم اتخذوا آلهة من الأرض } قال المفضل : مقصود هذا الاستفهام الجحد : أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء وأم هي المنقطعة والهمزة لإنكار الوقوع قال المبرد : إن أم هنا بمعنى هل : أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى ولا تكون أم هنا بمعنى بل لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر أم مع الاستفهام فتكون أم المنقطعة فيصح المعنى ومن الأرض متعلق باتخذوا أو بمحذوف هو صفة لآلهة ومعنى { هم ينشرون } هم يبعثون الموتى والجملة صفة لآلهة وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار والتجهيل لا نفس الاتخاذ فإنه واقع منهم لا محالة والمعنى : بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم ينشرون الموتى وليس الأمر كذلك فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك قرأ الجمهور { ينشرون } بضم الياء وكسر الشين من أنشره : أي أحياه وقرأ الحسن بفتح الياء : أي يحيون ولا يموتون (3/575)
ثم إنه سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدد الآلهة فقال : 22 - { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } أي لو كان في السموات والأرض آلهة معبودون غير الله لفسدتا : أي لبطلتا يعني السموات والأرض بما فيهما من المخلوقات قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة : إن إلا هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة لآلهة ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها وظهر فيه إعراب غير التي جاءت إلا بمعناها ومنه قول الشاعر :
( وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان )
وقال الفراء : إن إلا هنا بمعنى سوى والمعنى : لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا ووجه الفساد أن كون مع الله إلها آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادرا على الاستبداد بالتصرف فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ويحدث بسببه الفساد اهـ { فسبحان الله رب العرش عما يصفون } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان : أي تنزه عز و جل عما لا يليق به من ثبوت الشريك له وفيه إرشاد للعباد أن ينزهوا الرب سبحانه عما لا يليق به (3/575)
23 - { لا يسأل عما يفعل } هذه الجملة مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره { وهم } أي العباد { يسألون } عما يفعلون أي يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده وقيل إن المعنى أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون قيل المراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلها (3/576)
24 - { أم اتخذوا من دونه آلهة } أي بل اتخذوا وفيه إضراب وانتقال من إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم بطلب البرهان منهم ولهذا قال { قل هاتوا برهانكم } على دعوى أنها آلهة أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك لا من عقل ولا نقل لأن دليل العقل قد مر بيانه وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله : { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وذكر الأمم السالفة وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم فأقيموا أنتم برهانكم وقيل المعنى : هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه قال الزجاج : قيل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله فهل ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله ؟ وقيل معنى الكلام الوعيد والتهديد : أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء وحكى أبو حاتم أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ : { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } بالتنوين وكسر الميم وزعم أنه لا وجه لهذه القراءة وقال الزجاج في توجيه هذه القراءة إن المعنى هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي وقيل ذكر كائن من قبلي : أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال : { بل أكثرهم لا يعلمون الحق } وهذا إضراب من جهته سبحانه وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل وقرأ ابن محيصن والحسن الحق بالرفع على معنى هذا الحق أو هو الحق وجملة { فهم معرضون } تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون : أي فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول فلا يتأملون حجة ولا يتدبرون في برهان ولا يتفكرون في دليل (3/576)
25 - { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه } قرأ حفص وحمزة والكسائي { نوحي } بالنون وقرأ الباقون بالياء : أي نوحي إليه { أنه لا إله إلا أنا } وفي هذا تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدم من قوله : { هذا ذكر من معي } وختم الآية بالأمر لعباده بعبادته فقال { فاعبدون } فقد اتضح لكم دليل العقل ودليل النقل وقامت عليكم حجة الله
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم } قال : شرفكم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : فيه حديثكم وفي رواية عنه قال : فيه دينكم وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : بعث الله نبيا من حمير يقال له شعيب فوثب إليه عبد فضربه بعصا فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء وفيهم أنزل الله { وكم قصمنا } إلى قوله { خامدين } وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن الكلبي في قوله : { وكم قصمنا من قرية } قال : هي حضور بني أزد وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } قال : ارجعوا إلى دوركم وأموالكم وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فما زالت تلك دعواهم } قال : هم أهل حضور كانوا قتلوا نبيهم فأرسل الله عليهم بختنصر فقتلهم وفي قوله : { جعلناهم حصيدا خامدين } قال : بالسيف ضرب الملائكة وجوههم حتى رجعوا إلى مساكنهم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال حدثني رجل من الجزريين قال : كان اليمن قريتان يقال لإحداهما حضور وللأخرى قلابة فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم فلما أترفوا بعث الله إليهم نبيا فدعاهم فقتلوه فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم فجهز لهم جيشا فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين إليه فجهز إليهم جيشا آخر أكثف من الأول فهزموهم أيضا فلما رأى بختنصر ذلك غزاهم هو بنفسه فقاتلوهم فهزمهم حتى خرجوا منها يركضون فسمعوا مناديا يقول : { لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم } فرجعوا فسمعوا صوتا مناديا قول : يا لثارات النبي فقتلوا بالسيف فهي التي قال الله { وكم قصمنا من قرية } إلى قوله { خامدين } قلت : وقرى حضور معروفة الآن بيننها وبين مدينة صنعاء نحو بريد في جهة الغرب منها وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله { حصيدا خامدين } قال : كخمود النار إذا طفئت وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { لو أردنا أن نتخذ لهوا } قال : اللهو الولد وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله : { لو أردنا أن نتخذ لهوا } قال : النساء وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا يستحسرون } يقول : لا يرجعون وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { لا يسأل عما يفعل } قال : بعباده { وهم يسألون } قال عن أعمالهم وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك نحوه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس قال : ما في الأرض قوم أبغض إلي من القدرية وما ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله قال الله { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } (3/577)
قوله : 26 - { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } هؤلاء القائلون هم خزاعة فإنهم قالوا الملائكة بنات الله وقيل هم اليهود ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولدا وقد قالت اليهود : عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيح ابن الله وقالت طائفة من العرب : الملائكة بنات الله ثم نزه عز و جل نفسه فقال : { سبحانه } أي تنزيها له عن ذلك وهو مقول على ألسنة العباد ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال { بل عباد مكرمون } أي ليسوا كما قالوا بل هم عباد لله سبحانه مكرمون بكرامته لهم مقربون عنده وقريء مكرمون بالتشديد وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى : بل اتخذ عبادا (3/579)
ثم وصفهم بصفة أخرى فقال : 27 - { لا يسبقونه بالقول } أي لا يقولون شيئا حتى يقوله : أو يأمرهم به كذا قال ابن قتيبة وغيره وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم وقرئ لا يسبقونه بضم الباء من سبقته أسبقه { وهم بأمره يعملون } أي هم العاملون بما يأمرهم الله به التابعون له المطيعون لربهم (3/579)
27 - { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } هذه الجملة تعليل لما قبلها : أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة وما خلفهم وهو الدنيا ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدموا وأخروا لم يعملوا عملا ولم يقولوا قولا إلا بأمره { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } أي يشفع الشافعون له وهو من رضي عنه وقيل هم أهل لا إله إلا الله وقدد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة { وهم من خشيته مشفقون } أي من خشيتهم منه فالمصدر مضاف إلى المفعول والخشية الخوف من التعظيم والإشفاق الخوف من التوقع والحذر : أي لا يأمنون مكر الله (3/579)
29 - { ومن يقل منهم إني إله من دونه } أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله قال المفسرون : عنى بهذا إبليس لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس وقيل الإشارة إلى جميع الأنبياء { فذلك نجزيه جهنم } أي فذلك القائل على سبيل الفرض والتقدير : نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله كما نجزي غيره من المجرمين { كذلك نجزي الظالمين } أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها والمراد بالظالمين المشركون (3/579)
30 - { أولم ير الذين كفروا } الهمزة للإنكار والواو للعطف على المقدر والرؤية هي القلبية : أي ألم يتفكروا أو لم يعلموا { أن السماوات والأرض كانتا رتقا } قال الأخفش : إنما قال كانتا لأنهما صنفان أي جماعتا السموات والأرضين كما قال سبحانه { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } وقال الزجاج : إنما قال كانتا لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد لأن السموات كانت سماء واحدة وكذلك الأرضون والرتق السد ضد الفتق يقال رتقت الفتق أرتقته فارتقق : أي التأم ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج : يعني أنهما كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما وقال رتقا ولم يقل رتقين لأنه مصدر والتقدير : كانتا ذواتي رتق ومعنى { ففتقناهما } ففصلناهما : أي فصلنا بعضهما من بعض فرفعنا السماء وأبقينا الأرض مكانها { وجعلنا من الماء كل شيء حي } أي أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء فيشمل الحيوان والنبات والمعنى أن الماء سبب حياة كل شيء وقيل المراد بالماء هنا النطفة وبه قال أكثر المفسرين وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه وقد تقدم تفسير هذه الآية والهمزة في { أفلا يؤمنون } للإنكار عليهم حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية (3/580)
31 - { وجعلنا في الأرض رواسي } أي جبالا ثوابت { أن تميد بهم } الميد التحرك والدوران أي لئلا تتحرك وتدور بهم أو كراهة ذلك وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى { وجعلنا فيها } أي في الرواسي أو في الأرض { فجاجا } قال أبو عبيدة : هي المسالك وقال الزجاج : كل مخترق بين جبلين فهو فج و { سبلا } تفسير للفجاج لأن الفج قد لا يكون طريقا نافذا مسلوكا { لعلهم يهتدون } إلى مصالح معاشهم وما تدعوا إليه حاجاتهم (3/580)
32 - { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } عن أن يقع ويسقط على الأرض كقوله : { ويمسك السماء أن تقع على الأرض } وقال الفراء : محفوظا بالنجوم من الشيطان كقوله : { وحفظناها من كل شيطان رجيم } وقيل محفوظا لا يحتاج إلى عماد وقيل المراد بالمحفوظ هنا المرفوع وقيل محفوظا عن الشرك والمعاصي وقيل محفوظا عن الهدم والنقض { وهم عن آياتها معرضون } أضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها وذلك كالشمس والقمر ونحوهما ومعنى الإعراض أنهم لا يتدبرون فيها ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان (3/580)
33 - { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر } هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم وخلق الشمس والقمر أي جعل الشمس آية النهار والقمر آية الليل ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدم بيانه في سبحان { كل في فلك يسبحون } أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون : أي يجرون في وسط الفلك ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء والجمع في الفعل باعتبار المطالع قال سيبويه : إنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل جعل الضمير عنهن ضمير العقلاء ولم يقل يسبحن أو تسبح وكذا قال الفراء وقال الكسائي : إنما قال يسبحون لأنه رأس آية والفلك واحد أفلاك النجوم وأصل الكلمة من الدوران ومنه فلك المغزل لاستدارتها (3/580)
34 - { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } أي دوام البقاء في الدنيا { أفإن مت } بأجلك المحتوم { فهم الخالدون } أي أفهم الخالدون : قال الفراء : جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت قال : ويجوز حذف الفاء وإضمارها والمعنى : إن مت فهم يموتون أيضا فلا شماتة في الموت وقرئ { مت } بكسر الميم وضمها لغتان : وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } (3/581)
35 - { كل نفس ذائقة الموت } أي زائقة مفارقة جسدها فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائنا ما كان { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } أي نختبركم بالشدة والرخاء لننظر كيف شكركم وصبركم والمراد أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوكم وفتنة مصدر لنبلوكم من غير لفظه { وإلينا ترجعون } لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : قالت اليهود إن الله عز و جل صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة فقال الله تكذيبا لهم { بل عباد مكرمون } أي الملائكة ليس كما قالوا بل عباد أكرمهم بعبادته { لا يسبقونه بالقول } يثني عليهم { ولا يشفعون } قال : لا تشفع الملائكة يوم القيامة { إلا لمن ارتضى } قال : لأهل التوحيد وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { إلا لمن ارتضى } قال : لأهل التوحيد لمن رضي عنه وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال : قول لا إله إلا الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في الآية قال : الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إله إلا الله وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا قوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } قال : [ إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { كانتا رتقا ففتقناهما } قال : فتقت السماء بالغيث وفتقت الأرض بالنبات وأخرج ابن أبي حاتم عنه { كانتا رتقا } قال : لا يخرج منهما شيء وذكر مثل ما تقدم وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أيضا من طريق أخرى وأخرج ابن جرير عنه { كانتا رتقا } قال : ملتصقتين وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية في قوله : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } قال : نطفة الرجل وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { وجعلنا فيها فجاجا سبلا } قال : بين الجبال وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كل في فلك } قال : دوران { يسبحون } قال يجرون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه { كل في فلك } قال : فلك كفلكة المغزل { يسبحون } قال : يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : هو فلك السماء وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قال : دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه و سلم وقد مات فقبله وقال : وانبياه واخليلاه واصفياه ثم تلا { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } الآية وقوله : { إنك ميت وإنهم ميتون } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } قال : نبتليكم بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلالة (3/581)
قوله : 36 - { وإذا رآك الذين كفروا } يعني المستهزئين من المشركين { إن يتخذونك إلا هزوا } أي ما يتخذونك إلا مهزوءا بك والهزء السخرية وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم { إنا كفيناك المستهزئين } والمعنى : ما يفعلون بك إلا اتخذوك هزوءا { أهذا الذي يذكر آلهتكم } هو على تقدير القول : أي يقولون أهذا الذي فعلى هذا هو جواب إذا ويكون قوله : { إن يتخذونك إلا هزوا } اعتراضا بين الشرط وجوابه ومعنى يذكرها يعيبها قال الزجاج : يقال فلان يذكر الناس : أي يغتابهم ويذكرهم بالعيوب وفلان يذكر الله : أي يصفه بالتعظيم ويثني عليه وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه وعلى ما قالوا لا يكون الذكر في كلام العرب العيب وحيث يراد به العيب يحذف منه السوء قيل ومن هذا قول عنترة :
( لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب )
أي لا تعيبي مهري وجملة { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } في محل نصب على الحال : أي وهم بالقرآن كافرون أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون والمعنى : أنهم يعيبون على النبي صلى الله عليه و سلم أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد أو القرآن كافرون فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم فالضمير الأول مبتدأ خبره كافرون وبذكر متعلق بالخبر والضمير الثاني تأكيد (3/583)
37 - { خلق الإنسان من عجل } أي جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل قال الفراء : كأنه يقول بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة وقال الزجاج : خوطبت العرب بما تعقل والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء خلقت منه كما تقول : أنت من لعب وخلقت من لعب تريد المبالغة في وصفه بذلك ويدل على هذا المعنى قوله : { وكان الإنسان عجولا } والمراد بالإنسان الجنس وقيل المراد بالإنسان آدم فإنه لما خلقه الله ونفخ فيه الروح صار الروح في رأسه فذهب لينهض قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه فوقع فقيل { خلق الإنسان من عجل } كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسدي والكلبي ومجاهد وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني : العجل الطين بلغة حمير وأنشدوا :
( والنخل تنبت بين الماء والعجل )
وقيل إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } وقيل : نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب وقال الأخفش : معنى خلق الإنسان من عجل أنه قيل له كن فكان وقيل إن هذه الآية من المقلوب : أي خلق العجل من الإنسان وقد حكي هذا عن أبي عبيدة والنحاس والقول الأول أولى { سأريكم آياتي } أي سأريكم نقماتي منكم بعذاب النار { فلا تستعجلون } أي لا تستعجلوني بالإتيان به فإنه نازل بكم لا محالة : وقيل المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلى الله عليه و سلم من المعجزات وما جعله الله له من العاقبة المحمودة والأول أولى (3/583)
ويدل عليه قولهم 38 - { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أي متى حصول هذا الوعد الذي تعدنا به من العذاب قالوا ذلك على جهة الاستهزاء والسخرية وقيل المراد بالوعد هنا القيامة ومعنى { إن كنتم صادقين } إن كنتم يا معشر المسلمين صادقين في وعدكم والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين الذين يتلون الآيات القرآنية المنذرة بمجيء الساعة وقرب حضور العذاب (3/584)
وجملة 39 - { لو يعلم الذين كفروا } ما بعدها مقررة لما قبلها : أي لو عرفوا ذلك الوقت وجواب لو محذوف والتقدير : لو علموا الوقت الذي { لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون } لما تستعجلوا الوعيد وقال الزجاج : في تقدير الجواب ليعلموا صدق الوعد وقيل لو علموه ما أقاموا على الكفر وقال الكسائي : هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة : أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية ويدل عليه قوله : { بل تأتيهم بغتة } وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب الجوانب في استلزام الإحاطة بها للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على دفعها من جانب من جوانبهم ومحل حين لا يكفون النصب على أنه مفعول العلم وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه ومعنى { ولا هم ينصرون } ولا ينصرهم أحد من العباد فيدفع ذلك عنهم (3/584)
وجملة 40 - { بل تأتيهم بغتة } معطوفة على يكفون : أي لا يكفونها بل تأتيهم العدة أو النار أو الساعة بغتة : أي فجأة { فتبهتهم } قال الجوهري : بهته أخذه بغتا وقال الفراء فتبهتهم : أي تحيرهم وقيل فتفجؤهم { فلا يستطيعون ردها } أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم فالضمير راجع إلى النار وقيل راجع إلى الوعد بتأويله بالعدة وقيل راجع إلى الحين بتأويله بالساعة { ولا هم ينظرون } أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار (3/584)
وجملة 41 - { ولقد استهزئ برسل من قبلك } مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم وتعزيته كأنه قال : إن استهزأ بك هؤلاء فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل على كثرة عددهم وخطر شأنهم { فحاق بالذين سخروا منهم } أي أحاط ودار بسبب ذلك بالذين سخروا من أولئك الرسل وهزأوا بهم { ما كانوا به يستهزئون } ما موصولة أو مصدرية : أي فأحاط بهم الأمر الذي كانوا يستهزئون به أو فأحاط بهم استهزاؤهم : أي جزاؤه على وضع السبب موضع المسبب أو نفس الاستهزاء إن أريد به العذاب الأخروي (3/585)
42 - { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } أي يحرسكم ويحفظكم والكلاءة الحراسة والحفظ يقال : كلأه الله كلأه بالكسر أي حفظه وحرسه قال ابن هرمة :
( إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها )
أي قل يا محمد لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتوبيخ : من يحرسكم ويحفظكم بالليل والنهار من بأس الرحمن وعذابه الذي تستحقون حلوله بكم ونزوله عليكم ؟ وقال الزجاج : معناه من يحفظكم من بأس الرحمن وقال الفراء : المعنى من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة وحكى الكسائي والفراء : من يكلوكم بفتح اللام وإسكان الواو { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } أي عن ذكره سبحانه فلا يذكرونه ولا يخطرونه ببالهم بل يعرضون عنه أو عن القرآن أو عن مواعظ الله أو عن معرفته (3/585)
43 - { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا } أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة للإضراب والانتقال عن الكلام السابق المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه والدفع عنها والمعنى : بل هم آلهة تمنعهم من عذابنا وقيل فيه تقديم وتأخير والتقدير : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم ثم وصف آلهتهم هذه التي زعموا أنها تنصرهم بما يدل على الضعف والعجز فقال : { لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون } أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم ولا هم منا يصحبون : أي ولا هم يجارون من عذابنا قال ابن قتيبة : أي لا يجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب الجار والعرب تقول صحبك الله : أي حفظك وأجارك ومنه قول الشاعر :
( ينادي بأعلى صوته متعوذا ... ليصحب منا والرماح دواني )
تقول العرب : أنا لك جار وصاحب من فلان أي مجير منه قال المازني : هو من أصحبت الرجل إذا منعته
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : [ مر النبي صلى الله عليه و سلم على أبي سفيان وأبي جهل وهم يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال : ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي فسمعها النبي صلى الله عليه و سلم فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوفه وقال : ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك وقال لأبي سفيان : أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية فنزلت هذه الآية { وإذا رآك الذين كفروا } ] قلت : ينظر من الذي روى عنه السدي ؟ وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : لما نفخ في آدم الروح صار في رأسه فعطس فقال : الحمد لله فقالت : الملائكة يرحمك الله فذهب لينهض قبل أن تمور في رجليه فوقع فقال الله : { خلق الإنسان من عجل } وقد أخرج نحو هذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأخرج نحوه أيضا ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد وكذا أخرج ابن المنذر عن ابن جريج وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { قل من يكلؤكم } قال : يحرسكم وفي قوله : { ولا هم منا يصحبون } قال : لا ينصرون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا هم منا يصحبون } قال : لا يجارون وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية : قال لا يمنعون (3/585)
لما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلا إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتع بالحياة العاجلة هو من عند الله لا من مانع يمنعهم من الهلاك ولا من ناصر ينصرهم على أسباب التمتع فقال : 44 - { بل متعنا هؤلاء وآباءهم } يعني أهل مكة متعهم الله بما أنعم عليهم { حتى طال عليهم العمر } فاغتروا بذلك وظنوا أنهم لا يزالون كذلك فرد سبحانه عليهم قائلا { أفلا يرون } أي أفلا ينظرون فيرون { أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } فنفتحها بلدا بعد بلد وأرضا بعد أرض وقيل ننقصها بالقتل والسبي وقد مضى في الرعد الكلام على هذا مستوفى والاستفهام في قوله : { أفهم الغالبون } للإنكار والفاء للعطف على مقدر كنظائره : أي كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافنا ؟ وفي هذا إشارة إلى أن الغالبين هم المسلمون (3/587)
45 - { قل إنما أنذركم بالوحي } أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن وذلك شأني وما أمرني الله به وقوله : { ولا يسمع الصم الدعاء } إما من تتمة الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يقوله لهم أو من جهة الله تعالى والمعنى : أن من أصم الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء قرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميفع ولا يسمع بضم الياء وفتح الميم على ما لم يسم فاعله وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم : أي إنك يا محمد لا تسمع هؤلاء قال أبو علي الفارسي : ولو كان كما قال ابن عامر لكان إذا ما تنذرهم فيحسن نظم الكلام فأما { إذا ما ينذرون } فحسن أن يتبع قراءة العامة وقرأ الباقون بفتح الياء وفتح الميم ورفع الصم على أنه الفاعل (3/587)
46 - { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك } المراد بالنفحة القليل مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان ومنه قول الشاعر :
( وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها )
وقال المبرد : النفحة الدفعة من الشيء التي دون معظمه يقال نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة وقيل هي النصب وقيل هي الطرف والمعنى متقارب : أي ولئن مسهم أقل شيء من العذاب { ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين } أي ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفون عليها بالظلم (3/587)
47 - { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } الموازين جمع ميزان وهو يدل على أن هناك موازين ويمكن أن يراد ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع وقد ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية وقد مضى في الأعراف وفي الكهف في هذا ما يغني عن الإعادة والقسط صفة للموازين قال الزجاج : قسط مصدر يوصف به تقول : ميزان قسط وموازين قسط والمعنى : ذوات قسط والقسط العدل وقرئ القصط بالصاد والطاء ومعنى { ليوم القيامة } لأهل يوم القيامة وقيل اللام بمعنى في : أي في يوم القيامة { فلا تظلم نفس شيئا } أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء { وإن كان مثقال حبة من خردل } قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر برفع { مثقال } على أن كان تامة أي إن وقع أو وجد مثقال حبة وقرأ الباقون بنصب المثقال على تقدير : وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال حبة كذا قال الزجاج وقال أبو علي الفارسي : وإن كان الظلامة مثقال حبة قال الواحدي : وهذا أحسن لتقدم قوله : فلا تظلم نفس شيئا ومثقال الشيء ميزانه : أي وإن كان في غاية الخفة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر { أتينا بها } قرأ الجمهور بالقصر : أي أحضرناها وجئنا بها للمجازة عليها يقال آتي يؤاتي مؤاتاة : جازى { وكفى بنا حاسبين } أي كفى بنا محصين والحسب في الأصل معناه العد وقيل كفى بنا عالمين لأن من حسب شيئا علمه وحفظه وقيل كفى بنا مجازين على ما قدموه من خير وشر (3/588)
ثم شرع سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقا بقوله : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } فقال : 48 - { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين } المراد بالفرقان هنا التوراة لأن فيها الفرق بين الحلال والحرام وقيل الفرقان هنا هو النصر على الأعداء كما في قوله : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } قال الثعلبي : وهذا القول أشبه بظاهر الآية ومعنى وضياء أنهم استضاءوا بها في ظلمات الجهل والغواية ومعنى وذكرا الموعظة : أي أنهم يتعظون بما فيها وخص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بذلك (3/588)
ووصفهم بقوله : 49 - { الذين يخشون ربهم بالغيب } لأن هذه الخشية تلازم التقوى لأن هذه الخشية تلازم التقوى ويجوز أن يكون الموصول بدلا من المتقين أو بيانا له ومحل بالغيب النصب على الحال : أي يخشون عذابه وهو غائب عنهم أو هم غائبون عنه لأنهم في الدنيا والعذاب في الآخرة وقرأ ابن عباس وعكرمة ضياء بغير واو قال الفراء حذفت الواو والمجيء بها واحد واعترضه الزجاج بأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد { وهم من الساعة مشفقون } أي وهم من القيامة خائفون وجلون (3/589)
والإشارة بقوله : 50 - { وهذا ذكر مبارك } إلى القرآن قال الزجاج : المعنى وهذا القرآن ذكر لمن تذكر به وموعظة لمن اتعظ به والمبارك كثير البركة والخير وقوله : { أنزلناه } صفة ثانية للذكر أو خبر بعد خبر والاستفهام في قوله : { أفأنتم له منكرون } للإنكار لما وقع منهم من الإنكار : أي كيف تنكرون كونه منزلا من عند الله مع اعترافكم بأن التوراة منزلة من عنده (3/589)
51 - { ولقد آتينا إبراهيم رشده } أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل ومعنى { من قبل } أنه أعطى رشده قبل إيتاء موسى وهرون التوراة وقال الفراء : المعنى أعطيناه هداه من قبل النبوة : أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جن عليه فرأى الشمس والقمر والنجم وعلى هذا أكثر المفسرين وبالأول قال أقلهم { وكنا به عالمين } أنه موضع لإيتاء الرشد وأنه يصلح لذلك (3/589)
والظرف في قوله : 52 - { إذ قال لأبيه } متعلق بآتينا أو بمحذوف : أي اذكر حين قال : وأبوه هو آزر { وقومه } نمروذ ومن اتبعه والتماثيل الأصنام وأصل التمثال الشيء المصنوع مشابها لشيء من مخلوقات الله سبحانه يقال مثلث الشيء بالشيء : إذا جعلته مشابها له واسم ذلك الممثل تمثال أنكر عليهم عبادتها بقوله : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } والعكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء واللام في لها للاختصاص ولو كانت للتعدية لجيء بكلمة على : أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها ؟ وقيل إن العكوف مضمن معنى العبادة (3/589)
53 - { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء : أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشيا على طريقتهم وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية وإن العالم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل قالوا هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين وجوابهم هو ما أجاب به الخليل ها هنا (3/589)
54 - { قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } أي في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد ولا يلتبس على ذي عقل فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر وليس بعد هذا الضلال ضلال ولا يساوي هذا الخسران خسران وهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسنة رسوله كتابا قد دونت فيه اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها إما لقصور منه أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده وأبرزه واضح المنار
( كأنه علم في رأسه نار )
وقال هذا كتاب الله أو هذه سنة رسوله وأنشدهم :
( دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر )
فقالوا كما قال الأول :
( ما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد )
وقد أحسن من قال :
( يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح ) (3/589)
ثم لما سمع أولئك مقالة الخليل 55 - { قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } أي أجاد أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح قال مضربا عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد (3/590)
56 - { بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } أي خلقهن وأبدعهن { وأنا على ذلكم } الذي ذكرته لكم من كون ربكم هو رب السموات والأرض دون ما عداه { من الشاهدين } أي العالمين به المبرهنين عليه فإن الشاهد على الشيء هو من كان عالما به مبرهنا عليه مبينا له
وقد أخرج أحمد والترمذي وابن جرير في تهذيبه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة [ أن رجلا قال : يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعتابك إياهم فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا عليك ولا لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل فجعل الرجل يبكي ويهتف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما تقرأ كتاب الله { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } فقال له الرجل يا رسول الله ما أجد لي ولهم خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار ] رواه أحمد هكذا : حدثنا أبو نوح الأقراد أخبرنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره وفي معناه أحاديث وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } قال : التوراة وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال { الفرقان } الحق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة { وهذا ذكر مبارك } أي القرآن وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { ولقد آتينا إبراهيم رشده } قال : هديناه صغيرا وفي قوله : { ما هذه التماثيل } قال : الأصنام (3/590)
قوله : 57 - { وتالله لأكيدن أصنامكم } أخبرهم أنه سينتقل من المحاجة باللسان إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله سبحانه ومحاماة على دينه والكيد المكر : يقال كاده يكيده كيدا ومكيدة والمراد هنا الاجتهاد في كسر الأصنام : قيل إنه عليه الصلاة و السلام قال ذلك سرا وقيل سمعه رجل منهم { بعد أن تولوا مدبرين } أي بعد أن ترجعوا من عبادتها ذاهبين منطلقين قال المفسرون : كان لهم عيد في كل سنة يجتمعون فيه فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبنك ديننا فقال إبراهيم هذه المقالة (3/591)
والفاء في قوله : 58 - { فجعلهم جذاذا } فصيحة : أي فولوا فجعلهم جذاذا : الجذ القطع والكسر يقال جذذت الشيء قطعته وكسرته الواحد جذاذة والجذاذ ما كسر منه قال الجوهري : قال الكسائي : ويقال لحجارة الذهب الجذاذ لأنها تكسر قرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن { جذاذا } بكسر الجيم : أي كسرا وقطعا جمع جذيذ : وهو الهشيم مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف قال الشاعر :
( جذذ الأصنام في محرابها ... ذاك في الله العلي المقتدر )
وقرأ الباقون بالضم واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم : أي الحطام والرقاق فعال بمعنى مفعول وهذا هو الكيد الذي وعدهم به وقرأ ابن عباس وأبو السماك جذاذا بفتح الجيم { إلا كبيرا لهم } أي للأصنام { لعلهم إليه } أي إلى إبراهيم { يرجعون } فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم وقيل لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن الكاسر لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبرا فيعلمون حينئذ أنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضررا ولا تعلم بخير ولا شر ولا تخبر عن الذي ينوبها من الأمر وقيل لعلهم إلى الله يرجعون وهو بعيد جدا (3/591)
59 - { قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } في الكلام حذف والتقدير : فلما رجعوا من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم قالوا هذه المقالة والاستفهام للتوبيخ وقيل إن من ليست استفهامية بل هي مبتدأ وخبرها إنه لمن الظالمين : أي فاعل هذا ظالم (3/592)
والأول أولى لقولهم : 60 - { سمعنا فتى } إلخ فإنه قال بهذا بعضهم مجيبا للمستفهمين لهم وهذا القائل هو الذي سمع إبراهيم يقول : { تالله لأكيدن أصنامكم } ومعنى { يذكرهم } يعيبهم وقد سبق تحقيق مثل هذه العبارة وجملة { يقال له إبراهيم } صفة ثانية لفتى قال الزجاج : وارتفع إبراهيم على معنى : ياقل له هو إبراهيم فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف وقيل ارتفاعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله وقيل مرتفع على النداء
ومن غرائب التدقيقات النحوية وعجائب التوجيهات الإعرابية أن الأعلم الشنتمري الأشبيلي قال : إنه مرتفع على الإهمال قال ابن عطية : ذهب إلى رفعه بغير شيء والفتى : هو الشاب والفتاة الشابة (3/592)
61 - { قالوا فاتوا به على أعين الناس } القائلون هم السائلون أمروا بعضهم أن يأتي به ظاهرا بمرأى من الناس قيل إنه لما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فقالوا هذه المقالة ليكون ذلك حجة عليه يستحلون بها منه ما قد عزموا على أن يفعلوه به ومعنى { لعلهم يشهدون } لعلهم يحضرون عقابه حتى ينزجر غيره عن الاقتداء به في مثل هذا وقيل لعلهم يشهدون عليه بأنهم رأوه يكسر الأصنام أو لعلهم يشهدون طعنه على أصنامهم (3/592)
وجملة 62 - { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } مستأنفة جواب سؤال مقدر وفي الكلام حذف تقديره : فجاء إبراهيم حين أتوا به فاستفهموه هل فعل ذلك لإقامة الحجة عليه في زعمهم (3/592)
63 - { قال بل فعله كبيرهم هذا } أي قال إبراهيم مقيما للحجة عليهم مبكتا لهم بل فعله كبيرهم هذا مشيرا إلى الصنم الذي تركه ولم يكسره { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } أي إن كانوا ممن يمكنه النطق ويقدر على الكلام ويفهم ما نفال له فيجيب عنه بما يطابقه ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة لأنهم إذا قالوا إنهم لا ينطقون قال لهم : فكيف تعبدون من يعجز عن النطق ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه ؟ فهذا الكلام من باب فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته وقيل أراد إبراهيم عليه السلام بنسبة الفعل إلى ذلك الكبير من الأصنام أنه فعل ذلك لأنه غار وغضب من أن يعبد وتعبد الصغار معه إرشادا لهم إلى أن عبادة هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تدفع لا تستحسن في العقل مع وجود خالقها وخالقهم والأول أولى وقرأ ابن السميفع بل فعله بتشديد اللام على معنى بل فلعل الفاعل كبيرهم (3/593)
64 - { فرجعوا إلى أنفسهم } أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته المتفطن لصحة حجة خصمه المراجع لعقله وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقاولة بينهم وبين إبراهيم أن من لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن فعل به ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام يستحيل أن يكون مستحقا للعبادة ولهذا { قالوا إنكم أنتم الظالمون } أي قال بعضهم لبعض : أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الجمادات وليس الظالم من نسبتم الظلم إليه بقولكم : إنه لمن الظالمين (3/593)
65 - { ثم نكسوا على رؤوسهم } أي رجعوا إلى جهلهم وعنادهم شبه سبحانه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه وقيل المعنى : أنهم طأطأوا رؤوسهم خجلة من إبراهيم وهو ضعيف لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف وإسناد الفعل إليهم حتى يصح هذا التفسير بل قال : نكسوا على رؤوسهم وقرئ نكسوا بالتشديد ثم قالوا بعد أن نكسوا مخاطبين لإبراهيم { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } أي قائلين لإبراهيم لقد علمت أن النطق ليس من شأن هذه الأصنام (3/593)
فـ 66 - { قال } إبراهيم مبكتا لهم ومزريا عليهم { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا } من النفع { ولا يضركم } بنوع من أنواع الضررز (3/593)
ثم تضجر عليه السلام منهم فقال 67 - { أف لكم ولما تعبدون من دون الله } وفي هذا تحقير لهم ولمعبوداتهم واللام في لكم لبيان المتأفف به : أي لكم ولآلهتكم والتأفف صوت يدل على التضجر { أفلا تعقلون } أي ليس لكم عقول تتفكرون بها فتعلمون هذا الصنع القبيح الذي صنعتموه (3/593)
68 - { قالوا حرقوه } أي قال بعضهم لبعض لما أعيتهم الحيلة في دفع إبراهيم وعجزوا عن مجادلته وضاقت عليهم مسالك المناظرة حرقوا إبراهيم انصرافا منهم إلى طريق الظلم والغشم وميلا منهم إلى إظهار الغلبة بأي وجه كان وعلى أي أمر اتفق ولهذا قالوا { وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين } أي انصروها بالانتقام من هذا الذي فعل بها ما فعل إن كنتم فاعلين للنصر وقيل هذا القائل هو نمروذ وقيل رجل من الأكراد (3/594)
69 - { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } في الكلام حذف تقديره فأضرموا النار وذهبوا بإبراهيم إليها فعند ذلك قلنا : يا نار كوني ذات برد وسلام وقيل إن انتصاب سلاما على أنه مصدر لفعل محذوف : أي وسلمنا سلاما عليه (3/594)
70 - { وأرادوا به كيدا } أي مكرا { فجعلناهم الأخسرين } أي أخسر من كل خاسر ورددنا مكرهم عليهم فجعلنا لهم عاقبة السوء كما جعلنا لإبراهيم عاقبة الخير
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال : إني سقيم وقد كان بالأمس قال { تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين } فسمعه ناس منهم فلما خرجوا انطلق إلى أهله فأخذ طعاما ثم انطلق إلى آلهتهم فقربه إليهم فقال ألا تأكلون فكسرها إلا كبيرهم ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا فإذا هم بآلهتم قد كسرت وإذا كبيرهم في يده الذي كسر الأصنام قالوا من فعل هذا بآلهتنا ؟ فقال الذين سمعوا إبراهيم يقول { تالله لأكيدن أصنامكم } { سمعنا فتى يذكرهم } فجادلهم عند ذلك إبراهيم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { جذاذا } قال : حطاما وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : فتاتا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { بل فعله كبيرهم هذا } قال : عظيم آلهتهم وأخرج أبو داود والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث كلهن في الله : قوله { إني سقيم } ولم يكن سقيما وقوله لسارة أختي وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } ] وهذا الحديث هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بأطول من هذا وقد روى نحو هذا أبو يعلى من حديث أبي سعد وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما جمع لإبراهيم ما جمع وألقي في النار جعل خازن المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله ؟ فكان أمر الله أسرع قال الله { كوني بردا وسلاما } فلم يبق في الأرض نار إلا طفئت وأخرج أحمد وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني في عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن إبراهيم حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله ] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن ابن عمر قال : أول كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { يا نار كوني } قال : كان جبريل هو الذي ناداها وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي نحوه وأخرج ابن جرير عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال : جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن كعب قال : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار فكان فيها إما خمسين وإما أربعين قال : ما كنت أياما وليالي قط أطيب عيشا إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها (3/594)
قد تقدم أن لوطا هو ابن أخي إبراهيم فحكى الله سبحانه ها هنا أنه نجى إبراهيم ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين قال المفسرون : وهي أرض الشام وكانا بالعراق وسماها سبحانه مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها ولأنها معادن الأنبياء وأصل البركة ثبوت الخير ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح وقيل الأرض المباركة مكة وقيل بيت المقدس لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء وهي أيضا كثيرة الخصب وقد تقدم تفسير العالمين (3/595)
72 - { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } النافلة الزيادة وكان إبراهيم قد سأل الله سبحانه أن يهب له ولدا فوهب له إسحاق ثم وهب لإسحاق يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة : أي زيادة وقيل المراد بالنافلة هنا العطية قاله الزجاج وقيل النافلة هنا ولد الولد لأنه زيادة على الولد وانتصاب نافلة على الحال قال الفراء : النافلة يعقوب خاصة لأنه ولد الوالد { وكلا جعلنا صالحين } أي وكل واحد من هؤلاء الأربعة : إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب لا بعضهم دون بعض جعلناه صالحا عاملا بطاعة الله تاركا لمعاصيه وقيل المراد بالصلاح هنا النبوة (3/596)
73 - { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات ومعنى بأمرنا بأمرنا لهم بذلك : أي بما أنزلنا عليهم من الوحي { وأوحينا إليهم فعل الخيرات } أي أن يفعلوا الطاعات وقيل المراد بالخيرات شرائع النبوات { وكانوا لنا عابدين } أي كانوا لنا خاصة دون غيرنا مطيعين فاعلين لما نأمرهم به تاركين ما ننهاهم عنه (3/596)
74 - { ولوطا آتيناه حكما وعلما } انتصاب لوطا بفعل مضمر دل عليه قوله آتيناه : أي وآتينا لوطا آتيناه وقيل بنفس الفعل المذكور بعده وقيل بمحذوف هو اذكر والحكم النبوة والعلم المعرفة بأمر الدين وقيل الحكم : هو فصل الخصومات بالحق وقيل هو الفهم { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } القرية هي سدوم كما تقدم ومعنى تعمل الخبائث : يعمل أهلها الخبائث فوصف القرية بوصف أهلها والخبائث التي كانوا يعملونها هي اللواطة والضراط وخذف الحصى كما سيأتي ثم علل سبحانه ذلك بقوله : { إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } أي خارجين عن طاعة الله والفسوق الخروج كما تقدم (3/596)
75 - { وأدخلناه في رحمتنا } بإنجائنا إياه من القوم المذكورين ومعنى في رحمتنا : في أهل رحمتنا وقيل في النبوة وقيل في الإسلام وقيل في الجنة { إنه من الصالحين } الذين سبقت لهم منا الحسنى (3/596)
76 - { ونوحا إذ نادى } أي واذكر نوحا إذ نادى ربه { من قبل } أي من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين { فاستجبنا له } دعاءه { فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } أي من الغرق بالطوفان والكرب الغم الشديد والمراد بأهله المؤمنون منهم (3/596)
77 - { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } أي نصرناه نصرا مستتبعا للانتقام من القوم المذكورين وقيل المعنى : منعناه من القوم وقال أبو عبيدة : من بمعنى على ثم علل سبحانه ذلك بقوله : { إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين } أي لم نترك منهم أحدا بل أغرقنا كبيرهم وصغيرهم بسبب إصرارهم على الذنب
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب في قوله : { إلى الأرض التي باركنا فيها } قال : الشام وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي مالك نحوه وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : لوط كان ابن أخي إبراهيم وأخرج ابن جرير عنه { ووهبنا له إسحاق } قال : ولدا { ويعقوب نافلة } قال : ابن الابن وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم نحوه أيضا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { ووهبنا له إسحاق } قال : أعطيناه { ويعقوب نافلة } قال : عطية (3/596)
قوله : 78 - { وداود } معطوف على نوحا ومعمول لعامله المذكور أو المقدر كما مر { وسليمان } معطوف على داود والظرف في { إذ يحكمان } متعلق بما عمل في داود : أي واذكرهما وقت حكمهما والمراد من ذكرهما ذكر خبرهما ومعنى { في الحرث } في شأن الحرث وقيل كان زرعا وقيل كرما واسم الحرث يطلق عليهما { إذ نفشت فيه } أي تفرقت وانتشرت فيه { غنم القوم } قال ابن السكيت : النفش بالتحريك أن تنتشر الغنم بالليل من غير راع { وكنا لحكمهم شاهدين } أي لحكم الحاكمين وفيه جواز إطلاق الجمع على الاثنين وهو مذهب طائفة من أهل العربي كالزمخشري والرضي وتقدمهما إلى القول به الفراء وقيل المراد الحاكمان والمحكوم عليه ومعنى شاهدين حاضرين والجملة اعتراضية (3/597)
وجملة 79 - { ففهمناها سليمان } معطوفة على إذ يحكمان لأنه في حكم الماضي والضمير في ففهمناها يعود إلى القضية المفهومة من الكلام أو الحكومة المدلول عليها بذكر الحكم قال المفسرون : دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان : أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث : إن هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فلم تبق منه شيئا فقال : لك رقاب الغنم فقال سليمان : أو غير ذلك ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كان كليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم فقال داود : القضاء ما قضيت وحكم بذلك قال النحاس : إنما قضى داود بالغنم لصاحب الحرث لأن ثمنها كانا قريبا منه وأما في حكم سليمان فقد قيل : كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء قال جماعة من العلماء : إن داود حكم بوحي وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود فيكون التفهيم على هذا بطريق الوحي وقال الجمهور : إن حكمهما كان باجتهاد وكلام أهل العلم في حكم اجتهاد الأنبياء معروف وهكذا ما ذكره أهل العلم في اختلاف المجتهدين وهل كل مجتهد مصيب أو الحق مع واحد ؟ وقد استدل المستدلون بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر فسماه النبي صلى الله عليه و سلم مخطئا فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين وإلا لزم توقف حكمه عز و جل على اجتهادات المجتهدين واللازم باطل فالملزوم مثله وأيضا يستلزم أن تكون العين التي اختلف اجتهاد المجتهدين فيها بالحل والحرمة حلالا في حكم الله سبحانه وهذا اللازم كل مجتهد له اجتهاد في تلك الحادثة ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه فيها إلا بانقطاع المجتهدين واللازم بأطل فالملزوم مثله وقد أوضحنا هذه المسألة بما لا مزيد عليه في المؤلف الذين سميناه القول المفيد في حكم التقليد وفي أدب الطلب ومنتهى الأرب فمن أحب الوقوف على تحقيق الحق فليرجع إليهما فإن قلت : فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية ؟ قلت : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عينا أو قيمة وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء وأدخلوا فسادها في عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم [ جرح العجماء جبار ] قياسا لجميع أفعالها على جرحها ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن رب الماشيةما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار ويجاب عنه بحديث البراء ومما يدل على أن هذين الحكمين من داود وسليمان كانا بوحي من الله سبحانه لا باجتهاد قوله : { وكلا آتينا حكما وعلما } فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين وهما إن كانا خاصين فصدقهما على هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدم على صدقهما على غيرها وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم والعلم وهو ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه ومما يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم من عدم كون حكم داود حكما شرعيا : أي وكل واحد منهما أعطيناه حكما وعلما كثيرا لا سليمان وحده ولما مدح داود سليمان على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل واحد ممنهما فبدأ بداود فقال : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } التسبيح إما حقيقة أو مجاز وقد قال بالأول جماعة وهو الظاهر وذلك أن داود كان إذا سبح سبحت الجبال معه وقيل إنها كانت تصلي معه إذا صلى وهو معنى التسبيح وقال بالمجاز جماعة آخرون وحملوا التسبيح على تسبيح من رآها تعجبا من عظيم خلقها وقدرة خالقها وقيل كانت الجبال تسير مع داود فكان من رآها سائرة معه سبح { والطير } معطوف على الجبال وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف : أي والطير مسخرات ولا يصح العطف على الضمير في يسبحن لعدم التأكيد والفضل { وكنا فاعلين } يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير (3/598)
80 - { وعلمناه صنعة لبوس لكم } اللبوس عند العرب السلاح كله درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا قال الهذلي :
( وعندي لبوس في اللباس كأنه ) إلخ
والمراد في الآية الدروع خاصة وهو بمعنى الملبوس كالركوب والجلوب والجار والمجرور أعني لكم متعلق بعلمنا { لتحصنكم من بأسكم } قرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح { لتحصنكم } بالتاء الفوقية بإرجاع الضمير إلى الصنعة أو إلى اللبوس بتأويل الدرع وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل وابن أبي إسحاق { لتحصنكم } بالنون بإرجاع الضمير إليه سبحانه وقرأ الباقون بالياء بإرجاع الضمير إلى اللبوس أو إلى داود أو إلى الله سبحانه ومعنى { من بأسكم } من حربكم أو من وقع السلاح فيكم { فهل أنتم شاكرون } لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم والاستفهام في معنى الأمر (3/599)
ثم ذكر سبحانه ما خص به سليمان فقال : 81 - { ولسليمان الريح } أي وسخرنا له الريح { عاصفة } أي شديدة الهبوب يقال عصفت الريح : أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف وانتصاب الريح على الحال وقرأ عبد الرحمن الأعرج والسلمي وأبو بكر { ولسليمان الريح } برفع الريح على القطع مما قبله ويكون مبتدأ وخبره تجري وأما على قراءة النصب فيكون محل { تجري بأمره } النصب أيضا على الحالية أو على البدلية { إلى الأرض التي باركنا فيها } وهي أرض الشام كما تقدم { وكنا بكل شيء عالمين } أي بتدمير كل شيء (3/600)
82 - { ومن الشياطين } أي وسخرنا من الشياطين { من يغوصون له } في البحار ويستخرجون منها ما يطلبه منهم وقيل إن من مبتدأ وخبره ما قبله والغوص النزول تحت الماء يقال غاص في الماء والغواص : الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ { ويعملون عملا دون ذلك } قال الفراء : أي سوى ذلك وقيل أراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك مما يسخرهم فيه { وكنا لهم حافظين } أي لأعمالهم وقال الفراء : حافظين لهم من أن يهربوا أو يتمنعوا أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره قال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا وكان دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار (3/600)
83 - { وأيوب إذ نادى ربه } معطوف على ما قبله والعامل فيه : إما المذكور أو المقدر كما مر والعامل في الظرف وهو إذ نادى ربه هو العامل في أيوب { أني مسني الضر } أي بأني مسني الضر وقرئ بكسر إني
واختلف في الضر الذي نزل به ماذا هو فقيل إنه قام ليصلي فلم يقدر على النهوض وقيل إنه أقر بالعجز فلا يكون ذلك منافيا للصبر وقيل انقطع الوحي عنه أربعين يوما وقيل إن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فأكلت منه فصاح مسني الضر وقيل كان الدود تناول بدنه فيصبر حتى تناولت قلبه وقيل إن ضره قول إبليس لزوجته اسجدي لي فخاف ذهاب إيمانها وقيل إنه تقذره قومه وقيل أراد بالضر الشماتة وقيل غير ذلك ولما نادى ربه متضرعا إليه وصفه بغاية الرحمة فقال : { وأنت أرحم الراحمين } (3/600)
فأخبر الله سبحانه باستجابته لدعائه فقال : { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر } أي شفاه الله مما كان به وأعاضه بما ذهب عليه ولهذا قال سبحانه : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قيل تركهم الله عز و جل له وأعطاه مثلهم في الدنيا قال النحاس : والإسناد بذلك صحيح وقد كان مات أهله جميعا إلا امرأته فأحياهم الله في أقل من طرف البصر وآتاه مثلهم معهم وقيل كان ذلك بأن ولد له ضعف الذين أماتهم الله فيكون معنى الآية على هذا : آتيناه مثل أهله ومثلهم معهم وانتصاب { رحمة من عندنا } على العلة : أي آتيناه ذلك لرحمتنا له { وذكرى للعابدين } أي وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر
واختلف في مدة إقامته على البلاء : فقيل سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال وقيل ثلاثين سنة وقيل ثماني عشرة سنة (3/601)
85 - { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل } أي واذكر هؤلاء وإدريس هو أخنوخ وذا الكفل إلياس وقيل يوشع بن نون وقيل زكريا والصحيح أنه رجل من بني إسرائيل كان لا يتورع عن شيء من المعاصي فتاب فغفر الله له وقيل إن اليسع لما كبر قال : من يتكفل لي بكذا وكذا من خصال الخير حتى استخلفه ؟ فقال رجل أنا فاستخلفه وسمي ذا الكفل وقيل كان رجلا يتكفل بشأن كل إنسان إذا وقع في شيء من المهمات وقيل غير ذلك وقد ذهب الجمهور إلى أنه ليس بنبي وقال جماعة : هو نبي ثم وصف الله سبحانه هؤلاء بالصبر فقال : { كل من الصابرين } أي كل واحد من هؤلاء من الصابرين على القيام بما كلفهم الله به (3/601)
86 - { وأدخلناهم في رحمتنا } أي في الجنة أو في النبوة أو في الجير على عمومه ثم علل ذلك بقوله : { إنهم من الصالحين } أي الكاملين في الصلاح (3/601)
87 - { وذا النون } أي واذكر ذا النون وهو يونس بن متى ولقب ذا النون لابتلاع الحوت له فإن النون من أسماء الحوت وقيل سمي ذا النون لأنه رأى صبيا مليحا فقال دسموا نونته لئلا تصيبه العين وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي أن نونة الصبي هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير ومعنى دسموا سودوا { إذ ذهب مغاضبا } أي اذكر ذا النون وقت ذهابه مغاضبا : أي مراغما قال الحسن والشعبي وسعد بن جبير : ذهب مغاضبا لربه واختاره ابن جرير والقتيبي والمهدوي وحكى عن ابن مسعود : قال النحاس : وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح والمعنى : مغاضبا من أجل ربه كما تقول غضبت لك : أي من أجلك وقال الضحاك : ذهب مغاضبا لقومه وحكى عن ابن عباس : وقالت فرقة منهم الأخفش : إنما خرج مغاضبا للملك الذي كان في وقته واسمه حزقيا وقيل لم يغاضب ربه ولا قومه ولا الملك ولكنه مأخوذ من غضب إذا أنف وذلك أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف الله عنهم العذاب فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج عنهم ومن استعمال الغضب في هذا المعنى قول الشاعر :
( وأغضب أن تهجى تميم بعامر )
أي آنف { فظن أن لن نقدر عليه } قرأ الجمهور { نقدر } بفتح النون وكسر الدال
واختلف في معنى الآية على هذه القراءة فقيل معناها : أنه وقع في ظنه أن الله تعالى لا يقدر على معاقبته وقد حكي هذا القول عن الحسن وسعيد بن جبير وهو قول مردود فإن هذا الظن بالله كفر ومثل ذلك لا يقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذهب جمهور العلماء أن معناها : فظن أن لن نضيق عليه كقوله : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يضيق ومنه قوله : { ومن قدر عليه رزقه } يقال قدر وقدر وقتر وقتر : أي ضيق وقيل : هو من القدر الذي هو القضاء والحكم : أي فظن أن لن نقضي عليه العقوبة : قاله قتادة ومجاهد واختاره الفراء والزجاج مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة قال أحمد بن يحيى ثعلب : هو من التقدير ليس من القدرة يقال منه : قدر الله لك الخير يقدره قدرا وأنشد ثعلب :
( فليست عشيات اللوى برواجع ... لنا أبدا ما أبرم السلم النضر )
( ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر مع ذلك الشكر )
أي ما تقدره وتقضي به ومما يؤيد ما قاله هؤلاء قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري فظن أن نقدر بضم النون وتشديد الدال من التقدير وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس ويؤيد ذلك أيضا قراءة عبيد بن عمير وقتادة والأعرج أن لن يقدر بضم الياء والتشديد مبنيا للمفعول وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن يقدر بضم الياء وفتح الدال مخففا مبنيا للمفعول
وقد اختلف العلماء في تأويل الحديث الصحيح في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله أن يحرقوه إذا مات ثم قال : فوالله لئن قدر الله علي الحديث كما اختلفوا في تأويل هذه الآية والكلام في هذا يطول وقد ذكرنا ها هنا ما لا يحتاج معه الناظر إلى غيره والفاء في قوله : { فنادى في الظلمات } فصيحة : أي كان ما كان من التقام الحوت له فنادى في الظلمات والمراد بالظلمات : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وكان نداؤه : هو قوله : { أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } أي بأن لا إله إلخ ومعنى سبحانك : تنزيها لك من أن يعجزك شيء إني كنت من الظالمين الذي يظلمون أنفسهم قال الحسن وقتادة هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته قال ذلك وهو في بطن الحوت (3/601)
ثم أخبر الله سبحانه بأنه استجاب له فقال : 88 - { فاستجبنا له } دعاءه الذي دعانا به في ضمن اعترافه بالذنب على ألطف وجه { ونجيناه من الغم } بإخراجنا له من بطن الحوت حتى قذفه إلى الساحل { وكذلك ننجي المؤمنين } أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم وما أعددناه لهم من الرحمة وهذا هو معنى الآية الأخرى وهو قوله : { فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } قرأ الجمهور { ننجي } بنونين وقرأ ابن عامر { نجي } بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر وكذلك نجى النجاة المؤمنين كما تقول ضرب زيدا : أي ضرب الضرب زيدا ومنه قول الشاعر :
( ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا )
هكذا قال في توجيه هذه القراءة الفراء وأبو عبيد وثعلب وخطأهم أبو حاتم والزجاج وقالا : هي لحن لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله وإنما يقال نجي المؤمنون ولأبي عبيدة قول آخر وهو أن أدغم النون في الجيم وبه قال القتيبي واعترضه النحاس فقال : هذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا يدغم فيها ثم قال النحاس : لم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان الأخفش قال : الأصل ننجي فحذف إحدى النوتين لاجتماعهما كما يحذف إحدى التاءين لاجتماعهما نحو قوله تعالى : { ولا تفرقوا } والأصل ولا تتفرقوا قلت : وكذا الواحدي عن أبي علي الفارسي أنه قال : إن النون الثانية تخفى مع الجيم ولا يجوز تبيينها فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام فظن أنه إدغام ويدل على هذا إسكانه الياء من نجى ونصب المؤمنين ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء ولوجب أن يرفع المؤمنين قلت : ولا نسلم قوله إنه لا يجوز تبيينها فقد بينت في قراءة الجمهور وقرأ محمد بن السميفع وأبو العالية وكذلك نجى المؤمنين على البناء للفاعل : أي نجى الله المؤمنين
وقد أخرج ابن جرير عن مرة في قوله : { إذ يحكمان في الحرث } قال : كان الحرث نبتا فنقشت فيه ليلا فاختصموا فيه إلى داود فقضى بالغنم لأصحاب الحرث فمروا على سليمان فذكروا ذلك له فقال : لا تدفع الغنم فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم فإذا كان كما كان ردوا عليهم فنزلت { ففهمناها سليمان } وقد روي هذا عن مرة عن ابن مسعود وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله قال : وما ذاك ؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه والغنم إلى صاحبيها فذلك قوله : { ففهمناها سليمان } وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مسروق نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه ولكنه لم يذكر الكرم وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا { نفشت } قال : رعت وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حرام بن محيصة : أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وقد علل هذا الحديث وقد بسطنا الكلام عليه في شرح المنتقي وأخرج ابن مردويه من حديث عائشة نحوه وزاد في آخره ثم تلا هذه الآية { وداود وسليمان } الآية وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بينما امرأتان معهما ابنان جاء الذئب فأخذ أحد الاثنين فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينهما فقالت الصغرى : رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى ] وهذا الحديث وإن لم يكن داخلا فيما حكته الآية من حكمهما لكنه من جملة ما وقع لهما وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة في قوله : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير } قال : يصلين مع داود إذا صلى { وعلمناه صنعة لبوس لكم } قال : كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليها السلام وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : كان سليمان يوضع له ستمائة ألف كرسي ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي أشراف الإنس ثم يدعوا الطير فتظلم ثم يدعو الريح فتحملهم تسير مسيرة شهر في الغداة الواحدة وأخرج ابن عساكر والديلمي وابن النجار عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قال الله لأيوب : تدري ما جرمك علي حتى ابتليتك ؟ قال : لا يا رب قال : لأنك دخلت على فرعون فداهنت عنده في كلمتين ] وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : إنما كان ذنب أيوب أنه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه فلم يعنه ولم يأمر بالمعروف ولم ينه الظالم عن ظلم المسكين فابتلاه الله وفي إسناده جويبر وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان لأيوب أخوان جاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد فقال أحدهما للآخر : لو كان علم الله من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط مثله فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أي لم ألبس قميصا قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم خر ساجدا وقال : اللهم بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني فلما رفع رأسه حتى كشف الله عنه وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعا بنحو هذا وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قال : قيل له يا أيوب إن أهلك لك في الجنة فإن شئت أتيناك لهم وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن الضحاك قال : بلغ ابن مسعود أن مروان قال في هذه الآية { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قال : أوتي أهلا غير أهله فقال ابن مسعود : بل أوتي أهله بأعيانهم ومثلهم معهم وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد قال : وما ذاك ؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يC فيكشف عنه ما به فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر له ذلك فقال أيوب : لا أدري ما يقول غير أن الله يعلم أني أمر بالرجلين يتنازعان يذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهة أن يذكر الله إلا في حق وكان يخرج لحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله المبتلى والله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا ؟ قال : فإني أنا هو قال : وكان له أندران : أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وذا الكفل } قال : رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم به ويقضي بينهم بالعدل ففعل ذلك فسمي ذا الكفل وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل قاض فحضره الموت فقال : من يقوم مقامي على أن لا يغضب فقال رجل : أنا فسمي ذا الكفل فكان ليله جميعا يصلي ثم يصبح قائما فيقضي بين الناس وذكر القصة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال : ما كان ذو الكفل نبيا ولكن كان في بني إسرائيل رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي فتكفل له ذو الكفل من بعده فكان يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي ذا الكفل وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سعد مولى طلحة عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال : ما يبكيك أكرهتك ؟ قالت : لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال : تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال : والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه : إن الله قد غفر للكفل ] وأخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وابن مردويه من طريق سعد مولى طلحة وأخرجه ابن مردويه من طريق نافع عن ابن عمرو قال : فيه ذو الكفل وأخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا } يقول : غضب على قومه { فظن أن لن نقدر عليه } يقول : أن لن نقضي عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه عليهم وفراره قال : وعقوبته أخذ النون إياه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { فظن أن لن نقدر عليه } قال : ظن أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود { فنادى في الظلمات } قال : ظلمة الليل وظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وأخرج أحمد والترمذي والنسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له ] وأخرج ابن جرير عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى قلت : يا رسول الله هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال : هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به ألم تسمع قول الله { وكذلك ننجي المؤمنين } فهو شرط من الله لمن دعاه ] وأخرج الحاكم من حديثه أيضا نحوه وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى ] وروي أيضا في الصحيح وغيره من حديث ابن مسعود وروي أيضا في الصحيحين من حديث أبي هريرة (3/603)
قوله : 89 - { وزكريا } أي واذكر خبر زكريا وقت ندائه لربه قال { رب لا تذرني فردا } أي منفردا وحيدا لا ولد لي وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران { وأنت خير الوارثين } أي خير من يبقى بعد كل من يموت فأنت حسبي إن لم ترزقني ولدا فإني أعلم أنك لا تضيع دينك وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ (3/608)
90 - { فاستجبنا له } دعاءه { ووهبنا له يحيى } وقد تقدم مستوفى في سورة مريم { وأصلحنا له زوجه } قال أكثر المفسرين : إنها كانت عاقرا لجعلها الله ولودا فهذا هو المراد بإصلاح زوجه وقيل كانت سيئة الخلق فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق ولا مانع من إرادة الأمرين جميعا وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها فتكون ولودا بعد أن كانت عاقرا ويصلح أخلاقها فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية وجملة { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } للتعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فالضمير المذكور راجع إليهم وقيل هو راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم كانوا يدعونه { رغبا ورهبا } أي يتضرعون إليه في حال الرخاء وحال الشدة وقيل الرغبة : رفع بطون الأكف إلى السماء والرهبة رفع ظهورها وانتصاب رغبا ورهبا على المصدرية : أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا أو على العلة : أي للرغب والرهب أو على الحال : أي راغبين وراهبين وقرأ طلحة بن مصرف ويدعونا بنون واحدة وقرأ الأعمش بضم الراء فيهما وإسكان ما بعده وقرأ ابن وثاب بفتح الراء فيهما وفتح ما عبده فيهما { وكانوا لنا خاشعين } أي متواضعين متضرعين (3/608)
91 - { والتي أحصنت فرجها } أي واذكر خبرها وهي مريم فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ولم يمسسها بشر وإنما ذكرها مع الأنبياء وإن لم تكن منهم لأجل ذكر عيسى وما في ذكر قصتها من الآية الباهرة { فنفخنا فيها من روحنا } أضاف سبحانه الروح إليه وهو للملك تشريفا وتعظيما وهو يريد روح عيسى { وجعلناها وابنها آية للعالمين } قال الزجاج : الآية فيها واحدة لأنها ولدته من غير فحل وقيل إن التقدير على مذهب سيبويه : وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية كقوله سبحانه { والله ورسوله أحق أن يرضوه } والمعنى : أن الله سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما وقيل أراد بالآية الجنس الشامل لما لكل واحد منهما من الآيات ومعنى أحصنت عفت فامتنعت من الفاحشة وغيرها وقيل المراد بالفرج جيب القميص : أي أنها طاهرة الأثواب وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم (3/608)
ثم لما ذكر سبحانه الأنبياء بين أنهم كلهم مجتمعون على التوحيد فقال : 92 - { إن هذه أمتكم أمة واحدة } والأمة الذين كما قال ابن قتيبة ومثله { إنا وجدنا آباءنا على أمة } أي على دين كأنه قال : إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله وقيل المعنى : إن هذه الشريعة التي بينتها لكم في كتابكم شريعة واحدة وقيل المعنى : إن هذه ملتكم ملة واحدة وهي ملة الإسلام وانتصاب أمة واحدة على الحال أي متفقة غير مختلفة وقرئ إن هذه أمتكم بنصب أمتكم على البدل من اسم إن والخبر أمة واحدة وقرأ الجمهور برفع أمتكم على أنه الخبر ونصب أمة على الحال كما قدمنا وقال الفراء : والزجاج على القطع بسبب مجيء النكرة بعد تمام الكلام { وأنا ربكم فاعبدون } خاصة لا تعبدوا غير كائنا ما كان (3/608)
93 - { وتقطعوا أمرهم بينهم } أي تفرقوا فرقا في الدين حتى صار كالقطع المتفرقة وقال الأخفش : اختلفوا فيه وهو كالقول الأول قال الأزهري : أي تفرقوا في أمرهم فنصب أمرهم بحذف في والمقصود بالآية المشركون ذمهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله وقيل المراد جميع الخلق وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم فهذا موحد وهذا يهودي وهذا نصراني وهذا مجوسي وهذا عابد وثن ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال : { كل إلينا راجعون } أي كل واحد من هذه الفرق راجع إلينا بالبعث لا إلى غيرنا (3/609)
94 - { فمن يعمل من الصالحات } أي من يعمل بعض الأعمال الصالحة لا كلها إذ لا يطيق ذلك أحد { وهو مؤمن } بالله ورسله واليوم الآخر { فلا كفران لسعيه } أي لا جحود لعمله ولا تضييع لجزائه والكفر ضد الإيمان والكفر أيضا جحود النعمة وهو ضد الشكر يقال كفر كفورا وكفرانا وفي قراءة ابن مسعود فلا كفر لسعيه { وإنا له كاتبون } أي لسعيه حافظون ومثله قوله سبحانه : { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } (3/609)
95 - { وحرام على قرية أهلكناها } قرأ زيد بن ثابت وأهل المدينة { وحرام } وقرأ أهل الكوفة { وحرم } وقد اختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم ورويت القراءة الثانية عن علي وابن مسعود وابن عباس : وهما لغتان مثل حل وحلال وقرأ سعيد بن جبير وحرم بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم وقرأ عكرمة وأبو العالية حرم بضم الراء وفتح الحاء والميم ومعنى { أهلكناها } قدرنا إهلاكها وجملة { أنهم لا يرجعون } في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره حرام أو على أنه فاعل له ساد مسد خبره والمعنى : وممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء وقيل إن لا في لا يرجعون زائدة : أي حرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا واختار هذا أبو عبيدة وقيل إن لفظ حرام هنا بمعنى الواجب : أي واجب على قرية ومنه قول الخنساء :
( وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على صخر )
وقيل حرام : أي ممتنع رجوعهم إلى التوبة على أن لا زائدة قال النحاس : والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضل وسليم بن حبان ومعلى عن داود بن أبي الهند عن عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية قال : واجب أنهم لا يرجعون : أي لا يتوبون قال الزجاج وأبو علي الفارسي : إن في الكلام إضمارا أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوب أهلها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون (3/609)
96 - { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } حتى هذه هي التي يحكى بعدها الكلام على حذف المضاف وقيل إن حتى هذه هي التي للغاية والمعنى : أن هؤلاء المذكورين سابقا مستمرون على ما هم عليه إلى يوم القيامة وهي يوم فتح سد يأجوج ومأجوج { وهم من كل حدب ينسلون } الضمير ليأجوج ومأجوج والحدب كل أكمة من الأرض مرتفعة والجمع أحداب مأخوذ من حدبة الأرض ومعنى { ينسلون } يسرعون وقيل يخرجون قال الزجاج : والنسلان مشية الذئب إذا أسرع يقال نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا : أي أن يأجوج ومأجوج من كل مرتفع من الأرض يسرعون المشي وتفرقون في الأرض وقيل الضمير في قوله : وهم لجميع الخلق والمعنى أنهم يحشرون إلى أرض الموقف وهم يسرعون من كل مرتفع من الأرض وقرئ بضم السين حكى ذلك المهدوي عن ابن مسعود وحكى هذه القراءة أيضا الثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء (3/610)
97 - { واقترب الوعد } عطف على فتحت والمراد ما بعد الفتح من الحساب وقال الفراء والكسائي وغيرهما : المراد بالوعد الحق القيامة والواو زائدة والمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة فاقترب جواب إذا وأنشد الفراء :
( فلما أجزنا ساحة الحي والتحى )
أي انتحى ومنه قوله تعالى : { وتله للجبين * وناديناه } وأجاز الفراء أن يكون جواب إذا { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } وقال البصريون : الجواب محذوف والتقدير : قالوا يا ويلنا وبه قال الزجاج والضمير في فإذا هي للقصة أو مبهم يفسره ما بعده وإذا للمفاجأة وقيل إن الكلام تم عند قوله هي والتقدير : فإذا هي يعني القيامة بارزة واقعة كأنها آتية حاضرة ثم ابتدأ فقال شاخصة أبصار الذين كفروا على تقديم الخبر على المبتدأ : أي أبصار الذين كفروا شاخصة و { يا ويلنا } على تقدير القول : { قد كنا في غفلة من هذا } أي من هذا الذي دهمنا من العبث والحساب { بل كنا ظالمين } أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة : أي لم نكن غافلين بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وأصلحنا له زوجه } قال : كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : وهبنا له ولدها وأخرج ابن جرير وابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة قال : كانت عاقرا فجعلها ولودا ووهب له منها يحيى وفي قوله : { وكانوا لنا خاشعين } قال : أذلاء وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : { ويدعوننا رغبا ورهبا } قال : رغبا في رحمة الله ورهبا من عذاب الله وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله سبحانه : { ويدعوننا رغبا ورهبا } قال : رغبا هكذا ورهبا هكذا وبسط كفيه يعني جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عكيم قال : خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو له أهل وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إن هذه أمتكم أمة واحدة } قال : إن هذا دينكم دينا واحدا وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { وتقطعوا أمرهم بينهم } قال : تقطعوا اختلفوا في الدين وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { وحرام على قرية أهلكناها } قال : وجب إهلاكها { أنهم لا يرجعون } قال : لا يتوبون وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وحرم على قرية قال : وجب على قرية { أهلكناها أنهم لا يرجعون } كما قال : { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون } وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وسعيد بن جبير مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { من كل حدب } قال : شرف { ينسلون } قال : يقبلون وقد ورد في صفة يأجوج ومأجوج وفي وقت خروجهم أحاديث كثيرة لا يتعلق بذكرها ها هنا كثير فائدة (3/610)
بين سبحانه حال معبودهم يوم القيامة فقال : 98 - { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } وهذا خطاب منه سبحانه لأهل مكة والمراد بقوله وما تعبدون : الأصنام التي كانوا يعبدون قرأ الجمهور { حصب } بالصاد المهملة : أي وقود جهنم وحطبها وكل ما أوقدت به النار أو هيجتها به فهو حصب كذا قال الجوهري قال أبو عبيدة : كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به ومثل ذلك قوله تعالى : { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة } وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة حطب جهنم بالطاء وقرأ ابن عباس حضب بالضاد المعجمة قال الفراء : ذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب ووجه إلقاء الأصنام في النار مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحس به : التبكيت لمن عبدها وزيادة التوبيخ لهم وتضاعف الحسرة عليهم وقيل إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم وجملة { أنتم لها واردون } إما مستأنفة أو بدل من حصب جهنم والخطاب لهم ولما يعبدون تغليبا واللام في لها للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل وقيل هي بمعنى على والمراد بالورود هنا الدخول قال كثير من أهل العلم : ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة لأن ما لمن لا يعقل ولو أراد العموم لقال ومن يعبدون قال الزجاج : ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم (3/613)
99 - { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } أي لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون ما وردوها : أي ما ورد العابدون هم والمعبودون النار وقيل ما ورد العابدون فقط لكنهم وردوها فلم يكونوا آلهة وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد { وكل فيها خالدون } أي كل العابدين والمعبودين في النار خالدون لا يخرجون منها (3/613)
100 - { لهم فيها زفير } أي لهؤلاء الذين وردوا النار والزفير صوت نفس المغموم والمراد هنا الأنين والتنفس الشديد وقد تقدم بيان هذا في هود { وهم فيها لا يسمعون } أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وقيل لا يسمعون شيئا لأنهم يحشرون صما كما قال سبحانه { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما } وإنما سلبوا السماع لأن فيه بعض تروح وتأنس وقيل لا يسمعون ما يسرهم بل يسمعون ما يسوءهم (3/613)
ثم لما بين سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء فقال : 101 - { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } أي الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة وقيل التوفيق أو التبشير بالجنة أو نفس الجنة { أولئك عنها مبعدون } إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفة { عنها } أي عن جهنم { مبعدون } لأنهم قد صاروا في الجنة (3/613)
102 - { لا يسمعون حسيسها } الحس والحسيس الصوت تسمعه من الشيء يمر قريبا منك والمعنى : لا يسمعون حركة النار وحركة أهلها وهذه الجملة بدل من مبعدون أو حال من ضميره { وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } أي دائمون وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين كما قال سبحانه { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } (3/613)
103 - { لا يحزنهم الفزع الأكبر } قرأ أبو جعفر وابن محيصن { لا يحزنهم } بضم الياء وكسر الزاي وقرأ الباقون { لا يحزنهم } بفتح الياء وضم الزاي قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم والفزع الأكبر : أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب { وتتلقاهم الملائكة } أي تستقبلهم على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } أي توعدون به في الدنيا وتبشرون فيه هكذا قال جماعة من المفسرين إن المراد بقوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } إلى هنا هم كافة الموصوفين بالإيمان والعمل الصالح لا المسيح وعزير والملائكة وقال أكثر المفسرين : إنه لما نزل { إنكم وما تعبدون } الآية أتى ابن الزبعري إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد ألست تزعم أن عزيزا رجل صالح وأن عيسى رجل صالح وأن مريم امرأة صالحة ؟ قال بلى فقال : فإن الملائكة عيسى وعزيرا ومريم ويعبدون من دون الله فهؤلاء في النار فأنزل الله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } وسيأتي بيان من أخرج هذا قريبا إن شاء الله (3/614)
104 - { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج والزهري { نطوي } بمثناة فوقية مضمومة ورفع السماء وقرأ مجاهد { نطوي } بالتحتية المفتوحة مبنيا للفاعل على معنى يطوي الله السماء وقرأ الباقون { نطوي } بنون العظمة وانتصاب يوم قوله : { نعيده } أي نعيده يوم نطوي السماء وقيل هو بدل من الضمير المحذوف في توعدون والتقدير : الذين كنتم توعدونه يوم نطوي وقيل بقوله لا يحزنهم الفزع وقيل بقوله تتلقاهم وقيل متعلق بمحذوف وهو اذكر وهذا أظهر وأوضح والطي ضد النشر وقيل المحو والمراد بالسماء الجنس والسجل الصحيفة : أي طيا كطي الطومار وقيل السجل الصك وهو مشتق من المساجلة وهي المكاتبة وأصلها من السجل وهو الدلو يقال : ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا ثم استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :
( من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب )
وقرأ أبو زرعة بن عمرو وابن جرير السجل بضم السين والجيم وتشديد اللام وقرأ الأعمش وطلحة بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام والطي في هذه الآية يحتمل معنيين : أحدهما الطي الذي هو ضد النشر ومنه قوله : { والسماوات مطويات بيمينه } والثاني الإخفاء والتعمية والمحو لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها وقيل السجل اسم ملك وهو الذي يطوي كتب بني آدم وقيل هو اسم كاتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم والأول أولى قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف للكتب جميعا وقرأ الباقون للكتاب وهو متعلق بمحذوف حال من السجل : أي كطي السجل كائنا للكتب أو صفة له : أي الكائن للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة وأما على القراءة الثانية فالكتاب مصدر واللام للتعليل : أي كما يطوي الطومار للكتابة : أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة وهذا على تقدير أن المراد بالطي المعنى الأول وهو ضد النشر { كما بدأنا أول خلق نعيده } أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة فأول خلق مفعول نعيد مقدرا يفسره نعيده المذكور أو مفعول لـ بدأنا وما كافة أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده وعلى هذا الوجه يكون أول ظرف لبدأنا أو حال وإنما خص أول الخلق بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ لشمول الإمكان الذاتي لهما وقيل معنى الآية : نهلك كل نفس كما كان أول مرة وعلى هذا فالكلام متصل بقوله : { يوم نطوي السماء } وقل المعنى نغير السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها والأول أولى وهو مثل قوله : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } ثم قال سبحانه : { وعدا علينا إنا كنا فاعلين } انتصاب وعدا على أنه مصدر : أي وعدنا وعدا علينا إنجازه والوفاء به وهو البعث والإعادة ثم أكد سبحانه ذلك بقوله : { إنا كنا فاعلين } قال الزجاج : معنى إنا كنا فاعلين : إنا كنا قادرين على ما نشاء وقيل إنا كنا فاعلين ما وعدناكم ومثله قوله { كان وعده مفعولا } (3/614)
105 - { ولقد كتبنا في الزبور } الزبر في الأصل الكتب يقال زبرت : أي كتبت وعلى هذا يصح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل وعلى كتاب داود المسمى بالزبور وقيل المراد به هنا كتاب داود ومعنى { من بعد الذكر } أي اللوح المحفوظ وقيل هو التوراة : أي والله ولقد كتبنا في كتاب داود من بعد ما كتبنا في التوراة أو من بعد ما كتبنا في اللوح المحفوظ { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } قال الزجاج : الزبور جمع الكتب : التوراة والإنجيل والقرآن لأن الزبور والكتاب في معنى واحد يقال زبرت وكتبت ويؤيد ما قاله قراءة حمزة في الزبور بضم الزاي فإنه جمع زبر
وقد اختلف في معنى { يرثها عبادي الصالحون } فقيل المراد أرض الجنة واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه : { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض } وقيل هي الأرض المقدسة وقيل هي أرض الأمم الكافرة يرثها نبينا صلى الله عليه و سلم وأمته بفتحها وقيل المراد بذلك بنو إسرائيل بدليل قوله سبحانه : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } والظاهر أن هذا تبشير لأمة محمد صلى الله عليه و سلم بوراثة أرض الكافرين وعليه أكثر المفسرين وقرأ حمزة { عبادي } بتسكين الياء وقرأ الباقون بتحريكها (3/615)
106 - { إن في هذا لبلاغا } أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه لبلاغا لكفاية يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة وتبليغ : أي كفاية وقيل الإشارة بقوله : { إن في هذا } إلى القرآن { لقوم عابدين } أي مشغولين بعبادة الله مهتمين بها والعبادة هي الخضوع والتذلل وهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم ورأس العبادة الصلاة (3/616)
107 - { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } أي وما أرسلناك يا محمد بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والعلل : أي ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين قيل ومعنى كونه رحمة للكفار : أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال : وقيل المراد بالعالمين المؤمنون خاصة والأول أولى بدليل قوله سبحانه : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } (3/616)
ثم بين سبحانه أن أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال : 108 - { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } إن كانت ما موصولة فالمعنى : أن الذي يوحى إلي هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزها إلى ما يناقضها أو يضادها وإن كانت ما كافة فالمعنى : أن الوحي إلي مقصور على استئثار الله بالوحدة ووجه ذلك أن القصر أبدا يكون لما يلي إنما فإنما الأولى لقصر الوصف على الشيء كقولك إنما يقوم زيد : أي ما يقوم إلا زيد والثانية لقصر الشيء على الحكم كقولك إنما زيد قائم : أي ليس به إلا صفة القيام { فهل أنتم مسلمون } منقادون مخلصون للعبادة ولتوحيد الله سبحانه (3/616)
109 - { فإن تولوا } أي أعرضوا عن الإسلام { فقل } لهم { آذنتكم على سواء } أي أعلمتكم أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا كائنين على سواء في الإعلام لم أخص به بعضكم دون بعض كقوله سبحانه : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا سويت بينهم فيه وقال الزجاج : المعنى أعلمتكم ما يوحى إلي على استواء في العلم به ولا أظهر لأحد شيئا كتمته على غيره { وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون } أي ما أدري أما توعدون به قريب حصوله أم بعيد وهو غلبة الإسلام أهله على الكفر وأهله وقيل المراد بما توعدون القيامة وقيل آذنتكم بالحرب ولكن لا أدري ما يؤذن لي في محاربتكم (3/616)
110 - { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } أي يعلم سبحانه ما تجاهرون به من الكفر والطعن على الإسلام وأهله وما تكتمونه من ذلك وتخفونه (3/617)
111 - { وإن أدري لعله فتنة لكم } أي ما أدري لعل الإمهال فتنة لكم واختبار ليرى كيف صنعكم { ومتاع إلى حين } أي وتمتيع إلى وقت مقدر تقتضيه حكمته (3/617)
ثم حكى سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلى الله عليه و سلم بقوله : 112 - { قال رب احكم بالحق } أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين بما هو الحق عندك ففوض الأمر إليه سبحانه وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن { رب } بضم الباء وقال النحاس : وهذا لحن عند النحويين لا يجوز عندهم رجل أقبل حتى يقول يا رجل وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب { أحكم } بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم : أي قال محمد ربي أحكم بالحق وقرئ قل بصيغة الأمر : أي قل يا محمد ورب في موضع نصب لأنه منادى مضاف إلى الضمير وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه صلى الله عليه و سلم فعذبهم ببدر ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين والحمد صلى الله عليه و سلم رب العالمين ثم قال سبحانه متمما لتلك الحكاية { وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } من الكفر والتكذيب فربنا مبتدأ وخبره الرحمن : أي هو كثير الرحمة لعباده والمستعان خبر آخر : أي المستعان به في الأمور التي من جملتها ما تصفونه من أن الشوكة تكون لكم ومن قولكم : { هل هذا إلا بشر مثلكم } وقولكم { اتخذ الرحمن ولدا } وكثيرا ما يستعمل الوصف في كتاب الله بمعنى الكذب كقوله : { ولكم الويل مما تصفون } وقوله : { سيجزيهم وصفهم } وقرأ المفضل والسلمي على ما يصفون بالياء التحتية وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } قال المشركون : فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله فنزلت : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } عيسى وعزير والملائكة وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه قال : جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } قال ابن الزبعري : قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا فنزلت { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } ثم نزلت { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والطبراني من وجه آخر عنه أيضا نحوه بأطول منه وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال : عيسى وعزير والملائكة وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : { حصب جهنم } قال : شجر جهنم وفي إسناده العوفي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من وجه آخر أن { حصب جهنم } وقودها وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : هو حطب جهنم بالزنجية وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { لا يسمعون حسيسها } قال : حيات على الصراط تقول حس حس وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي في قوله : { لا يسمعون حسيسها } قال : حيات على الصراط تلسعهم فإذا لسعتهم قالوا حس حس وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن محمد بن حاطب قال : سئل علي عن هذه الآية { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال : هو عثمان وأصحابه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لا يسمعون حسيسها } يقول : لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } قال : النفخة الآخرة وفي إسناده العوفي وأخرج أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة على كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة : رجل أم قوما وهم لها راضون ورجل كان يؤذن في كل يوم وليلة وعبد أدى حق الله وحق مواليه ] وأخرج عبد بن حميد عن علي في قوله : { كطي السجل } قال : ملك السجل ملك فإذا صعد بالاستغفار قال اكتبوها نورا وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر قال : السجل ملك وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في سننه وصححه عن ابن عباس قال : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن المنذر وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم كاتب يسمى السجل وهو قوله : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } قال : كما يطوي السجل الكتاب كذلك نطوي السماء وأخرج ابن منده وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عمر قال : كان للنبي صلى الله عليه و سلم كاتب يقال له السجل فأنزل الله { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا الحديث : وهذا منكر جدا من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلا قال : وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضا وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزني وقد أفردت بهذا الحديث جزءا له على حدة ولله الحمد قال : وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد وقال : ولا نعرف في الصحابة أحدا اسمه سجل وكتاب النبي صلى الله عليه و سلم كانوا معروفين وليس فيهم أحد اسمه السجل وصدق رحمه الله في ذلك وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم قال : والصحيح عن ابن عباس أن السجل هو الصحيفة قاله علي بن أبي طلحة والعوفي عنه ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة فعلى هذا يكون معنى الكلام : يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب : أي على الكتاب يعني المكتوب كقوله : { فلما أسلما وتله للجبين } أي على الجبين وله نظائر في اللغة والله أعلم قلت : أما كون هذا هو الصحيح عن ابن عباس فلا فإن علي بن أبي طلحة والعوفي ضعيفان فالأولى التعويل على المعنى اللغوي والمصير إليه وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال { السجل } هو الرجل زاد ابن مردويه بلغة الحبشة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية قال : كطي الصحيفة على الكتاب وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { كما بدأنا أول خلق نعيده } يقول : نهلك كل شيء كما كان أول مرة وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } قال : القرآن { أن الأرض } قال : أرض الجنة وأخرج ابن جرير عنه أيضا { ولقد كتبنا في الزبور } قال : الكتب { من بعد الذكر } قال : التوراة وفي إسناده العوفي وأخرج سعيد بن منصور عنه أيضا قال : الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن والذكر : الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء والأرض : أرض الجنة وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } قال : أرض الجنة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق عمله قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد الأرض ويدخلهم الجنة وهم الصالحون وفي قوله : { لبلاغا لقوم عابدين } قال : عالمين وفي إسناده علي بن أبي طلحة وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي هريرة { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } قال : الصلوات الخمس وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ في قول الله { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } قال : في الصلوات الخمس شغلا للعبادة ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباسي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية { لبلاغا لقوم عابدين } قال : هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } قال : من آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف والمسخ والقذف وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال [ قيل يا رسول الله ادع الله على المشركين قال إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ] وأخرج الطيالسي وأحمد والطبراني وأبو نعيم في الدلائل عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين ] وأخرج أحمد والطبراني عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي أو لعنته لعنة فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليه صلاة يوم القيامة ] وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما أنا رحمة مهداة ] وقد روي معنى هذا من طرق وأخرج ابن أبي خثيمة وابن عساكر عن الربيع بن أنس قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه و سلم رأى فلانا وهو بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين } يقول : هذا الملك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وإن أدري لعله فتنة لكم } يقول : ما أخبركم به من العذاب والساعة لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : { قال رب احكم بالحق } قال : لا يحكم الله إلا بالحق وإنما يستعجل بذلك في الدنيا يسأل ربه (3/617)
سورة الحج
وهي ثمان وسبعون آية
اختلف أهل العلم هل هي مكية أو مدينة ؟ فأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحج بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال : نزل بالمدينة من القرآن الحج غير أربع آيات مكيات { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } إلى { عذاب يوم عقيم } وحكى القرطبي عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات وقيل أربع آيات إلى قوله { عذاب الحريق } وحكي عن النقاش أنه نزل بالمدينة منها عشر آيات قال القرطبي وقال الجمهور : إن السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني قال : وهذا هو الصحيح قال العزيزي : وهي من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا سفرا وحضرا مكيا ومدنيا سلميا وحربيا ناسخا ومنسوخا محكما ومتشابها وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر قال [ قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ] قال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بالقوي وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي عن خالد بن معدان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين ] وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيهقي عن عمر أنه كان يسجد سجدتين في الحج وقال : إن هذه السورة فضلت على سائر القرآن بسجدتين وقد روي عن كثير من الصحابة أن فيها سجدتين وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وقال بعضهم : إن فيها سجدة واحدة وهو قول سفيان الثوري وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وإبراهيم النخعي
لما انجر الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثا على التقوى التي هي أنفع زاد فقال : 1 - { يا أيها الناس اتقوا ربكم } أي احذروا عقابه بفعل ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات ولفظ الناس يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن سيوجد على ما تقرر في موضعه وقد قدمنا طرفا من تحقيق ذلك في سورة البقرة وجملة { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } تعليل لما قبلها من الأمر بالتقوى والزلزلة شدة الحركة وأصلها من زل عن الموضع : أي زال عنه وتحرك وزلزل الله قدمه : أي حركها وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى وهو من إضافة المصدر إلى فاعله وهي على هذا : الزلزلة التي هي أحد أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة هذا قول الجمهور وقيل إنها تكون في النصف من شهر رمضان ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها وقيل إن المصدر هنا مضاف إلى الظرف وهو الساعة إجراء له مجرى المفعول أو بتقدير في كما في قوله : { بل مكر الليل والنهار } وهي المذكورة في قوله : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } قيل وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها (3/621)
2 - { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } انتصاب الظرف بما بعده والضمير يرجع إلى الزلزلة : أي وقت رؤيتكم لها تذهل كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه قال قطرب : تذهل تشتغل وأنشد قول الشاعر :
( ضرب يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله )
وقيل تنسى وقيل تلهو وقيل تسلو وهذه معانيها متقاربة قال المبرد : إن ما فيما أرضعت بمعنى المصدر : أي تذهل عن الإرضاع قال : وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع إلا أن يقال : من ماتت حاملا فتضع حملها للهول ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك ويقال هذا مثل كما يقال : { يوما يجعل الولدان شيبا } وقيل يكون من النفخة الأولى قال : ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة كما في قوله { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا } ومعنى { وتضع كل ذات حمل حملها } أنها تلقي جنينها لغير تمام من شدة الهول كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك { وترى الناس سكارى } قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاب لكل واحد : أي يراهم الرائي كأنهم سكارى { وما هم بسكارى } حقيقة قرأ حمزة والكسائي { سكارى } بغير ألف وقرأ الباقون بإثباتها وهما لغتان يجمع بهما سكران مثل كسلى وكسالى ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال : { ولكن عذاب الله شديد } فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك وقرئ وترى بضم التاء وفتح الراء مسندا إلى المخاطب من أرأيتك : أي تظنهم سكارى قال الفراء ولهذه القراءة وجه جيد في العربية (3/623)
ثم لما أراد سبحانه أن يحتج على على منكري البعث قدم قبل ذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال : 3 - { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } وقد تقدم إعراب مثل هذا التركيب في قوله : { ومن الناس من يقول } ومعنى في الله في شأن الله وقدرته ومحل بغير علم النصب على الحال والمعنى : أنه يخاصم في قدرة الله فيزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم يعلمه ولا حجة يدلي بها { ويتبع } فيما يقوله ويتعاطاه ويحتج به ويجادل عنه { كل شيطان مريد } أي متمرد على الله وهو العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر وقال الواحدي : قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث وكان كثير الجدال وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة (3/623)
4 - { كتب عليه أنه من تولاه } أي كتب على الشيطان وفاعل كتب أنه من تولاه والضمير للشأن : أي من اتخذ وليا { فأنه يضله } أي فشأن الشيطان أن يضله عن طريق الحق فقوله أنه يضله جواب الشرط إن جعلت من شرطية أو خبر الموصول إن جعلت موصولة فقد وصف الشيطان بوصفين : الأول أنه مريد والثاني ما أفاده جملة كتب عليه إلخ وجملة { ويهديه إلى عذاب السعير } معطوفة على جملة يضله : أي يحمله على مباشرة ما يصير به في عذاب السعير (3/624)
ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة فقال : 5 - { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } قرأ الحسن البعث بفتح العين وهي لغة وقرأ الجمهور بالسكون وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه والمعنى : إن كنتم في شك من الإعادة فانظروا في مبدإ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة { فإنا خلقناكم من تراب } في ضمن خلق أبيكم آدم { ثم } خلقناكم { من نطفة } أي من مني سمي نطفة لقلته والنطفة : القليل من الماء وقد يقع على الكثير منه والنطفة : القطرة يقال نطف ينطف : أي قطر وليلة نطوف : أي دائمة القطر { ثم من علقة } والعلقة : الدم الجامد والعلق : الدم العبيط : أي الطري أو المتجمد وقيل الشديد الحمرة والمراد الدم الجامد المتكون من المني { ثم من مضغة } وهي القطعة من الحم قدر ما يمضغ الماضغ تتكون من العلقة { مخلقة } بالجر صفة لمضغة : أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير { وغير مخلقة } أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها قال ابن الأعرابي : مخلقة يريد قد بدأ خلقه وغير مخلقة لم تصور قال الأكثر : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح قال الفراء : مخلقة تام الخلق وغير مخلقة : السقط ومنه قول الشاعر :
( أفي غير المخلقة البكاء ... فأين الحزم ويحك والحياء )
واللام في { لنبين لكم } متعلق بخلقنا : أي خلقناكم على هذا النمط لنبين لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم { ونقر في الأرحام ما نشاء } روى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم أنه قرأ بنصب تقر عطفا على نبين وقرأ الجمهور { نقر } بالرفع على الاستئناف : أي ونحن نقر قال الزجاج : نقر بالرفع لا غير لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء ومعنى الآية : ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطا { إلى أجل مسمى } وهو وقت الولادة وقال ما نشاء ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح وقرئ ليبين - ويقر - ويخرجكم بالتحتية في الأفعال الثلاثة وقرأ ابن أبي وثاب ما نشاء بكسر النون { ثم نخرجكم طفلا } أي نخرجكم من بطون أمهاتكم طفلا : أي أطفالا وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد قال الزجاج طفلا في معنى أطفالا ودل عليه ذكر الجماعة : يعني في نخرجكم والعرب كثيرا ما تطلق اسم الواحد على الجماعة ومنه قول الشاعر :
( يليحنني من حبها ويلمنني ... إن العواذل لسن لي بأمير )
وقال المبرد : هو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل فيقع على الواحد والجمع قال الله سبحانه : { أو الطفل الذين لم يظهروا } قال ابن جرير : هو منصوب على التمييز كقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } وفيه بعد والظاهر انتصابه على الحال بالتأويل المذكور والطفل يطلق على الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ { ثم لتبلغوا أشدكم } قيل هو علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة له كأنه قيل : نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا إلى الأشد وقيل إن ثم زائدة والتقدير لتبلغوا وقيل إنه معطوف على نبين والأشد هو كمال العقل وكمال القوة والتمييز فيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في الأنعام { ومنكم من يتوفى } يعني قبل بلوغ الأشد وقرئ يتوفى مبنيا للفاعل وقرأ الجمهور { يتوفى } مبنيا للمفعول { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أي أخسه وأدونه وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل ولهذا قال سبحانه : { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } أي شيئا من الأشياء أو شيئا من العلم والمعنى : أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها لا علم له ولا فهم ومثله قوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين } وقوله : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } { وترى الأرض هامدة } هذه حجة أخرى على البعث فإنه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات والهامدة اليابسة التي لا تنبت شيئا قال ابن قتيبة : أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت وقيل دراسة والهمود الدروس ومنه قول الأعشى :
( قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا ... وأرى ثيابك باليات همودا )
وقيل هي التي ذهب عنها الندى وقيل هالكة ومعني هذه الأقوال متقاربة { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } المراد بالماء هنا المطر ومعنى اهتزت تحركت والاهتزاز شدة الحركة يقال هززت الشيء فاهتز : أي حركته فتحرك : والمعنى : تحركت بالنبات لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقة فسماه اهتزازا مجازا وقال المبرد : المعنى اهتز نباتها فحذف المضاف واهتزازه شدة حركته والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض ومعنى ربت ارتفعت وقيل انتفخت والمعنى واحد وأصله الزيادة يقال ربا الشيء يربوا ربوا إذا زاد ومنه الربا والربوة وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف يقال له رابئ ورابئة وربيئة { وأنبتت } أي أخرجت { من كل زوج بهيج } أي من كل صنف حسن ولون مستحسن والبهجة الحسن (3/624)
وجملة 6 - { ذلك بأن الله هو الحق } مستأنفة لما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره قال بعد ذلك هذه المقالات وهي إثبات أنه سبحانه الحق وأنه المتفرد بإحياء الموتى وأنه قادر على كل شيء من الأشياء والمعنى : أنه المتفرد بهذه الأمور وأنها من شأنه لا يدعى غيره أنه يقدر على شيء منها فدل سبحانه بهذا على أنه الحق الحقيقي الغني المطلق وأن وجود كل موجود مستفاد منه والحق هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول وقيل ذو الحق على عباده وقيل الحق في أفعاله قال الزجاج : ذلك في موضع رفع : أي الأمر ما وصفه لكم وبين بأن الله هو الحق قال : ويجوز أن يكون ذلك نصبا (3/626)
ثم أخبر سبحانه بأن 7 - { الساعة آتية } أي في مستقبل الزمان قيل لا بد من إضمار فعل : أي ولتعلموا أن الساعة آتية { لا ريب فيها } أي لا شك فيها ولا تردد وجملة { لا ريب فيها } خبر ثان للساعة أو في محل نصب على الحال ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال : { وأن الله يبعث من في القبور } فيجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن ذلك كائن لا محالة
وقد أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره عن عمران بن حصين قال : [ لما نزلت { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } إلى قوله : { ولكن عذاب الله شديد } أنزلت عليه هذه وهو في سفر فقال : أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار قال : يا رب وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسمعائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قاربوا وسددوا وأبشروا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال : إني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا قال : ولا أدري قال الثلثين أم لا ] وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر عن عمران بن حصين مرفوعا نحوه وقال في آخره : [ اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانت مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم ومن بني إبليس فسري عن القوم بعض الذي يجدون قال : اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس مرفوعا نحوه وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس مرفوعا نحوه أيضا وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم فذكر نحوه وفي آخره فقال : [ من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد وهل أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { كتب عليه } قال : كتب على الشيطان وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله { أنه من تولاه } قال : اتبعه وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الصادق والمصدوق [ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسيق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ] والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا وأخرج ابن أبي حاتم وصححه عن ابن عباس في قوله : { مخلقة وغير مخلقة } قال : المخلقة ما كان حيا وغير المخلقة ما كان سقطا وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { من كل زوج بهيج } قال : حسن وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله عز و جل حق وأن الساعة آتيه لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة (3/626)
8 - قوله { ومن الناس من يجادل في الله } أي في شأن الله كقول من قال : إن الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وعزير ابن الله قيل نزلت في النضر بن الحارث وقيل في أبي جهل وقيل هي عامة لكل من يتصدى لإضلال الناس وإغوائهم وعلى كل حال فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ وإن كان السبب خاصا ومعنى اللفظ : ومن الناس فريق يجادل في الله فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله أو صفاته أو شرائعه الواضحة و { بغير علم } في محل نصب على الحال : أي كائنا بغير علم قيل والمراد بالعلم هو العلم الضروري وبالهدى هو العلم النظري الاستدلالي والأولى حمل العمل على العموم وحمل الهدى على معناه اللغوي وهو الإرشاد والمراد بالكتاب المنير هو القرآن والمنير النير البين الحجة الواضح البرهان وهو إن دخل تحت قوله : { بغير علم } فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر بعد ذكر الملائكة وذلك لكونه الفرد الكامل الفائق على غيره من أفراد العلم وأما من حمل العلم على الضروري والهدى على الاستدلالي فقد حمل الكتاب هنا على الدليل السمعي فتكون الآية متضمنة لنفي الدليل العقلي ضروريا كان أو استدلاليا ومتضمنة لنفي الدليل النقلي بأقسامه وما ذكرناه أولى قيل والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى أعني قوله { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } وبذلك قال كثير من المفسرين والتكرير للمبالغة في الذم كما تقول للرجل تذمه وتوبخه أنت فعلت هذا أنت فعلت هذا ؟ ويجوز أن يكون التكرير لكونه وصفه في كل آية بزيادة على ما وصفه به في الآية الأخرى فكأنه قال : ومن الناس من يجادل في الله ويتبع كل شيطان مريد بغير علم { ولا هدى ولا كتاب منير } ليضل عن سبيل الله اه وقيل الآية الأولى في المقلدين اسم فاعل والثانية في المقلدين اسم مفعول والثانية عامة في كل إضلال وجدال وانتصاب { ثاني عطفه } على الحال من فاعل يجادل والعطف الجانب وعطفا الرجل جانباه من يمين وشمال وفي تفسيره وجهان : الأول أن المراد به من يلوي عنقه مرحا وتكبرا ذكر معناه الزجاج قال وهذا يوصف به المتكبر والمعنى : ومن الناس من يجادل في الله متكبرا قال المبرد : العطف ما انثنى من العنق (3/628)
والوجه الثاني أن المراد بقوله : 9 - { ثاني عطفه } الإعراض : أي معرضا عن الذكر كذا قال الفراء والمفضل وغيرهما كقوله تعالى : { ولى مستكبرا كأن لم يسمعها } وقوله { لووا رؤوسهم } وقوله : { أعرض ونأى بجانبه } واللام في { ليضل عن سبيل الله } متعلق بتجادل : أي إن غرضه هو الإضلال عن السبيل وإن لم يعترف بذلك وقرئ ليضل بفتح الياء على أن تكون اللام هي لام العاقبة كأنه جعل ضلاله غاية لجداله وجملة { له في الدنيا خزي } مستأنفة مبينة لما يحصل له بسبب جداله من العقوبة والخزي الذل وذلك بما يناله من العقوبة في الدنيا من العذاب المعجل وسوء الذكر على ألسن الناس وقيل الخزي الدنيوي هو القتل كما وقع في يوم بدر { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } أي عذاب النار المحرقة (3/629)
والإشارة بقوله : 10 - { ذلك } إلى ما تقدم من العذاب الدنيوي والأخروي وهو مبتدأ خبره { بما قدمت يداك } والباء للسببية : أي ذلك العذاب النازل بك بسبب ما قدمته يداك من الكفر والمعاصي وعبر باليد عن جملة البدن لكون مباشرة المعاصي تكون بها في الغالب ومحل أن وما بعدها في قوله : { وأن الله ليس بظلام للعبيد } الرفع على أنها خبر مبتدإ محذوف : أي والأمر أنه سبحانه لا يعذب عباده بغير ذنب وقد مر الكلام على هذه الآية في آخر آل عمران فلا نعيده (3/629)
11 - { ومن الناس من يعبد الله على حرف } هذا بيان لشقاق أهل الشقاق قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : الحرف الشك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه مثل حرف الجبل والحائط فإن القائم عليه غير مستقر والذي يعبد الله على حرف قلق في دينه على غير ثبات وطمأنينة كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضطرب اضطرابا ويضعف قيامه فقيل للشاك في دينه إنه يعبد الله على حرف لأنه على غير يقين من وعده ووعيده بخلاف المؤمن لأنه يعبده على يقين وبصيرة فلم يكن على حرف وقيل الحرف الشرط : أي ومن الناس من يعبد الله على شرط والشرط هو قوله : { فإن أصابه خير اطمأن به } أي خير دنيوي من رخاء وعافية وخصب وكثرة مال ومعنى اطمأن به ثبت على دينه واستمر على عبادته أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه { وإن أصابته فتنة } أي شيء يفتتن به من مكروه يصيبه في أهله أو ماله أو نفسه { انقلب على وجهه } أي ارتد ورجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ثم بين حاله بعد انقلابه على وجهه فقال { خسر الدنيا والآخرة } أي ذهبا منه وفقدهما فلاحظ له في الدنيا من الغنيمة والثناء الحسن ولا في الآخرة من الأجر وما أعده الله للصالحين من عباده وقرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق خاسرا الدنيا والآخرة على صيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف والإشارة بقوله : ذلك إلى خسران الدنيا والآخرة وهو مبتدأ وخبره { ذلك هو الخسران المبين } أي الواضح الظاهر الذي لا خسران مثله (3/629)
12 - { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } أي هذا الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر يدعو من دون الله : أي يعبد متجاوزا عبادة الله إلى عبادة الأصنام ما لا يضره إن ترك عبادته ولا ينفعه إن عبده لكون ذلك المعبود جمادا لا يقدر على ضر ولا نفع والإشارة بقول : { ذلك } إلى الدعاء المفهوم من الفعل وهو يدعو واسم الإشارة مبتدأ وخبره { هو الضلال البعيد } أي عن الحق والرشد مستعار من ضلال من سلك غير الطريق فصار بضلاله بعيدا عنها قال الفراء : البعيد الطويل (3/630)
13 - { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه } يدعو بمعنى يقول والجملة مقررة لما قبلها من كون ذلك الدعاء ضلالا بعيدا والأصنام لا نفع فيها بحال من الأحوال بل هي ضرر بحت لمن يعبدها لأنه دخل النار بسبب عبادتها وإيراد صيغة التفضيل مع عدم النفع بالمرة للمبالغة في تقبيح حال ذلك الداعي أو ذلك من باب { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } واللام هي الموطئة للقسم ومن موصولة أو موصوفة وضره مبتدأ خبره أقرب والجملة صلة الموصول وجملة { لبئس المولى ولبئس العشير } جواب القسم والمعنى : أنه يقول ذلك الكافر يوم القيامة لمعبوده الذي ضره أقرب من نفعه : لبئس المولى أنت ولبئس العشير والمولى الناصر والعشير الصاحب ومثل ما في هذه الآية قول عنترة :
( يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم )
وقال الزجاج : يجوز أن يكون يدعو في موضع الحال وفيه هاء محذوفة : أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه وعلى هذا يوقف على يدعو ويكون قوله { لمن ضره أقرب من نفعه } كلاما مستأنفا مرفوعا بالابتداء وخبره لبئس المولى قال : وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام وقال الزجاج والفراء : يجوز أن يكون يدعو مكررة على ما قبلها على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء : أي يدعو ما لا يضره ولا ينفعه يدعو مثل ضربت زيدا ضربت وقال الفراء والكسائي والزجاج : معنى الكلام القسم واللام مقدمة على موضعها والتقدير : يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في موضع نصب بيدعو واللام جواب القسم وضره مبتدأ وأقرب خبره ومن التصرف في اللام بالتقديم والتأخير قول الشاعر :
( خالي لأنت ومن جرير خاله ... ينل العلاء ويكرم الأخوالا )
أي لخالي أنت قال النحاس : وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال : في الكلام حذف والمعنى : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها قال النحاس : وأحسب هذا القول غلطا عن محمد بن يزيد ولعل وجهه أن ما قبل اللام هذه لا يعمل فيما بعدها وقال الفراء أيضا والقفال اللام صلة : أي زائدة والمعنى : يدعو من ضره أقرب من نفعه : أي يعبده وهكذا في قراءة عبد الله بن مسعود بحذف اللام وتكون اللام في لبئس المولى وفي لبئس العشير على هذا موطئة للقسم (3/630)
14 - { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } لما فرغ من ذكر حال المشركين ومن يعبد الله على حرف ذكر حال المؤمنين في الآخرة وأخبر أنه يدخلهم هذه الجنات المتصفة بهذه الصفة وقد تقدم الكلام في جري الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف : أي من تحت أشجارها { إن الله يفعل ما يريد } هذه الجملة تعليل لما قبلها : أي يفعل ما يريده من الأفعال { لا يسأل عما يفعل } فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء (3/631)
15 - { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة } قال النحاس : من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه و سلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه { فليمدد بسبب إلى السماء } أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء { ثم ليقطع } أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له { فلينظر هل يذهبن كيده } وحيلته { ما يغيظ } من نصر النبي صلى الله عليه و سلم وقيل المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظا ثم فسره بقوله : { فليمدد بسبب إلى السماء } أي فليشدد حبلا في سقف بيته { ثم ليقطع } أي ثم ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا والمعنى : فليختنق غيظا حتى يموت فإن الله ناصره ومظهره ولا ينفعه غيظه ومعنى فلينظر هل يذهبن كيده : أي صنيعه وحيلته ما يغيظ : أي غيظه وما مصدرية وقيل إن الضمير في ينصره يعود إلى من والمعنى : من كان يظن أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه وبه قال أبو عبيدة وقيل إن الضمير يعود إلى الدين : أي من كان يظن أن لن ينصر الله دينه وقرأ الكوفيون بإسكان اللام في { ثم ليقطع } قال النحاس : وهذه القراءة بعيدة من العربية (3/631)
16 - { وكذلك أنزلناه آيات بينات } أي مثل ذلك الإنزال البديع أنزلناه آيات واضحات ظاهرة الدلالة على مدلولاتها { وأن الله يهدي من يريد } هدايته ابتداء أو زيادة فيها لمن كان مهديا من قبل
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ثاني عطفه } قال : لاوي عنقه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس والسدي وابن زيد وابن جريج أنه المعرض وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { ثاني عطفه } قال : أنزلت في النضر بن الحارث وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : هو رجل من بني عبد الدار وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما وأنتجت خيله قال : هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند صحيح قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما وأنتجت خيله قال : هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند صحيح قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه و سلم يسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا : إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا : ما في ديننا هذا خير فأنزل الله { ومن الناس من يعبد الله على حرف } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا نحوه وفي إسناده العوفي وأخرج ابن مردويه أيضا من طريقه أيضا عن أبي سعيد قال : [ أسلم رجل من اليهود فذهب بصره ماله وولده فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أقلني أقلني قال : إن الإسلام لا يقال فقال : لم أصب من ديني هذا خيرا ذهب بصري ومالي ومات ولدي فقال : يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة فنزلت { ومن الناس من يعبد الله على حرف } ] وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { من كان يظن أن لن ينصره الله } قال : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والآخرة { فليمدد بسبب } قال : فليربط بحبل { إلى السماء } قال : إلى سماء بيته السقف { ثم ليقطع } قال : ثم ليختنق به حتى يموت وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال { من كان يظن أن لن ينصره الله } يقول : أن لن يرزقه الله { فليمدد بسبب إلى السماء } فليأخذ حبلا فليربطه في سماء بيته فليختنق به { فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ } قال : فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق (3/632)
قوله : 17 - { إن الذين آمنوا } أي بالله ورسوله أو بما ذكر من الآيات البينات { والذين هادوا } هم اليهود المنتسبون إلى ملة موسى { والصابئين } قوم يعبدون النجوم وقيل هم من جنس النصارى وليس ذلك بصحيح بل هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء { والنصارى } هم المنتسبون إلى ملة عيسى { والمجوس } هم الذين يعبدون النار ويقولون إن العالم أصلين : النور والظلمة وقيل هم يعبدون الشمس والقمر وقيل هم يستعملون النجاسات وقيل هم قوم من النصارى اعتزلوهم ولبسوا المسوح وقيل إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى { والذين أشركوا } الذين يعبدون الأصنام وقد مضى تحقيق هذا في البقرة ولكنه سبحانه قدم هنالك النصارى على الصابئين وأخرهم عنهم هنا فقيل وجه تقديم النصارى هنالك أنهم أهل كتاب دون الصابئين ووجه تقديم الصابئين هنا أن زمنهم على زمن النصارى وجملة { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } في محل رفع على أنها خبر لإن المتقدمة ومعنى الفصل أنه سبحانه يقضي بينهم فيدخل المؤمنين منهم الجنة والكافرين منهم النار وقيل الفصل هو أن يميز المحق من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما وجملة { إن الله على كل شيء شهيد } تعليل لما قبلها : أي أنه سبحانه على كل شيء من أفعال خلقه وأقوالهم شهيد لا يعزب عنه شيء منها وأنكر الفراء أن تكون جملة { إن الله يفصل بينهم } خبرا لإن المتقدمة وقال لا يجوز في الكلام : إن زيدا إن أخاه منطلق ورد الزجاج ما قاله الفراء وأنكره وأنكر ما جعله مماثلا للآية ولا شك في جواز قولك : إن زيدا الخير عنده وإن زيدا إنه منطلق ونحو ذلك (3/633)
18 - { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض } الرؤية هنا هي القلبية لا البصرية : أي ألم تعلم والخطاب لكل من يصلح له وهو من تتأتى منه الرؤية والمراد بالسجود هنا هو الانقياد الكامل لا سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء سواء جعلت كلمة من خاصة بالعقلاء أو عامة لهم ولغيرهم ولهذا عطف { الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } على من فإن ذلك يفيد أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء وإنما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت من على تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعدا في العادة وارتفاع { كثير من الناس } بفعل مضمر يدل عليه المذكور : أي ويسجد له كثير من الناس وقيل مرتفع على الابتداء وخبره محذوف وتقديره : وكثير من الناس يستحق الثواب والأول أظهر وإنما لم يرتفع بالعطف على من لأن سجود هؤلاء الكثير من الناس هو سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء والمراد بالسجود المتقدم هو الانقياد فلو ارتفع بالعطف على من لكان في ذلك جمع بين معنيين مختلفين في لفظ واحد وأنت خبير بأنه لا ملجئ إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم لا نفس السجود الخاص فارتفاعه على العطف لا بأس به وإن أبى ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه وأما قوله : { وكثير حق عليه العذاب } فقال الكسائي والفراء : إنه مرتفع بالابتداء وخبره ما بعده وقيل هو معطوف على كثير الأول ويكون المعنى : وكثير من الناس يسجد منهم يأبى ذلك وقيل المعنى : وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب هكذا حكاه ابن الأنباري { ومن يهن الله فما له من مكرم } أي من أهانته الله بأن جعله كافرا شقيا فما له من مكرم يكرمه فيصير سعيدا عزيزا وحكى الأخفش والكسائي والفراء أن المعنى : { ومن يهن الله فما له من مكرم } : أي إكرام { إن الله يفعل ما يشاء } من الأشياء التي من جملتها ما تقدم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة (3/634)
19 - { هذان خصمان } الخصمان أحدهما أنجس الفرق اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا والخصم الآخر المسلمون فهما فريقان مختصمان قاله الفراء وغيره وقيل المراد بالخصمين الجنة والنار قالت الجنة : خلقني لرحمته وقالت النار : خلقني لعقوبته وقيل المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر فمن المؤمنين حمزة وعلي وعبيدة ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في الصحيح وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول وقد ثبت في الصحيح أيضا هذا جماعة من الصحابة وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول وقد ثبت في الصحيح أيضا عن علي أنه قال : فينا نزلت هذه الآية وقرأ ابن كثير { هذان } بتشديد النون وقال سبحانه : { اختصموا } ولم يقل اختصما قال الفراء : لأنهم جمع ولو قال اختصما لجاز ومعنى { في ربهم } في شأن ربهم : أي في دينه أو في ذاته أو في صفاته أو في شريعته لعباده أو في جميع ذلك ثم فصل سبحانه ما أجمله في قوله : { يفصل بينهم } فقال : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } قال الأزهري : أي سويت وجعلت لبوسا لهم شبهت النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيها على تحقق وقوعه وقيل إن هذه الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى وقيل المعنى في الآية : أحاطت النار بهم وقرئ قطعت بالتخفيف ثم قال سبحانه : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } والحميم هو الماء الحار المغلي بنار جهنم والجملة مستأنفة أو هي خبر ثان للموصول (3/635)
20 - { يصهر به ما في بطونهم } الصهر الإذابة والصهارة ما ذاب منه يقال صهرت الشيء فانصهر : أي أذبته فذاب فهو صهير والمعنى : أنه يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء { والجلود } معطوفة على ما : أي ويصهر به الجلود والجملة في محل نصب على الحال وقيل إن الجلود لا تذاب بل تحرق فيقدر فعل يناسب ذلك ويقال وتحرق به الجلود كما في قول الشاعر :
( علفتها تبنا وماء باردا )
أي وسقيتها ماء ولا يخفى أنه لا ملجئ لهذا فإن الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذابته للجلد الظاهر بالأولى (3/635)
21 - { ولهم مقامع من حديد } المقامع جمع مقمعة ومقمع قمعته ضربته بالمقمعة وهي قطعة من حديد والمعنى : لهم مقامع من حديد يضربون بها : أي للكفرة وسميت المقامع مقامع لأنها تقمع المضروب : أي تذلله قال ابن السكيت : أقمعت الرجل عني إقماعا : إذا طلع عليك فرددته عنك (3/635)
22 - { كلما أرادوا أن يخرجوا منها } أي من النار { أعيدوا فيها } أي في النار بالضرب بالمقامع و { من غم } بدل من الضمير في منها بإعادة الجار أو مفعول له : أي لأجل غم شديد من غموم النار { وذوقوا عذاب الحريق } هو بتقدير القول : أي أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق : أي العذاب المحرق وأصل الحريق الاسم من الاحتراق تحرق الشيء بالنار واحترق حرقة واحتراقا والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم وهو هنا توسع والمراد به إدراك الألم قال الزجاج : وهذا لأحد الخصمين وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون (3/636)
23 - { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } فبين سبحانه حال المؤمنين بعد بيانه لحال الكافرين ثم بين الله سبحانه بعض ما أعده لهم من النعيم بعد دخولهم الجنة فقال : { يحلون فيها } قرأ الجمهور { يحلون } بالتشديد والبناء للمفعول وقرئ مخففا : أي يحليهم الله أو الملائكة بأمره ومن في قوله : { من أساور } للتبعيض : أي يحلون بعض أساور أو للبيان أو زائدة ومن في { من ذهب } للبيان والأساور جمع أسورة والأسورة جمع سوار وفي السوار لغتان : كسر السين وضمها وفيه لغة ثالثة وهي أسوار قرأ نافع وابن كثير وعاصم وشيبة { ولؤلؤا } بالنصب عطف على محر أساور : أي ويحلون لؤلؤا أو بفعل مقدر بنصبه وهكذا قرأ بالنصب يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر وهذه القراءة هي الموافقة لرسم المصحف فإن هذا الحرف مكتوب فيه بالألف وقرأ الباقون بالجر عطفا على أساور : أي يحلون من أساور ومن لؤلؤ ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت كما أن فيها أساور من ذهب { ولباسهم فيها حرير } أي جميع ما يلبسونه حرير كما تفيده هذه الإضافة ويجوز أن يراد أن هذا النوع من الملبوس الذي كان محرما عليهم في الدنيا حلال لهم في الآخرة وأنه من جملة ما يلبسونه فيها ففيها ما تشتهيه الأنفس وكل واحد منهم يعطى ما تشتهيه نفسه وينال ما يريده (3/636)
24 - { وهدوا إلى الطيب من القول } أي أرشدوا إليه قيل هو لا إله إلا الله وقيل الحمد لله وقيل القرآن وقيل هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا وهو قوله سبحانه : { الحمد لله الذي صدقنا وعده } الحمد لله الذي هدانا لهذا { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } ومعنى { وهدوا إلى صراط الحميد } أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة أو صراط الله الذي هو دينه القويم وهو الإسلام
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والصابئين } قال : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون القبلة ويقرأون الزبور { والمجوس } عبدة الشمس والقمر والنيران { والذين أشركوا } عبدة الأوثان { إن الله يفصل بينهم } قال : الأديان ستة فخمسة للشيطان ودين الله عز و جل وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : فصل قضاءه بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : الذين هادوا : اليهود والصابئون : ليس لهم كتاب والمجوس : أصحاب الأصنام والمشركون : نصارى العرب وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية { هذان خصمان } الآية نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر وهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة قال علي : وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة وأخرج البخاري وغيره من حديث علي وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس بنحوه وهكذا روي عن جماعة من التابعين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { قطعت لهم ثياب من نار } قال : من نحاس وليس من الآنية شيء إذا حمى أشد حرا منه وفي قوله : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } قال : النحاس يذاب على رؤوسهم وقوله : { يصهر به ما في بطونهم } قال : تسيل أمعاؤهم { والجلود } قال : تتناثر جلودهم وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة أنه تلا هذه الآية { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يصهر به ما في بطونهم } قال : يمشون وأمعاءهم تتساقط وجلودهم وفي قوله : { ولهم مقامع من حديد } قال : يضربون بها فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالويل والثبور وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان ] وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها ثم قرأ { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ليس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ] وفي الباب أحاديث وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وهدوا إلى الطيب من القول } قال : ألهموا وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال هدوا إلى الطيب من القول في الخصومة إذ قالوا : الله مولانا ولا مولى لكم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن إسماعيل ابن أبي خالد في الآية قال : القرآن { وهدوا إلى صراط الحميد } قال : الإسلام وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : الإسلام وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله الذي قال { إليه يصعد الكلم الطيب } (3/636)
قوله : 25 - { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } عطف المضارع على الماضي لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد ومثل هذا قوله { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } أو المراد بالصد ها هنا الاستمرار لا مجرد الاستقبال فصح بذلك عطفه على الماضي ويجوز أن تكون الواو في ويصدون واو الحال : أي كفروا والحال أنهم يصدون وقيل الواو زائدة والمضارع خبر إن والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله : { والباد } وذلك نحو خسروا أو هلكوا وقال الزجاج : إن الخبر ونذقه من عذاب أليم ورد بأنه لو كان خبرا لأن لم يجزم وأيضا لو كان خبرا لإن لبقي الشرط وهو ومن يرد بغير جواب فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا والمراد بالصد المنع وسبيل الله دينه : أي يمنعون من أراد الدخول في دين الله والمسجد الحرام معطوف على سبيل الله قيل المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني وقيل الحرم كله لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه عند يوم الحديبية وقيل المراد به مكة بدليل قوله : { الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد } أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستويا فيه العاكف وهو المقيم فيه الملازم له والباد أي الواصل من البادية والمراد به الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم وانتصاب سواء على أنه المفعول الثاني لجعلناه وهو بمعنى مستويا والعاكف مرتفع به وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه ويحتمل أن يكون انتصاب سواء على الحال وهذا على قراءة النصب وبها قرأ حفص عن عاصم وهي قراءة الأعمش وقرأ الجمهور برفع { سواء } على أنه مبتدأ وخبره العاكف أو على أنه خبر مقدم والمبتدأ العاكف أي العاكف فيه والبادي سواء وقرئ بنصب { سواء } وجر العاكف على أنه صفة للناس : أي جعلناه للناس العاكف والبادي سواء وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلا ووقفا وحذفها أبو عمرو في الوقف وحذفها نافع في الوصل والوقف قال القرطبي : وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه
واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاه أم أبى وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين : الأصل الأول ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه أو جميع الحرم أو مكة على الخصوص والثاني هل كان فتح مكة صلحا أو عنوة ؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل أقرها النبي صلى الله عليه و سلم في يد أهلها على الخصوص ؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم ؟ وقد أوضحنا هذا في شرحنا على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } مفعول برد محذوف لقصد التعميم والتقدير : ومن يرد فيه مرادا : أي مراد بإلحاد : أي بعدول عن القصد والإلحاد في اللغة الميل إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم
وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو ؟ فقيل هو الشرك وقيل الشرك والقتل وقيل صيد خيواناته وقطع أشجاره وقيل هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة وقيل المراد المعاصي فيه على العموم وقيل المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا لو هم الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذا بمجرد الإرادة للظلم فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جدا ومثل هذه الآية حديث [ إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه ] فدخل النار هنا بسبب مجرد حرصه على قتل صاحبه وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة والباء في قوله بإلحاد إن كان مفعول يرد محذوفا كما ذكرنا فليست بزائدة وقيل إنها زائدة هنا كقول الشاعر :
( نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج )
أي نرجو الفرج ومثله :
( ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد )
أي ما لاقت ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحادا بظلم وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد والباء مع أن تدخل وتحذف ويجوز أن يكون التقدير : ومن يرد الناس بإلحاد وقيل إن يرد مضمن معنى بهم والمعنى : ومن يهم فيه بإلحاد وأما الباء في قوله بظلم فهي للسببية والمعنى : ومن يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم ويجوز أن يكون بظلم بدلا من بإلحاد بإعادة الجار ويجوز أن يكونا حالين مترادفين (3/638)
26 - { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } أي واذكر وقت ذلك يقال بوأته منزلا وبوأت له كما يقال مكنتك ومكنت لك قال الزجاج : معناه جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم ومعنى بوأنا : بينا له مكان البيت ومثله قول الشاعر :
( كم من أخ لي ماجد ... بوأته بيدي لحدا )
وقال الفراء : إن اللام زائدة ومكان ظرف : أي أنزلناه فيه { أن لا تشرك بي شيئا } قيل إن هذه هي مفسرة لبوأنا لتضمنه معنى تعبدنا لأن التبوئة هي للعبادة وقال أبو حاتم : هي مصدرية : أي لأن لا تشرك بي وقيل هي المخففة من الثقيلة وقيل هي زائدة وقيل معنى الآية : وأوحينا إليه أن لا تعبد غيري قال المبرد : كأنه قيل له وحدني في هذا البيت لأن معنى لا تشرك بي وحدي { وطهر بيتي } من الشرك وعبادة الأوثان وفي الآية طعن على ما أشرك من قطان البيت : أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم فلم تفوا بل أشركتم وقالت فرقة : الخطاب بقوله : ألا تشرك لمحمد صلى الله عليه و سلم وهذا ضعيف جدا ومعنى { وطهر بيتي } تطهيره من الكفر والأوثان والدماء وسائر النجاسات وقيل عنى به التطهير عن الأوثان فقط وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وقد مر في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى والمراد بالقائمين هنا هم المصلون { و } ذكر { الركع السجود } بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة وقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا في البيت فالطواف عنده والصلاة إليه (3/640)
27 - { وأذن في الناس بالحج } قرأ الحسن وابن محيصن { وأذن } بتخفيف الذال والمد وقرأ الباقون بتشديد الذال والأذان الإعلام وقد تقدم في براءة
قال الواحدي : قال جماعة المفسرين : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج فقال : يا رب من يبلغ صوتي ؟ فقال الله سبحانه : أذن وعلي البلاغ فعلا المقام فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا أو شمالا وشرقا وغربا وقال : يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيك وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم والمعنى : أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله : { والركع السجود } وقيل إن خطابه انقضى عند قوله : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } وأن قوله : { أن لا تشرك بي } وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم وقرأ الجمهور { بالحج } بفتح الحاء وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها { يأتوك رجالا } هذا جواب الأمر وعد الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب فمعنى رجالا مشاة جمع راجل وقيل جمع رجل وقرأ ابن أبي إسحاق رجالا بضم الراء وتخفيف الجيم وقرأ مجاهد رجالى على وزن فعالى مثل كسالى وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي وقال : يأتوك وإن كانوا يأتون البيت لأن من أتى الكعبة حاجا فقد أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه { وعلى كل ضامر } عطف على رجالا : أي وركبانا على كل بعير والضامر البعير المهزول الذي أتعبه السفر ويقال ضمر يضمر ضمورا ووصف الضامر بقوله يأتين باعتبار المعنى لأن الضامر في معنى ضوامر وقرأ أصحاب ابن مسعود وابن أبي عبلة والضحاك يأتون على أنه صفة لرجالا والفج الطريق الواسع الجمع فجاج والعميق البعيد (3/641)
واللام في 28 - { ليشهدوا منافع لهم } متعلقة بقوله يأتوك وقيل بقوله وأذن والشهود الحضور والمنافع هي تعم منافع الدنيا والآخرة وقيل المراد به المناسك وقيل المغفرة وقيل التجارة كما في قوله { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } أي يذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله وقيل إن هذا الذكر كناية عن الذبح لأنه لا ينفك عنه والأيام المعلومات هي أيام النحر كما يفيد ذلك قوله : { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وقيل عشر ذي الحجة وقد تقدم الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات في البقرة فلا نعيده والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث ومعنى : على ما رزقهم : على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم وبهيمة الأنعام هي الأنعام فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم : مسجد الجامع وصلاة الأولى { فكلوا منها } الأمر هنا للندب عند الجمهور وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب { وأطعموا البائس الفقير } البائس ذو البؤس وهو شدة الفقر فذكر الفقير بعده لمزيد الإيضاح والأمر هنا للوجوب وقيل للندب (3/642)
29 - { ثم ليقضوا تفثهم } المراد بالقضاء هنا هو التأدية : أي ليؤدوا إزالة وسخهم لأن التفث هو الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار وقد أجمع المفسرون كما حكاه النيسابوري على هذا قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التفث وقال أبو عبيدة : لم يأت في الشعر ما يحتج به في معنى التفث وقال المبرد : أصل التفث في اللغة كل قاذورة تلحق الإنسان وقيل قضاؤه ادهانه لأن الحاج مغبر شعث لم يدهن ولم يستحد فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره وليس ثيابه فهذا هو قضاء التفث قال الزجاج : كأنه خروج من الإحرام إلى الحلال { وليوفوا نذورهم } أي ما ينذرون به من البر في حجهم والأمر للوجوب وقيل المراد بالنذور هنا أعمال الحج { وليطوفوا بالبيت العتيق } هذا الطواف هو طواف الإفاضة قال ابن جرير : لا خلاف في ذلك بين المتأولين والعتيق القديم كما يفيده قوله سبحانه : { إن أول بيت وضع للناس } الآية وقد سمي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار وقيل لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب وقيل لأنه أعتق من غرق الطوفان وقيل العتيق الكريم
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { والمسجد الحرام } قال : الحرم كله وهو المسجد الحرام { سواء العاكف فيه والباد } قال : خلق الله في سواء وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : هم في منازل مكة سواء فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم وقال البادي وأهل مكة سواء يعني في المنزل والحرم وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال : من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطونه نارا وأخرج ابن سعد عن عمر بن الخطاب أن رجلا قال له عند المروة : يا أمير المؤمنين أقطعني مكانا لي ولعقبي فأعرض عنه عمر وقال : هو حرم الله سواء العاكف فيه والباد وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال : كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبوابا حتى ينزل الحاج في عرصات الدور وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول الله [ { سواء العاكف فيه والباد } قال : سواء المقيم والذي يدخل ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حفرة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة فذكره وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعا [ من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا ] وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن راهويه وأحمد وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود رفعه في قوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } قال : لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذابا أليما قال ابن كثير : هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ووقفه أشبه من رفعه ولهذا صمم شعبة على وقفه وأخرج سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود في الآية قال : من هم بخطيئة فلم يعملها في سوى البيت لم تكتب عليه حتى يعملها ومن هم بخطيئة في البيت لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة فنزلت فيه { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قول { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } قال : يشرك وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ] وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في تاريخه وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال : احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : بيع الطعام بمكة إلحاد وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ احتكار الطعام بمكة إلحاد ] وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن علي قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر وذلك حين يقول الله : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } الآية وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء { والقائمين } قال : المصلين عنده وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة معناه وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال : رب قد فرغت فقال : { أذن في الناس بالحج } قال رب وما يبلغ صوتي ؟ قال أذن وعلي البلاغ قال : رب كيف أقول ؟ قال : قل : يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه من في السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ليشهدوا منافع لهم } قال : أسواقا كانت لهم ما ذكر الله منافع إلا الدنيا وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة فأما منافع الآخرة فرضوان الله وأما منافع الدنيا فمما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات وأخرج أبو بكر المرزوي في كتاب العيدين عنه أيضا قال : الأيام المعلومات : يوم النحر وثلاثة أيام بعده وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الأيام المعلومات : يوم النحر وثلاثة أيام بعده وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : أيام التشريق وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا في الأيام المعلومات قال : قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : البائس الزمن وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال : التفث المناسك كلها وأخرج هؤلاء عن ابن عباس نحوه وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : التفث خلق الرأس والأخذ من العارضين ونتف الإبط وحلق العانة والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وقص الأظفار وقص الشارب والذبح وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه { وليطوفوا بالبيت العتيق } هو طواف الزيارة يوم النحر وورد في وجه تسمية البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة وقد أشرنا إلى ذلك سابقا وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا موضع ذكرها (3/642)
محل 30 - { ذلك } الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أو في محل نصب بفعل محذوف : أي افعلوا ذلك والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحج وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد والحرمات جمع حرمة قال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وهي في هذه الآية ما نهي عنها ومنه من الوقوع فيها والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره كما يفيده اللفظ وإن كان السبب خاصا وتعظيمها ترك ملابستها { فهو خير له } أي فالتعظيم خبر له { عند ربه } يعني في الآخرة من التهاون بشيء منها وقيل إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به فهي عدة بخير { وأحلت لكم الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم { إلا ما يتلى عليكم } أي في الكتاب العزيز من المحرمات وهي الميتة وما ذكر معها في سورة المائدة وقيل في قوله { إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم } { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } الرجس : القذر والوثن : التمثال وأصله من وثن الشيء : أي أقام في مقامه وسمي الصليب وثنا لأنه ينصب ويركز في مقامه فلا يبرح عنه والمراد اجتناب عبادة الأوثان وسماها رجسا لأنها سبب الرجس وهو العذاب وقيل جعلها سبحانه رجسا حكما والرجس النجس وليست النجاسة وصفا ذاتيا لها ولكنها وصف شرعي فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء قال الزجاج : من هنا لتلخيص جنس من أجناس : أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن { واجتنبوا قول الزور } الذي هو الباطل وسمي زورا لأنه مائل عن الحق ومنه قوله تعالى : { تزاور عن كهفهم } وقولهم مدينة زوراء : أي مائلة والمراد هنا قول الزور على العموم وأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان وقال الزجاج : المراد بقول الزور ها هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها وقولهم هذا حلال وهذا حرام وقيل المراد به شهادة الزور (3/645)
وانتصاب 31 - { حنفاء } على الحال : أي مستقيمين على الحق أو مائلين إلى الحق ولفظ حنفاء من الأضداد يقع على الاستقامة ويقع على الميل وقيل معناه حجاجا ولا وجه هذا { غير مشركين به } هو حال كالأول : أي غير مشركين به شيئا من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم وجملة { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب ومعنى خر من السماء : سقط إلى الأرض : أي انحط من رفيع الإيمان إلى حضيض الكفر { فتخطفه الطير } يقال خطفه يخطفه إذا سلبه ومنه قوله : { يخطف أبصارهم } أي تخطف لحمه وتقطعه بمخالبها قرأ أبو جعفر ونافع بتشديد الطاء وفتح الخاء وقرئ بكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما { أو تهوي به الريح } أي تقذفه وترمي به { في مكان سحيق } أي بعيد يقال سحق يسحق سحقا فهو سحاق إذا بعد قال الزجاج : أعلم الله أن بعد من أشرك به من الحلق كبعد ما خر من السماء فتذهب به الطير أو هوت به الريح في مكان بعيد (3/646)
32 - { ذلك ومن يعظم شعائر الله } الكلام في هذه الإشارة قد تقدم قريبا والشعائر جمع الشعيرة وهي كل شيء فيه لله تعالى شعار ومنه شعار القوم في الحرب وهو علامتهم التي يتعارفون بها ومنه إشعار البدن وهو الطعن في جانبها الأيمن فشعائر الله أعلام دينه وتدخل الهدايا في الحج دخولا أوليا والضمير في قوله : { فإنها من تقوى القلوب } راجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف : أي فإن تعظيمها من تقوى القلوب : أي من أفعال القلوب التي هي من التقوى فإن هذا التعظيم ناشئ من التقوى (3/646)
33 - { لكم فيها منافع } أي في الشعائر على العموم أو على الخصوص وهي البدن كما يدل عليه السياق ومن منافعها الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك { إلى أجل مسمى } وهو وقت نحرها { ثم محلها إلى البيت العتيق } أي حيث يحل نحرها والمعنى : أنها تنتهي إلى البيت وما يليه من الحرم فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرة إلى وقت نحرها ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية وقيل إن محلها ها هنا مأخوذ من إحلال الحرام والمعنى : أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي تنتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت فالبيت على هذا مراد بنفسه (3/647)
34 - { ولكل أمة جعلنا منسكا } المنسك ها هنا المصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان والذبيحة نسيكة وجمعها نسك وقال الأزهري : إن المراد بالمنسك في الآية موضع النحر ويقال منسك بكسر السين وفتحها لغتان قرأ بالكسر الكوفيون إلا عاصما وقرأ الباقون بالفتح وقال الفراء : المنسك في كلام العرب : الموضع المعتاد في خير أو شر وقال ابن عرفة { ولكل أمة جعلنا منسكا } أي مذهبا من طاعة الله وروي عن الفراء أن المنسك العيد وقيل الحج والأول أولى لقوله : { ليذكروا اسم الله } إلى آخره والأمة : الجماعة المجتمعة على مذهب واحد والمعنى : وجعلنا لكل أهل دين من الأديان ذبحا يذبحونه ودما يريقونه أو متعبدا أو طاعة أو عيدا أو حجا يحجونه ليذكروا اسم الله وحده ويجعلوا نسكهم خاصا به { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } أي على ذبح ما رزقهم منها وفيه إشارة إلى أن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالإلهية وأنه لا شريك له والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ثم أمرهم بالإسلام له والانقياد لطاعته وعبادته وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر والفاء هنا كالفاء التي قبلها ثم أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يبشر { المخبتين } من عباده : أي المتواضعين الخاشعين المخلصين وهو مأخوذ من الخبيث وهو المنخفض من الأرض والمعنى : بشرهم يا محمد بما أعد الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه وقيل إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا (3/647)
ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله : 35 - { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي خافت وحذرت مخالفته وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه دليل على كمال يقينهم وقوة إيمانهم ووصفهم بالصبر { على ما أصابهم } من البلايا والمحن في طاعة الله ثم وصفهم بإقامة { الصلاة } أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال قرأ الجمهور : { والمقيمي الصلاة } بالجر على ما هو الظاهر وقرأ أبو عمرو بالنصب على توهم بقاء النون وأنشد سيبويه على ذلك قول الشاعر :
( الحافظ عورة العشيرة )
البيت بنصب عورة وقيل لم يقرأ بهذه القراءة أبو عمرو وقرأ ابن محيصن والمقيمين بإثبات النون على الأصل ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود ثم وصفهم سبحانه بقوله : { ومما رزقناهم ينفقون } أي يتصدقون به وينفقونه في وجوه البر ويضعونه في مواضع الخير ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون }
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { حرمات الله } قال : الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } يقول : اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان { واجتنبوا قول الزور } يعني الافتراء على الله والتكذيب به وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أيمن بن حريم قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : [ يا أيها الناس عدلت شهادة الزور شركا بالله ثلاثا ثم قرأ { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ] قال أحمد غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زيد وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ولا نعرف لأيمن بن حريم سماعا من النبي صلى الله عليه و سلم وقد أخرجه أحمد وعبد بن حميد وأبوداود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب من حديث حريم وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { حنفاء لله غير مشركين به } قال : حجاجا لله غير مشركين به وذلك أن الجاهلية كانوا يحجون مشركين فلما أظهر الله الإسلام قال الله للمسلمين : حجوا الآن غير مشركين بالله وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ومن يعظم شعائر الله } قال : البدن وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ومن يعظم شعائر الله } قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام وفي قوله : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } قال : إلى أن تسمى بدنا واخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه وفيه قال : ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها إلى أن تسمى هديا فإذا سميت هديا ذهبت المنافع { ثم محلها } يقول : حين تسمى { إلى البيت العتيق } وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولكل أمة جعلنا منسكا } قال : عيدا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : إهراق الدماء وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : ذبحا وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال : مكة لم يجعل الله لأمة منسكا غيرها وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وبشر المخبتين } قال : المطمئنين وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الغضب وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن أوس قال : المخبتون في الآية الذين لا يظلمون الناس وإذا ظلموا لم ينتصروا (3/647)
قرأ ابن أبي إسحاق 36 - { والبدن } بضم الباء والدال وقرأ الباقون بإسكان الدال وهما لغتان وهذا الاسم خاص بالإبل وسميت بدنة لأنها تبدن والبدانة : السمن وقال أبو حنيفة ومالك : إنه يطلق على غير الإبل والأول أولى لما سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الإسم بالإبل وقال ابن كثير في تفسيره : واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين : أصحهما أنه يطلق عليهما ذلك شرعا كما صح في الحديث { جعلناها لكم } وهي ما تقدم بيانه قريبا { لكم فيها خير } أي منافع دينية ودنيوية كما تقدم { فاذكروا اسم الله عليها } أي على نحوها ومعنى { صواف } أنها قائمة قد صفت قوائمها لأنها تنحر قائمة معقولة وأصل هذا الوصف في الخيل يقال : صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري صوافي أي خوالص لله لا تشركون به في التسمية على نحرها أحدا وواحد صواف صافة وهي قراءة الجمهور وواحد صوافي صافية وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر ومحمد بن علي صوافن بالنون جمع صافنة والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ومنه قوله تعالى : { الصافنات الجياد } ومنه قول عمر بن كلثوم :
( تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا )
وقال الآخر :
( ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسير )
{ فإذا وجبت جنوبها } الوجوب السقوط : أي سقطت بعد نحرها وذلك عند خروج روحها { فكلوا منها } ذهب الجمهور أن هذا الأمر للندب { وأطعموا القانع والمعتر } هذا الأمر قيل هو للندب كالأول وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج وقال الشافعي وجماعة : هو الوجوب
واختلف في القانع من هو ؟ فقيل هو السائل يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل ومنه قول الشماخ :
( لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع )
أي السؤال وقيل هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة ذكر معناها الخليل قال ابن السكيت : من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة وهي الرضا والتعفف وترك المسألة وبلأول قال زيد بن أسلم وابنه سعيد بن جبير والحسن وروي عن ابن عباس وبالثاني قال عكرمة وقتادة وأما المعتر فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن أنه الذي يتعرض من غير سؤال وقيل هو الذي يعتريك ويسألك وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع : الفقير والمعتر : الزائر وروي عن ابن عباس : أن كلاهما الذي لا يسأل ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقرأ الحسن والمعتري ومعناه كمعنى المعتر ومنه قول زهير :
( على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل )
يقال اعتره واعتراه وعره وعراه : إذا تعرض لما عنده أو طلبه ذكره النحاس { كذلك سخرناها لكم } أي مثل ذلك التسخير البديع سخرناها لكم فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهرها والحلب لها ونحو ذلك { لعلكم تشكرون } هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم (3/649)
37 - { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } أي لن يصعد إليه ولا يبلغ رضاه ولا يقع موقع القبول منه لحوم هذه الإبل التي تتصدقون بها ولا دماؤها التي تنصب عند نحرها من حيث إنها لحوم ودماء { ولكن يناله } أي يبلغ إليه تقوى قلوبكم ويصل إليه إخلاصكم له وإرادتكم بذلك وجهه فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه وقيل المراد أصحاب اللحوم والدماء : أي لن يرضى المضحون والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء ولكن بالتقوى قال الزجاج : أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله ووصل إليه فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطبتهم { كذلك سخرها لكم } كرر هذا للتذكير ومعنى { لتكبروا الله على ما هداكم } هو قول الناحر : الله أكبر عند النحر فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها وذكر هنا التكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير وقيل المراد بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء ومعنى { على ما هداكم } على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية التقرب بها وما مصدرية أو موصولة { وبشر المحسنين } قيل المراد بهم المخلصون وقيل الموحدون والظاهر أن المراد بهم كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبد الله بن عمر قال : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : البدن ذات الجوف وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : ليس البدن إلا من الإبل وأخرجوا عن الحكم نحوه وأخرجوا عن عطاء نحو ما قال ابن عمر وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه أيضا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرباحي عن أبيه قال : أوصى ببدنة فأتيت ابن عباس فقلت له : إن رجلا أوصى إلي وأوصى ببدنة فهل تجزىء عني بقرة ؟ قال نعم ثم قال : ممن صاحبكم ؟ فقلت من بني رباخ فقال : ومتى اقتنى بنو رباح البقر إلى الإبل ؟ وهم صاحبكم إنما البقر للأسد وعبد القيس وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الأضاحي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي ظبيان قال : سألت ابن عباس عن قوله : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } قال : إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم الل والله أكبر وأخرج الفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { صواف } قال : قياما معقولة وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج أبو عبيدة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهرانقال : في قراءة ابن مسعود صوافن يعني قياما وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فإذا وجبت } قال : سقطت على جنبها وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال نحرت وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : { القانع } المتعفف { والمعتر } السائل وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال القانع الذي يقنع بما آتيته
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : القانع الذي يقنع بما أوتي والمعتر الذي يعترض
وأخرج عنه أيضا قال : القانع الذي يجلس في بيته وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في سننه عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال : أما القانع فالقانع بما أرسلت إليه في بيته والمعتر الذي يعتريك وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : القانع الذي يسأل والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينضحون بها نحو الكعبة فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فأنزل الله { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريح نحوه (3/651)
قرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع وقرأ الباقون يدافع وصيغة المفاعلة هنا مجردة عن معناها الأصلي وهو وقوع الفعل من الجانبين كما تدل عله القراءة الأخرى وقد ترد هذه الصيغة ولا يراد بها معناها الأصلي كثيرا مثل عاقبت اللص ونحو ذلك وقد قدمنا تحقيقه وقيل إن إيراد هذه الصيغة هنا للمبالغة وقيل للدلالة على تكرر الواقع والمعنى : يدافع عن المؤمنين غوائل المشركين وقيل يعلي حجتهم وقيل يوفقهم والجملة مستأنفة لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين وأنه المتولي للمدافعة عنهم وجملة 38 - { إن الله لا يحب كل خوان كفور } مقررة لضمون الجملة الأولى فإن المدافعة من الله لهم عن عباده المؤمنين مشعرة أتم إشعار بأنهم مبغضون إلى الله غير محبوبين له قال الزجاج : من ذكر غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوان كفور وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع لا لإخراج من خان دون خيانتهم (3/653)
أو كفر دون كفرهم 39 - { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } قرىء أذن مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول وكذلك يقاتلون قرىء مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول وعلى كلا القرائتين فالإذن من الله سبحانه لعباده المؤمنين بأنهم إذا صلحوا للقتال أو قاتلهم المشركون قاتلوهم قال المفسرون : كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بألسنتهم وأيديهم فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول لهم : [ اصبروا فإني لم أومر بالقتال ] حتى هاجر فأنزل الله سبحانه هذه الآية بالمدينة وهي أول آية نزلت في القتال وهذه الآية مقررة أيضا لمضمون قوله : { إن الله يدافع } فإن إباحة القتال لهم هي من جملة دفع الله عنهم والباء في { بأنهم ظلموا } للسببية : أي بسبب أنهم ظلموا بما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب وطرد ثم وعدهم سبحانه النصر على المشركين فقال : { وإن الله على نصرهم لقدير } وفيه تأكيد لما مر من المدافعة أيضا (3/653)
ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله : 40 - { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } ويجوز أن يكون بدلا من الذين يقاتلون أو في محل نصب على المدح أو محل رفع بإضمار مبتدأ والمراد بالديار مكة { إلا أن يقولوا ربنا الله } قال سيبويه : هو استثناء منقطع : أي لكن لقولهم ربنا الله أيأخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم ربنا الله وقال الفراء والزجاج : هو استثناء متصل والتقدير الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا الله فيكون مثل قوله سبحانه : { وما تنقم منا إلا أن آمنا } وقول النابغة :
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب )
{ ولولا دفع الله الناس } قرأ نافع { ولولا دفع } وقرأ الباقون { ولولا دفع } والمعنى : لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك وذهبت مواضع العبادة من الأرض ومعنى { لهدمت } لخربت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل فالصوامع : هي صوامع الرهبان وقيل صوامع الصابئين والبيع : جمع بيعة وهي كنيسة النصارى والصلوات هي كنائس اليهود واسمها بالعبرانية صلوثا بالمثلثة فعربت والمساجد هي مساجد المسلمين وقيل المعنى : لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن محمد المساجد قال ابن عطية : هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية وقيل المعنى : ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة وقيل لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار وقيل غير ذلك والصوامع : جمع صومعة وهي بناء مرتفع يقال صمع الثريدة : إذا رفع رأسها ورجع أصمع القلب : أي حاد الفطنة والأصمع من الرجال : الحديد القول وقيل الصغير الأذن ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام وقد ذكر ابن عطية في صلوات تسع قراءات ووجه تقديم مواضع عبادات أهل الملل على موضع عبادة المسلمين كونها أقدم بناء وأسبق وجودا والظاهر من الهدم المذكور معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره وقيل المراد به المعنى المجازي وهو تعطلها من العبادة وقرئ { لهدمت } بالتشديد وانتصاب كثيرا في قوله : { يذكر فيها اسم الله كثيرا } على أنه صفة لمصدر محذوف : أي ذكرا كثيرا أو وقتا كثيرا والجملة صفة للمساجد وقيل لجميع المذكورات { ولينصرن الله من ينصره } اللام هي جواب لقسم محذوف : أي والله لينصر الله من ينصره والمراد بمن ينصر الله من ينصر دينه وأولياءه والقوي القادر على الشيء والعزيز الجليل الشريف قاله الزجاج وقيل الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع (3/653)
والموصول في قوله : 41 - { الذين إن مكناهم في الأرض } في موضع نصب صفة لمن في قوله من ينصره قاله الزجاج : وقال غيره هو في موضع جر صفة لقوله للذين يقاتلون وقيل المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان وقيل أهل الصلوات الخمس وقيل ولاة العدل وقيل غير ذلك وفيه إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من مكنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك وقد تقدم تفسير الآية ومعنى { ولله عاقبة الأمور } أن مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم { إنا لله وإنا إليه راجعون } ليهلكن القوم فنزلت { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } الآية قال ابن عباس : وهي أول آية نزلت في القتال قال الترمذي : حسن وقد رواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس انتهى وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : { الذين أخرجوا من ديارهم } أي من مكة إلى المدينة بغير حق يعني محمدا صلى الله عليه و سلم وأصحابه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال : فينا نزلت هذه الآية { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } والآية بعدها أخرجنا من ديارنا بغير حق : ثم مكناهم في الأرض أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهي لي ولأصحابي وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد { ولولا دفع الله الناس } الآية : قال لولا دفع الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدمت صوامع وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لهدمت صوامع } الآية قال : الصوامع التي تكون فيها الرهبان والبيع مساجد اليهود وصلوات كنائس النصارى والمساجد مساجد المسلمين وأخرجا عنه قال : البيع بيع النصارى وصلوات كنائس اليهود وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله : { الذين إن مكناهم في الأرض } قال : أرض المدينة { أقاموا الصلاة } قال : المكتوبة { وآتوا الزكاة } قال : المفروضة { وأمروا بالمعروف } قال لا إله إلا الله { ونهوا عن المنكر } قال : عن الشرك بالله { ولله عاقبة الأمور } قال : وعند الله ثواب ما صنعوا (3/654)
قوله : 42 - { وإن يكذبوك } إلخ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك المكذبين له كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله وفيه إرشاد له صلى الله عليه و سلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك (3/656)
43 - { وقوم إبراهيم وقوم لوط } وقد تقدم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم (3/656)
وإنما غير النظم في قوله : 44 - { وكذب موسى } فجاء بالفعل مبنيا للمفعول لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما كذبه غيرهم من القبط { فأمليت للكافرين } أي أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب { ثم أخذتهم } أي أخذت كل فريق من المكذبين بالعذاب بعد انقضاء مدة الإمهال { فكيف كان نكير } هذا الاستفهام للتقرير : أي فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغير ما كانوا فيه من النعم وإهلاكهم والنكير اسم من المنكر قال الزجاج : أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار قال الجوهري : النكير والإنكار تغيير المنكر (3/656)
ثم ذكر سبحانه كيف عذب أهل القرى المكذبة فقال 45 - { فكأين من قرية أهلكناها } أي أهلكنا أهلها وقد تقدم الكلام على هذا التركيب في آل عمران وقرئ أهلكتها وجملة { وهي ظالمة } حالية وجملة { فهي خاوية } عطف على { أهلكناها } لا على ظالمة لأنها حالية والعذاب ليس في حال الظلم والمراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها : والخواء : بمعنى السقوط : أي فهي ساقطة { على عروشها } أي على سقوفها وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة { وبئر معطلة } معطوف على قرية والمعنى : وكم من أهل قرية ومن أهل بئر معطلة هكذا قال الزجاج وقال الفراء : إنه معطوف على عروشها والمراد بالمعظلة المتروكة وقيل الخالية عن أهلها لهلاكهم وقيل الغائرة وقيل معطلة من الدلاء والأرشية والقصر المشيد هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحاك ويدل عليه قول عدي بن زيد :
( شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكور )
شاده : أي رفعه وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد : المراد بالمشيد المجصص مأخوذ من الشيد وهو الجص ومنه قول الراجز :
( لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا ... كحية الماء بين الطين والشيد )
وقيل المشيد الحصين قاله الكلبي قال الجوهري : المشيد المعمول بالشيد والشيد بالكسر كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط وبالفتح المصدر تقول شاده يشيده جصصه والمشيد بالتشديد المطول قال الكسائي : للواحد من قوله تعالى : { في بروج مشيدة } والمعنى المعني : وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة ؟ ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهله أو من آلاته أو نحو ذلك قال القرطبي في تفسيره : ويقال إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيها إلا أخرجته وأصحاب القصر ملوك الحضر وأصحاب البئر ملوك البدو حكى الثعلبي وغيره : أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال لها حضوراء نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح فمات صالح فسمي المكان حضرموت لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا ثم ذكر قصة طويلة وقال بعد ذلك : وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس وإقفاره بعد العمران وأن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عادوا فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة قال : وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله : { وكم قصمنا من قرية } فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم انتهى (3/656)
ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارها بهذه الآثار قائلا 46 - { أفلم يسيروا في الأرض } حثا لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا فلهذا أنكر عليهم كما في قوله : { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون } ومعنى { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل كما أن الآذان محل السمع وقيل إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجا عنه
وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافا كثيرا لا حاجة إلى التطويل بذكره { أو آذان يسمعون بها } أي ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة { فإنها لا تعمى الأبصار } قال الفراء : الهاء عماد يجوز أن يقال : فإنه وهي قراءة عبد الله بن مسعود والمعنى واحد التذكير على الخبر والتأنيث على الأبصار أو القصة : أي فإن الأبصار لا تعمي أو فإن القصة لا تعمي الأبصار : أي أبصار العيون { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما هو في عقولهم أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار قال الفراء والزجاج : إن قوله التي في الصدور من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله : { عشرة كاملة } و { يقولون بأفواههم } و { يطير بجناحيه } (3/658)
ثم حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال : 47 - { ويستعجلونك بالعذاب } لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشد إنكار فاستعجالهم له هو على طريقة الاستهزاء والسخرية وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما تقوله الأنبياء عن الله سبحانه من الوعد منه عز و جل بوقوعه عليهم وحلوله بهم ولهذا قال : { ولن يخلف الله وعده } قال الفراء : في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة وذكر الزجاج وجها آخر فقال : أعلم أن الله لا يفوته شيء وإن يوما عنده وألف سنة في قدرته واحد ولا فرق بين وقوع ما يستعجلونه به من العذاب وتأخره في القدرة إلا أن الله تفضل بالإمهال انتهى ومحل جملة : ولن يخلف الله وعده النصب على الحال : أي والحال أنه لا يخلف وعده أبدا وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه حتما أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها وعلى الأول تكون جملة { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } مستأنفة وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال وخطابهم في ذلك ببيان كما حلمه لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم كما في قوله : { إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا } قال الفراء : هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة : أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة وقيل المعنى : وإن يوما من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة وكذلك يوم النعيم قياسا قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي { ما يعبدون } بالتحتية واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : { ويستعجلونك } وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب واختارها أبو حاتم (3/658)
48 - { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير } هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوما بعد الإملاء والتأخير قيل وتكرير هذا مع ذكره قبله للتأكيد وليس بتكرار في الحقيقة لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله : فكيف كان نكير ولهذا عطف بالفاء بدلا عن ذلك والثاني سيق لبيان الإملاء مناسبا لقوله : { ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة } فكأنه قيل : وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب ومرجع الكل إلى حكمي فجملة : وإلي المصير تذييل لتقرير ما قبلها (3/659)
49 - { قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } ثم أمره الله سبحانه أن يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم (3/659)
50 - { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم } فمن آمن وعمل صالحا فاز بالمغفرة والرزق الكريم وهو الجنة (3/659)
51 - { والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم } ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار وهم الذين سعوا في آيات الله معاجزين يقال عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه قاله الأخفش وقيل معنى معاجزين : ظانين ومقدرين أن يعجزوا الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم قاله الزجاج وقيل معاندين قاله الفراء
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { فهي خاوية على عروشها } قال : خربة ليس فيها أحد { وبئر معطلة } عطلها أهلها وتركوها { وقصر مشيد } قال : شيدوه وحصنوه فهلكوا وتركوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { وبئر معطلة } قال : التي تركت لا أهل لها وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { وقصر مشيد } قال : هو المجصص وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء نحوه أيضا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } قال : من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال في الآية : هو يوم القيامة وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة فقد مضى منها ستة آلاف وأخرج ابن عدي والديلمي عن أنس مرفوعا نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { معاجزين } قال : مراغمين وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : مشاقين (3/659)
قوله : 52 - { من رسول ولا نبي } قيل الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته شفاها والنبي الذي يكون إلهاما أو مناما وقيل الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ولم ينزل عليه كتاب ولا بد لهما جميعا من المعجزة الظاهرة { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } معنى تمنى : تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه قال الواحدي : وقال المفسرون : معنى تمنى تلا قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية : أنه صلى الله عليه و سلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم فكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة { والنجم إذا هوى } فأخذ يقرأها عليهم حتى بلغ قوله : { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في قراءته حتى ختم السورة فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين فتفرقت قريش مسرورين بذلك قالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبريل فقال : ما صنعت ؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله فحزن رسول الله صلى الله عليه و سلم وخاف خوفا شديدا فأنزل الله هذه الآية هكذا قالوا
ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه قال الله : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين } وقوله : { وما ينطق عن الهوى } وقوله : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم } فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم بإسناد متصل وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم وقال إمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة قال القاضي عياض في الشفاء : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى { تمنى } قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين وكذا قال البغوي : إن أكثر المفسرين قالوا معنى { تمنى } تلا وقرأ كتاب الله ومعنى { ألقى الشيطان في أمنيته } أي في تلاوته وقراءته قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } وقيل معنى { تمنى } حدث ومعنى { ألقى الشيطان في أمنيته } في حديثه روى هذا عن ابن عباس وقيل معنى { تمنى } قال فحاصل معنى الآية : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا جرى على لسانه فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء وعلى تقدير أن معنى تمنى حدث نفسه كما حكاه الفراء والكسائي فإنهما قالا : تمنى إذا حدث نفسه فالمعنى : أنه إذا حدث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا جرى على لسانه قال ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة وقد قيل في تأويل الآية : إن المراد بالغرانيق الملائكة ويرد بقوله : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي يبطله وشفاعة الملائكة غير باطلة وقيل إن ذلك جرى على لسانه صلى الله عليه و سلم سهوا ونسيانا وهما مجوزان على الأنبياء ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرر في مواطنه ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان به فقال : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي يبطله ويجعله ذاهبا غير ثابت { ثم يحكم الله آياته } أي يثبتها { والله عليم حكيم } أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله (3/660)
وجملة 53 - { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } للتعليل : أي ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة : أي ضلالة { للذين في قلوبهم مرض } أي شك ونفاق { والقاسية قلوبهم } هم المشركون فإن قلوبهم لا تلين للحق أبدا ولا ترجع إلى الصواب بحال ثم سجل سبحانه على هاتين الطائفتين : وهما من في قلبه مرض ومن في قلبه قسوة بأنهم ظالمون فقال : { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } أي عداوة شديدة ووصف الشقاق بالبعد مبالغة والموصوف به في الحقيقة من قام به (3/662)
ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشك والشرك بين أنه في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حق وصدق فقال : 54 - { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك } أي الحق النازل من عنده وقيل إن الضمير في أنه راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء لأنه مما جرت به عادته من أنبيائه ولكنه يرد هذا قوله : { فيؤمنوا به } فإن المراد بالإيمان بالقرآن : أي يثبتوا على الإيمان به { فتخبت له قلوبهم } أي تخشع وتسكن وتنقاد فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن { وإن الله لهاد الذين آمنوا } في أمور دينهم { إلى صراط مستقيم } أي طريق صحيح لا عوج به وقرأ أبو حيوة وأن الله لهاد الذين آمنوا بالتنوين (3/662)
55 - { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه } أي في شك من القرآن وقيل في الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم وقيل في إلقاء الشيطان فيقولون : ما باله ذكر الأصنام بخير ثم رجع عن ذلك ؟ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في مرية بضم الميم { حتى تأتيهم الساعة } أي القيامة { بغتة } أي فجأة { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } وهو يوم القيامة لأنه لا يوم بعده فكان بهذا الاعتبار عقيما والعقيم في اللغة من لا يكون له ولد ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقم وقيل يوم حرب يقتلون في كيوم بدر وقيل إن اليوم وصف بالعقم لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة فكأنه عقيم من الخير ومنه قوله تعالى : { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر (3/663)
56 - { الملك يومئذ لله } أي السلطان القاهر والاستيلاء التام : يوم القيامة لله سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه وجملة { يحكم بينهم } مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر ثم فسر هذا الحكم بقوله سبحانه : { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم } أي كائنون فيها مستقرون في أرضها منغمسون في نعيمها (3/663)
57 - { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته { فأولئك لهم عذاب مهين } أي عذاب متصف بأنه مهين للمعذبين بالغ منهم المبلغ العظيم
وقد أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله وزاد فنسخت محدث قال : والمحدثون : صاحب يس ولقمان ومؤمن آل فرعون وصاحب موسى وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة قال السيوطي بسند رجاله ثقات سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى ففرح المشركون بذلك وقالوا : قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل فقال : اقرأ علي ما جئت به فقرأ : أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فقال : ما أتيتك بهذا هذا من الشيطان فأنزل الله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى } الآية ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة النجم فذكر نحوه ولم يذكر ابن عباس وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والسدي عن سعيد مرسلا ورواه عبد بن حميد عن السدي عن أبي صالح مرسلا ورواه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب مرسلا وأخرج ابن جرير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه مرسلا أيضا والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها وقد أسلفنا عن الحفاظ في أول هذا البحث ما فيه كفاية وفي الباب روايات من أحب الوقوف على جميعها فلينظرها في الدر المنثور للسيوطي ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة فقد عرفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } يقول إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : يعني بالتمني التلاوة والقراءة ألقى الشيطان في أمنيته : في تلاوته { فينسخ الله } ينسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد { إذا تمنى } قال : تكلم { في أمنيته } قال : كلامه وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { عذاب يوم عقيم } قال يوم بدر وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : عذاب يوم عقيم قال يوم بدر وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : يوم القيامة لا ليلة له وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك مثله (3/663)
أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصا لهم بمزيد الشرف فقال : 58 - { والذين هاجروا في سبيل الله } قال بعض المفسرين : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وقال بعضهم : الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين والكل من سبيل الله { ثم قتلوا أو ماتوا } أي في حال المهاجرة واللام في { ليرزقنهم الله رزقا حسنا } جواب قسم محذوف والجملة خبر الموصول بتقدير القول وانتصاب رزقا على أنه مفقول ثان : أي مرزوقا حسنا أو على أنه مصدر مؤكدة والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع وقيل هو الغنيمة لأنه حلال وقيل هو العلم والفهم كقول شعيب { ورزقني منه رزقا حسنا } قرأ ابن عامر وأهل الشام { ثم قتلوا } بالتشديد على التكثير وقرأ الباقون بالتخفيف { وإن الله لهو خير الرازقين } فإنه سبحانه يرزق بغير حساب وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض فهو منه سبحانه لا رازق سواه ولا معطي غيره والجملة تذييل مقررة لما قبلها (3/665)
وجملة 59 - { ليدخلنهم مدخلا يرضونه } مستأنفة أو بدل من جملة ليرزقنهم الله قرأ أهل المدينة { مدخلا } بفتح الميم وقرأ الباقون بضمها وهو اسم مكان أريد به الجنة وانتصابه على أنه مفعول ثان أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره فإن المدخل يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا { وإن الله لعليم } بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم { حليم } عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة (3/665)
والإشارة بقوله : 60 - { ذلك } إلى ما تقدم قال الزجاج : أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف ومعنى { ومن عاقب بمثل ما عوقب به } من جازى الظالم بمثل ما ظلمه وسمي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه ومعنى { ثم بغي عليه } أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى قيل المراد بهذا البغي : هو ما وقع من المشركين من أزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به واللام في { لينصرنه الله } جواب قسم محذوف : أي لينصرن الله المبغي عليه على الباغي { إن الله لعفو غفور } أي كثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب وقيل العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو وقيل إن معنى { ثم بغي عليه } أي ثم كان المجازي مبغيا عليه : أي مظلوما ومعنى ثم تفاوت الرتبة لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب : البادي أظلم
وقيل إن هذه الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات (3/665)
والإشارة بقوله : 61 - { ذلك بأن الله يولج الليل في النهار } إلى ما تقدم من نصر الله سبحانه للمبغي عليه وهو مبتدأ وخبره جملة بأن الله يولج والباء للسببية : أي ذلك بسبب أنه سبحانه قادر ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وعبر عن الزيادة بالايلاج لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج { وأن الله سميع } يسمع كل مسموع { بصير } يبصر كل مبصر أو سميع للأقوال مبصر للأفعال فلا يعزب عنه مثال ذرة (3/666)
والإشارة بقوله : 62 - { ذلك بأن الله هو الحق } إلى ما تقدم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة القاهرة والعلم التام : أي هو سبحانه ذو الحق فدينه حق وعبادته حق ونصره لأوليائه على أعدائه حق ووعده حق فهو عز و جل في نفسه وأفعاله وصفاته حق { وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة { تدعون } بالفوقية على الخطاب للمشركين واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرى الباقون بالتحتية على الخبر واختار هذه القراءة أبو عبيدة والمعنى : إن الذين تدعونهم آلهة وهي الأصنام هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلها { وأن الله هو العلي } أي العالي على كل شيء بقدرته المتقدس على الأشباه والأنداد المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات { الكبير } أي ذو الكبرياء وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرده بالإلهية (3/666)
ثم ذكر سبحانه دليلا بينا على كمال قدرته فقال : 63 - { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } الاستفهام للتقرير والفاء للعطف على أنزل وارتفع الفعل بعد الفاء لكونه استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل وسيبويه قال الخليل : المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا كما قال الشاعر :
( ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق )
معناه : قد سألته فنطق قال الفراء : ألم تر خبر كما تقول في الكلام : إن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة : أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة : أي ذوات بقل وسباع وهو عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة الإخضرار مع الإشعار بتجدد الإنزال واستمراره وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل والرفع هنا متعين لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار والمقصود إثباته قال ابن عطية : هذا لا يكون : يعني الاخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها كما في قوله : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } والمراد بقوله : { إن الله لطيف } أنه يصل علمه إلى كل دقيق وجليل وقيل لطيف بأرزاق عباده وقيل لطيف باستخراج النبات ومعنى { خبير } أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم وقيل خبير بما ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر وقيل خبير بحاجتهم وفاقتهم (3/667)
64 - { له ما في السموات وما في الأرض } خلقا وملكا وتصرفا وكلهم محتاجون إلى رزقه { وإن الله لهو الغني } فلا يحتاج إلى شيء { الحميد } المستوجب الحمد في كل حال (3/667)
65 - { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض } هذه نعمة أخرى ذكرها الله سبحانه فأخبر عباده بأنه سخر لهم ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار وجعله لمنافعهم { والفلك } عطف على ما أو على اسم أن : أي وسخر لكم الفلك في حال جريها في البحر وقرأ عبد الرحمن الأعرج والفلك بالرفع على الابتداء وما عبده خبره وقرأ الباقون بالنصب ومعنى { تجري في البحر بأمره } أي بتقديره والجملة في محل نصب على الحال على قراءة الجمهور { ويمسك السماء أن تقع على الأرض } أي كراهة أن تقع وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك والجملة معطوفة على { تجري } { إلا بإذنه } أي بإراداته ومشيئته وذلك يوم القيامة { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } أي كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده وهيأ لهم أسباب المعاش وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم تفضلا منه على عباده وإنعاما عليهم (3/667)
ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال : 66 - { وهو الذي أحياكم } بعد أن كنتم جمادا { ثم يميتكم } عند انقضاء أعماركم { ثم يحييكم } عند البعث للحساب والعقاب { إن الإنسان لكفور } أي كثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين واقرأوا إن شئتم { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا } إلى قوله : { حليم } ] وإسناد ابن أبي حاتم هكذا : حدثنا المسيب بن واضح حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن عبد الكريم بن الحارث عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن عقبة قال : قال شرحبيل بن السمط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم فمر بي سلمان : يعني الفارسي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان برودس فمروا بجنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفى فمال الناس عن القتيل فقال فضالة : ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا ؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا } الآية وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا : حدثنا أبو زرعة عن زيد بن بشر أخبرني ضمام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المغافري يقولان : كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره قلت : ويؤيد هذا قول الله سبحانه : { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : { ومن عاقب بمثل ما عوقب به } قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث سرية في ليلتين بقيتا من المحرم فلقوا المشركين فقال المشركون بعضهم لبعض : قاتلوا أصحاب محمد فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام وإن أصحاب محمد ناشدوهم وذكروهم بالله أن يعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام إلا من بادأهم وإن المشركين بدأوا فقاتلوهم فاستحل الصحابة قتالهم عند ذلك فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم وهو مرسل وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { ومن عاقب } الآية قال : تعاون المشركون على النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فأخرجوه فوعده الله أن ينصره وهو في القصاص أيضا وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد { وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } قال : الشيطان وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { إن الإنسان لكفور } قال : يعد المصيبات وينسي النعم (3/668)
عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل الأديان عن منازعته فقال : 67 - { لكل أمة جعلنا منسكا } أي لكل قرن من القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى الأخرى وجملة { هم ناسكوه } صفة لمنسكا والضمير لكل أمة : أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه و سلم والقرآن منسك المسلمين والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدل عليه هم ناسكوه ولم يقل ناسكون فيه وقيل المنسك موضع أداء الطاعة وقيل هو الذبائح ولا وجه للتخصيص ولا اعتبار بخصوص السبب والفاء في قوله : { فلا ينازعنك في الأمر } لترتيب النهي على ما قبله والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم : أي قد عينا لكل أمة شريعة ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين والنهي إما على حقيقته أو كناية عن نهيه صلى الله عليه و سلم عن الالتفات إلى نزاعهم له قال الزجاج : إنه نهي له صلى الله عليه و سلم عن منازعتهم : أي لا تنازعهم أنت كما تقول لا يخاصمك فلان : أي لا تخاصمه وكما تقول لا يضاربنك فلان : أي لا تضاربه وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنا ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية : فلا ينازعك : أي فلا يجادلنك قال : ودل على هذا { وإن جادلوك } وقرأ أبو مجلز فلا ينزعنك في الأمر أي لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك وقرأ الباقون { ينازعنك } من المنازعة { وادع إلى ربك } أي وادع هؤلاء المنازعين أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به { إنك لعلى هدى مستقيم } أي طريق مستقيم لا اعوجاج فيه (3/669)
68 - { وإن جادلوك } أي وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان وظهور الحجة عليهم { فقل الله أعلم بما تعملون } أي فكل أمرهم إلى الله وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد (3/670)
69 - { الله يحكم بينكم } أي بين المسلمين والكافرين { يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين فيتبين حينئذ الحق من الباطل وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل وقيل إنها منسوخة بآية السيف (3/668)
وجملة 70 - { ألم تعلم } مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها والاستفهام للتقرير : أي قد علمت يا محمد وتيقنت { أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مختلفون إن ذلك الذي في السماء والأرض من معلوماته { في كتاب } أي مكتوب عنده في أم الكتاب { إن ذلك على الله يسير } أي إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه (3/668)
71 - { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا } هذا حكاية لبعض فضائحهم : أي إنهم يعبدون أصناما لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه { وما ليس لهم به علم } من دليل عقل يدل على جواز ذلك بوجه من الوجوه { وما للظالمين من نصير } ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله وقد تقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران (3/668)
وجملة 72 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } معطوفة على يعبدون وانتصاب بينات على الحال : أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } أي الأمر الذي ينكر وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعهم أو المراد بالمنكر الإنكار : أي تعرف في وجوههم إنكارها وقيل هو التجبر والترفع وجملة { يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم ؟ فقيل يكادون يسطون : أي يبطشون والسطوة شدة البطش يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب أو شتم أو أخذ باليد وأصل السطو القهر
وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة مخالفا لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطوو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف والله ناصر الحق ومظهر الدين وداحض الباطل ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس ما نزل إليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل ثم أمر رسوله أن يرد عليهم فقال : { قل أفأنبئكم } أي أخبركم { بشر من ذلكم } الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم وهو النار التي أعدها الله لكم فالنار مرتفعة على أنها خبر لمبتدإ محذوف والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما هذا الأمر الذي هو شر مما نكابده ونناهده عند سماعنا ما تتلوه علينا فقال هو { النار وعدها الله الذين كفروا } وقيل إن النار مبتدأ وخبره جملة وعدها الله الذين كفروا وقيل المعنى : أفأخبركم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوئب عليهم وقرئ النار بالنصب على تقدير أعني وقرئ بالجر بدلا من شر { وبئس المصير } أي الموضع الذي تصيرون إليه وهو النار
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { هم ناسكوه } قال : يعني هم ذابحوه { فلا ينازعنك في الأمر } يعني في أمر الذبح وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه أيضا وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : { فلا ينازعنك في الأمر } قول أهل الشرك : أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه وأما ما ذبحتم بأيديكمك فهو حلال وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : خلق الله اللوح المحفوظ لمسير مائة عام وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش : اكتب قال : ما أكتب ؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة فذلك قوله للنبي صلى الله عليه و سلم { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض } يعني ما في السموات السبع والأرضين السبع { إن ذلك } العلم { في كتاب } يعني في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السموات والأرضين { إن ذلك على الله يسير } يعني هين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { يكادون يسطون } يبطشون (3/670)
قوله : 73 - { يا أيها الناس ضرب مثل } هذا متصل بقوله : { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا } قال الأخفش : ليس ثم مثل وإنما المعنى ضربوا لي مثلا { فاستمعوا } قولهم يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره فكأنه قال : جعلوا لي شبها في عبادتي فاستمتعوا خبر هذا الشبه وقال القتيبي : إن المعنى يا أيها الناس مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا وإن سلبها شيئا لم تستطع أن تستنفذه منه قال النحاس : المعنى ضرب الله عز و جل لما يعبدونه من دونه مثلا قال : وهذا من أحسن ما قيل فيه : أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم وأصل المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول مسيرة في الناس مستغربة عندهم وجعلوا مضربها مثلا لموردها ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية والمراد بما يدعونه من دون الله : الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها وقيل المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله لكونهم أهل الحل والعقد فيهم وقيل الشياطين الذين حملوهم على معصية الله والأول أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل والذياب اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى وجمع القلة أذبة والكثرة ذبان مثل غراب وأغربة وغربان وقال الجوهري : الذباب معروف الواحد ذبابة والمعنى : لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات وجملة { ولو اجتمعوا له } معطوفة على جملة أخرى شرطية محذوفة : أي لو لم يجتمعوا له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له والجواب محذوف والتقدير لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال : أي لن يخلقوه على كل حال ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال : { وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه } أي إذا أخذ منهم الذباب شيئا من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم والاستنقاذ والإنقاذ التخلص وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف وعن استنقاذ وعن استنقاذ ما أخذه عليهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرما وأشد منه قوة أعجز وأضعف ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب فقال : { ضعف الطالب والمطلوب } فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه والمطلوب الذباب وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم وقيل الطالب الذباب والمطلوب الآلهة (3/672)
ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته فقال : 74 - { ما قدروا الله حق قدره } أي ما عظموه حق تعظيمه ولا عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال وقد تقدم في الأنعام { إن الله لقوي } على خلق كل شيء { عزيز } غالب لا يغالبه أحد بخلاف آلهة المشركين فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضر ولا تقدر على شيء (3/673)
ثم أراد سبحانه أن يرد عليهم ما يعتقدونه في النبوات والإلهيات فقال : 75 - { الله يصطفي من الملائكة رسلا } كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل { و } يصطفي أيضا رسلا { من الناس } وهم الأنبياء فيرسل الملك إلى النبي والنبي إلى الناس أو يرسل الملك لقبض أرواح مخلوقاته أو لتحصيل ما ينفعكم أو لإنزال العذاب عليهم { فإن الله سميع } لأقوال عباده { بصير } بمن يختاره من خلقه (3/673)
76 - { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } أي ما قدموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشر كقوله تعالى : { ونكتب ما قدموا وآثارهم } { وإلى الله ترجع الأمور } لا إلى غيره (3/673)
ولما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه الزجر لعباده عن معاصيه والحض لهم على طاعاته صرح بالمقصود فقال : 77 - { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم وخص الصلاة لكونها أشرف العبادات ثم عمم فقال : { واعبدوا ربكم } أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها { وافعلوا الخير } أي ما هو خير وهم أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة وقيل المراد بالخير هنا المندوبات ثم علل ذلك بقوله : { لعلكم تفلحون } أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله وقد تقدم أن هذه السورة فضلت بسجدتين وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية (3/673)
ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله فقال : 78 - { وجاهدوا في الله } أي في ذاته ومن أجله والمراد به الجهاد الأكبر وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين وقيل المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدمة أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم ومعنى { حق جهاده } المبالغة في الأمر بهذا الجهاد لأنه أضاف الحق إلى الجهاد والأصل إضافة الجهاد إلى الحق : أي جهادا خالصا لله فعكس ذلك لقصد المبالغة وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولا له ومن أجله وقيل المراد بحق جهاده هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم وقيل المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله وقال مقاتل والكلبي : إن الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } كما أن قوله : { اتقوا الله حق تقاته } منسوخ بذلك ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله : { هو اجتباكم } أي اختاركم لدينه وفيه تشريف لهم عظيم ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي من ضيق وشدة
وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله فقيل : هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين وقيل المراد قصر الصلاة والإفطار للمسافر والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة وكذا في الفطر والأضحى وقيل المعنى : أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجا بتكليف ما يشق عليهم ولكن كلفهم مما يقدرون عليه ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل وقيل المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجا بفتح باب التوبة والاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة والأرش أو القصاص في الجنايات ورد المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه والظاهر أن الآية أعم من هذا كله فقد حط سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده : إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله وما أنفع هذه الآية وأجل موقعها وأعظم فائدتها ومثلها قوله سبحانه : { فاتقوا الله ما استطعتم } قوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقوله : { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال : قد فعلت كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية والأحاديث في هذا كثيرة وانتصاب ملة في { ملة أبيكم إبراهيم } على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله : أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم وقال الزجاج : المعنى اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم وقال الفراء : انتصب على تقدير حذف الكاف : أي كملة وقيل التقدير : وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم فأقام الملة مقام الفعل وقيل على الإغراء وقيل على الاختصاص وإنما جعل سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة ولأن له عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن لكونه أبا لنبيهم صلى الله عليه و سلم { هو سماكم المسلمين من قبل } أي في الكتب المتقدمة { وفي هذا } أي القرآن والضمير لله سبحانه وقيل راجع إلى إبراهيم والمعنى هو : أي إبراهيم سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه و سلم وفي هذا : أي في حكمه أن من اتبع محمدا فهو مسلم قال النحاس : وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة ثم علل سبحانه ذلك بقوله { ليكون الرسول شهيدا عليكم } أي بتبليغه إليكم { وتكونوا شهداء على الناس } أن رسلهم قد بلغتهم وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في البقرة ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال : { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما { واعتصموا بالله } أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون والتجئوا إليه في جميع أموركم ولا تطلبوا ذلك إلا منه { هو مولاكم } أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها { فنعم المولى ونعم النصير } أي لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم وقيل المراد بقوله اعتصموا بالله : تمسكوا بدين الله وقيل ثقوا به تعالى
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { يا أيها الناس ضرب مثل } قال : نزلت في صنم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه { ضعف الطالب والمطلوب } قال : الطالب آلهتهم والمطلوب الذباب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله : { لا يستنقذوه منه } قال : لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء من الذباب وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضا عن أنس وصححه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اصطفى موسى بالكلام وإبراهيم بالخلة ] وأخرج أيضا عن أنس وصححه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ موسى بن عمران صفي الله ] واخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال لي عمر : ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ : وجاهدوا في الله جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله ؟ قلت بلى : فمتى هذا يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان وابن مردويه والعسكري في الأمثال عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ] وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية { وما جعل عليكم في الدين من حرج } قال : الضيق وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد قال : قال أبو هريرة لابن عباس : أما علينا في الدين من حرج في أن تسرق أو نزني ؟ قال بلى قال : فـ { ما جعل عليكم في الدين من حرج } ؟ قال : الإصر الذي كان علة بني إسرائيل وضع عنكم وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن شهاب أن ابن عباس كان يقول : وما جعل عليكم في الدين من حرج توسعة الإسلام ما جعل الله من التوبة والكفارات وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن يسار عن ابن عباس { ما جعل عليكم في الدين من حرج } قال : هذا في هلال رمضان إذا شك فيه الناس وفي الحج إذا شكوا في الأضحى وفي الفطر وأشباهه وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال : ادع لي رجلا من هذيل فجاءه فقال : ما الحرج فيكم ؟ قال : الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج فقال ابن عباس : الذي ليس له مخرج وأخرج سعيد بن جبير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق عبيد الله بن أبي يزيد أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال : ها هنا أحد من هذيل قال رجل أنا فقال : ما تعدون الحرجة فيكم ؟ قال : الشيء الضيق قال : هو ذاك وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال : قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ثم قال لي : ادع لي رجلا من بني مدلج قال عمر : ما الحرج فيكم ؟ قال : الضيق وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { ملة أبيكم } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { سماكم المسلمين من قبل } قال : الله عز و جل : سماكم وروي نحوه عن جماعة من التابعين وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وصححه والنسائي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والبارودي وابن قانع والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من دعا بدعوة الجاهلية فإنه من جثي جهنم قال رجل : يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ قال : نعم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله ] (3/673)
سورة المؤمنون
هي مكية بلا خلاف قال القرطبي كلها مكية في قول الجميع وآياتها مائة وتسع عشرة آية
وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عبد الله بن السائب قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم بمكة الصبح فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع وأخرج البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لما خلق الله الجنةقال لها تكلمي فقالت : قد أفلح المؤمنون ] وأخرجه أيضا ابن عدي والحاكم وأخرج الطبراني في السنة وابن مردويه من حديث ابن عباس مثله وقد ورد فضائل العشر الآيات من أول هذه السورة ما سيأتي قريبا
قوله : 1 - { قد أفلح المؤمنون } قال الفراء : قد ها هنا يجوز أن تكون تأكيدا لفلاح المؤمنين ويجوز أن تكون تقريبا للماضي من الحال لأن قد تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه ألا تراهم يقولون : قد قامت الصلاة قبل حال قيامها ويكون المعنى في الآية أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال والفلاح الظفر بالمراد والنجاة من المكروه وقيل البقاء في الخير وأفلح إذا دخل في الفلاح ويقال أفلحه : إذا أصاره إلى الفلاح وقد تقدم بيان معنى الفلاح في أول البقرة وقرأ طلحة بن مصرف قد أفلح بضم الهمزة وبناء الفعل للمفعول وروي عنه أنه قرأ أفلحوا المؤمنون على الإبهام والتفسير أو على لغة أكلوني البراغيث (3/677)
ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله : 2 - { الذين هم في صلاتهم خاشعون } وما عطف عليه والخشوع : منهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث وهو في اللغة السكون والتواضع والخوف والتذلل
وقد اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ؟ على قولين : قيل الصحيح الأول وقيل الثاني وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته حكاه النيسابوري في تفسيره قال : ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى وكذا قوله : { أقم الصلاة لذكري } والغفلة تضاد الذكر ولهذا قال : { ولا تكن من الغافلين } وقوله : { حتى تعلموا ما تقولون } نهي للسكران والمستغرق في هموم الدنيا بمنزلته (3/678)
3 - { والذين هم عن اللغو معرضون } واللغو قال الزجاج : هو كل باطل ولهو هزل ومعصية وما لا يحمل من القول والفعل وقد تقدم تفسيره في البقرة وقال الضحاك : إن اللغو هنا الشرك وقال الحسن : إنه المعاصي كلها ومعنى إعراضهم عنه : تجنبهم له وعدم التفاتهم إليه وظاهره اتصافهم بصفة الإعراض عن اللغو في كل الأوقات فيدخل وقت الصلاة في ذلك دخولا أوليا كما تفيده الجملة الإسمية وبناء الحكم على الضمير (3/678)
ومعنى فعلهم للزكاة تأديتهم لها فعبر عن التأدية بالفعل لأنها مما يصدق عليه الفعل والمراد بالزكاة هنا المصدر لأنه الصادر عن الفاعل وقيل يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف : أي 4 - { والذين هم } لتأدية { للزكاة فاعلون } (3/678)
5 - { والذين هم لفروجهم حافظون } الفرج يطلق على فرج الرجل والمرأة ومعنى حفظهم لها أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحل لهم وقيل والمواد هنا الرجال خاصة دون النساء بدليل قوله : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } للإجماع على أنه لا يحل للمرأة أن يطأها من تملكه (3/678)
قال الفراء : إن على في قوله : 6 - { إلا على أزواجهم } بمعنى من وقال الزجاج : المعنى أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم فأمروا بحفظه إلا على أزواجهم ودل على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية والجملة في محل نصب على الحال وقيل إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ : أي لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم وقيل المعنى : إلا والين على أزواجهم وقوامين عليهم من قولهم كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسربهم وجملة { أو ما ملكت أيمانهم } في محل جر عطفا على أزواجهم وما مصدرية والمراد بذلك الإماء وعبر عنهن بما التي لغير العقلاء لأنه اجتمع فيهن الأنوثة المنبثة عن قصور العقل وجواز البيع والشراء فيهن كسائر السلع فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء وجملة { فإنهم غير ملومين } تعليل لما تقدم مما لا يجب عليهم حفظ فروجهم منه (3/679)
7 - { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } الإشارة إلى الزوجات وملك اليمين ومعنى العادون : المجاوزون إلى ما لا يحل لهم فسمى سبحانه من نكح ما لا يحل عاديا ووراء هنا بمعنى سوى وهو مفعول ابتغى قال الزجاج : أي فمن ابتغى ما بعد ذلك فمفعول الابتغاء محذوف وراء ظرف
وقد دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة واستدل بها بعض أهل العلم على تحريم الاستمناء لأنه من الوراء لما ذكر وقد جمعنا في ذلك رسالة سميناها ( بلوغ المنى في حكم الاستمنا ) وذكرنا فيها أدلة المنع والجواز وترجيح الراجح منهما (3/679)
8 - { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } قرأ الجمهور لأماناتهم بالجمع وقرأ ابن كثير بالإفراد والأمانة ما يؤتمنون عليه والعهد ما يعاهدون عليه من جهة الله سبحانه أو جهة عباده وقد جمع العهد والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين والدنيا والأمانة أعم من العهد فكل عهد أمانة ومعنى راعون : حافظون (3/679)
9 - { والذين هم على صلواتهم يحافظون } قرأ الجمهور { صلواتهم } بالجمع وقرأ حمزة والكسائي { صلاتهم } بالإفراد ومن قرأ بالإفراد فقد أراد اسم الجنس وهو في معنى الجمع والمحافظة على الصلاة إقامتها والمحافظة عليها في أوقاتها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها (3/679)
ثم مدح سبحانه هؤلاء فقال : 10 - { أولئك هم الوارثون } أي الأحقاء بأن يسموا بهذا الاسم دون غيرهم (3/679)
ثم بين الموروث بقوله : 11 - { الذين يرثون الفردوس } وهو أوسط الجنة كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والمعنى : أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان وفيه استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم وقيل المعنى : أنهم يرثون من الكفار منازلهم حيث فرقوها على أنفسهم لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار ولفظ الفردوس لغة رومية معربة وقيل فارسية وقيل حبشية وقيل هي عربية وجملة { هم فيها خالدون } في محل نصب على الحال المقدرة أو مستأنفة لا محل لها ومعنى الخلود أنهم يدومون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون فيها وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن المنذر والعقيلي والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب قال : [ كان إذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل الله عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنا ثم قال : لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ { قد أفلح المؤمنون } حتى ختم العشر ] وفي إسناده يونس بن سليم الإيلي قال النسائي : لا نعرف أحدا رواه عن ابن شهاب إلا يونس بن سليم ويونس لا نعرفه وأخرج البخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة : كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالت : كان خلقه القرآن ثم قالت : تقرأ سورة المؤمنين ؟ فقرأ { قد أفلح المؤمنون } حتى بلغ العشر فقالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والبيهقي في سننه عن محمد بن
سيرين قال : نبئت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت { الذين هم في صلاتهم خاشعون } وأخرجه عبد الرزاق عنه وزاد : فأمره بالخشوع فرمي ببصره نحو مسجده وأخرجه عنه أيضا عبد بن حميد وأبو داود في المراسيل وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن بلفظ : كان إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا يمينا وشمالا فنزلت { الذين هم في صلاتهم خاشعون } فحنى رأسه وروي عنه من طرق مرسلا هكذا وأخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت { الذين هم في صلاتهم خاشعون } فطأطأ رأسه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن سيرين بلفظ : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفعون رؤوسهم وأبصارهم إلى السماء في الصلاة ويلتفتون يمينا وشمالا فأنزل الله { قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون } فمالوا برؤوسهم فلم يرفعوا أبصارهم بعد ذلك في الصلاة ولم يلتفتوا يمينا وشمالا وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن
أبي حاتم وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن علي أنه سئل عن قوله : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال : الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمرء المسلم وأن لا تلتفت في صلاتك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال : خائفون ساكنون وقد ورد في مشروعية الخشوع في الصلاة والنهي عن الالتفات وعن رفع البصر إلى السماء أحاديث معروفة في كتب الحديث وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والذين هم عن اللغو معرضون } قال : الباطل وأخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد : أنه سئل عن المتعة فقال : إني لأرى تحريمها في القرآن ثم تلا { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن { الذين هم على صلاتهم دائمون } { والذين هم على صلواتهم يحافظون } قال : ذلك على مواقيتها قالوا ما كنا نرى ذلك إلا على تركها قال : تركها كفر وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه عن أبي هريرة في قوله : { أولئك هم الوارثون } قال : يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله وأخرج سعيد بن منصور وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله : { أولئك هم الوارثون } ] وأخرج عبد بن حميد والترمذي وقال حسن صحيح غريب عن أنس فذكر قصة وفيها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ] ويدل على هذه الوراثة المذكورة هنا قوله تعالى : { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } وقوله : { تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } ويشهد لحديث أبي هريرة هذا ما في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم وبضعها على اليهود والنصارى ] وفي لفظ له قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فكاكك من النار ] (3/679)
لما حث سبحانه عباده على العبادة ووعدهم الفردوس على فلعها عاد إلى تقرير المدإ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين فقال : 12 - { ولقد خلقنا الإنسان } إلى آخره واللام جواب قسم محذوف والجملة مبتدأة وقيل معطوفة على ما قبلها والمراد بالإنسان الجنس لأنهم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم وقيل المراد به آدم والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء يقال سللت الشعرة من العجين والسيف من الغمد فانسل فالنطفة سلالة والولد سليل وسلالة أيضا ومنه قول الشاعر :
( فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين )
وقول الآخر :
( وهل هند إلا مهرة عربية ... سلالة أفراس تحللها بغل )
ومن في { من سلالة } ابتدائية متعلقة بخلقنا وفي { من طين } بيانية متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة : أي كائنة من طين والمعنى : أنه سبحانه خلق جوهر الإنسان أولا من طين لأن الأصل آدم وهو من طين خالص وأولاده من طين ومني وقيل السلالة : الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك فالذي يخرج هو السلالة قاله الكلبي (3/682)
13 - { ثم جعلناه } أي الجنس باعتبار أفراده الذين هم بنو آدم أو جعلنا نسله على حذف مضاف إن أريد بالإنسان آدم { نطفة } وقد تقدم تفسير النطفة في سورة الحج وكذلك تفسير العلقة والمضغة والمراد بالقرار المكين : الرحم وعبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة (3/683)
ومعنى 14 - { ثم خلقنا النطفة علقة } أي أنه سبحانه أحال النطفة البيضاء علقة حمراء { فخلقنا العلقة مضغة } أي قطعة لحم غير مخلقة { فخلقنا المضغة عظاما } أي جعلها الله سبحانه متصلبة لتكون عمودا للبدن على أشكال مخصوصة { فكسونا العظام لحما } أي أنبت الله سبحانه على كل عظم لحما على المقدار الذي يليق به ويناسبه { ثم أنشأناه خلقا آخر } أي نفخنا فيه الروح بعد أن كان جمادا وقيل أخرجناه إلى الدنيا وقيل هو نبات الشعر وقيل خروج الأسنان وقيل تكميل القوى المخلوقة فيه ولا مانع من إرادة الجميع والمجيء بثم لكمال التفاوت بين الخلقين { فتبارك الله أحسن الخالقين } أي استحق التعظيم والثناء وقيل مأخوذ من البركة : أي كثر خيره وبركته : والخلق في اللغة التقدير يقال خلقت الأديم : إذا قسته لتقطع منه شيئا فمعنى أحسن الخالقين أتقن الصانعين المقدرين ومنه قول الشاعر :
( ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ض القوم يخلق ثم لا يفري ) (3/683)
15 - { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } الإشارة بقوله : { ذلك } إلى الأمور المتقدمة : أي ثم إنكم بعد تلك الأمور لميتون صائرون إلى الموت لا محالة (3/683)
16 - { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } من قبوركم إلى المحشر للحساب والعقاب (3/683)
واللام في 17 - { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } جواب لقسم محذوف والجملة مبتدأة مشتملة على بيان خلق ما يحتاجون إليه بعد بيان خلقهم والطرائق هي السموات قال الخليلي والفراء والزجاج وسميت طرائق لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل قال أبو عبيدة : طارقت الشيء جعلت بعضه فوق بعض والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة وقيل لأنها طرائق الملائكة وقيل لأنها طرائق الكواكب { وما كنا عن الخلق غافلين } المراد بالخلق هنا المخلوق : أي وما كنا عن هذه الشبع الطرائق وحفظها عن أن تقع على الأرض بغافلين وقال أكثر المفسرين : المراد الخلق كلهم بغافلين بل حفظنا السموات عن أن تسقط وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم أو تميد بهم الأرض أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم وما يعيشون به ونفي الغفلة عن حفظهم (3/683)
18 - { وأنزلنا من السماء ماء } هذا من جملة ما امتن الله سبحانه به على خلقه والمراد بالماء ماء المطر فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازلة من السماء والعيون والآباء المستخرجة من الأرض فإن أصلها من ماء السماء وقيل أراد سبحانه في هذه الآية الأنهار الأربعة : سيحان وجيحان والفرات والنيل ولا وجه لهذا التخصيص وقيل المراد به الماء العذب ولا وجه لذلك أيضا فليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ومعنى { بقدر } بتقدير منا أو بمقدار يكون به صلاح الزرائع والثمار فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك ومثله قوله سبحانه : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } ومعنى { فأسكناه في الأرض } جعلناه مستقرا فيها ينتفعون به وقت حاجتهم إليه كالماء الذي يبقى في المستنقعات والغدران ونحوها { وإنا على ذهاب به لقادرون } أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى وفي هذا تهديد شديد لما يدل عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم ومثله قوله : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين } (3/684)
ثم بين سبحانه ما يتسبب عن إنزال الماء فقال 19 - { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب } أي أوجدنا بذلك الماء جنات من النوعين المذكورين { لكم فيها } أي في هذه الجنات { فواكه كثيرة } تتفكهون بها وتتطمعون منها وقيل المعنى : ومن هذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعاشكم كقوله : فلان يأكل من حرفة كذا وهو بعيد واقتصر سبحانه على النخيل والأعناب لأنها الموجودة بالطائف والمدينة وما يتصل بذلك كذا قال ابن جرير وقيل لأنها أشرف الأشجار ثمرة وأطيبها منفعة وطعما ولذة قيل المعني بقوله : { لكم فيها فواكه } أن لكم في هذه الجنات فواكه من غير العنت والنخيل وقيل : المعنى لكم في هذين النوعين خاصة فواكه لأن فيهما أنواعا مختلفة متفاوتة في الطعم واللون
وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة على ماذا يطلق ؟ اختلافا كثيرا وأحسن ما قيل إنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس وليست بقوت لهم ولا طعام ولا إدام واختلف في البقول هل تدخل في الفاكهة أم لا ؟ (3/684)
وانتصاب شجرة على العطف على جنات وأجاز الفراء الرفع على تقدير : وثم شجرة فتكون مرتفعة على الابتداء وخبرها محذوف مقدر قبلها وهو الظرف المذكور قال الواحدي : والمفسرون كلهم يقولون : إن المراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وخصت بالذكر لأنه لا يتعاهدها أحد بالسقي وهي التي يخرج الدهن منها فذكرها الله سبحانه امتنانا منه على عباده بها ولأنها أكرم الشجر وأعمها نفعا وأكثرها بركة ثم وصف سبحانه هذه الشجرة بأنها 20 - { تخرج من طور سيناء } وهو جبل ببيت المقدس والطور الجبل في كلام العرب وقيل هو المبارك وذهب الجمهور إلى أنه اسم للجبل كما تقول جبل أحد وقيل سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده وقيل هو كل جبل يحمل الثمار وقرأ الكوفيون { سيناء } بفتح السين وقرأ الباقون بكسر السين ولم يصرف لأنه جعل اسما للبقعة وزعم الأخفش أنه أعجمي وقرأ الجمهور { تنبت بالدهن } بفتح المثناة وضم الباء الموحدة وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم المثناة وكسر الباء الموحدة والمعنى على القراءة الأولى : أنها تنبت في نفسها متلبسة بالدهن وعلى القراءة الثانية : الباء بمعنى مع فهي للمصاحبة قال أبو علي الفارسي : التقدير : تنبت جناحها ومعه الدهن وقيل الباء زائدة قاله أبو عبيدة ومثله قول الشاعر :
( هن الحرائر لا ربات أحمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور )
وقال آخر :
( نضرب بالسيف ونرجو بالفرج )
وقال الفراء والزجاج : إن نبت وأنبت بمعنى والأصمعي ينكر أنبت ويرد عليه قول زهير :
( رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتي إذا أنيت البقل )
أي نبت وقرأ الزهري والحسن والأعرج تنبت بضم المثناة وفتح الموحدة قال الزجاج وابن جني : أن تنبت ومعها الدهن وقرأ ابن مسعود تخرج بالدهن وقرأ زر بن حبيش تنبت الدهن بحذف حرف الجر وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان { وصبغ للآكلين } معطوف على الدهن : أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به وكونه صبغا يؤتدم به وقرأ الجمهور { صبغ } وقرأ قوم صباغ مثل لبس ولباس وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ وصباغ وأصل الصبغ ما يلون به الثوب وشبه الإدام به لأن الخبز يكون بالإدام كالمصبوغ به (3/685)
21 - { وإن لكم في الأنعام لعبرة } هذه من جملة النعم التي امتن الله بها عليهم وقد تقدم تفسير الأنعام في سورة النحل قال النيسابوري في تفسيره : ولعل القصد بالأنعام هنا إلى الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر وبين سبحانه أنها عبرة لأنها مما يستدل بخلقها وأفعالها على عظيم القدرة الإلهية ثم فصل سبحانه ما في هذه الأنعام من النعم بعد ما ذكره من العبرة فيها للعباد فقال : { نسقيكم مما في بطونها } يعني سبحانه : اللبن المتكون في بطونها المنصب إلى ضروعها فإن في انعقاد ما تأكله من العلف واستحالته إلى هذا الغذاء اللذيذ والمشروب النفيس أعظم عبرة للمعتبرين وأكبر موعظة للمتعظين قرئ { نسقيكم } بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه وقرئ بالتاء الفوقية على أن الفاعل هو الأنعام ثم ذكر ما فيها من المنافع إجمالا فقال : { ولكم فيها منافع كثيرة } يعني في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها ثم ذكر منفعة خاصة فقال : { ومنها تأكلون } لما في الأكل من عظيم الانتفاع لهم (3/686)
كذلك ذكر الركوب عليها لما فيه من المنفعة العظيمة فقال : { وعليها وعلى الفلك تحملون } أي وعلى الأنعام فإن أريد بالأنعام الإبل والبقر والغنم فالمراد وعلى بعض الأنعام وهي الإبل خاصة وإن أريد بالأنعام الإبل خاصة فالمعنى واضح ثم لما كانت الأنعام هي غالب ما يكون الركوب عليه في البر ضم إليها ما يكون الركوب عليه في البحر فقال : { وعلى الفلك تحملون } تميما للنعمة وتكميلا للمنة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : السلالة صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في شعر وظفر فتمكث أربعين يوما ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة وللتابعين في تفسير السلالة أقوال قد قدمنا الإشارة إليها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { ثم أنشأناه خلقا آخر } قال : الشعر والأسنان وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه { ثم أنشأناه خلقا آخر } قال : نفخ فيه الروح وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع عن أنس والسدي والضحاك وابن زيد واختاره ابن جرير وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { ثم أنشأناه خلقا آخر } قال : حين استوى به الشباب وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و سلم إلى قوله : { ثم أنشأناه خلقا آخر } قال عمر : { فتبارك الله أحسن الخالقين } قال : والذي نفسي بيده إنها ختمت بالذي تكلمت به يا عمر وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال : قال عمر : وافقت ربي في أربع قلت : يا رسول الله لو صلينا خلف المقام ؟ فأنزل الله { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت : يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابا فإنه يدخل عليك البر والفاجر فأنزل الله { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه و سلم : لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن فنزلت { عسى ربه إن طلقكن } الآية ونزلت { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة } إلى قوله : { ثم أنشأناه خلقا آخر } فقلت أنا { فتبارك الله أحسن الخالقين } وأخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال : أملى رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { ولقد خلقنا الإنسان } إلى قوله : { خلقا آخر } فقال معاذ بن جبل { فتبارك الله أحسن الخالقين } فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله ؟ قال : بها ختمت { فتبارك الله أحسن الخالقين } وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جدا قال ابن كثير : وفي خبره هذا نكارة شديدة وذلك أن هذه السورة مكية وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة والله أعلم وأخرج ابن مردويه والخطيب قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار ] سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعلها منافع للناس في أصنام معايشههم فذلك قوله : { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله : { وإنا على ذهاب به لقادرون } فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : طور سيناء هو الجبل الذي نودي منه موسى وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { تنبت بالدهن } قال : هو الزيت يؤكل ويدهن به (3/687)
لما ذكر سبحانه الفلك أتبعه بذكر نوح لأنه أول من صنعه وذكر ما صنعه قوم نوح معه بسبب إهمالهم للتفكر في مخلوقات الله سبحانه والتذكر لنعمه عليهم فقال : 23 - { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } وفي ذلك تعزية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتسلية له ببيان أن قوم غيره من الأنبياء كانوا يصنعون مع أنبيائهم ما يصنعه قومه معه واللام جواب قسم محذوف { فقال يا قوم اعبدوا الله } أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا كما يستفاد من الآيات الآخرة وجملة { ما لكم من إله غيره } واقعة موقع التعليل لما قبلها وارتفاع غيره لكونه وصفا لإله على المحل لأنه مبتدأ خبره لكم : أي ما لكم في الوجود إله غيره سبحانه وقرئ بالجر اعتبارا بلفظ إله { أفلا تتقون } أي أفلا تخافون أن تتركوا عبادة ربكم الذي لا يستحق العبادة غيره وليس لكم إله سواه وقيل المعنى : أفلا تقون أنفسكم عذابه الذي تقتضيه ذنوبكم (3/689)
24 - { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } أي قال أشراف قومه الذين كفروا به { ما هذا إلا بشر مثلكم } أي من جنسكم في البشرية لا فرق بينكم وبينه { يريد أن يتفضل عليكم } أي يطلب الفضل عليكم بأن يسودكم حتى تكونوا تابعين له منقادين لأمره ثم صرحوا بأن البشر لا يكون رسولا فقالوا : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } أي لو شاء الله إرسال رسول لأرسل ملائكة وإنما عبر بالإنزال عن الإرسال لأن إرسالهم إلى العباد يستلزم نزولهم إليهم { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } أي بمثل دعوى هذا المدعي للنبوة من البشر أو بمثل كلامه وهو الأمر بعبادة الله وحده أو ما سمعنا ببشر يدعي هذه الدعوى في آبائنا الأولين : أي في الأمم الماضية قبل هذا وقيل الباء في بهذا زائدة : أي ما سمعنا هذا كائنا في الماضين قالوا هذا اعتمادا منهم على التقليد واعتصاما بحبله (3/689)
ولم يقنعوا بذلك حتى ضموا إليه الكذب البحت والبهت الصراح فقالوا : 25 - { إن هو إلا رجل به جنة } أي جنون لا يدري ما يقول : { فتربصوا به حتى حين } أي انتظروا به حتى يستبين أمره بأن يفيق من جنونه فيترك هذه الدعوى أو حتى يموت فتستريحوا منه قال الفراء : ليس يريد بالحين هنا وقتا بعينه إنما هو كقولهم : دعه إلى يوم ما فلما سمع عليه الصلاة و السلام كلامهم وعرف تماديهم على الكفر وإصرارهم عليه (3/690)
26 - { قال رب انصرني } عليهم فانتقم منهم بما تشاء وكيف تريد والباء في { بما كذبون } للسببية : أي بسبب تكذيبهم إياي (3/690)
27 - { فأوحينا إليه } عند ذلك أي أرسلنا إليه رسولا من السماء { أن اصنع الفلك } وأن هي مفسرة لما في الوحي من معنى القول { بأعيننا } أي متلبسا بحفظنا وكلاءتنا وقد تقدم بيان هذا في هود ومعنى { ووحينا } أمرنا لك وتعليمنا إياك لكيفية صنعها والفاء في قوله : { فإذا جاء أمرنا } لترتيب ما بعدها على ما قبلها من صنع الفلك والمراد بالأمر العذاب { وفار التنور } معطوف على الجملة التي قبله عطف النسق وقيل عطف البيان : أي إن مجيء الأمر هو فور التنور : أي تنور آدم الصائر إلى نوح : أي إذا وقع ذلك { فاسلك فيها من كل زوجين اثنين } أي ادخل فيها يقال سلكه في كذا أدخله وأسلكته أدخلته قرأ حفص { من كل } بالتنوين وقرأ الباقون بالإضافة ومعنى القراءة الأولى من كل أمة زوجين ومعنى الثانية من كل زوجين وهما أمة الذكر والأنثى إثنين وانتاب { أهلك } بفعل معطوف على فاسلك لا بالعطف على زوجين أو على اثنين على القراءتين لأدائه إلى اختلاف المعنى : أي واسلك أهلك { إلا من سبق عليه القول منهم } أي القول بإهلاكهم منهم { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } بالدعاء لهم بإنجائهم وجملة { إنهم مغرقون } تعليل للنهي عن المخاطبة : أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لظلمهم ومن كان هكذا فهو لا يستحق الدعاء له (3/690)
28 - { فإذا استويت } أي علوت { أنت ومن معك } من أهلك وأتباعك { على الفلك } راكبين عليه { فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين } أي حال بيننا وبينهم وخلصنا منهم كقوله : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } وقد تقدم تفسير هذه القصة في سورة هود على التمام والكمال وإنما جعل استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزما لأنه قد سبق في علمه أن ذلك سبب نجاتهم من الظلمة وسلامتهم من أن يصابوا بما أصيبوا به من العذاب (3/690)
ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له وأتم فائدة فقال : 29 - { وقل رب أنزلني منزلا مباركا } أي أنزلني في السفينة قرأ الجمهور { منزلا } بضم الميم وفتح الزاي على أنه مصدر وقرأ زر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم والمفضل بفتح الميم وكسر الزاي على أنه اسم مكان فعلى القراءة الأولى : أنزلني إنزالا مباركا وعلى القراءة الثانية : أنزلني مكانا مباركا قال الجوهري : والمنزل بفتح الميم والزاي النزول وهو الحلول تقول نزلت نزولا ومنزلا قال الشاعر :
( أإن ذكرتك الدار منزلها جمل ... بكيت فدمع العين منحدر سجل )
بنصب منزلها لأنه مصدر قيل أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخوله السفينة وقيل عند خروجه منها والآية تعليم من الله لعباده إذا ركبوا ثم نزلوا أن يقولوا هذا القول { وأنت خير المنزلين } هذا ثناء منه على الله عز و جل إثر دعائه له قال الواحدي : قال المفسرون : إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك : الحمد لله وعند نزوله منها : رب أنزلني منزلا مباركا (3/691)
والإشارة بقوله : 30 - { إن في ذلك } إلى ما تقدم مما قصه الله علينا من أمر نوح عليه السلام : والآيات الدلالات على كمال قدرته سبحانه والعلامات التي يستدل بها على عظيم شأنه { وإن كنا لمبتلين } أي لمختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي للناس أو الملائكة وقيل المعنى : إنه يعاملهم سبحانه معاملة المختبر لأحوالهم تارة بالإرسال وتارة بالعذاب (3/691)
31 - { ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } أي من بعد إهلاكهم قال أكثر المفسرين : إن هؤلاء الذين أنشأهم الله بعدهم هم عاد قوم هود لمجيء قصتهم على إثر قصة نوح في غير هذا الموضع ولقوله في الأعراف { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } وقيل هم ثمود لأنهم الذين أهلكوا بالصيحة وقد قال سبحانه في هذه القصة { فأخذتهم الصيحة } وقيل هم أصحاب مدين قوم شعيب لأنهم ممن أهلك بالصحية (3/691)
32 - { فأرسلنا فيهم رسولا } عدى فعل الإرسال يفي مع أنه يتعدى بإلى للدلالة على أن هذا الرسول المرسل إليهم نشأ فيهم بين أظهرهم يعرفون مكانه ومولده ليكون سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم وقيل وجه التعدية للفعل المذكور بفي أنه ضمن معنى القول : أي قلنا لهم على لسان الرسول { اعبدوا الله } ولهذا جيء بأن المفسرة والأول أولى تضمين أرسلنا معنى قلنا لا يستلزم تعديته بفي وجملة { ما لكم من إله غيره } تعليل للأمر بالعبادة { أفلا تتقون } عذابه الذي يقتضيه شرككم (3/691)
33 - { وقال الملأ من قومه } أي أشرافهم وقادتهم ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال : { الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة } أي كذبوا بما في الآخرة من الحساب والعقاب أو كذبوا بالبعث { وأترفناهم } أي وسعنا لهم نعم الدنيا فبطروا بسبب ما صاروا فيه { في الحياة الدنيا } من كثرة الأموال ورفاهة العيش { ما هذا إلا بشر مثلكم } أي قال الملأ لقومهم هذا القول وصفوه بمساواتهم في البشرية وفي الأكل { مما تأكلون منه } والشرب مما تشربون منه وذلك يستلزم عندهم أنه لا فضل له عليهم قال الفراء : إن معنى { ويشرب مما تشربون } على حذف منه : أي مما تشربون منه وقيل إن ما مصدرية فلا تحتاج إلى عائد (3/692)
34 - { ولئن أطعتم بشرا مثلكم } فيما ذكر من الأوصاف { إنكم إذا لخاسرون } أي مغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم (3/692)
والاستفهام في قوله : 35 - { أيعدكم أنكم إذا متم } للإنكار والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تقبيح اتباعهم له قرئ بكسر الميم من متم من مات يمات كخاف يخاف وقرئ بضمها من مات يموت : كقال يقول { وكنتم ترابا وعظاما } أي كان بعض أجزائكم ترابا وبعضها عظاما نخرة لا لحم فيها ولا أعصاب عليها قيل وتقديم التراب لكونه أبعد في عقولهم وقيل المعنى : كان متقدموكم ترابا ومتأخروكم عظاما { أنكم مخرجون } أي من قبوركم أحياء كما كنتم قال سيبويه : أن الأولى في موضع نصب بوقوع أيعدكم عليها وأن الثانية بدل منها وقال الفراء والجرمي والمبرد : إن أن الثانية مكررة للتوكيد وحسن تكريرها لطول الكلام وبمثله قال الزجاج وقال الأخفش : أن الثانية في محل رفع بفعل مضمر : أي يحدث إخراجكم كما تقول : اليوم القتال فالمعنى : اليوم يحدث القتال (3/692)
36 - { هيهات هيهات لما توعدون } أي بعد ما توعدون أو بعيد ما توعدون والتكرير للتأكيد قال ابن الأنباري : وفي هيهات عشر لغات ثم سردها وهي مبينة في علم النحو وقد قرئ ببعضها واللام في لما توعدون لبيان المستبعد كما في قوله : { هيت لك } كأنه قيل لماذا هذا الاستبعاد ؟ فقيل لما توعدون والمعنى : بعد إخراجككم للوعد الذي توعدون هذا على أن هيهات اسم فعل وقال الزجاج : هو في تقدير المصدر : أي البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون على قراءة من نون فتكون على هذا مبتدأ خبره لما توعدون (3/692)
ثم بين سبحانه إترافهم بأنهم قالوا : 37 - { إن هي إلا حياتنا الدنيا } أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها وجملة { نموت ونحيا } مفسرة لما ادعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا (3/692)
ثم صرحوا بنفي البعث وأن الوعد به منه افتراء على الله فقالوا : 38 - { وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا } أي ما هو فيما يدعيه إلا مفتر للكذب على الله { وما نحن له بمؤمنين } أي بمصدقين له فيما يقوله (3/693)
39 - { قال رب انصرني } أي قال نبيهم لما علم بأنهم لا يصدقونه ألبتة : رب انصرني عليهم وانتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي (3/693)
40 - { قال عما قليل ليصبحن نادمين } أي قال الله سبحانه مجيبا لدعائه واعدا له بالقبول لما دعا به : عما قليل من الزمان ليصبحن نادمين على ما وقع منهم من التكذيب والعناد والإصرار على الكفر وما في عما قليل مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد لقلة الزمان كما في قوله : { فبما رحمة من الله } (3/693)
ثم أخبر سبحانه بأنها 41 - { أخذتهم الصيحة } وحاق بهم عذابه ونزل عليهم سخطه قال المفسرون : صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله بها فماتوا جميعا وقيل الصيحة : هي نفس العذاب الذي نزل بهم ومنه قول الشاعر :
( صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان )
والباء في بالحق متعلق بالأخذ ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم فقال : { فجعلناهم غثاء } أي كغثاء السيل الذي يحمله : والغثاء ما يحمل السيل من بالي الشجر والحشيش والقصب ونحو ذلك مما يحمله على ظاهر الماء والمعنى : صيرهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء { فبعدا للقوم الظالمين } انتصاب بعدا على المصدرية وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها : أي بعدوا بعدا واللام لبيان من قيل له ذلك
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فاسلك فيها } يقول : اجعل معك في السفينة { من كل زوجين اثنين } وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { وقل رب أنزلني منزلا مباركا } قال لنوح حين أنزل من السفينة وأخرج هؤلاء عن قتادة في الآية قال : يعلمكم سبحانه كيف تقولون إذا ركبتم وكيف تقولون إذا نزلتم أما عند الركوب فـ { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } و { بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم } وعند النزول { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { قرنا } قال : أمة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { هيهات هيهات } قال : بعيد بعيد وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { فجعلناهم غثاء } قال : جعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر (3/693)
وقوله : 42 - { ثم أنشأنا من بعدهم } أي من بعد إهلاكهم { قرونا آخرين } قيل هم قوم صالح ولوط وشعيب كما وردت قصتهم على هذا الترتيب في الأعراف وهود وقيل هم بنو إسرائيل والقرون الأمم ولعل وجه الجمع هنا للقرون والإفراد فيما سبق قريبا أنه أراد ها هنا متعددة وهناك أمة واحدة (3/694)
ثم بين سبحانه كمال علمه وقدرته في شأن عباده فقال : 43 - { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } أي ما تتقدم كل طائفة مجتمعة في قرن آجالها المكتوبة لها في الهلاك ولا تتأخر عنها ومثل ذلك قوله تعالى : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } (3/694)
ثم بين سبحانه أن رسله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأن أممهم كان واحدا في التكذيب لهم فقال : 44 - { ثم أرسلنا رسلنا تترا } والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها بمعنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل إليه لا على معنى أن إرسال الرسل جميعا متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعا ومعنى { تترا } تتواتر واحدا بعد واحد ويتبع بعضهم بعضا من الوتر وهو الفرد قال الأصمعي : واترت كتبي عليه : أتبعت بعضها بعضا إلا أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة وقال غيره : المتواترة المتتابعة بغير مهلة قرأ ابن كثير وابن عمرو { تترا } بالتنوين على أنه مصدر قال النحاس : وعلى هذا يجوز تترى بكسر التاء الأولى لأن معنى ثم أرسلنا : واترنا ويجوز أن يكون في موضع الحال : أي متواترين { كلما جاء أمة رسولها كذبوه } هذه الجملة مستأنفة مبينة لمجيء كل رسول لأمته على أن المراد بالمجيء التبليغ { فأتبعنا بعضهم بعضا } أي في الهلاك بما نزل بهم من العذاب { وجعلناهم أحاديث } الأحاديث جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به الناس كالأعاجيب جمع أعجوبة وهي ما يتعجب الناس منه قال الأخفش : إنما يقال جعلناهم أحاديث في الشر ولا يقال في الخير كما يقال صار فلان حديثا : أي عبرة وكما قال سبحانه في آية أخرى { فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق } قلت : وهذه الكلية غير مسلمة فقد يقال صار فلان حديثا حسنا ومنه قول ابن دريد في مقصورته :
( وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن روى )
{ فبعدا لقوم لا يؤمنون } وصفهم هنا بعدم الإيمان وفيما سبق قريبا بالظلم لكون كل من الوصفين صادرا عن كل طائفة من الطائفتين أو لكون هؤلاء لم يقع منهم إلا مجرد عدم التصديق وأولئك ضموا إليه تلك الأقوال الشنيعة التي هي من أشد الظلم وأفظعه (3/694)
ثم حكى سبحانه ما وقع من فرعون وقومه عند إرسال موسى وهارون إليهم فقال : 45 - { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } هي التسع المتقدم ذكرها غير مرة ولا يصح عد فلق البحر منها هنا لأن المراد الآيات التي كذبوا بها واستكبروا عنها : والمراد بالسلطان المبين : الحجة الواضحة البينة : قيل هي الآيات التسع نفسها والعطف من باب
( إلى الملك القرم وابن الهمام )
وقيل أراد العصا لأنها أم الآيات فيكون من باب عطف جبريل على الملائكة وقيل المراد بالآيات : التي كانت لهما وبالسلطان الدلائل المبين : التسع الآيات (3/695)
والمراد بالملأ في قوله : 46 - { إلى فرعون وملئه } هم الأشراف منهم كما سبق بيانه غير مرة { فاستكبروا } أي طلبوا الكبر وتكلفوه فلم ينقادوا للحق { وكانوا قوما عالين } قاهرين للناس بالبغي والظلم مستعلين عليهم متطاولين كبرا وعنادا وتمردا (3/695)
وجملة 47 - { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } معطوفة على جملة { استكبروا } وما بينهما اعتراض والاستفهام للإنكار : أي كيف نصدق من كان مثلنا في البشرية والبشر يطلق على الواحد كقوله : { بشرا سويا } كما يطلق على الجمع كمغا في قوله : { فإما ترين من البشر أحدا } فتثنيته هنا هي باعتبار المعنى الأول وأفرد المثل لأنه في حكم المصدر ومعنى { وقومهما لنا عابدون } أنهم مطيعون لهم منقادون لما يأمرونهم به كانقياد العبيد قال المبرد : العابد المطيع الخاضع قال أبو عبيدة : العرب تسمي كل من دان لملك عابدا له وقيل يحتمل أنه كان يدعي الإلهية فدعى الناس إلى عبادته فأطاعوه واللام في لنا متعلقة بعابدون قدمت عليه لرعاية الفواصل والجملة حالية (3/695)
48 - { فكذبوهما } أي فأصروا على تكذيبهما { فكانوا من المهلكين } بالغرق في البحر (3/696)
ثم حكى سبحانه ما جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوهم فقال : 49 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة وخص موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور وكان هارون خليفته في قومه { لعلهم يهتدون } أي لعل قوم موسى يهتدون بها إلى الحق ويعملون بما فيها من الشرائع فجعل سبحانه إيتاء موسى إياها إيتاء لقومه لأنها وإن كانت منزلة على موسى فهي لإرشاد قومه وقيل إن ثم مضافا محذوفا أقيم المضاف إليه مقامه : أي آتينا قوم موسى الكتاب وقيل إن الضمير في لعلهم يرجع إلى فرعون وملائه وهو وهم لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك فرعون وقومه كما قال سبحانه : { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } (3/696)
ثم أشار سبحانه إلى قصة عيسى إجمالا فقال : 50 - { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } أي علامة تدل على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا وقد تقدم الكلام على هذا في آخر سورة الأنبياء في تفسير قوله سبحانه : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } ومعنى قوله : { وآويناهما إلى ربوة } إلى مكن مرتفع : أي جعلناهما يأويان إليها قيل هي أرض دمشق وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل وقيل بيت المقدس قاله قتادة وكعب وقيل أرض فلسطين قاله السدي { ذات قرار } أي ذات مستقر يستقر عليه ساكنوه { ومعين } أي وماء معين قال الزجاج : هو الماء الجاري في العيون فالميم على هذا زائدة كزيادتها في منبع وقيل هو فعيل بمعنى مفعول قال علي بن سليمان الأخفش معن الماء إذا جرى فهو معين وممعون : وكذا قال ابن الأعرابي وقيل هو مأخوذ من الماعون وهو النفع وبمثل ما قال الزجاج قال الفراء (3/696)
51 - { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } قال الزجاج : هذه المخاطبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا وقيل إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها فيكون المعنى : وقلنا يا أيها الرسل خطابا لكل واحد على انفراده لاختلاف أزمنتهم وقال ابن جرير : إن الخطاب لعيسى وقال الفراء : هو كما تقول للرجل الواحد كفوا عنا والطيبات : ما يستطاب ويستلذ وقيل هي الحلال وقيل هي ما جمع الوصفين المذكورين ثم بعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات أمرهم بالعمل الصالح فقال : { واعملوا صالحا } أي عملا صالحا وهو ما كان موافقا للشرع ثم علل هذا الأمر بقوله : { إني بما تعملون عليم } لا يخفى علي شيء منه وإني مجازيكم على حسب أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر (3/696)
52 - { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } هذا من جملة ما خوطب به الأنبياء والمعنى : أن هذه ملتكم وشريعتكم أيها الرسل ملة واحدة وشريعة متحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله لا شريك له وقيل المعنى : إن هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالزموه على أن المراد بالأمة هنا الدين كما في قوله : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } ومنه قول النابغة :
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع )
قرئ بكسر إن على الاستئناف المقرر لما تقدمه وقرئ بفتحها وتشديدها قال الخليل : هي في موضع نصب لما زال الخافض : أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به وقال الفراء : إن متعلقة بفعل مضمر وتقديره : واعلموا أن هذه أمتكم قال سيبويه : هي معلقة باتقون والتقدير : فاتقون لأن أمتكم أمة واحدة والفاء في { فاتقون } لترتيب الأمر بالتقوى على ما قبله من كونه ربكم المختص بالربوبية : أي لا تفعلوا ما يوجب العقوبة عليكم مني بأن تشركوا بي غيري أو تخالفوا ما أمرتكم به أو نهيتكم عنه (3/697)
ثم ذكر سبحانه ما وقع من الأمم من مخالفتهم لما أمرهم به الرسل فقال : 53 - { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا } والفاء لترتيب عصيانهم على ما سبق من الأمر بالتقوى والضمير راجع إلى ما يدل عليه لفظ الأمة والمعنى : أنهم جعلوا دينهم مع اتحاده قطعا متفرقة مختلفة قال المبرد : زبرا فرقا وقطعا مختلفة واحدها زبور وهي الفرقة والطائفة ومثله الزبرة وجمعها زبر فوصف سبحانه الأمم بأنهم اختلفوا فاتبعت فرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل ثم حرفوا وبدلوا وفرقة مشركة تبعوا ما رسمه لهم آباؤهم من الضلال : قرئ زبرا بضم الباء جمع زبور وقرئ بفتحها : أي قطعا كقطع الحديد { كل حزب بما لديهم فرحون } أي كل فريق من هؤلاء المختلفين بما لديهم : أي بما عندهم من الدين فرحون : أي معجبون به (3/697)
54 - { فذرهم في غمرتهم حتى حين } أي اتركهم في جهلهم فليسوا بأهل للهداية ولا يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم فلكل شيء وقت شبه سبحانه ما هم فيه من الجهل بالماء الذي يغمر من دخل فيه والغمرة في الأصل ما يغمرك ويعلوك وأصله الستر والغمر : الماء الكثير لأنه يغطي الأرض وغرم الرداء هو الذي يشمل الناس بالعطاء ويقال للحقد الغمر والمراد هنا : الحيرة والغفلة والضلالة والآية خارجة مخرج التهديد لهم لا مخرج الأمر له صلى الله عليه و سلم بالكف عنهم ومعنى { حتى حين } حتى يحضر وقت عذابهم بالقتل أو حتى يموتوا على الكفر فيعذبون في النار (3/697)
55 - { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين } أي أيحسبون أنما نعطيهم في هذه الدنيا من الأموال والبنين (3/698)
56 - { نسارع } به { لهم } فيما فيه خيرهم وإكرامهم والهمزة للإنكار والجواب عن هذا مقدر يدل عليه قوله : { بل لا يشعرون } لأنه عطف على مقدر ينسحب إليه الكلام : أي كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلا كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل فإن ما خولناهم من النعم وأمددناهم به من الخيرات إنما هو استدراج لهم ليزدادوا إثما كما قال سبحانه : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } قال الزجاج : المعنى نسارع لهم به في الخيرات فحذفت به وما في أنما موصولة والرابط هو هذا المحذوف وقال الكسائي : إن أنما هنا حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير رابط قيل ويجوز الوقف على بنين وقيل لا يحسن لأن يحسبون يحتاج إلى مفعولين فتمام المفعولين في الخيرات قال ابن الأنباري : وهذا خطأ لأن ما كافة وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء التحتية على أن فاعله ما يدل عليه أمددنا وهو الإمداد ويجوز أن يكون المعنى : يسارع الله لهم وقرأ الباقون { نسارع } بالنون قال الثعلبي : وهذه القراءة هي الصواب لقوله نمدهم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ثم أرسلنا رسلنا تترا } قال : يتبع بعضهم بعضا وفي لفظ قال : بعضهم على إثر بعض وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } قال : ولدته من غير أب وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس آية قال : عبرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وآويناهما إلى ربوة } قال : الربوة المستوية والمعين : الماء الجاري وهو النهرا الذي قال الله { قد جعل ربك تحتك سريا } وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { وآويناهما إلى ربوة } قال : هي المكان المرتفع من الأرض وهو أحسن ما يكون فيه النبات { ذات قرار } ذات خصب والمعين : الماء الظاهر وأخرج وكيع والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وتمام الرازي وابن عساكر قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس في قوله : { إلى ربوة } قال : أنبئنا أنها دمشق وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام مثله وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عنه وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعا نحوه وإسناده ضعيف وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن مرة النهزي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ الربوة الرملة ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عساكر عن أبي هريرة قال : هي الرملة بفلسطين وأخرج ابن مردويه من حديثه مرفوعا وأخرج الطبراني وابن السكن وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر عن الأقرع بن شفي العكي مرفوعا نحوه وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } أو قال { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك ] وأخرج سعيد بن منصور عن حفص الفزاري في قوله : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } قال : ذلك عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه وأخرجه عبدان في الصحابة عن حفص مرفوعا وهو مرسل لأن حفصا تابعي (3/698)
لما نفى سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلا وآجلا فوصفهم بصفات أربع : الأولى قوله : 57 - { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } الإشفاق : الخوف تقول أنا مشفق من هذا الأمر : أي خائف قيل الإشفاق هو الخشية فظاهر ما في الآية التكرار وأجيب بحمل الخشية على العذاب : أي من عذاب ربهم خائفون وبه قال الكلبي ومقاتل وأجيب أيضا بحمل الإشفاق على ما هو أثر له : وهو الدوام على الطاعة : أي الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته وأجيب أيضا بأن الإشفاق كمال الخوف فلا تكرار وقيل هو تكرار للتأكيد (3/700)
والصفة الثانية قوله : 58 - { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } قيل المراد بالآيات هي التنزيلية وقيل هي التكوينية وقيل مجموعهما قيل وليس المراد بالإيمان بها هو التصديق بكونها دلائل وأن مدلولها حق (3/700)
والصفة الثالثة قوله : 59 - { والذين هم بربهم لا يشركون } أي يتركون الشرك تركا كليا ظاهرا وباطنا (3/700)
والصفة الرابعة قوله : 60 - { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } أي يعطون ما أعطوا وقلوبهم خائفة من أجل ذلك الإعطاء يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وجملة { وقلوبهم وجلة } في محل نصب على الحال : أي والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف قال الزجاج : قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب لا مجرد رجوعهم إليه سبحانه وقيل المعنى : أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الرب الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل قرأت عائشة وابن عباس والنخعي يأتون ما أتوا مقصورا من الإتيان قال الفراء : ولو صحت هذه القراءة لم تخالف قراءة الجماعة لأن من العرب من يلزم في الهمز الألف في كل الحالات قال النحاس : ومعنى هذه القراءة يعملون ما عملوا (3/700)
والإشارة بقوله : 61 - { أولئك } إلى المتصفين بهذه الصفات ومعنى { يسارعون في الخيرات } يبادرون بها قال الفراء والزجاج : ينافسون فيها وقيل يسابقون وقرئ يسرعون { وهم لها سابقون } اللام للتقوية والمعنى : هم سابقون إياها وقيل اللام إلى كما في قوله : { بأن ربك أوحى لها } أي أوحى إليها وأنشد سيبويه قول الشاعر :
( تجانف عن أهل اليمامة يا فتى ... وما قصدت من أهلها لسوائكا )
أي إلى سوائكا وقيل المفعول محذوف والتقدير : وهم سابقون الناس لأجلها (3/700)
ثم لما انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر لهما حكمين : الأول قوله : 62 - { ولا نكلف نفسا إلا وسعها } الوسع هو الطاقة وقد تقدم بيان هذا في آخر سورة البقرة وفي تفسير الوسع قولان : الأول أنه الطاقة كما فسره بذلك أهل اللغة الثاني أنه دون الطاقة وبه قال مقاتل والضحاك والكلبي والمعتزلة قالوا : لأن الوسع إنما سمي لأنه يتسع على فاعله فعله ولا يضيق عليه فمن لم يستطع الجلوس فليوم إيماء ومن لم يستطع الصوم فليفطر وهذه الجملة مستأنفة للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الكرامات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده وجملة { ولدينا كتاب ينطق بالحق } من تمام ما قبلها من نفي التكليف بما فوق الوسع والمراد بالكتاب صحائف الأعمال : أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل واحد من المكلفين على ما هي عليه ومعنى ينطق بالحق يظهر به الحق المطابق للواقع من دون زيادة ولا نقص ومثله قوله سبحانه : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } وفي هذا تهديد للعصاة وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ فإنه قد كتب فيه كل شيء وقيل المراد بالكتاب : القرآن والأول أولى وفي هذه الآية تشبيه للكتاب بمن يصدر عنه البيان بالنطق بلسانه فإن الكتاب يعرب عما فيه كما يعرب الناطق المحق وقوله : { بالحق } يتعلق بينطق أو بمحذوف هو حال من فاعله : أي ينطق ملتبسا بالحق وجملة { وهم لا يظلمون } مبينة لما قبلها من تفضله وعدله في جزاء عباده : لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب ومثله قوله سبحانه : { ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } (3/700)
ثم أضرب سبحانه عن هذا فقال : 63 - { بل قلوبهم في غمرة من هذا } والضمير للكفار : أي بل قلوب الكفار في غمرة غامرة لها عن هذا الكتاب الذي ينطق بالحق أو عن الأمر الذي عليه المؤمنون يقال غمره الماء : إذا غطاه ونهر غمر : يغطي من دخله والمراد بها هنا الغطاء والغفلة أو الحيرة والعمى وقد تقدم الكلام على الغمرة قريبا { ولهم أعمال من دون ذلك } قال قتادة ومجاهد : أي لهم خطايا لا بد أن يعملوها من دون الحق وقال الحسن وابن زيد : المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه لا بد أن يعملوها فيدخلون بها النار فالإشارة بقوله : { ذلك } إما إلى أعمال المؤمنين أو إلى أعمال الكفار : أي لهم أعمال من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله أو من دون أعمال الكفار التي تقدم ذكرها من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن قال الواحدي : إجماع المفسرين وأصحاب المعاني على أن هذا إخبار عما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم لا بد لهم أن يعملوها وجملة { هم لها عاملون } مقررة لما قبلها : أي واجب عليهم أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة لا محيص لهم عن ذلك (3/701)
ثم رجع سبحانه إلى وصف الكفار فقال : 64 - { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام هو الجملة الشرطية المذكورة وهذه الجملة مبينة لما قبلها والضمير في مترفيهم راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار والمراد بالمترفين المتنعمين منهم والضمير ففي مترفيهم راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار والمراد بالمترفين المتنعمين منهم وهم الذين أمدهم الله بما تقدم ذكره من المال والبنين أو المراد بهم الرؤساء منهم والمراد بالعذاب هو عذابهم بالسيف يوم بدر أو بالجوع بدعاء النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وقيل المراد بالعذاب عذاب الآخرة ورجح هذا بأن ما يقع منهم من الجؤار إنما يكون عند عذاب الآخرة لأنه الاستغاثة بالله ولم يقع منهم ذلك يوم بدر ولا في سني الجوع ويجاب عنه بأن الجؤار في اللغة الصراخ والصياح قال الجوهري : الجؤار مثل الخوار يقال جأر الثور يجأر : أي صاح وقد وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عند أن عذبوا بالسيف يوم بدر وبالجوع في سني الجوع وليس الجؤار ها هنا مقيد بالجؤار الذي هو التضرع بالدعاء حتى يتم ما ذكره ذلك القائل وجملة { إذا هم يجأرون } جواب الشرط وإذا هي الفجائية والمعنى : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب جأروا بالصراخ (3/702)
ثم أخبر سبحانه أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت 65 - { لا تجأروا اليوم } فالقول مضمر والجملة مسوقة لتبكيتهم وإقناطهم وقطع أطماعهم وخصص سبحانه المترفين مع أن العذاب لاحق بهم جميعا واقع على مترفيهم وغير مترفيهم لبيان أنهم بعد النعمة التي كانوا فيها صاروا على حالة تخالفها وتباينها فانتقلوا من النعيم التام إلى الشقاء الخالص وخص اليوم بالذكر للتهويل وجملة { إنكم منا لا تنصرون } تعليل للنهي عن الجؤار والمعنى : إنكم من عذابنا لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم وقيل المعنى : إنكم لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب (3/702)
ثم عدد سبحانه عليهم قبائحهم توبيخا لهم فقال : 66 - { قد كانت آياتي تتلى عليكم } أي في الدنيا وهي آيات القرآن { فكنتم على أعقابكم تنكصون } أي ترجعون وراءكم وأصل النكوص أن يرجع القهقرى ومنه قول الشاعر :
( زعموا أنهم على سبيل الحق ... وأنا نكص على الأعقاب )
وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق وقرأ علي بن أبي طالب على أدباركم بدل { على أعقابكم تنكصون } بضم الكاف وعلى أعقابكم متعلق بتنكصون أو متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل تنكصون (3/702)
67 - { مستكبرين به } الضمير في به راجع إلى البيت العتيق وقيل للحرم والذي سوغ الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به وافتخارهم بولايته والقيام به وكانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم وخدامه وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين وقيل الضمير عائد إلى القرآن والمعنى : أن سماعه يحدث لهم كبرا وطغيانا فلا يؤمنون به قال ابن عطية : وهذا قول جيد وقال النحاس : القول الأول أولى وبينه بما ذكرنا فعلى القول الأول يكون به متعلقا بمستكبرين وعلى الثاني يكون متعلقا بـ { سامرا } لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه والسامر كالحاضر في الاطلاق على الجمع قال الواحدي : السامر الجماعة يسمرون بالليل : أي يتحدثون ويجوز أن يتعلق به بقوله : { تهجرون } والهجر بالفتح الهذيان : أي تهذون في شأن القرآن ويجوز أن يكون من الهجر بالضم وهو الفحش وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو حيوة سمرا بضم السين وفتح الميم مشددة وقرأ زيد بن علي وأبو رجاء سمارا ورويت هذه القراءة عن ابن عباس وانتصاب سامرا على الحال إما من فاعل تنكصون أو من الضمير في مستكبرين وقيل هو مصدر جاء على لفظ الفاعل يقال قوم سامر ومنه قول الشاعر :
( كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر )
قال الراغب : ويقال سامر وسمار وسمر وسامرون قرأ الجمهور { تهجرون } بفتح التاء المثناة من فوق وضم الجيم وقرأ نافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أهجر : أي أفحش في منطقه وقرأ زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هجر بالتشديد وقرأ ابن أبي عاصم كالجمهور إلا أنه بالياء التحتية وفيه التفات
وقد أخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله قول الله : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله ؟ قال لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قالت عائشة : يا رسول الله فذكر نحوه وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله : { والذين يؤتون ما آتوا } قال : يعطون ما أعطوا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وقلوبهم وجلة } قال : يعملون خائفين وأخرج الفريابي وابن جرير عن ابن عمر { والذين يؤتون ما آتوا } قال : الزكاة وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عائشة { والذين يؤتون ما آتوا } قالت : هم الذين يخشون الله ويطيعونه وأخرج عبد بن حميد عن ابن أبي مليكة قال : قالت عائشة : لأن تكون هذه الآية كما أقرأ أحب إلي من حمر النعم فقال لها ابن عباس : ما هي ؟ قالت { الذين يؤتون ما آتوا } وقد قدمنا ذكر قراءتها ومعناها وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قرأ { والذين يؤتون ما آتوا } مقصورا من المجيء وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن الأنباري في المصاحف والدارقطني في الأفراد والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبيد بن عمر أنه سأل عائشة كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ هذه الآية { والذين يؤتون ما آتوا } ؟ قالت : أيتهما أحب إليك قلت : والذي نفسي بيده لأحدهما أحب إلي من الدنيا وما فيها جميعا : قالت : أيهما ؟ قلت { الذين يؤتون ما آتوا } فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرؤها كذلك وكذلك أنزلت ولكن الهجاء حرف وفي إسناده إسماعيل بن علي وهو ضعيف وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } قال : سبقت لهم السعادة من الله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بل قلوبهم في غمرة من هذا } يعني بالغمرة الكفر والشك { ولهم أعمال من دون ذلك } يقول : أعمال سيئة دون الشرك { هم لها عاملون } قال : لا بد لهم أن يعملوها وأخرج النسائي عنه { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } قال : هم أهل بدر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { إذا هم يجأرون } قال : يستغيثون وفي قوله : { فكنتم على أعقابكم تنكصون } قال : تدبرون وفي قوله : { سامرا تهجرون } قال : تسمرون حول البيت وتقولون هجرا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا { سامرا تهجرون } قال : كانت قريش يتحلقون حلقا يتحدثون حول البيت وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ { مستكبرين به سامرا تهجرون } قال : كان المشركون يهجرون برسول الله صلى الله عليه و سلم في القول في سمرهم وأخرج النسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية { مستكبرين به سامرا تهجرون } (3/702)
قوله : 68 - { أفلم يدبروا القول } بين سبحانه أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة : الأول عدم التدبر في القرآن فإنهم لو تدبروا معانيه لظهر لهم صدقه وآمنوا به وبما فيه والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر : أي فعلوا ما فعلوا فلم يتدبروا والمراد بالقول القرآن ومثله { أفلا يتدبرون القرآن } والثاني قوله : { أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين } أم هي المنقطعة : أي بل جاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين فكان ذلك سببا لاستنكارهم للقرآن والمقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأولين رسول فلذلك أنكروه ومثله قوله : { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم } وقيل إنه أتى آباءهم الأقدمين رسل أرسلهم الله إليهم كما هي سنة الله سبحانه في إرسال الرسل إلى عباده فقد عرف هؤلاء ذلك فكيف كذبوا هذا القرآن وقيل المعنى : أم جاءهم من الأمن من عذاب الله ما لم يأت آباؤهم الأولين كإسماعيل ومن بعده (3/705)
والثالث قوله : 69 - { أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون } وفي هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدم إلى التوبيخ بوجه آخر : أي بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك (3/706)
والرابع قوله : 70 - { أم يقولون به جنة } وهذا أيضا انتقال من توبيخ إلى توبيخ : أي بل أتقولون به جنة : أي جنون مع أنهم قد علموا أنه أرجح الناس عقلا ولكنه جاء بما يخالف هواهم فدفعوه وجحدوه تعصبا وحمية ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال : { بل جاءهم بالحق } أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول بل جاءهم ملتبسا بالحق والحق هو الدين القويم { وأكثرهم للحق كارهون } لما جبلوا عليه من التعصب والانحراف عن الصواب والبعد عن الحق فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر وظاهر النظم أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفا من الكارهين له (3/706)
وجملة 71 - { ولو اتبع الحق أهواءهم } مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزما للفساد العظيم وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية وهو معنى قوله : { لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسدي : الحق هو الله والمعنى : لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكا لفسدت السموات والأرض وقال الفراء والزجاج : يجوز أن يكون المراد بالحق القرآن : أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم وقيل المعنى : ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة ومثل ذلك قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وقد ذهب إلى القول الأول الأكثرون ولكنه يرد عليه أن المراد به هنالك الله سبحانه فالأولى تفسير الحق هنا وهناك بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله والمعنى : لو ورد الحق متابعا لأهوائهم موافقا لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد والمراد بقوله : { ومن فيهن } من في السموات والأرض من المخلوقات وقرأ ابن مسعود وما بينهما وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدو فسدوا ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال : { بل أتيناهم بذكرهم } والمراد بالذكر هنا القرآن : أي بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم ومثله قوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } والمعنى : بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه ويقبلوا عليه وقال قتادة : المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم وقيل المعنى : بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر أتيتهم بتاء المتكلم وقرأ أبو حيوة والجحدري أتيتهم بتاء الخطاب : أي أتيتهم يا محمد وقرأ عيسى بن عمر بذكراهم وقرأ قتادة تذكرهم بالنون والتشديد من التذكير وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير { فهم عن ذكرهم معرضون } أي هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم معرضون لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال وفي هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره (3/706)
ثم بين سبحانه أن دعوة نبيه صلى الله عليه و سلم ليست مشوبة بأطماع الدنيا فقال : 72 - { أم تسألهم خرجا } وأم هي المنقطعة والمعنى : أم يزعمون أنك تسألهم خرجا تأخذه عن الرسالة والخرج الأجر والجعل فتركوا الإيمان بك وبما جئت به لأجل ذلك مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم { فخراج ربك خير } أي فرزق ربك الذي يرزقك في الدنيا وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر قرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب { أم تسألهم خرجا } وقرأ الباقون { خرجا } وكلهم وقرأ { فخراج } إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرآ { فخرج } بغير ألف والخرج هو الذي يكون مقابلا للدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك خرجا والخراج غالب في الضريبة على الأرض قال المبرد : الخرج المصدر والخراج الاسم قال النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال : الخراج ما لزمك والخرج ما تبرعت به وروي عنه أنه قال : الخرج من الرقاب والخراج من الأرض { وهو خير الرازقين } هذه الجملة مقررة لما قبلها من كون خراجه سبحانه خير (3/707)
ثم لما أثبت سبحانه لرسوله من الأدلة الواضحة المقتضية لقبول ما جاء به ونفى عنه أضداد ذلك قال : 73 - { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } أي إلى طريق واضحة تشهد العقول بأنها مستقيمة غير معوجة والصراط في اللغة الطريق فسمي الدين طريقا لأنها تؤدي إليه (3/707)
ثم وصفهم سبحانه بأنهم على خلاف ذلك فقال : 74 - { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون } يقال : نكب عن الطريق ينكب نكوبا : إذا عدل عنه وما إلى غيره والنكوب والنكب العدول والميل ومنه النكباء للريح بين ريحين سميت بذلك لعدولها عن المهاب وعن الصراط متعلق بناكبون والمعنى : أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط أو جنس الصراط لعادلون عنه (3/707)
ثم بين سبحانه أنه مصرون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال : 75 - { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر } أي من قحط وجدب { للجوا في طغيانهم } : أي لتمادوا في طغيانهم وضلالهم { يعمهون } يترددون ويتذبذبون ويخبطون وأصل اللجاج التمادي في العناد ومنه اللجة بالفتح لتردد الصوت ولجة البحر تردد أمواجه ولجة الليل تردد ظلامه وقيل المعنى لوردناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم (3/707)
76 - { ولقد أخذناهم بالعذاب } جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها والعذاب قيل هو الجوع الذي أصابهم في سني القحط وقيل المرض وقيل القتال يوم بدر واختاره الزجاج وقيل الموت وقيل المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية { فما استكانوا لربهم } أي ما خضعوا ولا تذللوا بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرد على الله والانهماك في معاصيه { وما يتضرعون } أي وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم ولا يدعونه لرفع ذلك (3/708)
77 - { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد } قيل هو عذاب الآخرة وقيل قتلهم يوم بدر بالسيف وقيل القحط الذي أصابهم وقيل فتح مكة { إذا هم فيه مبلسون } أي متحيرون لا يدرون ما يصنعون والإلباس التحير والإياس من كل خير وقرأ السلمي مبلسون بفتح اللام من أبلسه : أي أدخله في الإبلاس وقد تقدم في الأنعام (3/708)
78 - { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار } امتن عليهم ببعض النعم التي أعطاهم وهي نعمة السمع والبصر { والأفئدة } فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ وينظروا العبر ويتفكروا بالأفئدة فلم ينتفعوا بشيء من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق ولم يشكروه على ذلك ولهذا قال : { قليلا ما تشكرون } أي شكرا قليلا حقيرا غير معتد به باعتبار تلك النعم الجليلة وقيل المعنى : إنهم لا يشكرونه ألبتة لا أن لهم شكرا قليلا كما يقال لجاحد النعمة : ما أقل شكره : أي لا يشكر ومثل هذه الآية قوله : { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم } (3/708)
79 - { وهو الذي ذرأكم في الأرض } أي بثكم فيها كما تبث الحبوب لتنبت وقد تقدم تحقيقه { وإليه تحشرون } أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم (3/708)
80 - { وهو الذي يحيي ويميت } على جهة الانفراد والاستقلال وفي هذا تذكير لنعمة الحياة وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة { وله اختلاف الليل والنهار } قال الفراء : هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض وقيل اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر وقيل تكررهما يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة { أفلا تعقلون } كنه قدرته وتتفكرون في ذلك (3/708)
ثم بين سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبني على مجرد الاستبعاد فقال : 81 - { بل قالوا مثل ما قال الأولون } أي آباؤهم والموافقون لهم في دينهم (3/708)
ثم بين ما قاله الأولون فقال : 82 - { قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } فهذا مجرد استبعاد لم يتعلقوا فيه بشيء من الشبه (3/708)
ثم كملوا ذلك القول بقولهم { لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل } أي وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدقه كما لم يصدقه من قبلنا ثم صرحوا بالتكذيب وفروا إلى مجرد الزعم الباطل فقالوا : { إن هذا إلا أساطير الأولين } أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة والأساطير الأباطيل والترهات والكذب
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله : { أم لم يعرفوا رسولهم } قال : عرفوه ولكنهم حسدوه وفي قوله : { ولو اتبع الحق أهواءهم } قال : الحق الله عز و جل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بل أتيناهم بذكرهم } قال : بينا لهم وأخرجوا عنه في قوله : { عن الصراط لناكبون } قال : عن الحق لحائدون وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز : يعني الوبر بالدم فأنزل الله { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } وأصل الحديث في الصحيحين : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا على قريش حين استعصوا فقال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ] الحديث وأخرج ابن جرير وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ قال بلى قال : فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فأنزل الله { ولقد أخذناهم بالعذاب } الآية وأخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب في قوله : { فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } قال : أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا ولو خضعوا لله لاستجاب لهم وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد } قال : قد مضى كان يوم بدر (3/708)
أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف فيها ثم أمره أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبخهم فقال : 84 - { قل لمن الأرض ومن فيها } أي قل يا محمد لأهل مكة هذه المقالة والمراد بمن في الأرض الخلق جميعا وعبر عنهم بمن تغليبا للعقلاء { إن كنتم تعلمون } شيئا من العلم وجواب الشرط محذوف : أي إن كنتم تعلمون فأخبروني وفي هذا تلويح بجهلهم وفرط غباوتهم (3/710)
85 - { سيقولون لله } أي لا بد لهم أن يقولوا ذلك لأنه معلوم ببديهة العقل ثم أمره سبحانه أن يقول لهم بعد اعترافهم { أفلا تذكرون } ترغيبا لهم في التدبر وإمعان النظر والفكر فإن ذلك مما يقودهم إلى اتباع الحق وترك الباطل لأن من قدر على ذلك ابتداء قدر على إحياء الموتى (3/710)
86 - { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله } جاء سبحانه باللام نظرا إلى معنى السؤال فإن قولك : من ربه ولمن هو في معنى واحد كقولك : من رب هذه الدار ؟ فيقال زيد ويقال لزيد (3/710)
وقرأ أبو عمرو وأهل العراق 87 - { سيقولون الله } بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال وهذه القراءة أوضح من قراءة الباقين باللام ولكنه يؤيد قراءة الجمهور أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام بدون ألف (3/710)
وهكذا في قوله : 88 - { قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله } باللام نظرا إلى معنى السؤال كما سلف وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال ومثل هذا قول الشاعر :
( إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قيل لخالد )
أي لمن المزالف والملكوت الملك وزيادة التاء للمبالغة نحو جبروت ورهبوت ومعنى { وهو يجير } أنه يغيث غيره إذا شاء ويمنعه { ولا يجار عليه } أي لا يمنع أحدا أحدا من عذاب الله ولا يقدر على نصره وإغاثته يقال أجرت فلانا : إذا استغاث بك فحميته وأجرت عليه : إذا حميت عنه (3/710)
89 - { قل فأنى تسحرون } قال الفراء والزجاج : أي تصرفون عن الحق وتخدعون والمعنى : كيف يخيل لكم الحق باطلا والصحيح فاسدا والخادع لهم هو الشيطان أو الهوى أو كلاهما (3/710)
ثم بين سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم فقال : 90 - { بل أتيناهم بالحق } أي الأمر الواضح الذي يحق اتباعه { وإنهم لكاذبون } فيما ينسبونه إلى الله سبحانه من الولد والشريك (3/711)
ثم نفاهما عن نفسه فقال : 91 - { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } من في الموضعين زائدة لتأكيد النفي ثم بين سبحانه ما يستلزمه ما يدعيه الكفار مع إثبات الشريك فقال : { إذا لذهب كل إله بما خلق } وفي الكلام حذف تقديره ولو كان مع الله آلهة لانفرد كل إله بخلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخر ووقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب { ولعلا بعضهم على بعض } أي غلب القوي عى الضعيف وقهره وأخذ ملكه كعادة الملوك من بني آدم وحينئذ فذلك الضعيف المغلوب لا يستحق أن يكون إلها وإذا تقرر عدم إمكان المشاركة في ذلك وأنه لا يقوم به إلا واحد تعين أن يكون هذا الواحد هو الله سبحانه وهذا الدليل كما دل على نفي الشريك فإنه يدل على نفي الولد لأن الولد ينازع أباه في ملكه ثم نزه سبحانه نفسه فقال : { سبحان الله عما يصفون } أي من الشريك والولد وإثبات ذلك لله عز و جل (3/711)
92 - { عالم الغيب والشهادة } أي هو مختص بعلم الغيب والشهادة وأما غيره فهو وإن علم الشهادة لا يعلم الغيب قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي { عالم } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هو عالم وقرأ الباقون بالجر على أنه صفة لله أو بدل منه وروي عن يعقوب أنه كان يخفض إذا وصل ويرفع إذا ابتدأ { فتعالى } الله { عما يشركون } معطوف على معنى ما تقدم كأنه قال : عالم الغيب فتعالى كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته : أي شجع فعظمت أو يكون على إضمار القول : أي أقول فتعالى الله والمعنى : أنه سبحانه متعال عن أن يكون له شريك في الملك (3/711)
93 - { قل رب إما تريني ما يوعدون } أي إن كان ولا بد أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل لهم (3/711)
94 - { رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } أي قل يا رب فلا تجعلني قال الزجاج : أي إن أنزلت بهم النقمة يا رب فاجعلني خارجا عنهم ومعنى كلامه هذا أن النداء معترض وما في إما زائدة : أي قل رب إن تريني والجواب فلا تجعلني وذكر الرب مرتين مرة قبل الشرط : ومرة بعده مبالغة في التضرع وأمره الله أن يسأله أن لا يجعله في القوم الظالمين مع أن الأنبياء لا يكونون مع القوم الظالمين أبدا تعليما له صلى الله عليه و سلم من ربه كيف يتواضع ؟ وقيل يهضم نفسه أو لكون شؤم الكفر قد يلحق من لم يكن من أهله كقوله : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } (3/711)
ثم لما كان المشركون ينكرون العذاب ويسخرون من النبي صلى الله عليه و سلم إذا ذكر لهم ذلك أكد سبحانه وقوعه بقوله : 95 - { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } أي أن الله سبحانه قادر على أن يري رسوله عذابهم ولكنه يؤخره لعلمه بأن بعضهم سيؤمن أو لكون الله سبحانه لا يعذبهم والرسول فيهم وقيل قد أراه الله سبحانه ذلك يوم بدر ويوم فتح مكة (3/711)
ثم أمره سبحانه بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب فقال : 96 - { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن من غيرها وهي الصفح والإعراض عما يفعله الكفار من الخصلة السيئة وهي الشرك وقيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف وقيل هي محكمة في حق هذه الأمة فيما بينهم منسوخة في حق الكفار { نحن أعلم بما يصفون } أي ما يصفونك به مما أنت على خلافه أو بما يصفون من الشرك والتكذيب وفي هذا وعيد لهم بالعقوبة (3/712)
ثم علمه سبحانه ما يقويه على ما أرشده إليه من العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة فقال : 97 - { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } الهمزات جمع همزة وهي في اللغة الدفعة باليد أو بغيرها وهمزات الشياطين نزعاتهم ووساوسهم كما قاله المفسرون يقال همزة ولمزه ونخسه : أي دفعه وقيل الهمز كلام من وراء القفا واللمز المواجهة وفيه إرشاد لهذه الأمة إلى التعوذ من الشيطان ومن همزات الشياطين سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه (3/712)
98 - { وأعوذ بك رب أن يحضرون } أمره سبحانه أن يتعوذ بالله من حضور الشياطين بعد ما أمره أن يتعوذ من همزاتهم والمعنى : وأعوذ بك أن يكونوا معي في حال من الأحوال فإنهم إذا حضروا الإنسان لم يكن لهم عمل إلا الوسوسة والإغراء على الشر والصرف عن الخير وفي قراءة أبي وقل رب عائذا بك من همزات الشياطين وعائذا بك رب أن يحضرون
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { قل من بيده ملكوت كل شيء } قال : خزائن كل شيء وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } يقول : أعرض عن أذاهم إياك : وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء { ادفع بالتي هي أحسن } قال : بالسلام وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس في قوله : { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } قال : قول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول إن كنت كاذبا فأنا أسأل الله أن يغفر لك وإن كنت صادقا فأنا أسأل الله أن يغفر لي وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع : بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ] قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال [ يا رسول الله إني أجد وحشة قال : إذا أخذت مضجعك فقل : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنه لا يحضرك ] وبالحري لا يضرك (3/712)
99 - { حتى } هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بقوله لكاذبون وقيل بيصفون والمراد بمجيء الموت مجيء علاماته { قال رب ارجعون } أي قال ذلك الأحد الذي حضره الموت تحسرا وتحزنا على ما فرط منه رب ارجعون : أي ردوني إلى الدنيا وإنما قال ارجعون بضمير الجماعة لتعظيم المخاطب وقيل هو على معنى تكرير الفعل : أي ارجعني ارجعني ارجعني ومثله قوله { ألقيا في جهنم } قال المازني : معناه ألق ألق وهكذا قيل في قول امرئ القيس :
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
ومنه قول الحجاج
( يا حرسي إضربا عنقه )
ومنه قول الشاعر :
( ولو شئت حرمت النساء سواكم )
وقول الآخر :
( ألا فارحموني يا إله محمد )
وقيل إنهم لما استغاثوا بالله قال قائلهم رب (3/714)
ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال : 100 - { ارجعون * لعلي أعمل صالحا } أي أعمل عملا صالحا في الدنيا إذا رجعت إليها من الإيمان وما يتبعه من أعمال الخير ولما تمنى أن يرجع ليعمل رد الله عليه ذلك بقوله : { كلا إنها كلمة هو قائلها } فجاء بلكمة الردع والزجر والضمير في إنها يرجع إلى قوله : { رب ارجعون } أي إن هذه الكلمة هو قائلها لا محالة وليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا أو المعنى : أنه لو أجيب إلى ذلك لما حصل منه الوفاء كما في قوله : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وقيل إن الضمير في قائلها يرجع إلى الله : أي لا خلف في خبره وقد أخبرنا بأنه لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها { ومن ورائهم برزخ } أي من أمامهم وبين أيديهم : والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين قاله الجوهري
واختلف في معنى الآية فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد : حاجز بين الموت والبعث وقال الكلبي : هو الأجل ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة وقال السدي : هو الأجل و { إلى يوم يبعثون } هو يوم القيامة (3/714)
101 - { فإذا نفخ في الصور } قيل هذه هي النفخة الأولى وقيل الثانية وهذا أولى وهي النفخة التي تقع بين البعث والنشور وقيل المعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع صورة لا القرن ويدل على هذا قراءة ابن عباس والحسن الصور بفتح الواو مع ضم الصاد جمع صورة وقرأ أبو رزين بفتح الصاد والواو وقرأ الباقون بضم الصاد وسكون الواو وهو القرن الذي ينفخ فيه { فلا أنساب بينهم يومئذ } أي لا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فيه من الحيرة والدهشة { ولا يتساءلون } أي لا يسأل بعضهم بعضا فإن لهم إذ ذاك شغلا شاغلا ومنه قوله تعالى : { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه } وقوله : { ولا يسأل حميم حميما } ولا ينافي هذا ما في الآية الأخرى من قوله : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } فإن ذلك محمول على اختلاف المواقف يوم القيامة فالإثبات باعتبار بعضها والنفي باعتبار بعض آخر كما قررناه في نظائر هذا مما أثبت تارة ونفي أخرى (3/715)
102 - { فمن ثقلت موازينه } أي موزوناته من أعماله الصالحة { فأولئك هم المفلحون } أي الفائزون بمطالبهم المحبوبة الناجون من الأمور التي يخافونها (3/715)
103 - { ومن خفت موازينه } وهي أعماله الصالحة { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } أي ضيعوا وتركوا ما ينفعها { في جهنم خالدون } هذا بدل من صلة الموصول أو خبر ثان لاسم الإشارة وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى فلا نعيده (3/715)
وجملة 104 - { تلفح وجوههم النار } مستأنفة ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال أو تكون خبرا آخر لأولئك واللفح الإحراق يقال لفحته النار إذا أحرقته ولفحته بالسيف : إذا ضربته وخص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء { وهم فيها كالحون } هذه الجملة في محل نصب على الحال والكالح الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه قاله الزجاج ودهر كالح : أي شديد قال أهل اللغة : الكلوح تكنيز في عبوس (3/715)
وجملة 105 - { ألم تكن آياتي تتلى عليكم } هي على إضمار القول : أي يقال لهم ذلك توبيخا وتقريعا : أي ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا { فكنتم بها تكذبون } (3/715)
وجملة 106 - { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } مستأنفة جواب سؤال مقدر : أي غلبت علينا لذاته وشهواتنا فسمى ذلك شقوة لأنه يؤول إلى الشقاء قرأ أهل المدينة أبو عمرو وعاصم { شقوتنا } وقرأ الباقون { شقوتنا } وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن { وكنا قوما ضالين } أي بسبب ذلك فإنهم ضلوا عن الحق بتلك الشقوة (3/715)
ثم طلبوا ما لا يجابون إليه فقالوا : 107 - { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } أي فإن عدنا إلى ما كنا عليه من الكفر وعدم الإيمان فإنا ظالمون لأنفسنا بالعود إلى ذلك (3/716)
فأجاب الله عليهم بقوله : 108 - { قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون } أي اسكنوا في جهنم قال المبرد : الخسء إبعاد بمكروه وقال الزجاج : تباعدوا تباعد سخط وأبعدوا بعد الكلب فالمعنى على هذا : أبعدوا في جهنم كما يقال للكلب اخسأ : أي ابعد خسأت الكلب خسأ طردته ولا تكلمون في إخراجكم من النار ورجوعكم إلى الدنيا أو في رفع العذاب عنكم وقيل المعنى : لا تكلمون رأسا (3/716)
ثم علل ذلك بقوله : 109 - { إنه كان فريق من عبادي يقولون } وهم المؤمنون وقيل الصحابة يقولون : { ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين } قرأ الجمهور { إنه كان فريق } بكسر إن استئنافا تعليليا وقرأ أبي بفتحها (3/716)
110 - { فاتخذتموهم سخريا } قرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين وقرأ الباقون بكسرها وفرق بينهما أبو عمرو فجعل الكسر من جهة الهزو والضم من جهة السخرية قال النحاس ولا يعرف هذا الفرق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء وحكي الثعلبي عن الكسائي : أن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل { حتى أنسوكم ذكري } أي اتخذتموهم سخريا إلى هذه الغاية فإنهم نسوا ذكر الله لشدة اشتغالهم بالاستهزاء { وكنتم منهم تضحكون } في الدنيا والمعنى : حتى نسيتم ذكري باشتغالكم بالسخرية والضحك فنسب ذلك إلى عباده المؤمنين لكونهم السبب (3/716)
وجملة 111 - { إني جزيتهم اليوم بما صبروا } مستأنفة لتقرير ما سبق والباء في بما صبروا للسببية { أنهم هم الفائزون } قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف وقرأ الباقون بالفتح : أي لأنهم الفائزون ويجوز أن يكون منصوبا على أنه المفعول الثاني للفعل (3/716)
112 - { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين } القائل هو الله عز و جل وتذكيرا لهم كم لبثوا ؟ لما سألوا الرجوع إلى الدنيا بعد أن أخبرهم بأن ذلك غير كائن كما في قوله : أخسئوا فيها والمراد بالأرض هي الأرض التي طلبوا الرجوع إليها ويحتمل أن يكون السائل عن جميع ما لبثوه في الحياة وفي القبور وقيل هي سؤال عن مدة لبثهم في القبور لقوله : في الأرض ولم يقل على الأرض ورد بمثل قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض } وانتصاب عدد سنين على التمييز لما في كم من الإبهام وسنين بفتح النون على أنها نون الجمع ومن العرب من يخفضها وينونها (3/716)
113 - { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } استقصروا مدة لبثهم لما هم فيه من العذاب الشديد وقيل إن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم وقيل أنساهم الله ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى النفخة الثانية ثم لما عرفوا ما أصابهم من النسيان لشدة ما هم فيه من الهول العظيم أحالوا على غيرهم فقالوا : { فاسأل العادين } أي المتمكنين من معرفة العدد وهم الملائكة لأنهم الحفظة العارفون بأعمال العباد وأعمارهم وقيل المعنى : فاسأل الحاسبين العارفين بالحساب من الناس وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي { قال كم لبثتم في الأرض } على الأمر والمعنى : قل يا محمد للكفار أو يكون أمرا للملك بسؤالهم أو التقدير : قولوا كم لبثتم فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة وقرأ الباقون { قال كم لبثتم } على أن القائل هو الله عز و جل أو الملك (3/717)
114 - { قال إن لبثتم إلا قليلا } قرأ حمزة والكسائي { قال إن لبثتم } كما في الآية الأولى وقرأ الباقون { قال } على الخبر وقد تقدم توجيه القراءتين : أي ما لبثتم في الأرض إلا لبثا قليلا { لو أنكم كنتم تعلمون } شيئا من العلم والجواب محذوف : أي لو كنتم تعلمون لعلمتم اليوم قلة لبثكم في الأرض أو في القبور أو فيهما فكل ذلك قليل بالنسبة إلى لبثهم (3/717)
ثم زاد سبحانه في توبيخهم فقال : 115 - { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } الهمزة للتوبيخ والتقرير والفاء للعطف على مقدر كما تقدم بيانه في مواضع : أي ألم تعلموا شيئا فحسبتم وانتصاب عبثا على الحال : أي عابثين أو على العلة : أي للعبث قال بالأول سيبويه وقطرب وبالثاني أبو عبيدة وقال أيضا : يجوز أن يكون منتصبا على المصدرية وجملة { وأنكم إلينا لا ترجعون } معطوفة على أنما خلقناكم عبثا والعبث في اللغة : اللعب يقال عبث يعبث عبثا فهو عابث : أي لاعب وأصله من قولهم عبثت الاقط : أي خلطته والمعنى : أفحسبتم أن خلقنالكم للإهمال كما خلقت البهائم ولا ثواب ولا عقاب وأنكم إلينا لا ترجعون بالبعث والنشور فنجازيكم بأعمالكم قرأ حمزة والكسائي { ترجعون } بفتح الفوقية وكسر الجيم مبنيا للفاعل وقرأ الباقون على البناء للمفعول وقيل إنه يجوز عطف { وأنكم إلينا لا ترجعون } على { عبثا } على معنى : أنما خلقناكم للعبث ولعدم الرجوع (3/717)
ثم نزه سبحانه نفسه فقال : 116 - { فتعالى الله } أي تنزه عن الأولاد والشركاء أو عن أن يخلق شيئا عبثا أو عن جميع ذلك وهو { الملك } الذي يحق له الملك على الإطلاق { الحق } في جميع أفعاله وأقواله { لا إله إلا هو رب العرش الكريم } فكيف لا يكون إلها وربا لما هو دون العرش الكريم من المخلوقات ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة والخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال بيت كريم : إذا كان ساكنوه كراما قرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل وأبان بن ثعلب { الكريم } بالرفع على أنه نعت لرب وقرأ الباقون بالجر على أنه نعت للعرش (3/717)
ثم زيف ما عليه أهل الشرك توبيخا لهم وتقريعا فقال : 117 - { ومن يدع مع الله إلها آخر } يعبده مع الله أو يعبده وحده وجملة { لا برهان له به } في محل نصب صفة لقوله إلها وهي صفة لازمة جيء بها للتأكيد كقوله { يطير بجناحيه } والبرهان : الحجة الواضحة والدليل الواضح وجواب الشرط قوله : { فإنما حسابه عند ربه } وجملة لا برهان له به معترضة بين الشرط والجزاء كقولك : من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فالله مثيبه وقيل إن جواب الشرط قوله : { لا برهان له به } على حذف فاء الجزاء كقول الشاعر :
( من يفعل الحسنات الله يشكرها )
{ إنه لا يفلح الكافرون } قرأ الحسن وقتادة بفتح أن على التعليل وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف وقرأ الحسن لا يفلح بفتح الياء واللام مضارع فلح بمعنى أفلح (3/718)
ثم ختم هذه السورة بتعليم رسوله صلى الله عليه و سلم أن يدعوه بالمغفرة والرحمة فقال : 118 - { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } أمره سبحانه بالاستغفار لتقتدي به أمته وقيل أمره بالاستغفار لأمته وقد تقدم بيان كونه أرحم الراحمين ووجه اتصال هذا بما قبله أنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار أمر بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته
وقد أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : إذا أدخل الكافر في قبره فيرى مقعده من النار { قال رب ارجعون } أتوب أعمل صالحا فيقال له قد عمرت ما كنت معمرا فيضيق عليه قبره فهو كالمنهوش ينازع ويفزع تهوي إليه حيات الأرض وعقاربها وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : زعموا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة : إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا : نرجعك إلى الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان بل قدما إلى الله وأما الكفار فيقولون له : نرجعك فيقول : رب ارجعون { لعلي أعمل صالحا فيما تركت } وهو مرسل وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه فعند ذلك يقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ] وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : { أعمل صالحا } قال : أقول لا إله إلا الله وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور يدخل عليهم في قبورهم حيات سود حية عند رأسه وحية عند رجليه يقرصانه حتى تلتقيا في وسطه فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } قال : حين نفخ في الصور فلا يبقى حي إلا الله وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه سئل عن قوله : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } وقوله : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } فقال : إنها مواقف فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا يتساءلون عند الصعقة الأولى لا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا فإذا كانت النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عنه أيضا أنه سئل عن الآيتين فقال : أما قوله : { ولا يتساءلون } فهذا في النفخة الأولى حين لا يبقى على الأرض شيء وأما قوله : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } فإنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين الآخرين وفي لفظ : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد : ألا إن هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه وفي لفظ : من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقه فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب الله { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه عن المسور بن مخرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري ] وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ] وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري ] وأخرج أحمد عن أبي سعيد بن الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول على المنبر : [ ما بال رجال يقولون : إن رحم رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينفع قومه بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة وإني أيها الناس فرط لكم ] وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { تلفح وجوههم النار } قال : تنفخ وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : [ { تلفح وجوههم النار } قال : تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم ] وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود في الآية قال : لفحتهم لفحة فما أبقت لحما على عظم إلا ألقته على أعقابهم وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه ابن أبي الدنيا في صفة النار وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه في قوله : { وهم فيها كالحون } قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال : كلوح الرأس النضيج بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { كالحون } قال : عابسون وقد ورد في صفة أهل النار وما يقولونه وما يقال لهم أحاديث كثيرة معروفة وأخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود [ أنه قرأ في أذن مصاب { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } حتى ختم السورة فبرئ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بماذا قرأت في أذنه ؟ فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال ] وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة قال السيوطي بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } فقرأناها فغنمنا وسلمنا اهـ
بحمد الله تعالى تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله : تفسير سورة النور (3/718)
سورة النور
هي مدنية وآياتها أربع وستون آية
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا : أنزلت سورة النور بالمدينة أخرج الحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة مرفوعا : [ لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة : يعني النساء وعلموهن الغزل وسورة النور ] أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نساءكم سورة النور ] وهو مرسل وأخرج أبو عبيد في فضائله عن حارثة بن مضرب قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور
السورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ولذلك سميت السورة من القرآن سورة ومنه قول زهير :
( ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب )
أي منزلة قرأ الجمهور 1 - { سورة } بالرفع وفيه وجهان : أحدهما أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف : أي هذه السورة ورجحه الزجاج والفراء والمبرد قالوا : لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع والوجه الثاني أن تكون مبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله : { أنزلناه } والخبر { الزانية والزاني } ويكون المعنى : السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختم وهذا معنى صحيح ولا وجه لما قاله الأولون من تعليل المنع من الابتداء بها كونها نكرة فهي نكرة مخصصة بالصفة وهو مجمع على جواز الابتداء بها وقيل هي مبتدأ محذوف الخبر على تقدير : فيما أوحينا إليك سورة ورد بأن مقتضى المقام ببيان شأن هذه السورة الكريمة لا بيان أن في جملة ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه و سلم سورة شأنها كذا وكذا وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالنصب وفيه أوجه : الأول أنها منصوبة بفعل مقدر غير مفسر بما بعده تقديره اتل سورة أو اقرأ سورة والثاني أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده على ما قيل في باب اشتغال الفعل عن الفاعل بضميره : أي أنزلنا سورة أنزلناها فلا محل لأنزلناها هاهنا لأنها جملة مفسرة بخلاف الوجه الذي قبله فإنها في محل نصب على أنها صفة لسورة الوجه الثالث أنها منصوبة على الإغراء : أي دونك سورة قاله صاحب الكشاف ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء الرابع أنها منصوبة على الحال من ضمير أنزلناها قال الفراء : هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن تتقدم عليه وعلى هذا فالضمير في أنزلناها ليس عائدا على سورة بل على الأحكام كأنه قيل : أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن قرأ ابن كثير وأبو عمر { وفرضناها } بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف قال أبو عمرو : { فرضناها } بالتشديد : أي قطعناها في الإنزال نجما نجما والفرض القطع ويجوز أن يكون التشديد للتكثير أو المبالغة ومعنى التخفيف أوجبناها وجعلناها مقطوعا بها وقيل ألزمناكم العمل بها وقيل قدرنا ما فيها من الحدود والفرض التقدير ومنه { إن الذي فرض عليك القرآن } { وأنزلنا فيها آيات بينات } أي أنزلنا في غضونها وتضاعيفها ومعنى كونها بينات أنها واضحة الدلالة على مدلولها وتكرير أنزلنا لكمال العناية بإنزال هذه السورة لما اشتملت عليه من الأحكام (4/5)
2 - { الزانية والزاني } هذا شروع في تفصيل ما أجمل من الآيات البينات والارتفاع على الابتداء والخبر { فاجلدوا كل واحد منهما } أو على الخبرية لسورة كما تقدم والزنا هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح وقيل هو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا والزانية هي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة لا المكرهة وكذلك الزاني ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش وأما على مذهب سيبويه فالخبر محذوف والتقدير : فيما يتلى عليكم حكم الزانية ثم بين ذلك بقوله : { فاجلدوا } والجلد الضرب يقال : جلده إذا ضرب جلده مثل بطنه إذا ضرب بطنه ورأسه إذا ضرب رأسه وقوله : { مائة جلدة } هو حد الزاني الحر البالغ البكر وكذلك الزانية وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد وهي تغريب عام وأما المملوك والمملوكة فجلد كل واحد منهما خمسون جلدة لقوله سبحانه : { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وهذا نص في الإماء وألحق بهن العبيد لعدم الفارق وأما من كان محصنا فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة وبإجماع أهل العلم بل وبالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة وقد أوضحنا ما هو الحق في ذلك في شرحنا للمنتقى وقد مضى الكلام في حد الزنا مستوفى وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء وقرأ عيسى بن عمر الثقفي ويحيى بن يعمر وأبو جعفر وأبو شيبة { الزانية والزاني } بالنصب قيل وهو القياس عند سيبويه لأنه عنده كقولك زيدا اضرب وأما الفراء والمبرد والزجاج فالرفع عندهم أوجه به قرأ الجمهور ووجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن وقيل وجه التقديم أن المرأة هي الأصل في الفعل وقيل لأن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب وقيل لأن العار فيهن أكثر إذ موضوعهن الحجبة والصيانة فقدم ذكر الزانية تغليظا واهتماما والخطاب في هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم وقيل للمسلمين أجمعين لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعا والإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } يقال رأف يرأف رأفة على وزن فعلة ورآفة على وزن فعالة مثل النشأة والنشاءة وكلاهما بمعنى الرقة والرحمة وقيل هي أرق الرحمة وقرأ الجمهور { رأفة } بسكون الهمزة وقرأ ابن كثير بفتحها وقرأ ابن جريح رآفة بالمد كفعالة ومعنى { في دين الله } في طاعته وحكمه - كما في قوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } ثم قال مثبتا للمأمورين ومهيجا لهم { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } كما تقول للرجل تحضه على أمر : إن كنت رجلا فافعل كذا : أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحدود { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } أي ليحضره زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما وإشهار فضيحتهما والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطوف وأقل الطائفة ثلاثة وقيل اثنان وقيل واحد وقيل أربعة وقيل عشرة (4/7)
ثم ذكر سبحانه شيئا يختص بالزاني والزانية فقال : 3 - { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة }
قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال : الأول أن المقصود منها تشنيع الزنا وتشنيع أهله وأنه محرم على المؤمنين ويكون معنى الزاني لا ينكح : الوطء لا العقد : أي الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان وزاد ذكر المشركة والمشرك لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا ورد هذا الزجاج وقال : لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج ويرد هذا الرد بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه ومنه قوله : { حتى تنكح زوجا غيره } فقد بينه النبي صلى الله عليه و سلم بأن المراد به الوطء ومن جملة القائلين بأن معنى الزاني لا ينكح إلا زانية الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة كما حكاه ابن جرير عنهم وحكاه الخطابي عن ابن عباس القول الثاني : أن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة كما سيأتي بيانه فتكون خاصة بها كما قاله الخطابي القول الثالث : أنها نزلت في رجل من المسلمين فتكون خاصة به قاله مجاهد الرابع : أنها نزلت في أهل الصفة فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح الخامس : أن المراد بالزاني والزانية المحدودان حكاه الزجاج وغيره عن الحسن قال : وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة وروى نحوه عن إبراهيم النخعي وبه قال بعض أصحاب الشافعي قال ابن العربي : وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا السادس : أن الآية هذه منسوخة بقوله سبحانه : { وأنكحوا الأيامى منكم } قال النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء القول السابع : أن هذا الحكم مؤسس على الغالب والمعنى : أن غالب الزناة لا يرغب إلا في الزواج بزانية مثله وغالب الزواني لا يرغبن إلا في الزواج بزان مثلهن والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا وهذا أرجح الأقوال وسبب النزول يشهد له كما سيأتي
وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك وروي عن ابن عباس وروي عن عمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز قال ابن مسعود : إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا وبه قال مالك ومعنى { وحرم ذلك على المؤمنين } أي نكاح الزواني لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب وقيل هو مكروه فقط وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { سورة أنزلناها وفرضناها } قال : بيناها وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وظهرها فقلت : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } قال : يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجلد رأسها وقد أوجعت حيث ضربت وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } قال : الطائفة رجل فما فوقه وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه والضياء المقدسي في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { الزاني لا ينكح } قال : ليس هذا بالنكاح ولكن الجماع لا يزني بها حين يزني إلا زان أو مشرك { وحرم ذلك على المؤمنين } يعني الزنا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد في قوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية } قال : كن نساء في الجاهلية بغيات فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم جميل فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين وهو مرسل وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن يسار نحوه مختصرا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء عن ابن عباس قال : كانت بغايا في الجاهلية بغايا آل فلان وبغايا آل فلان فقال الله : { الزاني لا ينكح إلا زانية } الآية فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن الضحاك في الآية قال إنما عنى بذلك الزنا ولم يعن به التزويج وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير نحوه وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في هذه الآية قال : الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة أو مشركة من غير أهل القبلة والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة وحرم الزنا على المؤمنين وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح وتشترط أن تنفق عليه فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتزوجها فأنزل الله : { الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وذكر قصة وفيها : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقا ؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت { الزاني لا ينكح إلا زانية } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا مرثد { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } فلا تنكحها ] وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن عمرو في الآية قال : كن نساء معلومات فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه فنهاهم الله عن ذلك وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس : أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات فحرم الله نكاحهن على المؤمنين وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق شعبة مولى ابن عباس قال : كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال : إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها ما حرم الله علي وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها فقال الناس : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فقال ابن عباس : ليس هذا موضع هذه الآية إنما كن نساء بغايا متعالنات يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس يعرفن بذلك فأنزل الله هذه الآية تزوجها فما كان فيها من إثم فعلي وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله ] وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي بن أبي طالب أن رجلا تزوج امرأة ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد فجاءوا به إلى علي ففرق بينه وبين امرأته وقال : لا تتزوج إلا مجلودة مثلك (4/8)
4 - قوله : { والذين يرمون } استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة :
( وجرح اللسان كجرح اليد )
وقال آخر :
( رماني بأمر كنت عنه ووالدي ... بريا ومن أجل الطوى رماني )
ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفا والمراد بالمحصنات النساء وخصهن بالذكر لأن قدفهن أشنع والعار فيهن أعظم ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة وقد جمعنا في ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء والتقدير : والأنفس المحصنات ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى : { والمحصنات من النساء } فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى وقيل أراد بالمحصنات الفروج كما قال : { والتي أحصنت فرجها } فتتناول الآية الرجال والنساء وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليبا وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب والمراد بالمحصنات هنا العفائف وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه منها ما هو مأخوذ من دليل ومنها ما هو مجرد رأي بحت قرأ الجمهور { والمحصنات } بفتح الصاد وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافرا أو كافرة وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : إنه يجب عليه الحد وذهب الجمهور أيضا أن العبد يجلد أربعين جلدة وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة : يجلد ثمانين قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال ثم ذكر سبحانه شرطا لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } أي يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن ولفظ ثم يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف وبه قال الجمهور وخالف في ذلك مالك وظاهر الآية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين وخالف في ذلك الحسن ومالك وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون بحد القذف وقال الحسن والشعبي : إنه لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم قرأ الجمهور { بأربعة شهداء } بإضافة أربعة إلى شهداء وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بتنوين أربعة
وقد اختلف في إعراب شهداء على هذه القراءة فقيل هو تمييز ورد بأن المميز من ثلاثة إلى عشرة يضاف إليه العدد كما هو مقرر في علم النحو وقيل إنه في محل نصب على الحال ورد بأن الحال لا يجيء من النكرة التي لم تخصص وقيل إن شهداء في محل جر نعتا لأربعة ولما كان فيه ألف التأنيث لم ينصرف وقال النحاس : يجوز أن يكون شهداء في موضع نصب على المفعولية : أي ثم لم يحضروا أربعة شهداء وقد قوى ابن جني هذه القراءة ويدفع ذلك قوله سيبويه إن تنوين العدد وترك إضافة إنما يجوز في الشعر ثم بين سبحانه ما يجب على القاذف فقال : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } الجلد الضرب كما تقدم والمجادلة المضاربة في الجلود أو بالجلود ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما ومنه قول قيس بن الخطيم :
( أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعب )
وقد تقدم بيان الجلد قريبا وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر وجلدة منتصبة على التمييز وجملة { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } معطوفة على اجلدوا : أي فاجمعوا لهم بين الأمرين : الجلد وترك قبول الشهادة لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به في آخر هذه الآية واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو حال من شهادة ولو تأخرت عليها لكانت صفة لها ومعنى { أبدا } : ما داموا في الحياة ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال : { وأولئك هم الفاسقون } وهذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية وجوز أبو البقاء أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ثم بين سبحانه أن هذا التأبيد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة (4/11)
5 - فقال : { إلا الذين تابوا } وهذه الجملة في محل نصب على الاستثناء لأنه من موجب وقيل يجوز أن يكون في موضع خفض على البدل ومعنى التوبة قد تقدم تحقيقه ومعنى { من بعد ذلك } من بعد اقترافهم لذنب القذف ومعنى { وأصلحوا } إصلاح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والانقياد للحد
وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله ؟ هي جملة عدم قبول الشهادة وجملة الحكم عليها بالفسق أم إلى الجملة الأخيرة ؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصر وبعد إجماعهم أيضا على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا ؟ فقال الجمهور : إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق لأن سبب ردها هو ما كان متصفا به من الفسق بسبب القذف فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة : إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق لا إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ولا تقبل شهادته أبدا وذهب الشعبي والضحاك إلى التفصيل فقالا : لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان فحينئذ تقبل شهادته وقول الجمهور هو الحق لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحدا في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيدا لما قبلها غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به ولهذا كان مجمعا عليه وكونه أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهرا وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفن والحق هو هذا والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائدا إلى جميع الجمل التي قبله وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع من قبول الشهادة وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة : إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه وأقيم عليه الحد بسببه وقالت فرقة منهم مالك وغيره : إن توبته تكون بأن يحسن حاله ويصلح عمله ويندم على ما فرط منه ويستغفر الله من ذلك ويعزم على ترك العود إلى مثله وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله ويؤيد هذا الآيات والأحاديث الواردة في التوبة فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد
وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب ولو كان كفرا فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى هكذا حكى الإجماع القرطبي قال أبو عبيد : الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرما من مرتكب الزنا والزاني إذا تاب قبلت شهادته لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله } إلى قوله : { إلا الذين تابوا } ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع قال الزجاج : وليس القاذف بأشد جرما من الكافر فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته قال : وقوله : { أبدا } أي ما دام قاذفا كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبدا فإن معناه : ما دام كافرا انتهى وجملة { إن الله غفور رحيم } تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفورا له مرحوما من الرحمن الرحيم غير فاسق ولا مردود الشهادة ولا مرفوع العدالة ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح (4/13)
6 - فقال : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } أي لم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهن من الزنا إلا أنفسهم بالرفع على البدل من شهداء قيل ويجوز النصب على خبر يكن قال الزجاج : أو على الاستثناء على الوجه المرجوح { فشهادة أحدهم أربع شهادات } قرأ الكوفيون برفع { أربع } على أنها خبر لقوله : { فشهادة أحدهم } أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو أربع بالنصب على المصدر ويكون { فشهادة أحدهم } خبر مبتدأ محذوف : أي فالواجب شهادة أحدهم أو مبتدأ محذوف الخبر : أي فشهادة أحدهم واجبة وقيل إن { أربع } منصوب بتقدير : فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات وقوله : { بالله } متعلق بشهادة أو بشهادات وجملة { إنه لمن الصادقين } هي المشهود به وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل منها (4/15)
7 - { والخامسة } قرأ السبعة وغيرهم { الخامسة } بالرفع على الابتداء وخبرها { أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص { والخامسة } بالنصب على معنى وتشهد الشهادة الخامسة ومعنى { إن كان من الكاذبين } أي فيما رماها به من الزنا قرأ الجمهور بتشديد أن من قوله : { أن لعنة الله } وقرأ نافع بتخفيفها فعلى قراءة نافع يكون اسم أن ضمير الشأن ولعنة الله مبتدأ وعليه خبره والجملة خبر أن وعلى قراءة الجمهور تكون لعنة الله اسم أن قال سيبويه : لا تخفف أن في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة وقال الأخفش : لا أعلم الثقيلة إلا أجود في العربية (4/15)
{ ويدرأ عنها العذاب } أي عن المرأة والمراد بالعذاب : الدنيوي وهو الحد وفاعل يدرأ قوله : { أن تشهد أربع شهادات بالله } والمعنى : أنه يدفع عن المرأة الحد شهادتها أربع شهادات بالله : أن الزوج (4/15)
9 - { لمن الكاذبين * والخامسة } بالنصب عطفا على أربع : أي وتشهد الخامسة كذلك قرأ حفص والحسن والسلمي وطلحة والأعمش وقرأ الباقون على الابتداء وخبره { أن غضب الله عليها إن كان } الزوج { من الصادقين } فيما رماها به من الزنا وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادته ولأن النساء يكثرن اللعن في العادة ومع استكثارهن منه لا يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلاف الغضب (4/16)
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } جواب لولا محذوف قال الزجاج : المعنى ولولا فضل الله لنال الكاذب منهما عذاب عظيم ثم بين سبحانه كثير توبته على من تاب وعظيم حكمته البالغة فقال : { وأن الله تواب حكيم } أي يعود على من تاب إليه ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه والمغفرة له حكيم فيما شرع لعباده من اللعان وفرض عليهم من الحدود
وقد أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إلا الذين تابوا } قال : تاب الله عليهم من الفسوق وأما الشهادة فلا تجوز وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة : إن تبت قبلت شهادتك وأخرج ابن مردويه عنه قال : توبتهم إكذابهم أنفسهم فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : من تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل وفي الباب روايات عن التابعين وقصة قذف المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة وأخرج البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس [ أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه و سلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه و سلم : البينة وإلا حد في ظهرك فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ونزل جبريل فأنزل عليه { والذين يرمون أزواجهم } حتى بلغ { إن كان من الصادقين } فانصرف النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد
والنبي صلى الله عليه و سلم يقول : الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن ] وأخرج هذه القصة أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مطولة وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما ولم يسموا الرجل ولا المرأة وفي آخر القصة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : [ اذهب فلا سبيل لك عليها فقال : يا رسول الله مالي قال : لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال : [ جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال سل رسول الله : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله أيقتل به أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه و سلم : فعاب رسول الله صلى الله عليه و سلم المسائل فقال عويمر : والله لآتين رسول الله صلى الله عليه و سلم لأسألنه فأتاه فوجده قد أنزل عليه فدعا بهما فلاعن بينهما قال عويمر : إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم فصارت سنة للمتلاعنين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا فجاءت به مثل النعت المكروه ] وفي الباب أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود قالوا لا يجتمع المتلاعنان أبدا (4/15)
11 - خبر إن من قوله : { إن الذين جاؤوا بالإفك } هو { عصبة } و { منكم } صفة لعصبة وقيل هو { لا تحسبوه شرا لكم } وتكون عصبة بدلا من فاعل جاءوا قال ابن عطية : وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون الخبر عصبة وجملة لا تحسبوه وإن كانت طلبية فجعلها خبرا يصح بتقدير كما في نظائر ذلك والإفك أسوأ الكذب وأقبحه وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه فالإفك هو الحديث المقلوب وقيل هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية ما وقع من الإفك على عائشة أم المؤمنين وإنما وصفه الله بأنه إفك لأن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك قال الواحدي : ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف النسب والسبب لا القذف فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه فهو إفك قبيح وكذب ظاهر والعصبة هم الجماعة من العشرة إلى الأربعين والمراد بهم هنا عبد الله بن أبي رأس المنافقين وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم وقيل العصبة من الثلاثة إلى العشرة وقيل من عشرة إلى خمسة عشر وأصلها في اللغة الجماعة الذي يتعصب بعضهم لبعض وجملة { لا تحسبوه شرا لكم } إن كانت خبرا لإن فظاهر وإن كان الخبر عصبة كما تقدم فهي مستأنفة خوطب بها النبي صلى الله عليه و سلم وعائشة وصفوان بن المعطل الذي قذف مع أم المؤمنين وتسلية لهم والشر ما زاد ضره على نفعه والخير ما زاد نفعه على ضره وأما الخير الذي لا شر فيه فهو الجنة والشر الذي لا خير فيه فهو النار ووجه كونه خيرا لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين وصيرورة قصتها هذه شرعا عاما { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } أي بسبب تكلمه بالإفك { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } قرأ الحسن والزهري وأبو رجاء وحميد الأعرج ويعقوب وابن أبي علية ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن بضم الكاف قال الفراء : وهو وجه جيد لأن العرب تقول : فلان تولى عظيم كذا وكذا : أي أكبره وقرأ الباقون بكسرها قيل هما لغتان وقيل هو بالضم معظم الإفك وبالكسر البداءة به وقيل هو بالكسر الإثم فالمعنى : إن الذي تولى معظم الإفك من العصبة له عذاب عظيم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما
واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم ؟ فقيل هو عبد الله بن أبي وقيل هو حسان والأول هو الصحيح وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم جلد في الإفك رجلين وامرأة وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وقيل جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ولم يجلد مسطحا لأنه لم يصرح بالقذف ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح وقيل لم يجلد أحدا منهم قال القرطبي : المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حدوا : حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبي ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم وسماهم : حسان ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش
واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه و سلم لجلد عبد الله بن أبي فقيل لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة وحد من عداه ليكون ذلك تكفيرا لذنبهم كما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الحدود أنه قال : [ إنها كفارة لمن أقيمت عليه ] وقيل ترك حده تألفا لقومه واحتراما لابنه فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لنائرة الفتنة فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه كما في صحيح مسلم ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات (4/18)
12 - { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } لولا هذه هي التحضيضية تأكيدا للتوبيخ والتقريع ومبالغة في معاتبتهم : أي كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم فإن كان ذلك يبعد فيهم فهو في أم المؤمنين أبعد قال الحسن : معنى بأنفسهم بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة ألا ترى إلى قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } قال الزجاج : ولذلك يقال للقوم الذي يقتل بعضهم بعضا إنهم يقتلون أنفسهم قال المبرد ومثله قوله سبحانه : { فاقتلوا أنفسكم } قال النحاس : بأنفسهم بإخوانهم فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه قال العلماء : إن في الآية دليلا على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع { وقالوا هذا إفك مبين } أي قال المؤمنون عند سماع الإفك هذا إفك ظاهر مكشوف (4/19)
13 - وجملة { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء } من تمام ما يقوله المؤمنون : أي وقالوا هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك } أي الخائضون في الإفك { عند الله هم الكاذبون } أي في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب (4/20)
14 - { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة } هذا خطاب السامعين وفيه زجر عظيم { ولولا } هذه هي لامتناع الشيء لوجود غيره { لمسكم في ما أفضتم فيه } أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك يقال أفاض في الحديث واندفع وخاض والمعنى : لولا أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال والرحمة في الآخرة بالعفو لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك وقيل المعنى : لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معا ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا (4/20)
15 - { إذ تلقونه بألسنتكم } الظرف منصوب بمسكم أو بأفضتم قرأ الجمهور { إذ تلقونه } من التلقي والأصل تتلقونه فحذف إحدى التاءين قال مقاتل ومجاهد : المعنى يرويه بعضكم عن بعض قال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقيا قال الزجاج : معناه يلقيه بعضكم إلى بعض وقرأ محمد بن السميفع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف من الإلقاء ومعنى هذه القراءة واضح وقرأ أبي وابن مسعود تتلقونه من التلقي وهي كقراءة الجمهور : وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى بن عمر ويحيى بن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف وهذه القراءة مأخوذة من قول العرب ولق يلق ولقا : إذا كذب قال ابن سيده : جاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي قال ابن عطية : وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف حرف الجر فاتصل الضمير قال الخليل وأبو عمرو : أصل الولق الإسراع يقال جاءت الإبل تلق : أي تسرع ومنه قول الشاعر :
( لما رأوا جيشا عليهم قد طرق ... جاءوا بأسراب من الشام ولق )
وقال آخر :
( جاءت به عيسى من الشام تلق )
قال أبو البقاء : أي يسرعون فيه قال ابن جرير : وهذه اللفظة أي تلقونه على القراءة الأخيرة مأخوذة من الولق وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد وكلام في إثر كلام وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة من الألق وهو الكذب وقرأ يعقوب تيلقونه بكسر التاء من فوق بعدها ياء تحتية ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة وهو مضارع ولق بكسر اللام ومعنى { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } أن قولهم هذا مختص بالأفواه من غير أن يكون واقعا في الخارج معتقدا في القلوب وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله : { يطير بجناحيه } ونحوه والضمير في تحسبونه راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له { وتحسبونه هينا } أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم وجملة { وهو عند الله عظيم } في محل نصب على الحال : أي عظيم ذنبه وعقابه (4/20)
16 - { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } هذا عتاب لجميع المؤمنين : أي هلا إذ سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيبا للخائضين فيه المفترين له ما ينبغي لنا ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه ومعنى قوله : { سبحانك هذا بهتان عظيم } التعجب من أولئك الذين جاءوا بالإفك وأصله التنزيه لله سبحانه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه والبهتان هو أن يقال في الإنسان ما ليس فيه : أي هذا كذب عظيم لكونه قيل في أم المؤمنين رضي الله عنها وصدوره مستحيل شرعا من مثلها ثم وعظ سبحانه الذي خاضوا في الإفك (4/21)
17 - { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا } أي ينصحكم الله أو يحرم عليكم أو ينهاكم كراهة أن تعودوا أو من أن تعودوا أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف مدة حياتكم { إن كنتم مؤمنين } فإن يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ (4/21)
18 - { ويبين الله لكم الآيات } في الأمر والنهي لتعملوا بذلك وتتأدبوا بآداب الله وتنزجوا عن الوقوع في محارمه { والله عليم } بما تبدونه وتخفونه { حكيم } في تدبيراته لخلقه ثم هدد سبحانه القاذفين ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين وذنوبهم (4/22)
19 - فقال : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا } أي يحبون أن تفشو الفاحشة وتنتشر من قولهم شاع الشيء يشيع شيوعا وشيعا وشيعانا : إذا ظهر وانتشر والمراد بالذين آمنوا المحصنون والعفيفون أو كل من اتصف بصفة الإيمان والفاحشة هي فاحشة الزنا والقول السيء { لهم عذاب أليم في الدنيا } بإقامة الحد عليهم { والآخرة } بعذاب النار { والله يعلم } جميع المعلومات { وأنتم لا تعلمون } إلا ما علمكم به وكشفه لكم ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف وعقوبة فاعله (4/22)
14 - { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } هو تكرير لما تقدم تذكيرا للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعالجة لهم { وأن الله رؤوف رحيم } ومن رأفته بعباده أن لا يعاجلهم بذنوبهم ومن رحمته لهم أن يتقدم إليهم بمثل هذا الإعذار والإنذار وجملة : وأن الله رؤوف رحيم معطوفة على فضل الله وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه : أي لعاجلكم بالعقوبة (4/22)
21 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } الخطوات جمع خطوة وهي ما بين القدمين والخطوة بالفتح المصدر : أي لا تتبعوا مسالك الشيطان ومذاهبه ولا تسلكوا طرائقه التي يدعوكم إليها قرأ الجمهور { خطوات } بضم الخاء والطاء وقرأ عاصم والأخفش بضم الخاء وإسكان الطاء { ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } قيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له كأنه قيل : فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه أن يستمر آمرا لغيره بهما والفحشاء ما أفرط قبحه والمنكر ما ينكره الشرع وضمير إنه للشيطان وقيل للشأن والأولى أن يكون عائدا إلى من يتبع خطوات الشيطان لأن من اتبع الشيطان صار مقتديا به في الأمر بالفحشاء والمنكر { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } قد تقدم بيانه وجواب لولا هو قوله : { ما زكا منكم من أحد أبدا } أي لولا التفضل والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حيا قرأ الجمهور { زكى } بالتخفيف وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بالتشديد أي ما طهره الله وقال مقاتل : أي ما صلح والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير وهو الذي ذكره ابن قتيبة قال الكسائي : إن قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } معترض وقوله : { ما زكا منكم من أحد أبدا } جواب لقوله أولا وثانيا ولولا فضل الله وقراءة التخفيف أرجح لقوله : { ولكن الله يزكي من يشاء } أي من عباده بالتفضل عليهم والرحمة لهم { والله سميع } لما يقولونه { عليم } بجميع المعلومات وفيه حث بالغ على الإخلاص وتهييج عظيم لعباده التائبين ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه
وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ متعددة وطرق مختلفة حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة رضي الله عنها وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقدا لها انقطع من جزع فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم فأقامت في ذلك المكان ومر بها صفوان بن المعطل وكان متأخرا عن الجيش فأناخ راحلته وحملها عليها فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا فبرأها الله مما قالوه هذا حاصل القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن الأربع وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم قال الترمذي : هذا حديث حسن ووقع عند أبي داود تسميتهم : حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبي بن سلول ومسطح وحسان وحمنة بنت جحش وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال الذي تولى كبره منهم علي فقلت لا حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي قال فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئا في أمري وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا الشافعي حدثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبي قال : كذبت هو علي قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولى كبره ؟ فقال : ابن أبي قال : كذبت هو علي قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
( حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل )
قالت : لكنك لست كذلك قلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } فقالت : وأي عذاب أشد من العمى ؟ وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى وذلك الكذب أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت لا والله قال : فعائشة والله خير منك وأطيب إنما هذا كذب وإفك باطل فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك ثم قال : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين } أي كما قال أبو أيوب وصاحبته وأخرج الواقدي والحاكم وابن عساكر عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب فذكر نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا } قال : يحرج الله عليكم وأخرج البخاري في الأدب والبيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب قال : القائل الفاحشة والذي شيع بها في الإثم سواء وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ما زكا منكم من أحد أبدا } قال : ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير (4/22)
22 - قوله : { لا يأتل } أي يحلف وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين ومنه قول الشاعر :
( تألى ابن أوس حلفة ليردني ... إلى نسوة كأنهن مفايد )
وقول الآخر :
( قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الألية برت )
يقال ائتلى يأتلي إذا حلف ومنه قوله سبحانه : { للذين يؤلون من نسائهم } وقالت فرقة : هو من ألوت في كذا إذا قصرت ومنه لم آل جهدا : أي لم أقصر وكذا منه قوله : { لا يألونكم خبالا } ومنه قول الشاعر :
( وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آل )
والأول أولى بدليل سبب النزول وهو ما سيأتي والمراد بالفضل الغنى والسعة في المال { أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } أي على أن لا يؤتوا قال الزجاج : أن لا يؤتوا فحذف لا ومنه قول الشاعر :
( فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي )
وقال أبو عبيدة : لا حاجة إلى إضمار لا والمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان الجامعين لتلك الأوصاف وعلى الوجه الآخر يكون المعنى : لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم شحناء لذنب اقترفوه وقرأ أبو حيوة { أن يؤتوا } بتاء الخطاب على الالتفات ثم علمهم سبحانه أدبا آخر فقال { وليعفوا } عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم وجنايتهم التي اقترفوها من عفا الربع : أي درس والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع { وليصفحوا } بالإغضاء عن الجاني والإغماض عن جنايته وقرىء بالفوقية في الفعلين جميعا ثم ذكر سبحانه ترغيبا عظيما لمن عفا وصفح فقال : { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم { والله غفور رحيم } أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم (4/25)
23 - { إن الذين يرمون المحصنات } قد مر تفسير المحصنات وذكرنا الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حد القذف
وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة ؟ فقال سعيد بن جبير : هي خاصة فيمن رمى عائشة رضي الله عنها وقال مقاتل : هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين وقال الضحاك والكلبي : هذه الآية هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم دون سائر المؤمنين والمؤمنات فمن قذف إحدى أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فهو من أهل هذه الآية قال الضحاك : ومن أحكام هذه الآية أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه صلى الله عليه و سلم ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة كما تقدم في قوله : { إلا الذين تابوا } وقيل إن هذه الآية خاصة بمن أصر على القذف ولم يتب وقيل إنها تعم كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين واختاره النحاس وهو الموافق لما قرره أهل الأصول من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقيل إنها خاصة بمشركي مكة لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت لتفجر قال أهل العلم : إن كان المراد بهذه الآية المؤمنون من القذفة فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين وإن كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون { في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } والمراد بالغافلات اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا تخطر ببالهن ولا يفطن لها وفي ذلك من الدلالة على كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات وقيل هن السليمات الصدور النقيات القلوب (4/26)
24 - { يوم تشهد عليهم ألسنتهم } هذه الجملة مقررة لما قبلها مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من العذاب الذي لا يحيط به وصف وقرأ الجمهور { يوم تشهد } بالفوقية واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي وخلف بالتحتية واختار هذه القراءة أبو عبيد لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل والمعنى : تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم وقيل تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم بما تكلموا به { وأيديهم وأرجلهم } بما عملوا بها في الدنيا وإن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم والمشهود محذوف وهو ذنوبهم التي اقترفوها : أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها (4/26)
25 - { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفرا فالمراد بالدين هاهنا الجزاء وبالحق الثابت الذي لا شك في ثبوته قرأ زيد بن علي يوفيهم مخففا من أوفى وقرأ من عداه بالتشديد من وفى وقرأ أبو حيوة ومجاهد { الحق } بالرفع على أنه نعت لله وروى ذلك عن ابن مسعود وقرأ الباقون بالنصب على أنه نعت لدينهم قال أبو عبيدة : ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ليكون نعتا لله عز و جل ولتكون موافقة لقراءة أبي وذلك أن جرير بن حازم قال : رأيت في مصحف أبي { يوفيهم الله دينهم الحق } قال النحاس : وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح أنه في مصحف أبي جاز أن يكون دينهم بدلا من الحق { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } أي ويعلمون عند معاينتهم لذلك ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز أن الله هو الحق الثابت في ذاته وصفاته وأفعاله المبين المظهر للأشياء كما هي في أنفسها وإنما سمي سبحانه الحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره وقيل سمي بالحق : أي الموجود لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم (4/27)
26 - ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال : { الخبيثات للخبيثين } أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال : أي مختصة بهم لا تتجاوزهم وكذا الخبيثون مختصون بالخبيثات لا يتجاوزونهن وهكذا قوله : { والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين : المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات قال النحاس : وهذا أحسن ما قيل قال الزجاج : ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبيث ومدح للذين برأوها وقيل إن هذه الآية مبنية على قوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية } فالخبيثات الزواني والطيبات العفائف وكذا الخبيثون والطيبون والإشارة هنا بقوله : { أولئك مبرؤون مما يقولون } إلى الطيبين والطيبات : أي هم مبرأون مما يقوله الخبيثون والخبيثات وقيل الإشارة إلى أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وعائشة وصفوان بن المعطل وقيل عائشة وصفوان فقط قال الفراء : وجمع كما قال : { فإن كان له إخوة } والمراد أخوان { لهم مغفرة } أي هؤلاء المبرأون لهم مغفرة عظيمة لما لا يخلوا عنه البشر من الذنوب { ورزق كريم } هو رزق الجنة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا يأتل } الآية يقول : لا يقسموا أن لا ينفعوا أحدا وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت : كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك وكان قريبا لأبي بكر وكان في عياله فحلف أبو بكر أن لا ينيله خيرا أبدا فأنزل الله { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة } الآية قالت : فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال : لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا تحللتها وأتيت الذي هو خير وقد روي هذا من طرق عن جماعة من التابعين وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلموا فيها فأقسم ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم منهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصلوه فقال : لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون من قبل ذلك فأمر الله أن يغفر لهم وأن يعفى عنهم وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه في قوله : { إن الذين يرمون المحصنات } الآية قال : نزلت في عائشة خاصة وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه و سلم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه و سلم التوبة ثم قرأ { والذين يرمون المحصنات } إلى قوله : { إلا الذين تابوا } وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقال : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول : كذبوا فيقال : أهلك وعشيرتك فيقول : كذبوا فيقال : احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم ثم يدخلهم النار ] وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق جماعة من الصحابة ما يتضمن شهادة الجوارح على العصاة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه : { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } قال : حسابهم وكل شيء في القرآن فهو الحساب وأخرج الطبراني وابن مردويه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الخبيثات } قال : من الكلام { للخبيثين } قال : من الرجال { والخبيثون } من الرجال { للخبيثات } من الكلام { والطيبات } من الكلام { للطيبين } من الناس { والطيبون } من الناس { للطيبات } من الكلام نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي صلى الله عليه و سلم ما قالوا من البهتان وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير والطبراني عن قتادة نحوه أيضا وكذا روى عن جماعة من التابعين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن زيد في الآية قال : نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان والفرية فبرأها الله من ذلك وكان عبد الله بن أبي هو الخبيث فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم طيبا فكان أولى أن تكون له الطيبة وكانت عائشة الطيبة وكانت أولى بأن يكون لها الطيب وفي قوله : { أولئك مبرؤون مما يقولون } قال : هاهنا برئت عائشة وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : لقد نزل عذري من السماء ولقد خلقت طيبة وعند طيب ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما (4/27)
لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين وأيضا إن الإنسان يكون في بيته ومكان خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية هي قوله : 27 - { حتى تستأنسوا } والاستئناس الاستعلام والاستخبار : أي حتى تستعلموا من في البيت والمعنى : حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم فإذا علمتم ذلك دخلتم ومنه قوله : { فإن آنستم منهم رشدا } أي علمتم قال الخليل : الاستئناس الاستكشاف من أنس الشيء إذا أبصره كقوله : { إني آنست نارا } أي أبصرت وقال ابن جرير : إنه بمعنى وتؤنسوا أنفسكم قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس ومعنى كلام ابن جرير هذا أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له فإذا أذن له استأنس فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل وقيل هو من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان أم لا ؟ وقيل معنى الاستئناس الاستئذان : أي لا تدخلوها حتى تستأذنوا قال الواحدي قال جماعة المفسرين : حتى تستأذنوا ويؤيده ما حكاه القرطبي عن ابن عباس وأبي وسعيد بن جبير أنهم قرأوا { حتى تستأنسوا } قال مالك فيما حكاه عنه ابن وهب : الاستئناس فيما يرى والله أعلم الاستئذان وقوله : { وتسلموا على أهلها } قد بينه النبي صلى الله عليه و سلم كما سيأتي بأن يقول : السلام عليكم أدخل ؟ مرة أو ثلاثا كما سيأتي
واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام أو العكس فقيل يقدم الاستئذان فيقول : أدخل سلام عليكم لتقديم الاستئناس في الآية على السلام وقال الأكثرون : إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول : السلام عليكم أدخل وهو الحق لأن البيان منه صلى الله عليه و سلم للآية كان هكذا وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام وإلا قدم الاستئذان { ذلكم خير لكم } الإشارة إلى الاستئناس التسليم : أي دخولكم مع الاستئذان والسلام خير لكم من الدخول بغتة { لعلكم تذكرون } أن الاستئذان خير لكم وهذه الجملة متعلقة بمقدر : أي أمرتم بالاستئذان والمراد بالتذكر الاتعاظ والعمل بما أمروا به (4/29)
28 - { فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } أي فإن لم تجدوا في البيوت التي لغيركم أحدا ممن يستأذن عليه فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بدخولها من جهة من يملك الإذن وحكى ابن جرير عن مجاهد أنه قال : معنى الآية فإن لم تجدوا فيها أحدا : أي لم يكن لكم فيها متاع وضعفه وهو حقيق بالضعف فإن المراد بالأحد المذكور أهل البيوت الذي يأذنون للغير بدخولها لا متاع الداخلين إليها { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا } أي إن قال لكم أهل البيت ارجعوا فارجعوا ولا تعاودوهم بالاستئذان مرة أخرى ولا تنتظروا بعد ذلك أن يأذنوا لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع ثم بين سبحانه أن الرجوع أفضل من الإلحاح وتكرار الاستئذان والقعود على الباب فقال : { هو أزكى لكم } أي أفضل { وأطهر } من التدنس بالمشاحة على الدخول لما في ذلك من سلامة الصدر والبعد من الريبة والفرار من الدناءة { والله بما تعملون عليم } لا تخفى عليه من أعمالكم خافية (4/30)
29 - { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم } أي لا جناح عليكم في الدخول بغير استئذان إلى البيوت التي ليست بمسكونة
وقد اختلف الناس في المراد بهذه البيوت فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي الفنادق التي في الطرق السابلة الموضوعة لابن السبيل يأوي إليها وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيساريات قال الشعبي : لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس هلم وقال عطاء : المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط ففي هذا أيضا متاع وقيل هي بيوت مكة روي ذلك عن محمد بن الحنفية أيضا وهو موافق لقول من قال : إن الناس شركاء فيها ولكن قد قيد سبحانه هذه البيوت المذكورة هنا بأنها غير مسكونة والمتاع : المنفعة عند أهل اللغة فيكون معنى الآية : فيها منفعة لكم ومنه قوله : { ومتعوهن } وقولهم : أمتع الله بك وقد فسر الشعبي المتاع في كلامه المتقدم بالأعيان التي تباع قال جابر بن زيد : وليس المراد بالمتاع الجهاز ولكن ما سواه من الحاجة قال النحاس : وهو حسن موافق للغة { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } أي ما تظهرون وما تخفون وفيه وعيد لمن لم يتأدب بآداب الله في دخول بيوت الغير
وقد أخرج الفيرابي وابن جرير من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال : قالت امرأة : يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولد ولا والد فيأتيني الأب فيدخل علي فكيف أصنع ؟ ولفظ ابن جرير : وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحالة فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } الآية وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن منده في غرائب شعبة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في قوله : { حتى تستأنسوا } قال : أخطأ الكاتب حتى تستأذنوا { وتسلموا على أهلها } وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن إبراهيم النخعي قال في مصحف عبد الله { حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : الاستئناس : الاستئذان وأخرج ابن أبي شيبة والحكيم والترمذي والطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي أيوب قال : [ قلت يا رسول الله : أرأيت قول الله تعالى { حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس ؟ قال : يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت ] قال ابن كثير : هذا حديث غريب وأخرج الطبراني عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الاستئناس أن يدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت الذين يسلم عليهم ] وأخرج ابن سعد وأحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي في الشعب من طريق كلدة [ أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وضغابيس والنبي صلى الله عليه و سلم بأعلى الوادي قال : فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل ؟ ] قال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والبيهقي في السنن من طريق ربعي قال : [ حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه و سلم وهو في بيت فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم لخادمه : اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له : قل السلام عليكم أأدخل ؟ ] وأخرج ابن جرير عن عمر بن سعيد الثقفي نحوه مرفوعا ولكنه قال : [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأمة له يقال لها روضة : قومي إلى هذا فعلميه ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسى فزعا فقلنا له : ما أفزعك قال : أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ] قال : لتأتيني على هذا بالبينة فقالوا : لا يقوم إلا أصغر القوم فقام أبو سعيد معه ليشهد له فقال عمر لأبي موسى : إني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم شديد وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال : اطلع رجل من جحر في حجرة النبي صلى الله عليه و سلم ومعه مدرى يحك بها رأسه قال : لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر وفي لفظ : إنما جعل الإذن من أجل البصر وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن مردويه عن أنس قال : قال رجل من المهاجرين : لقد طلبت عمري كله في هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع وأنا مغتبط لقوله : وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود في الناسخ والمنسوخ وابن جرير عن ابن عباس قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } فنسخ من ذلك فقال : { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم } (4/30)
لما ذكر سبحانه حكم الاستئذان أتبعه بذكر حكم النظر على العموم فيندرج تحته غض البصر من المستأذن كما قال : صلى الله عليه و سلم : [ إنما جعل الإذن من أجل البصر ] وخصالمؤمنين مع تحريمه على غيرهم لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق من غيرهم بها وأولى بذلك ممن سواهم وقيل إن في الآية دليلا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم وفي الكلام حذف والتقدير { قل للمؤمنين } غضوا { يغضوا } ومعنى غض البصر : إطباق الجفن على العين بحيث تمتنع الرؤية ومنه قول جرير :
( فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلاب )
وقول عنترة :
( وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى توارى جارتي مأواها )
ومن في قوله : { من أبصارهم } هي التبعيضية وإليه ذهب الأكثرون وبينوه بأن المعنى غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل وقيل وجه التبعيض أنه يعفى للناظر أول نظرة تقع من غير قصد وقال الأخفش : إنها زائدة وأنكر ذلك سيبويه وقيل إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء واعترض عليه بأنه لم يتقدم مبهم يكون مفسرا بمن وقيل إنها لابتداء الغاية قاله ابن عطية وقيل الفض النقصان يقال غض فلان من فلان : أي وضع منه فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض منه ومنقوص فتكون { من } صلة للغض وليست لمعنى من تلك المعاني الأربعة وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه ومعنى { ويحفظوا فروجهم } أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم وقيل المراد ستر فروجهم عن أن يراها ن لا تحل له رؤيتها ولا مانع من إرادة المعنيين فالكل يدخل تحت حفظ الفرج قيل ووجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر فإنه لا يحرم منه إلا ما استثنى بخلاف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه فإنه لا يحل منه إلا ما استثنى وقيل الوجه أن غض البصر كله كالمعتذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر من الغض والحفظ وهو مبتدأ وخبره { أزكى لهم } أي أظهر لهم من دنس الريبة وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة { إن الله خبير بما يصنعون } لا يخفى عليه شيء من صنعهم (4/33)
وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه 31 - { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } خص سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليبا كما في سائر الخطابات القرآنية وظهر التضعيف في يغضض ولم يظهر في يغضوا لأن لام الفعل من الأول متحركة ومن الثاني ساكنة وهما في موضع جزم جوابا للأمر وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه ومعنى : يغضضن من أبصارهن كمعنى يغضوا من أبصارهم فيستدل به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهن وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم { ولا يبدين زينتهن } أي ما يتزين به من الحلية وغيرها وفي النهي عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال : { إلا ما ظهر منها }
واختلف الناس في ظاهر الزينة وما هو ؟ فقال ابن مسعود وسعيد بن جبير : ظاهر الزينة هو الثياب وزاد سعيد بن جبير الوجه وقال عطاء والأوزاعي : الوجه والكفان وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك فإنه يجوز للمرأة أن تبديه وقال ابن عطية إن المرأة لا تبدي شيئا من الزينة وتخفي كل شيء من زينتها ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما مما على الكف والقدمين من الحلية ونحوها وإن كان المراد بالزينة مواضعها كان الاستثناء راجعا إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح والاستثناء يكون من الجميع قال القرطبي في تفسيره : الزينة على قسمين : خلقية ومكتسبة فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة والزينة المكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب
والحلي والكحل والخضاب ومنه قوله تعالى { خذوا زينتكم } وقول الشاعر :
( يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن خير عواطل )
{ وليضربن بخمرهن على جيوبهن } قرأ الجمهور بإسكان اللام التي للأمر وقرأ أبو عمرو بكسرها على الأصل لأن أصل لام الأمر الكسر ورويت هذه القراءة عن ابن عباس والخمر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها ومنه اختمرت المرأة وتخمرت والجيوب : جمع جيب وهو موضع القطع من الدرع والقميص مأخوذ من الجوب وهو القطع قال المفسرون : إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة فكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستر بذلك ما كان يبدوا وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق قرأ الجمهور { بخمرهن } بتحريك الميم وقرأ طلحة ابن مصرف بسكونها وقرأ الجمهور { جيوبهن } بضم الجيم وقرأ ابن كثير وبعض الكوفيين بكسرها وكثير من متقدمي النحويين لا يجوزون هذه القراءة وقال الزجاج : يجوز أن يبدل من الضمة كسرة فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء وقد فسر الجمهور الجيوب بما قدمنا وهو المعنى الحقيقي وقال مقاتل : إن معنى على { جيوبهن } : على صدورهن فيكون في الآية مضاف محذوف : أي على مواضع جيوبهن ثم كرر سبحانه النهي عن إبداء الزينة لأجل ما سيذكره من الاستثناء فقال : { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب وقدم البعولة لأنهم المقصودون بالزينة ولأن كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم ومثل قوله سبحانه : { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } ثم لما استثنى سبحانه الزوج أتبعه باستثناء ذوي المحارم فقال : { أو آبائهن أو آباء بعولتهن } إلى قوله { أو بني أخواتهن } فجوز للنساء أن يبدين الزينة لهؤلاء لكثرة المخالطة وعدم خشية الفتنة لما في الطباع من النفرة عن القرائب وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا لا ينظران إلى أمهات المؤمنين ذهابا منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وهي قوله : { لا جناح عليهن في آبائهن } والمراد بأبناء بعولتهن ذكور أولاد الأزواج ويدخل في قوله : { أو أبنائهن } أولاد الأولاد وإن سفلوا وأولاد بناتهن وإن سفلوا وكذا آباء البعولة وآباء الآباء وآباء الأمهات وإن علوا وكذلك أبناء البعولة وإن سفلوا وكذلك أبناء الأخوة والأخوات وذهب الجمهور إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم وليس
في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب وقال الشعبي وعكرمة : ليس العم والخال من المحارم ومعنى { أو نسائهن } هن المختصات بهن الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة ويدخل في ذلك الإماء ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم فلا يحل لهن أن يبدين زينتهنلهن لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات { أو ما ملكت أيمانهن } ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين أو كافرين وبه قال جماعة من أهل العلم وإليه ذهبت عائشة وأم سلمة وابن عباس ومالك وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم هذه الآية { أو ما ملكت أيمانهن } إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته وهو قول عطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين وروي عن ابن مسعود وبه قال أبو حنيفة وابن جريح { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } قرأ الجمهور { غير } بالجر وقرأ أبو بكر وابن عامر بالنصب على الاستثناء وقيل على القطع والمراد بالتابعين هم الذين يتبعون القوم فيصيبون من طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء قاله مجاهد وعكرمة والشعبي ومن الرجال في محل نصب على الحال وأصل الإربة والأرب والمأربة الحاجة والجمع مآرب : أي حوائج ومنه قوله سبحانه : { ولي فيها مآرب أخرى } ومنه قول طرفة :
( إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا ... تقدم يوما ثم ضاعت مآربه )
وقيل المراد بغير أولي الأربة من الرجال الحمقى الذين لا حاجة لهم في النساء وقيل البله وقيل العنين وقيل الخصي وقيل المخنث وقيل الشيخ الكبير ولا وجه لهذا التخصيص بل المراد بالآية ظاهرها وهم من يتبع أهل البيت ولا حاجة له في النساء ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال فيدخل من هؤلاء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } الطفل يطلق على المفرد والمثنى والمجموع أو المراد به هنا الجنس الموضوع موضع الجمع بدلالة وصفه بوصف الجمع وفي مصحف أبي أو الأطفال على الجمع يقال للإنسان طفل ما لم يراهق الحلم ومعنى لم يظهروا : لم يطلعوا من الظهور بمعنى الاطلاع قاله ابن قتيبة وقيل معناه : لم يبلغوا حد الشهوة للجماع قاله الفراء والزجاج يقال ظهرت على كذا : إذا غلبته وقهرته والمعنى : لم يطلعوا على عورات النساء ويكشفوا عنها للجماع أو لم يبلغوا حد الشهوة للجماع قراءة الجمهور { عورات } بسكون الواو تخفيفا وهي لغة جمهور العرب وقرأ ابن عامر في رواية بفتحها وقرأ بذلك ابن أبي إسحاق والأعمش ورويت هذه القراءة عن ابن عباس وهي لغة هذيل بن مدركة ومنه قول الشاعر الذي أنشده الفراء :
( أخو بيضات رائح متأوب ... رفيق لمسح المنكبين سبوح )
واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من الأطفال فقيل لا يلزم لأنه لا تكليف عليه وهو الصحيح وقيل يلزم لأنها قد تشتهي المرأة وهكذا اختلف في عروة الشيخ الكبير الذي قد سقطت شهوته والأولى بقاء الحرمة كما كانت فلا يحل النظر إلى العورة ولا يحل له أن يكشفها
وقد اختلف العلماء في حد العروة قال القرطبي : أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها على خلاف ذلك وقال الأكثر : إن عروة الرجل من سرته إلى ركبته { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال قال الزجاج : وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها ثم أرشد عباده إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون } فيه الأمر بالتوبة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين وقد تقدم الكلام على التوبة في سورة النساء ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة فقال : { لعلكم تفلحون } أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية والأول أولى لما تقرر في السنة أن الإسلام يجب ما قبله
وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : [ مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى المرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه فقال : والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعلمه أمري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } الآية ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } قال : يعني من شهواتهم مما يكره الله وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والبيهقي في سننه عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسل : [ لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الأخرى ] وفي مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي عن جرير البجلي قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ] وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا نتحدث فيها فقال : إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه قالوا : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] وأخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال [ قلت : يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت : يا نبي الله إذا كان القوم بعضهم في بعض قال : إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها قلت : إذا كان أحدنا خاليا قال : فالله أحق أن يستحيا منه من الناس ] وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا أدرك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق وزنا الأذنين السماع وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين الخطو والنفس تتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ] وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه ] والأحاديث في هذا الباب كثيرة وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : بلغنا والله أعلم أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت يزيد كانت في نخل لها لبني حارثة فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن يعني الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء : ما أقبح هذا فأنزل الله ذلك { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } الآية وفيه مع كونه مرسلا مقاتل وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وبعد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { ولا يبدين زينتهن } قال : الزينة السوار والدملج والخلخال والقرط والقلادة { إلا ما ظهر منها } قال : الثياب والجلباب وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال : الزينة زينتان زينة ظاهرة وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج فأما الزينة الظاهرة فالثياب وأما الزينة الباطنة فالكحل السوار والخاتم ولفظ ابن جرير : فالظاهرة منها الثياب وما خفي الخلخالان والقرطان والسواران وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله : { إلا ما ظهر منها } قال : الكحل والخاتم وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال : الكحل والخاتم والقرط والقلادة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه قال : هو خضاب الكف والخاتم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر قال : الزينة الظاهرة الوجه والكفان وأخرجا عن ابن عباس قال : إلا ما ظهر منها وجهها وكفاها والخاتم وأخرجا أيضا عنه قال : رقعة الوجه وباطن الكف وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة أنها سئلت عن الزينة الظاهرة قال : القلب والفتخ وضمت طرف كمها وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال : يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه قال أبو داود وأبو حاتم الرازي : هذا مرسل لأنه من طريق خالد بن دريك عن عائشة ولم يسمع منها وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عائشة : قالت : رحم الله نساء المهاجرات الأولات لما أنزل الله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن أكثف مروطهن فاختمرن به وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عنها بلفظ : أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } والزينة الظاهرة الوجه وكحل العينين وخضاب الكف والخاتم فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها ثم قال { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن } الآية والزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها وسوارها فأما خلخالها ومعضدها ونحرها وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس { أو نسائهن } قال : هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية وهو النحر والقرط والوشاح وما يحرم أن يراه إلا محرم وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة : أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فانه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال : لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس [ أن النبي
صلى الله عليه و سلم أتى فاطمة بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ] وإسناده في سنن أبي داود هكذا : حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت عن أنس فذكره وأخرج عبد الرزاق وأحمد عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه ] وإسناد أحمد هكذا : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن نبهان أن أم سلمة فذكره وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } قال : هذا الذي لا تستحي منه النساء وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال : هذا الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله لا يكترث للنساء ولا يشتهي النساء وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية قال : كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول لا يغار عليه ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : هو المخنث الذي لا يقوم زبه وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت : [ كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مخنث فكانوا يدعونه من غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه و سلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان قال النبي صلى الله عليه و سلم : ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلن عليكم فحجبوه ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا يضربن بأرجلهن } وهو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال أو يكون في رجلها خلاخل فتحركهن عند الرجال فنهى الله عن ذلك لأنه من عمل الشيطان (4/34)
32 - لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات وحفظ الفرج عما لا يحل 32 - فقال { وأنكحوا الأيامى منكم } الأيم التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا والجمع أيامى والأصل أيايم بتشديد الياء ويشمل الرجل والمرأة قال أبو عمرو والكسائي : اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا قال أبو عبيد : يقال رجل أيم وامرأة أيم وأكثر ما يكون في النساء وهو كالمستعار في الرجال ومنه قول أمية بنت أبي الصلت :
( لله در بني علي ... أيم منهم وناكح )
ومنه أيضا قول الآخر :
( لقد إمت حتى لامني كل صاحب ... رجاء سليمى أن تأيم كما إمت )
والخطاب في الآية للأولياء وقيل للأزواج والأول أرجح وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها وقد خالف في ذلك أبو حنيفة
واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح أو مستحب أو واجب ؟ فذهب إلى الأول الشافعي وغيره وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة وإلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك فقالوا : إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه وإلا فلا والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح : [ ومن رغب عن سنتي فليس مني ] ولكن مع القدرة عليه وعلى مؤنه كما سيأتي قريبا والمراد بالأيامى هنا الأحرار والحرائر وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله : { والصالحين من عبادكم وإمائكم } قرأ الجمهور { عبادكم } وقرأ الحسن عبيدكم قال الفراء : ويجوز يالنصب برده على الصالحين والصلاح هو الايمان وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه وإنما يزوجه مالكه وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح وقال مالك : لا يجوز ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } أي لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك قال الزجاج : حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ولا يلزم أن يكون هذا حاصلا لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا وقيل المعنى : إنه يغنيه بغنى النفس وقيل المعنى : إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا والوجه الأول أولى ويدل عليه قوله سبحانه : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك وجملة { والله واسع عليم } مؤكدة لما قبلها ومقررة لها والمراد أنه سبحانهذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده عليم بمصالح خلقه يغني من يشاء ويفقر من يشاء (4/41)
ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشادا لهم إلى ما هو الأولى فقال : 33 - { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا } استعف طلب أن يكون عفيفا : أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد نكاحا أي سبب نكاح وهو المال وقيل النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به واللباس اسم لما يلبس وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية وهي { حتى يغنيهم الله من فضله } أي يرزقهم رزقا يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح وفي هذه الآية ما يدل على تقييد الجملة الأولى : وهي أن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا فإنه لو كان وعدا حتما لا محالة في حصوله لكان الغنى والزواج متلازمين وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة فإنه سيغنى عند تزوجه لا محالة فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى إلا أن يقال : إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادىء النكاح ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحا إذا كان غير واجد لأسبابه التي يتحصل بها وأعظمها المال ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال : { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم } الموصول في محل رفع على الابتداء ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده : أي وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب : والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة يقال : كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة كما يقال قاتل يقاتل قتالا ومقاتلة وقيل الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابا فيكون المعنى الذين يطلبون كتاب المكاتبة ومعنى المكاتبة في الشرع : أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما فإذا أداه فهو حر وظاهر قوله : { فكاتبوهم } أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده وهو { إن علمتم فيهم خيرا } والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه وإن لم يكن له مال وقيل هو المال فقط كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومقاتل وذهب إلى الأول ابن عمر وابن زيد واختاره مالك والشافعي والفراء والزجاج قال الفراء : يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال وقال الزجاج : لما قال { فيهم } كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة وقال النخعي : إن الخير الدين والأمانة وروي مثل هذا عن الحسن وقال عبيدة السلماني : إقامة الصلاة قال الطحاوي : وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال ؟ قال : والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق قال أبو عمر بن عبد البر : من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال : إن علمتم فيهم مالا وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة ولا يقال علمت فيه المال هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في هذه الآية وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه قد ذهب ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب [ أما ] عكرمة ومسروق وعمر بن دينار والضحاك : وأهل الظاهر فقالوا : يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيرا وقال الجمهور من أهل العلم : لا يجب ذلك وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ولم يجبر عليه فكذا الكتابة لأنها معاوضة
ولا يخفاك أن هذه حجة واهية وشبهة داحضة والحق ما قاله الأولون وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس واختاره ابن جرير ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين فقال : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة إما بأن يعطوهم شيئا من المال وبأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار وقيل الثلث وقيل الربع وقيل العشر ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم وسياق الكلام معهم فإنهمم المأمورون بالكتابة وقال الحسن والنخعي وبريدة : إن الخطاب بقوله : وآتوهم لجميع الناس وقال زيد بن أسلم : إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه : { وفي الرقاب } وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } والمراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر والبغاء : الزنا مصدر بغت المرأة تبغي بغاء إذا زنت وهذا مختص بزنا النساء فلا يقال للرجل إذا زنا إنه بغي وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله : { إن أردن تحصنا } لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادتهم للتحصن فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا والمراد بالتحصن هنا : التعفف والتزوج وقيل إن هذا القيد راجع إلى الأيامى قال الزجاج والحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير : أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم وإمائكم إن أردن تحصنا وقيل هذا الشرط ملغى وقيل إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهن التعفف وقيل إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن إلا أن يقال إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد فقد قال الحبر بن العباس : إن المراد بالتحصن التعفف والتزوج وتابعه على ذلك غيره ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله : { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } وهو ما تكسبه الأمة بفرجها وهذا التعليل أيضا خارج مخرج الغالب والمعنى : أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراهالإماء على البغاء في الغالب لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلا لا يصدر مثله عن العقلاء فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها إذا لم يكن مبتغيا بإكراهها عرض الحياة الدنيا وقيل إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهن وهذا يلاقي المعنى الأول ولا يخالفه { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } هذا مقرر لما قبله ومؤكد له والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير : فإن الله غفور رحيم لهن قيل وفي هذا التفسير بعد لأن المكرهة على الزنا غير أثمة واجيب بأنها وإن كانت مكرهة فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية أو يكون الإكراه قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار وقيل إن المعنى : فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم : إما مطلقا أو بشرط التوبة ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام شرع في وصف القرآن بصفات ثلاث : الأولى أنه آيات مبينات : أي واضحات في أنفسهن أو موضحات فتدخل الآيات المذكورة في هذه الصورة دخولا أوليا والصفة الثانية كونه مثلا من الذين خلوا من قبل هؤلاء : أي مثلا كائنا من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة فإن العجب من قصة عائشة رضي الله عنها هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما أتهما به ثم تبين بطلانه وبراءتهما سلام الله عليهما (4/42)
34 - والصفة الثالثة كونه { موعظة } ينتفع بها المتقون خاصة فيقتدون بما فيه من الأوامر وينزجرون عما فيه من النواهي وأما غيز المتقين فإن الله قد ختم على قلوبهم وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ والاعتبار بقصص الذين خلوا
وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وأنكحوا الأيامى } الآية قال : أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم ووعدهم في ذلك الغنى فقال : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق قال : أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وأخرج عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة وقد وعد الله فيها ما وعد فقال : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عنه نحوه من طريق أخرى وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه وأخرج البزار والدارقطني في العلل والحاكم وابن مردويه والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنكحوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال ] وأخرجه عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله ] وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس في قوله : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا } قال : ليتزوج من لا يجد فإن الله سيغنيه وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال : كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة فأبى فنزلت { والذين يبتغون الكتاب } الآية وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال : سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال : كاتبه وتلا { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } فكاتبته قال ابن كثير إن إسناده صحيح وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } قال إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس ] وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس { إن علمتم فيهم خيرا } قال : المال وأخرج ابن مردويه عن علي مثله وأخرج البيهقي عن ابن عباس في الآية قال : أمانة ووفاء وأخرج عنه أيضا قال : إن علمت مكاتبك يقضيك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه في الآية قال : إن علمتم لهم حيلة ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن نافع قال : كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ويقول : يطعمني من أوساخ الناس وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله : { وآتوهم من مال الله } الآية : أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب وقال علي بن أبي طالب : أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه وهذا تعليم من الله ليس بفريضة ولكن فيه أجر وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة عن بريدة في الآية قال : حث الناس عليه أن يعطوه وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ومسلم والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طريق أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال : كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له : اذهبي فابغينا شيئا وكانت كارهة فأنزل الله { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } هكذا كان يقرأها وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي : يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يريدهما على الزنا فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { ولا تكرهوا فتياتكم } الآية وأخرج البزار وابن مردويه عن أنس نحو حديث جابر الأول وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب في الآية قال : كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم فنهوا عن ذلك في الإسلام وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنزلت الآية وقد ورد النهي منه صلى الله عليه و سلم عن مهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن (4/45)
لما بين سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال فقال : 35 - { الله نور السماوات والأرض } وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها والاسم الشريف مبتدأ ونور السماوات والأرض خبره إما على حذف مضاف : أي ذو نور السماوات والأرض أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله وظهور عدله وبسطه أحكامه كما يقال فلان نور البلد وقمر الزمن وشمس العصر ومنه قول النابغة :
( فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا ظهرت لم يبق فيهن كوكب )
وقول الآخر :
( هلا قصدت من البلاد لمفضل ... قمر القبائل خالد بن يزيد )
ومن ذلك قول الشاعر :
( إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها )
وقول الآخر :
( نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراومن فلق الصباح عمودا )
ومعنى النور في اللغة : الضياء وهو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقة ما تراه فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه على طريقة المدح ولكونه أوجد الأشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها ويدل على هذا المعنى قراءة زيد بن علي وابي جعفر وعبد العزيز المكي { الله نور السماوات والأرض } على صيغة الفعل الماضي وفاعله ضمير يرجع إلى منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره عز و جل لمن فيهما كما يقال الملك نور البلد هكذا قال الحسن ومجاهد والأزهري والضحاك والقرظي وابن عرفة وابن جرير وغيرهم ومثله قول الشاعر :
( وانت لنا نور وغيث وعصمة ... ونبت لمن يرجو نداك وريف )
وقال هشام الجواليقي وطائفة من المجسمة : إنه سبحانه نور لا كالأنوار وجسم لا كالأجسام وقوله : { مثل نوره } مبتدأ وخبره { كمشكاة } أي صفة نوره الفائض عنه عنه الظاهر على الأشياء كمشكاة والمشكاة الكوة في الحائط غير النافذة كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين وحكاه القرطبي عن جمهورهم ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح أو غيره وأصل المشكاة الوعاء الذي يجعل فيه الشيء وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وقال مجاهد هي القنديل والأول أولى ومنه قول الشاعر :
( كأن عينيه مشكاتان في جحر )
ثم قال : { فيها مصباح } وهو السراج { المصباح في زجاجة } قال الزجاج : النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج ووجه ذلك : أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور ثم وصف الزجاجة فقال : { الزجاجة كأنها كوكب دري } أي منسوب إلى الدر لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدر وقال الضحاك : الكوكب الدري الزهرة قرأ أبو عمر { دري } بكسر الدال قال أبو عمرو : لم أسمع أعرابيا يقول : إلا كأنه كوكب دري بكسر الدال أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت وقرأ حمزة بضم الدال مهموزا وأنكره الفراء والزجاج والمبرد قال أبو عبيد : إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز لأنه ليس في كلام العرب والدراري هي المشهورة من الكواكب كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت ثم وصف المصباح بقوله : { يوقد من شجرة مباركة } ومن هذه هي الإبتدائية : أي ابتداء إيقاد المصباح منها وقيل هو على تقدير مضاف : أي يوقد من زيت شجرة مباركة والمباركة الكثيرة المنافع وقيل المنماة والزيتون من أعظم الثمار نماء ومنه قول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس :
( ليت شعري مسافر بن أبي عمرو ... وليت يقولها المحزون )
( بورك الميت الغريب كما ... بورك نبع الرمان والزيتون )
قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها وهي إدام ودهان ودباغ ووقود وليس فيها شيء إلا وفيه منفعة ثم وصفها بأنها { لا شرقية ولا غربية }
وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف فقال عكرمة وقتادة وغيرهم : إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت ولا تصيبها إذا غربت والغربية هي التي تصيبها إذا غربت ولا تصيبها إذا شرقت وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث لا يسترها عن الشمس شيء لا في حال شروقها ولا في حال غروبها وما كانت من الزيتون هكذا فثمرها أجود وقيل إن المعنى : إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب حكى هذا ابن جرير عن ابن عباس قال ابن عطية : وهذا لا يصح عن ابن عباس لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها وذلك مشاهد في الوجود ورجح القول الأول الفراء والزجاج وقال الحسن : ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية قال الثعلبي : قد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا لأن قوله زيتونة بدل من قوله شجرة قال ابن زيد : إنها من شجر الشام فإن الشام لا شرقي ولا غربي والشام هي الأرض المباركة وقد قرىء { توقد } بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح وبها قرأ الكوفيون وقرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل
الشام وحفص { يوقد } بالتحتية مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال وقرأ الحسن والسلمي وأبو عمر بن العلاء وأبو جعفر { توقد } بالفوقية مفتوحة وفتح الواو وتشديد القاف وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد والضمير في هاتين القراءتين راجع إلى المصباح قال النحاس : وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعا للمصباح وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء وإنما الزجاجة وعاء له وقرأ نصر بن عاصم كقراءة أبي عمرو ومن معه إلا أنه ضم الدال على أنه فعل مضارع وأصله تتوقد ثم وصف الزيتونة بوصف آخر فقال : { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } قرأ الجمهور { تمسسه } بالفوقية لأن النار مؤنثة قال أبو عبيد : إنه لا يعرف إلا هذه القراءة وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن ابي مالك عن ابن عباس أنه قرأ { يمسسه } بالتحتية لكون تأنيث النار غير حقيقي والمعنى : أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلا وارتفاع { نور } على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هي نور و { على نور } متعلق بمحذوف هو صفة لنور مؤكدة له والمعنى : هو نور كائن على نور قال مجاهد : والمراد النار على الزيت وقال الكلبي : المصباح نور والزجاجة نور وقال السدي : نور الإيمان ونور القرأن { يهدي الله لنوره من يشاء } من عباده : أي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدلالة { ويضرب الله الأمثال للناس } أي يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها تقريبا لها إلى الأفهام وتسهيلا لإدراكها لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحا وبيانا { والله بكل شيء عليم } لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولا كان أو محسوسا ظاهرا أو باطنا (4/47)
36 - واختلف في قوله : { في بيوت أذن الله أن ترفع } بما هو متعلق فقيل متعلق بما قبله : أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد كأنه قيل مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت وقيل متعلق بمصباح وقال ابن الأنباري : سمعت أبا العباس يقول : هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب كأنه قيل : وهي في بيوت وقيل متعلق يتوقد أي توقد في بيون وقد قيل متعلق بما بعده وهو { يسبح } : أي يسبح له رجال في بيوت وعلى هذا يكون قوله : { فيها } تكريرا كقولك زيد في الدار جالس فيها وقيل إنه منفصل عما قبله كأنه قال الله : في بيوت أذن الله أن ترفع قال الحكيم الترمذي : وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المساجد فإنما يجالس ربه وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة أو مصباح أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيت ؟ ولا تكون المشكاة الواحدة ولا المصباح الواحد إلا في بيت واحد وأجيب بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوله بالتوحيد ويختم بالجمع كقوله سبحانه { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } ونحوه وقيل معنى في بيوت : في كل واحد من البيوت فكأنه قال : في كل بيت أو في كل واحد من البيت واختلف الناس في البيوت على أقوال : الأول أنها المساجد وهو قول مجاهد والحسن وغيرها الثاني لأن المراد بها بيوت بيت المقدس روي ذلك عن الحسن الثالث أنها بيوت النبي صلى الله عليه و سلم روي عن مجاهد : الرابع هي البيوت كلها قاله عكرمة الخامس أنها المساجد الأربعة : الكعبة ومسجد قباء ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس قاله ابن زيد والقول الأول أظهر لقوله : { يسبح له فيها بالغدو والآصال } والباء من بيت تضم وتكسر كل ذلك ثابت في اللغة ومعنى أذن الله أن ترفع : أمر وقضى ومعنى ترفع وتبنى قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما ومنه قوله سبحانه { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } وقال الحسن البصري وغيره : معنى ترفع تعظم ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار ورجحه الزجاج وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين ومعنى { يذكر فيها اسمه } كل ذكر لله عز و جل وقيل هو التوحيد وقيل المراد تلاوة القرآن والأول أولى { يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال } قرأ ابن عامر وأبو بكر { يسبح } بفتح الباء الموحدة مبنيا للمفعول وقرأ الباقون بكسرها مبنيا للفاعل إلا ابن وثاب وأبا حيوة فإنهما قرآ بالتاء الفوقية وكسر الموحدة فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين : إما بفعل مقدر وكأنه جواب سؤال مقدر كأنه من يسبحه ؟ فقيل يسبحه رجال الثاني أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وعلى القراءة الثانية يكون { رجال } فاعل { يسبح } وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضا { رجال } وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال
واختلف في هذا التسبيح ما هو ؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة قالوا : الغدو صلاة الصبح والأصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الآصال يشملها ومعنى بالغدو والآصال : بالغداة والعشي وقيل صلاة الصبح والعصر وقيل المراد صلاة الضحى وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده وهذا أرجح مما قبله لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل على خلاف ما ذهب إليه الأولون (4/50)
وهو ما ذكرناه 37 - { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } هذه الجملة صفة لرجال : أي لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الذكر وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على بدنه وخص قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعذها وبمثل قول الفراء قال الواقدي : فقال التجار هم الجلاب المسافرون والباعة هم المقيمون ومعنى عن ذكر الله : هو ما تقدم في أوله { ويذكر فيها اسمه } وقيل المراد الأذان وقيل عن ذكره بأسمائه الحسنى : أي يوحدونه ويمجدونه وقيل المراد عن الصلاة ويرده ذكر الصلاة بعد الذكر هنا والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله :
( ثلاثة تحذف تاآتها ... مضافة عند جمع النحاة )
( وهي إذا شئت أبو عذرها ... وليت شعري وإقام الصلاة )
وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر :
( إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا )
أي عدة الأمر وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء لأنه يقال أقمت الصلاة إقامة وكان الأصل إقواما ولكن قلبت الواو ألفا فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي أقمت الصلاة إقاما فأدخلت الهاء عوضا عن المحذوف وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة وهذا إجماع من النحويين انتهى وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة أن يحمل إقام الصلاة على تأديتها في أوقاتها فرارا من التكرار ولا ملجىء إلى ذلك بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدمنا والمراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة وقيل المراد بالزكاة طاعة الله والإخلاص إذ ليس لكل مؤمن مال { يخافون يوما } أي يوم القيامة وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له ثم وصف هذا اليوم بقوله : { تتقلب فيه القلوب والأبصار } أي تضطرب وتتحول قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج والمراد بتقلب الأبصار هو أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك وأما تقلب الأبصار فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون وإلى أي ناحية يصيرون وقيل المراد تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين ومثله قوله : { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } فما كان يراه في الدنيا غيا يراه في الآخرة رشدا وقيل المراد التقلب على جمر جهنم وقيل غير ذلك (4/52)
38 - { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } متعلق بمحذوف : أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } : أي أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف وقيل المراد بما في هذه الآية ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه والأول أولى لقوله : { ويزيدهم من فضله } فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به { والله يرزق من يشاء بغير حساب } أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه أو أن عطاءه سبحانه لا نهاية له والجملة مقررة لما سبقها من الوعد بالزيادة
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { الله نور السموات والأرض } قال : يدبر الأمر فيهما نجومهما وقمرهما وأخرج الفريابي عنه في قوله : { الله نور السموات والأرض مثل نوره } الذي أعطاه المؤمن { كمشكاة } وقال في تفسير : { زيتونة لا شرقية ولا غربية } إنها التي في سفح جبل لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور } فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشعبي قال : في قراءة أبي بن كعب مثل نور المؤمن كمشكاة وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال : يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة وهي الكوة وأخرج ابن أبي حاتم عنه { مثل نوره } قال : هي خطأ من الكاتب هو أعظم من أن يكون مثل نوره المشكاة قال : مثل نور المؤمن كمشكاة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا { الله نور السموات والأرض } قال : هادي أهل السموات والأرض { مثل نوره } مثل هداه في قلب المؤمن { كمشكاة } يقول موضع الفتيلة كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور وفي إسناده علي بن أبي طلحة وفيه مقال وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي بن كعب { الله نور السموات والأرض مثل نوره } قال : هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال : { نور السموات والأرض مثل نوره } فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال مثل نور من آمن به فكان أبي بن كعب يقرأها مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره { كمشكاة } قال : فصدر المؤمن المشكاة { فيها مصباح المصباح } النور وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره { في زجاجة } و { الزجاجة } قلبه { كأنها كوكب دري } يقول كوكب مضيء { يوقد من شجرة مباركة } والشجرة المباركة : أصل المبارك الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له { زيتونة لا شرقية ولا غربية } قال : فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن وأخرج ابن أبي جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال : { الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة } المشكاة كوة البيت فيها مصباح وهو السراج يكون في الزجاجة وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى طاعته نورا ثم سماها أنواعا شتى { لا شرقية ولا غربية } قال : وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أجود الزيت { يكاد زيتها يضيء } بغير نار { نور على نور } يعني بذلك إيمان العبد وعلمه { يهدي الله لنوره من يشاء } وهو مثل المؤمن وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله : { كمشكاة فيها مصباح } قال : المشكاة في جوف محمد صلى الله عليه و سلم والزجاجة قلبه والمصباح النور الذي في قلبه { يوقد من شجرة مباركة } الشجرة إبراهيم { زيتونة لا شرقية ولا غربية } لا يهودية ولا نصرانية ثم قرأ { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن شمر بن عطية قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال حدثني عن قوله الله : { الله نور السموات والأرض مثل نوره } قال : مثل نور محمد صلى الله عليه و سلم كمشكاة قال : المشكاة الكوة ضربها الله مثلا لقمة فيها مصباح والمصباح قلبه { المصباح في زجاجة } والزجاجة صدره { كأنها كوكب دري } شبه صدر محمد صلى الله عليه و سلم بالكوكب الدري ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال : { يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء } قال : يكاد محمد صلى الله عليه و سلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار
وأقول : إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدم عن أبي بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يجوز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية ولكن هؤلاء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة ولهذا قال ابن عباس : هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدمنا عنه ولا وجه لهذا الاستبعاد فإنا قد قدمنا في أول البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه وأبلغ أسلوب وعلى ما تقتضيه لغة العرب ويفيده كلام الفصحاء فلا وجه للعدول عن الظاهر لا من كتاب ولا من سنة ولا من لغة وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدمنا فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيرا فلا تقوم به الحجة ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي نعم إن صحت قراءة أبي بن كعب كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر وتكون كالزيادة المبينة للمراد وإن لم تصح فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة وغيرهم ممن قبلهم وممن بعدهم هو المتعين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { في بيوت أذن الله أن ترفع } قال : هي المساجد تكرم وينهى عن اللغو فيها ويذكر فيها اسم الله يتلى فيها كتابه { يسبح له فيها بالغدو والآصال } صلاة الغداة وصلاة العصر وهما أول ما فرض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما ويذكر بهما عباده وقد ورد في تعظيم المساجد وتنزيهها عن القذر واللغو وتنظيفها وتطبيقها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إلا غواص في قوله : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال } وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } قال : هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وأخرج ابن مردويه والديلمي عن ابن سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } قال : هم الذي يبتغون من فضل الله وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال : ضرب الله هذا المثل قوله : { كمشكاة } لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وكانوا أتجر الناس وأبيعهم ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا عن ذكر الله قال : عن شهود الصلاة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ثم دخلوا المسجد فقال ابن عمر فيهم نزلت : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه رأى ناسا من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم فقال : هؤلاء الذي قال الله فيهم : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } وأخرج هناد بن السري في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب ومحمد بن نصر في الصلاة عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي ينفذهم البصر فيقوم مناد فينادي : أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء ؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادي : أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى : ليقم الذين كانوا لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون ] وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر مرفوعا نحوه (4/53)
لما ذكر سبحانه حال المؤمنين وما يؤول إليه أمرهم ذكر مثلا للكافرين فقال : 39 - { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } المراد بالأعمال هنا : هي الأعمال التي من أعمال الخير كالصدقة والصلة وفك العاني وعمارة البيت وسقاية الحاج والسراب : ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار على صورة الماء في ظن من يراه وسمي سرابا لأنه يسرب : أي يجري كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين السماء والأرض قال امرؤ القيس :
( ألم أنض المطي بكل خرق ... طويل الطول لماع السراب )
وقال آخر :
( فلما كففنا الحرب كانت عهودهم ... كلمع سراب بالفلا متألق )
والقيعة حمع قاع : وهو الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء مثل جيرة وجال قاله الهروي وقال أبو عبيد : قيعة وقاع واحد قال الجوهري : القاع المستوي من الأرض والجمع : أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسر ما قبلها والقيعة مثل القاع قال : وبعضهم يقول هو جمع { يحسبه الظمآن ماء } هذه صفة ثانية لسراب والظمآن العطشان وتخصيص الحسبان بالظمآن مع كون الريان يراه كذلك لتحقيق التشبيه المبني على الطمع { حتى إذا جاءه لم يجده شيئا } أي إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئا مما قدره وحسبه ولا من غيره والمعنى : أن الكفار يعولون على أعمالهم التي يظنونها من الخير ويطمعون في ثوابها فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئا لأن الكفر أحبطها ومحا أثرها والمراد بقوله : { حتى إذا جاءه } مع أنه ليس بشيء أنه جاء الموضع الذي كان يحبسه فيه ثم ذكر سبحانه ما يدل على زيادة حسرة الكفرة وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرد الخيبة كصاحب السراب فقال : { ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } أي وجد الله بالمرصاد فوفاه حسابه : أي جزاء عمله كما قال امرؤ القيس :
( فولى مدبرا يهوي حثيثا ... وأيقن أنه لاقى الحسابا )
وقيل وجد وعد الله بالجزاء على عمله وقيل وجد أمر الله عند حشره وقيل وجد حكمه وقضاءه عند المجيء وقيل عند العمل والمعنى متقارب وقرأ مسلمة بن محارب بقيعاه بهاء مدورة كما يقال رجل عزهاه وروي عنه أنه قرأ بقيعات بتاء مبسوطة قيل يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأول وجمع قيعة على الثاني وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة أنهم قرأوا الظمآن بغير همز والمشهور عنهم الهمز (4/57)
40 - { أو كظلمات } معطوف على كسراب ضرب الله مثلا آخر لأعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات فهي أيضا تشبه الظلمات قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد فمثلها كمثل السراب وإن مثلت بما يرى فهي كهذه الظلمات التي وصف قال أيضا : إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل بهذه الظلمات فأو للإباحة حسبما تقدم من القول في { أو كصيب } قال الجرجاني الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأنه أيضا من أعمالهم قال القشيري : فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار وعند الجرجاني لكفر الكفار { في بحر لجي } اللجة معظم الماء والجمع لجج وهو الذي لا يدرك لعمقه ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى فقال : { يغشاه موج } أي يعلو هذا البحر موج فيستره ويغطيه بالكلية ثم وصف هذا الموج بقوله : { من فوقه سحاب } أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب فيجتمع حينئذ عليهم خوف البحر وأمواجه والسحاب المرتفعة فوقه وقيل إن المعنى : يغشاه موج من بعده موج فيكون الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدة لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر ثم إذا أمطرت تلك السحاب وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم وترادفت الغموم وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية ولهذا قال سبحانه : { ظلمات بعضها فوق بعض } أي هي ظلمات أو هذه ظلمات متكاتفة مترادفة ففي هذه الجملة بيان لشدة الأمر وتعاظمه وقرأ ابن محيصن والبزي { سحاب ظلمات } بإضافة سحاب إلى ظلمات ووجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها لهذه الملابسة وقرأ الباقون بالقطع والتنوين
ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات : أعمال الكافر وبالبحر اللجي : قلبه : وبالموج فوق الموج : ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة والسحاب الرين والختم والطبع على قلبه وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكان بعيد ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله : { إذا أخرج يده لم يكد يراها } وفاعل أخرج ضمير يعود على مقدر دل عليه المقام : أي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتلي بها قال الزجاج وأبو عبيدة : المعنى لم يرها ولم يكد وقال الفراء : إن كاد زائدة والمعنى : إذا أخرج يده لم يرها كما تقول ما كدت أعرفه وقال المبرد : يعني لم يرها إلا من بعد الجهد قال النحاس أصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها فإذن لم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة وجملة { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } مقررة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة والمعنى : ومن لم يجعل الله له هداية فما له من هداية قال الزجاج : ذلك في الدنيا والمعنى : من لم يهده الله لم يهتد وقيل المعنى من لم يجعل له نورا يمشي به يوم القيامة فما له من نور يهتدي به إلى الجنة (4/58)
41 - { ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض } قد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان والخطاب لكل من له أهلية النظر أو للرسول صلى الله عليه و سلم وقد علمه من جهة الاستدلال ومعنى { ألم تر } ألم نعلم والهمزة للتقرير : أي قد علمت علما يقينيا شبيها بالمشاهدة والتسبيح التنزيه في ذاته وأفعاله وصفاته عن كل ما يليق به ومعنى { من في السماوات والأرض } من هو مستقر فيهما من العقلاء وغيرهم وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها وقيل إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء والتنزيه من غيرهم قد قيل إن هذه الآية تشمل الحيوانات والجمادات وأن أثار الصنعة الإلهية في الجمادات ناطق ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلال والكمال وتنزهه عن صفات النقص وفي ذلك تقريع للكفار وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها كعبادته عز و جل وبالجملة فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم المجاز قرأ الجمهور { والطير صافات } بالرفع للطير والنصب لصافات على أن الطير معطوفة على من وصافات منتصب على الحال وقرأ الأعرج { والطير } بالنصب على المفعول معه وصافات حال أيضا قال الزجاج وهي أجود من الرفع وقرأ الحسن وخارجه عن نافع { والطير صافات } برفعهما على الابتداء والخبر ومفعول صافات محذوف : أي أجنحتها وخص الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض لعدم استمرار استقرارها في الأرض وكثرة لبثها وهو ليس من السماء ولا من الأرض ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها تارة على الطيران وتارة على المشي بخلاف غيرها من الحيوانات وذكر حالة من حالات الطير وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كل شيء ثم زاد في البيان فقال : { كل قد علم صلاته وتسبيحه } أي كل واحد مما ذكر والضمير في علم يرجع إلى كل والمعنى : أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح وقيل المعنى : أن كل مصلي ومسبح قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه قيل والصلاة هنا بمعنى التسبيح وكرر للتأكيد والصلاة قد تسمى تسبيحا وقيل المراد بالصلاة هنا الدعاء : أي كل واحد قد علم دعاءه وتسبيحه وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه وعظيم شأنه كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له { والله عليم بما يفعلون } هذه الجملة مقررة لما قبلها : أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم ويجوز أن يكون الضمير في علم لله سبحانه : أي كل واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته وتسبيحه إياه والأول أرجح لاتفاق القراء على رفع كل ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول (4/59)
ثم بين سبحانه أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال 42 - { ولله ملك السماوات والأرض } أي له لا لغيره { وإليه المصير } لا إلى غيره والمصير : الرجوع بعد الموت وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع ثم ذكر سبحانه دليلا آخر من الآثار العلوية (4/60)
فقال : 43 - { ألم تر أن الله يزجي سحابا } الإزجاء : السوق قليلا قليلا ومنه قول النابغة :
( إني أتيتك من أهلي ومن وطني ... أزجي حشاشة نفس ما بها رمق )
وقوله أيضا :
( أسرت عليه من الجوزاء سارية ... يزجي السماك عليه جامد البرد )
والمعنى : أنه سبحانه يسوق السحاب سوقا رقيقا إلى حيث يشاء { ثم يؤلف بينه } أي بين أجزائه فيضم بعضه إلى بعض ويجمعه بعد تفرقه ليقوى ويتصل ويكثف والأصل في التأليف الهمز وقرأ ورش وقالون عن نافع { يولج } بالواو تخفيفا والسحاب واحد في اللفظ ولكن معناه جمع ولهذا دخلت بين عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له قال الفراء : إن الضمير في بينه راجع إلى جملة السحاب كما تقول الشجر قد جلست بينه لأنه جمع وأفرد الضمير باعتبار اللفظ { ثم يجعله ركاما } أي متراكما يركب بعضه بعضا والركم : جمع الشيء يقال ركم الشيء يركمه ركما : أي جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع والركمة : الطين المجموع والركام : الرمل المتراكب { فترى الودق يخرج من خلاله } الودق : المطر عند جمهور المفسرين ومنه قول الشاعر :
( فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها )
وقال امرؤ القيس :
( فدفعهما ودق وسح وديمة ... وسكب وتوكاف وتهملان )
يقال ودقت السحاب فهي وادقة ودق المطر يدق : أي قطر يقطر وقيل إن الودق البرق ومنه قول الشاعر :
( أثرن عجاجة وخرجن منها ... خروج الودق من خلل السحاب )
والأول أولى ومعنى { من خلاله } من فتوقه التي هي مخارج القطر وجملة { يخرج من خلاله } في محل نصب على الحال لأن الرؤية هنا هي البصرية وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية من خلله على الإفراد وقد وقع الخلاف في خلال هل هو مفرد كحجاب ؟ أو جمع كجبال ؟ { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } المراد بقوله من سماء : من عال لأن السماء قد تطلق على جهة العلو ومعنى من برد للتبعيض وهو مفعول ينزل وقيل إن المفعول محذوف والتقدير : ينزل من جبال فيها من برد بردا وقيل إن من في من برد زائدة والتقدير : ينزل من السماء من جبال فيها برد وقيل إن في الكلام مضافا محذوفا : أي ينزل من السماء قدر الجبال أو مثل جبال من برد إلى الأرض قال الأخفش : إن من في من جبال وفي من برد زائدة في الموضعين والجبال والبرد في موضع نصب : أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال والحاصل أن من في من السماء لابتداء الغاية بلا خلاف و من في من جبال فيها ثلاثة أوجه : الأول لابتداء الغاية فتكون هي ومجرورها بدلا من الأولى بإعادة الخافض بدل اشتمال الثاني أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال كأنه قال : وينزل بعض جبال الثالث أنها زائدة : أي ينزل من السماء جبالا وأما من في من برد ففيها أربعة أوجه : الثلاثة المتقدمة والرابع أنها لبيان الجنس فيكون التقدير على هذا الوجه : وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد قال الزجاج : معنى الآية : وينزل من السماء من جبال بردل فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد : أي خاتم حديد في يدي لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد وخاتم حديد كان المعنى واحدا انتهى وعلى هذا يكون من برد في موضع جر صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ويكون مفعول ينزل من جبال ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزل بردا وذكر أبو البقاء أن التقدير : شيئا من جبال فحذف الموصوف واكتفى بالصفة { فيصيب به من يشاء } أي يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده { ويصرفه عن من يشاء } منهم أو يصيب به مال من يشاء ويصرفه عن مال من يشاء وقد تقدم الكلام عن مثل هذا في البقرة { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } السنا الضوء : أي يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدة بريقه وزيادة لمعانه وهو كقوله : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } قال الشماخ :
( وما كادت إذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إلا البصير )
وقال امرؤ القيس :
( يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أهان السليط في الذبال المفتل )
فالسنا بالقصر ضوء البرق وبالمد الرفعة كذا قال المبرد وغيره وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب سناء برقه بالمد على المبالغة في شدة الضوء والصفاء فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف وقرأ طلحة ويحيى أيضا بضم الباء من برقه وفتح الراء قال أحمد بن يحيى ثعلب : وهي على هذه القراءة جمع برق وقال النحاس : البرقة المقدار من البرق والبرقة الواحدة وقرأ الجحدري وابن القعقاع { يذهب } بضم الياء وكسر الهاء من الإذهاب وقرأ الباقون { سنا } بالقصر و { برقه } بفتح الباء وسكون الراء و { يذهب } بفتح الياء والهاء من الذهاب وخطأ قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم ومعنى ذهاب البرق بالأبصار : خطفه إياها من شدة الإضاءة وزيادة البريق والباء في الأبصار على قراءة الجمهور للإلصاق وعلى قراءة غيرهم زائدة (4/60)
44 - { يقلب الله الليل والنهار } أي يعاقب بينهما وقيل يزيد في أحدهما وينقص الآخر وقيل يقبلهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشر ونفع وضر وقيل بالحر والبرد وقيل المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى وتغيير الليل بظلمة السحاب تارة وبضوء القمر أخرى والإشارة بقوله : { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } إلى ما تقدم ومعنى العبرة : الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار والمراد بـ { أولي الأبصار } كل من له بصر يبصر به ثم ذكر سبحانه دليلا ثالثا من عجائب خلق الحيوان وبديع صنعته (4/62)
فقال : 45 - { والله خلق كل دابة من ماء } قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي { الله خالق كل شيء } وقرأ الباقون { خلق } والمعنيان صحيحان والدابة : كل ما دب على الأرض من الحيوان يقال دب يدب فهو داب والهاء للمبالغة ومعنى { من ماء } من نطفة وهي المني كذا قال الجمهور وقال جماعة : إن المراد الماء المعروف لأن آدم خلق من الماء والطين وقيل في الآية تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الأول لأن في الحيوانات ما يتولد لا عن نطفة ويخرج من هذا العموم الملائكة فإنهم خلقوا من نور والجان فإنهم خلقوا من نار ثم فصل سبحانه أحوال كل دابة فقال : { فمنهم من يمشي على بطنه } وهي الحيات والحوت والدود ونحو ذلك { ومنهم من يمشي على رجلين } الإنسان والطير { ومنهم من يمشي على أربع } سائر الحيوانات ولم يتعرض لما يمشي على أكثر من أربع لقلته وقيل لأن المشي على أربع فقط وإن كانت القوائم كثيرة وقيل لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع ؟ وقيل ليس في القرآن ما يدل على عدم المشي على أكثر من أربع لأنه لم ينف ذلك ولا جاء بما يقتضي الحصر وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر فعم بهذه الزيادة جميع ما يمشي على أكثر من أربع كالسرطان والعناكب وكثير من خشاش الأرض { يخلق الله ما يشاء } مما ذكره ها هنا ومما لم يذكره كالجمادات مركبها وبسيطها ناميها وغير ناميها { إن الله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء بل الكل من مخلوقاته داخل تحت قدرته سبحانه (4/63)
46 - { لقد أنزلنا آيات مبينات } أي القرآن فإنه قد اشتمل على بيان كل شيء وما فرطنا في الكتاب من شيء وقد تقدم بيان مثل هذا في غير موضع { والله يهدي من يشاء } بتوفيقه للنظر الصحيح وإرشاده إلى التأمل الصادق { إلى صراط مستقيم } إلى طريق مستوي لا عوج فيه فيتوصل بذلك إلى الخير التام وهو نعيم الجنة
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والذين كفروا أعمالهم كسراب } قال : هو مثل ضربه الله كرجل عطش فاشتد عطشه فرأى سرابا فحسبه ماء فطلبه فظن أنه قدر عليه حتى أتى فلما أتاه لما يجده شيئا وقبض عند ذلك يقول : الكافر كذلك السراب إذا أتاه الموت لم يجد عمله يغني عنه شيئا ولا ينفعه إلا كما نفع السراب العطشان { أو كظلمات في بحر لجي } قال : يعني بالظلمات الأعمال وبالبحر اللجي قلب الإنسان { يغشاه موج } يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر وأخرج ابن جرير عنه بقيعة : بأرض مستوية وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا عطاشا فيقولون أين الماء ؟ فيتمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون الله عنده فيوفيهم حسابه والله سريع الحساب ] وفي إسناده السدي عن أبيه وفيه مقال معروف وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة في قوله { كل قد علم صلاته وتسبيحه } قال : الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { والطير صافات } قال : بسط أجنحتهن وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يكاد سنا برقه } يقول : ضوء برقه وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال : كل شيء يمشي على أربع إلا الإنسان وأقول هذه الطيور على اختلاف أنواعها تمشي على رجلين وهكذا غيرها كالنعامة فإنها تمشي على رجلين وليست من الطير فهذه الكلية المروية عنه رضي الله عنه لا تصح (4/63)
شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم فقال : 47 - { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا } وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فإنهم كما حكى الله عنهم ها هنا ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان لا عن اعتقاد صحيح ولهذا قال : { ثم يتولى فريق منهم } أي من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة { من بعد ذلك } أي من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان والطاعة ثم حكى عليهم سبحانه وتعالى بعدم الإيمان فقال : { وما أولئك بالمؤمنين } أي ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة فيشمل الحكم بنفي الإيمان جميع القائلين ويندرج تحتهم من تولى اندراجا أوليا وقيل إن الإشارة بقوله { أولئك } راجع إلى من تولى والأول أولى والكلام مشتمل على حكمين : الحكم الأول على بعضهم بالتولي والحكم الثاني على جميعهم بعدم الإيمان وقيل أراد بمن تولى : من تولى عن قبول حكمه صلى الله عليه و سلم وقيل أراد بذلك رؤساء المنافقين وقيل أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها ورودها على سبب خاص كما سيأتي بيانه (4/65)
ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريق منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله وإلى رسوله في خصوماتهم فقال : 48 - { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } أي ليحكم الرسول بينهم فالضمير راجع إليه لأنه المباشر للحكم وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه ومثل ذلك قوله تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } و { إذا } في قوله { إذا فريق منهم معرضون } هي الفجائية : أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إلى الله والرسول ثم ذكر سبحانه أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحق عليهم (4/65)
وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحكم إلا بالحق فقال : 49 - { وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } قال الزجاج : الإذعان الإسراع مع الطاعة يقال أذعن لي بحقي : أي طاوعني لما كنت ألتمس منه وصار يسرع إليه وبه قال مجاهد وقال الأخفش وابن الأعرابي : مذعنين مقرين وقال النقاش : مذعنين : خاضعين (4/65)
ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم فقال : 50 - { أفي قلوبهم مرض } وهذه الهمزة للتوبيخ والتقريع لهم والمرض النفاق : أي أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم { أم ارتابوا } وشكوا في أمر نبوته صلى الله عليه و سلم وعدله في الحكم { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } والحيف الميل في الحكم يقال حاف في قضيته : أي جار فيما حكم به ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدرها بالاستفهام الإنكاري فقال : { بل أولئك هم الظالمون } أي ليس ذلك لشيء مما ذكر بل لظلمهم وعنادهم فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه لأن العلماء ورثة الأنبياء والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب والسنة العادلين في القضاء هو حكم بحكم الله وحكم رسوله فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله وإلى رسوله : أي إلى حكمهما قال ابن خويز منداد : واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق قال القرطبي : في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال : { أفي قلوبهم مرض } الآية انتهى فإن كان القاضي مقصرا لا يعلم بأحكام الكتاب والسنة ولا يعقل حجج الله ومعاني كلامه وكلام رسوله بل كان جاهلا جهلا بسيطا وهو من لا علم له بشيء من ذلك أو جهلا مركبا وهو من لا علم عنده بما ذكرنا ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين واكلع على شيء من علم الرأي فهذا في الحقيقة جاهل وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم فاعتقاده باطل فمن كان من القضاة هكذا فلا تجب الإجابة إليه لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه بل هو من قضاة الطاغوت وحكام الباطل فإن ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب والسنة ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده وإذا تقرر لديك هذا وفهمته حق فهمه علمت أن التقليد والانتساب إلى عالم من العلماء دون غيره والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة والفواقر الموحشة فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه القول المفيد في حكم التقليد وفي مؤلفنا الذي سميناه أدب الطلب ومنتهى الأرب فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية فليرجع إليهما (4/66)
ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله فقال : 51 - { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } قرأ الجمهور بنصب { قول } على أنه خبر كان واسمها أن يقولوا وقرأ علي والحسن وابن أبي إسحاق برفع قول على أنه الاسم وأن المصدرية وما في حيزها الخبر وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسما وأما سيبويه فقد خير بين كل معرفتين ولم يفرق هذه التفرقة وقد قدمنا الكلام على الدعوة إلى الله ورسوله للحكم بين المتخاصمين وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة ومن لا تجب { أن يقولوا سمعنا وأطعنا } أي أن يقولوا هذا القول لا قولا آخر وهذا وإن كان على طريقة الخبر فليس المراد به ذلك بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر والمعنى : أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة والإذعان قال مقاتل وغيره : يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه و سلم وأطعنا أمره وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرهم ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله : { وأولئك } أي المؤمنون الذين قالوا هذا القول { هم المفلحون } أي الفائزون بخير الدنيا والآخرة (4/66)
ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال : 52 - { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وهذه الجملة مقررة لما قبلها من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله والخشية من الله عز و جل والتقوى له قرأ حفص { ويتقه } بإسكان القاف على نية الجزم وقرأ الباقون بكسرها لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والمثنى عن أبي عمرو وحفص وأشبع كسرة الهاء الباقون قال ابن الأنباري : وقراءة حفص هي على لغة من قال : لم أر زيدا ولم أشتر طعاما يسقطون الياء للجزم ثم يسكنون الحرف الذي قبلها ومنه قول الشاعر :
( قالت سليمى اشتر لنا دقيقا )
وقول الآخر :
( عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان )
وأصله يلد بكسر اللام وسكون الدال للجزم فلما سكن اللام التقى ساكنان فلوحرك الأول لرجع إلى ما وقع الفرار منه فحرك ثانيهما وهو الدال ويمكن أن يقال إنه حرك الأول على أصل التقاء الساكنين وبقي السكون على الدال لبيان ما عليه أهل هذه اللغة ولا يضر الرجوع إلى ما وقع الفرار منه فهذه الحركة غير تلك الحركة والإشارة بقوله : { فأولئك هم الفائزون } إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة والخشية والتقوى أي هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والأخروي لا من عداهم (4/67)
ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا فقال : 53 - { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن } أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن وجهد أيمانهم منتصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف الناصب له : أي أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهدا ومعنى جهد أيمانهم : طاقة ما قدروا أن يحلفوا مأخوذ من قولهم جهد نفسه : إذا بلغ طاقتها وأقصى وسعها وقيل هو منتصب على الحال والتقدير : مجتهدين في أيمانهم كقولهم افعل ذلك جهدك وطاقتك وقد خلط الزمخشري الوجهين فجعلهما واحدا وجواب القسم قوله { ليخرجن } ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة وأيمانهم فاجرة رد الله عليهم فقال : { قل لا تقسموا } أي رد عليهم زاجرا لهم وقل لهم لا تقسموا : أي لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به وهاهنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال { طاعة معروفة } وارتفاع { طاعة } على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد ويجوز أن تكون ميتدأ لأنها قد خصصت بالصفة ويكون الخبر مقدرا : أي طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم ويجوز أن ترتفع بفعل محذوف : أي لتكن منكم طاعة أو لتوجد وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلا إذا تقدم ما يشعر به وقرأ زيد بن علي والترمذي طاعة بالنصب على المصدر لفعل محذوف : أي أطيعوا طاعة { إن الله خبير بما تعملون } من الأعمال وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق (4/68)
ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله فقال : 54 - { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } طاعة ظاهرة وباطنة بخلوص اعتقاد وصحة نية وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب الطاعة عليهم فإن قوله : { قل لا تقسموا طاعة معروفة } في حكم الأمر بالطاعة وقيل إنهما مختلفان فالأول نهي بطريق الرد والتوبيخ والثاني أمر بطريق التكليف لهم والإيجاب عليهم { فإن تولوا } خطاب للمأمورين وأصله فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفا وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة والانقياد وجواب الشرط قوله : { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } أي فاعلموا أنما على النبي ما حمل مما أمر به من التبليغ وقد فعل وعليكم ما حملتم : أي ما أمرتم به من الطاعة وهو وعيد لهم كأنه قال لهم : فإن توليتم فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل { وإن تطيعوه } فيما أمركم به ونهاكم عنه { تهتدوا } إلى الحق وترشدوا إلى الخير وتفوزوا بالأجر وجملة { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } مقررة لما قبلها واللام إما للعهد فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه و سلم وإما للجنس فيراد كل رسول والبلاغ المبين : التبليغ الواضح أو الموضح قيل يجوز أن يكون قوله : { فإن تولوا } ماضيا وتكون الواو لضمير الغائبين وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقوله لهم ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة والأول أرجح ويؤيده الخطاب في قوله : { وعليكم ما حملتم } وفي قوله : { وإن تطيعوه تهتدوا } ويؤيده أيضا قراءة البزي { فإن تولوا } بتشديد التاء وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين (4/68)
55 - { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات } هذه الجملة مقررة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم سبب لهدايتهم وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم وهو وعد يعم جميع الأمة وقيل هو خاص بالصحابة ولا وجه لذلك فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم بل ويمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله فقد أطاع الله ورسوله واللام في { ليستخلفنهم في الأرض } جواب لقسم محذوف أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم لأنه ناجز لا محالة ومعنى ليستخلفهم في الأرض : ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء الأربعة أو بالمهاجرين أو بأن المراد بالأرض أرض مكة وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وظاهر قوله : { كما استخلف الذين من قبلهم } كل من استخلفه الله في أرضه فلا يخص ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها قرأ الجمهور { كما استخلف } بفتح الفوقية على البناء للفاعل وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم بضمها على البناء للمفعول ومحل الكاف النصب على المصدرية : أي استخلافا كما استخلف وجملة { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب والمراد بالتمكين هنا : التثبيت والتقرير : أي يجعله الله ثابتا مقررا ويوسع لهم في البلاد ويظهر دينهم على جميع الأديان والمراد بالدين هنا : الإسلام كما في قوله : { ورضيت لكم الإسلام دينا } ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أولا وهو جعلهم ملوكا وذكر التمكين ثانيا فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطرو بل على وجه الاستقرار والثابت بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من بعدهم وجملة { وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } معطوفة على التي قبلها قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر { ليبدلنهم } بالتخفيف من أبدل وهي قراءة الحسن واختارها أبو حاتم وقرأ الباقون بالتشديد من بدل واختارها أبو عبيد وهما لغتان وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى فقراء التشديد أرجح من قراءة التخفيف قال النحاس : وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقا وأنه يقال بدلته : أي غيرته وأبدلته : أزلته وجعلت غيره قال النحاس وهذا القول صحيح والمعنى : أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمنا ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلا الله سبحانه ولا يرجون غيره وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين لا يخرجون إلا في السلاح ولا يمسون ويصبحون إلا على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار ثم صاروا في غاية الأمن والدعة وأذل الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد ومهد لهم في الأرض ومكنهم منها فلله الحمد وجملة { يعبدونني } في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم وجملة { لا يشركون بي شيئا } في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني : أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئا من الأشياء وقيل معناه : لا يراءون بعبادتي أحدا وقيل معناه : لا يخافون غيري وقيل معناه لا يحبون غيري { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } أي من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح أو من استمر على الكفر أو من كفر بعد إيمان فأولئك الكافرون هم الفاسقون أي الكاملون في الفسق وهو الخروج عن الطاعة والطغيان في الكفر (4/69)
وجملة 56 - { وأقيموا الصلاة } معطوفة على مقدر يدل عليه ما تقدم كأنه قيل لهم فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا الصلاة وقيل معطوف على { وأطيعوا الله } وقيل التقدير : فلا تكفروا وأقيموا الصلاة وقد تقدم الكلام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكرر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وخصه بالطاعة لأن طاعته طاعة لله ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم { لعلكم ترحمون } أي افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه (4/70)
57 - { لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض } قرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة { لا يحسبن } بالتحية بمعنى : لا تحسبن الذين كفروا وقرأ الباقون بالفوقية : أي لا تحسبن يا محمد والموصول المفعول الأول ومعجزين الثاني لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين قاله الزجاج والفراء وأبو علي وأما على القراءة الأولى فيكون المفعول الأول محذوفا : أي لا يحسبن الذي كفروا أنفسهم قال النحاس : وما علمت أحدا بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة ومعجزين معناه : فائتين وقد تقدم تفسيره وتفسير ما بعده
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ويقولون آمنا بالله وبالرسول } الآية قال : أناس من المنافقين وأظهروا الإيمان والطاعة وهم في ذلك يصدون عن سبيل الله وطاعته وجهاد مع رسوله صلى الله عليه و سلم وأخرجوا أيضا عن الحسن قال : إن الرجل كان يكون بينه وبين الرجل خصومة أو منازعة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا دعي إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو محق أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم سيقضي له بالحق وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه و سلم أعرض وقال : أنطلق إلى فلان فأنزل سبحانه : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله } إلى قوله : { هم الظالمون } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كان بينه وبين أخيه شيء فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حق له ] قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه : وهذا حديث غريب وهو مرسل وقال ابن العربي : هذا حديث باطل فأما قوله : فهو ظالم فكلام صحيح وأما قوله : فلا حق له فلا يصح ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق انتهى وأقول : أما كون الحديث مرسلا فظاهر وأما دعوى كونه باطلا فمحتاجة إلى برهان فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما ذكرنا ويبعد كل البعد أن يتفق عليهم ما هو باطل وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مبارك حدثنا الحسن فذكره وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له ] انتهى ولا يخفاك أن قضاة العدل وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدمنا لك قريبا هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب والسنة المبينون للناس ما نزل إليهم وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أتى قوم للنبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا فأنزل الله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك شأن الجهاد قال يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء { طاعة معروفة } قال أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه و سلم من غير أن يقسموا وأخرج ابن المنذر عن مجاهد { طاعة معروفة } يقول : قد عرفت طاعتهم : أي إنكم تكذبون به وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن علقمة بن وائل
الحضرمي عن أبيه قال : [ قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق ولا يعطونا ؟ قال : فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم ] وأخرج ابن جرير وابن قانع والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت يا رسول فذكر نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان علي إمام فاجر فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال : أقاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء في قوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم } الآية قال : فينا نزلت ونحن في خوف شديد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وعبادته وحده لا شريك له سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموا المدينة فأمرهم الله بالقتال وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فغبروا بذلك ما شاء الله ثم إن رجلا من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة فأنزل الله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } إلى آخر الآية ] فأظهر الله نبيه صلى الله عليه و سلم على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح ثم إن الله قبض نبيه فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا وكفروا النعمة فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم واتخذوا الحجر والشرط وغيروا فغير ما بهم وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات } الآية وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } قال : لا يخافون أحدا غيري وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد مثله قال : { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } العاصون وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة ليس الكفر بالله وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { معجزين في الأرض } قال : سابقين في الأرض (4/71)
لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان فذكره ها هنا على وجه أخص فقال : 58 - { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } والخطاب للمؤمنين وتدخل المؤمنات فيه تغليبا كما في غيره من الخطابات قال العلماء : هذه الآية خاصة ببعض الأوقات واختلفوا في المراد بقوله : { ليستأذنكم } على أقوال : الأول أنها منسوخة قاله سعيد بن المسيب وقال سعيد بن جبير : إن الأمر فيها للندب لا للوجوب وقيل كان ذلك واجبا حيث كانوا لا أبواب لهم ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي عن ابن عباس وقيل إن الأمر هاهنا للوجوب وإن الآية محكة غير منسوخة وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء قال : القرطبي : وهو قول أكثر أهل العلم وقال أبو عبد الرحمن السلمي : إنها خاصة بالنساء وقال ابن عمر هي خاصة بالرجال دون النساء والمراد بقوله : { ملكت أيمانكم } العبيد والإماء والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان منكم : أي من الأحرار ومعنى { ثلاث مرات } ثلاثة أوقات في اليوم والليلة وعبر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات وانتصاب ثلاث مرات على الظرفية الزمانية : أي ثلاثة أوقات ثم فسر تلك الأوقات بقوله : { من قبل صلاة الفجر } إلخ أو منصوب على المصدرية : أي ثلاث استئذانات ورجح هذا أبو حيان فقال : والظاهر من قوله : { ثلاث مرات } ثلاث استئذانات لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ويرد بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة وهو التفسير بالثلاثة الأوقات قرأ الحسن وأبو عمرو في رواية { الحلم } بسكون اللام وقرأ الباقون بضمها قال الأخفش : الحلم من حلم الرجل بفتح اللام ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام ثم فسر سبحانه الثلاث المرات فقال : { من قبل صلاة الفجر } وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة وربما يبيت عريانا أو على حال لا يحب أن يراه غيره فيها ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هي من قبل وقوله : { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } معطوف على محل { من قبل صلاة الفجر } ومن في { من الظهيرة } للبيان أو بمعنى في أو بمعنى اللام والمعنى : حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حر الظهيرة وذلك عند انتصاف النهار فإنهم قد يتجردون عن الثياب لأجل القيلولة ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال : { ومن بعد صلاة العشاء } وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب والخلوة بالأهل ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل فقال : { ثلاث عورات لكم } قرأ الجمهور : { ثلاث عورات } برفع ثلاث وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ثلاث مرات قال ابن عطية : إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات فحذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة ويجوز أن يكون ثلاث عورات بدلا من الأوقات المذكورة : أي من قبل صلاة الفجر إلخ ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار فعل : أي أعني ونحوه وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هن ثلاث قال أبو حاتم : النصب ضعيف مردود وقال الكسائي : إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء والخبر ما بعدها قال : والعورات الساعات التي تكون فيها العورة قال الزجاج : المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وعورات جمع عورة والعورة في الأصل الخلل ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويتعين ستره : أي هي ثلاث أوقات يختل فيها الستر وقرأ الأعمش { عورات } بفتح الواو وهي لغة هذيل وتميم فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واوا أو ياء ومنه :
( أخو بيضات رايح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح )
وقوله :
( أبو بيضات رايح أو مبعد ... عجلان ذا زاد وغير مزود )
و { لكم } متعلق بمحذوف هو صفة لثلاث عورات : أي كائنة لكم والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } أي ليس على المماليك ولا على الصبيان جناح : أي إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والاطلاع على العورات ومعنى بعدهن : بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منها وهذه الجملة مستأنفة مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها قال أبو البقاء : { بعدهن } أي بعد استئذانهم فيهن ثم حذف حرف الجر والمجرور فبقي بعد استئذانهم ثم حذف المصدر وهو الاستئذان والضمير المتصل به ورد بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره بل المعنى : ليس عليكم جناح ولا عليهم : أي العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة وارتفاع { طوافون } على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم طوافون عليكم والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان قال الفراء : هذا كقولك في الكلام هم خدمكم وطوافون عليكم وأجاز أيضا نصب طوافين لأنه نكرة والمضمر في { عليكم } معرفة ولا يجيز البصريون أن تكون حالا من المضمرين اللذين في عليكم وفي بعضكم لاختلاف العاملين ومعنى طوافون عليكم : أي يطوفون عليكم ومنه الحديث في الهرة [ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات ] أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن ومعنى { بعضكم على بعض } بعضكم يطوف أو طائف على بعض وهذه الجملة بدل مما قبلها أو مؤكدة لها والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه العبيد على الموالي والموالي على العبيد ومنه قول الشاعر :
( ولما قرنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا )
وقرأ ابن أبي عبلة { طوافون } بالنصب على الحال كما تقدم عن الفراء وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها والإشارة بقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } إلى مصدر الفعل الذي بعده كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز : أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام { والله عليم حكيم } كثير العلم بالمعلومات وكثير الحكمة في أفعاله (4/73)
59 - { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } بين سبحانه هاهنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم بعد ما بين فيما مر حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة فقال : { فليستأذنوا } يعني الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم { كما استأذن الذين من قبلهم } والكاف نعت مصدر محذوف : أي استئذانا كما استأذن الذين من قبلهم والموصول عبارة عن الذين قيل لهم { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا } الآية والمعنى : أن هؤلاء الذين بلغوا الحلم يستأذنون في جميع الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء ثم كرر ما تقدم للتأكيد فقال : { كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم } وقرأ الحسن { الحلم } فحذف الضمة لثقلها قال عطاء : واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا أحرارا كانوا أو عبيدا وقال الزهري : يستأذن الرجل على أمه وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية والمراد بالقواعد من النساء : العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر واحدتها قاعد بلا هاء ليدل حذفها على أنه قعود الكبر كما قالوا : امرأة حامل ليدل بحذف الهاء على أنه حمل حبل ويقال : قاعدة في بيتها وحاملة على ظهرها قال الزجاج : هن اللاتي قعدن عن التزويج (4/76)
وهو معنى قوله 60 - { اللاتي لا يرجون نكاحا } أي لا يطمعن فيه لكبرهن وقال أبو عبيدة : اللاتي قعدن عن الولد وليس هذا بمستقيم لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع ثم ذكر سبحانه حكم القواعد فقال : { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } أي الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه ولا الثياب التي على العورة الخاصة وإنما جاز لهن ذلك لانصراف الأنفس عنهن إذ لا رغبة للرجال فيهن فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن ثم استثنى حالة من حالاتهن فقال : { غير متبرجات بزينة } أي غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله : { ولا يبدين زينتهن } والمعنى : من غير أن يردن بوضع الجلابيب إظهار زينتهن ولا متعرضات بالتزين لينظر إليهن الرجال والتبرج التكشف والظهور للعيون ومنه { بروج مشيدة } وبروج السماء ومنه قولهم : سفينة بارجة : أي لا غطاء عليها { وأن يستعففن خير لهن } أي وأن يتركن وضع الثياب فهو خير لهن من وضعها وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس { أن يضعن ثيابهن } بزيادة من وقرأ ابن مسعود : { وأن يستعففن } بغير سين { والله سميع عليم } كثير السماع والعلم أو بليغهما (4/76)
61 - { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ قال بالأول جماعة من العلماء وبالثاني جماعة قيل إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا : لا ندخلها وهم غيب فنزلت هذه الآية رخصة لهم فمعنى الآية نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو قال النحاس : وهذا القول من أجل ما روي في الآية لما فيه من الصحابة والتابعين من التوقيف وقيل إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم فنزلت وقيل إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج في تأخرهم عن الغزو وقيل كان الرجل إذا أدخل أحدا من هؤلاء الزمنى إلى بيته فلم يجد فيه شيئا يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته فيتحرج الزمنى من ذلك فنزلت ومعنى قوله { ولا على أنفسكم } عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين { أن تأكلوا } أنتم ومن معكم وهذا ابتداء كلام : أي ولا عليكم أيها الناس والحاصل أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء أو دخول بيوتهم فيكون { ولا على أنفسكم } متصلا بما قبله وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر وعدم العرج وعدم المرض فقوله : { ولا على أنفسكم } ابتداء كلام غير متصل بما قبله ومعنى { من بيوتكم } البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم فيدخل بيوت الأولاد كذا قال المفسرون لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد وذكر بيوت الآباء وبيوت الأمهات ومن بعدهم قال النحاس : وعارض بعضهم هذا فقال : هذا تحكم على كتاب الله سبحانه بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفا لهؤلاء ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث [ أنت ومالك لأبيك ] وحديث [ ولد الرجل من كسبه ] ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الأخوة والأخوات بل بيوت الأعمام والعمات بل بيوت الأخوال والخالات فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء ولا ينفيه عن بيوت الأولاد ؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم وقال آخرون : لا يشترط الإذن قيل وهذا إذا كان الطعام مبذولا فإن كان محرزا دونهم لم يجز لهم أكله ثم قال سبحانه : { أو ما ملكتم مفاتحه } أي البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها وذلك كالوكلاء والعبيد والخزان فإنهم يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وإعطائهم مفاتحه وقيل المراد بها بيوت المماليك قرأ الجمهور { ملكتم } بفتح الميم وتخفيف اللام وقرأ سعيد بن جبير بضم الميم وكسر اللام مع تشديدها وقرأ أيضا : { مفاتحه } بباء بين التاء والحاء وقرأ قتادة { مفاتحه } على الإفراد والمفاتح جمع مفتح والمفاتيح جمع مفتاح { أو صديقكم } أي لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه والصديق يطلق على الواحد والجمع ومنه قول جرير :
( دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق )
ومثله العدو والخليط والقطين والعشير ثم قال سبحانه : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } من بيوتكم { جميعا أو أشتاتا } انتصاب جميعا وأشتاتا على الحال والأشتات جمع شت والشت المصدر : بمعنى التفرق يقال شت القوم : أي تفرقوا وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله : أي ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين أو متفرقين وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلا يؤاكله فيأكل معه وبعض العرب كان لا يأكل إلا مع ضيف ومنه قول حاتم :
( إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي )
{ فإذا دخلتم بيوتا } هذا شروع في بيان أدب به عباده : أي إذا دخلتم بيوتا غير البيوت التي تقدم ذكرها { فسلموا على أنفسكم } أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم وقيل المراد البيوت المذكورة سابقا وعلى القول الأول فقال الحسن والنخعي : هي المساجد والمراد سلموا على من فيها من صنفكم فإن لم يكن في المساجد أحد فقيل يقول : السلام على رسول الله وقيل يقول السلام عليكم مريدا للملائكة وقيل يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقال بالقول الثاني : أعني أنها البيوت المذكورة سابقا جماعة من الصحابة والتابعين وقيل المراد بالبيوت هنا هي كل البيوت المسكونة وغيرها فيسلم على أهل المسكونة وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه قال ابن العربي : القول بالعموم في البيوت هو الصحيح وانتصاب { تحية } على المصدرية لأن قوله فسلموا معناه فحيوا : أي تحية ثابتة { من عند الله } أي إن الله حياكم بها وقال الفراء : أي إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له ثم وصف هذه التحية فقال { مباركة } أي كثيرة البركة والخير دائمتهما { طيبة } أي تطيب بها نفس المستمع وقيل حسنة جميلة وقال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب ثم كرر سبحانه فقال : { كذلك يبين الله لكم الآيات } تأكيدا لما سبق وقد قدمنا أن الإشارة بذلك إلى مصدر الفعل { لعلكم تعقلون } تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى الله عليه و سلم طعاما فقالت أسماء : يا رسول الله ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن فأنزل الله في ذلك { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } يعني العبيد والإماء { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } قال : من أحراركم من الرجال والنساء وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في هذه الآية قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن وأخرج ابن مردويه عن ثعلبة القرظي عن عبد الله بن سويد قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العورات الثلاث فقال : إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج علي أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء ومن قبل صلاة الصبح ] وأخرجه عبد بن حميد والبخاري في الأدب عن عبد الله بن سويد من قوله وأخرج نحوه أيضا ابن سعد عن سويد بن النعمان وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إنه لم يؤمن بها أكثر الناس : يعني آية الإذن وإني لأمر جاريتي هذه لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن علي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهن { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } والآية التي في سورة النساء { وإذا حضر القسمة } الآية والآية التي في الحجرات { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عنه أيضا في الآية قال : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبي ولا خادم إلا بإذنه حتى يصلي الغداة وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن وهو قوله : { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } فأما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال وهو قوله : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن بسند صحيح من طريق عكرمة عنه أيضا : أن رجلا سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القرآن فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيم في حجره وهو على أهله فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ثم جاء الله بعد بالستور فبسط عليهم في الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجاب فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله : { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } قال : هي على الذكور دون الإناث ولا وجه لهذا التخصيص فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قالت : نزلت في النساء أن يستأذن علينا وأخرج الحاكم وصححه عن علي في الآية قال : النساء فإن الرجال يستأذنون وأخرج الفريابي عن موسى بن أبي شيبة قال : سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي ؟ قال : لا وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن عباس أأستأذن على أختى ؟ قال : نعم قلت : إنها في حجري وإني أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن عليها ؟ قال : نعم إن الله يقول : { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم } الآية فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هؤلاء العورات الثلاث قال : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : عليكم إذن على أمهاتكم وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب عنه قال : يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن جابر نحوه وأخرج ابن جرير والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار [ أن رجلا قال : يا رسول الله أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم قال : إني معها في البيت قال : استأذن عليها قال : إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا قال : فاستأذن عليها ] وهو مرسل وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم وهو أيضا مرسل وأخرج أبو داود والبيهقي في السنن عن ابن عباس { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } الآية فنسخ واستثنى من ذلك { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا } الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عنه قال : هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرج بما يكرهه الله وهو قوله : { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة } وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { أن يضعن ثيابهن } ويقول : هو الجلباب وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ابن مسعود { أن يضعن ثيابهن } قال : الجلباب والرداء وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن جبير قال : لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قالت الأنصار : ما بالمدينة مال أعز من الطعام كانوا يتحرجون الأكل مع الأعرج يقولون الصحيح يسبقه إلى المكان ولا يستطيع أن يزاحم ويتحرجون الأكل مع المريض يقولون لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح وكانوا يتحرجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم فنزلت { ليس على الأعمى } يعني في الأكل مع الأعمى وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله أو بيت خالته فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم فنزلت هذه الآية رخصة لهم وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه فكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس وإنما نحن زمنى فأنزل الله { ولا على أنفسكم أن تأكلوا } إلى قوله : { أو ما ملكتم مفاتحه } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله { ليس على الأعمى حرج } إلى قوله : { أو ما ملكتم مفاتحه } وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن وكانوا أيضا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره فرخص الله لهم فقال : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه و سلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ولا أعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مؤاكلتهم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في مراسيله وابن جرير والبيهقي عن الزهري أنه سئل عن قوله : { ليس على الأعمى حرج } ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هنا ؟ فقال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفهم زمانهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا وكانوا يتحرجون من ذلك يقولون لا ندخلها وهم غيب فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية حتى إن كان الرجل يسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا : كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلت رخصة لهم وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية قال خرج الحارث غازيا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلف على أهله خالد بن يزيد فحرج أن يأكل من طعامه وكان مجهودا فنزلت وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { أو صديقكم } قال : إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { أو صديقكم } قال : هذا شيء قد انقطع إنما كان هذا في أوله ولم يكن لهم أبواب وكانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد فربما وجد الطعام وهو جائع فسوغه الله أن يأكله وقال : ذهب ذلك اليوم البيوت فيها أهلها فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } يقول : إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أنفسكم { تحية من عند الله } وهو السلام لأنه اسم الله وهو تحية أهل الجنة وأخرج البخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله { مباركة طيبة } وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { فسلموا على أنفسكم } قال : هو المسجد إذا دخلته فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن ابن عمر قال : إذا دخل البيت غير المسكون أو المسجد فليقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (4/77)
جملة 62 - { إنما المؤمنون } مستأنفة مسوقة لتقدير ما تقدمها من الأحكام و { إنما } من صيغ الحصر والمعنى لا يتم إيمان ولا يكمل حتى يكون { بالله ورسوله } وجملة { وإذا كانوا معه على أمر جامع } معطوفة على آمنوا داخلة معه في حيز الصلة : أي إذا كانوا مع رسول الله على أمر جامع : أي على أمر طاعة يجتمعون عليها نحو الجمعة والنحر والفطر والجهاد وأشباه ذلك وسمي الأمر جامعا مبالغة { لم يذهبوا حتى يستأذنوه } قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلى الله عليه و سلم حيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن يشاء منهم قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال الزجاج : أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلا بإذنه وللإمام أن يأذن وله أن لا يأذن على ما يرى لقوله تعالى : { فأذن لمن شئت منهم } وقرأ اليماني على أمر جميع والحاصل أن الأمر الجامع أو الجميع هو الذي يعم نفعه أو ضرره وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن ثم قال سبحانه : { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله } فبين سبحانه أن المستأذنين : هم المؤمنون بالله ورسوله كما حكم أولا بأن المؤمنين الكاملين الإيمان : هم الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم } أي إذا استأذن المؤمنون رسول الله صلى الله عليه و سلم لبعض الأمور التي تهمهم فإنه يأذن لمن شاء منهم ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم وفيه إشارة إلى أن الاستئذان إن كان لعذر مسوغ فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة { إن الله غفور رحيم } أي كثير المغفرة والرحمة بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية (4/83)
63 - { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها : أي لا تجعلوا دعوته إيكاكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة أو الرجوع بغير استئذان أو رفع الصوت وقال سعيد بن جبير ومجاهد : المعنى قولوا يا رسول الله في رفق ولين ولا تقولوا يا محمد بتجهم وقال قتادة : أمرهم أن يشرفوه ويفخموه وقيل المعنى : لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } التسلل : الخروج في خفية يقال تسلل فلان من بين أصحابه : إذا خرج من بينهم واللواذ من الملاوذة وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك وأصله أن يلوذ هذا بذلك وذاك بهذا واللوذ ما يطيف بالجبل وقيل اللواذ الزوغان من شيء إلى شيء في خفية وانتصاب لواذا على الحال : أي متلاوذين يلوذ بعضهم ببعض وينضم إليه وقيل هو منتصب على المصدرية لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة : أي يلوذون لواذا وقرأ زيد بن قطيب { لواذا } بفتح اللام وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين يضم بعضهم إلى بعض استتار من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة والخطبة فكانوا يفرون عن الحضور ويتسللون في خفية ويستتر بعضهم ببعض وينضم إليه وقيل اللواذ : الفرار من الجهاد وبه قال الحسن ومنه قول حسان :
( وقريش تجول منكم لواذا ... لم تحافظ وجف منها الحلوم )
{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها : أي يخالفون أمر النبي صلى الله عليه و سلم بترك العمل بمقتضاه وعدي فعل المخالفة بعن مع كونه متعديا بنفسه لتضمينه معنى الإعراض أو الصد وقيل الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة و { أن تصيبهم فتنة } مفعول يحذر وفاعله الموصول والمعنى : فليحذر المخالفون عن أمر الله أو أمر رسوله أو أمرهما جميعا إصابة فتنة لهم { أو يصيبهم عذاب أليم } أي في الآخرة كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا وكلمة أو لمنع الخلو قال القرطبي : احتج الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية ووجه ذلك أن الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره وتوعد بالعقاب عليها بقوله : { أن تصيبهم فتنة } الآية فيجب امتثال أمره وتحرم مخالفته والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن وقيل من القتل وقيل الطبع على قلوبهم قال أبو عبيدة والأخفش : عن في هذا الموضع زائدة وقال الخليل وسيبويه : ليست بزائدة بل هي بمعنى بعد كقوله : { ففسق عن أمر ربه } أي بعد أمر ربه والأولى ما ذكرناه من التضمين (4/84)
64 - { ألا إن لله ما في السموات والأرض } من المخلوقات بأسرها فهي ملكه { قد يعلم ما أنتم عليه } أيها العباد من الأحوال التي أنتم عليها فيجازيكم بحسب ذلك ويعلم هاهنا بمعنى علم { ويوم يرجعون إليه } معطوف على ما أنتم عليه : أي يعلم ما أنتم عليه ويعلم يوم يرجعون إليه فيجازيكم فيه بما عملتم وتعليق علمه سبحانه بيوم يرجعون لا بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه لأن العلم بوقت وقوع الشيء يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه { فينبئهم بما عملوا } أي يخبرهم بما عملوا من الأعمال التي من جملتها مخالفة الأمر والظاهر من السياق أن هذا الوعيد للمنافقين { والله بكل شيء عليم } لا يخفى عليه شيء من أعمالهم
وقد أخرج ابن إسحاق وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الأسيال من رومة بئر بالمدينة قائدها أبو سفيان وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقمى إلى جانب أحد وجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر فضر الخندق على المدينة وعمل فيه المسلمون وأبطأ رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعيف من العمل فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا إذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له فإذا قضى حاجته رجع فأنزل الله في أولئك { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله } الآية وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال : هي في الجهاد والجمعة والعيدين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { على أمر جامع } قال : من طاعة الله عام وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عنه في قوله : { لا تجعلوا دعاء الرسول } الآية قال : يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه ولكن وقروه وقولوا له : يا رسول الله يا نبي الله وأخرج عبد الغني بن سعيد في تفسيره وأبو نعيم في الدلائل عنه أيضا في الآية قال : لا تصيحوا به من بعيد يا أبا القاسم ولكن كما قال الله في الحجرات { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل قال : كان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه و سلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام فيأذن له النبي صلى الله عليه و سلم يشير إليه بيده وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج فأنزل الله { الذين يتسللون منكم لواذا } الآية وأخرج أبو عبيد في فضائله والطبراني قال السيوطي بسند حسن عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول : بكل شيء بصير (4/85)
سورة الفرقان
هي سبع وسبعون آية
وهي مكية كلها في قول الجمهور وكذا أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه من طرق عن ابن عباس وأخرجه ابن مردويه عن ابن الزبير قال القرطبي : وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهي { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الآيات وأخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن حبان والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال : [ سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستمتعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرسله أقرئنا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذلك أنزلت ثم قال : أقرئنا عمر فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ]
تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهم ثم في النبوة لأنها الواسطة ثم في المعاد لأنه الخاتمة وأصل تبارك مأخوذ من البركة وهي النماء والزيادة حسية كانت أو عقلية قال الزجاج : تبارك تفاعل من البركة قال : ومعنى البركة : الكثرة من كل ذي خير وقال الفراء : إن تبارك وتقدس في العربية واحد ومعناهما العظمة وقيل المعنى : تبارك عطاؤه : أي زاد وكثر وقيل المعنى : دام وثبت قال النحاس : وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت ومنه برك الجمل : أي دام وثبت واعترض ما قاله الفراء بأن التقديس غنما هو من الطهارة وليس من ذا في شيء قال العلماء : هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي والفرقان القرآن وسمي فرقانا لأنه يفرق بين الحق والباطل بأحكامه أو بين المحق والمبطل والمراد بعبده نبينا صلى الله عليه و سلم ثم علل التنزيل { ليكون للعالمين نذيرا } فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال والمراد محمد صلى الله عليه و سلم أو الفرقان والمراد بالعالمين هنا الإنس والجن لأن النبي صلى الله عليه و سلم مرسل إليهما ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلا إلى الثقلين والنذير : المنذر : أي ليكون محمد منذرا أو ليكون إنزال القرآن منذرا ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة : أي ليكون إنزاله إنذارا أو ليكون محمد إنذارا وجعل الضمير للنبي صلى الله عليه و سلم أولى لأن صدور الإنذار منه حقيقة ومن القرآن مجاز والحمل على الحقيقة أولى ولكونه أقرب مذكور وقيل إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } ثم إنه سبحانه وصف نفسه بصفات أربع (4/86)
الأولى 2 - { له ملك السموات والأرض } دون غيره فهو المتصرف فيهما ويحتمل أن يكون الموصول الآخر بدلا أو بيانا للموصوف الأول والوصف أولى وفي تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وتوابعه من البهاء وغيره والصفة الثانية { ولم يتخذ ولدا } وفيه رد على النصارى واليهود والصفة الثالثة { ولم يكن له شريك في الملك } وفيه رد على طوائف المشركين من الوثنية والثنوية وأهل الشرك الخفي والصفة الرابعة { وخلق كل شيء } من الموجودات { فقدره تقديرا } أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد وهيأه لما يصلح له قال الواحدي قال المفسرون : قدر كل شيء من الأجل والرزق فجرت المقادير على ما خلق وقيل أريد بالخلق هنا مجرد الإحداث والإيجاد من غير ملاحظة معنى التقدير وإن لم يخل عنه في نفس الأمر فيكون المعنى : أوجد كل شيء فقدره لئلا يلزم التكرار ثم صرح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان (4/88)
فقال : 3 - { واتخذوا من دونه آلهة } والضمير في اتخذوا للمشركين وإن لم يتقدم لهم ذكر لدلالة نفي الشريك عليهم : أي اتخذ المشركون لأنفسهم متجاوزين الله آلهة { لا يخلقون شيئا } والجملة في محل نصب صفة لآلهة : أي لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء وغلب العقلاء على غيرهم لأن في معبودات الكفار الملائكة وعزير والمسيح { وهم يخلقون } أي يخلقهم الله سبحانه وقيل عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جريا على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع وقيل معنى { وهم يخلقون } أن عبدتهم يصورونهم ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ فقال { ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا } أي لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعا ولا يدفعوا عنها ضررا وقدم ذكر الضر لأن دفعه أهم من جلب النفع وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم ثم زاد في بيان عجزهم فنصص على هذه الأمور فقال : { ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } أي لا يقدرون على إماتة الأحياء ولا إحياء الموتى ولا بعثهم من القبور لأن النشور الإحياء بعد الموت يقال أنشر الله الموتى فنشروا ومنه قول الأعشى :
( حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر )
ولما فرغ من بيان التوحيد وتزييف مذاهب المشركين شرع في ذكر شبه منكري النبوة (4/88)
فالشبهة الأولى ما حكاه عنهم بقوله : 4 - { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك } أي كذب { افتراه } أي اختلقه محمد صلى الله عليه و سلم والإشارة بقوله هذا إلى القرآن { وأعانه عليه } أي على الاختلاق { قوم آخرون } يعنون من اليهود قيل وهم : أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي وعداس مولى حويطب بن عبد العزى وجبر مولى ابن عامر وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود وقد مر الكلام على مثل هذا في النحل ثم رد الله سبحانه عليهم فقال : { فقد جاؤوا ظلما وزورا } أي فقد قالوا ظلما هائلا عظيما وكذبا ظاهرا وانتصاب ظلما بجاءوا فإن جاء قد يستعمل استعمال أتى ويعدى تعديته وقال الزجاج : إنه منصوب بنزع الخافض والأصل جاءوا بظلم وقيل هو منتصب على الحال وإنما كان ذلك منهم ظلما لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرا منه فقد وضعوا الشيء في غير موضعه وهذا هو الظلم وأما كون ذلك منهم زورا فظاهر لأنهم قد كذبوا هذه المقالة (4/89)
ثم ذكر الشبهة الثانية فقال : 5 - { وقالوا أساطير الأولين } أي أحاديث الأولين وما سطروه من الأخبار قال الزجاج : واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة وقال غيره : أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال { اكتتبها } أي استكتبها أو كتبها لنفسه ومحل اكتتبها خبره ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب وهو الجمع لا من الكتابة بالقلم والأولى أولى وقرأ طلحة { اكتتبها } مبنيا للمفعول والمعنى : اكتتبها له كاتب لأنه كان أميا لا يكتب ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا كذا قال في الكشاف واعرضه أبو حيان { فهي تملى عليه } أي تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه ويجوز أن يكون المعنى اكتتبها أراد اكتتابها { فهي تملى عليه } لأنه يقال أمليت عليه فهو يكتب { بكرة وأصيلا } غدوة وعشيا كأنهم قالوا : إن هؤلاء يعلمون محمدا طرفي النهار وقيل معنى بكرة وأصيلا : دائما في جميع الأوقات (4/89)
فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة بقوله : 5 - { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض } أي ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأولين بل هو أمر سماوي أنزله الذي يعلم كل شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء فلهذا عجزتم عن معارضته ولم تأتوا بسورة منه وخص السر للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر والسر : الغيب أي يعلم الغيب الكائن فيهما وجملة { إنه كان غفورا رحيما } تعليل لتأخير العقوبة : أي إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة لما تفعلونه من الكذب على رسوله والظلم له فإنه لا يجعل عليكم بذلك لأنه كثير المغفرة والرحمة
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { تبارك } تفاعل من البركة وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وأعانه عليه قوم آخرون } قال يهود : { فقد جاؤوا ظلما وزورا } قال : كذبا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } هو القرآن فيه حلاله وحرامه وشرائعه ودينه وفرق الله بين الحق والباطل { ليكون للعالمين نذيرا } قال : بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم نذيرا من الله لينذر الناس بأس الله ووقائعه بمن خلا قبلكم { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } قال : بين لكل شيء من خلقه صلاحه وجعل ذلك بقدر معلوم { واتخذوا من دونه آلهة } قال : هي الأوثان التي تعبد من دون الله { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } وهو الله الخالق الرازق وهذه الأوثان تخلق ولا تخلق شيئا ولا تضر ولا تنفع ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا : يعني بعثا { وقال الذين كفروا } هذا قول مشركي العرب { إن هذا إلا إفك } هو الكذب { افتراه وأعانه عليه } أي على حديثه هذا وأمره { قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين } كذب الأولين وأحاديثهم (4/90)
لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال 7 - { وقالوا مال هذا الرسول } وفي الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه وهو رسول الله صلى الله عليه و سلم وسموه استهزاء وسخرية { يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } أي ما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الطعام والكسب وما الاستفهامية في محل رفع على الابتداء والاستفهام للاستنكار وخبر المبتدأ لهذا الرسول وجملة يأكل في محل نصب على الحال وبها تتم فائدة الإخبار كقوله : { فما لهم عن التذكرة معرضين } والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقق المسبب وهو الأكل والمشي ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكما واستهزاء والمعنى : أنه إن صح ما يدعيه من النبوة فما باله لم يخالف حاله حالنا { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } طلبوا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم مصحوبا بملك يعضده ويساعده تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى الله عليه و سلم ملكا مستغنيا عن الأكل والكسب إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ويشهد له بالرسالة قرأ الجمهور { فيكون } بالنصب على كونه جواب التحضيض وقرئ فيكون بالرفع على أنه معطوف على أنزل وجاز عطفه على الماضي لأن المراد به المستقبل (4/91)
8 - { أو يلقى إليه كنز } معطوف على أنزل ولا يجوز عطفه على يكون معه كنز يلقى إليه من السماء ليستغني به عن طلب الرزق { أو تكون له جنة يأكل منها } قرأ الجمهور { تكون } بالمثناة الفوقية وقرأ الأعمش وقتادة يكون بالتحتية لأن تأنيث الجنة غير حقيقي وقرأ { نأكل } بالنون حمزة وعلي وخلف وقرأ الباقون { يأكل } بالمثناة التحتية : أي بستان نأكل نحن من ثماره أو يأكل هو وحده منه ليكون له بذلك مزية علينا حيث يكون أكله من جنته قال النحاس : والقراءتان حسنتان وإن كانت القراءة بالياء أبين لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه و سلم وحده فعود الضمير إليه بين { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } المراد بالظالمون هنا هم القائلون بالمقالات الأولى وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به : أي ما تتبعون إلا رجلا مغلوبا على عقله بالسحر وقيل ذا سحر وهي الرئة : أي بشرا له رئة لا ملكا وقد تقدم بيان مثل هذا في سبحان (4/91)
9 - { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } ليتوصلوا بها إلى تكذيبك والأمثال هي الأقوال النادرة والاقتراحات الغريبة وهي ما ذكروه هاهنا { فضلوا } عن الصواب فلا يجدون طريقا إليه ولا وصلوا إلى شيء منه بل جاءوا بهذه المقالات الزائفة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء وأقلهم تمييزا ولهذا قال : { فلا يستطيعون سبيلا } أي لا يجدون إلى القدح في نبوة هذا النبي طريقا من الطرق (4/92)
10 - { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك } أي تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلا خيرا من ذلك الذي اقترحوه ثم فسر الخير فقال : { جنات تجري من تحتها الأنهار } فجنات بدل من خيرا { ويجعل لك قصورا } معطوف على موضع جعل وهو الجزم وبالجزم قرأ الجمهور وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع { يجعل } على أنه مستأنف وقد تقرر في علم الإعراب أن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع فجاز أن يكون جعل هاهنا في محل جزم ورفع فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع وقرئ بالنصب وقرئ بإدغام لام لك في لام يجعل لاجتماع المثلين وقرئ بترك الإدغام لأن الكلمتين منفصلتان والقصر البيت من الحجارة لأن الساكن به مقصور عن أن يوصل إليه وقيل هو بيت الطين وبيوت الصوف والشعر ثم أضرب سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء (4/92)
11 - { بل كذبوا بالساعة } أي بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها ثم ذكر سبحانه ما أعده لمن كذب بالساعة فقال : { وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا } أي نارا مشتعلة متسعرة والجملة في محل نصب على الحال : أي بل كذبوا بالساعة والحال أنا أعتدنا قال أبو مسلم : أعتدنا : أي جعلناه عتيدا ومعدا لهم (4/92)
12 - { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيرا لأنه مؤنث بمعنى النار قيل معنى إذا رأتهم : إذا ظهرت لهم فكانت بمرأى الناظر في البعد وقيل المعنى : إذا رأتهم خزنتها وقيل إن الرؤية منها حقيقية وكذلك التغيظ والزفير ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك ومعنى { من مكان بعيد } أنها رأتهم وهي بعيدة عنهم قيل بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام ومعنى التغيظ : أن الصوت الذي يسمع من الجوف قال الزجاج : المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت : أي سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ وقال قطرب : أراد عملوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا كما قال الشاعر :
( متقلدا سيفا ورمحا )
أي وحاملا رمحا وقيل المعنى : سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين كما قال : { لهم فيها زفير وشهيق } وفي اللام متقاربان تقول : افعل هذا في الله ولله (4/92)
13 - { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا } وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدة وتناهي البلاء عليهم وانتصاب { مقرنين } على الحال : أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد وقيل مكتفين وقيل قرنوا مع الشياطين : أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم { دعوا هنالك } أي في ذلك المكان الضيق { ثبورا } أي هلاكا قال الزجاج : وانتصابه على المصدرية : أي ثبرنا ثبورا وقيل منتصب على أنه مفعول له والمعنى : أنهم يتمنون هنالك الهلاك وينادونه لما حل بهم من البلاء (4/93)
فأجيب عليهم بقوله : 14 - { لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا } أي فيقال لهم هذه المقالة والقائل لهم هم الملائكة : أي اتركوا دعاء ثبور واحد فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك وأعظم كذا قال الزجاج { وادعوا ثبورا كثيرا } والثبور مصدر يقع على القليل والكثير فلهذا لم يجمع ومثله ضربته ضربا كثيرا وقعد قعودا طويلا فالكثرة هاهنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نسبه فإنه شيء واحد والمعنى : لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب أشد من ذلك لطول مدته وعدم تناهيه وقيل هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول وقيل إن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه ثم وبخهم الله سبحانه توبيخا بالغا على لسان رسوله (4/93)
فقال : 15 - { قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون } والإشارة بقوله ذلك إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة : أي أتلك السعير خير أم جنة الخلد وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها وعدم انقطاعه ومعنى { التي وعد المتقون } التي وعدها المتقون والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلاص لأن العرب قد تقول ذلك ومنه ما حكاه سيبويه عنهم أنهم يقولون : السعادة أحب إليك أم الشقاوة ؟ وقيل : ليس هذا من باب التفضيل وإنما هو كقولك : عنده خير قال النحاس : وهذا قول حسن كما قال :
( أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء )
ثم قال سبحانه : { كانت لهم جزاء ومصيرا } أي كانت تلك الجنة للمتقين جزاء على أعمالهم ومصيرا يصيرون إليه (4/94)
16 - { لهم فيها ما يشاؤون } أي ما يشاءونه من النعيم وضروب الملاذ كما في قوله : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } وانتصاب خالدين على الحال وقد تقدم تحقيق معنى الخلود { كان على ربك وعدا مسؤولا } أي كان ما يشاءونه وقيل كان الخلود وقيل كان الوعد المدلول عليه بقوله : وعد المتقون ومعنى الوعد المسؤول : الوعد المحقق بأن يسأل ويطلب كما في قوله : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } وقيل إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله : { وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } وقيل المراد به الوعد الواجب وإن لم يسأل
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس [ أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك قال : فجاءهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسودك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بي مما تقولون ما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا عليك أو قالوا : فإذا لم تفعل هذا فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بغثني بشيرا ونذيرا فأنزل الله في ذلك { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام } { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا } ] أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن خيثمة قال : قيل للنبي صلى الله عليه و سلم : إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ولا نعطها أحدا بعدك ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئا وإن شئت جمعتها لك في الآخرة فقال : اجمعوها لي في الآخرة فأنزل الله سبحانه : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } وأخرج نحوه عنه ابن مردويه من طريق أخرى وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من يقل علي ما لم أقل أو ادعى إلى غير والديه أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول : { إذا رأتهم من مكان بعيد } ] وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله : { إذا رأتهم من مكان بعيد } قال : من مسيرة مائة عام وذلك إذا أتي بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر { سمعوا لها تغيظا وزفيرا } تزفر زفرة لا تبقي قطرة من دمع إلا بدت ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها وتبلغ القلوب الحناجر وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن قول الله : { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين } قال : والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { دعوا هنالك ثبورا } قال : ويلا { لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا } يقول : لا تدعوا اليوم ويلا واحدا وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث قال السيوطي بسند صحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أول من يكسى حلته من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على الناس فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ] وإسناد أحمد فذكره وفي علي بن زيد بن جدعان مقال معروف وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { كان على ربك وعدا مسؤولا } يقول : سلموا الذي وعدكم تنجزوه (4/94)
قوله : 17 - { يوم نحشرهم } الظرف منصوب بفعل مضمر : أي واذكر وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد كما مر مرارا قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في الآية الدوري { يحشرهم } بالياء التحتية واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله في أول الكلام { كان على ربك } والباقون بالنون على التعظيم ما عدا الأعرج فإنه قرأ نحشرهم بكسر الشين في جميع القرآن قال ابن عطية : هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضمها ورده أبو حبان باستواء المضموم والمكسور إلا أن يشتهر أحدهما اتبع { وما يعبدون من دون الله } معطوف على مفعول نحشر وغلب غير العقلاء من الأصنام والأوثان ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيها على أنها جميعا مشتركة في كونها غير صالحة لكونها آلهة أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر ممن يعبد من يعقل منها فغلبت اعتبارا بكثرة من يعبدها وقال مجاهد وابن جريج : المراد الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير بدليل خطابهم وجوابهم فيما بعد وقال الضحاك وعكرمة والكلبي : المراد الأصنام خاصة وإنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم فإن الله سبحانه يجعلها يوم القيامة سامعة ناطقة { فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } قرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن كثير وحفص فنقول بالنون وقرأ الباقون بالياء التحتية واختارها أبو عبيد كما اختار القراءة بها في نحشرهم وكذا أبو حاتم والاستفهام في قوله : ءأنتم أضللتم للتوبيخ والتقريع والمعنى : أكان ضلالهم بسببكم وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب (4/97)
وجملة 18 - { قالوا سبحانك } مستأنفة جواب سؤال مقدر ومعنى سبحانك : التعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة أو أنبياء معصومين أو جمادات لا تعقل : أي تنزيها لك { ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } أي ما صح ولا استقام لنا أن نتخذ من دونك أولياء فنعبدهم فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك والولي يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع هذا معنى الآية على قراءة الجمهور نتخذ مبنيا للفاعل وقرأ الحسن وأبو جعفر { نتخذ } مبنيا للمفعول : أي ما كان ينبغي لنا أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر : لا تجوز هذه القراءة ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية قال أبو عبيدة : لا تجوز هذه القراءة لأن الله سبحانه ذكر من مرتين ولو كان كما قرأ لقال : أن نتخذ من دونك أولياء وقيل إن من الثانية زائدة ثم حكى عنهم سبحانه بانهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان فقال : { ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر } وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل ولم يضلهم غيرهم والمعنى : ما أضللناهم ولكنك يا رب متعتهم ومتعت آباءهم بالنعم ووسعت عليهم الرزق وأطلت لهم العمر حتى غفلوا عن ذكرك ونسوا موعظتك والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك وغرائب مخلوقاتك وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ ينبغي مبنيا للمفعول قال ابن خالويه : زعم سيبويه أنها لغة وقيل المراد بنسيان الذكر هنا هو ترك الشكر { وكانوا قوما بورا } أي وكان هؤلاء الذين أشركوا بك وعبدوا غيرك في قضائك الأزلي قوما بورا : أي هلكى مأخوذ من البوار وهو الهلاك : يقال : رجل بائر وقوم بور يستوي فيه الواحد والجماعة لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير ويجوز أن يكون جمع بائر وقيل البوار الفساد يقال بارت بضاعته : أي فسدت وأمر بائر : أي فاسد وهي لغة الأزد وقيل المعنى : لا خير فيهم مأخوذ من بوار الأرض وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير وقيل إن البوار الكساد ومنه بارت السلعة إذا كسدت (4/97)
19 - { فقد كذبوكم بما تقولون } في الكلام حذف والتقدير : فقال الله عند تبري المعبودين مخاطبا للمشركين العابدين لغير الله فقد كذبوكم : أي فقد كذبكم المعبودون بما تقولون : أي في قولكم إنهم آلهة { فلا يستطيعون } أي الآلهة { صرفا } أي دفعا للعذاب عنكم بوجه من الوجوه وقيل حيلة { ولا نصرا } أي ولا يستطيعون نصركم وقيل المعنى فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفا للعذاب الذي عذبهم الله به ولا نصرا من الله وهذا الوجه مستقيم على قراءة من قرأ { تستطيعون } بالفوقية وهي قراءة حفص وقرأ الباقون بالتحتية وقال ابن زيد : المعنى : فقد كذبوكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وعلى هذا فمعنى بما تقولون : ما تقولونه من الحق وقال أبو عبيد : المعنى فما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إلأيه ولا نصرا لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم وقرأ الجمهور { بما تقولون } بالتاء الفوقية على الخطاب وحكى الفراء أنه يجوز أن يقرأ فقد كذبوكم مخففا بما يقولون : أي كذبوكم في قولهم وكذا قرأ بالياء التحتية مجاهد والبزي { ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا } هذا وعيد لكل ظالم ويدخل تحته الذين فيهم السياق دخولا أوليا والعذاب الكبير عذاب النار وقرئ يذقه بالتحتية وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحا لبطلان ما تقدم من قوله : يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (4/98)
فقال : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } قال الزجاج : الجملة اواقعة بعد إلا صفة لموصوف محذوف والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا أكلين وماشين وإنما حذ الموصوف لأن في قوله من المرسلين دليلا عليه نظيره { وما منا إلا له مقام معلوم } أي وما منا أحد وقال الفراء لا محل لها من الإعراب وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول والتقدير : إلا من أنهم فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى المقدرة ومثله قوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها } أي إلا من يردها وبه قرأ االكسائي قال الزجاج : هذا خطأ لأن من الموصولة لا يجوز حذفها وقال ابن الأنباري : إنها في محل نصب على الحال والتقدير : إلا وإنهم فالمحذوف عنده الواو قرأ الجمهور { إلا إنهم } بكسر إن لوجود اللام في خبرها كما تقرر في علم النحو وهو مجمع عليه عندهم قال النحاس : إلا أن علي بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال : يجوز في إن هذه الفتح وإن كان بعدها اللام وأحسبه وهما وقرأ الجمهور { يمشون } بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين وقرأ علي و ابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة وهي بمعنى القراءة الأولى قال الشاعر :
( أمشي بأعطان المياه وأتقي ... قلائص منها صعبة وركوب )
وقال كعب بن زهير :
( منه تظل سباع الحي ضامزة ... ولا تمشي بواديه الأراجيل )
{ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } هذا الخطاب عام للناس وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير وقيل المراد بالبعض الأول كفار الأمم وبالبعض الثاني المرسل ومعنى الفتنة الابتلاء والمحنة والأول لأولى فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به فالمريض يقول لم لم أجعل كالصحيح ؟ وكذا كل صاحب آفة والصحيح مبتلى بالمريض فلا يضجر منه ولا يحقره والغني مبتلى بالفقير يواسيه والفقير مبتلى بالغني يحسده ونحو هذا مثله وقلي المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف وقال لا أسلم بعده فيكون له علي السابقة والفضل فيقيم على كفره فذلك افتتان بعضهم لبعض واختار هذا الفراء والزجاج ولا وجه لقصر الآية على هذا فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة { أتصبرون } هذا الاستفهام للتقرير وفي الكلام حذف تقديره أم لا تصبرون : أي أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة والابتلاء العظيم قيل موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله : { أيكم أحسن عملا } في قوله : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ثم وعد الصابرين بقوله : { وكان ربك بصيرا } أي بكل من يصبر ومن لا يصبر فيجازي كلا منهما بما يستحقه وقيل معنى أتصبرون : اصبروا مثل قوله : { فهل أنتم منتهون } أي انتهوا (4/99)
21 - { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة والجملة معطوفة على { وقالوا مال هذا } أي وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر :
( لعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي )
أي لا أبالي وقيل المعنى لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر :
( إذا لسعته النحل لم يرجو لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل )
أي لم يخف وهي لغة تهامة قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف وقيل لا يأملون ومنه قول الشاعر :
( أترجو ... أمة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب )
الحمل على المعنى الحقيقي أولى فالمعنى : لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب ومعلوم أن من لا يرجوا الثواب لا يخاف العقاب { لولا أنزل علينا الملائكة } أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا أن محمدا صادق أو هلا أنزلوا علينا رسلا يرسلهم الله { أو نرى ربنا } عيانا فيخبرنا بأن محمدا رسول ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه فقال : { لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا } أي أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله : { إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } والعتو مجاوزة الحد في الطغيان والبلوغ إلى أقصى غاياته ووصفة بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغا هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله أو تعد من المستعدين له وهكذا من جهل قدر نفسه ولم يقف عند حده ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لم يرى (4/100)
وانتصاب 22 - { يوم يرون الملائكة } بفعل محذوف : أي واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه والصورة التي اقترحوها بل على وجه آخر وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت أو عند الحشر ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدل عليه قوله : { لا بشرى يومئذ للمجرمين } أي يمنعون البشرى يوم يرون أو لا توجد لهم بشرى فيه فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة وهو وقت الموت أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى قال الزجاج : المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله { ويقولون حجرا محجورا } أي ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة حجرا محجورا وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة يقال للرجل أتفعل كذا ؟ فيقول حجرا محجورا : أي حراما عليك التعرض لي وقيل إن هذا من قول الملائكة : أي يقولون للكفار حراما محرما أن يدخل أحدكم الجنة ومن ذلك قول الشاعر :
( ألا أصبحت أسماء حجرا محرما ... وأصبحت من أدنى حمومتها حماء )
أي أصبحت أسماء محرما وقال آخر :
( حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام إلا تلك الدهاريس )
وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة وجعلها من جملتها (4/101)
23 - { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } هذا وعيد آخر وذلك أنهم كانوا يعلمون أعملالا لها صورة الخير : من صلة الرحم وإغاثة الملهوف وإطعام الطعام وأمثالها ولم يمنع من الإثابة عليها إلا الكفر الذي هم عليه فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى ما معهم من المتاع فأفسده ولم يترك منها شيئا وإلا فلا قدوم ها هنا قال الواحدي : معنى قدمنا عمدنا وقصدنا يقال : قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده ومنه قول الشاعر :
( وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا )
( إن دماءكم لنا حلال )
وقيل هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى والهباء واحده هباءة والجمع أهباء قال النضر بن شميل : الهباء التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان وقال الزجاج : هو ما يدخل في الكوة مع ضوء الشمس يشبه الغبار وكذا قال الأزهري : والمنثور المفرق والمعنى : أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرق متبدد وقيل إن الهباء ما أذرته الرياح من يابس أوراق الشجر وقيل هو الماء المهراق وقيل الرماد والأول هو الذي ثبت في لغة العرب ونقله العارفون بها ثم مير سبحانه حال الأبرار من حال الفجار (4/101)
فقال : 24 - { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } أي أفضل منزلا في الجنة { وأحسن مقيلا } أ ] موضع قائلة وانتصاب مستقرا على التمييز قال الأزهري : القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك يوم قال النحاس : والكوفيون يجيزون : العسل أحلى من الخل
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { يوم نحشرهم } الآية قال : عيسى وعزير والملائكة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { قوما بورا } قال : هلكى وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله : { ومن يظلم منكم } قال : هو الشرك وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : يشرك وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } يقول : إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه و سلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } قال : بلاء وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } قال : يقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان ويقول السقيم لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان ويقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وعتوا عتوا كبيرا } قال : شدة الكفر وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { يوم يرون الملائكة } قال : يوم القيامة وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية العوفي نحوه وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { ويقولون حجرا محجورا } قال : عوذا معاذا الملائكة تقوله وفي لفظ قال : حراما محرما أن تكون البشرى في اليوم إلا للمؤمنين وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في قوله : { ويقولون حجرا محجورا } قال : حراما محرما أن نبشركم بما نبشر به المتقين وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة { ويقولون حجرا محجورا } قالا : هي كلمة كانت العرب تقولها كان الرجل إذا نزلت به شدة قال : حجرا محجورا حراما محرما وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل } قال : عمدنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله : { هباء منثورا } قال : الهباء شعاع الشمس الذي يخرج من الكوة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر فإذا وقع لم يكن شيئا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : هو ما تسفي الريح وتبثه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : هو الماء المهراق وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا { خير مستقرا وأحسن مقيلا } قال : في الغرف من الجنة وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : لا ينصرف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } (4/102)
قوله : 25 - { ويوم تشقق السماء بالغمام } وصف سبحانه ها هنا بعض حوادث يوم القيامة والتشقق التفتح قرأ عاصم والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وأبو عمرو { تشقق } بتخفيف الشين وأصله تتشقق وقرأ الباقون بتشديد الشين على الإدغام واختار القراءة الأولى أبو عبيد واختار الثانية أبو حاتم ومعنى تشققها بالغمام : أنها تتشقق عن الغمام قال أبو علي الفارسي : تشقق السماء وعليها غمام كما تقول : ركب الأمير بسلاحه : أي وعليه سلاحه وخرج بثيابه : أي وعليه ثيابه ووجه ما قاله أن الباء وعن يتعاقبان كما تقول : رميت بالقوس وعن القوس وروي أن السماء تتشقق عن سحاب رقيق أبيض وقيل إن السماء تتشقق بالغمام الذي بينها وبين الناس والمعنى : أنه يتشقق السحاب بتشقق السماء وقيل إنها تشقق لنزول الملائكة كما قال سبحانه بعد هذا { ونزل الملائكة تنزيلا } وقيل إن الباء في بالغمام سببية : أي بسبب الغمام يعني بسبب طلوعه منها كأنه الذي تتشقق به السماء وقيل إن الباء متعلقة بمحذوف : أي متلبسة بالغمام قرأ ابن كثير { ننزل الملائكة } مخففا من الإنزال بنون بعدها نون ساكنة وزاي مخففة بكسرة مضارع أنزل والملائكة منصوبة على المفعولية وقرأ الباقون من السبعة { ونزل } بضم النون وكسر الزاي المشددة ماضيا مبنيا للمفعول وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء نزل بالتشديد ماضيا مبنيا للفاعل وفاعله الله سبحانه وقرأ أبي بن كعب أنزل الملائكة وروي عنه أنه قرأ تنزلت الملائكة وقد قرئ في الشواذ بغير هذه وتأكيد هذا الفعل بقوله تنزيلا يدل على أن هذا التنزيل على نوع غريب ونمط عجيب قال أهل العلم : إن هذا تنزيل رضا ورحمة لا تنزيل سخط وعذاب (4/104)
26 - { الملك يومئذ الحق للرحمن } الملك مبتدأ والحق صفة له وللرحمن الخبر كذا قال الزجاج : أي الملك الثابت الذي لا يزول للرحمن يومئذ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك في الحقيقة وفائدة التقييد بالظرف أن ثبوت الملك المذكور له سبحانه خاصة في هذا اليوم وأما فيما عداه من أيام الدنيا فلغيره ملك في الصورة وإن لم يكن حقيقيا وقيل إن خبر المبتدأ هو الظرف والحق نعت للملك والمعنى : الملك الثابت للرحمن خاص في هذا اليوم { وكان يوما على الكافرين عسيرا } أي وكان هذا اليوم مع كون الملك فيه لله وحده شديدا على الكفار لما يصابون به فيه وينالهم من العقاب بعد تحقيق الحساب وأما على المؤمنين فهو يسير غير عسير لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة (4/104)
26 - { ويوم يعض الظالم على يديه } الظرف منصوب بمحذوف : أي واذكر كما انتصب بهذا المحذوف الظرف الأول أعني يوم تشقق ويوم يعض الظالم على يديه الظاهر أن العض هنا حقيقة ولا مانع من ذلك ولا موجب لتأويله وقيل هو كناية عن الغيظ والحسرة والمراد بالظالم كل ظالم يرد ذلك المكان وينزل ذلك المنزل ولا ينافيه ورود الآية على سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب { يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } يقول في محل نصب على الحال ومقول القول هو : يا ليتني إلخ والمنادى محذوف : أي يا قوم ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا طريقا وهو طريق الحق ومشيت فيه حتى أخلص من هذه الأمور المضلة والمراد اتباع النبي صلى الله عليه و سلم فيما جاء به (4/104)
28 - { يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } دعاء على نفسه بالويل والثبور على مخاللة الكافر الذي أضله في الدنيا وفلان كناية عن الأعلام قال النيسابوري : زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية لا يقال جاءني فلان ولكن يقال : قال زيد جاءني فلان لأنه اسم اللفظ الذي هو علم الاسم وكذلك جاء في كلام الله وقيل فلان كناية عن علم ذكور من يعقل وفلانة عن علم إناثهم وقيل كناية عن نكرة من يعقل من الذكور وفلانة عمن يعقل من الإناث وأما الفلان والفلانة فكناية عن غير العقلاء وفل يختص بالنداء إلا في ضرورة كقول الشاعر :
( في لجة أمسك فلانا عن فل )
وقوله :
( حدثاني عن فلان وفل )
وليس فل مرخما من فلان خلافا للفراء وزعم أبو حيان أن ابن عصفور وابن مالك وهما في جعل فلان كناية علم من يعقل وقرأ الحسن يا ويلتي بالياء الصريحة وقرأ الدوري بالإمالة قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن لأن أصل هذه اللفظة الياء فأبدلت الكسرة فتحة والياء تاء فرارا من الياء فمن أمال رجع إلى الذي فر منه (4/105)
29 - { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني } أي والله لقد أضلني هذا الذي اتخذته خليلا عن القرآن أو عن الموعظة أو كلمة الشهادة أو مجموع ذلك بعد إذ جاءني وتمكنت منه وقدرت عليه { وكان الشيطان للإنسان خذولا } الخذل ترك الإغاثة ومنه خذلان إبليس للمشركين حيث يوالونه ثم يتركهم عند استغاثتهم به وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى أو من تمام كلام الظالم وأنه سمى خليله شيطانا بعد أن جعله مضلا أو أراد بالشيطان إبليس لكونه الذي حلمه على مخاللة المضلين (4/105)
30 - { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } معطوف على { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } والمعنى إن قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به إليهم وأمرتني بإبلاغه وأرسلتني به مهجورا متروكا لم يؤمنوا به ولا قبلوه بوجه من الوجوه وقيل هو من هجر إذا هدي والمعنى : أنهم اتخذوه هجرا وهذيانا وقيل معنى مهجورا مهجورا فيه ثم حذف الجار وهجرهم فيه قولهم : إنه سحر وشعر وأساطير الأولين وهذا القول يقوله الرسول صلى الله عليه و سلم يوم القيامة وقيل إنه حكاية لقوله صلى الله عليه و سلم في الدنيا (4/105)
31 - { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } هذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه و سلم والمعنى : أن الله سبحانه جعل لكل نبي من الأنبياء الداعين إلى الله عدوا يعاديه من مجرمي قومه فلا تجزع يا محمد فإن هذا دأب الأنبياء قبلك واصبر كما صبروا { وكفى بربك هاديا ونصيرا } قال المفسرون : الباء زائدة : أي كفى ربك وانتصاب نصيرا وهاديا على الحال أو التمييز : أي يهدي عباده إلى مصالح الدين والدنيا وينصرهم على الأعداء (4/106)
32 - { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } هذا من جملة اقتراحاتهم وتعنتاتهم : أي هلا نزل الله علينا هذا القرآن دفعة واحدة غير منجم واختلف في قائل هذه المقالة فقيل كفار قريش وقيل اليهود قالوا : هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور ؟ وهذا زعم باطل ودعوى داحضة فإن هذه الكتب نزلت مفرقة كما نزل القرآن ولكنهم معاندون أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه ثم رد الله سبحانه عليهم فقال : { كذلك لنثبت به فؤادك } أي نزلنا القرآن كذلك مفرقا والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم : أي مثل ذلك التنزيل المفرق الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه لنقوي بهذا التنزيل على هذه الصفة فؤادك فإن إنزاله مفرقا منجما على حسب الحوادث أقرب إلى حفظك له وفهمك لمعانيه وذلك من أعظم أسباب التثبيت واللام متعلقة بالفعل المحذوف الذي قدرناه وقال أبو حاتم : إن الأخفش قال : إنها جواب قسم محذوف قال : وهذا قول مرجوح وقرأ عبد الله ليثبت بالتحتية : أي الله سبحانه وقيل إن هذه الكلمة : أعني كذلك ثم يبتدأ بقوله : { لنثبت به فؤادك } على معنى أنزلناه عليك متفرقا لهذا الغرض قال ابن الأنباري : وهذا أجود وأحسن قال النحاس : وكان ذلك : أي إنزال القرآن منجما من أعلام النبوة لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه وهذا لا يكون إلا من نبي فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم { ورتلناه ترتيلا } هذا معطوف على الفعل المقدر : أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا ومعنى الترتيل : أن يكون آية بعد آية قال النخعي والحسن وقتادة وقيل : إن المعنى بيناه تبيينا حكي هذا عن ابن عباس وقال مجاهد : بعضه في إثر بعض وقال السدي : فصلناه تفصيلا قال ابن الأعرابي : ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كل أوان مدفوع قولهم بكل وجه وعلى كل حالة (4/106)
فقال : 33 - { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } أي لا يأتيك يا محمد المشركون بمثل من أمثالهم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة إلا جئناك في مقابلة مثلهم بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاءوا به من المثل ويدمغه ويدفعه فالمراد بالمثل هنا : السؤال والاقتراح وبالحق جوابه الذي يقطع ذريعته ويبطل شبهته ويحسم مادته ومعنى { أحسن تفسيرا } جئناك بأحسن تفسير فأحسن تفسيرا معطوف على الحق والاستثناء بقوله : { إلا جئناك } مفرغ والجملة في محل نصب على الحال : أي لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك ذلك ثم أوعد هؤلاء الجهلة وذمهم (4/107)
فقال : 34 - { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم } أي يحشرون كائنين على وجوههم والموصول مبتدأ وخبره : أولئك أو هو خبر مبتدأ محذوف : أي هم الذين ويجوز نصبه على الذم ومعنى يحشرون على وجوههم : يسحبون عليها إلى جهنم { أولئك شر مكانا } أي تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان وقد قيل إن هذا متصل بقوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا }
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله : { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } قال : يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد : الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق فيقول أهل الأرض : أفيكم ربنا ؟ فيقولون لا ثم تنشق السماء الثانية وذكر مثل ذلك ثم كذلك في كل سماء إلى السماء السابعة وفي كل سماء أكثر من السماء التي قبلها ثم ينزل ربنا في ظل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السموات السبع والإنس والجن وجميع الخلق لهم قرون ككعوب القثاء وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى ما بين إخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ومن ركبته إلى فخذه مسيرة خمسمائة عام ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام وإسناده عند ابن جرير هكذا : قال حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج بن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس فذكره وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد هكذا : قال حدثنا محمد بن عمار بن الحرث مأمول حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد به وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بسند قال السيوطي : صحيح من طريق سعيد بن جبر عن ابن عباس : أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه و سلم بمكة لا يؤذيه وكان رجلا حليما وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام فقالت قريش : صبأ أو معيط وقدم خليله من الشام ليلا فقال لامرأته : ما فعل محمد مما كان عليه ؟ فقالت : أشد ما كان أمرا فقال : ما فعل خليلي أبو معيط ؟ فقالت : صبأ فبات بليلة سوء فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه فلم يرد عليه التحية فقال : مالك لا ترد علي تحيتي ؟ فقال : كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت ؟ قال : أو قد فعلتها قريش ؟ قال نعم قال : فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته ؟ قال : تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم ففعل فلم يرد رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن مسح وجهه من البزاق ثم التفت إليه فقال : إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه : اخرج معنا قال : وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرا فقالوا : لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم فلما هزم الله المشركين وحمل به جمله في جدود من الأرض فأخذه رسول الله صلى الله عليه و سلم أسيرا في سبعين من قريش وقدم إليه أبو معيط فقال : أتقتلني من بين هؤلاء ؟ قال : نعم بما بزقت في وجهي فأنزل الله في أبي معيط { ويوم يعض الظالم على يديه } إلى قوله : { وكان الشيطان للإنسان خذولا } وأخرج أبو نعيم هذه القصة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وذكر أن خليل أبي معيط : هو أبي بن خلف وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضا في قوله : { ويوم يعض الظالم على يديه } قال : أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط وهما الخليلان في جهنم وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } قال : كان عدو النبي صلى الله عليه و سلم أبو جهل وعدو موسى قارون وكان قارون ابن عم موسى وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : قال المشركون : لو كان محمد كما يزعم نبيا فلم يعذبه ربه ؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } إلى { وأضل سبيلا } وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { لنثبت به فؤادك } قال : لنشدد به فؤادك ونربط على قلبك { ورتلناه ترتيلا } قال : رسلناه ترسيلا يقول شيئا بعد شيء { ولا يأتونك بمثل } يقول : لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عنده ما يجيب ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت (4/107)
اللام في قوله : 35 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } جواب قسم محذوف : أي والله لقد آتينا موسى التوراة ذكر سبحانه صرفا من قصص الأولين تسلية له صلى الله عليه و سلم بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين بالله وليس ذلك بخاص بمحمد صلى الله عليه و سلم و { هارون } عطف بيان ويجوز أن ينصب على القطع و { وزيرا } المفعول الثاني وقيل حال والمفعول الثاني معه والأول أولى قال الزجاج : الوزير في اللغة الذي يرجع غليه ويعمل برأيه والوزر ما يعتصم به ومنه { كلا لا وزر } وقد تقدم تفسير الوزير في طه والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضا وقد كان هارون في أول الأمر وزيرا لموسى (4/109)
ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما 36 - { اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا } وهم فرعون وقومه والآيات هي التسع التي تقدم ذكرها وإن لم يكونوا قد كذبوا بها عند أمر الله لموسى وهارون بالذهاب بل كان التكذيب بعد ذلك لكن هذا الماضي بمعنى المستقبل على عادة إخبار الله : أي اذهبا إلى القوم الذين يكذبون بآياتنا وقيل إنما وصفوا بالتكذيب عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه و سلم بيانا لعلة استحقاقهم للعذاب وقيل يجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا وقيل إن المراد بوصفهم بالتكذيب عند الإرسال أنهم كانوا مكذبين للآيات الإلهية وليس المراد آيات الرسالة قال القشيري : وقوله تعالى في موضع آخر { اذهب إلى فرعون إنه طغى } لا ينافي هذا لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور ويمكن أن يقال إن تخصيص موسى بالخطاب في بعض المواطن لكونه الأصل في الرسالة والجمع بينهما في الخطاب لكونهما مرسلين جميعا { فدمرناهم تدميرا } في الكلام حذف : أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم : أي أهلكناهم إثر ذلك التكذيب إهلاكا عظيما وقيل إن المراد بالتدمير هنا : الحكم به لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم بل بعده بمدة (4/109)
37 - { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } في نصب قوم أقوال : العطف على الهاء والميم في دمرناهم أو النصب بفعل محذوف أي اذكر أو بفعل مضمر يفسره ما بعده وهو أغرقناهم : أي أغرقنا قوم نوح أغرقناهم وقال الفراء : هو منصوب بأغرقناهم المذكور بعده من دون تقدير مضمر يفسره ما بعده ورده النحاس بأن أغرقنا لا يتعدى إلى مفعولين حتى يعمل في الضمير المتصل به وفي قوم نوح ومعنى { لما كذبوا الرسل } أنهم كذبوا نوحا وكذبوا من قبله من رسل الله وقال الزجاج : من كذب نبيا فقد كذب جميع الأنبياء وكان إغراقهم بالطوفان كما تقدم في هود { وجعلناهم للناس آية } أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم للناس آية : أي عبرة لكل الناس على العموم يتعظ بها كل مشاهد لها وسامع لخبرها { وأعتدنا للظالمين } المراد بالظالمين قوم نوح على الخصوص ويجوز أن يكون المراد كل من سلك مسلكهم في التكذيب والعذاب الأليم : هو عذاب الآخرة (4/110)
وانتصاب 38 - { عادا } بالعطف على قوم نوح وقيل على محل الظالمين وقيل على مفعول جعلناهم { وثمود } معطوف على عادا وقصة عاد وثمود قد ذكرت فيما سبق { وأصحاب الرس } الرس في كلام العرب : البئر التي تكون غير مطوية والجمع رساس كذا قال أبو عبيدة ومنه قول الشاعر :
( وهم سائرون إلى أرضهم ... تنابلة يخفرون الرساسا )
قال السدي : هي بئر بإنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار فنسبوا إليها وهو صاحب يس الذي قال { قال يا قوم اتبعوا المرسلين } وكذا قال مقاتل وعكرمة وغيرهما وقيل هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياءهم فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا وقيل كانوا يعبدون الشجر وقيل كانوا يعبدون الأصنام فأرسل الله عليهم شعيبا فكذبوه وآذوه وقيل هم قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه وقيل هم أصحاب الأخدود وقيل إن الرس : هي البئر المعطلة التي تقدم ذكرها وأصحابها أهلها وقال في الصحاح : والرس اسم بئر كانت لبقية ثمود وقيل الرس : ماء ونخل لبني أسد وقيل الثلج المتراكم في الجبال والرس : اسم واد ومنه قول زهير :
( بكرن بكورا واستحرن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم )
والرس أيضا : الإصلاح بين الناس والإفساد بينهم فهو من الأضداد وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان وهم الذين ابتلاهم الله بالطائر المعروف بالعنقاء { وقرونا بين ذلك كثيرا } معطوف على ما قبله والقرون جمع قرن : أي أهل قرون والقرن : مائة سنة وقيل مائة وعشرون وقيل القرن أربعون سنة والإشارة بقوله : { بين ذلك } إلى ما تقدم ذكره من الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك (4/110)
39 - { وكلا ضربنا له الأمثال } قال الزجاج : أي وأنذرنا كلا ضربنا لهم الأمثال وبينا لهم الحجة ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة فجعله منصوبا بفعل مضمر يفسره ما بعده لأن حذرنا وذكرنا وأنذرنا في معنى ضربنا ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف وهو الأمم : أي كل الأمم ضربنا لهم الأمثال { و } أما { كلا } الأخرى : فهي منصوبة بالفعل الذي بعدها والتتبير : الإهلاك بالعذاب قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته وقال المؤرج والأخفش : معنى { تبرنا تتبيرا } دمرنا تدميرا أبدلت التاء والباء من الدال والميم (4/111)
40 - { ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء } هذه جملة مستأنفة مبينة لمشاهدتهم لآثار هلاك بعض الأمم والمعنى : ولقد أتوا : أي مشركو مكة على قرية قوم لوط التي أمطرت مطر السوء وهو الحجارة : أي هلكت بالحجارة التي أمطروا بها وانتصاب مطر على المصدرية أو على أنه مفعول ثان : إذ المعنى أعطيتها وأوليتها مطر السوء أو على أنه نعت مصدر محذوف : أي إمطار مثل مطر السوء وقرأ أبو السمال السوء بضم السين وقد تقدم تفسير السوء في براءة { أفلم يكونوا يرونها } الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي يرون القرية المذكورة عند سفرهم إلى الشام للتجارة فإنهم يمرون بها والفاء للعطف على مقدر : أي لم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها { بل كانوا لا يرجون نشورا } أضرب سبحانه عما سبق من عدم رؤيتهم لتلك الآثار إلى عدم رجاء البعث منهم المستلزم لعدم رجائهم للجزاء ويجوز أن يكون معنى يرجون يخافون (4/111)
41 - { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا } أي ما يتخذونك إلا هزؤا : أي مهزوءا بك قصر معاملتهم له على اتخاذهم إياه هزوا فجواب إذا هو إن يتخذونك وقيل الجواب محذوف وهو قالوا { أهذا الذي } وعلى هذا فتكون جملة إن يتخذونك إلا هزؤا معترضة والأول أولى وتكون جملة { أهذا الذي بعث الله رسولا } في محل نصب على الحال بتقدير القول : أي قائلين أهذا إلخ وفي اسم الإشارة دلالة على استحقارهم له وتهكمهم به والعائد محذوف : أي بعثه الله وانتصاب رسولا على الحال : أي مرسلا واسم الإشارة مبتدأ وخبره الموصول (4/111)
وصلته 42 - { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا } أي قالوا : إن كاد هذا الرسول ليضلنا : ليصرفنا عن آلهتنا فنترك عبادتها وإن هنا هي المخففة وضمير الشأن محذوف : أي إنه كاد أن يصرفنا عنها { لولا أن صبرنا عليها } أي حسبنا أنفسنا على عبادتها ثم إنه سبحانه أجاب عليهم فقال : { وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا } أي حين يرون عذاب يوم القيامة الذي يستحقونه ويستوجبونه بسبب كفرهم من هو أضل سبيلا : أي أبعد طريقا عن الحق والهدى أهم أم المؤمنون ؟ ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع الهوى (4/112)
فقال معجبا لرسول الله صلى الله عليه و سلم 43 - { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول علمت منطلقا زيدا : أي أطاع هواه طاعة كطاعة الإله : أي انظر إليه يا محمد وتعجب منه قال الحسن : معنى الآية لا يهوى شيئا إلا اتبعه { أفأنت تكون عليه وكيلا } الاستفهام للإنكار والاستبعاد : أي أفأنت تكون عليه حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من الكفر ولست تقدر على ذلك ولا تطيقه فليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئتك وإنما عليك البلاغ وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بآية القتال ثم انتقل سبحانه من الإنكار الأول إلى إنكار آخر (4/112)
فقال : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } أي أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من آيات القرآن ومن المواعظ أو يعقلون معاني ذلك ويفهمونه حتى تعتني بشأنهم وتطمع في إيمانهم وليسوا كذلك بل هم بمنزلة من لا يسمع ولا يعقل ثم بين سبحانه حالهم وقطع مادة الطمع فيهم فقال : { إن هم إلا كالأنعام } أي ما هم في الانتفاع بما يسمعونه إلا كالبهائم التي هي مسلوبة الفهم والعقل فلا تطمع فيهم فإن فائدة السمع والعقل مفقودة وإن كانوا يسمعون ما يقال لهم ويعقلون ما يتلى عليهم ولكنهم لما لم ينتفعوا بذلك كانوا كالفاقد له ثم أضرب سبحانه عن الحكم عليهم بأنهم كالأنعام إلى ما هو فوق ذلك فقال : { بل هم أضل سبيلا } أي أضل من الأنعام طريقا قال ربهم الذي خلقهم ورزقهم وقيل إنما كانوا أضل من الأنعام لأنه لا حساب عليها ولا عقاب لها وقيل إنما كانوا أضل لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عنادا ومكابرة وتعصبا وغمطا للحق
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا } قال : عونا وعضدا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فدمرناهم تدميرا } قال : أهلكناهم بالعذاب وأخرج ابن جرير عنه قال : الرس قوية من ثمود وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الرس بئر بأذربيجان وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أصحاب الرس قال : صاحب يس الذي { قال يا قوم اتبعوا المرسلين } فرسه قومه في بئر بالأحجار وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود وذلك أن الله بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا ذلك الأسود ثم إن أهل القرية غدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي بحطبه فيبيعه فيشتري به طعاما وشرابا ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة فيعينه الله عليها فيدلي طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت فكان كذلك ما شاء الله أن يكون ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها فلما أراد أن يحملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب على أذنه سنين نائما ثم إنه ذهب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ثم إنه ذهب فاحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ثم ذهب إلى الحفرة في موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بد فاستخرجوه فآمنوا به وصدقوه وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل ؟ فيقولون ما ندري حتى قبض ذلك النبي فأهب الله الأسود من نومته بعد ذلك إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة ] قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراجه : وفيه غرابة ونكارة ولعل فيه إدراجا انتهى الحديث أيضا مرسل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زرارة بن أوفى قال : القرن مائة وعشرون عاما وأخرج هؤلاء عن قتادة قال : القرن سبعون سنة وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة قال : القرن مائة سنة وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ القرن مائة سنة وقال خمسون سنة وقال القرن أربعون سنة ] وما أظنه يصح شيء من ذلك وقد سمى الجماعة من الناس قرنا كما في الحديث الصحيح [ خير القرون قرني ] وأخرج الحاكم في الكنى عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك ثم يقول : كذب النسابون قال الله : { وقرونا بين ذلك كثيرا } ] وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { ولقد أتوا على القرية } قال : هي سدوم قرية لوط { التي أمطرت مطر السوء } قال : الحجارة وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال : كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانا من الدهر في الجاهلية فإذا وجد حجرا أحسن منه رمى به وعبد الآخر فأنزل الله الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال : ذلك الكافر لا يهوى شيئا إلا اتبعه (4/112)
لما فرغ سبحانه من ذكر جهالة الجاهلين وضلالتهم أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الإنعام فأولها الاستدلال بأحوا الظل فقال : 45 - { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } هذه الرؤية إما بصرية والمراد بها ألم تبصر إلى صنع ربك أو ألم تبصر إلى الظل كيف مده ربك وإما قلبية بمعنى العلم فإن الظل متغير وكل متغير حادث ولكل حادث موجد قال الزجاج { ألم تر } ألم تعلم وهذا من رؤية القلب قال : وهذا الكلام على القلب والتقدير : ألم تر إلى الظل كيف مده ربك : يعني الظل من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس وهو ظل لا شمس معه وبه قال الحسن وقتادة وقيل هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها قال أبو عبيدة : الظل بالغداة الفيء بالعشي لأنه يرجع بعد زوال الشمس سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب قال حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة :
( فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق )
وقال ابن السكيت : الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل انتهى وحقيقة الظل أنه أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة وهذا المتوسط هو أعدل من الطرفين لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الكامل لقوته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين ولذلك وصفت الجنة به بقوله { وظل ممدود } وجملة { ولو شاء لجعله ساكنا } معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه : أي شاء لمنع الشمس الطلوع والأول أولى والتعبير بالسكون عن الإقامة والاستقرار سائغ ومنه قولهم : سكن فلان بلد كذا : إذا أقام به واستقر فيه وقوله : { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } معطوف على قوله : مد الظل داخل في حكمه : أي جعلناها علامة يستدل بها بأحوالها ويمتد ويتقلص (4/114)
وقوله : { ثم قبضناه } معطوف أيضا على مد داخل في حكمه والمعنى : ثم قبضنا ذلك الظل الممدود ومحوناه عند إيقاع شعاع الشمس موقعه بالتدريج حتى انتهى ذلك الإظلال إلى العدم والاضمحلال وقيل المراد في الآية قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام النيرة والأول أولى والمعنى : أن الظل يبقى في هذا الجو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرقت على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها فإذا غربت فليس هناك ظل إنما فيه بقية نور النهار وقال قوم : قبضه بغروب الشمس لأنها إذا لم تغرب فالظل فيه بقية وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه وقيل المعنى : ثم قبضنا ضياء الشمس بالفيء { قبضا يسيرا } ومعنى إلينا : أن مرجعه إليه سبحانه كما أن حدوثه منه قبضا يسيرا : أي على تدريج قليلا قليلا بقدر ارتفاع الشمس وقيل يسيرا سريعا وقيل المعنى يسيرا علينا : أي يسيرا قبضه علينا ليس بعسير (4/115)
47 - { وهو الذي جعل لكم الليل لباسا } شبه سبحانه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر قال ابن جرير : وصف الليل باللباس تشبيها من حيث أنه يستر الأشياء ويغشاها واللام متعلقة بجعل { والنوم سباتا } أي وجعل النوم سباتا : أي راحة لكم لأنكم تنقطعون عن الاشتغال وأصل السبات التمدد : يقال سبتت المرأة شعرها : أي نقضته وأرسلته ورجل مسبوت : أي ممدود الخلقة وقيل للنوم ثبات لأنه بالتمدد يكون وفي التمدد معنى الراحة وقيل السبت القطع فالنوم انقطاع عن الاشتغال ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الاشتغال قال الزجاج : السبات النوم وهو أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه : أي جعلنا نومكم راحة لكم وقال الخليل : السبات نوم ثقيل : أي جعلنا نومكم ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة { وجعل النهار نشورا } أي زمان بعث من ذلك السبات شبه اليقظة بالحياة كما شبه النوم بالسبات الشبيه بالممات وقال في الكشاف : إن السبات الموت واستدل على ذلك بكون النشور في مقابلته (4/115)
48 - { وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } قرئ { الريح } وقرئ { بشرا } بالباء الموحدة وبالنون وقدم تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في الأعراف { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } أي يتطهر به كما يقال وضوء للماء الذي يتوضأ به قال الأزهري : الطهور في اللغة الطاهر المطهر والطهور ما يتطهر به قال ابن الأنباري : الطهور بفتح الطاء الاسم وكذلك الوضوء والوقود وبالضم المصدر هذا هو المعروف في اللغة وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة وروي عن أبي حنيفة أنه قال : الطهور هو الطاهر واستدل لذلك بقوله تعالى : { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } يعني طاهرا ومنه قول الشاعر :
( خليلي هل في نظرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي علي فجور )
( إلى رجح الأكفال غيد من الظبى ... عذاب الثنايا ريقهن طهور )
فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر ورجح القول الأول ثعلب وهو راجح لما تقدم من حكاية الأزهري لذلك عن أهل اللغة وأما وصف الشاعر للريق بأنه طهور فهو على طريق المبالغة وعلى كل حال فقد ورد الشرع بأن الماء طاهر في نفسه مطهر لغيره قال الله تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ خلق الماء طهورا ] أولثم ذكر سبحانه علة الإنزال (4/116)
فقال : 49 - { لنحيي به } أي بالماء المنزل من السماء { بلدة ميتا } وصف البلدة بميتا وهي صفة للمذكر لأنه بمعنى البلد وقال الزجاج : أراد بالبلد المكان والمراد بالأحياء هنا إخراج النبات من المكان الذي لا نبات فيه { ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا } أي نسقي ذلك الماء قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيان وابن أبي عبلة بفتح النونو من نسقيه وقرأ الباقون بضمها و من في مما خلقنا للابتداء وهي متعلقة بنسقيه ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال والأنعام قد تقدم الكلام عليها والأناسي جمع إنسان على ما ذهب إليه سيبويه وقال الفراء والمبرد والزجاج : إنه جمع إنسي وللفراء قول آخر : إنه جمع إنسان والأصل أناسين مثل سرحان وسراحين وبستان وبساتين فجعلوا الباء عوضا من النون (4/116)
50 - { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا } ضمير صرفناه ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من الدلائل : أي كررنا أحوال الإظلال وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا { فأبى أكثر الناس } هم إلا كفران النعمة وجحدها وقال آخرون : إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر : أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة فنزيد في بعض البلدان وننقص في بعض آخر منها وقيل الضمير راجع إلى القرآن وقد جرى ذكره في أول السورة حيث قال : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } وقوله : { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني } وقوله { اتخذوا هذا القرآن مهجورا } والمعنى : ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به ويعتبروا بما فيه فأبى أكثرهم { إلا كفورا } به وقيل هو راجع إلى الريح وعلى رجوع الضمير إلى المطر فقد اختلف في معناه فقيل ما ذكرناه وقيل صرفناه بينهم وابلا وطشا وطلا ورذاذا وقيل تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات قال عكرمة : إن المراد بقوله : { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } هو قولهم : في الأنواء مطرنا بنوء كذا وقرأ عكرمة صرفناه مخففا وقرأ الباقون بالتثقيل وقرأ حمزة والكسائي { ليذكروا } مخففة الذال من الذكر وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر (4/117)
51 - { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } أي رسولا ينذرهم كما قسمنا المطر بينهم ولكنا لم نفعل ذلك بل جعلنا نذيرا واحدا وهو أنت يا محمد فقابل ذلك بشكر النعمة (4/117)
52 - { فلا تطع الكافرين } فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم بل اجتهد في الدعوة واثبت فيها والضمير في قوله : { وجاهدهم به جهادا كبيرا } راجع إلى القرآن : أي جاهدهم بالقرآن واتل عليهم ما فيه من القوارع والزواجر والأوامر والنواهي وقيل الضمير يرجع إلى الإسلام وقيل بالسيف والأول أولى وهذه السورة مكية والأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة وقيل الضمير راجع إلى ترك الطاعة المفهوم من قوله : { فلا تطع الكافرين } وقيل الضمير يرجع إلى ما دل عليه قوله : { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } لأنه سبحانه لو بعث في كل قرية نذيرا لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة القرية التي أرسل إليها وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلى الله عليه و سلم فلا جرم اجتمع عليه كل المجاهدات فكبر جهاده وعظم وصار جامعا لكل مجاهدة ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البعد ثم ذكر سبحانه دليلا رابعا على التوحيد (4/117)
فقال : 53 - { وهو الذي مرج البحرين } مرج خلى وخلط وأرسل يقال مرجت الدابة وأمرجتها : إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء قال مجاهد : أرسلهما وأفاض أحدهما إلى الآخر وقال ابن عرفة : خلطهما فهما يلتقيان يقال مرجته : إذا خلطته ومرج الدين والأمر : اختلط واضطرب ومنه قوله : { في أمر مريج } وقال الأزهري { مرج البحرين } خل بينهما يقال مرجت الدابة : إذا خليتها ترعى وقال ثعلب : المرج الإجراء فقوله : { مرج البحرين } أي أجراهما قال الأخفش : ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل بمعنى { هذا عذب فرات } الفرات البليغ العذوبة وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف مرجهما ؟ فقيل هذا عذب وهذا ملح ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال قيل سمي الماء الحلو فراتا لأنه يفرت العطش : أي يقطعه ويكسره { وهذا ملح أجاج } أي بليغ الملوحة هذا معنى الأجاج وقيل الأجاج البليغ في الحرارة وقيل البليغ في المرارة وقرأ طلحة ملح بفتح الميم وكسر اللام { وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا } البرزخ الحاجز والحائل الذي جعله الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمارج ومعنى { حجرا محجورا } سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر فالبرزخ الحاجز والحجز المانع وقيل معنى { حجرا محجورا } هو ما تقدم من أنها كلمة يقولها المتعوذ كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له هذا القول وقيل حدا محدودا وقيل المراد من البحر العذب الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون ومن البحر الأجاج البحار المشهورة والبرزخ بينهما الحائل من الأرض وقيل معنى { حجرا محجورا } حراما محرما أن يعذب هذا المالح بالعذب أو يملح هذا العذب بالمالح ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن { مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان } ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان والماء (4/118)
فقال : 54 - { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا } والمراد بالماء هنا ماء النطفة : أي خلق من ماء النطفة إنسانا فجعله نسبا وصهرا وقيل المراد بالماء الماء المطلق الذي يراد في قوله : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } والمراد بالنسب هو الذي لا يحل نكاحه قال الفراء والزجاج : واشتقاق الصهر من صهرت الشيء : إذا خلطته وسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها وقيل الصهر قرابة النكاح فقرابة الزوجة هم الأختان وقرابة الزوج هم الأحماء والأصهار تعمهما قاله الأصمعي قال الواحدي قال المفسرون : النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } إلى قوله : { وأمهات نسائكم } ومن هنا إلى قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } تحريم بالصهر وهو الخلطة التي تشبه القرابة حرم الله سبعة أصناف من النسب سبعة من جهة الصهر قد اشتملت الآية المذكورة على ستة منها والسابعة قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وقد جعل ابن عطية والزجاج وغيرهما الرضاع من جملة النسب ويؤيده قوله صلى الله عليه و سلم : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] { وكان ربك قديرا } أي بليغ القدرة عظيمها ومن جملة قدرته الباهرة خلق الإنسان وتقسيمه إلى القسمين المذكورين
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } قال : بعد الفجر قبل أن تطلع الشمس وأخرج ابن أبي حاتم عنه بلفظ : ألم تر أنك إذا صليت الفجر كان بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ثم بعث الله عليه الشمس دليلا فقبض الظل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : مد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس { ولو شاء لجعله ساكنا } قال : دائما { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } يقول : طلوع الشمس { ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا } قال : سريعا وأخرج أهل السنن وأحمد وغيرهم من حديث أبي سعيد قال : [ قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال : إن الماء طهور لا ينجسه شيء ] وفي إسناد هذا الحديث كلام طويل قد استوفيناه في شرحنا على المنتقى وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : ما من عام بأقل مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء ثم قرأ هذه الآية { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وجاهدهم به } قال : بالقرآن وأخرج ابن جرير عنه { هو الذي مرج البحرين } يعني خلط أحدهما على الآخر فليس يفسد العذب المالح وليس يفسد المالح العذب وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وحجرا محجورا } يقول : حجر أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن المغيرة قال : سئل عمر بن الخطاب عن نسبا وصهرا فقال : ما أراكم إلا وقد عرفتم النسب وأما الصهر : فالأختان والصحابة (4/118)
لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار وفضائح سيرتهم فقال 55 - { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم } إن عبدوه { ولا يضرهم } إن تركوه { وكان الكافر على ربه ظهيرا } الظهر المظاهر : أي المعاون على ربه بالشرك والعداوة والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه قال الزجاج : لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان وقال أبو عبيدة : المعنى وكان الكافر على ربه هينا ذليلا من قول العرب ظهرت به : أي جعلته خلف ظهرك لم تلتفت إليه ومنه قوله : { واتخذتموه وراءكم ظهريا } أي هينا ومنه أيضا قول الفرزدق :
( تميم بن بدر لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا علي جوابها )
وقيل إن المعنى : وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع ويجوز أن يكون الظهير جمعا كقوله : { والملائكة بعد ذلك ظهير } والمعنى : أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله أو على دين والمراد بالكافر هنا الجنس ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافر معين كما قيل إنه أبو جهل (4/120)
56 - { وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا } أي مبشرا للمؤمنين بالجنة ومنذرا للكافرين بالنار (4/121)
57 - { قل ما أسألكم عليه من أجر } أي قل لهم يا محمد : ما أسألكم على القرآن من أجر أو على تبليغ الرسالة المدلول عليه بالإرسال والاستثناء في قوله : { إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } منقطع : أي لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل وقيل هو متصل والمعنى : إلا من شاء أن يتقرب إليه سبحانه بالطاعة وصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الحصول ولما بين سبحانه أن الكفار متظاهرون على رسول الله وأمره أن لا يطلب منهم أجرا ألبتة أمره أن يتوكل عليه في دفع المضار وجلب المنافع (4/121)
فقال : 58 - { وتوكل على الحي الذي لا يموت } وخص صفة الحياة إشارة إلى أن الحي هو الذي يوثق به في المصالح ولا حياة على الدوام إلا لله سبحانه دون الأحياء المنقطعة حياتهم فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم والتوكل اعتماد العبد على الله في كل الأمور { وسبح بحمده } أي نزهه عن صفات النقصان وقيل معنى سبح صل والصلاة تسمى تسبيحا { وكفى به بذنوب عباده خبيرا } أي حسبك وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك : كفى بالله ربا والخبير المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء ثم زاد في المبالغة (4/121)
فقال : 59 - { الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } قد تقدم تفسير هذا في الأعراف والموصول في محل جر على أنه صفة للحي وقال بينهما ولم يقل بينهن لأنه أراد النوعين كما قال القطامي :
( ألم يحزنك أن جبال قيس ... وتغلب قد تباتتا انقطاعا )
فإن قيل يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات والأرض كما تفيده ثم فيقال إن كلمة ثم لم تدخل على خلق العرش بل على رفعه على السموات والأرض و الرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو صفة أخرى للحي وقد قرأ الجمهور بالرفع وقيل يجوز أن يكون بدلا من الضمير في ساتوى أو يكون مبتدأ وخبره الجملة : أي فاسأل على رأي الأخفش كما في قول الشاعر :
( وقائلة خولان فانكح فتاتهم )
وقرأ زيد بن علي الرحمن بالجر على أنه نعت للحي أو للموصول { فاسأل به خبيرا } الضمير في به يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش والمعنى : فاسأل بتفاصيل ما ذكر إجمالا من هذه الأمور وقال الزجاج والأخفش : الباء بمعنى عن : أي فاسأل عنه كقوله : { سأل سائل بعذاب واقع } وقول امرئ القيس :
( هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلم )
وقال امرؤ القيس :
( فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب )
والمراد بالخبير الله سبحانه لأنه يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو ومن هذا قول العرب : لو لقيت فلانا للقيك به الأسد : أي للقيك بلقائك أياه الأسد فخبيرا منتصب على المفعولية أو على الحال المؤكدة واستضعف الحالية أبو البقاء فقال : يضعف أن يكون خبيرا حالا من فاعل اسأل لأن الخبير لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله : { وهو الحق مصدقا } قال : ويجوز أن يكون حالا من الرحمن إذا رفعته باستوى وقال ابن جرير : يجوز أن تكون الباء في به زائدة والمعنى : فاسأله حال كونه خبيرا وقيل قوله به يجري مجرى القسم كقوله : { واتقوا الله الذي تساءلون به } والوجه الأول أقرب هذه الوجوه ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم جهلوا معنى الرحمن (4/121)
فقال : 60 - { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } قال المفسرون : إنهم قالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسلمة قال الزجاج : الرحمن اسم من أسماء الله فلما سمعوه أنكروا فقالوا وما الرحمن { أنسجد لما تأمرنا } والاستفهام للإنكار : أي لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له ومن قرأ بالتحتية فالمعنى : أنسجد لما يأمرنا محمد بالسجود له وقد قرأ المدنيون والبصريون { لما تأمرنا } بالفوقية واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بالتحتية قال أبو عبيد : يعنون الرحمن قال النحاس : وليس يجب أن يتأول على الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم اسجدوا لما يأمرنا النبي صلى الله عليه و سلم فتصبح القراءة على هذا وإن كانت الأولى أبين { وزادهم نفورا } أي زادهم الأمر بالسجود نفورا على الدين وبعد عنه وقيل زادهم ذكر الرحمن تباعدا من الإيمان كذا قال مقاتل والأول أولى ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن (4/122)
فقال : 61 - { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } المراد بالبروج بروج النجوم : أي منازلها الإثنا عشر وقيل هي النجوم الكبار والأول أولى وسميت بروجا وهي القصور العالية لأنها للكواكب كالمنازل الرفيعة لمن يسكنها واشتقاق البرج من التبرج وهو الظهور { وجعل فيها سراجا } أي شمسا ومثله قوله تعالى : { وجعل الشمس سراجا } وقرأ الجمهور { سراجا } بالإفراد وقرأ حمزة والكسائي { سراجا } بالجمع : أي النجوم العظام الوقادة ورجح القراءة الأولى أبو عبيد قال الزجاج : في تأويل قراءة حمزة والكسائي اراد الشمس والكواكب { وقمرا منيرا } أي ينير الأرض إذا طلع وقرأ الأعمش قمرا بضم القاف وإسكان الميم وهي قراءة ضعيفة شاذة (4/122)
62 - { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } قال أبو عبيدة : الخلفة كل شيء بعد شيء : الليل خلفة للنهار والنهار خلفة لليل لأن أحدهما يخلف الآخر ويأتي بعده ومنه خلفة النبات وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
( بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم )
قال الفراء في تفسير الآية : يقول يذهب هذا ويجيء هذا وقال مجاهد : خلفة من الخلاف هذا أبيض وهذا أسود وقيل يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان وقيل هو من باب حذف المضاف : أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة : أي اختلاف { لمن أراد أن يذكر } قال حمزة مخففا وقرأ الجمهور بالتشديد فالقراءة الأولى من الذكر لله والقراءة الثانية من التذكر له وقرأ أبي بن كعب يتذكر ومعنى الآية : أن المتذكر المعتبر إذا نظر في اختلاف الليل والنهار علم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال من ناقل { أو أراد شكورا } أي اراد أن يشكر الله على ما أودعه في الليل والنهار من النعم العظيمة والألطاف الكثيرة قال الفراء : ويذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد قال الله تعالى { واذكروا ما فيه } وفي حرف عبد الله ويذكروا ما فيه (4/123)
63 - { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه وعباد الرحمن مبتدأ وخبره الموصول مع صلته والهون مصدر وهو السكينة والوقار وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق بيمشون : أي يمشون على الأرض مشيا هونا قال ابن عطية : ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه فلا يجهلون مع من يجهل ولا يسافهون أهل السفه قال النحاس : ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم تقول العرب سلاما : أي تسلما منك : أي براءة منك منصوب على أحد أمرين : إما على أنه مصدر لفعل محذوف : أي قالوا سلمنا سلاما وهذا على قول سيبويه أو على أنه مفعول به : أي قالوا هذا اللفظ ورجحه ابن عطية وقال مجاهد : معنى سلاما سدادا : أي يقول للجاهل كلاما يدفعه برفق ولين قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على قوله تسليما منكم ولا خير ولا شر بيننا وبينكم قال المبرد : كان ينبغي أن يقال لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم وقال محمد بن يزيد : أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية لأنه قال في آخر كلامه فنسختها آية السيف وأقول : هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه ومشى في غير طريقته ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين ولا نهوا عنه بل أمروا بالصفح والهجر الجميل فلا حاجة إلى دعوى النسخ قال النضر بن شميل : حدثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت فإذا هو على سطح فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا : استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال فقال لنا أعرابي إلى جنبه : أمركم أن ترتفعوا قال الخليل : هو من قول الله { ثم استوى إلى السماء } قال : فصعدنا إليه فقال : هل لكم في خبز فطير ولبن هجير ؟ فقلنا الساعة فارقناه فقال : سلاما فلم ندر ما قال فقال الأعرابي : إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر قال الخليل : هو من قول الله { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } (4/123)
64 - { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } البيتوتة : هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم قال الزجاج : من أدركه الليل فقد بات نام أو لم ينم كما يقال : بات فلان قلقا والمعنى : يبيتون لربهم سجدا على وجوههم وقياما على أقدامهم ومنه قوله امرئ القيس :
( فبتنا قياما عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله ) (4/124)
{ والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما } أي هم مع طاعتهم مشفقون وجلون خائفون من عذابه والغرام اللازم الدائم ومنه سمي الغريم لملازمته ويقال : فلان مغرم بكذا : أي ملازم له مولع به هذا معناه في كلام العرب كما ذكره ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما ومنه قول الأعشى :
( إن يعاقب يكن غراما ... وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي )
وقال الزجاج : الغرام أشد العذاب وقال أبو عبيدة : هو الهلاك وقال ابن زيد : الشر (4/124)
وجملة 66 - { إنها ساءت مستقرا ومقاما } تعليل لما قبلها والمخصوص محذوف : أي هي وانتصاب مستقرا على الحال أو التمييز وكذا مقاما قيل هما مترادفان وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما وقيل بل هما مختلفان معنى : فالمستقر للعصاة فإنهم يخرجون والمقام للكفار فإنهم يخلدون وساءت من أفعال الذم كبئست ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه ويجوز أن يكون حكاية لكلامهم ثم وصف سبحانه بالتوسط في الإنفاق (4/125)
فقال : 67 - { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب { يقتروا } بفتح التحتية وضم الفوقية من قتر يقتر كقعد يقعد وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية وهي لغة معروفة حسنة وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية وكسر الفوقية قال أبو عبيدة : يقال قتر الرجل على عياله يقتر ويقتر قترا وأقتر يقتر إقتارا معنى الجميع : التضييق في الإنفاق قال النحاس : ومن أحسن ما قيل في معنى الآية : إن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام وقال إبراهيم النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف وقال يزيد بن أبي حبيب : أولئك أصحاب محمد كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوبا للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة الله ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد وقال أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا كقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } قرأ حسان بن عبد الرحمن { وكان بين ذلك قواما } بكسر القاف وقرأ الباقون بفتحها فقيل هما بمعنى وقيل القوام بالكسر : ما يدوم عليه الشيء ويستقر وبالفتح : العدل والاستقامة قاله ثعلب وقيل بالفتح : العدل بين الشيئين وبالكسر : ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص وقيل بالكسر : السداد والمبلغ واسم كان مقدر فيها : أي كان إنفاقهم بين ذلك وتبنى بين على الفتح لأنها من الظروف المفتوحة وقال النحاس : ما أدري ما وجه هذا لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وكان الكافر على ربه ظهيرا } يعني أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا جهل بن هشام وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { قل ما أسألكم عليه من أجر } قال : قل لهم يا محمد : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر يقول عرض من عرض الدنيا وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عنه أيضا في قوله : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } قال : هي هذه الإثنا عشر برجا : أولها : الحمل ثم الثور ثم الجوزاء ثم السرطان ثم الأسد ثم السنبلة ثم الميزان ثم العقرب ثم القوس ثم الجدي ثم الدلو ثم الحوت وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } قال : أبيض وأسود وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا يقول : ما فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار : ومن النهار أدركه بالليل وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن الحسن أن عمر أطال صلاة الضحى فقيل له صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال : إنه بقي علي من وردي شيء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الآية { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } الآية وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وعباد الرحمن } قال : هم المؤمنون { الذين يمشون على الأرض هونا } قال : بالطاعة والعفاف والتواضع وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال { هونا } علما وحلما وأخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { إن عذابها كان غراما } قال : الدائم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } قال : هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله (4/125)
قوله : 68 - { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي فقال : والذين لا يدعون مع الله سبحانه ربا من الأرباب والمعنى : لا يشركون به شيئا بل يوحدونه ويخلصون له العبادة والدعوة { ولا يقتلون النفس التي حرم الله } أي حرم قتلها { إلا بالحق } أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس { ولا يزنون } أي يستحلون الفروج المحرمة بغير نكاح ولا ملك يمين { ومن يفعل ذلك } أي شيئا مما ذكر { يلق } في الآخرة { أثاما } والأثام في كلام العرب العقاب قال الفراء : آثمه الله يؤثمه أثاما وآثاما : أي جازاه جزاء الإثم وقال عكرمة ومجاهد : إن أثاما واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة وقال السدي : جبل فيها وقرىء يليق بضم الياء وتشديد القاف قال أبو مسلم : والأثام والإثم واحد والمراد هنا جزاء الآثام فأطلق اسم الشيء على جزائه (4/127)
وقرأ الحسن يلق أياما جمع يوم : يعني شدائد والعرب تعبر عن ذلك بالأيام وما أظن هذه القراءة تصح عنه 69 - { يضاعف له العذاب } قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي { يضاعف } { ويخلد } بالجزم وقرأ ابن كثير { يضاعف } بتشديد العين وطرح الألف والجزم وقرأ طلحة بن سليمان نضعف بضم النون وكسر العين المشددة والجزم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الاستئناف وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بالفوقية خطابا للكافر وروي عن أبي عمر أنه قرأ ويخلد بضم الياء التحتية وفتح اللام قال أبو علي الفارسي وهي غلط من جهة الرواية ووجه الجزم في يضاعف أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى ومثله قول الشاعر :
( إن علي الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا )
والضمير في قوله : { يخلد فيه } راجع إلى العذاب المضاعف : أي يخلد في العذاب المضاعف { مهانا } ذليلا حقيرا (4/127)
70 - { إلا من تاب وآمن وعمل صالحا } قيل هو استثناء متصل وقيل منقطع قال أبو حيان : لا يظهر الاتصال لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب فيصير التقدير : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فلا يضاعف له العذاب ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف قال : والأولى عندي أن تكون منقطعا : أي لكن من تاب قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين وقد تقدم بيانه في النساء والمائدة والإشارة بقوله : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } إلى المذكورين سابقا ومعنى تبديل السيئات حسنات أنه يمحو عنهم المعاصي ويثبت لهم مكانها طاعات قال النحاس : من أحسن ما قيل في ذلك أنه يكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع قال الحسن : قوم يقولون التبديل في الآخرة وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدل الله لهم إيمانا مكان الشرك وإخلاصا من الشك وإحصانا من الفجور قال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة ولكن يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة وقيل إن السيئات تبدل بحسنات وبه قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم وقيل التبديل عبارة عن الغفران : أي يغفر الله لهم تلك السبئات لا أن يبدلها حسنات وقيل المراد بالتبديل : أن يوفقه لأضداد ما سلف منه { وكان الله غفورا رحيما } هذه الجملة مقررة لما قبلها من التبديل (4/128)
71 - { ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا } أي من تاب عما اقترف وعمل عملا صالحا بعد ذلك فإنه يتوب بذلك إلى الله متابا : أي يرجع إليه رجوعا صحيحا قويا قال القفال : يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين ولهذا قال : { إلا من تاب وآمن } ثم عطف عليه من تاب من المسلمين وأتبع توبته عملا صالحا فله حكم التائبين أيضا وقيل أي من تاب بلسانه ولم يحقق التوبة بفعله فليست تلك التوبة نافعة بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابا : أي تاب حق التوبة وهي النصوح ولذلك أكد بالمصدر ومعنى الآية : من أراد التوبة وعزم عليها فليتب إلى الله فالخبر في معنى الأمر كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء فإنه لا يقال ممن تاب فإنه يتوب ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات (4/128)
فقال : 72 - { والذين لا يشهدون الزور } أي لا يشهدون الشهادة الكاذبة أو لا يحضرون الزور والزور هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين قال الزجاج : الزور في اللغة الكذب ولا كذب فوق الشرك بالله قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الزور هاهنا بمعنى الشرك والحاصل أن يشهدون إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف : أي لا يشهدون شهادة الزور وإن كان من الشهود الحضور كما ذهب إليه الجمهور فقد اختلفوا في معناه فقال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم وقال محمد بن الحنفية لا يحضرون اللهو والغناء وقال ابن جريح : الكذب وروي عن مجاهد أيضا والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائنا من كان { وإذا مروا باللغو مروا كراما } أي معرضين عنه غير ملتفتين إليه واللغوا كل ساقط من قول أو فعل قال الحسن : اللغو المعاصي كلها وقيل المراد مروا بذوي اللغو يقال : فلان يكرم عما يشينه : أي يتنزه ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله (4/129)
73 - { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } أي بالقرآن أو بما فيه موعظة وعبرة { لم يخروا عليها صما وعميانا } أي لم يقعوا عليها حال كونهم صما وعميانا ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين وانتفعوا بها قال ابن قتيبة : المعنى لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يبصروها قال ابن جرير : ليس ثم خرور بل كما يقال قعد يبكي وإن كان غير قاعد قال ابن عطية : كأن المستمع للذكر قائم فإذا أعرض عنه كان ذلك خرورا وهو السقوط على غير نظام قيل المعنى : إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجدا وبكيا ولم يخروا عليها صما وعميانا قال الفراء : أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا قال في الكشاف : ليس بنفي للخرور وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد (4/129)
74 - { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } من ابتدائية أو بيانية قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن { وذرياتنا } بالجمع وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى { وذرياتنا } بالإفراد والذرية تقع على الجمع كما في قوله : { ذرية ضعافا } وتقع على الفرد كما في قوله : ذرية طيبة وانتصاب قرة أعين على المفعولية يقال قرت عينه قرة قال الزجاج : يقال أقر الله عينك : أي صادف فؤادك ما يحبه وقال المفضل : في قرة العين ثلاثة أقوال : أحدها برد دمعها لأنه دليل السرور والضحك كما أن حرة دليل الحزن والغم والثاني نومها لأنه يكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن والثالث حصول الرضى { واجعلنا للمتقين إماما } أي قدوة يقتدى بنا في الخير وإنما قال : إماما ولم يقل أئمة لأنه أريد به الجنس : كقوله : { ثم نخرجكم طفلا } قال الفراء : قال إماما ولم يقل أئمة كما قال للاثنين { إنا رسول رب العالمين } يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع وقال الأخفش : الإمام جمع أم من أم يأم جمع على فعال نحو صاحب وصحاب وقائم وقيام وقيل إن إماما مصدر يقال أم فلان فلانا إماما مثل الصيام والقيام وقيل أرادوا : اجعل كل واحد منا إماما وقيل أرادوا : اجعلنا إماما واحدا لاتحاد كلمتنا وقيل إنه من الكالم المقلوب وأن المعنى : واجعل المتقين لنا إماما وبه قال مجاهد وقيل إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء : واجعلني للمتقين إماما ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } وفي هذا إبقاء إماما على حاله ومثل ما في الآية قول الشاعر :
( يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي ... إن العواذل ليس لي بأمين )
أي أمناء قال القفال : وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل : اجعلنا حجة للمتقين ومثله البينة : يقال هؤلاء بينة فلان قال النيسابوري : قيل في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب ويرغب فيها والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم (4/129)
والإشارة بقوله : 75 - { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } إلى المتصفين بتلك الصفات وهو مبتدأ وخبره ما بعده والجمل مستأنفة وقيل إن أولئك وما بعده خبر لقوله : { وعباد الرحمن } كذا قال الزجاج والغرفة : الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها وهي في الأصل لكل بناء مرتفع والجمع غرف وقال الضحاك : الغرفة الجنة والباء في بما صبروا سببية وما مصدرية : أي يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف { ويلقون فيها تحية وسلاما } قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف { يلقون } بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف واختار هذه القراءة الفراء قال : لأن العرب تقول : فلان يلقي بالسلام والتحية والخير وقل ما يقولون يلقي وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : { ولقاهم نضرة وسرورا } والمعنى : أنه يحيي بعضهم بعضا ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام قيل التحية البقاء الدائم والملك العظيم وقيل هي بمعنى السلام وقيل إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم والظاهر أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم ومن ذلك قوله سبحانه : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } وقيل معنى التحية : الدعاء لهم بطول الحياة ومعنى السلام : الدعاء لهم بالسلامة من الآفات (4/130)
وانتصاب 76 - { خالدين فيها } على الحال : أي مقيمين فيها من غير موت { حسنت مستقرا ومقاما } أي حسنت الغرفة مستقرا يستقرون فيه ومقاما يقيمون به وهذا في مقابل ما تقدم من قوله : { ساءت مستقرا ومقاما } (4/131)
77 - { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } بين سبحانه أنه غني عن طاعة الكل وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف يقال ما عبأت بفلان : أي ما باليت به ولا له عندي قدر وأصل يعبأ من العبء وهو الثقل قال الخليل : ما أعبأ بفلان : أي ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ويدعي أن وجوده وعدمه سواء وكذا قال أبو عبيدة قال الزجاج : ما يعبأ بكم ربي يريد : أي وزن يكون لكم عنده والعبء : الثقل عندي أن موضع ما نصب والتقدير : أي : عبء يعبأبكم أي : أي مبالاة يبالي بكم { لولا دعاؤكم } : أي لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله وهو اختيار الفراء وفاعله محذوف وجواب لولا محذوف : تقديره لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم ويؤيد هذا قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } والخطاب لجميع الناس ثم خص الكفار منهم فقال { فقد كذبتم } وقرأ ابن الزبير فقد كذب الكافرون وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس وقيل إن المصدر مضاف إلى الفاعل : أي لولا استغاثتكم إليه في الشدائد وقيل المعنى : ما يعبأ بكم : أي بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما وممن قال بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي والفارسي قالا : والأصل لولا دعاؤكم الآلهة معه وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما وممن قال بأن الدعاء محذوف تقديره على هذا الوجه : لولا دعاؤكم لم يعذبكم ويكون معنى فقد كذبتم على الوجه الأول فقد كذبتم بما دعيتم إليه وعلى الوجه الثاني : فقد كذبتم بالتوحيد ثم قال سبحانه { فسوف يكون لزاما } أي فسوف يكون جزاء التكذيب لازما لكم وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا : ما لزم المشركين يوم بدر وقالت طائفة : هو عذاب الآخرة قال أبو عبيدة : لزاما فيصلا : أي فسوف فيصلا بينكم وبين المؤمنين قال الزجاج : فسوف يكون تكذيبكم لزاما يلزمكم فلا تعطون التوبة وجمهور القراء على كسر اللام من لزاما وأنشد أبو عبيدة لصخر :
( فاما ينجوا من خسف أرض ... فقد لقيا حتوفهما لزاما )
قال ابن جرير لزاما : عذابا دائما وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض كقول أبي ذؤيب :
( ففاجأه بعادية لزام ... كما يتفجر الحوض اللفيف )
يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضا وباللفيف المتساقط من الحجارة المنهدمة وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال : سمعت أبا السماك يقرأ لزاما بفتح اللام قال أبو جعفر يكون مصدر لزم والكسر أولى
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الذنب أكبر ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك ] فأنزل الله تصديق ذلك { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } وأخرجا وغيرهما أيضا عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه و سلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت { والذين لا يدعون } الآية ونزلت { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله : { يلق أثاما } قال : واد في جهنم وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الآية اشتد ذلك على المسلمين فقالوا : ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنى فأنزل الله { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك ثم نزلت هذه الآية { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } فأبدلهم الله بالكفر الإسلام وبالمعصية الطاعة وبالإنكار المعرفة وبالجهالة العلم وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم سنين { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما } ثم نزلت { إلا من تاب وآمن } فما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فرح بشيء قط فرحه بها وفرحه بـ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } قال : هم المؤمنون الذين كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات وأخرج أحمد وهناد وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يؤتى الرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه فيعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها فيقال : عملت يوم كذا كذا وهو يقر ليس ينكر وهو مشفق من الكبائر أن تجيء فيقال : أعطوه بكل سيئة عملها حسنة ] والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها بالحسنات كثيرة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والذين لا يشهدون الزور } قال : إن الزور كان صنما بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مروا به مروا كراما لا ينظرون إليه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } قال : يعنون من يعمل بالطاعة فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة { واجعلنا للمتقين إماما } قال : أئمة هدى يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة لأنه قال لأهل السعادة { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } ولأهل الشقاوة { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { أولئك يجزون الغرفة } قال : الغرفة من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } يقول : لولا إيمانكم فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذا لم يخلقهم مؤمنين ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين { فسوف يكون لزاما } قال : موتا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه أنه كان يقرأ - فقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاما - وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه { فسوف يكون لزاما } قال : القتل يوم بدر وفي الصحيحين عنه قال : خمس قد مضين : الدخان والقمر واللزوم والبطشة واللزام (4/131)
سورة الشعراء
وآياتها مائتان وسبع وعشرون آية
وهي مكية عند الجهمور وكذا أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وأخرج النحاس عن ابن عباس قال : سورة الشعراء أنزلت بمكة سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة وهي { والشعراء يتبعهم الغاوون } إلى آخرها وأخرج الطبراني في تفسيره عن البراء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطان المئين مكان الإنجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي ] وأخرج أيضا عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأول وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة ] قال ابن كثير في تفسيره : ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها بسورة الجمعة
قوله : 1 - { طسم } قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف بإمالة الطاء وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ الباقون بالفتح مشبعا وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من طاسن في الميم وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها قال الثعلبي : الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم قال النحاس : وحكى الزجاج في كتابه فيما يجري وما لا يجري أنه يجوز أن يقال طاسين ميم بفتح النون وضم الميم كما يقال : هذا معدي كرب وقرأ عيسى ويروي عن نافع بكسر الميم على البناء وفي مصحف عبد الله بن مسعود ط س م هكذا حروفا مقطعة فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره وكذلك قرأ أبو جعفر ومحله الرفع على الابتداء إن كان اسما للسورة كما ذهب إليه الأكثر أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير : اذكر أو اقرأ وأما إذا كان مسرودا على نمط التعديد كما تقدم في غير موضع من هذا التفسير فلا محل له من الإعراب وقد قيل إنه اسم من أسماء الله سبحانه وقيل اسم من أسماء القرآن (4/134)
والإشارة بقوله : 2 - { تلك آيات الكتاب المبين } إلى السورة ومحلها الرفع على أنها وما بعدها خبر للمبتدأ إن جعلنا طسم مبتدأ وأن جعلناه خبرا لمبتدأ محذوف فمحلها الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف أبو بدل من طسم والمراد بالكتاب هنا القرآن والمبين المبين المظهر أو البين الظاهر إن كان من أبان بمعنى بان (4/135)
3 - { لعلك باخع نفسك } أي قاتل نفسك ومهلكا { أن لا يكونوا مؤمنين } أي لعد إيمانهم بما جئت به والبخع في الأصل أن يبلغ بالذبح النخاع بالنون قاموس وهو عرق في القفا وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف وقرأ قتادة باخع نفسك بالإضافة وقرأ الباقون بالقطع قال : الفراء أن في قوله : { أن لا يكونوا مؤمنين } في موضع نصب لأنها جزاء قال النحاس وإنما يقال إن مكسورة لأنها جزء هكذا التعارف والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن إنها في موضع نصب مفعول لأجله والمعنى لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه كان حريصا على إيمان قومه شديد الأسف لما يراه من إعراضهم (4/135)
وجملة 4 - { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية } مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية والمعنى : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك ومعنى { فظلت أعناقهم لها خاضعين } أنهم صاروا مناقدين لها : أي فتظل أعناقهم إلخ قيل وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير لأن الأعناق موضع الخضوع وقيل إنها لما وضعت الأعناق موضع الخضوع وقيل إنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم ووصفت بما يوصفون به قال عيسى بن عمر : خاضعين وخاضعة هنا سواء واختاره المبرد والمعنى : أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويخبر عن الثاني ومنه قول الراجز :
( طول الليالي أسرعت في نقضي ... طوين طولي وطوين عرضي )
فأخبر عن الليالي وترك الطول ومنه قول جرير :
( أرى مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال )
وقال ابو عبيد والكسائي : إن المعنى خاضعيها هم وضعفه النحاس وقال مجاهد : أعناقهم كبراؤهم قال النحاس : وهذا معروف في اللغة يقال جاءني عنق من الناس : أي رؤساء منهم وقال أبو زيد والأخفش : أعناقهم جماعاتهم يقال جاءني عنق من الناس : أي جماعة (4/136)
5 - { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين } بين سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالا بعد حال وأن لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض المقصود وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء ومن في من ذكر مزيدة لتأكيد العموم ومن في من ربهم لابتداء الغاية والاستثناء مفرغ من أعم العام محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء (4/136)
6 - { فقد كذبوا } أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا ولم يكتفوا بمجرد الإعراض وقيل إن الإعراض وقيل إن الإعراض بمعنى التكذيب لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذبه وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح والأول أولى فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات عن التكذيب إلى ما هو أشد منه وهو الاستهزاء كما يدل عليه قوله : { فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } والأنباء هي ما يستحقونه من العقوبة آجلا وعاجلا وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال ما كانوا به يستهزئون ولم يقل ما كانوا عنه معرضين أو ما كانوا به يكذبون لأن الاستهزاء أشد منهما ومستلزم لهما وفي هذا وعيد شديد وقد مر تفسير مثل هذا في سورة الأنعام ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها والناظر إليها والمستدل بها أعظم دليل وأوضح برهان (4/136)
فقال : 7 - { أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم } الهمزة للتوبيخ والواو للعطف على مقدر كما في نظائره فنبه سبحانه على عظمته وقدرته وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد والمراد بالزوج هنا الصنف وقال الفراء : هو اللون وقال الزجاج : معنى زوج نوع وكريم محمود والمعنى : من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين والكريم في الأصل : الحسن الشريف يقال نخلة كريمة : أي كثيرة الثمرة ورجل كريم : شريف فاضل وكتاب كريم : إذا كان مرضيا في معانيه والنبات الكريم هو المرضي في منافعه قال الشعبي : الناس مثل نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم ومن صار منهم إلى النار فهو لئيم (4/137)
والإشارة بقوله : 8 - { إن في ذلك لآية } إلى المذكور قبله : أي إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه وبديع صنعته ثم أخبر سبحانه بأن أكثر هؤلاء مستمر على ضلالته مصمم على جحوده وتكذيبه واستهزائه فقال : { وما كان أكثرهم مؤمنين } أي سبق علمي فيهم أنهم يسكونون هكذا وقال سيبويه : إن كان هنا صلة أن (4/137)
9 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم مع كونه كثير الرحمة ولذلك أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة أو المعنى : أنه منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه (4/137)
وجملة 10 - { وإذ نادى ربك موسى } إلخ مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض والتكذيب والاستهزاء والعامل في الظرف محذوف تقديره واتل إذ نادى أو اذكر والنداء الدعاء و أن في قوله : { أن ائت القوم الظالمين } يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية ووصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم (4/137)
وانتصاب 11 - { قوم فرعون } على أنه بدل أو عطف بيان من القوم الظالمين ومعنى { ألا يتقون } ألا يخافون عقاب الله سبحانه فيصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته وقيل المعنى : قل لهم ألا تتقون وجاء بالياء التحتية لأنه غيب وقت الخطاب وقرأ عبيد بن عمير وأبو حازم ألا تتقون بالفوقية : أي قل لهم ذلك ومثله { قل للذين كفروا ستغلبون } بالتحتية والفوقية (4/137)
12 - { قال رب إني أخاف أن يكذبون } أي قال موسى هذه المقالة والمعنى : أخاف أن يكذبوني في الرسالة { ويضيق صدري ولا ينطلق لساني } معطوفان على أخاف : أي يضيق صدري لتكذيبهم إياي ولا ينطلق لساني بتأدية الرسالة (4/137)
قرأ الجمهور برفع 13 - { يضيق } { ولا ينطلق } بالعطف على أخاف كما ذكرنا أو على الاستئناف وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حيرة بنصبهما عطفا على يكذبون قال الفراء : كلا القراءتين له وجه قال النحاس الوجه : الرفع لأن النصب عطف على يكذبون وهذا بعيد { فأرسل إلى هارون } أي أرسل إليه جبريل بالوحي ليكون معي رسولا موازرا مظاهرا معاونا ولم يذكر الموازرة هنا لأنها معلومة من غير هذا الموضع كقوله في طه { واجعل لي وزيرا } وفي القصص { أرسله معي ردءا يصدقني } وهذا من موسى عليه السلام من باب طلب المعاونة له بإرسال أخيه لا من باب الاستعفاء من الرسالة ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال (4/137)
14 - { ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون } الذنب هو قتله للقبطي وسماه ذنبا بحسب زعمهم : فخاف موسى أن يقتلوه به وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلا عن الفضلاء ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نواع من الردع وطرف من الزجر (4/138)
15 - { قال كلا فاذهبا بآياتنا } وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه كما يدل عليه توجيه الخطاب إليهما كأنه قال : ارتدع يا موسى عن ذلك واذهب أنت ومن استدعيته ولا تخف من القبط { إنا معكم مستمعون } وفي هذا تعليل للردع عن الخوف وهو كقوله سبحانه : { إنني معكما أسمع وأرى } وأراد بذكل سبحانه تقوية قلوبهما وأنه متول لحفظهما وكلاءتهما وأجراهما مجرى الجمع فقال معكم لكن الاثنين أقل الجمع على ما ذهب إليه بعض الأئمة أو لكونه أراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه ويجوز أن يكون المراد هما مع بني إسرائيل ومعكم ومستمعون خبران لأن أو الخبر مستمعون ومعكم متعلق به ولا يخفى ما في المعية من المجاز : لأن المصاحبة من صفات الأجسام فالمراد معية النصرة والمعونة (4/138)
16 - { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ووحد الرسول هنا ولم يثنه كما في قوله : { إنا رسولا ربك } لأنه مصدر بمعنى رسالة والمصدر يوحد وأما إذا كان بمعنى المرسل فإنه يثنى مع المثنى ويجمع مع الجمع قال أبو عبيدة : رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا : إنا ذوا رسالة رب العالمين ومنه قول الشاعر :
( ألا أبلغ أبا عمرو رسولا ... فإني عن قتاحتكم غني )
أي رسالة وقال العباس بن مرداس :
( ألا من مبلغ عني خفافا ... رسولا بيت أهلك منتهاها )
أي رسالة قال أبو عبيدة أيضا ويجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي وهذان رسولي ووكيلي وهؤلاء رسولي ووكيلي ومنه قوله تعالى : { فإنهم عدو لي } وقيل معناه : إن كل واحد منا رسول رب العالمين وقيل إنهما لما كانا متعاضدين ومتساندين في الرسالة كانا بمنزلة رسول واحد (4/138)
و أن في قوله : 17 - { أن أرسل معنا بني إسرائيل } مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول (4/139)
معنى القول : 18 - { قال ألم نربك فينا وليدا } أي قال فرعون لموسى بعد أن أتياه وقالا له ما أمرهما الله به ومعنى فينا أي في حجرنا ومنازلنا أراد بذلك المن عليه والاحتقار له : أي ربيناك لدينا صغيرا ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال { ولبثت فينا من عمرك سنين } فمتى كان هذا الذي تدعيه ؟ قيل لبث فيهم ثماني عشرة سنة وقيل أربعين سنة : ثم قرر بقتل القبطي (4/139)
فقال : 19 - { وفعلت فعلتك التي فعلت } الفعلة بفتح الفاء : المرة من الفعل وقرأ الشعبي فعلتك بكسر الفاء والفتح أولى لأنها للمرة الواحدة لا للنوع والمعنى : أنه لما عدد عليه النعم ذكر له ذنوبه وأراد بالفعل قتل القبطي ثم قال { وأنت من الكافرين } أي من الكافرين للنعمة حيث قتلت رجلا من أصحابي وقيل المعنى : من الكافرين بأن فرعون إله وقيل من الكافرين بالله في زعمه لأنه كان معهم على دينهم والجملة في محل نصب على الحال (4/139)
20 - { قال فعلتها إذا وأنا من الضالين } أي قال موسى مجيبا لفرعون : فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهي قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الضالين : أي الجاهلين فنفى عليه السلام عن نفسه الكفر وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله وقيل المعنى : من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل وقال أبو عبيدة : من الناسين (4/139)
21 - { ففررت منكم لما خفتكم } أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص { فوهب لي ربي حكما } أي نبوة أو علما وفهما وقال الزجاج : المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله { وجعلني من المرسلين } (4/139)
22 - { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } قيل هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة كأنه قال نعم تلك التربية نعمة تمن بها علي ولكن لا يدفع ذلك رسالتي وبهذا قال الفراء وابن جرير وقيل هو من موسى على جهة الإنكار : أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم وهم قومي ؟ قال الزجاج : المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى واللفظ لفظ خبر وفيه تبكيت للمخاطب على معنى : أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليم فكأنك تمن علي ما كان بلاؤك سببا له وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه وقال المبرد : يقول الربية كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبيد : أي تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي وقيل إن في الكلام تقدير الاستفهام : أي أو تلك نعمة ؟ قاله الأخفش وأنكره النحاس قال الفراء : ومن قال إن الكلام إنكار قال معناه : أو تلك نعمة ؟ ومعنى { أن عبدت بني إسرائيل } أن اتخذتهم عبيدا يقال عبدته وأعبدته بمعنى كذا قال الفراء ومحله الرفع على أنهخبر مبتدأ محذوف بدل من نعمة والجر بإضمار الباء والنصب بحذفها
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { فظلت أعناقهم لها خاضعين } قال : ذليلين وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة { ولهم علي ذنب } قال قتل النفس وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين } قال : للنعمة إن فرعون لم يكن ليعلم ما الكفر ؟ وفي قوله : { فعلتها إذا وأنا من الضالين } قال : من الجاهلين وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { أن عبدت بني إسرائيل } قال : قهرتهم واستعملتهم (4/139)
لما سمع فرعون قول موسى وهارون { إنا رسول رب العالمين } قال مستفسرا لهما عن ذلك عازما على الاعتراض لما قالاه فقال : 23 - { وما رب العالمين } أي أي شيء هو ؟ جاء في الاستفهام بما التي يستفهم بها عن المجهول ويطلب بها تعيين الجنس (4/141)
فلما قال فرعون ذلك 24 - { قال } موسى { رب السموات والأرض وما بينهما } فعين له ما أراد بالعالمين وترك جواب ما سأل عنه فرعون لأنه سأله عن جنس رب العالمين ولا جنس له فأجابه موسى بما يدل على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الرب ولا رب غيره { إن كنتم موقنين } أي إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان (4/141)
25 - { قال } فرعون { لمن حوله ألا تستمعون } أي لمن حوله من الأشراف ألا تستمعون ما قاله يعني موسى معجبا لهم من ضعف المقالة كأنه قال : أتسمعون وتعجبون وهذا من اللغني مغالطة لما لم يجد جوابا عن الحجة التي أوردها عليه موسى فلما سمع موسى ما قال فرعون أورد عليه حجة أخرى هي مندرجة تحت الحجة الأولى ولكنها أقرب إلى فهم السامعين له (4/141)
فـ 26 - { قال ربكم ورب آبائكم الأولين } فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا رب كما يدعيه والمعنى : أن هذا الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلق آباءكم الأولين وخلقكم فكيف تعبدون من هو ماحد منكم مخلقو كخلقكم وله آباء قد فنوا كآبائكم فلم يجبه فرعون عند ذلك بشيء يعتد به بل جاء بما يشكك قومه ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء (4/141)
فـ 27 - { قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } قاصدا بذلك المغالطة وإيقاعهم في الحيرة مظهرا أنه مستخف بما قاله موسى مستهزئ به فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأول (4/141)
فـ 28 - { قال رب المشرق والمغرب وما بينهما } ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون بل بين لفرعون شمول ربوبية الله سبحانه للمشرق والمغرب وما بينهما وإن كان ذلك داخلا تحت ربوبيته سبحانه للسموات والأرض وما بينهما لكن في تصريح بإسناد حركات السموات وما فيها وتغيير أحوالها وأوضاعها تارة بالنور وتارة بالظلمة إلى الله سبحانه وتثنية الضمير في وما بينهما الأول لجنسي السموات والأرض كما في قول الشاعر :
( تنقلت في أشرف التنقل ... بين رماحي نهشل ومالك )
{ إن كنتم تعقلون } أي شيئا من الأشياء أو إن كنتم من أهل العقل : أي إن كنت يا فرعون ومن معك من العقلاء عرفت وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلا ما ذكرت لك ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب (4/141)
فـ 29 - { قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } أي لأجعلنك من أهل السجن وكان سجن فرعون أشد من القتل لأنه إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت فلما سمع موسى عليه السلام ذلك لاطفه طمعا في إجابته وإرخاء لعنان المناظرة معه مريدا لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوة وهي إظهار المعجزة فعرض له على وجه يلجئه إلى طلب المعجزة (4/142)
فـ 30 - { قال أو لو جئتك بشيء مبين } أي أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشيء يتبين به صدقي ويظهر عنده صحة دعواي والهمزة هنا للاستفهام والواو للعطف على مقدر كما مر مرارا فلما سمع فرعون ذلك طلب ما عرضه عليه موسى (4/142)
فـ 31 - { قال فأت به إن كنت من الصادقين } في دعواك وهذا الشرط جوابه محذوف لأنه قد تقدم ما يدل عليه فعند ذلك أبرز موسى المعجزة (4/142)
32 - { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } وقد تقدم تفسير هذا وما بعده في سورة الأعرفا واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض فانثعب : أي فجرته فانفجر وقد عبر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان بالحية بقوله : { فإذا هي حية تسعى } وفي موضع بالجان فقال : { كأنها جان } والجان هو المائل إلى الصغر والثعبان هو المائل إلى الكبر والحية جنس يشمل الكبير والصغير ومعنى { فماذا تأمرون } ما رأيكم فيه وما مشورتكم في مثله ؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفا لهم واستجلابا لمودتهم لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال وقارب ما كان يغرر به عليهم الاضمحلال وإلا فهو أكبر تيها وأعظم كبرا من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم وواحد منهم مع كونه قبل هذا الوقت يدعي أنه إلههم ويذعنون له بذلك ويصدقونه في دعواه (4/142)
33 - { ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } (4/142)
34 - { قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم } (4/142)
35 - { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون } (4/142)
ومعنى 36 - { أرجه وأخاه } أخر أمرهما من أرجأته إذا أخرته وقيل المعنى احبسهما { وابعث في المدائن حاشرين } وهم الشرط الذي يحشرون الناس : أي يجمعونهم (4/142)
37 - { يأتوك بكل سحار عليم } هذا ما أشاروا به عليه والمراد بالسحار العليم : الفائق في معرفة السحر وصنعته (4/143)
38 - { فجمع السحرة لميقات يوم معلوم } هو يوم الزينة كما في قوله : { قال موعدكم يوم الزينة } (4/142)
39 - { وقيل للناس هل أنتم مجتمعون } حثا لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة ولمن تكون الغلبة ذلك ثقة من فرعون بالظهور وطلبا أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة وحجة الكافرين هي الداحضة وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين والنقهار للمبطلين (4/142)
ومعنى 40 - { لعلنا نتبع السحرة } نتبعهم في دينهم { إن كانوا هم الغالبين } والمراد باتباع السحرة في دينهم هو البقاء على ما كانوا عليه لأنه دين السحرة إذ ذاك والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى فعند ذلك طلب السحرة من موسى الجزاء على ما سيفعلونه (4/143)
فـ 41 - { قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا } أي لجزاء تجزينا به من مال أو جاه وقيل أرادوا إن لنا ثوابا عظيما ثم قيدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى فقالوا { إن كنا نحن الغالبين } فوافقهم فرعون على ذلك (4/143)
و 42 - { قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } أي نعم لكم ذلك عندي مع زيادة عليه وهي كونكم من المقربين لدي (4/143)
43 - { قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون } وفي آية أخرى { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } فيحمل ما هنا على أنه قال لهم : ألقوا بعد أن قالوا هذا القول ولم يكن ذلك من موسى عليه السلام أمرا لهم بفعل السحر بل أراد أن يقهرهم بالحجة ويظهر لهم أن الذي جاء به ليس هو من الجنس الذي ارادوا معارضته به (4/143)
44 - { فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا } عند الإلقاء { بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } يحتمل قولهم بعزة فرعون وجهين : الأول أنه قسم وجوابه إنا لنحن الغالبون والثاني متعلق بمحذوف والباء للسببية : أي نغلب بسبب عزته والمراد بالعزة العظمة (4/143)
45 - { فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون } قد تقدم تفسير هذا مستوفى والمعنى : أنها تلقف ما صدر منهم من الإفك بإخراج الشيء عن صورته الحقيقية (4/143)
46 - { فألقي السحرة ساجدين } أي لما شاهدوا ذلك وعلموا أنه صنع صانع حكيم ليس من صنيع البشر ولا من تمويه السحرة آمنوا بالله وسجدوا له وأجابوا دعوة موسى وقبلوا نبوته وقد تقدم بيان معنى ألقى ومن فاعله لوقوع التصريح به (4/143)
وعند سجودهم 47 - { قالوا آمنا برب العالمين } (4/143)
48 - { رب موسى وهارون } رب موسى عطف بيان لرب العالمين وأضافوه سبحانه إليهما لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحال وفيه تبكيت لفرعون بأنه ليس برب وأن الرب في الحقيقة هو هذا فلما سمع فرعون ذلك منهم ورأى سجودهم لله (4/143)
49 - { قال آمنتم له قبل أن آذن لكم } أي بغير إذن مني ثم قال مغالطا للسحرة الذين آمنوا وموهما للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } وإنما اعترف له بكونه كبيرهم مع كونه لا يحب الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاءوا به السحرة فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم وإن كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة فهو فعل كبيرهم ومن هو أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة فلا تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر وإنه من فعل الرب الذي يدعوا إليه موسى ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله فقال : { فلسوف تعلمون } أجمل التهديد أولا للتهويل ثم فصله فقال : { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين } فلما سمعوا ذلك من قوله (4/143)
50 - { قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون } أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا فإن ذلك يزول وننقلب بعده إلى ربنا فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يحد ولا يوصف قال الهروي : لا ضير ولا ضرر ولا ضر بمعنى واحد وأنشد أبو عبيدة :
( فإنك لا يضرك بعد حول ... أظبي كان أمك أم حمار )
قال الجوهري : ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا : أي ضره قال الكسائي : سمعت بعضهم يقول : لا ينفعني ذلك ولا يضورني { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا } ثم عللوا هذا بقولهم : { أن كنا أول المؤمنين } بنصب أن : أي لأن كنا أول المؤمنين وأجاز الفراء والكسائي كسرها على أن يكون مجازاة ومعنى أول المؤمنين : أنهم أول من آمن من قوم فرعون بعد ظهور الآية وقال الفراء : أول مؤمني زمانهم وأنكره الزجاج وقال قد روي أنه آمن معهم ستمائة ألف وسبعون ألفا وهم الشرذمة القليلون الذين عناهم فرعون بقوله : { إن هؤلاء لشرذمة قليلون }
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } يقول : مبين له خلق حية { ونزع يده } يقول : وأخرج موسى يده من جيبه { فإذا هي بيضاء } تلمع { للناظرين } لمن ينظر إليها ويراها وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { وقيل للناس هل أنتم مجتمعون } قال : كانوا بالإسكندرية قال : ويقال بلغ ذئب الحية من وراء البحيرة يومئذ قال : وهربوا وأسلموا فرعون وهمت به فقال خذها يا موسى وكان مما بلى الناس به منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئا : أي يوهمهم أنه لا يحدث فأحدث يومئذ تحته وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله { لا ضير } قال : يقولون لا يضيرنا الذي تقول وأن صنعت بنا وصلبتنا { إنا إلى ربنا منقلبون } يقولون : إنا إلى ربنا راجعون وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا وثباتنا على توحيده والبراءة من الكفر (4/143)
وفي قوله : 51 - { أن كنا أول المؤمنين } قالوا كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها (4/144)
قوله : 52 - { أن أسر بعبادي } أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف وجملة { إنكم متبعون } تعليل للأمر المتقدم : أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم (4/145)
و 53 - { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين } وذلك حين بلغه مسيرهم والمراد بالحاشرين الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون ثم قال فرعون لقولمه بعد اجتماعهم لديه (4/145)
54 - { إن هؤلاء لشرذمة قليلون } يريد بني إسرائيل والشرذمة الجمع الحقير القليل والجمع شراذم : قال الجوهري : الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشيء وثوب شراذم : أي قطع ومنه قول الشاعر :
( جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها الخلاق )
قال الفراء : يقال عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون قال المبرد : الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير وجمعها الشراذم قال الواحدي : قال المفسرون : وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف ولا يحصى عدد أصحاب فرعون (4/145)
55 - { وإنهم لنا لغائظون } يقال غاظني كذا وأغاظني والغيظ الغضب ومنه التغيظ والاغتياظ : أي غاظونا بخروجهم من غير إذن مني (4/145)
56 - { وإنا لجميع حاذرون } قرئ حذرون وحاذرون وحذرون بضم الذال حكى ذلك الأخفش قال الفراء : الحاذر الذي يحذرك الآن والحذر المخلوق كذلك لا تلقاه إلا حذرا وقال الزجاج : الحاذر المستعد والحذر المتيقظ وبه قال الكسائي ومحمد بن يزيد قال النحاس : حذرون قراءة المدنيين وأبي عمرو وحاذرون قراءة أهل الكوفة قال : وأبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرون وحاذرون واحد وهو قول سيبويه وأنشد سيبويه :
( حذر أمورا لا تضير وحاذر ... ما ليس ينجيه من الأقدار ) (4/146)
57 - { فأخرجناهم من جنات وعيون } (4/146)
58 - { وكنوز ومقام كريم } يعني فرعون وقومه أخرجهم الله من أرض مصر وفيها الجنات والعيون والكنوز وهي جمع جنة وعين وكنز والمراد بالكنوز الخزائن وقيل الدفائن وقيل الأنهار وفيه نظر لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين عيون الماء فيدخل تحتها الأنهار
واختلف في المقام الكريم فقيل المنازل الحسان وقيل المنابر وقيل مجالس الرؤساء والأمراء وقيل مرابط الخيل والأول أظهر ومن ذلك قول الشاعر :
( وفيهم مقامات حسان وجوهها ... وأندية ينتابها القول والفعل ) (4/146)
59 - { كذلك وأورثناها بني إسرائيل } يحتمل أن يكون كذلك في محل نصب : أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا ويحتمل أن يكون في محل جر على الوصفية : أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ويحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر كذلك : ومعنى وأورثناها بني إسرائيل جعلناها ملكا لهم وهو معطوف على فأخرجناهم (4/146)
60 - { فأتبعوهم مشرقين } قراءة الجمهور بقطع الهمزة وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها وتشديد التاء : أي فلحقوهم حال كونهم مشرقين : أي داخلين في وقت الشروق يقال شرقت الشمس شروقا إذا طلعت كأصبح وأمسى : أي دخل في هذين الوقتين وقيل داخلين نحو المشرق كأنجد وأتهم وقيل معنى مشرقين مضيئين قال الزجاج : يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت (4/146)
61 - { فلما تراء الجمعان } قرأ الجمهور { تراء } بتخفيف الهمزة وقرأ ابن وثاب والأعمش من غير همز والمعنى : تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه وهو تفاعل من الرؤية وقرئ تراءت الفئتان { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } أي سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم قرأ الجمهور { إنا لمدركون } اسم مفعول من أدرك ومنه { حتى إذا أدركه الغرق } وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشددة وكسر الراء قال الفراء : هما بمعنى واحد قال النحاس : ليس كذلك يقول النحويون الحذاق إنما يقولون مدركون بالتخفيف ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم قال : وهذا معنى قول سيبويه وقال الزمخشري : إن معنى هذه القراءة إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد (4/146)
62 - { قال كلا إن معي ربي سيهدين } قال موسى هذه المقالة زجرا لهم وردعا والمعنى : أنهم لا يدركونكم وذكرهم وعد الله بالهداية والظفر والمعنى : إن معي ربي بالنصر والهداية سيهدين : أي يدلني على طريق النجاة فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم به وأمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه (4/147)
وذلك قوله : 63 - { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر } لما قال موسى : { إن معي ربي سيهدين } بين الله سبحانه له طريق الهداية فأمره بضرب البحر وبه نجا بنو إسرائيل وهلك عدوهم والفاء في { فانفلق } فصيحة : أي فضرب فانفلق فصار اثنى عشر فلقا بعدد الأسباط وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم وهو معنى قوله : { فكان كل فرق كالطود العظيم } والفرق القطعة من البحر وقرئ فلق بلام بدل الراء والطود الجبل قال امرؤ القيس :
( فبينا المرء في الأحياء طود ... رماه الناس عن كثب فمالا )
وقال الأسود بن يعفر :
( حلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد ) (4/147)
64 - { وأزلفنا ثم الآخرين } أي قربناهم إلى البحر : يعني فرعون وقومه قال الشاعر :
( وكل يوم مضى أو ليلة سلفت ... فيها النفوس إلى الآجال تزدلف )
قال أبو عبيدة : أزلفنا جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع وثم ظرف مكان للبعيد وقيل إن المعنى : وأزلفنا قربنا من النجاة والمراد بالآخرين موسى وأصحابه والأول أولى وقرأ الحسن وأبو حيوة وزلفنا ثلاثيا وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث وأزلقنا بالقاف : أي أزللنا وأهلكنا من قولهم : أزلقت الفرس إذا ألقت ولدها (4/147)
65 - { وأنجينا موسى ومن معه أجمعين } بمرورهم في البحر بعد أن جعله الله طرقا يمشون فيها (4/148)
66 - { ثم أغرقنا الآخرين } يعني فرعون وقومه أغرقهم الله بإطباق البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه (4/148)
والإشارة بقوله : 67 - { إن في ذلك لآية } إلى ما تقدم ذكره مما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية ففي ذلك آية عظيمة وقدرة باهرة من أدل العلامات على قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه { وما كان أكثرهم مؤمنين } أي ما كان أكثر هؤلاء الذين مع فرعون مؤمنين فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلا القليل كحزقيل وابنته وآسية امرأة فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى فإنهم هلكوا في البحر جميعا بل المراد من كان معه من الأصل ومن كان متابعا له ومنتسبا إليه هذا غاية ما يمكن أن يقال وقال سيبويه وغيره : إن كان زائدة وأن المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة (4/148)
68 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { إن هؤلاء لشرذمة قليلون } قال : ستمائة ألف وسبعون ألفا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانوا ستمائة ألف وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان أصحاب موسى الذين جازوا البحر اثني عشر سبطا فكان في كل طريق إثنا عشر ألفا كلهم ولد يعقوب ] وأخرج ابن مردويه عنه أيضا بسند قال السيوطي : واه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان فرعون عدو الله حيث أغرقه الله هو وأصحابه في سبعين قائدا مع كل قائد سبعون ألفا وكان موسى مع سبعين ألفا حيث عبروا البحر ] وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : كان طلائع فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستمائة ألف ليس فيها أحد إلا على بهيم
وأقول : هذه الروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف ولا يصح منها شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { ومقام كريم } قال : المنابر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { كالطود } قال : كالجبل وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود مثله وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { وأزلفنا } قال : قربنا وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق فقال لبني إسرائيل : ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل : إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا فقال لهم موسى : أيكم يدري أين قبره ؟ فقالوا : ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل فأرسل إليها موسى فقال : دلينا على قبر يوسف ؟ فقالت : لا والله حتى تعطيني حكمي قال : وما حكمك ؟ قالت : أن أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له أعطها حكمها فأعطاها حكمها فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء فقالت لهم : انضبوا عنها الماء ففعلوا قالت : احفروا فحفروا فاستخرجوا قبر يوسف فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار ] (4/148)
قوله : 69 - { واتل عليهم } معطوف على العامل في قوله : { وإذ نادى ربك موسى } وقد تقدم والمراد بنبأ إبراهيم خبره : أي أقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وحديثه (4/150)
و 70 - { وإذ قال } منصوب بنبأ إبراهيم : أي وقت قوله : { لأبيه وقومه ما تعبدون } وقيل إذ بدل من نبأ بد اشتمال فيكون العامل فيه اتل والأول أولى ومعنى ما تعبدون : أي شيء تعبدون ؟ وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام ولكنه أراد إلزامهم الحجة (4/150)
71 - { قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين } أي فنقيم على عبادتها مستمرا لا في وقت معين يقال ظل يفعل كذا : إذا فعله نهارا وبات يفعل ليلا فظاهره أنهم يستمرون على عبادتها نهارا لا ليلا والمراد من العكوف لها الإقامة على عبادتها وإنما قال لها لإفادة أن ذلك العكوف لأجلها فلما قالوا هذه المقالة قال إبراهيم منبها على فساد مذهبهم (4/150)
72 - { هل يسمعونكم إذ تدعون } قال الأخفش : فيه حذف والمعنى : هل يسمعون منكم أو هل يسمعون دعاءكم وقرأ قتادة هل يسمعونكم بضم الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم وقت دعائكم لهم (4/150)
73 - { أو ينفعونكم } بوجه من وجوه النفع { أو يضرون } أي يضرونكم إذا تركتم عبادتهم وهذا الاستفهام للتقرير فإنها إذا كانت لا تسمع ولا تنفع ولا تضر فلا وجه لعبادتها فإذا قالوا نعم هي كذلك أقروا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث وعند ذلك تقوم الحجة عليهم فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة لم يجدوا لها جوابا إلا رجوعهم إلى التقليد البحت وهو أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون : أي يفعلون لهذه العبادة لهذه الأصنام مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها وهذا الجواب هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز ويمشي بها كل أعرج ويغتر بها كل مغرور وينخدع لها كل مخدوع فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال التي طبقت الأرض بطولها والعرض وقلت لهم : ما الحجة لهم على تقليد فرد من أفراد العلماء والأخذ بكل ما يقوله في الدين ويبتدعه من الرأي المخالف للدليل لم يجدوا غير هذا الجواب ولا فاهوا بسواه وأخذوا يعددون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا من سلفهم واقتداء بأقواله وأفعاله وهم قد ملأوا صدورهم هيبة وضاقت أذهانهم عن تصورهم وظنوا أنهم خير أهل الأرض وأعلمهم وأروعهم فلم يسمعوا لناصح نصحا ولا لداع إلى الحق دعاء ولو فظنوا لوجدوا أنفسهم في غرور عظيم وجهل شنيع وإنهم كالبهيمة العمياء وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمين كما قال الشاعر :
( كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الحائر )
فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة المبرأ من التعصب والتعسف أن تورد عليهم حجج الله وتقيم عليهم براهينه فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداءن فلو أوردت عليه كل حجة وأقمت عليه كل برهان لما أعارك إلا أذنا صماء وعينا عمياء ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن والهداية بيد الخلاق العليم { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة (4/150)
74 - { قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } (4/151)
75 - { قال } الخليل { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } (4/151)
76 - { أنتم وآباؤكم الأقدمون } أي فهل أبصرتم وتفكرتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة ثم أخبرهم بالبراءة من هذه الأصنام التي يعبدونها (4/151)
فقال : 77 - { فإنهم عدو لي } ومعنى كونهم عدوا له مع كونهم جمادا أنه إن عبدهم كانوا له عدوا يوم القيامة قال الفراء : هذا من المقلوب : أي فإني عدو لهم لأن من عاديته عاداك والعدو كالصديق يطلق على الواحد والمثنى والجماعة والمذكر والمؤنث كذا قال الفراء قال علي بن سليمان : من قال عدوه الله فأثبت الهاء قال هي بمعنى المعادية ومن قال عدو للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب
وقيل المراد بقوله : { فإنهم عدو لي } آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم الأصنام ورد بأن الكلام مسوق فيما عبدوه لا في العابدين والاستثناء في قوله : { إلا رب العالمين } منقطع : أي لكن رب العالمين ليس كذلك بل هو وليي في الدنيا والآخرة قال الزجاج : قال النحويون : هو استثناء ليس من الأول وأجاز الزجاج أيضا أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز و جل ويعبدون معه الأصنام فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله قال الجرجاني : تقديره أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدو لي فجعله من باب التقديم والتأخير وجعل إلا بمعنى دون وسوى كقوله : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } أي دون الموتة الأولى وقال الحسن بن الفضل : إن المعنى إلا من عبد رب العالمين (4/151)
ثم وصف رب العالمين بقوله : 79 - { الذي خلقني فهو يهدين } أي فهو يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا وقيل إن الموصل مبتدأ وما بعده خبره والأول أولى ويجوز أن يكون الموصول بدلا من رب وأن يكون عطف بيان له وأن يكون منصوبا على المدح بتقدير أعني أو أمدح وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله (4/151)
فإن الخلق والهداية والرزق يدل عليه قوله : 80 - { والذي هو يطعمني ويسقين } ودفع ضر المرضن وجلب نفع الشفاء والإماتة والإحياء والمغفرة للذنب كلها نعم يجب على المنعم عليه ببعضها فضلا عن كلها أن يشكر المنعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها وأولاها العبادة ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية للأدب مع الرب وإلا فالمرض وغيره من الله سبحانه (4/151)
80 - { وإذا مرضت فهو يشفين } (4/151)
ومراده بقوله : 81 - { ثم يحيين } البعث وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي وقرأ ابن أبي إسحاق هذه الأفعال كلها بإثبات الياء (4/152)
وإنما قال عليه الصلاة و السلام 82 - { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } هضما لنفسه وقيل إن الطمع هنا مبعنى اليقين في حقه وبمعنى الرجاء في حق سواه وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق خطاياي قالا : ليست خطيئته واحدة قال النحاس : خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب قال مجاهد : يعني بخطيئته قوله : { بل فعله كبيرهم هذا } وقوله : { إني سقيم } وقوله : إن سارة أخته زاد الحسن : وقوله للكوكب : { هذا ربي } وحكى الواحدي عن المفسرين أنهم فسروا الخطايا بما فسرها به مجاهد قال الزجاج : الأنبياء بشر ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلا أنهم لا تكون منهم الكبيرة لأنهم معصومون والمراد بيوم الدين يوم الجزاء للعباد بأعمالهم ولا يخفى أن تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد ومن معه ضعيف فإن تلك معاريض وهي أيضا إنما صدرت عنه بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه والاعتراف بنعمه عقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك (4/152)
فقال : 83 - { رب هب لي حكما } والمراد بالحكم العلم والفهم وقيل النبوة والرسالة وقيل المعرفة بحدود الله وأحكامه إلى آخره { وألحقني بالصالحين } يعني بالنبيين من قبلي وقيل بأهل الجنة (4/152)
84 - { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } أي اجعل لي ثناء حسنا في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة لأن القول يكون به وقد تكني العرب بها عن الكلمة ومنه قول الأعشى :
( إني أتتني لسان لا أسر بها )
وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله : { تركنا عليه في الآخرين } فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه وقال مكي : قيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق فأجيبت دعوته في محمد صلى الله عليه و سلم ولا وجه لهذا التخصيص وقال القشيري : اراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة ولا وجه لهذا أيضا فإن لسان الصدق أعم من ذلك (4/152)
85 - { واجعلني من ورثة جنة النعيم } من ورثة يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا وأن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني : أي وارثا من ورثة جنة النعيم لما طلب عليه السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة وهي جنة النعيم وجعلها مما يورث تشبيها لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا وقد تقدم معنى الوراثة في سورة مريم (4/152)
86 - { واغفر لأبي إنه كان من الضالين } كان أبوه قد وعده أنه يؤمن به فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة وسورة مريم ومعنى من الضالين من المشركين الضالين عن طريق الهداية وكان زائدة على مذهب سيبويه كما تقدم في غير موضع (4/153)
87 - { ولا تخزني يوم يبعثون } أي لا فتضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي أو لا تعذبني يوم القيامة أو لا تخزني بتعذيب أبي أو ببعثه في جملة الضالين والإخزاء يطلق على الخزي وهو الهوان وعلى الخزاية وهي الحياء (4/153)
و 88 - { يوم لا ينفع مال ولا بنون } بدل من يوم يبعثون : أي يوم لا ينفع فيه المال والبنون أحدا من الناس والابن هو أخص القرابة وأولاهم بالحماية والدفع والنفع فإذا لم ينفع فغيره من القرابة والأعوان بالأولى وقال ابن عطية : إن هذا وما بعده من كلام الله وهو ضعيف (4/153)
والاستثناء بقوله : { إلا من أتى الله بقلب سليم } قيل هو منقطع : أي لكن من أتى الله بقلب سليم قال في الكشاف : إلا حال من أتى الله بقلب سليم فقدر مضافا محذوفا قال أبو حيان : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك وقيل إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف أو مستثنى منه إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحدا من الناس إلا من كانت هذه صفته ويحتمل أن يكون بدلا من فاعل ينفع فيكون مرفوعا قال أبو البقاء : فيكون التقدير : إلا مال من أو بنو من فإنه ينفع
واختلف في معنى القلب السليم فقيل السلم من الشرك فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد قال أكثر المفسرين وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقيل هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة وقيل السالم من آفة المال والبنين وقال الضحاك : السليم الخالص وقال الجنيد السليم في اللغة اللديغ فمعناه : أنه قلب كاللديغ من خوف الله تعالى وهذا تحريف وتعكيد لمعنى القرآن قال الرازي : أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة (4/153)
90 - { وأزلفت الجنة للمتقين } أي قربت وأدنيت لهم يلدخلوها وقال الزجاج : قرب دخولهم إياها ونظرهم إليها (4/153)
91 - { وبرزت الجحيم للغاوين } أي جعلت بارزة لهم والمراد بالغاوين الكافرون والمعنى : أنها أظهرت قبل أن يدخلها المؤمنون ليشتد حزن الكافرين ويكثر سرور المؤمنين (4/153)
92 - { وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون } (4/153)
93 - { من دون الله } من الأصنام والأنداد { هل ينصرونكم } فيدفعون عنكم العذاب { أو ينتصرون } بدفعه عن أنفسهم وهذا كله توبيخ وتقريع لهم وقرأ مالك بن دينار وبرزت بفتجح الباء والراء مبينا للفاعل (4/153)
94 - { فكبكبوا فيها هم والغاوون } أي ألقوا في جهنم هم : يعني المعبودين والغاوون : يعني العابدين لهم وقيل معنى كبكبوا : قلبوا على رؤوسهم وقيل ألقي بعضهم على بعض وقيل جمعوا مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة قال الهروي وقال النحاس : هو مشتق من كوكب الشيء : أي معظمه والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة وقيل دهدهوا وهذه المعاني متقاربة وأصله كببوا بباءين الأولى مشددة من حرفين فأبدل من الباء الوسطى الكاف وقد رجح الزجاج أن المعنى : طرح بعضهم على بعض ورجح ابن قتيبة أن المعنى : ألقوا على رؤوسهم وقيل الضمير في كبكبوا لقريش والغاوون الآلهة والمراد بجنود إبليس شياطينه الذي يغوون العباد وقيل ذريته وقيل كل من يدعو إلى عبادة الأصنام (4/153)
و 95 - { أجمعون } تأكيد للضمير في كبكبوا وما عطف عليه (4/154)
وجملة 96 - { قالوا وهم فيها يختصمون } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل (4/154)
ومقول القول 97 - { تالله إن كنا لفي ضلال مبين } وجملة : وهم فيها يختصمون في محل نصب على الحال : أي قالوا هذه المقالة حال كونهم في جهنم مختصمين و إن في إن كنا هي المخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية : أي قالوا تالله إن الشأن كوننا في ضلال واضح ظاهر والمراد بالضلال هنا الخسار والتبار والحيرة عن الحق والعامل في الظرف (4/154)
أعني 98 - { إذ نسويكم برب العالمين } هو كونهم في الضلال المبين وقيل العامل هو الضلال وقيل ما يدل عليه الكلام كأنه قيل ضللنا وقت تسويتنا لكم برب العالمين وقال الكوفيون : إن إن في إن كنا نافية واللام بمعنى إلا : أي ما كنا إلا في ضلال مبين والأول أولى وهو مذهب البصريين (4/154)
99 - { وما أضلنا إلا المجرمون } (4/154)
100 - { فما لنا من شافعين } يشفعون لنا من العذاب كما للمؤمنين (4/154)
101 - { ولا صديق حميم } أي ذي قرابة والحميم القريب الذي توده ويودك ووحد الصديق لما تقدم غير مرة أنه يطلق على الواحد والاثنين والجماعة والمذكر والمؤنث والحميم مأخوذ من حامة الرجل أي أقربائه ويقال حم الشيء وأحم إذا قرب منه ومنه الحمى لأنه يقرب من الأجل وقال علي بن عيسى : إنما سمي القريب حميما لأنه يحمي لغضب صاحبه فجعله مأخوذا من الحمية (4/154)
102 - { فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين } هذا منهم على طريق التمني الدال على كمال التحسر كأنهم قالوا : فليت لنا كرة : أي رجعة إلى الدنيا وجواب التمني فنكون من المؤمنين : أي نصير من جملتهم (4/154)
والإشارة بقوله : 103 - { إن في ذلك لآية } إلى ما تقدم ذكره من نبأ إبراهيم والآية العبرة والعلامة والتنوين يدل على التعظيم والتفخيم { وما كان أكثرهم مؤمنين } أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم نبأ إبراهيم وهم قريش ومن دان بدينهم وقيل وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين وهو ضعيف لأنهم كلهم غير مؤمنين (4/154)
104 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي هو القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وألحقني بالصالحين } يعني بأهل الجنة وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } قال : اجتماع أهل الملل على إبراهيم وأخرج عنه أيضا { واغفر لأبي } قال : أمنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه : فاليوم لا أعصينك فيقول إبراهيم : رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين والذيخ هو الذكر من الضباع فكأنه حول آزر إلى صورة ذيخ وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إلا من أتى الله بقلب سليم } قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { فكبكبوا فيها } قال : جمعوا فيها { هم والغاوون } قال : مشركو العرب والآلهة وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { فلو أن لنا كرة } قال رجعة إلى الدنيا { فنكون من المؤمنين } حتى تحل لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء (4/154)
قوله : 105 - { كذبت قوم نوح المرسلين } أنث الفعل لكونه مسندا إلى قوم وهو في معنى الجماعة أو الأمة أو القبيلة وأوقع التكذيب على المرسلين وهم لم يكذبوا إلا الرسول المرسل إليهم لأن من كذب رسولا فقد كذب الرسل لأن كل رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل وقيل كذبوا نوحا في الرسالة وكذبوه فيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده (4/156)
106 - { إذ قال لهم أخوهم نوح } أي أخوهم من أبيهم لا أخوهم في الدين وقيل هي أخوة المجانسة وقيل هو من قول العرب : يا أخا بني تميم يريدون واحدا منهم { ألا تتقون } أي ألا تتقون الله بترك عبادة الأصنام وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم (4/156)
107 - { إني لكم رسول أمين } أي إني لكم رسول من الله أمين فيما أبلغكم عنه وقيل أمين فيما بينكم فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه (4/156)
108 - { فاتقوا الله وأطيعون } أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه وأطيعون فيما آمركم به عن الله من الإيمان به وترك الشرك والقيام بفرائض الدين (4/156)
109 - { وما أسألكم عليه من أجر } أي ما أطلب منكم أجرا على تبليغ الرسالة ولا أطمع في ذلك منكم { إن أجري } الذي أطلبه وأريده { إلا على رب العالمين } أي على ما أجري إلا عليه (4/156)
وكرر قوله : 110 - { فاتقوا الله وأطيعون } للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهم بسبب وهو الأمانة في الأول وقطع الطمع في الثاني ونظيره قولك : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا وقد تقدم الآمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته (4/156)
111 - { قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } وهم جمع أرذل وجمع التكسير أرذال والأنثى رذلى وهم الأقلون جاها ومالا والرذاله الخسة والذلة استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم أو لا تضاع أنسابهم وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هود وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي { واتبعك الأرذلون } قال النحاس : وهي قراءة حسنة لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيرا وأتباع جمع تابع فأجابهم نوح بقوله : { وما علمي بما كانوا يعملون } كان زائدة والمعنى : وما علمين بعلمهم : أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوعم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصنائع والفقر والغنى وكأنهم أشاروا بقولهم : { واتبعك الأرذلون } إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح فأجابهم بهذا وقيل المعنى : إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم (4/156)
112 - { قال وما علمي بما كانوا يعملون } (4/156)
113 - { إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون } أي ما حسابهم والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلا على الله لو كنتم من أهل الشعور والفهم قرأ الجمهور { تشعرون } بالفوقية وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع والأعرج وأبو زرعة بالتحتية كأنه ترك الخطاب للكفار والتفت إلى الإخبار عنهم قال الزجاج : والصناعات لا تضر في باب الديانات (4/156)
وما أحسن ما قال : 114 - { وما أنا بطارد المؤمنين } هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طب الطرد لهم (4/157)
115 - { إن أنا إلا نذير مبين } أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه أليكم وهذه الجملة كالعلة لما قلبها (4/157)
116 - { قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } أي إن لم تترك عيب ديننا وسب آلهتنا لتكونن من المرجومين بالحجارة وقيل من المشتومين وقيل من المقتولين فعدلوا بعد تلك المحاورة بينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد فلما سمع نوح قولهم هذا (4/157)
117 - { قال رب إن قومي كذبون } أي أصروا على تكذيبي ولم يسمعوا قولي ولا أجابوا دعائي (4/157)
118 - { فافتح بيني وبينهم فتحا } الفتح الحكمك أي احكم بيني وبينهم حكما وقد تقدم تحقيق معنى الفتح { ونجني ومن معي من المؤمنين } فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له (4/157)
فقال : 119 - { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } أي السفينة المملوءة والشحن ملء السفينة بالناس والدواب والمتاع (4/157)
120 - { ثم أغرقنا بعد الباقين } أي ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه (4/157)
121 - { إن في ذلك لآية } أي علامة وعبرة عظيمة { وما كان أكثرهم مؤمنين } كان زائدة عند سيبويه وغيره على ما تقدم تحقيقه (4/157)
122 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه (4/157)
123 - { كذبت عاد المرسلين } أنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة لأن عادا اسم أبيهم الأعلى ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا قد تقدم وجهه في قصة نوح قريبا (4/157)
124 - { إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون } الكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريبا (4/157)
وكذا قوله : 125 - { إني لكم رسول أمين } (4/157)
126 - { فاتقوا الله وأطيعون } (4/157)
127 - { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } الكلام فيه كالذي قبله سواء (4/157)
128 - { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } الريع المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة يقال كم ريع أرضك ؟ أي كم ارتفاعها قال أبو عبيدة : الريع الارتفاع جمع ريعة وقال قتادة والضحاك والكلبي : الريع الطريق وبه قال مقاتل والسدي وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة ومنه قول ذي الرمة :
( طراق الخوافي مشرف فوق ريعة ... بذي ليلة في ريشه يترقرق )
وقيل الريع الجبل واحدة ريعة والجمع أرياع وقال مجاهد : هو الفج بين الجبلين وروي عنه أنه الثنية الصغيرة وروي عنه أيضا أنه المنظرة ومعنى الآية : أنكم تبنون بكل مكان مرتفع علما تعبثون ببنيانه وتلعبون بالمارة وتخسرون منهم لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق فتؤذون المارة وتخسرون منهم قال الكلبي : إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم حكاه الماوردي قال ابن الأعرابي : الريع الصومعة الريع الرج يكون في الصحراء والريع التل العالي وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها (4/157)
129 - { وتتخذون مصانع } المصانع : هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل قال أبو عبيدة : كل بناء مصنعة منه وبه قال الكلبي وغيره منه قول الشاعر :
( تركن ديارهم منهم قفارا ... وهد من المصانع والبروجا )
وقيل هي الحصون المشيدة قاله مجاهد وغيره وقال الزجاج : إنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض واحدتها مصنعة ومصنع ومنه قول لبيد :
( بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع )
وليس في هذا البيت ما يدل صريحا على ما قاله الزجاج ولكنه قال الجوهري : المصنعة بضم النون الحوض يجمع فيه ماء المطر والمصانع الحصون وقال عبد الرزاق : المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية ومعنى { لعلكم تخلدون } راجين أن تخلدوا وقيل إن لعل هنا للاستفهام التوبيخي : أي هل تخلدون كقولهم لعلك تشتمني : أي هل تشتمني وقال الفراء : كي تخلدون ولا تتفكرون في الموت وقيل المعنى : كأنكم باقون مخلدون قرأ الجمهور { تخلدون } مخففا وقرأ قتادة بالتشديد وحكى النحاس أن في بعض القراءات كأنكم مخلدون وقرأ ابن مسعود كي تخلدوا (4/158)
130 - { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } البطش السطوة والأخذ بالعنف قال مجاهد وغيره : البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط والمعنتى : فعلتم ذلك ظلما وقيل هو القتل على العصب قاله الحسن والكلبي قيل والتقدير : وإذا أردتم البطش لئلا يتحد الشرط والجزاء وانتصاب جبارين على الحال قال الزجاج : إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم وأما في الحق فالبطش بالسوط والسيف جائز ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتو التمرد والتجبر أمرهم بالتقوى (4/158)
131 - { فاتقوا الله وأطيعون } أجمل التقوى ثم فصلها (4/158)
بقوله : 132 - { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون } (4/158)
133 - { أمدكم بأنعام وبنين } وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد (4/158)
134 - { وجنات وعيون } أي بساتين وأنهار وأبيار ثم وعظهم وحذرهم (4/158)
فقال : 135 - { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } إن كفرتم وأصررتم على ما أنتم فيه ولم تشكروا هذه النعم والمراد بالعذاب العظيم الدنيوي والأخروي
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس { قالوا أنؤمن لك } أي أنصدقك ؟ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد { واتبعك الأرذلون } قال : الحواكون وأخرج أيضا عن قتادة قال : سفلة الناس وأراذلهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { الفلك المشحون } قال : الممتلئ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال أتدرون ما المشحون ؟ قلنا لا قال : هو الموقر وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : هو المثقل وأخرج ابن جرير عنه أيضا { بكل ريع } قال : طريق { آية } قال : علما { تعبثون } قال : تلعبون وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { بكل ريع } قال : شرف وأخرجوا أيضا عنه { لعلكم تخلدون } قال : كأنكم تخلدون وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { جبارين } قال : أقوياء (4/158)
أي وعظك وعدمه { سواء } عندنا لا نبالي بشيء منه ولا نلتفت إلى ما تقوله وقد روى العباس عن أبي عمرو وروى بشر عن الكسائي { أوعظت } بإدغام الظاء في التاء وهو بعيد لان حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدا وروي ذلك عن عاصم والأعمش وابن محيصن وقرأ الباقون بإظهار الظاء (4/159)
137 - { إن هذا إلا خلق الأولين } أي ما هذا الذي جئتنا به ودعوتنا إليه من الدين إلا خلق الأولين : أي عادتهم التي كانوا عليها وقيل المعنى : ما هذا الذي جئتنا به ودعوتنا إليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم وهذا بناء على ما قاله الفراء وغيره : إن معنى خلق الأولين عادة الأولين قال النحاس : خلق الأولين عند الفراء بمعنى عادة الأولين وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال { خلق الأولين } مذهبهم وما جرى عليه أمرهم والقولان متقاربان قال : وحكى لنا محمد بن يزيد أن معنى { خلق الأولين } تكذيبهم قال مقاتل : قالوا ما هذا الذي تدعونا إليه إلا كذب الأولين قال الواحدي : وهو قول ابن مسعود ومجاهد قال : والخلق والاختلاق الكذب ومنه قوله : { وتخلقون إفكا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب { خلق الأولين } بفتح الخاء وسكون اللام وقرأ الباقون بضم الخاء واللام قال الهروي : معناه على القراءة الأولى : اختلاقهم وكذبهم وعلى القراءة الثانية : عادتهم وهذا التفصيل لا بد منه قال ابن الأعرابي : الخلق الدين والخلق الطبع والظاهر أن المراد بالآية هو قول من قال : ما هذا الذي نحن عليه إلا عادة الأولين وفعلهم (4/160)
ويؤيده قولهم : 138 - { وما نحن بمعذبين } أي على ما نفعل من البطش ونحوه مما نحن عليه الآن (4/160)
139 - { فكذبوه فأهلكناهم } أي بالريح كما صرح القرآن في غير هذا الموضع بذلك { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } (4/160)
140 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } تقدم تفسير هذا قريبا في هذه السورة ثم لما فرغ سبحانه من ذكر قصة هود وقومه ذكر قصة صالح وقومه وكانوا يسكنون الحجر (4/160)
فقال : 141 - { كذبت ثمود } (4/160)
142 - { إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون } (4/160)
143 - { إني لكم رسول أمين } (4/160)
144 - { فاتقوا الله وأطيعون } (4/160)
إلى قوله : 145 - { إلا على رب العالمين } قد تقدم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة (4/160)
146 - { أتتركون في ما هاهنا آمنين } الاستفهام للإنكار - أي أتتركون في هذه النعم التي أعطاكم الله آمنين من الموت والعذاب باقين في الدنيا (4/160)
ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله : 147 - { في جنات وعيون } (4/160)
148 - { وزروع ونخل طلعها هضيم } والهضيم النضيح الرخص اللين اللطيف والطلع ما يطلع من الثمر وذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار وكثيرا ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلا الإبل وهكذا يذكرون الجنة ولا يريدون إلا النخل قال زهير :
( كأن عيني في غربي مقبلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا )
وسحقا جمع سحوق ولا يوصف به إلا النخل وقيل المراد بالجنات غير النخل من الشجر والأول أولى وحكى الماوردي في معنى هضيم إثني عشر قولا أحسنها وأوفقها للغة ما ذكرناه (4/160)
149 - { وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين } النحت : النجر والبري نحته ينحته بالكسر براه والنحاتة براية وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان { فارهين } بغير ألف وقرأ الباقون { فارهين } بالألف قال أبو عبيدة وغيره : وهما بمعنى واحد والفره : النشاط وفرق بينهما أبو عبيد وغيره فقالوا فارهين حاذقين بنحتها وقيل متجبرين وفرهين بطرين أشرين وبه قال مجاهد وغيره وقيل شرهين وقال الضحاك : كيسين وقال قتادة : معجبين ناعمين آمنين وبه قال الحسن وقيل فرحين قاله الأخفش وقال أبن زيد : أقوياء (4/160)
150 - { فاتقوا الله وأطيعون } (4/161)
151 - { ولا تطيعوا أمر المسرفين } أي المشركين وقيل الذين عقروا الناقة (4/161)
ثم وصف هؤلاء المسرفين بقوله : 152 - { الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون } أي ذلك دأبهم يفعلون الفساد في الأرض ولا يصدر منهم الصلاح ألبتة (4/161)
153 - { قالوا إنما أنت من المسحرين } أي الذين أصيبوا بالسحر قاله مجاهد وقتادة وقيل المسحر هو المعلل بالطعام والشراب قاله الكلبي وغيره فيكون المسحر الذي له سحر وهو الرئة فكأنهم قالوا إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب قال الفراء : أي إنك تأكل الطعام والشراب وتسحر به ومنه قول امرئ القيس أو لبيد :
( فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذه الأنام المسحر )
وقال امرؤ القيس أيضا :
( أرانا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب )
قال المؤرج : المسحر المخلوق بلغة ربيعة (4/161)
154 - { ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين } في قولك ودعواك (4/161)
155 - { قال هذه ناقة } الله { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } أي يها نصيب من الماء ولكم نصيب منه معلوم ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم قال الفراء : الشرب الحظ من الماء قال النحاس : فأما المصدر فيقال فيه شرب شربا وأكثرهم المضموم والشرب بفتح الشين جمع شارب والمراد هنا الشرب بالكسر وبه قرأ الجمهور فيهما وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما (4/161)
156 - { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم } أي لا تمسوها بعقر أو ضرب أو شيء مما يسؤوها وجواب النهي فيأخذكم (4/161)
{ فعقروها فأصبحوا نادمين } على عقرها لما عرفوا أن العذاب نازل بهم وذلك أنه أنظرهم ثلاثا فظهرت عليهم العلامة في كل يوم وندموا حيث لا ينفع الندم لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب وظهور آثاره (4/161)
158 - { فأخذهم العذاب } الذي وعدهم به وقد تقدم تفسير قوله : { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } (4/162)
159 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } في هذه السورة وتقدم أيضا تفسير قصة صالح وقومه في غير هذه السورة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ونخل طلعها هضيم } قال : معشب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : أينع وبلغ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : أرطب واسترخى وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { فارهين } قال : حاذقين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : { فارهين } أشرين وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : شرهين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس في قوله : { إنما أنت من المسحرين } قال : من المخلوقين وأنشد قوله لبيد بن ربيعة :
( فإن تسألينا فيم نحن [ ... ] البيت )
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا في قوله : { لها شرب } قال : إذا كان يومها أصدر لها لبنها ما شاءوا (4/162)
160 - { كذبت قوم لوط المرسلين } ذكر سبحانه القصة السادسة من قصص الأنبياء مع قومهم وهي قصة لوط (4/163)
وقد تقدم تفسير قوله : { إذ قال لهم } (4/163)
162 - { إني لكم رسول أمين } (4/163)
163 - { فاتقوا الله وأطيعون } (4/163)
إلى قوله : 164 - { إلا على رب العالمين } في هذه السورة وتقدم أيضا تفسير قصة لوط مستوفى في الأعراف (4/163)
قوله : 165 - { أتأتون الذكران من العالمين } الذكران جمع الذكر ضد الأثنى ومعنى تأتون : تنكحون الذكران من العامين وهم بنو آدم أو كل حيوان وقد كانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم في الأعراف (4/163)
166 - { وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } أي وتتركون ما خلقه الله لأجل استمتاعكم به من النساء وأراد بالأزواج جنس الإناث { بل أنتم قوم عادون } أي مجاوزون للحد في جميع المعاصي ومن جملتها هذه المعصية التي ترتكبونها من الذكران (4/163)
167 - { قالوا لئن لم تنته يا لوط } عن الإنكار علينا وتقبيح أمرنا { لتكونن من المخرجين } من بلدنا المنفيين عنها (4/163)
168 - { قال إني لعملكم } وهو ما أنتم فيه من إتيان الذكران { من القالين } المبغضين له والقلي البغض قليته أقليه قلا وقلاء ومنه قول الشاعر :
( فلست بمقلي الخلال ولا قالي )
وقال الآخر :
( ومالك عندي إن نأيت قلاء )
ثم رغب عليه الصلاة و السلام عن محاورتهم وطلب من الله عز و جل أن ينجيه (4/163)
فقال : 169 - { رب نجني وأهلي مما يعملون } أي من عملهم الخبيث أو من عقوبته التي ستصيبهم فأجاب الله سبحانه دعاءه (4/164)
وقال : 170 - { فنجيناه وأهله أجمعين } أي أهل بيته ومن تابعه على دينه وأجاب دعوته (4/164)
171 - { إلا عجوزا في الغابرين } هي امرأة لوط ومعنى من الغابرين : من الباقين في العذاب وقال أبو عبيدة : من الباقين في الهرم : أي بقيت حتى هرمت قال النحاس : يقال للذاهب غابر وللباقي غابر قال الشاعر :
( لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج )
والأغبار بقية الألبان وتقول العرب : ما مضى وما غبر : أي ما مضى وما بقي (4/163)
172 - { ثم دمرنا الآخرين } أي أهلكناهم بالخسف والحصب (4/164)
173 - { وأمطرنا عليهم مطرا } يعني الحجارة { فساء مطر المنذرين } المخصوص بالذم محذوف والتقدير مطرهم (4/164)
وقد تقدم تفسير 174 - { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } (4/164)
175 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } في هذه السورة (4/164)
176 - { كذب أصحاب الأيكة المرسلين } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر { الأيكة } بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسما غير معرف بأل مضافا إليه أصحاب وقرأ الباقون { الأيكة } معرفا والأيكة الشجر الملتف وهي الغيضة وليكة اسم للقرية وقيل هما يمعنى واحد اسم للغيضة قال القرطبي فأما ما حكاه أبو عبيد من أن ليكة اسم القرية التي كانوا فيها وأن الأيكة اسم البلد كله فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله ولو عرف لكان فيه نظر لأن أهل العلم جميعا على خلافه قال أبو علي الفارسي : الأيكة تعريف أيكة فإذا حذفت الهمزة تخفيفا ألقيت حركتها على اللام قال الخليل : الأيكة غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر (4/164)
177 - { إذ قال لهم شعيب ألا تتقون } لم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيبا لأنه كان منهم وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف (4/164)
وقد تقدم تفسير قوله : 177 - { إني لكم رسول أمين } (4/164)
179 - { فاتقوا الله وأطيعون } (4/164)
إلى قوله تعالى : 180 - { إلا على رب العالمين } في هذه السورة (4/164)
قوله : 181 - { أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين } أي أتموا الكيل لمن أراده وعامل به ولا تكونوا من المخسرين : الناقصين للكيل والوزن يقال أخسرت الكيل والوزن : أي نقصته ومنه قوله تعالى : { وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } ثم زاد سبحانه في البيان (4/164)
فقال : { وزنوا بالقسطاس المستقيم } أي أعطوا الحق بالميزان السوي وقد مر بيان تفسير هذا في سورة سبحان وقد قرئ بالقسطاس مضمونا ومكسورا (4/164)
183 - { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } البخس النقص يقال بخسه حقه : إذا نقصه : أي لا تنقصوا الناس حقوقهم التي لهم وهذا تعميم بعد التخصيص وقد تقدم تفسيره في سورة هود وتقدم أيضا تفسير { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } فيها وفي غيرها (4/165)
184 - { واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين } قرأ الجمهور بكسر الجيم والباء وتشديد اللام وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام وقرأ السلمي بفتح الجيم مع سكون الباء والجبلة الخليقة قاله مجاهد وغيره : يعني الأمم المتقدمة يقال جبل فلان على كذا : أي خلق قال النحاس : الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفية الأولين وبضمهما مع تشديد اللام فيهما وبضم الجيم وسكون الباء وضمه فتحها قال الهروي : الجبلة والجبلة والجبل والجبل لغات وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس ومنه قوله تعالى : { جبلا كثيرا } أي خلقا كثيرا ومن ذلك قول الشاعر :
( والموت أعظم حادث ... فيما يمر على الجبلة ) (4/165)
185 - { قالوا إنما أنت من المسحرين } (4/165)
186 - { وما أنت إلا بشر مثلنا } قد تقدم تفسيره مستوفى في هذه السورة { وإن نظنك لمن الكاذبين } إن هي المخففة م الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدر واللام هي الفارقة أي فيما تدعيه علينا من الرسالة وقيل هي النافية واللام بمعنى إلا : أي ما نظنك من الكاذبين والأول أولى (4/165)
187 - { فأسقط علينا كسفا من السماء } كان شعيب يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا له هذا القول عنتا واستبعادا وتعجيزا والكسف : القطعة قال أبو عبيدة : الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة قال الجوهري : الكسفة القطعة من الشيء يقال : أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسف وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان { إن كنت من الصادقين } في دعواك (4/165)
188 - { قال ربي أعلم بما تعملون } من الشرك والعماصي فهو مجازيكم على ذلك إن شاء وفي هذا تهديد شديد (4/165)
189 - { فكذبوه } فاستمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك { فأخذهم عذاب يوم الظلة } والظلة السحاب أقامها الله فوق رؤوسهم فأمطرت عليهم نارا فهلكوا وقد أصابهم الله بما اقترحوا لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر وإن أرادوا بها القطعة من السماء فقد نزل عليهم العذاب من جهتها وأضاف العذاب إلى يوم الظلة لا إلى الظلة تنبيها على أن لهم في ذلك اليوم عذابا غير عذاب الظلة كذا قيل ثم وصف سبحانه هذا العذاب الذي أصابهم بقوله : { إنه كان عذاب يوم عظيم } لما فيه من الشدة عليهم التي لا يقادر قدرها (4/165)
وقد تقدم تفسير قوله : 190 - { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } (4/165)
191 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } في هذه السورة مستوفى فلا نعيده وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص من التهديد والزجر والتقرير والتأكيد ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام ويعرف أساليبه
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } قال : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة نحوه وأخرجا أيضا عن قتادة { إلا عجوزا في الغابرين } قال : هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد ليكة قال : هي الأيكة وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { كذب أصحاب الأيكة المرسلين } قال : كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين { إذ قال لهم شعيب } ولم يقل أخوهم شعيب لأنه لم يكنمن جنسهم { ألا تتقون } كيف لا تتقون وقد علمتم أني رسول أمين لا تعتبرون من هلاك مدين وقد أهلكوا فيما يأتون وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا بسنة أصحاب مدين فقال لهم شعيب : { إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم } على ما أدعوكم إليه { من أجر } في العاجل من أموالكم { إن أجري إلا على رب العالمين } { واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين } يعني القرون الأولين الذي أهلكوا بالمعاصي ولا تهلكوا مثلهم { قالوا إنما أنت من المسحرين } يعني من المخلوقين { وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء } يعني قطعا من السماء { فأخذهم عذاب يوم الظلة } أرسل الله إليهم سموما من جهنم فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر فحميت بيوتهم وغلت مياههم في الآبار والعيون فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين والسموم معهم فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجم وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء فلما رأوها ابتدروا يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعا أطبقت عليهم فهلكوا ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا أنه سئل عنه قوله : { فأخذهم عذاب يوم الظلة } قال : بعث الله عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم أجوافها فأخذ بأنفسهم فخرجوا من البيوت هربا إلى الرية فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى إذا جتمعوا تحتها أسقط الله عليهم نارا فذلك عذاب يوم الظلة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا قال : من حدثك من العلماء عذاب يوم الظلة فكذبه أقول : فما نقول له رضي الله عنه فيما حدثنا به من ذلك مما نقلناه عنه ها هنا ؟ ويمكن أن يقال إنه لما كان هو البحر الذي علمه الله تأويلكتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه و سلم كان مختصا بمعرفة هذا الحديث دون غيره من أهل العلم فمن حدث بحديث عذاب الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدثنا به فقد وصانا بتكذيبه لأنه قد علمه ولم يعلمه غيره (4/165)
قوله : 192 - { وإنه لتنزيل رب العالمين } الضمير يرجع إلى ما نزله عليه من الأخبار : أي وإن هذه الأخبار أو وإن القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به قيل وهو على تقدير مضاف محذوف : أي ذو تنزيل وأما إذا كان تنزيل بمعنى منزل فلا حاجة إلى تقدير مضاف (4/167)
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم 193 - { نزل } مخففا وقرأه الباقون مشددا و { الروح الأمين } على القراءة الثانية منصوب على أنه مفعول به وقد اختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والروح الأمين جبريل كما في قوله : { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك } (4/168)
ومعنى 194 - { على قلبك } أنه تلاه على قلبه ووجه تخصيص القلب لأنه أول مدرك م الحواس الباطنة قال أبو حيان : إن على قلبك ولتكون متعلقان بنزل قيل يجوز أن يتعلقا بتنزيل والأول أولى وقرئ نزل مشددا مبينا للمفعول والفاعل هو الله تعالى ويكون الروح على هذه القراءة مرفوعا على النيابة { لتكون من المنذرين } علة للإنزال : أي أنزله لتنذرهم بما تضمنه من التحذيرات والإنذارات والعقوبات (4/168)
195 - { بلسان عربي مبين } متعلق بالمنذرين : أي لتكون من المنذرين بهذا اللسان وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من به وقيل متعلق بنزل وإنما أخر للاعتناء بذكر الإنذار وإنما جعل الله سبحانه القرآن عربيا بلسان الرسول العربي لئلا يقول مشركوا العرب لسنا نفهم ما تقوله بغير لساننا فقطع بذلك حجتهم وأزاح علتهم ودفع معذرتهم (4/168)
196 - { وإنه لفي زبر الأولين } أي إن هذا القرآن باعتبار أحكامه التي أجمعت عليها الشرائع في كتب الأولين من الأنبياء والزبر الكتب الواحد زبور وقد تقدم الكلام على تفسير مثل هذا وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل المراد بكون القرآن في زبر الأولين أنه مذكور فيها هو نفسه لا ما اشتمل عليه من الأحكام والأول أولى (4/168)
197 - { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر كما تقدم مرارا والأية العلامة والدلالة : أي ألم يكن لهؤلاء علامة دالة على أن القرآن حق وأنه تنزيل رب العالمين وأنه في زبر الأولين أن يعلمه علماء بني إسرائيل على العموم أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون إليهم ويصدقونهم قرأ ابن عامر { تكن } بالفوقية وآية بالرفع على أنها اسم كان وخبرها أن يعلمه إلخ ويجوز أن تكون تامة وقرأ الباقون { يكن } بالتحتية و { آية } بالنصب على أنها خبر يكن واسمها أن يعلمه إلخ قال الزجاج : أن يعلمه اسم يكن وآية خبره والمعنى : أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمدا نبي حق علامة ودلالة على نبوته لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم وكذا قال الفراء ووجها قراءة الرفع بما ذكرنا وفي قراءة ابن عامر نظر لأن جعل النكرة اسما والمعرفة خبرا غير سائغ وإن ورد شاذا في مثل قول الشاعر :
( فلا يك موقف منك الوداعا )
وقول الآخر :
( وكان مزاجها عسل وماء )
ولا وجه لما قيل : إن النكرة قد تخصصت بقولهم لهم لأنه في محل نصب على الحال والحال صفة في المعنى فأحسن ما يقال في التوجيه ما قدمنا ذكره من أن يكن تامة (4/168)
198 - { ولو نزلناه على بعض الأعجمين } أي لو نزلنا القرآن على الصفة التي هو عليها على رجل من الأعجمين الذي لا يقدرون على التكلم بالعربية (4/169)
199 - { فقرأه عليهم } قراءة صحيحة { ما كانوا به مؤمنين } مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجمي للكلام العربي إلى إعجاز القرآن وقيل المعنى : ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم بلغته لم يؤمنوا به وقالوا : ما نفقه هذا ولا نفهمه ومثل هذا قوله : { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته } يقال رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح اللسان وإن كان عربيا ورجل عجمي إذا كان أصله من العجم وإن كان فصيحان إلا أن الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي بمعنى أعجمي وقرأ الحسن على بعض الأعجميين وكذلك قرأ الجحدري قال أبو الفتح بن جني : أصل الأعجمين الأعجمين ثم حذفت ياء النسب وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها (4/169)
200 - { كذلك سلكناه في قلوب المجرمين } أي مثل ذلك السلك سلكناه : أي أدخلناه في قلوبهم : يعني القرآن حتى فهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه معجز وقال الحسن وغيره : سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين وقال عكرمة : سلكنا القسوة والأول أولى لأن السياق في القرآن (4/169)
وجملة 201 - { لا يؤمنون } تحتمل وجهين : الأول الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبلها والثاني أنها في محل نصب على الحال من الضمير في سلكناه ويجوز أن يكون حالا من المجرمين وأجاز الفراء الجزم في لا يؤمنون لأنه فيه معنى الشرط والمجازاة وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت لا موضع كيلا مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت فتقول ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم لأن معناىه : إن لم أربطه ينفلت وأنشد لبعض بني عقيل :
( وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ... مساكنه لا يقرب الشر قارب )
بالرفع ومن الجزم قول الآخر :
( لطال ما حللتماها لا ترد ... فخلياها والسخال تبترد )
قال النحاس : وهذا كله في لا يؤمنون خطأ عند البصريين ولا يجوز الجزم بلا جازم { حتى يروا العذاب الأليم } أي لا يؤمنون إلى هذه الغاية وهي مشاهدتهم للعذاب الأليم (4/169)
202 - { فيأتيهم } العذاب { بغتة } أي فجأة { و } الحال { وهم لا يشعرون } بإتيانه وقرأ الحسن فتأتيهم بالفوقية : أي الساعة وإن لم يتقدم لها ذكر لكنه قد دل على العذاب عليها (4/170)
203 - { فيقولوا هل نحن منظرون } أي مؤخرون وممهلون قالوا هذا تحسرا على ما فات من الإيمان وتمنيا للرجعة إلى الدنيا لاستدراك ما فرط منهم وقيل إن المراد بقولهم : { هل نحن منظرون } الاستعجال للعذاب على طريقة الاستهزاء (4/170)
لقوله : 204 - { أفبعذابنا يستعجلون } ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر فإن معنى { هل نحن منظرون } طلب النظرة والإمهال وأما قوله : { أفبعذابنا يستعجلون } فالمراد به الرد عليهم والإنكار لما وقع منهم من قولهم { أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } وقولهم : { فأتنا بما تعدنا } (4/170)
205 - { أفرأيت إن متعناهم سنين } الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على مقدر يناسب المقام كما مر في غير موضع ومعنى أرأيت أخبرنين والخطاب لكل من يصلح له : أي أخبرني إن متعناهم سنين في الدنيا متطاولة وطولنا لهم الأعمار (4/170)
206 - { ثم جاءهم ما كانوا يوعدون } من العذاب والهلاك (4/170)
207 - { ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ما هي الاستفهامية والمعنى : أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل و ما في ما كانوا يمتعون يجوز أن تكون المصدرية ويجوز أن تكون الموصولة والاستفهام للإنكار التقريري ويجوز أن تكون ما الأولى نافية والمفعول محذوف : أي لم يغن عنهم تمتيعهم شيئا وقرئ يمتعون بإسكان الميم وتخفيف التاء من أمتع الله زيدا بكذا (4/170)
208 - { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } من مزيدة للتأكيد : أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا لها منذرون وجملة { إلا لها منذرون } يجوز أن تكون صفة للقرية ويجوز أن تكون حالا منها وسوغ ذلك سبق النفي والمعنى : ما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد الإنذار إليهم والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب (4/170)
وقوله : 209 - { ذكرى } بمعنى تذكرة وهي في محل نصب على العلة أو المصدرية وقال الكسائي : ذكرى بمعنى تذكرة وهي في محل نصب على الحال وقال الفراء والزجاج : أنها في موضع نصب على المصدرية : أي يذكرون ذكرى قال النحاس : وهذا قول صحيح لأن معنى { إلا لها منذرون } إلا لها مذكرون قال الزجاج : ويجوز أن يكون ذكرى في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي إنذارنا ذكرى أو ذلك ذكرى قال ابن الأنباري : المعنى هي ذكرى أو يذكرهم ذكرى وقد رجح الأخفش أنها خبر مبتدأ محذوف { وما كنا ظالمين } في تعذيبهم فقد قدمنا الحجة إليهم وأنذرناهم وأعذرنا إليهم (4/170)
210 - { وما تنزلت به الشياطين } أي بالقرآن وهذا رد لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة (4/171)
211 - { وما ينبغي لهم } ذلك ولا يصح منهم { وما يستطيعون } ما نسبه الكفار إليهم أصلا (4/171)
212 - { إنهم عن السمع } للقرآن أو لكلام الملائكة { لمعزولون } محجوبون مرجومون بالشهب وقرأ الحسن وابن السميفع والأعمش وما تنزلت به الشياطين بالواو والنون إجراء له مجرى السلامة قال النحاس : وهذا غلط عند جميع النحويين قال : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : هذا من غلط العلماء وإنما يكون بشبهة لما رأى الحسن في آخره ياء ونونا وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع السالم فغلط قال الفراء : غلط الشيخ : يعني الحسن فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال : إن جاز أن يحتج بقوله رؤبة والعجاج وذويهما جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه : يعني محمد بن السميفع مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بذلك إلا وقد سمعا فيه شيئا وقال المؤرج : إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه قال يونس بن حبيب : سمعت أعرابيا يقول : دخلنا بساتين من ورائها بساتون ثم لما قرر سبحانه حقية القرآن وأنه منزل من عنده أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بدعاء الله وحده (4/171)
فقال : 213 - { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } وخطاب النبي صلى الله عليه و سلم بهذا مع كونه منزها عنه معصوما منه لحث العباد على التوحيد ونهيهم عن شوائب الشرك وكأنه قال : أنت أكرم الخلق علي وأعزهم عندي ولو اتخذت معي إلها لعذبتك فكيف بغيرك من العباد (4/171)
214 - { وأنذر عشيرتك الأقربين } خص الأقربين لأن الاهتمام بشأنهم أولى وهدايتهم إلى الحق أقدم قيل هم قريش وقيل بنو عبد مناف وقيل بنو هاشم وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه و سلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فذلك منه صلى الله عليه و سلم بيان للعشرة الأقربين وسيأتي بيان ذلك (4/171)
215 - { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } يقال : خفض جناحه إذا ألانه وفيه استعارة حسنة والمعنى : ألن جناحك وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين وأظهر لهم المحبة والكرامة وتجاوز عنهم (4/171)
216 - { فإن عصوك } أي خالفوا أمرك ولم يتبعوك { فقل إني بريء مما تعملون } أي من عملكم أو من الذي تعملونه وهذا يدل على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدقون باللسان لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ولا يخالفونه ثم بين له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له (4/171)
فقال : 217 - { وتوكل على العزيز الرحيم } أي فوض أمورك إليه فإنه القادر على قهر الأعداء وهو الرحيم للأولياء قرأ نافع وابن عامر { فتوكل } بالفاء وقرأ الباقون { وتوكل } بالواو فعلى القراءة الأولى يكون ما بعد الفاء كالجزء مما قبلها مترتبا عليه وعلى القراءة الثانية يكون ما بعد الواو معطوفا على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب (4/171)
218 - { الذي يراك حين تقوم } أي حين تقوم إلى الصلاة وحدك في قول أكثر المفسرين وقال مجاهد : حين تقوم حيثما كنت (4/172)
219 - { وتقلبك في الساجدين } أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعا وساجدا وقائما كذا قال أكثر المفسرين وقيل يراك في الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة وقيل المراد بقوله يراك حين تقوم قيامة إلى التهجد وقوله : { وتقلبك في الساجدين } يريد ترددك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة وتقلب بصرك فيهم كذا قال مجاهد (4/172)
220 - { إنه هو السميع } لما تقوله { العليم } به ثم أكد سبحانه معنى قوله : { وما تنزلت به الشياطين } وبينه (4/172)
221 - { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } أي على من تتنزل فحذف إحدى التاءين وفيه بيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه و سلم (4/172)
222 - { تنزل على كل أفاك أثيم } والأفاك الكثير الإفك والأثيم كثير الإثم والمراد بهم كل من كان كاهنا فإن الشياطين كانت تسترق السمع ثم يأتون إليهم فيلقونه إليهم (4/172)
وهو معنى قوله : 223 - { يلقون السمع } أي ما يسمعونه مما يسترقونه فتكون جملة يلقون السمع على هذا راجعة إلى الشياطين في محل نصب على الحال : أي حال كون الشياطين ملقين السمع : أي ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان ويجوز أن يكون المعنى : إن الشياطين يلقون السمع : أي ينصتون إلى الملإ الأعلى ليسترقوا السمع ويجوز أن تكون جملة يلقون السمع راجعة إلى كل أفاك أثيم على أنها صفة أو مستأنفة ومعنى الإلقاء أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها وتكذب المائة الكلمة كما ورد في الحديث وجملة { وأكثرهم كاذبون } راجعة إلى كل أفاك أثيم : أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيرا من أكاذيبهم المختلفة أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع : أي المسموع من الشياطين إلى الناس ويجوز أن تكون جملة { وأكثرهم كاذبون } راجعة إلى الشياطين : أي وأكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيرا من الكذب وقد قيل كيف يصح على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون بعد ما وصفوا جميعا بالإفك وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب لا الذي لا ينطق إلا بالكذب فالمراد بقوله وأكثرهم كاذبون أنه قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الشياطين والغرض الذي سبق لأجله هذا الكلام رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي صلى الله عليه و سلم من جملة من يلقي إليه الشيطان السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه و سلم إلا الصدق فكيف يكون كما زعموا ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين وهذا النبي المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم ويأمر بالتعوذ منهم : ثم لما كان قد قال قائل من المشركين : إن النبي صلى الله عليه و سلم شاعر بين سبحانه حال الشعراء ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبي صلى الله عليه و سلم (4/172)
فقال : 224 - { والشعراء يتبعهم الغاوون } والمعنى : أن الشعراء يتبعهم : أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون : أي الضالون عن الحق والشعراء جمع شاعر والغاوون جمع غاو وهم ضلال الجن والإنس وقيل الزائلون عن الحق وقيل الذين يرون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز وقيل المراد شعراء الكفار خاصة قرأ الجمهور { والشعراء } بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده وقرأ عيسى بن عمر الشعراء بالنصب على الاشتعال وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي { يتبعهم } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد (4/173)
ثم بين سبحانه قبائح شعراء الباطل فقال : 225 - { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } والجملة مقررة لما قبلها والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية يقال : هم يهيم هيما وهيمانا إذا ذهب على وجهه : أي ألم تر أنهم في كل فن من فنون الكذب يخوضون وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة ويذمون الحق ويمدحون الباطل ويرغبون في فعل المحرمات ويدعون الناس إلى فعل المنكرات كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة (4/173)
ثم قال سبحانه : 226 - { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } أي يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة في ذلك فقد يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشر ما لا يقدرون على فعله كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوى الكاذبة والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات وأنهم فعلوا بهن كذا وكذا وذلك كذب محض وافتراء بحت ثم استثنى سبحانه الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحري الحق والصدق (4/173)
فقال : 227 - { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي دخلوا في حزب المؤمنين وعملوا بأعمالهم الصالحة { وذكروا الله كثيرا } في أشعارهم { وانتصروا من بعد ما ظلموا } كمن يهجو منهم من هجاه أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبي صلى الله عليه و سلم فإنهم كانوا يهجون من يهجوه ويحمون عنه ويذبون عن عرضه ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة كما يقع ذلك كثيرا من شعراء الرافضة ونحوهم فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة وفاعله من المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدينه القائمين بما أمر الله بالقيام به
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب وقد وردت أحاديث في ذمه وذم الاستكثار منه ووردت أحاديث أخر في إباحته وتجويزه والكلام في تحقيق ذلك يطول وسنذكر في آخر البحث ما ورد في ذلك من الأحاديث ثم ختم سبحانه هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } فإن في قوله سيعلم تهويلا عظيما وتهديدا شديدا وكذا في إطلاق الذين ظلموا وإبهام أي منقلب ينقلبون وخصص هذه الآية بعضهم بالشعراء ولا وجه لذلك فإن الاعتبار بعموم اللفظ وقوله : { أي منقلب } صفة لمصدر محذوف : أي ينقلبون منقلبا أي منقلب وقدم لتضمنه معنى الاستفهام ولا يعمل فيه سيعلم لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله بل هو معلق عن العمل فيه وقرأ ابن عباس والحسن أي منفلت ينفلتون بالفاء مكان القاف والتاء مكان الباء من الانفلات بالنون والفاء الفوقية وقرأ الباقون بالقاف والباء من الانقلاب بالنون والقاف الموحدة والمعنى على قراءة ابن عباس والحسن : أن الظالمين يطعمون في الانفلات من عذاب الله والانفكاك منه ولا يقدرون على ذلك
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة { وإنه لتنزيل رب العالمين } قال : هذا القرآن { نزل به الروح الأمين } قال : جبريل وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { نزل به الروح الأمين } قال : الروح الأمين جبريل رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها فيها مثل ريش الطواويس وأخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله : { بلسان عربي مبين } قال : بلسان قريش ولو كان غير عربي ما فهموه وأخرج الحاكم وصححه البيهقي في الشعب عن بريدة في قوله : { بلسان عربي مبين } قال : بلسان جرهم وأخرج مثله أيضا عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن سلام من علماء بني إسرائيل وكان من خيارهم فآمن بكتاب محمد فقال لهم الله : { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : [ لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا وعم وخص فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بن عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا إلا أن لكم رحما وسأبلها ببلالها ] وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { الذي يراك حين تقوم } قال : للصلاة وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه { الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين } يقول : قيامك وركوعك وسجودك وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { وتقلبك في الساجدين } قال : يراك وأنت مع الساجدين تقوم وتقعد معهم وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : { وتقلبك في الساجدين } قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قام إلى الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ومن الحديث في لصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هل ترون قبلتي ها هنا ؟ فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم وإني لأراكم من وراء ظهري ] وأخرج ابن عمر العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { وتقلبك في الساجدين } قال : من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عنه في الآية نحوه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : [ سأل أناس النبي صلى الله عليه و سلم عن الكهان قال : أنهم ليسوا بشيء قالوا يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا ؟ قال : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ] وفي لفظ للبحاري : [ فيزيدون معها مائة كذبة ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فأنزل الله { والشعراء يتبعهم الغاوون } الآيات وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عروة قال : لما نزلت { والشعراء } إلى قوله : { ما لا يفعلون } قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله قد علم الله أني منهم فأنزل الله { إلا الذين آمنوا } إلى قوله : { ينقلبون } وروي نحو هذا من طرق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { يتبعهم الغاوون } قال : هم الكفار يتبعون ضلال الجن والإنس { في كل واد يهيمون } قال : في كل لغو يخوضون { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } أكثر قولهم يكذبونن ثم استثنى منهم فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا } قال : ردوا على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا { والشعراء } قال : المشركون منهم الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه و سلم { يتبعهم الغاوون } قال : قال غواة الجن في كل واد يهيمون في كل فن من الكلام يأخذون ثم استثنى فقال : { إلا الذين آمنوا } الآية يعني حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك كانوا يذبون عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه بهجاء المشركين وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه { الغاوون } قال : هم الرواة وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عنه أيضا { إلا الذين آمنوا } الآية قال : أبو بكر وعمر وعلي وعبد الله بن رواحة وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك [ أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إن الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه ؟ فقال : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال : [ بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا ] وأخرج الديلمي عن ابن مسعود مرفوعا الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعرا يتغنى به الحور العين لأزوادهن في الجنة والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن من الشعر لحكمة قال : وأتاه قريظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت فقالوا : إنا نقول الشعر وقد نزلت هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اقرأوا فقرأوا { والشعراء } إلى قوله : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فقال : أنتم هم { وذكروا الله كثيرا } فقال : أنتم هم { وانتصروا من بعد ما ظلموا } فقال : أنتم هم ] وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه وسل : لحسان بن ثابت : اهج المشركين فإن جبريل معك ] وأخرج ابن سعد عن البراء بن عازب قال : [ قيل يا رسول الله إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك فقام ابن رواحة فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه فقال : أنت الذي تقول ثبت الله ؟ فقال : نعم يا رسول الله قلت :
( ثبت الله ما أعطاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا مثل ما نصرا )
قال : وأنت ففعل الله بك مثل ذلك ثم وثب كعب فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه ؟ فقال : أنت الذي تقول همت ؟ قال : نعم يا رسول الله قلت :
( همت سخينة أن تغالب ربها ... فلتغلبن مغالب الغلاب )
فقال : أما إن الله لم ينس ذلك لك ثم قام حسان فقال : يا رسول الله ائذن لي فيه وأخرج لسانا له أسود فقال : يا رسول الله لو شئت لفريت به المراد ائذن لي فيه فقال : اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم واهجهم وجبريل معك ] وأخرج أحمد وابن سعد عن أبي هريرة قال : [ مر عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فنظر إليه فقال : قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك فسكت ثم التفت حسان إلى أبي هريرة : فقال : أنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أجب عني اللهم أيده بروح القدس ؟ قال نعم ] وأخرج ابن سعد من حديث جابر مرفوعا نحوه وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن من الشعر حكما ] وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا ] وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا ] قال في الصحاح : وروي القيح جوفه يريه وريا : إذا أكله قال القرطبي : روى إسماعيل بن عباس عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ حسن الشعر كحسن الكلام وقبيح الشعر كقبيح الكلام ] قال القرطبي : رواه إسماعيل عن عبد الله بن عون الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره قال : وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام ] وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : [ ردفت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت ؟ قلت نعم قال : هيه فأنشدته بيتا فقال هيه ثم أنشدته بيتا فقال هيه حتى أنشدته مائة بيت ] وأخرج ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد في قوله : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } قال : هؤلاء الذين يخربون البيت (4/173)
سورة النمل
هي ثلاث وتسعون آية وقيل أربع وتسعون
قال القرطبي : وهي مكية كلها في قول الجميع وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة النمل بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله
قوله : 1 - { طس } قد مر الكلام مفصلا في فواتح السور وهذه الحروف إن كانت اسما للسورة فمحلها الرفع على الابتداء وما بعده خبره ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف : أي هذا اسم هذه السورة وإن لم تكن هذه الحروف اسما للسورة بل مسرودة على نمط التعديد فلا محل لها والإشارة بقوله : { تلك } إلى نفس السورة لأنها قد ذكرت إجمالا بذكر اسمها واسم الإشارة مبتدأ وخبره { آيات القرآن } والجملة خبر المبتدأ الأول على تقدير أنه مرتفع بالابتداء { وكتاب مبين } قرأ الجمهور بجر كتاب عطفا على القرآن : أي تلك آيات القرآن وآيات كتاب مبين ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { وكتاب } القرآن نفسه فيكون من عطف بعض الصفات على بعض مع اتحاد المدلول وأن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو نفس السورة وقرأ ابن أبي عبلة وكتاب مبين برفعهما عطفا على آيات وقيل هو على هذه القراءة على تقدير مضاف محذوف وإقامة المضاف إليه مقامه : أي وآيات كتبا مبين فقد وصف الآيات بالوصفين : القرآنية الدالة على كونه مقروءا مع الإشارة إلى كونه قرآنا عربيا معجزا والكتابية الدالة على كونه مكتوبا مع الإشارة إلى كونه متصفا بصفة الكتب المنزلة فلا يكون على هذا من باب عطف صفة على صفة مع اتحاد المدلول ثم ضم إلى الوصفين وصفا ثالثا وهي الإبانة لمعانيه لمن يقرأه أو هو من أبان بمعنى : بان معناه واتضح إعجازه بما اشتمل عليه من البلاغة وقدم وصف القرآنية هنا نظرا إلى تقدم حال القرآنية على حال الكتابة وأخره في سورة الحجر فقال : { الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } نظرا إلى حالته التي قد صار عليها فإنه مكتوب والكتابة سبب القراءة والله أعلم وأما تعريف القرآن هنا وتنكير الكتاب وتعريف الكتاب في سورة الحجر وتنكير القرآن فلصلاحية كل واحد منهما للتعريف والتنكير (4/178)
2 - { هدى وبشرى للمؤمنين } في موضع نصب على الحال من الآيات أو من الكتاب : أي تلك آيات هادية ومبشرة ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء : أي هو هدى : أو هما خبران آخران لتلك أو هما مصدران منصوبان بفعل مقدر : أي يهدي هدى ويبشر بشرى ثم وصف المؤمنين الذين لهم الهدى والبشرى (4/179)
فقال : 3 - { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } والموصول في محل جر أو يكون بدلا أو بيانا أو منصوبا على المدح أو مرفوعا على تقدير مبتدأ والمراد بالصلاة الصلوات الخمس والمراد بالزكاة الزكاة المفروضة وجملة { وهم بالآخرة هم يوقنون } في محل نصب على الحال وكرر الضمير للدلالة على الحصر : أي لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح وجعل الخبر مرفوعا للدلالة على التجدد في كل وقت وعدم الانقطاع ثم لما ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة (4/179)
فقال : 4 - { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } وهم الكفار : أي لا يصدقون بالبعث { زينا لهم أعمالهم } قيل المراد زين الله لهم أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة وقيل المراد أن الله زين لهم الأعمال الحسنة وذكر لهم ما فيها من خيري الدنيا والآخرة فلم يقبلوا ذلك قال الزجاج : معنى الآية أنا جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه { فهم يعمهون } أي يترددون فيها متحيرين على الاستمرار لا يهتدون إلى طريقة ولا يقفون على حقيقة وقيل معنى يعمهون يتمادون وقال قتادة : يلعبون وفي معنى التحير قال الشاعر :
( ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى الحائرين العمه ) (4/180)
والإشارة بقوله : 5 - { أولئك } إلى المذكورين قبله وهو مبتدأ خبره { لهم سوء العذاب } قيل في الدنيا كالقتل والأسر ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا قوله بعده { وهم في الآخرة هم الأخسرون } أي هم أشد الناس خسرانا وأعظمهم خيبة ثم مهد سبحانه مقدمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة (4/180)
فقال : 6 - { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } أي يلقى عليك فتلقاه وتأخذه من لدن كثير الحكمة والعلم قيل إن لدن ها هنا بمعنى عند وفيها لغات كما تقدم في سورة الكهف (4/180)
7 - { إذ قال موسى لأهله } الظف منصوب بمضمر وهو اذكر قال الزجاج : موضع إذ نصب المعنى : اذكر إذ قال موسى : أي اذكر قصته إذ قال لأهله والمراد بأهله امرأته في مسيره من مدين إلى مصر ولم يكن معه إذ ذاك إلا زوجته بنت شعيب فكنى عنها بلفظ الأهل الدال على الكثرة ومثله قوله : { امكثوا } ومعنى { إني آنست نارا } أبصرتها { سآتيكم منها بخبر } السين تدل على بعد مسافة النار { أو آتيكم بشهاب قبس } قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين شهاب وقرأ الباقون بإضافته إلى قبس فعلى القراءة الأولى يكون قبس بدلا من شهاب أو صفة له لأنه بمعنى مقبوس على القراءة الثانية الإضافة للبيان والمعنى على القراءتين : آتيكم بشعلة نار مقبوسة : أي مأخوذة من أصلها قال الزجاج : من نون جعل قبس من صفة شهاب وقال الفراء : هذه الإضافة كالإضافة في قولهم : مسجد الجامع وصلاة الأولى أضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف أسمائه وقال النحاس : هي إضافة النوع إلى الجنس كما تقول : ثوب خز وخاتم حديد قال : ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال { لعلكم تصطلون } أي رجاء أن تستدفئوا بها أو لكي تستدفئوا بها من البرد يقال صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ بها قال الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب وقال أبو عبيدة : الشهاب النار ومنه قول أبي النجم :
( كأنما كان شهابا واقدا ... أضاء ضوءا ثم صار خامدا )
وقال ثعلب : أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه والشهاب الشعاع المضيء وقيل للكواكب شهاب ومنه قول الشاعر :
( في كفه صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبس ) (4/180)
8 - { فلما جاءها } أي جاء النار موسى { نودي أن بورك من في النار ومن حولها } أن هي المفسرة لما في النداء من معنى القول أو هي المصدرية : أي بأن بورك وقيل هي المخففة من الثقيلة قال الزجاج : أن في موضع نصب أي بأن قال : ويجوز أن يكون في موضع رفع اسم ما لم يسم فاعله والأولى أن النائب ضمير يعود إلى موسى وقرأ أبي وابن عباس ومجاهد أن بوركت النار ومن حولها حكى ذلك أبو حاتم وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله وبارك فيك وبارك عليك وبارك لك وكذلك حكى هذا الفراء قال ابن جرير : قال بورك من في النار ولم يقل بورك على النار على لغة من يقول باركك الله : أي بورك على من في النار وهو موسى أو على من في قرب النار لا أنه كان في وسطها وقال السدي : كان في النار ملائكة والنار هنا هي مجرد نور ولكنه ظن موسى أنها نار فلما وصل إليها وجدها نورا وحكي عن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد بمن في النار هو الله سبحانه : أي نوره وقيل بورك ما في النار من أمر الله سبحانه الذي جعلها على تلك الصفة قال الواحدي : ومذهب المفسرين أن المراد بالنار النور ثم نزه سبحانه نفسه فقال : { وسبحان الله رب العالمين } وفيه تعجب لموسى من ذلك (4/181)
9 - { يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم } الضمير للشأن أنا الله العزيز الغالب القاهر الحكيم في أمره وفعله وقيل إن موسى قال : يا رب من الذي ناداني ؟ فأجابه الله سبحانه بقوله : إنه أنا الله ثم أمره سبحانه بأن يلقي عصاه ليعرف ما أجراه الله سبحانه على يده من المعجزة الخارقة (4/181)
وجملة 10 - { وألق عصاك } معطوفة على بورك وفي الكلام حذف والتقدير فألقاها من يده فصارت حية { فلما رآها تهتز كأنها جان } قال الزجاج : صارت العصا تتحرك كما يتحرك الجان وهي الحية البيضاء وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها وجمع الجان جنان وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة { ولى مدبرا } من الخوف { ولم يعقب } أي لم يرجع : يقال عقب فلان إذا رجع وكل راجع معقب وقيل لم يقف ولم يلتفت والأول أولى لأن التعقيب هو الكر بعد الفر فلما وقع منه ذلك قال الله سبحانه : { يا موسى لا تخف } أي من الحية وضررها { إني لا يخاف لدي المرسلون } أي لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي فلا تخف أنت قيل ونفي الخوف عن المرسلين ليس في جميع الأوقات بل في وقت الخطاب لهم لأنهم إذ ذاك مستغرقون (4/181)
ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : 11 - { إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم } أي لكن من أذنب في ظلم نفسه بالمعصية ثم بدل حسنا أي توبة وندما بعد سوء أي بعد عمل سوء فإني غفور رحيم وقيل الاستثناء من مقدر محذوف : أي لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل إلخ كذا قال الفراء قال النحاس : الاستثناء من محذوف محال لأنه استثناء من شيء لم يذكر وروي عن الفراء أنه قال : إلا بمعنى الواو وقيل إن الاستثناء متصل من المذكور لا من المحذوف والمعنى : إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد واختار هذا النحاس وقال : علم من عصى منهم فاستثناه فقال : إلا من ظلم وإن كنت قد غفرت له كآدم وداود وإخوة يوسف وموسى بقتله القبطي ولا مانع من الخوف بعد المغفرة فإن نبينا صلى الله عليه و سلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول : [ وددت أني شجرة تعضد ] (4/182)
12 - { وأدخل يدك في جيبك } المراد بالجيب هو المعروف وفي القصص { اسلك يدك في جيبك } وفي أدخل من المبالغة ما لم يكن في اسلك { تخرج بيضاء من غير سوء } أي من غير برص أو نحوه من الآفات فهو احتراس وقوله تخرج جواب أدخل يدك وقيل في الكلام حذف تقديره : أدخل يدك تدخل وأخرجها تخرج ولا حاجة لهذا الحذف ولا ملجئ إليه قال المفسرون : كانت على موسى مدرعة من صوف لا كم لها ولا إزار فأدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تبرق كالبرق وقوله : { في تسع آيات } قال أبو البقاء : هو في محل نصب على الحال من فاعل تخرج وفيه بعد وقيل متعلق بمحذوف : أي اذهب في تسع آيات وقيل متعلق بقوله : الق عصاك وأدخل يدك في جملة تسع آيات أو مع تسع آيات وقيل المعنى : فهما آيتان من تسع : يعني العصا واليد فتكون الآيات إحدى عشرة : هاتان والفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم قال النحاس : أحسن ما قيل فيه أن هذه الآية يعني اليد داخلة في تسع آيات وكذا قال المهدوي والقشيري قال القشيري : تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم : أي خرجت عاشر عشرة فـ في بمعنى من لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان : أي منها قال الأصمعي في قول امرئ القيس :
( وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال )
في بمعنى من وقيل في بمعنى مع { إلى فرعون وقومه } قال الفراء : في الكلام إضمار : أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه وكذا قال الزجاج : { إنهم كانوا قوما فاسقين } الجملة تعليل لما قبلها (4/182)
13 - { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة } أي جاءتهم آياتنا التي على يد موسى حال كونها مبصرة : أي واضحة بينة كأنها لفرط وضوحها تبصر نفسها كقوله : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } قال الأخفش : ويجوز أن تكون بمعنى مبصرة على أن اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم والصاد : أي مكانا يكثر فيه التبصر كما يقال : الولد مجبنة ومبخلة { قالوا هذا سحر مبين } أي لما جاءتهم قالوا هذا القول : أي سحر واضح (4/183)
14 - { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } أي كذبوا بها حال كون أنفسهم مستيقنة لها فالواو للحال وانتصاب { ظلما وعلوا } على الحال : أي ظالمين عالين ويجوز أن ينتصبا على العلة : أي الحامل لهم على ذلك الظلم والعلو ويجوز أن يكونا نعت مصدر محذوف : أي جحدوا بها جحودا ظلما وعلوا قال أبو عبيدة : والباء في وجحدوا بها زائدة : أي وجحدوها قال الزجاج : التقدير : وجحدوا بها ظلما وعلوا : أي شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله { فانظر } يا محمد { كيف كان عاقبة المفسدين } أي تفكر في ذلك فإن فيه معتبرا للمعتبرين وقد كان عاقبة أمرهم الإغراق لهم في البحر على تلك الصفة الهائلة
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار } يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة { ومن حولها } يعني الملائكة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : كان الله في النور نودي من النور { ومن حولها } قال : الملائكة وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا قال : ناداه الله وهو في النور وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا { أن بورك من في النار } قال : بوركت النار وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا { أن بورك من في النار } قال : بوركت النار وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : في مصحف أبي بن كعب : بوركت النار ومن حولها أما النار فيزعمون أنها نور رب العالمين وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { أن بورك } قال : قدس وأخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو رفع لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ] ثم قرأ أبو عبيدة { أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين } والحديث أصله مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت على موسى جبة من صوف لا تبلغ مرفقيه فقال له : أدخل يدك في جيبك فأدخلها وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } قال : تكبرا وقد استيقنتها أنفسهم وهذا من التقديم والتأخير (4/183)
لما فرغ سبحانه من قصة موسى في قصة داود وابنه سليمان وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان والتقرير لقوله : { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } والتنوين في 15 - { علما } إما للنوع : أي طائفة من العلم أو للتعظيم : أي علما كثيرا فالواو في قوله : { وقالا الحمد لله } للعطف على محذوف لأن هذا المقام مقام الفاء فالتقدير : ولقد آتيناهما علما فعملا به وقالا الحمد لله ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقا بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية { الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } أي فضلنا بالعلم والنبوة وتسخير الطير والجن والإنس ولم يفضلوا أنفسهم على الكل تواضعا منهم وفي الآية دليل على شرف العلم وارتفاع محله وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من العباد ومنح شرفا جليلا (4/185)
16 - { وورث سليمان داود } أي ورثه العلم والنبوة قال قتادة والكلبي : كان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا فورث سليمان من بينهم نبوته ولو كان المراد وارثة المال لم يخص سليمان بالذكر لأن جميع أولاده في ذلك سواء وكذا قال جمهور المفسرين فهذه الوارثة هي وارثة مجازية كما في قوله صلى الله عليه و سلم : [ العلماء ورثة الأنبياء ] { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير } قال سليمان هذه المقالة مخاطبا للناس تحدثا بما أنعم الله به عليه وشكر النعمة التي خصه بها وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره قال الفراء : منطق الطير كلام الطير فجعل كمنطق الرجل وأنشد قول حميد بن ثور :
( عجيب لها أن يكون غناؤها ... فصيحا ولم يغفر بمنطقها فما )
ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير قال جماعة من المفسرين : إنه علم منطق جميع الحيوانات وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جنده يسير معه لتظليله من الشمس وقال قتادة والشعبي : إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير وكثيرا ما تخرج لها أجنحة فتطير وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه ومعنى { وأوتينا من كل شيء } كل شيء تدعو إليه الحاجة : كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وحكل ما بين السماء والأرض وجاء سليمان بنون العظمة والمراد نفسه بيانا لحاله من كونه مطاعا لا يخالف لا تكبرا وتعظيما لنفسه والإشارة بقوله : { إن هذا } إلى ما تقدم ذكره من التعليم والإيتاء { لهو الفضل المبين } أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد أو المظهر لفضيلتنا (4/185)
17 - { وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير } الحشر الجمع : أي جمع له جنوده من هذه الأجناس وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ولا تصح من جهة النقل ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر { فهم يوزعون } أي لكل طائفة منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم يقال وزعه يزعه وزعا : كفه والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم : أي يرده ومنه قول النابغة :
( على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع )
وقول الآخر :
( ومن لم يزعه لبه وحياؤه ... فليس له من شيب فوديه وازع )
وقول الآخر :
( ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا وافر العقل كامله )
وقيل من التوزيع بمعنى التفريق يقال : القوم أوزاع : أي طوائف (4/186)
18 - { حتى إذا أتوا على واد النمل } حتى هي التي يبدأ بعدها الكلام ويكون غاية لما قبلها والمعنى فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على واد النمل : أي فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا إلخ وعلى واد النمل متعلق بأتوا وعدي بعلى لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون والمعنى : أنهم قطعوا الوادي وبلغوا آخره ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعا للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله : { الذين جابوا الصخر بالواد } إلا الكسائي فإنه وقف بالياء قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل قال كعب : واد النمل بالطائف وقال قتادة ومقاتل : هو بالشام { قالت نملة } هذا جواب إذا كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة : { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها
قيل وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها ورد هذا أبو حيان فقال : لحاق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في المذكر قالت لأن نملة وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة ولا بالتعرض لاسم النملة ولما ذكر من القصص الموضوعة والأحاديث المكذوبة وقرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان نملة والنمل بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما { لا يحطمنكم سليمان وجنوده } الحكم الكسر يقال حطمته حطما : أي كسرته كسرا وتحطم تكسر وهذا النهي هو في الظاهر للنمل وفي الحقيقة لسليمان فهو من باب : لا أرينك ها هنا ويجوز أن يكون بدلا من الأمر ويحتمل أن يكون جوابا للأمر قال أبو حيان : أما تخريجه على جواب الأمر فلا يكون إلا على قراءة الأعمش فإنه قرأ لا يحطمكم بالجزم بدون نون التوكيد وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا في الشعر قال سيبويه : وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما وقرأ أبي ادخلوا مساكنكن وقرأ شهر بن حوشب مسكنكم وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني لا يحطمنكم بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء وقرأ ابن إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد وجملة { وهم لا يشعرون } في محل نصب على الحال من فاعل يحطمنكم : أي لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم وقيل إن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها وهو بعيد (4/186)
19 - { فتبسم ضاحكا من قولها } قرأ ابن السميفع ضحكا وعلى قراءة الجمهور يكون ضاحكا حالا مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم وقيل هي حال مقدرة لأن التبسم أول الضحك وقيل لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبينا له وقيل إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير وعلى قراءة ابن السميفع يكون ضحكا مصدرا منصوبا بفعل محذوف أو في موضع الحال وكان ضحك سليمان تعجبا من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل { وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } قد تقدم بيان معنى أوزعني قريبا في قوله { فهم يوزعون } قال في الكشاف : وحقيقة أوزعني : اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرا لك انتهى قال الواحدي : أوزعني أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي يقال فلان موزع بكذا : أي مولع به انتهى قال القرطبي : وأصله من وزع فكأنه قال : كفني عما يسخطك انتهى والمفعول الثاني لأوزعني هو : أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وقال الزجاج : إن معنى أوزعني : امنعني أن أكفر نعمتك وهو تفسير باللازم ومعنى وعلى والدي : الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه كما أوزعه شكر نعمته عليه فإن الإنعام عليهما إنعام عليه وذلك يستوجب الشكر منه لله سبحانه ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها ولا سيما النعم الدينية فقال : { وأن أعمل صالحا ترضاه } أي عملا صالحا ترضاه مني ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلا في زمرة الصالحين فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها فقال : { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } والمعنى : أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين وهي الجنة اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبي الكريم فتقبل ذلك مني وتفضل علي به فإني وإن كنت مقصرا في العمل ففضلك هو سبب الفوز بالخير فهذه الآية منادية بأعلى صوت وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين بالتفضل منك لا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق فيما ثبت عنه في الصحيح [ سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ] فإذا لم يكن إلا تفضلك الواسع فترك طلبه منك عجز والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع ثم شرع سبحانه في ذكر قصة بلقيس وما جرى بينهما وبين سليمان وذلك بدلالة الهدهد (4/187)
فقال : 20 - { وتفقد الطير } التفقد تطلب ما غاب عنك وتعرف أحواله والطير اسم جنس لكل ما يطير والمعنى : أنه تطلب ما فقد من الطير وتعرف حال ما غاب منها وكانت الطير تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها { فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } أي ما للهدهد لا أراه ؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيرا وقيل لا حاجة إلى ادعاء القلب بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد كأنه قال مالي لا أراه هل ذلك لساتر يستره عني أو لشيء آخر ؟ ثم ظهر له أنه غائب فقال : أم كان من الغائبين وأم هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام وأيوب مالي بفتح الياء وكذلك قرأوا في يس { وما لي لا أعبد الذي فطرني } بفتح الياء وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ويعقوب وقرأ الباقون بفتح التي في يس وإسكان التي هنا قال أبو عمرو : لأن هذه التي هنا استفهام والتي في يس نفي واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان (4/188)
21 - { لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه }
اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو ؟ فقال مجاهد وابن جريج : هو أن ينتف ريشه جميعا وقال يزيد بن رومان : هو أن ينتف ريش جناحيه وقيل هو أن يحبسه مع أضداده وقيل أن يمنعه من خدمته وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الجسد وقوله عذابا اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كقوله : { أنبتكم من الأرض نباتا } { أو ليأتيني بسلطان مبين } قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشددة بعدها نون الوقاية وقرأ الباقون بنون مشددة فقط وهي نون التوكيد وقرأ عيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصلة بالياء والسلطان المبين هو الحجة البينة في غيبته (4/188)
22 - { فمكث غير بعيد } أي الهدهد مكث زمانا غير بعيد قرأ الجمهور { مكث } بضم الكاف وقرأ عاصم وحده بفتحها ومعناه في القراءتين : أقم زمانا غير بعيد قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا كقعد يقعد قعودا وقيل إن الضمير في مكث لسليمان والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زمانا غير طويل والأول أولى { فقال أحطت بما لم تحط به } أي علمت ما لم تعلمه من الأمر والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته ولعل في الكلام حذفا والتقدير : فمكث الهدهد غير بعدي فجاء فعوتب على مغيبه فقال معتذرا عن ذلك { أحطت بما لم تحط به } قال الفراء : ويجوز إدغام التاء في الطاء فيقال أحط وإدغام الطاء في التاء فيقال أحت { وجئتك من سبإ بنبإ يقين } قرأ الجمهور { من سبإ } بالصرف على أنه اسم رجل نسب إليه قوم ومنه قول الشاعر :
( الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد غض أعناقهم جلد الجواميس )
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وترك الصرف على أنه اسم مدينة وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل وقال : سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينهما وبين صنعاء ثلاثة أيام وقيل هو اسم امرأة سميت بها المدينة قال القرطبي : والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث عروة بن مسيك المرادي قال ابن عطية : وخفي هذا على الزجاج فخبط خبط عشواء وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال : ما أدري ما هو ؟ قال النحاس : وأبو عمرو أجل من أن يقول هذا قال : والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف انتهى
وأقول : لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس وهو أيضا اسم رجل من قحطان وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة بخبر يقين والنبأ هو الخبر الخطير الشأن فلما قال الهدهد لسليمان ما قال قال له سليمان : وما ذاك ؟ (4/189)
فقال : { إني وجدت امرأة تملكهم } وهي بلقيس بنت شرحبيل وجدها الهدهد تملك أهل سبأ والجملة هذه كالبيان والتفسير للجملة التي قبلها : أي ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء { وأوتيت من كل شيء } فيه مبالغة والمراد أنها أوتيت من كل شيء من الأشياء التي تحتاجها وقيل المعنى : أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا فحذف شيئا لأن الكلام قد دل عليه { ولها عرش عظيم } أي سرير عظيم ووصفه بالعظم لأنه كما قيل كان من ذهب طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعا ذراعا مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقيل المراد بالعرش هنا الملك والأول أولى لقوله : { أيكم يأتيني بعرشها } قال ابن عطية : واللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وسرير عظيم وكانت كافرة من قوم كفار (4/190)
24 - { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه قيل كانوا مجوسا وقيل زنادقة { وزين لهم الشيطان أعمالهم } التي يعملونها وهي عبادة الشمس وسائر أعمال الكفر { فصدهم عن السبيل } أي صدهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح وهو الإيمان بالله وتوحيده { فهم لا يهتدون } إلى ذلك (4/190)
25 - { أن لا يسجدوا } قرأ الجمهور بتشديد { ألا } قال ابن الأنباري : الوقف على فهم لا يهتدون غير تام عند من شدد ألا لأن المعنى : وزين لهم الشيطان الا يسجدوا قال النحاس : هي أن دخلت عليها لا وهي في موضع نصب قال الأخفش : أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا لله وقال الكسائي : هي في موضع نصب بصدهم : أي فصدهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا فهو على الوجهين مفعول له وقال اليزيدي : إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب وقال أبو عمرو : في موضع خفض على البدل من السبيل وقيل العامل فيها لا يهتدون : أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله وتكون لا على هذا زائدة كقوله : { ما منعك أن لا تسجد } وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود : إما بالتزيين أو بالصد أو بمنع الاهتداء وقد رجح كونه علة للصد الزجاج ورجح الفراء كونه علة لزين قال : زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا ثم حذفت اللام وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف { ألا } قال الكسائي : ما كنت أسمع الأشياخ يقرأونها إلا بالتخفيف على نية الأمر فتكون { ألا } على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء واسجدوا فعل أمر وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ألا يا اسجدوا ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا فصارت صورة الخط ألا يسجدوا والمنادى محذوف وتقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا وقد حذفت العرب المنادى كثيرا في كلامها ومنه قول الشاعر :
( ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر )
وقول الآخر :
( ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم )
وقول الآخر أيضا :
( ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر )
وهو كثير في أشعارهم قال الزجاج : وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد قال الزجاج : ولقراءة التخفيف وجه حسن إلا أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه وكذا قال النحاس : وعلى هذه القراءة تكون جملة ألا يسجدوا معترضة من كلام الهدهد أو من كلام سليمان أو من كلام الله سبحانه وفي هذه قراءة عبد الله بن مسعود هل لا تسجدوا بالفوقية وفي قراءة أبي { لا تسجدوا } بالفوقية أيضا { الذي يخرج الخبء في السموات والأرض } أي يظهر ما هو مخبوء ومخفي فيهما يقال : خبأت الشيء أخبؤه خبأ والخبء ما خبأته قال الزجاج : جاء في التفسي أن الخبء ها هنا بمعنى القطر من السماء والنبات من الأرض وقيل خبء الأرض كنوزها ونباتها وقال قتادة : الخبء السر قال النحاس أي ما غاب في السموات والأرض وقرأ أبي وعيسى بن عمر الخب بفتح الباء من غير همز تخفيفا وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار الخبا بالألف قال أبو حاتم : وهذا لا يجوز في العربية ورد عليه بأن سيبويه حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن وفي قراءة عبد الله يخرج الخب من السموات والأرض قال الفراء : ومن وفي يتعاقبان والموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتا لله سبحانه أو بدلا منه أو بيانا له ويجوز أن تكون في محل نصب على المدح ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وجملة { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } معطوفة على يخرج قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية للخطاب أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدمة ضمائر غيبة وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب والمعنى : أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السموات والأرض ثم بعد ما وصف الرب سبحانه بما تقدم مما يدل على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده وتخصيصه بالعبادة (4/190)
قال : 26 - { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } قرأ الجمهور العظيم بالجر نعتا للعرش وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتا للرب وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب : إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل قال الله عز و جل : { ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } وأي نعمة أفضل مما أعطي داود وسليمان
أقول : ليس في الآية ما يدل على ما فهمه رحمه الله والذي تدل عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من النعم فمن أين تدل على أن حمده أفضل من نعمته وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وورث سليمان داود } قال : ورثه نبوته وملكه وعلمه وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا فقال سليمان للناس : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم وأخرج الحاكم في المستدرك عن جعفر بن محمد قال : أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع وأعطي كل شيء ومنطق كل شيء وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحي إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلا أنبياء بلا رسالة قال الذهبي : هذا باطل وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر شيء منها فالإمساك عن ذكرها أولى وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فهم يوزعون } قال يدفعون وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { فهم يوزعون } قال : جعل لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا تتقدمه في السير كما تصنع الملوك وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { أوزعني } قال : ألهمني وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس أنه سئل كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير ؟ قال : إن سليمان نزل منزلا فلم يدر ما بعد الماء وكان الهدهد يدل سليمان على الماء فأراد أن يسأله عنه ففقده قيل كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقى عليه التراب ويضع له الصبي الحبالة فيغيبها فيصيده ؟ فقال : إذا جاء القضاء ذهب البصر وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { لأعذبنه عذابا شديدا } قال : أنتف ريشه كله وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال : كان اسم هدهد سليمان غبر
وأقول : من أين جاء علم هذا للحسن رحمه الله وهكذا ما رواه عنه ابن عساكر أن اسم النملة حرس وأنها من قبيلة يقال لها بنو الشيطان وأنها كانت عرجاء وكانت بقدر الذئب وهو رحمه الله أورع الناس عن نقل الكذب ونحن نعلم أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك شيء ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان أو بأحد من أصحابه فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب وقد أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روى حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فليس ذلك فيما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك بل فيما عنهم من القصص الواقعة لهم وقد كررنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أو ليأتيني بسلطان مبين } قال : خبر الحق الصدق المبين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال : قال ابن عباس كل سلطان في القرآن حجة وذكر هذه الآية ثم قال : وأي سلطان كان للهدهد ؟ يعني أن المراد بالسلطان الحجة لا السلطان الذي هو الملك وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { أحطت بما لم تحط به } قال : اطلعت على ما لم تطلع عليه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { وجئتك من سبإ } قال : سبأ بأرض اليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال { بنبإ يقين } قال : بخبر حق وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه أيضا { إني وجدت امرأة تملكهم } قال : كان اسمها بلقيس بنت شراحيل وكان صلباء شعراء وروي عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل وعن ابن جريج بنت ذي شرح وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إحدى أبوي بلقيس كان جنيا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ولها عرش عظيم } قال : سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يخرج الخبء } قال : يعلم كل خبيئة في السماء والأرض (4/192)
جملة 27 - { قال سننظر } مستأنفة جواب سؤال مقدر : أي قال سليمان للهدهد : سننظر فيما أخبرتنا به من هذه القصة { أصدقت } فيما قلت { أم كنت من الكاذبين } هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول سننظر وأم هي المتصلة وقوله : { أم كنت من الكاذبين } أبلغ من قوله أم كذبت لأن المعنى : من الذين اتصفوا بالكذب وصار خلقا لهم والنظر هو التأمل والتصفح وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار والكشف عن الحقائق وعدم قبول خبر المخبرين تقليدا لهم واعتمادا عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه ثم بين سليمان هذا النظر الذي وعد به (4/195)
فقال : 28 - { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } أي إلى أهل سبأ قال الزجاج : في ألقه خمسة أوجه : إثبات الياء في اللفظ وحذفها وإثبات الكسرة للدلالة عليها وبضم الهاء وإثبات الواو وبحذف الواو وإثبات الضمة للدلالة عليها وبإسكان الهاء وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء وروي عن هشام وجهان : إثبات الياء لفظا وحذفها مع كسرة الهاء وقرأ الباقون بإثبات الياء في اللفظ وقوله { بكتابي هذا } يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب وأن يكون بدلا منه وأن يكون بيانا له وخص الهدهد بإرساله بالكتاب لأنه المخبر بالقصة ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه أهلا للرسالة { ثم تول عنهم } أي تنح عنهم أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسل الملوك والمراد التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع وقيل معنى التولي : الرجوع إليه والأول أولى لقوله : { فانظر ماذا يرجعون } أي تأمر وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول وما يتراجعونه بينهم من الكلام (4/195)
29 - { قالت } أي بلقيس { يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم } في الكلام حذف والتقدير : فذهب الهدهد فألقاه إليهم فسمعها تقول : يا أيها المأ إلخ ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من عند عظيم في نفسها إجلالا لسليمان وقيل وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن وقيل وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختوما بخاتم سليمان وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعا ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب (4/196)
فقالت : 30 - { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } أي وإن ما اشتمل عليه من الكلام وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية وبعد التسمية (4/196)
31 - { أن لا تعلوا علي } أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك وأن هي المفسرة وقيل مصدرية ولا ناهية وقيل نافية ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب أو خبر مبتدأ محذوف : أي هو أن لا تعلوا قرأ الجمهور { إنه من سليمان وإنه } بكسرهما على الاستئناف وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحها على إسقاط حرف الجر وقرأ أبي إن من سليمان وإن بسم الله بحذف الضميرين وإسكان النونين على أنها مفسرتان وقرأ عبد الله بن مسعود إنه لا تغلوا بالغين المعجمة من الغلو وهو تجاوز الحد في الكبر { وأتوني مسلمين } أي مناقدين للدين مؤمنين بما جئت به (4/196)
32 - { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } الملأ أشراف القوم والمعنى يا أيها الاشراف أشيروا علي وبينوا لي الصواب في هذا الأمر وأجيبوني بما يقتضيه الحزم وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حل لما أشكل من الأمر عليها وفي الكلام حذف والتقدير : فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها وقالت لهم : يا أيها الملأ إني ألقي إلي يا أيها الملأ أفتوني وكرر قالت لمزيد العناية بما قالته لهم ثم زادت في التأدب واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح ويشيروا عليها بالصواب فقالت : { ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون } أي ما كنت مبرمة أمرا من الأمور حتى تحضروا عندي وتشيروا علي (4/196)
فـ 33 - { قالوا } مجيبين لها { نحن أولو قوة } في العدد والعدة { وأولو بأس شديد } عند الحرب واللقاء لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا ثم فوضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها وقوة عقلها فقالوا : { والأمر إليك } أي موكول إلى رأيك ونظرك { فانظري ماذا تأمرين } أي تأملي ماذا تأميرنا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له أس (4/196)
فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها 34 - { قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها } أي إذا دخلوا قرية من القرى خربوا مبانيها وغيروا مغانيها وأتلفوا أموالها وفرقوا شمل أهلها { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } أي أهانوا أشرافها وحطوا مراتبهم فصاروا عند ذلك أذلة وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك وتستحكم لهم الوطأة وتقرر لهم في قلوبهم المهابة قال الزجاج : أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت فقال سبحانه : { وكذلك يفعلون } أي مثل ذلك الفعل يفعلون قال ابن الأنباري : الوقف على قوله : { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } وقف تام فقال الله عز و جل تحقيقا لقولها : { وكذلك يفعلون } وقيل هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ثم لما قدمت لهم هذه المقدمة وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة أوضحت لهم وجه الرأي عندها وصرحت لهم بصوابه (4/196)
فقالت : 35 - { وإني مرسلة إليهم بهدية } أي إني أجرب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال فإن كان ملكا أرضيناه بذلك وكفينا أمره وإن كان نبيا لم يرضه ذلك لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين فلا ينجينا منه إلا إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته ولهذا قالت : { فناظرة بم يرجع المرسلون } الفاء للعطف على مرسلة وبم متعلق بيرجع والمعنى : إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو رد فعاملة بما يقتضيه ذلك وقد طول المفسرون في ذكر هذه الهدية وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة (4/197)
36 - { فلما جاء سليمان } أي فلما جاء رسولها المرسل بالهدية سليمان والمراد بهذا المضمر الجنس فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها : بم يرجع المرسلون وقرأ عبد الله { فلما جاء سليمان } أي الرسل وجملة { قال أتمدونن بمال } مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام للاستنكار : أي قال منكرا لإمدادهم له بالمال مع علو سلطانه وكثرة ماله وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية والباقون بنونين من غير إدغام وأما الياء فإن نافعا وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلا ويحذفونها وقفا وابن كثير يثبتها في الحالين والباقون يحذفونها في الحالين وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة { فما آتاني الله خير مما آتاكم } أي ما آتاني من النبوة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص { آتاني الله } بياء مفتوحة وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدم فقال : { بل أنتم بهديتكم تفرحون } توبيخا لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحدا من العالمين ومع ذلك أكرمني بالنبوة والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم والحط عليهم (4/197)
37 - { ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } أي قال سليمان للرسول : ارجع إليهم : أي إلى بلقيس وقومها وخاطب المفرد ها هنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل إما لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا وخاطبهم معه فيما سبق افتنانا في الكلام وقرأ عبد الله بن عباس ارجعوا وقيل إن الضمير يرجع إلى الهدهد واللام في لنأتينهم جواب قسم محذوف قال النحاس : وسمعت ابن كيسان يقول : هي لام توكيد ولام أمر ولام خفض وهذا قول الحذاق من النحويين لأنه يردون الشيء إلى أصله وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية ومعنى { لا قبل لهم } : أي لا طاقة لهم بها والجملة في محل جر صفة لجنود { ولنخرجنهم } معطوف على جواب القسم أي : لنخرجنهم من أرضهم التي هم فيها { أذلة } أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا أعزة وجملة { وهم صاغرون } في محل نصب على الحال قيل وهي حال مؤكدة لأن الصغار هو الذلة وقيل إن المراد بالصغار هنا الأسر والاستبعاد وقيل إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة ولما رجع الرسول إلى بلقيس تجهزت للمسير إلى سليمان وأخبر جبريل سليمان بذلك (4/197)
فـ 38 - { قال } سليمان { يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } أي عرش بلقيس الذي تقدم وصفه بالعظم { قبل أن يأتوني مسلمين } أي قبل أن تأتيني هي وقومها مسلمين قيل إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل ان يصلوا إليه ويسلموا لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها لم يحل أخذ أموالهم بغير رضاهم قال ابن عطية : وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها ورده إياها وبعثه الهدهد بالكتاب وعلى هذا جمهور المتأولين وقيل استدعاء العرش قبل وصولها ليريها القدرة التي هي من عند الله ويجعله دليلا على نبوته وقيل أراد أن يختبر عقلها ولهذا { قال نكروا لها عرشها } إلخ وقيل أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم والقول الأول هو الذي عليه الأكثر (4/198)
39 - { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } قرأ الجمهور بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميفع وأبو السمال عفريه بفتح التحتية بعدها تاء تأنيث منقلبة هاء رويت هذه القراءة عن أبي بكر الصديق وقرأ أبو حيان بفتح العين والعفريت المارد الغليظ الشديد قال النحاس : يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفريه وعفريت وقال قتادة : هو الداهية وقيل هو رئيس الجن قال ابن عطية : وقرأت فرقة عفر بكسر العين جمعه على عفار ومما ورد من أشعار العرب مطابقا لقراءة الجمهور ما أنشده الكسائي :
( فقال شيطان لهم عفريت ... ما لكم مكث ولا تبييت )
ومما ورد على القراءة الثانية قول ذي الرمة :
( كأنه كوكب في إثر عفرية ... مصوب في سواد الليل منقضب )
ومعنى قول العفريت أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس { وإني عليه لقوي أمين } إني لقوي على حمله أمين على ما فيه قيل اسم هذا العفريت كودن ذكره النحاس عن وهب بن منبه وقال السهيلي ذكوان وقيل اسمه دعوان وقيل صخر وقوله : { آتيك } فعل مضارع وأصله أأتيك بهمزتين فأبدلت الثانية ألفا وقيل هو اسم فاعل (4/198)
40 - { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } قال أكثر المفسرين : اسم هذا الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا وهو من بني إسرائيل وكان وزيرا لسليمان وكان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى قال ابن عطية : وقالت فرقة هو سليمان نفسه ويكون الخطاب على هذا للعفريت : كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت فقال له تحقيرا له { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } وقيل هو جبريل وقيل الخضر والأول أولى وقد قيل غير ذلك بما لا أصل له والمراد بالطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر وارتداده انضمامها وقيل هو معنى المطروف : أي الشيء الذي ينظرهن وقيل هو نفس الجفن عبر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك : افعل ذلك في لحظة قاله مجاهد وقال سعيد بن جبير : إنه قال لسليمان : انظر إلى السماء فما طرف حتى جاء به فوضعه بين يديه والمعنى : حتى يعود إليك طرفك بعد مده إلى السماء والأول أولى هذه الأقوال ثم الثالث { فلما رآه مستقرا عنده } قيل في الآية حذف والتقدير : فأذن له سليمان فدعا الله فأتى به فلما رآه سليمان مستقرا عنده : أي رأى العرش حاضرا لديه { قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر } الإشارة بقوله هذا إلى حضور العرش ليبلوني : أي ليختبرني أشكره بذلك وأعترف أنه من فضله من غير حول مني ولا قوة أم أكفر بترك الشكر وعدم القيام به قال الأخفش : المعنى لينظر أأشكر أم أكفر وقال غيره : معنى ليبلوني ليتعبدني وهو مجاز والأصل في الابتلاء الاختبار { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } لأنه استحق بالشكر تمام النعمة ودوامها والمعنى : أنه لا يرجع نفع ذلك إلا إلى الشاكر { ومن كفر } بترك الشكر { فإن ربي غني } عن شكره { كريم } في ترك المعاجلة بالعقوبة بنزع نعمه عنه وسلبه ما أعطاه منها وأم في أم أكفر هي المتصلة
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم } يقول : كن قريبا منهم { فانظر ماذا يرجعون } فانطلق بالكتاب حتى إذا توسط عرشها ألقى الكتاب أليها فقرئ عليها فإذا فيه إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم وأخرج ابن مردويه عنه { كتاب كريم } قال : مختوم وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يكتب باسمك اللهم حتى نزلت { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك مرفوعا مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أفتوني في أمري } قال : جمعت رؤوس مملكتها فشاورتهم في رأيها فأجمع رأيهم ورأيها على أن يغزوه فسارت حتى إذا كانت قريبة قالت : أرسل إليه بهدية فإن قبلها فهو ملك أقاتله وأن ردها تابعته فهو نبي فلما دنت رسلها من سليمان علم خبرهم فأمر الشياطين فموهوا ألف قصر من ذهب وفضة فلما رأت رسلها قصور الذهب قالوا : ما يصنع هذا بهديتنا وقصوره ذهب وفضة فلما دخلوا عليه بهديتها { قال أتمدونن بمال } ثم قال سليمان { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } فقال كاتب سليمان : ارفع بصرك فرفع بصره فلما رجع إليه طرفه فإذا هو بسرير { قال نكروا لها عرشها } فنزع منه فصوصه ومرافقه وما كان عليه من شيء فـ { قيل } لها { أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو } وأمر الشياطين فجعلوا لها صرحا ممددا من قوارير وجعل فيها تماثيل السمك فـ { قيل لها ادخلي الصرح } فكشفت عن ساقيها فإذا فيها شعر فعند ذلك أمر بصنعة النورة فصنعت فقيل لها : { إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها } قال : إذا أخذوها عنوة أخربوها وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : يقول الرب تبارك وتعالى : { وكذلك يفعلون } وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وإني مرسلة إليهم بهدية } قال : أرسلت بلبنة من ذهب فلما قدموا إذا حيطان المدينة من ذهب فذلك قوله : { أتمدونن بمال } الآية وقال ثابت البناني أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج وقال مجاهد : جواري لباسهن لباس الغلمان وغلمان لباسهم لباس الجواري وقال عكرمة : أهدت مائتي فرس على كل فرس غلام وجارية وعلى كل فرس لون ليس على الآخر وقال سعيد بن جبير : كانت الهدية جواهر وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره وأخرج ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { قبل أن يأتوني مسلمين } قال : طائعين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : اسم العفريت صخر وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : { قبل أن تقوم من مقامك } قال : من مجلسك وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { قال الذي عنده علم من الكتاب } قال : هو آصف بن برخيا وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال في قراءة ابن مسعود قال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل ان يرتد إليك طرفك قال : فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش في نفق تحت الأرض حتى خرج إليهم وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله { قبل أن يرتد إليك طرفك } قال : قال لسليمان انظر إلى السماء قال : فما اطرف حتى جاءه به فوضعه بين يديه وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس قال : لم يجر عرش صاحبة سبأ بين الأرض والسماء ولكن انشقت به الأرض فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان (4/199)
قوله : 41 - { نكروا لها عرشها } التنكير التغيير يقول غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته قيل جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وقيل غير بزيادة ونقصان قال الفراء وغيره : إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها وقيل خافت الجن أن يتزوج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدا فقالوا لسليمان إنها ضعيفة العقل ورجلها كرجل الحمار وقوله : { ننظر } بالجزم على أنه جواب الأم وبالجزم قرأ الجمهور وقرأ أبو حيان بالرفع على الاستئناف { أتهتدي } إلى معرفته أو إلى الإيمان بالله { أم تكون من الذين لا يهتدون } إلى ذلك (4/201)
42 - { فلما جاءت } أي بلقيس إلى سليمان { قيل } لها والقائل هو سليمان أو غير بأمره { أهكذا عرشك } لم يقل هذا عرشك لئلا يكون ذلك تلقينا لها فلا يتم الاختبار لعقلها { قالت كأنه هو } قال مجاهد : جعلت تعرف وتنكر وتعجب من حضوره عند سليمان فقالت : كأنه هو وقال مقاتل : عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها ولو قيل لها : أهذا عرشك لقالت نعم وقال عكرمة : كانت حكيمة قالت : إن قلت هو هو خشيت أن أكذب وإن قلت لا خشيت أن أكذب فقالت : كأنه هو وقيل أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين } قيل هو من كلام بلقيس : أي أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش وكنا مسلمين مناقدين لأمره وقيل هو من قول سليمان : أي أوتينا العلم بقدرة الله من قبل بلقيس وقيل أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبلها : أي من قبل مجيئها وقيل هو من كلام قوم سليمان والقول الثاني أرجح من سائر الأقوال (4/201)
43 - { وصدها ما كانت تعبد من دون الله } هذا من كلام الله سبحانه بيان لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام ففاعل صد هو ما كانت تعبد : أي منعها من إظهار الإيمان ما كانت تعبده وهي الشمس قال النحاس : أي صدها عبادتها من دون الله وقيل فاعل صد هو الله : أي منعها الله ما كانت تعبد من دونه فتكون ما في محل نصب وقيل الفاعل سليمان : أي ومنعها سليمان ما كانت تعبد والأول أولى والجملة مستأنفة للبيان كما ذكرنا وجملة { إنها كانت من قوم كافرين } تعليل للجملة الأولى : أي سبب تأخرها عن عبادة الله ومنع ما كانت تعبده عن ذلك أنها كانت من قوم متصفين بالكفر قرأ الجمهور إنها بالكسر وقرأ أبو حيان بالفتح وفي هذه القراءة وجهان : أحدهما أن الجملة بدل مما كانت تعبد والثاني أن التقدير : لأنها كانت تعبد فسقط حرف التعليل (4/202)
44 - { قيل لها ادخلي الصرح } قال أبو عبيدة : الصرح القصر وقال الزجاج : الصرح الحصن يقال هذه صرحة الار وقاعتها قال ابن قتيبة : الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير وجعل تحته ماء وسمك وحكى أبو عبيد في الغريب أن الصرج كل بناء عال مرتفع وأن الممرد الطويل { فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها } أي فلما رأت الصرح بين يديها حسبت أنه لجة واللجة معظم الماء فلذلك كشفت عن ساقيها لتخوض الماء فلما فعلت ذلك { قال } سليمان { إنه صرح ممرد من قوارير } الممرد المحكوك المملس ومنه الأمرد وتمرد الرجل إذا لم تخرج لحيته قاله الفراء ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق لها والممرد أيضا المطول ومنه قيل للحصن مارد ومنه قول الشاعر :
( غدوت صباحا باكرا فوجدتهم ... قبيل الضحى في السابري الممرد )
أي الدروع الواسعة الواسعة الطويلة فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت واستسلمت و { قالت رب إني ظلمت نفسي } أي بما كنت عليه من عبادة غيرك وقيل بالظن الذي توهمته في سليمان لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة والأول أولى { وأسلمت مع سليمان } متابعة له داخلة في دينه { لله رب العالمين } التفتت من الخطاب إلى الغيبة قيل لإظهار معرفتها بالله والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء ولكونه علما للذات
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { نكروا لها عرشها } قال : زيد فيه ونقص لـ { ننظر أتهتدي } قال : لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وأوتينا العلم من قبلها } قال : من قول سليمان وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد نحوه وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فلما رأته حسبته لجة } قال : بحرا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في أثر طويل أن سليمان تزوجها بعد ذلك قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث قال ابن كثير في تفسيره بعد حكايته لقول أبي بكر بن أبي شيبة : بل هو منكر جدا ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس والله أعلم
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب بما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ انتهى وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير ونبهنا عليه في عدة مواضع وكنت أظن أنه لم ينبه على ذلك غيري فالحمد لله على الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف وأخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أول من صنعت له الحمامات سليمان ] وروي عنه مرفوعا من طريق أخرى رواها الطبراني وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب بلفظ [ أول من دخل الحمام سليمان فلما وجد حره قال أوه من عذاب الله ] (4/202)
قوله : 45 - { ولقد أرسلنا } معطوف على قوله { ولقد آتينا داود } واللام هي الموطئة للقسم وهذه القصة من جملة بيان قوله { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } و { صالحا } عطف بيان و { أن اعبدوا الله } تفسير للرسالة وأن هي المفسرة ويجوز أن تكون مصدرية : أي بأن اعبدوا الله وإذا في { فإذا هم فريقان } هي الفجائية : أي ففاجئوا التفرق والاختصام والمراد بالفريقين المؤمنون منهم والكافرون ومعن الاختصام : أن كل فريق يخاصم على ما هو فيه ويزعم أنه الحق معه وقيل إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا ؟ وقيل أحد الفريقين صالح والفريق الآخر جميع قومه وهو ضعيف (4/204)
46 - { قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة } أي قال صالح للفريق الكافر منهم منكرا عليهم : لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ؟ قال مجاهد : بالعذاب قبل الرحمة والمعنى : لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة ؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون : ائتنا يا صالح بالعذاب { لولا تستغفرون الله } هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك { لعلكم ترحمون } رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر ووصف العذاب بأنه سيئة مجازا إما لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروها (4/204)
فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح والكلام اللين أنهم 47 - { قالوا اطيرنا بك وبمن معك } أصله تطيرنا وقد قرئ بذلك والتطير التشاؤم : أي تشاءمنا بك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها وكانوا إذا أرادوا سفرا أو أمرا من الأمور نفروا طائرا من وكره فإن طار يمنة ساروا وفعلوا ما عزموا عليه وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك { قال } لهم صالح { طائركم عند الله } أي ليس ذلك بسبب الطائر الذي تتشاءمون به بل سبب ذلك عند الله هو ما يقدره عليكم والمعنى أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم وهذا كقوله تعالى : { يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله } ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان فقال : { بل أنتم قوم تفتنون } أي تمتحنون وتختبرون وقيل تعذبون بذنوبكم وقيل يفتنكم غيركم وقيل يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة أو بما لأجله تطيرون فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه (4/204)
48 - { وكان في المدينة } التي في صالح وهو الحجر { تسعة رهط } أي تسعة رجال من أبناء الأشراف والرهط اسم للجماعة فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم جماعة والجمع أرهط وأراهط وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة ثم وصف هؤلاء بقوله : { يفسدون في الأرض ولا يصلحون } أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح وقد اختلف في أسماء هؤلاء التسعة اختلافا كثيرا لا حاجة إلى التطويل بذكره (4/205)
49 - { قالوا تقاسموا بالله } أي قال بعضهم لبعض : احلفوا بالله هذا على أن تقاسموا فعل أمر ويجوز أن يكون فعلا ماضيا مفسرا لقالوا : كأنه قيل ما قالوا فقال تقاسموا أو يكون حالا على إضمار قد : أي قالوا ذلك متقاسمين وقرأ ابن مسعود يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله وليس فيها قالوا واللام في { لنبيتنه وأهله } جواب القسم : أي لنأتينه بغتة في وقت البيات فنقتله وأهله { ثم لنقولن لوليه } قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في { لنبيتنه } وفي { لنقولن } واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ حمزة والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعض واختار هذه القراءة أبو عبيد وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية فيهما والمراد بولي صالح رهطه { ما شهدنا مهلك أهله } أي ما حضرنا قتلهم ولا ندري من قتله وقتل أهله ونفيهم لشهودهم لمكان الهلاك يدل على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى وقيل إن المهلك بمعنى الإهلاك وقرأ حفص والسلمي مهلك بفتح الميم واللام وقرأ أبو بكر والمفضل بفتح الميم وكسر اللام { وإنا لصادقون } فيما قلناه قال الزجاج : وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه وكان هذا مكرا منهم (4/205)
ولهذا قال الله سبحانه 50 - { ومكروا مكرا } أي بهذه المحالفة { ومكرنا مكرا } جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم { وهم لا يشعرون } بمكر الله بهم (4/205)
51 - { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر وما أصابهم بسببه { أنا دمرناهم وقومهم أجمعين } قرأ الجمهور بكسر همزة { إنا } وقرأ حمزة والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها فمن كسر جعله استئنافا قال الفراء والزجاج : من كسر استأنف وهو يفسر به ما كان قبله كأنه جعله تابعا للعاقبة كأنه قال : العاقبة إنا دمرناهم وعلى قراءة الفتح يكون التقدير بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم وكان تامة وعاقبة فاعل لها أو يكون بدلا من عاقبة أو يكون خبر مبتدأ محذوف : أي هي أنا دمرناهم ويجوز أن تكون كان ناقصة وكيف خبرها ويجوز أن يكون خبرها أنا دمرنا قال أبو حاتم : وفي حرف أبي أن دمرناهم والمعنى في الآية : أن الله دمر التسعة الرهط المذكورين ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك ومعنى التأكيد بأجمعين أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم (4/205)
وجملة 52 - { فتلك بيوتهم خاوية } مقررة لما قبلها قرأ الجمهور { خاوية } بالنصب على الحال قال الزجاج : المعنى فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية وكذا قال الفراء والنحاس : أي خالية عن أهلها خرابا ليس بها ساكن وقال الكسائي وأبو عبيدة : نصب خاوية على القطع والأصل فتلك بيوتهم الخاوية فلما قطع منها الألف واللام نصبت كقوله : { وله الدين واصبا } وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن عمر برفع خاوية على أنه خبر اسم الإشارة وبيوتهم بدل أو عطف بيان أو خبر لاسم الإشارة وخاوية خبر آخر والباء في { بما ظلموا } للسببية : أي بسبب ظلمهم { إن في ذلك } التدمير والتأهيل { لآية } عظيمة { لقوم يعلمون } أي يتصفون بالعلم بالأشياء (4/206)
53 - { وأنجينا الذين آمنوا } وهم صالح ومن آمن به { وكانوا يتقون } الله ويخافون عذابه
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { طائركم } قال : مصائبكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وكان في المدينة تسعة رهط } قال : هم الذين عقروا الناقة وقالوا حين عقروها : نبيت صالحا وأهله فنقلتهم ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين (4/206)
انتصاب لوطا : بفعل مضمر معطوف على أرسلنا : أي وأرسلنا لوطا و 54 - { إذ قال } ظرف للفعل المقدر ويجوز أن يقدر أذكر والمعنى : وأرسلنا لوطا وقت قوله : { لقومه أتأتون الفاحشة } أي الفعلة المتناهية في القبح والشناعة وهم أهل سدوم وجملة { وأنتم تبصرون } في محل نصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار : أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة وذلك أعظم لذبوبكم على أن تبصرون من بصر القلب وهو العلم أو بمعنى النظر لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتوا وتمردا وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى (4/207)
55 - { أإنكم لتأتون الرجال شهوة } فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة وانتصاب شهوة على العلة : أي للشهوة أو على أنه صفة لمصدر محذوف : أي إتيانا شهوة أو أنه بمعنى الحال : أي مشتهين لهم { من دون النساء } أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل لذلك { بل أنتم قوم تجهلون } التحريم أو العقوبة على هذه المعصية واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة من أإنكم (4/207)
56 - { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } قرأ الجمهور بنصب جواب على أنه خبر كان واسمها إلا أن قالوا : أي إلا قولهم وقرأ ابن أبي إسحاق برفع جواب على أنه اسم كان وخبرها ما بعده ثم عللوا ما أمروا به بعضهم بعضا من الإخراج بقولهم : إنهم أناس يتطهرون : أي يتنزهون عن أدبار الرجال : قالوا ذلك استهزاء منهم بهم (4/208)
{ فأنجيناه وأهله } من العذاب { إلا امرأته قدرناها من الغابرين } أي قدرنا أنها من الباقين في العذاب ومعنى قدرنا قضينا قرأ الجمهور { قدرنا } بالتشديد وقرأ عاصم بالتخفيف والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى (4/208)
58 - { وأمطرنا عليهم مطرا } هذا التأكيد يدل على شدة المطر وأنه غير معهود { فساء مطر المنذرين } المخصوص بالذم محذوف : أي ساء مطر المنذرين مطرهم والمراد بالمنذرين الذين أنذروا فلم يقبلوا وقد مضى بيان هذا كله في الأعراف والشعراء (4/208)
59 - { قل الحمد لله وسلام على عباده } قال الفراء : قال أهل المعاني : قيل للوط قل الحمد لله على هلاكهم وخالفه جماعة فقالوا : إن هذا خطاب نبينا صلى الله عليه و سلم : أي قيل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية وسلام على عباده { الذين اصطفى } قال النحاس : وهذا أولى لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه و سلم وكل ما فيه فهو مخاطب به إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره قيل والمراد بعباده الذين اصطفى : أمة محمد صلى الله عليه و سلم والأولى حمله على العموم فيدخل في ذلك الأنبياء وأتباعهم { آلله خير أما يشركون } أي الله الذي ذكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أما يشركون به من الأصنام وهذه الخيرية ليست بمعناها الأصلي بل هي كقول الشاعر :
( أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء )
فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم إذ لا خير فيهم أصلا وقد حكى سيبويه أن العرب تقول : السعادة أحب إليك أم الشقاوة ولا خير في الشقاوة أصلا وقيل المعنى : أثواب الله خير أم عقاب ما تشركون به ؟ وقيل : قال لهم ذلك جريا على اعتقادهم لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيرا وقيل المراد من هذا الاستفهام الخبر قرأ الجمهور { تشركون } بالفوقية على الخطاب وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب { يشركون } بالتحتية و أم في أما يشركون هي المتصلة (4/208)
60 - { أمن خلق السموات والأرض } فهي المنقطعة وقال أبو حاتم : تقديره أآلهتكم خير أم من خلق السموات والأرض وقدر على خلقهن ؟ وقيل المعنى : أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السموات والأرض ؟ فتكون أم على هذا متصلة وفيها معنى التوبيخ والتهكم كما في الجملة الأولى وقرأ الأعمش أمن بتخفيف الميم { وأنزل لكم من السماء ماء } أي نوعا من الماء وهو المطر { فأنبتنا به حدائق } جمع حديقة قال الفراء : الحديقة البستان الذي عليه حائط فإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة وقال قتادة وعكرمة : الحدائق النخل { ذات بهجة } أي ذات حسن ورونق والبهجة : هي الحسن الذي يبتهج به من رآه ولم يقل ذوات بهجة على الجمع ومعنى هذا النفي الحظر والمعنى من فعل هذا : أي ما كان للبشر ولا يتهيأ لهم ذلك ولا يدخل تحت مقدرتهم لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ثم قال سبحانه موبخا لهم ومقرعا { أإله مع الله } أي هل معبود مع الله الذي تقدم ذلك بعض أفعاله حتى يقرن به ويجعل شريكا له في العبادة وقرئ ءإلها مع الله بالنصب على تقدير : أتدعون إلها ثم أضرب عن تقريعهم وتوبيخهم بما تقدم وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة فقال { بل هم قوم يعدلون } أي يعدلون بالله غيره أو يعدلون عن الحق إلى الباطل ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها (4/209)
فقال : 61 - { أمن جعل الأرض قرارا } القرار المستقر : أي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها وقيل هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله أمن خلق السموات والأرض ولا ملجئ لذلك بل هي وما بعدها إضراب وانتقال من التوبيخ والتقريع بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشيء آخر { وجعل خلالها أنهارا } الخلال : الوسط وقد تقدم تحقيقه في قوله : { وفجرنا خلالهما نهرا } { وجعل لها رواسي } أي جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة { وجعل بين البحرين حاجزا } الحاجز : المانع : أي جعل بين البحرين من قدرته حاجزا والبحران هما العذب والمالح فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يدخل في هذا وقد مر بيانه في سورة الفرقان { أإله مع الله } أي إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلا الله فهل إله في الوجود يصنع صنعه ويخلق خلقه ؟ فكيف يشركون به ما لا يضر ولا ينفع { بل أكثرهم لا يعلمون } توحيد ربهم وسلطان قدرته (4/209)
62 - { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم والمضطر اسم مفعول من الاضطرار : وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة وقيل هو المذنب وقيل هو الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله واللام في المضطر للجنس لا للاستغراق فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه وإلا فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطر إذا دعاه وأخبر بذلك عن نفسه والوجه في إجابة دعاء المضطر أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص وقطع النظر عما سوى الله وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين وإن كانوا كافرين فقال : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } وقال : { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } فأجابهم عند ضرورتهم وأخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم { ويكشف السوء } أي الذي يسوء العبد من غير تعيين وقيل هو الضر وقيل هو الجور { ويجعلكم خلفاء الأرض } أي يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله بعد انقراضهم والمعنى : يهلك قرنا وينشئ آخرين وقيل يجعل أولادكم خلفا منكم وقيل يجعل المسلمين خلفا من الكفار ينزلون أرضهم وديارهم { أإله مع الله } الذي يوليكم هذه النعم الجسام { قليلا ما تذكرون } أي تذكرا قليلا ما تذكرون قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب وقرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالتحتية على الخبر ردا على قوله بل أكثرهم لا يعلمون واختار هذه القراءة أبو حاتم (4/210)
63 - { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } أي يرشدكم في الليالي المظلمات إذا سافرتم في البر أو البحر وقيل المراد : مفاوز البر التي لا أعلام لها ولجج البحار وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها { ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } والمراد بالرحمة هنا المطر : أي يرسل الرياح بين يدي المطر وقبل نزوله { أإله مع الله } يفعل ذلك ويوجده { تعالى الله عما يشركون } أي تنزه وتقدس عن وجود ما يجعلونه شريكا له (4/210)
64 - { أمن يبدأ الخلق ثم يعيده } كانوا يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق فألزمهم الإعادة : أي إذا قدر على الابتداء قدر على الإعادة { ومن يرزقكم من السماء والأرض } بالمطر والنبات : أي هو خير أم ما تجعلونه شريكا له مما لا يقدر على شيء من ذلك { أإله مع الله } حتى تجعلونه شريكا له { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } أي حجتكم على أن لله سبحانه شريكا أو هاتوا حجتكم أن ثم صانعا يصنع كصنعه وفي هذا تبكيت لهم وتهكم بهم (4/211)
65 - { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض الغيب الذي استأثر الله بعلمه والاستثناء في قوله إلا الله منقطع : أي لكن الله يعلم ذلك ورفع ما بعد إلا مع كون الاستثناء منقطعا هو على اللغة التميمية كما في قولهم :
( إلا اليعافير وإلا العيس )
وقيل إن فاعل يعلم هو ما بعد إلا ومن في السموات مفعوله والغيب بدل من من : وقال الزجاج : إلا الله بدل من من قال الفراء : وإنما رفع ما بعد إلا لأن ما بعدها خبر كقولهم ما ذهب أحدا إلا أبوك وهو كقول الزجاج قال الزجاج : ومن نصب نصب على الاستثناء { وما يشعرون أيان يبعثون } أي لا يشعرون متى ينشرون من القبور وأيان مركبة من أي وإن وقد تقدم تحقيقه والضمير للكفرة وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم وهي منصوبة بيبعثون ومعلقة بيشعرون فتكون هي وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض : أي وما يشعرون بوقت بعثهم ومعنى أيان معنى متى (4/211)
66 - { بل ادارك علمهم في الآخرة } قرأ الجمهور { ادارك } وأصل ادارك تدارك أدغمت التاء في الدال وجيء بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد { بل ادارك } من الإدراك وقرأ عطاء بن يسار وسليمان بن يسار والأعمش بل ادرك بفتح لام بل وتشديد الدال وقرأ ابن محيصن بل أدراك على الاستفهام وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج بلى أدارك بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع وتشديد الدال وقرأ أبي بل تدارك ومعنى الآية : بل تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كل ما وعدوا به وعاينوه وقيل معناه : تتابع علمهم في الآخرة والقراءة الثانية معناها كل علمهم في الآخرة مع المعاينة وذلك حين لا ينفعهم العلم لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين وقال الزجاج : إنه على معنى الإنكار واستدل على ذلك بقوله فيما بعد { بل هم منها عمون } أي لم يدرك علمهم علم الآخرة وقيل المعنى : بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم علم ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى فافتعل وتفاعل قد يجيئان لمعنى والقراءة الرابعة هي بمعنى الإنكار قال الفراء : وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها { بل هم في شك منها } أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشد منه فقال : { بل هم منها عمون } فلا يدركون شيئا من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك وعمون جمع عم : وهو من كان أعمى القلب والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها فمن قال : أن معنى الآية الأولى أعني بل ادارك علمهم في الآخرة أنه كمل علمهم وتم مع المعاينة فلا بد من حمل قوله بل هم في شك إلخ على ما كانوا عليه في الدنيا ومن قال : إن معنى الآية الأولى الاستهزاء بهم والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله بل هم في شك إلخ بما كانوا عليه في الدنيا وبهذا يتضح معنى هذه الآيات ويظهر ظهورا بينا
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وسلام على عباده الذين اصطفى } قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم اصطفاهم الله لنبيه وروي مثله عن سفيان الثوري والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه و سلم دخولا أوليا وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني [ عن رجل من بلجهم قال قلت يا رسول الله إلى ما تدعو ؟ قال : أدعوا الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشفه عنك ] هذا طرف من حديث طويل وقد رواه أحمد من وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا يونس حدثنا عبيد بن عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت ثلاثة من تكلم بواحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { بل ادارك علمهم في الآخرة } قال : حين لا ينفع العلم وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ { بل ادارك علمهم في الآخرة } قال : لم يدرك علمهم قال أبو عبيد : يعني أنه قرأها بالاستفهام وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { بل ادارك علمهم في الآخرة } يقول : غاب علمهم (4/211)
لما ذكر سبحانه أن المشرحكين في شك من البعث وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم ترابا فقال : 67 - { وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون } والعامل في إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره أنبعث أو نخرج إذا كنا وإنما لم يعمل فيه مخرجون لتوسط همزة الاستفهام وإن ولام الابتداء بينهما قرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة وقرأ عاصم وحمزة باستفهامين إلا أنهم حققا الهمزتين وقرأ نافع بهمزة وقرأ ابن عامر وورش ويعقوب { أإذا } بهمزتين { وإننا } بنونين على الخبر ورجح أبو عبيد قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين ومعنى الآية : أنهم استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء بعد أن قد صاروا ترابا (4/213)
ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو تكذيب للبعث فقالوا : { لقد وعدنا هذا } يعنون البعث { نحن وآباؤنا من قبل } أي من قبل وعد محمد لنا والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإنكار مصدرة بالقسم لزيادة التقرير { إن هذا } الوعد بالبعث { إلا أساطير الأولين } أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة وقد تقدم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنون ثم أوعدهم سبحانه على عدم قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء وما عوقبوا به وكيف كانت عاقبتهم (4/214)
فقال : 69 - { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } بما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث ومعنى النظر هو مشاهدة آثارهم بالبصر فإن في المشاهدة زيادة اعتبار وقيل المعنى : فانظروا بقلوبكم وبصائركم كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم والأولى أولى لأمرهم بالسير في الأرض (4/214)
70 - { ولا تحزن عليهم } لما وقع منهم من الإصرار على الكفر { ولا تكن في ضيق } الضيق : الحرج يقال ضاق الشيء ضيقا بالكسر قرئ بهما وهما لغتان قال ابن السكيت : يقال في صدر فلان ضيق وضيق وهو ما تضيق عنه الصدور وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة النحل (4/214)
71 - { ويقولون متى هذا الوعد } أي بالعذاب التي تعدنا به { إن كنتم صادقين } في ذلك (4/214)
72 - { قل عسى أن يكون ردف لكم } يقال ردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه وردفه إذا أتبعه وجاء في أثره والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم ولحقكم فتكون اللام زائدة للتأكيد أو بمعنى اقترب لكم ودنا لكم فتكون غير زائدة قال ابن شجرة : معنى ردف لكم تبعكم قال ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ومنه قول أبي ذؤيب :
( عاد السواد بياضا في مفارقه ... لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا )
قال الجوهري : وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى قال خزيمة بن مالك بن نهد :
( إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا )
قال الفراء : ردف لكم : دنا لكم ولهذا قيل لكم وقرأ الأعرج ردف لكم بفتح الدال وهي لغة والكسر أشهر وقرأ ابن عباس أزف لكم وارتفاع { بعض الذي تستعجلون } أي على أنه فاعل ردف والمراد بعض الذي تستعجلونه من العذاب : أي عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك قيل هو عذابهم بالقتل يوم بدر وقيل هو عذاب القبر (4/214)
ثم ذكر سبحانه فضله في تأخير العذاب فقال : 73 - { وإن ربك لذو فضل على الناس } في تأخير العقوبة والأولى أن تحمل الآية على العموم ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه { ولكن أكثرهم لا يشكرون } فضله وإنعامه ولا يعرفون حق إحسانه ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم (4/215)
فقال : 74 - { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم } أي ما تخفيه قرأ الجمهور تكن بضم التاء من أكن وقرأ ابن محيصن وابن السميفع وحميد بفتح التاء وضم الكاف يقال كننته بمعنى سترته وخفيت أثره { وما يعلنون } وما يظهرون من أقوالهم وأفعالهم (4/215)
75 - { وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين } قال المفسرون : ما من شيء غائب وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إلا هو مبين في اللوح المحفوظ وغائبة هي من الصفات والتاء للمبالغة قال الحسن : الغائبة هنا هي القيامة وقال مقاتل : علم ما يستعجلون من العذاب هو مبين عند الله وإن غاب عن الخلق وقال ابن شجرة : الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه وغيبه عنهم مبين في أم الكتاب فكيف يخفى عليه شيء من ذلك ومن جملة ذلك ما يستعجلونه قبل أجله المضروب له ؟ (4/215)
76 - { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } وذلك لأن أهل الكتاب تفرقوا وتحزبوا أحزابا يطعن بعضهم على بعض ويتبرأ بعضهم من بعض فنزل القرآن مبينا لما اختلفوا فيه من الحق فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ويدفع تفرقهم (4/215)
77 - { وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين } أي وإن القرآن لهدى ورجمة لمن آمن بالله وتابع رسوله وخص المؤمنين لأنهم المنتفعون به ومن جملتهم من آمن من بني إسرائيل (4/215)
78 - { إن ربك يقضي بينهم بحكمه } أي يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بما يحكم به من الحق فيجازي المحق ويعاقب المبطل وقيل يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه قرأ الجمهور { بحكمه } بضم الحاء وسكون الكاف وقرأ جناح بكسرها وفتح الكاف جمع حكمة { وهو العزيز العليم } العزيز الذي لا يغالب والعليم بما يحكم به أو الكثير العلم (4/215)
ثم أمره سبحانه بالتوكل وقلة المبالاة فقال : 79 - { فتوكل على الله } والفاء لترتيب الأمر على ما تقدم ذكره والمعنى : فوض إليه أمرك واعتمد عليه فإنه ناصرك ثم علل ذلك بعلتين : الأولى قوله : { إنك على الحق المبين } أي الظاهر وقيل المظهر (4/215)
والعلة الثانية قوله : 80 - { إنك لا تسمع الموتى } لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون ولا يهتدون صار ذلك سببا قويا في عدم الاعتداء بهم شبه الكفار بالموتى الذين لا حس لهم ولا عقل وبالصم الذين لا يسمعون المواعظ ولا يجيبون الدعاء إلى الله ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه وتأكيده فقال : { إذا ولوا مدبرين } أي إذا أعرضوا عن الحق إعراضا تاما فإن الأصم لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلا فكيف إذا كان معرضا عنه موليا مدبرا وظاهر نفي إسماع الموتى العموم فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم خاطب القتلى في قليب بدر فقيل له يا رسول الله إنما تكلم أجسادا أرواح لها وكذلك ما ورد من أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له أذا انصرفوا وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق { لا يسمع } بالتحتية مفتوحة وفتح الميم وفاعله { الصم } وقرأ الباقون { تسمع } بضم الفوقية وكسر الميم من أسمع قال قتادة الأصم إذا ولى مدبرا ثم ناديته لم يسمع كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان (4/215)
ثم ضرب العمي مثلا لهم فقال : 81 - { وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشادا يوصله إلى المطلوب منه وهو الإيمان وليس في وسعك ذلك ومثله قوله : { إنك لا تهدي من أحببت } قرأ الجمهور بإضافة هادي إلى العمي وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيان بهاد العمي بتنوين هاد وقرأ حمزة تهدي فعلا مضارعا وفي حرف عبد الله وما أن تهدي العمي { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } أي ما تسمع إلا من يؤمن لا من يكفر والمراد بمن يؤمن بالآيات من يصدق القرآن وجملة { فهم مسلمون } تعليل للإيمان : أي فهم مناقدون مخلصون ثم هدد العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها (4/216)
فقال : 82 - { وإذا وقع القول عليهم }
واختلف في معنى وقوع القول عليهم فقال قتادة : وجب الغضب عليهم وقال مجاهد : حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون وقيل حق العذاب عليهم وقيل وجب السخط والمعاني متقاربة وقيل المراد بالقول ما نطق به القرآن من مجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وقيل وقع القول بموت العلماء وذهاب العلم وقيل إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر والحاصل أن المراد بوقع وجب والمراد بالقول مضمونه أو أطلق المصدر على المفعول : أي المقول وجواب الشرط { أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم }
واختلف في هذه الدابة على أقوال فقيل إنها فصيل ناقة صالح يخرج عند اقتراب القيامة ويكون من أشراط الساعة وقيل هي دابة ذات شعر وقوائم طوال يقال لها الجساسة وقيل هي دابة على خلقة بني آدم وهي في السحاب وقوائمها في الأرض وقيل رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل إثنا عشر ذراعا وقيل هي الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة والمراد أنها هي التي تخرج في آخر الزمان وقيل هي دابة ما لها ذنب ولها لحية وقيل هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره وقد رجح القول الأول القرطبي في تفسيره
واختلف من أي موضع تخرج ؟ فقيل من جبل الصفا بمكة وقيل تخرج من جبل أبي قبيس وقيل لها ثلاث خرجات : خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس وتكثر الدماء ثم تكمن وتخرج في القرى ثم تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وقيل تخرج من بين الركن والمقام وقيل تخرج في تهامة وقيل من مسجد الكوفة من حيث فار التنور وقيل من أرض الطائف وقيل من صخرة من شعب أجياد وقيل من صدع في الكعبة
واختلف في معنى قوله تكلمهم فقيل : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام وقيل تكلمهم بما يسوؤهم وقيل تكلمهم بقوله تعالى : { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } أي بخروجها لأن خروجها من الآيات قرأ الجمهور تكلمهم من التكليم ويدل عليه قراءة أبي تنبئهم وقرأ ابن عباس وأبو زرعة وأبو رجاء والحسن : تكلمهم بفتح الفوقية وسكون الكاف من الكلم وهو الجرح قال عكرمة : أي تسمهم وسما وقيل تجرحهم وقيل إن قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم بفتح الكاف وسكون اللام وهو الجرح والتشديد للتكثير قاله أبو حاتم قرأ الجمهور : { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } بكسر إن على الاستئناف وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق بفتح { أن } قال الأخفش : المعنى على قراءة الفتح بأن الناس وكذا قرأ ابن مسعود بأن الناس بالباء وقال أبو عبيد : موضعها نصب بوقوع الفعل عليها : أي تخبرهم أن الناس وعلى هذه القراءة فالذي تكلم الناس به هو قوله : { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } كما قدمنا الإشارة إلى ذلك وأما على قراءة الكسر فالجملة مستأنفة كما قدمنا ولا تكون من كلام الدابة وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين وجزم به الكسائي والفراء وقال الأخفش : إن كسر إن هو على تقدير القول أي تقول لهم إن الناس إلخ فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى القراءة الثانية والمارد بالناس في الآية : هم الناس على العموم فيدخل في ذلك كل مكلف وقيل المراد الكفار خاصة وقيل كفار مكة والأول أولى
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { عسى أن يكون ردف لكم } قال : اقترب لكم وأخرج ابن أبي حاتم عنه { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } قال : يعلم ما عملوا بالليل والنهار وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا { وما من غائبة } الآية يقول : ما من شيء في السماء والأرض سرا ولا علانية إلا يعلمه وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد وعبد ابن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { وإذا وقع القول عليهم } الآية قال : إذا لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه فسر { وقع القول عليهم } بما أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { دابة من الأرض تكلمهم } قال : تحدثهم وأخرج ابن جرير عنه قال كلامها تنبئهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي داود نفيع الأعمى قال : سألت ابن عباس عن قوله : { تكلمهم } يعني هل هو من التكليم باللسان أو من الكلم وهو الجرح فقال : كل ذلك والله تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر : أي تجرحه وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ليس ذلك حديث ولا كلام ولكنها سمة تسم من أمرها الله به فيكون خروجها من الصفا ليلة منى فيصبحون بين رأسها وذنبها لا يدحض داحض ولا يجرح جارح حتى إذا فرغت مما أمرها الله به فهلك من هلك ونجا من نجا كان أول خطوة تضعها بإنطاكية ] وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : الدابة ذات وبر وريش مؤلفة فيها من كل لون لها أربع قوائم تخرج بعقب من الحاج وأخرج أحمد وابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة فيقال له ممن اشتريتها ؟ فيقول : من الرجل المخطم ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس إن للدابة ثلاثة خرجات وذكر نحو ما قدمنا وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد رفعه قال [ تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة ] وأخرج سعيد بن منصور ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تخرج من بعض أودية تهامة وأخرج الطيالسي وأحمد ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تخرج من بعض أودية تهامة وأخرج الطيالسي وأحمد ونعيم بن حماد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالخاتم وتخطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر ] وأخرج الطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : [ ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الدابة فقال : لها ثلاث خرجات من الدهر ] وذكر نحو ما قدمنا في حديث طويل وفي صفتها ومكان خروجها وما تصنعه ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف وأما كونها تخرج وكونها من علامات الساعة فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث حذيفة مرفوعا [ لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات ] وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم وفي السنن الأربعة وكحديث [ بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال والدابة ] فإنه في صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا وكحديث ابن عمر مرفوعا [ إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى ] فإنه في صحيح مسلم أيضا (4/216)
ثم ذكر سبحانه طرفا مجملا من أهوال يوم القيامة فقال : 83 - { ويوم نحشر من كل أمة فوجا } العامل في الظرف فعل محذوف خوطب به النبي صلى الله عليه و سلم والحشر الجمع قيل والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق ومن لابتداء الغاية والفوج : الجماعة كالزمرة ومن في { ممن يكذب بآياتنا } بيانية { فهم يوزعون } أي يحبس أولهم على آخرهم وقد تقدم تحقيقه في هذه السورة مستوفى وقيل معناه : يدفعون ومنه قول الشماخ :
( وسمه وزعنا من خمس جحفل )
ومعنى الآية : واذكر يا محمد يوم نجمع من كل أمة من الأمم جماعة مكذبين بآياتنا فهم عند ذلك الحشر يرد أولهم على آخرهم أو يدفعون : أي اذكر لهم هذا أو بينه تحذيرا لهم وترهيبا (4/220)
84 - { حتى إذا جاؤوا } إلى موقف الحساب قال الله لهم توبيخا وتقريعا { أكذبتم بآياتي } التي أنزلتها على رسلي وأمرتهم بإبلاغها إليكم { و } الحال أنكم { لم تحيطوا بها علما } بل كذبتم بها بادئ بدء جاهلين لها غير ناظرين فيها ولا مستدلين على صحتها أو بطلانها تمردا وعنادا وجرأة على الله وعلى رسله وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ لأن من كذب بشيء ولم يحط به علما فقد كذب في تكذيبه ونادى على نفسه بالجهل وعدم الإنصاف وسوء الفهم وقصور الإدراك ومن هذا قبيل من تصدى لذم علم من العلوم الشرعية أو لذم علم هو مقدمة من مقدماتها ووسيلة يتوسل بها إليها ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها وتعقل معانيها كعلوم اللغة العربية بأسرها وهي إثنا عشر علما وعلم أصول الفقه فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله وسنة رسوله فإنه قد نادى على نفسه بأرفع صوت بأنه جاهل مجادل بالباطل طاعن على العلوم الشرعية مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن جهله وضلاله وطعنه على ما لا يعرفه ولا يعلم به ولا يحيط بكنهه حتى يصير عبرة لغيره وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعاف العقول وركاك الأديان ورعاع المتلبسين بالعلم زورا وكذبا وأم في قوله : { أماذا كنتم تعملون } هي المنقطعة والمعنى : أم أي شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها والتفكر في معانيها وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم (4/220)
85 - { ووقع القول عليهم } قد تقدم تفسيره قريبا والباء في { بما ظلموا } للسببية : أي وجب القول عليهم بسبب الظلم الذي أعظم أنواعه الشرك بالله { فهم لا ينطقون } عند وقوع القول عليهم : أي ليس لهم عذر ينطقون به أو لا يقدرون على القول لما يرونه من الهول العظيم وقال أكثر المفسرين : يختم على أفواههم فلا ينطقون ثم بعد أن خوفهم بأهوال القيامة ذكر سبحانه ما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد وإبلاء للمعذرة (4/220)
فقال : 86 - { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا } أي جعلنا الليل للسكون والاستقرار والنوم وذلك بسبب ما فيه من الظلمة فإنهم لا يسعون فيه للمعاش والنهار مبصرا ليبصروا فيه ما يسعون له من المعاش الذي لا بد له منهم ووصف النهار بالإبصار وهو وصف للناس مبالغة في إضاءته كأنه يبصر ما فيه قيل في الكلام حذف والتقدير : وجعلنا الليل مظلما ليسكنوا وحذف مظلما لدلالة مبصرا عليه وقد تقدم تحقيقه في الإسراء وفي يونس { إن في ذلك } المذكور { لآيات } أي علامات ودلالات { لقوم يؤمنون } بالله سبحانه ثم ذكر سبحانه علامة أخرى للقيامة فقال { ويوم ينفخ في الصور } هو معطوف على ويوم نحشر منصوب بناصبه المتقدم قال الفراء : إن المعنى : وذلكم يوم ينفخ في الصور والأول أولى والصور : قرن ينفخ فيه إسرافيل وقد تقدم تحقيقه في الإسراء وفي يونس { إن في ذلك } المذكور { لآيات } أي علامات ودلالات { لقوم يؤمنون } بالله سبحانه (4/221)
ثم ذكر سبحانه علامة أخرى للقيامة فقال : 87 - { ويوم ينفخ في الصور } هو معطوف على ويوم نحشر منصوب بناصبه المتقدم قال الفراء : إن المعنى : وذلكم يوم ينفخ في الصور والأول أولى والصور : قرن ينفخ فيه إسرافيل وقد تقدم في الأنعام استيفاء الكلام عليه والنفخات في الصور ثلاث : الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث وقيل إنها نفختان وإن نفخة الفزع إما أن تكون راجعة إلى نفخة الصعق أو إلى نفخة البعث واختار هذا القشيري والقرطبي وغيرهما وقال الماوردي : هذه النفخة المذكورة هنا يوم النشور من القبور { ففزع من في السموات ومن في الأرض } أي خافوا وانزعجوا لشدة ما سمعوا وقيل المراد بالفزع هنا : الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم فزعت إليك في كذا : إذا أسرعت إلى إجابتك والأول أولى بمعنى الآية وإنما عبر بالماضي مع كونه معطوفا على مضارع للدلالة على تحقق الوقوع حسبما ذكره علماء البيان وقال الفراء : هو محمول على المعنى لأن المعنى إذا نفخ { إلا ما شاء الله } أي إلا من شاء الله أن يفزع عند تلك النفخة
واختلف في تعيين من وقع الاستثناء له فقيل هم الشهداء والأنبياء وقيل الملائكة وقيل جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل الحور العين وقيل هم المؤمنون كافة بدليل قوله فيما بعد { من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون } ويمكن أن يكون الاستثناء شاملا لجميع المذكورين فلا مانع من ذلك { وكل أتوه داخرين } قرأ الجمهور { آتوه } على صيغة اسم الفاعل مضافا إلى الضمير الراجع إلى الله سبحانه وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وحفص عن عاصم { أتوه } فعلا ماضيا وكذا قرأ ابن مسعود وقرأ قتادة وكل أتاه قال الزجاج : إن من قرأ على الفعل الماضي فقد وحد على لفظ كل ومن قرأ على اسم الفاعل فقد جمع على معناه وهو غلط ظاهر فإن كلا القراءتين لا توحيد فيها بل التوحيد في قراءة قتادة فقط ومعنى داخرين صاغرين ذليلين وهو منصوب على الحال قرأ الجمهور داخرين وقرأ الأعرج دخرين بغير ألف وقد مضى تفسير هذا في سورة النحل (4/221)
88 - { وترى الجبال تحسبها جامدة } معطوف على ينفخ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح للرؤية و تحسبها جامدة في محل نصب على الحال من ضمير ترى أو من مفعوله لأن الرؤية بصرية وقيل هي بدل من الجملة الأولى وفيه ضعف وهذه هي العلامة الثالثة لقيام الساعة ومعنى تحسبها جامدة : أي قائمة ساكنة وجملة { وهي تمر مر السحاب } في محل نصب على الحال : أي وهي تسير سيرا حثيثا كسير السحاب التي تسيرها الرياح قال القتيبي : وذكل أن الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير قال القشيري وهذا يوم القيامة ومثله قوله تعالى : { وسيرت الجبال فكانت سرابا } قرأ أهل الكوفة { تحسبها } بفتح السين وقرأ الباقون بكسرها { صنع الله الذي أتقن كل شيء } انتصاب صنع على المصدرية عند الخليل وسيبويه وغيرهما : أي صنع الله ذلك صنعا وقيل هو مصدر مؤكد لقوله { ويوم ينفخ في الصور } وقيل منصوب على الإغراء : أي انظروا صنع الله ومعنى { الذي أتقن كل شيء } الذي أحكمه يقال رجل تقن : أي حاذق بالأشياء وجملة { إنه خبير بما تفعلون } تعليل لما قبلها من كونه سبحانه صنع ما صنع وأتقن كل شيء والخبير : المطلع على الظواهر والضمائر قرأ الجمهور بالتاء الفوقية على الخطاب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الخبر (4/222)
89 - { من جاء بالحسنة فله خير منها } الألف واللام للجنس : أي من جاء بجنس الحسنة فله من الجزاء والثواب عند الله خير منها : أي أفضل منها وأكثر وقيل خير حاصل من جهتها والأول أولى وقيل المراد بالحسنة هنا : لا إله إلا الله وقيل هي الإخلاص وقيل أداء الفرائض والتعميم أولى ولا وجه للتخصيص وإن قال به بعض السلف قيل وهذه الجملة بيان لقوله إنه خبير بما تفعلون وقيل بيان لقوله وكل أتوه داخرين قرأ عاصم وحمزة والكسائي { وهم من فزع } بالتنوين وفتح ميم { يومئذ } وقرأ نافع بفتحها من غير تنوين وقرأ الباقون بإضافة فزع إلى يومئذ قال أبو عبيد : وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين لأن معناه : الأمن من فزع جميع ذلك اليوم ومع التنوين يكون الأمن من فزع دون فزع وقيل إنه مصدر يتناول الكثير فلا يتم الترجيح بما ذكر فتكون القراءتان بمعنى واحد وقيل المراد بالفزع ها هنا هو الفزع الأكبر المذكور في قوله : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } ووجه قراءة نافع أنه نصب يوم على الظرفية لكون الإعراب فيه غير متمكن ولما كانت إضافة الفزع إلى ظف غير متمكن بني وقد تقدم في سورة هود كلام في هذا مستوفى (4/222)
90 - { ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار } قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم حتى قيل إنه مجمع عليه بين أهل التأويل : إن المراد بالسيئة هنا الشرك ووجه التخصيص قوله : { فكبت وجوههم في النار } فهذا الجزاء لا يكون إلا بمثل سيئة الشرك ومعنى { فكبت وجوههم في النار } أنهم كبوا فيها على وجوههم وألقوا فيها وطرحوا عليها يقال كببت الرجل : إذا ألقيته لوجهه فانكب وأكب وجملة { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } بتقدير القول : أي يقال ذلك والقائل خزنة جهنم : أي ما تجزون إلا جزاء عملكم (4/223)
91 - { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها } لما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدإ والمعاد أمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم هذه المقالة : أي قل يا محمد إنما أمرت أن أخص الله بالعبادة وحده لا شريك له والمراد بالبلدة : مكة وإنما خصها من بين سائر البلاد لكن فيها بيت الله الحرام ولكونها أحب البلاد إلى رسوله والموصول صلة للبلدة ومعنى حرمها جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصطاد صيدها ولا يختلى خلالها { وله كل شيء } من الأشياء خلقا وملكا وتصرفا : أي ولله كل شيء { وأمرت أن أكون من المسلمين } أي المناقدين لأمر الله المستسلمين له بالطاعة وامتثال أمره واجتناب نهيه والمراد بقوله أن أكون أن أثبت على ما أنا عليه (4/223)
92 - { وأن أتلو القرآن } أي أداوم تلاوته وأواظب على ذلك قيل وليس المراد من تلاوة القرآن هنا إلا تلاوة الدعوة إلى الإيمان والأول أولى { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } لأن نفع ذلك راجع إليه : أي فمن اهتدى على العموم أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه فعمل بما فيه من الإيمان والأول أولى { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } لأن نفع ذلك راجع إليه : أي فمن اهتدى على العموم أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه فعمل بما فيه من الإيمان بالله والعمل بشرائعه قرأ الجمهور { وأن أتلو } بإثبات الواو بعد اللام على أنه من التلاوة وهي القراءة أو من التلو وهو الاتباع وقرأ عبد الله وأن اتل بحذف الواو أمرا له صلى الله عليه و سلم كذا وجهه الفراء قال النحاس : ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة وهي مخالفة لجميع المصاحف { ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين } أي ومن ضل بالكفر وأعرض عن الهداية فقل له إنما أنا من المنذرين وقد فعلت بإبلاغ ذلك إليكم وليس علي غير ذلك وقيل الجواب محذوف : أي فوبال ضلاله عليه وأقيم إنما أنا من المنذرين مقامه لكونه كالعلة له (4/223)
93 - { وقل الحمد لله } على نعمه التي أنعم بها علي من النبوة والعلم وغير ذلك وقوله : { سيريكم آياته } هو من جملة ما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم أن يقوله : أي سيريكم الله آياته في أنفسكم وفي غيركم { فتعرفونها } أي تعرفون آياته ودلائل قدرته ووحدانيته وهذه المعرفة لا تنفع الكفار لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان وذلك عند حضور الموت ثم ختم السورة بقوله : { وما ربك بغافل عما تعملون } وهو كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يقوله وفيه ترهيب شديد وتهديد عظيم قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم { تعملون } بالفوقية على الخطاب وقرأ الباقون بالتحتية
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { داخرين } قال : صاغرين وأخرج هؤلاء عنه في قوله : { وترى الجبال تحسبها جامدة } قال : قائمة { صنع الله الذي أتقن كل شيء } قال : أحكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } قال : أحسن كل شيء خلقه وأوثقه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم { من جاء بالحسنة فله خير منها } قال : هي لا إله إلا الله { ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار } قال : هي الشرك وإذا صح هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمصير إليه في تفسير كلام الله سبحانه متعين ويحمل على أن المراد قال : لا إله إلا الله بحقها وما يجب لها فيدخل تحت ذلك كل طاعة ويشهد له ما أخرجه الحاكم في الكنى عن صفوان بن عسال قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان يوم القيامة : جاء الإيمان والشرك يجثوان بين يدي الله سبحانه فيقول الله للإيمان : انطلق أنت وأهلك إلى الجنة ويقول للشرك : انطلق أنت وأهلك إلى النار { من جاء بالحسنة فله خير منها } يعني قوله : لا إله إلا الله { ومن جاء بالسيئة } يعني الشرك { فكبت وجوههم في النار } ] وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة وأنس ونحوه مرفوعا وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه و سلم - من جاء بالحسنة - يعني شهادة أن لا إله إلا الله { فله خير منها } يعني بالخير الجنة { ومن جاء بالسيئة } يعني الشرك فكبت وجههم في النار وقال هذه تنجي وهذه تردي وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات والخرائطي في مكارم الأخلاق : عن ابن مسعود { من جاء بالحسنة } قال : لا إله إلا الله { ومن جاء بالسيئة } قال : بالشرك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم { فله خير منها } قال : له منها خير يعني من جهتها وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { فله خير منها } قال : ثواب وأخرج أيضا عنه أيضا قال : البلدة مكة (4/224)
سورة القصص
آياتها ثمان وثمانون آية وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة عطاء
وأخرج ابن الضريس وابن النجار وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة القصص بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثل ذلك : قال القرطبي : قال ابن عباس وقتادة : إنها نزلت بين مكة والمدينة وقال ابن سلام : بالجحفة وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي قوله عز و جل { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } وقال مقاتل : فيها من المدني { الذين آتيناهم الكتاب } إلى قوله : { لا نبتغي الجاهلين } وأخرج أحمد والطبراني وابن مردويه : قال السيوطي : سنده جيد عن معد يكرب قال : أتينا عبد الله بن مسعود فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال : ما هي معي ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه و سلم خباب بن الأرت فأتيت خبابا فقلت : كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ طسم أو طس ؟ فقال : كل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأه
1 - { طسم } الكلام في فاتحة السورة قد مر في فاتحة الشعراء وغيرها فلا نعيده (4/225)
وكذلك مر الكلام على قوله : 2 - { تلك آيات الكتاب المبين } فاسم الإشارة مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف وآيات بدل من اسم الإشارة ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب بنتلو والمبين المشتمل على بيان الحق من الباطل قال الزجاج : مبين الحق من الباطل والحلال من الحرام وهو من أبان بمعنى أظهر (4/226)
3 - { نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون } أي نوحي إليك من خبرهما ملتبسا بالحق وخص المؤمنين لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن وقيل إن مفعول نتلو محذوف والتقدير : نتلو عليك شيئا من نبئهما ويجوز أن تكون من مزيدة على رأي الأخفش : أي نتلو عليك نبأ موسى وفرعون والأولى أن تكون للبيان على تقدير المفعول كما ذكر أو للتبعيض ولا ملجئ للحكم بزيادتها والحق الصدق (4/226)
وجملة 4 - { إن فرعون علا في الأرض } وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من النبأ قال المفسرون : معنى علا تكبر وتجبر بسلطانه والمراد بالأرض أرض مصر وقيل معنى علا : ادعى الربوبية وقيل علا عن عبادة ربه { وجعل أهلها شيعا } أي فرقا وأصنافا في خدمته يشايعونه على ما يريد ويطيعونه وجملة { يستضعف طائفة منهم } مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقا وأصنافا ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل جعل : أي جعلهم شيعا حال كونهم مستضعفا طائفة منهم ويجوز أن تكون صفة لطائفة والطائفة هم بنو إسرائيل وجملة { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } بدل من الجملة الأولى ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان أو حالا أو صفة كالتي قبلها على تقدير عدم كونها بدلا منها وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ويترك النساء لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل قال الزجاج : والعجب من حمق فرعون فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل وإن كان كاذبا فلا معنى للقتل { إنه كان من المفسدين } في الأرض بالمعاصي والتجبر وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الإفساد (4/227)
5 - { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية واستحضار صورها : أي نريد أن نتفضل عليهم بعد استضعافهم والمراد بهؤلاء بنو إسرائيل والواو في ونريد للعطف على جملة إن فرعون علا وإن كانت الجملة المعطوف عليها إسمية لأن بينهما تناسبا من حيث أن كل واحدة منهما للتفسير والبيان ويجوز أن تكون حالا من فاعل يستضعف بتقدير مبتدأ : أي ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض كما في قول الشاعر :
( نجوت وأرهنهم ملكا )
والأول أولى { ونجعلهم أئمة } أي قادة في الخير ودعاة إليه وولاة على الناس وملوكا فيهم { ونجعلهم الوارثين } لملك فرعون ومساكن القبط وأملاكهم فيكون ملك فرعون فيهم ويسكنون في مساكنه ومساكن قومه وينتفعون بأملاكه وأملاكهم (4/227)
6 - { ونمكن لهم في الأرض } أي نجعلهم مقتدرين عليها وعلى أهلها مسلطين على ذلك يتصرفون به كيف شاءوا قرأ الجمهور نمكن بدون لام وقرأ الأعمش لنمكن بلام العلة { ونري فرعون وهامان وجنودهما } قرأ الجمهور نرى بنون مضمومة وكسر الراء على أن الفاعل هو الله سبحانه وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف { ويرى } بفتح الياء التحتية والراء الفاعل فرعون والقراءة الأولى ألصق بالسياق لأن قبلها نريد ونجعل ونمكن بالنون وأجاز الفراء ويري فرعون بضم الياء التحتية وكسر الراء : أي ويري الله فرعون ومعنى { منهم } من أولئك المستضعفين { ما كانوا يحذرون } الموصول هو المفعول الثاني على القراءة الأولى والمفعول الأول على القراءة الثانية والمعنى : أن الله يريهم أو يرون هم الذي كانوا يحذرون منه ويجتهدون في دفعه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين (4/227)
7 - { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } أي ألهمناها وقذفنا في قلبها وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل وقيل : كان ذلك رؤيا في منامها وقيل : كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك
وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما وقد سلمت على عمران بن حصين الملائكة كما في الحديث الثابت في الصحيح فلم يكن بذلك نبيا وأن في أن أرضعيههي المفسرة لأن في الوحي معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية : أي بأن أرضعيه وقرأ عمر بن عبد العزيز بكسر نون أن ووصل همزة أرضعيه فالكسر لالتقاء الساكنين وحذف همزة الوصل على غير القياس { فإذا خفت عليه } من فرعون بأن يبلغ خبره إليه { فألقيه في اليم } وهو بحر النيل وقد تقدم بيان الكيفية التي ألقته في اليم عليها في سورة طه { ولا تخافي ولا تحزني } أي لا تخافي عليه الغرق أو الضيعة ولا تحزني لفراقه { إنا رادوه إليك } عن قريب على وجه تكون به نجاته { وجاعلوه من المرسلين } الذين نرسلهم إلى العباد (4/228)
والفاء في قوله 8 - { فالتقطه آل فرعون } هي الفصيحة والالتقاط : إصابة الشيء من غير طلب والمراد بآل فرعون هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه موسى من البحر وفي الكلام حذف والتقدير فألقته في اليم بعد ما جعلته في التابوت فالتقطه من وجده من آل فرعون واللام في { ليكون لهم عدوا وحزنا } لام العاقبة ووجه ذلك أنهم أخذوه ليكون لهم ولدا وقرة عين لا ليكون عدوا فكان عاقبة ذلك إنه كان لهم عدوا وحزنا ولما كانت هذه العداوة نتيجة لفعلهم وثمرة له شبهت بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله ومن هذا قزول الشاعر :
( لدوا للموت وابنوا للخراب )
وقول آخر :
( وللمنايا تربي كل مرضعة ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها )
قرأ الجمهور { وحزنا } بفتح الحاء والزاي وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف { وحزنا } بضم الحاء وسكون الزاي واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم وهما لغتان كالعدم والعدم والرشد والرشد والسقم والسقم وجملة : { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } لتعليل ما قبلها أو للاعتراض لقصد التأكيد ومعنى خاطئين : عاصين آثمين في كل أفعالهم وأقوالهم وهو مأخوذ من الخطأ المقابل للصواب وقرىء خاطئين بياء من دون همزة فيحتمل أن يكون معنى هذه القراءة معنى قراءة الجمهور ولكنها خففت بحذف الهمزة ويحتمل أن تكون من خطا يخطو : أي تجاوز الصواب (4/228)
9 - { وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك } أي قالت امرأة فرعون لفرعون وارتفاع قرة على أنه خبر مبتدأ محذوف قاله الكسائي وغيره وقيل على أنه مبتدأ وخبره { لا تقتلوه } قاله الزجاج والأول أولى وكان قولها لهذا القول عند رؤيتها له لما وصل إليها وأخرجته من التابوت وخاطبت بقولها لا تقتلوه فرعون ومن عنده من قومه أو فرعون وحده على طريقة التعظيم له وقرأ عبد الله بن مسعود وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك ويجوز نصب قرة بقوله لا تقتلوه على الاشتغال وقيل إنها قالت : لا تقتلوه فإن الله أتى به من أرض بعيدة وليس من بني إسرائيل ثم عللت ما قالته بالترجي منها لحصول النفع منه لهم أو التبني له فقالت : { عسى أن ينفعنا } فنصيب منه خيرا { أو نتخذه ولدا } وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون فوهبه لها وجملة { وهم لا يشعرون } في محل نصب على الحال : أي وهم لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه ولا يشعرون أن هلاكهم على يده فتكون حالا من آل فرعون وهي من كلام الله سبحانه وقيل هي من كلام المرأة : أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه وهم لا يشعرون قاله الكلبي وهو بعيد جدا وقد حكى الفراء عن السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوله لا تقتلوه من كلام فرعون واعترضه بكلام يرجع إلى اللفظ (4/229)
ويكفي في رده ضعف إسناده 10 - { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } قال المفسرون : معنى ذلك أنه فارغ من كل شيء إلا من أمر موسى كأنها لم تهتم بشيء سواه قال أبو عبيدة : خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى وقال الحسن وابن إسحاق وابن زيد : فارغا مما أوحي إليها من قوله لا تخافي ولا تحزني وذلك لما سول الشيطان لها من غرقه وهلاكه وقال الأخفش : فارغا من الخوف والفم لعلمها أنه لم يغرق بسبب ما تقدم من الوحي إليها وروي مثله عن أبي عبيدة أيضا وقال الكسائي : ناسيا ذاهى وقال العلاء بن زياد نافرا وقال سعيد بن جبير : والها كادت تقول واإبناه من شدة الجزع وقال مقاتل : كادت تصيح شفقة عليه من الغرق وقيل المعنى : أنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش قال النحاس : وأصح هذه الأقوال الأول والذين قالوه أعلم بكتاب الله فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي وقول من قال فارغا من الغم غلط قبيح لأن بعده { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } وقرأ فضالة بن عبيد النصاري ومحمد بن السميفع والعالية وابن محيصن فزعا : بالفاء والزاي والعين المهملة من الفزع : أي خائفا وجلا وقرأ ابن عباس قرعا بالقاف المفتوحة والراء المهملة المكسورة والعين المهملة من قرع رأسه : إذا انحسر سعره ومعنى وأصبح : وصار كما قال الشاعر :
( مضى الخلفاء في أمر رشيد ... وأصبحت المدينة للوليد )
{ إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف : أي إنها كادت لتظهر أمر موسى وأنه ابنها من فرط ما دهمها من الدهش والخوف والحزن من بدا يبدو : إذا ظهر وأبدى يبدي : إذا أظهر وقيل الضمير في به عائد إلى الوحي الذي أوحي إليها والأول أولى وقال الفراء : إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها لولا أن ربطنا على قلبها قال الزجاج : ومعنى الربط على القلب : إلهام الصبر وتقويته وجواب لولا محذوف : أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت واللام في { لتكون من المؤمنين } متعلق بربطنا والمعنى : ربطنا على لبها لتكون من المصدقين بوعد الله وهو قوله إنا رادوه إليك قيل والباء في لتبدي به زائدة للتأكيد والمعنى : لتبديه كما تقول أخذت الحبل بالحبل (4/229)
وقيل المعنى : لتبدي القول به 11 - { وقالت لأخته قصيه } أي قالت أم موسى لأخت موسى وهي مريم قصيه : أي تتبعي أثره واعرفي خبره وانظري أين وقع وإلى من صار ؟ يقال قصصت الشيء : إذا اتبعت أثره متعرفا لحاله { فبصرت به عن جنب } أي أبصرته عن بعد وأصله عن مكان جنب ومنه الأجنبي قال الشاعر :
( فلا تحرميني نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط الديار غريب )
وقيل المراد بقوله عن جنب عن جانب والمعنى أنها أبصرت إليه متجانفة مخاتلة ويؤيد ذلك قراءة النعمان بن سالم عن جانب ومحل عن جنب النصب على الحال إما من الفاعل : أي بصرت به مستخفية كائنة عن جنب وإما من المجرور : أي بعيدا منها قرأ الجمهور بصرت به بفتح الباء وضم الصاد وقرأ قتادة بفتح الصاد وقرأ عيسى بن عمر بكسرها قال المبرد : أبصرته وبصرت به بمعنى وقرأ الجمهور عن جنب بضمتين وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيم وسكون النون وقال أبو عمر بن العلاء : إن معنى عن جنب عن شوق قال : وهي لغة جذام يقولون : جنبت إليك : أي اشتقت إليك { وهم لا يشعرون } أنها تقصه وتتبع خبره وأنها أخته (4/230)
12 - { وحرمنا عليه المراضع } المراضع جمع مرضع : أي منعناه أن يرضع من المرضعات وقيل المراضع جمع مرضع بفتح الضاد وهو الرضاع أو موضعه وهو الثدي ومعنى { من قبل } من قبل أن نرده إلى أمه أو من قبل أن تأتيه أمه أو من قبل قصها لأثره وقد كانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه فلم يرضع من واحدة منهنن فـ عند ذلك { قالت } أي أخته لما رأت امتناعه من الرضاع { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } أي يضمنون لكم القيام به وإرضاعه { وهم له ناصحون } أي مشفقون عليه لا يقصرون في إرضاعه وتربيته وفي الكلام حذف والتقدير : فقالوا لها من هم ؟ فقالت أمي فقيل لها : وهل لأمك لبن ؟ قالت نعم لبن أخي هارون : فدلتهم على أم موسى فدفعوه إليها فقبل ثديها روضع منه (4/230)
وذلك معنى قوله سبحانه : 13 - { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها } بولدها { ولا تحزن } على فراقه { ولتعلم أن وعد الله } أي جميع وعده ومن جملة ذلك ما وعدها بقوله إنا رادوه إليك { حق } لا خلف فيه واقع لا محالة { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي أكثر آل فرعون لا يعلمون بذلك بل كانوا في غفلة عن القدر وسر القضاء أو أكثر الناس لا يعلمون بذلك أو لا يعلمون أن الله وعدها بأن يرده إليها
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { وجعل أهلها شيعا } قال : فرق بينهم وأخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة { وجعل أهلها شيعا } قال : يستعبد طائفة منهم ويدع طائفة ويقتل طائفة ويستحيي طائفة وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة } أي ولاة الأمر { ونجعلهم الوارثين } أي الذين يرثون الأرض بعد فرعون وقومه { ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } قال ما كان القوم حذروه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وأوحينا إلى أم موسى } أي ألهمناها الذي صنعت بموسى وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال : قال ابن عباس في قوله : { فإذا خفت عليه } قال : أن يسمع جيرانك صوته وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } قال : فرغ من ذكر كل شيء من أمر الدنيا إلا من ذكر موسى وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله وأصبح فؤاد أم موسى فارغا قال : خاليا من كل شيء غير ذكر موسى وفي قوله : { إن كادت لتبدي به } قال : تقول : يا إبناه وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله : { وقالت لأخته قصيه } أي اتبعي أثره { فبصرت به عن جنب } قال : عن جانب وأخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لخديجة : أما شعرت أن الله زوجني مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وامرأة فرعون ؟ قالت : هنيئا لك يا رسول الله ] وأخرجه ابن عساكر عن ابن أبي رواد مرفوعا بأطول من هذا وفي آخره أنها قالت : بالرفاء والبنين وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وحرمنا عليه المراضع من قبل } قال : لا يؤتى بمرضع فيقبلها (4/231)
قوله : 14 - { ولما بلغ أشده } قدم الكلام في بلوغ الأشد في الأنعام وقد قال ربيعة ومالك : هو الحلم لقوله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا } الآية وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما وقيل الأشد ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين وقيل الاستواء هو بلوغ الأربعين وقيل الاستواء إشارة إلى كمال الخلقة وقيل هو بمعنى واحد وهو ضعيف لأن العطف يشعر بالمغايرة { آتيناه حكما وعلما } الحكم الحكمة على العموم وقيل النبوة وقيل الفقه في الدين والعلم الفهم قاله السدي وقال مجاهد الفقه وقال ابن إسحاق : العلم بدينه ودين آبائه وقيل كان هذا قبل النبوة وقد تقدم بيان معنى ذلك في البقرة { وكذلك نجزي المحسنين } أي مثل ذلك الجزاء الذي جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر وصدقت بوعد الله نجزي المحسنين على إحسانهم والمراد العموم (4/232)
15 - { ودخل المدينة } أي ودخل موسى مدينة مصر الكبرى وقيل مدينة غيرها من مدائن مصر ومحل قوله { على حين غفلة من أهلها } النصب على الحال : إما من الفاعل : أي مستخفيا وإما من المفعول قيل لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في ديةنه عاب ما عليه قوم فرعون وفشا ذلك منه فأخافوه فخافهم فكان لا يدخل المدينة إلا مستخفيا قيل كان دخوله بين العشاء والعتمة وقيل وقت القائلة قال الضحاك : طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخل على حين علم منهم فكان منه ما حكى الله بقوله : { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته } أي ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل { وهذا من عدوه } أي من المعادين له على دينه وهم قوم فرعون { فاستغاثه الذي من شيعته } أي طلب منه أن ينصره ويعينه على خصمه { على الذي من عدوه } فأغاثه لأن نصر المظلوم واجب في جمع الملل قيل أراد القطبي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه واستثغاث بموسى { فوكزه موسى } الوكزالضرب بجمع الكف وهكذا اللكز واللهز وقيل اللكز على اللحى والوكز على القلب وقيل ضربه بعصاه وقرأ ابن مسعود فلكزه وحكى الثعلبي أن في مصحف عثمان فنكزه بالنون قال الأصمعي : نكزه بالنون : ضربه ودفعه قال الجوهري : اللكز الضرب على الصدر وقال أبو زيد : في جميع الجسد : يعني أنه يقال له لكز واللهز الضرب بجميع اليدين في الصدر ومثله عن أبي عبيدة { فقضى عليه } أي قتله وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه : فقد قضيت عليه ومنه قول الشاعر :
( قد عضه فقضى عليه الأشجع )
قيل لم يقصد موسى قتل القبطي وإنما قصد دفعه فأتى ذلك على نفسه ولهذا قال { هذا من عمل الشيطان } وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل لأنه لم يكن إذ ذاك مأمورا بقتل الكفار وقيل إن تلك الحالة حالة كف عن القتال لكونه مأمونا عندهم فلم يكن له أن يغتالهم ثم وصف الشيطان بقوله : { إنه عدو مضل مبين } أي عدو للإنسان يسعى في إضلاله ظاهر العداوة والإضلال وقيل إن الإشارة بقوله هذا إلى عمل المقتول لكونه كافرا مخالفا لما يريده الله وقيل إنه إشارة إلى المقتول نفسه : يعني أنه من جند الشيطان وحزبه ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه (4/233)
16 - { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر } الله { له } ذلك { إنه هو الغفور الرحيم } ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر وقيل إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به ومعنى فاغفر لي : فاستر ذلك علي لا تطلع عليه فرعون وهذا خلاف الظاهر فإن موسى عليه السلام ما زال نادما على ذلك خائفا من العقوبة بسببه : حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول : إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح وقد قيل إن هذا كان قبل النبوة وقيل كان ذلك قبل بلوغه سن التكليف وإنه كان إذ ذاك في إثنتي عشرة سنة وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء ولا شك أنهم معصومون من الكبائر والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة لأن الوكزة في الغالب لا تقتل ثم لما أجاب الله سؤاله وغفر له ما طلب منه مغفرته (4/234)
17 - { قال رب بما أنعمت علي } هذه الباء يجون أن تكون باء القسم والجواب مقدر : أي أقسم بإنعامك علي لأتوبن وتكون جملة { فلن أكون ظهيرا للمجرمين } كالتفسير للجواب وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرما ويجوز أن تكون هذه الباء هي باس السببية متعلقة بمحذوف : أي اعصمني بسبب ما أنعمت به علي ويكون قوله فلن أكون ظهيرا أتومترتبا عليه ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى وتوصل إلى إنعامه بإنعامه و ما في قوله بما أنعمت إما موصولة أو مصدرية والمراد بما أنعم به عليه : هو ما آتاه من الحكم والعلم أو بالمغفرة أو بالجميع وأراد بمظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر أو مظاهرته على ما فيه إثم قال الكسائي والفراء : ليس قوله : { فلن أكون ظهيرا للمجرمين } خبرا بل هو دعاء : أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا لهم قال الكسائي وفي قراءة عبد الله فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين وقال الفراء : المعنى اللهم فلن أكون ظهيرا للمجرمين وقال النحاس : إن جعله من باب الخبر أوفى وأشبه بنسق الكلام (4/234)
18 - { فأصبح في المدينة خائفا يترقب } أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي وخائفا خبر أصبح ويجوز أن يكون حالا والخبر في المدينة ويترقت يجوز أن يكون خبرا ثانيا وأن يكون حالا ثانية وأن يكون بدلا من خائفا ومفعول يترقب محذوف والمعنى : يترقب المكروه أو يترقب الفرح { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه } إذا هي الفجائية والموصول مبتدأ وخبره يستصرخه : أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يقاتل قبطيا آخر أراد أن يسخره ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ وذلك أن المستغيث يصوت ويصرخ في طلب الغوث ومنه قول الشاعر :
( كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الجواب له قرع الظنابيب )
{ قال له موسى إنك لغوي مبين } أي بين الغواية وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته ولا تطيقه وقيل إنما قال له هذه المقالة لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم ان يتسبب لقتل آخر (4/234)
19 - { فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما } أي يبطش بالقبطي الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما وقد تقدم معنى يبطش واختلاف القراء فيه { قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } القائل هو الإسرائيلي لما سمع موسى يقول له : { إنك لغوي مبين } ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به فقال لموسى { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } فلما سمع القبطي ذلك أفشاه ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي هكذا قال جمهور المفسرين وقيل إن القائل { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } هو القبطي وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي وهذا هو الظاهر وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل لأنه هو المراد بقوله عدو لهما ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى يلزم عنه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرة الأولى والمرة الأخرى هو الذي أفشى عليه وأيضا إن قوله : { إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض } لا يليق صدور مثله إلا من كافر وإن في قوله : { إن تريد } هي النافية أي ما تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض قال الزجاج : الجبار في اللغة الذي لا يتواضع لأمر الله والقاتل بغير حق جبار وقيل الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن { وما تريد أن تكون من المصلحين } أي الذين يصلحون بين الناس (4/235)
20 - { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } قيل المراد بهذا الرجل حزقيل هو مؤمن آل فرعون وكان ابن عم موسى وقيل اسمه شمعون وقيل طالوت وقيل شمعان والمراد بأقصى المدينة : آخرها وأبعدها ويسعى يجوز أن يكون في محل رفع صفة لرجل ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله : من أقصى المدينة { قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } أي يتشاورون في قتلك ويتآمرون بسببك قال الزجاج : يأمر بعضهم بعضا بقتلك وقال أبو عبيد : يتشاورون فيك ليقتلوك : يعني أشارف قوم فرعون قال الأزهري : ائتمر القوم وتآمروا : أي أمر بعضهم بعضا نظيره قوله { وأتمروا بينكم بمعروف } قال النمر بن تولب :
( أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر )
{ فاخرج إني لك من الناصحين } في الأمر بالخروج واللام للبيان لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه (4/235)
21 - { فخرج منها خائفا يترقب } فخرج موسى من المدينة حال كونه خائفا من الظالمين مترقبا لحوقهم به وإدراكهم له ثم دعا ربه بأن ينجيه مما خافه قائلا : { رب نجني من القوم الظالمين } أي خلصني من القوم الكافرين وادفعهم عني وحل بين وبينهم (4/236)
22 - { ولما توجه تلقاء مدين } أي نحو مدين قاصدا لها قال الزجاج : أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين فيها انتهى يقال داره تلقاء دار فلان وأصله من اللقاء ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون ولهذا خرج إليها { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } أي يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين (4/236)
23 - { ولما ورد ماء مدين } أي وصل إليه وهو الماء الذي يستقون منه { وجد عليه أمة من الناس يسقون } أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد وقد يطلق على البلوغ إليه وإن لم يدخل فيه وهو المراد هنا ومنه قول زهير :
( فلما وردنا الماء زرقا حمامه )
وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله : { وإن منكم إلا واردها } وقيل مدين اسم للقبيلة وهي غير منصرفة على كلا التقديرين { ووجد من دونهم } أي من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها وقيل معناه : في موضع أسفل منهم { امرأتين تذودان } أي تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس ويخلو بينهما وبين الماء ومعنى الذود الدفع والحبس ومنه قول الشاعر :
( أبيت على باب القوافي كأنما ... أذود بها سربا من الوحش نزعا )
أي أحبس وأمنع وورد الذود بمعنى الطرد ومنه قول الشاعر :
( لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدري بأي عصا تذود )
أي تطرد { قال ما خطبكما } أي قال موسى للمرأتين : ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس ؟ والخطب الشأن قيل وإنما يقال ما خطبك لمصاب أو مضطهد أو لمن يأتي بمنكر { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء } أي إن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء وينصرفوا منه حذرا من مخالطتهم أو عجزا عن السقي معهم قرأ الجمهور { يصدر } بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر المتعدي بالهمزة وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صدر يصدر لازما فالمفعول على القراءة الأولى محذوف : أي يرجعون مواشيهم والرعاء جمع راع قرأ الجمهور الرعاء بكسر الراء وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها قال أبو الفضل : هو مصدر أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع وقرئ الرعاء بالضم اسم جمع وقرأ طلحة بن مصرف نسقي بضم النون من أسقى { وأبونا شيخ كبير } عالي السن وهذا من تمام كلامهما : أي لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك فلما سمع موسى كلامهما (4/236)
24 - { سقى لهما } رحمة لهما : أي سقى أغنامهما لأجلهما { ثم } لما فرغ من السقي لهما { تولى إلى الظل } أي انصرف إليه فجلس فيه قيل كان هذا الظل ظل سمرة هناك ثم قال لما أصابه من الجهد والتعب مناديا لربه { إني لما أنزلت إلي من خير } أي خير كان { فقير } أي محتاج إلى ذلك قيل أراد بذلك الطعام واللام في لما أنزلت معناها إلى قال الأخفش : يقال هو فقير له وإليه
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله : { ولما بلغ أشده } قال : ثلاثا وثلاثين سنة { واستوى } قال : أربعين سنة وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال : الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضا في قوله : { ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها } قال : نصف النهار وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني عنه أيضا في الآية قال : ما بين المغرب والعشاء وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا { هذا من شيعته } قال : إسرائيلي { وهذا من عدوه } قال : قبطي { فاستغاثه الذي من شيعته } الإسرائيلي { على الذي من عدوه } القبطي { فوكزه موسى فقضى عليه } قال : فمات قال فكبر ذلك على موسى وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه } قال : هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الذي استنصره هو الذي استصرخه وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : من قتل رجلين فهو جبار ثم تلا هذه الآية { إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض } وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : من قتل رجلين فهو جبار ثم تلا هذه الآية { إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض } وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لا يكون الرجل جبارا حتى يقتل نفسين وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : خرج موسى خائفا يترقب جائعا ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين و { عليه أمة من الناس يسقون } وامرأتان جالستان بشياههما فسألهما { ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير } قال : فهل قربكما ماء ؟ قالتا لا إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر قال : فانطلقتا فأريانيها فانطلقتا معه فقال بالصخرة بيده فنحاها ثم استقى لهما سجلا واحدا فسقى الغنم ثم أعاد الصخرة إلى مكانها { ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } فسمعتا قال : فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فأخبرتاه فقال لإحداهما : انطلقي فادعيه فأتت فـ { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } فمشت بين يديه فقال لها امشي خلفي فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا حيل لي أن أرى منك ما حرم الله علي وأرشدني الطريق { فلما جاءه وقص عليه القصص قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين } { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } قال لها أبوها : ما رأيت من قوته وأمانته ؟ فأخبرته بالأمر الذي كان قالت : أما قوته فإنه قلب الحجر وحده وكان لا يقلبه إلا النفر وأما أمانته فقال امشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحل لي منك ما حرمه الله قيل لابن عباس : أي الأجلين قضى موسى قال : أبرهما وأوفاهما وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال : إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه فإذا هو بامرأتين قال : ما خطبكما ؟ فحدثتاه فأتى الحجر فرفعه وحده ثم استقى فلم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم فرجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه وتولى موسى إلى الظل { فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } قال : { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } فقام معها موسى فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك فلما انتهى إلى أبيها قص عليه فقالت إحداهما : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال : يا بنية ما علمك بأمانته وقوته ؟ قالت : أما قوته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال وأما أمانته فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك فلما انتهى إلى أبيها قص عليها فقالت إحداهما : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال : يا بنية ما علمك بأمانته وقوته ؟ قالت : أما قوته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال وأما أمانته فقال امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك فزاده ذلك رغبة فيه فـ { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } إلى قوله : { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت { قال } موسى { ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي } قال نعم قال : { والله على ما نقول وكيل } فزوجه وأقام معه يكفيه ويعمل في رعاية غنمه وما يحتاج إليه وزوجه صفورا وأختها شرفا وهما اللتان كانتا تذودان قال ابن كثير بعد إخراجه لطرق من هذا الحديث : إن إسناده صحيح والسلفع من النساء الجريئة السليطة وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولما ورد ماء مدين } قال : ورد الماء حيث ورد وإنه لتتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثمان ليال ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر وخرج حافيا فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال : { تذودان } تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس ويخلو لهما البئر وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا : قال : لقد قال موسى رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : ما سأل إلا الطعام وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : سأل فلقا من الخبز يشد بها صلبه من الجوع (4/237)
قوله : 25 - { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } في الكلام حذف يدل عليه السياق قال الزجاج : تقديره فذهبتا إلى أبيهما سريعتين وكانت عادتهما الإبطاء في السقي فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما فأمر الكبرى من ابنتيه وقيل الصغرى أن تدعوه له فجاءته وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب وقيل هما ابنتا أخي شعيب وأن شعيبا كان قد مات : والأول أرجح وهو ظاهر القرآن ومحل تمشي النصب على الحال من فاعل جاءت و على استحياء حال أخرى : أي كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط وجملة { قالت إن أبي يدعوك } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ماذا قالت له لما جاءته { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } أي جزاء سقيك لنا { فلما جاءه وقص عليه القصص } القصص مصدر سمي به المفعول : أي المقصوص يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطي إلى عند وصوله إلى ماء مدين { قال } شعيب { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } أي فرعون وأصحابه لأن فرعون لا سلطان له على مدين وللرازي في هذا موضع إشكالات باردة جدا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز و جل والجواب عليها يظهر للمقصر فضلا عن الكامل وأشف ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي ويجاب عنه بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبي من أنبياء الله ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل ولهذا ورد أنه لما قدم إليه الطعام قال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا (4/240)
26 - { قالت إحداهما يا أبت استأجره } القائلة هي التي جاءته : أي استأجره ليرعى لنا الغنم وفيه دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة وقد اتفق على جوازها ومشرعيتها جميع علماء الإسلام إلا الأصم فإنه عن سماع أدلتها أصم وجملة { إن خير من استأجرت القوي الأمين } تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى : أي إنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعا بين خصلتي القوة والأمانة وقد تقدم في المردوي عن ابن عباس وعمر أن أباها سألها عن وصفها له بالقوة والأمانة فأجابته بما تقدم قريبا (4/241)
27 - { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } فيه مشروعية عرض ولي المرأة لها على الرجل وهذه سنة ثابتة في الإسلام كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان والقصة معروفة وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوة وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه و سلم { على أن تأجرني ثماني حجج } أي على أن تكون أجيرا لي ثماني سنين قال الفراء : يقول على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين ومحل { على أن تأجرني } النصب على الحال وهو مضارع أجرته ومفعوله الثاني محذوف : أي نفسك و { ثماني حجج } ظرف قال المبرد : يقال : أجرت داري ومملوكي غير ممدود وممدودا والأول أكثر { فإن أتممت عشرا فمن عندك } أي إن أتممت ما استأجرتك عليه من الرعي عشر سنين فمن عندك أي تفضلا منك لا إلزاما مني لك جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام موكولا إلى المروءة ومحل { فمن عندك } الرفع على تقدير مبتدأ : أي فهي من عندك { وما أريد أن أشق عليك } بإلزامك إتمام العشرة الأعوام واشتقاق المشقة من الشق : أي شق ظنه نصفين فتارة يقول أطيق وتارة يقول لا أطيق ثم رغبه في قبول الإجارة فقال : { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } في حسن الصحبة والوفاء وقيل أراد الصلاح على العموم فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولا أوليا وقيد ذلك بالمشيئة تفويضا للأمر إلى توفيق الله ومعونته (4/241)
ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرر موسى فـ 28 - { قال ذلك بيني وبينك } واسم الإشارة مبتدأ وخبره ما عبده والإشارة إلى ما تعاقدا عليه وجملة { أيما الأجلين قضيت } شرطية جوابها { فلا عدوان علي } والمراد بالأجلين الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام ومعنى قضيت وفيت به وأتممته والأجلين مخفوض بإضافة أي إليه وما زائدة وقال ابن كيسان : ما في موضع خفض بإضافة أي إليها و الأجلين بدل منها وقرأ الحسن { أيما } بسكون الياء وقرأ ابن مسعود { أيما الأجلين قضيت } ومعنى { فلا عدوان علي } فلا ظلم علي بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين : أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطاب بالنقصان على العشرة وقيل المعنى : أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطاب بالزيادة على الثمانية الأعوام وهذا أظهر وأصل العدوان تجاوز الحد في غير ما يجب قال المبرد : وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه إذا أتمهما ولكنه جمعهما ليجعل الأول كالأتم في الوفاء قرأ الجمهور { عدوان } بضم العين وقرأ أبو حيوة بكسرها { والله على ما نقول وكيل } أي على ما نقول من هذه الشروط الجارية بيننا شاهد وحفيظ فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك قيل هو من قول موسى وقيل من قول شعيب والأول أولى لوقوعه في جملة كلام موسى (4/241)
29 - { فلما قضى موسى الأجل } هو أكملهما وأوفاهما وهو العشرة الأعوام كما سيأتي آخر البحث والفاء فصيحة { وسار بأهله } إلى مصر وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء أتن { آنس من جانب الطور نارا } أي أبصر من الجهة التي تلي الطور نارا وقد تقدم تفسير هذا في سورة طه مستوفى { قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر } وهذا تقدم تفسيره أيضا في سورة طه وفي سورة النمل { أو جذوة } قرأ الجمهور بكسر الجيم وقرأ حمزة ويحيى بن وثاب بضمها وقرأ عاصم والسلمي وذر بن حبيش بفتحها قال الجوهري : الجذوة والجذوة والجذوة الجمرة والجمع جذا وجذا وجذا قال مجاهد : في الآية أن الجذوة قطعة من الجمر في لغة جميع العرب وقال أبو عبيدة : هي القطعة الغليظة من الخشب كأن في طرفها نارا ولم يكن وما يؤيد أن الجذوة الجمرة قول السلمي :
( وبدلت بعد المسك والبان شقوة ... دخان الجذا في رأس أشمط شاحب )
{ لعلكم تصطلون } أي تستدفئون بالنار (4/242)
30 - { فلما أتاها } أي أتى النار التي أبصرها وقيل أتى الشجرة والأول أولى لعدم تقدم الذكر للشجرة { نودي من شاطئ الواد الأيمن } من لابتداء الغاية والأيمن صفة للشاطئ وهو من اليمن وهو البركة أو من جهة اليمين المقابر لليسار بالنسبة إلى موسى : أي الذي يلي يمينه دون يساره وشاطئ الوادي طرفه وكذا شطه قال الراغب : وجمع الشاطئ أشطاء وقوله : { في البقعة المباركة } متعلق بنودي أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ و { من الشجرة } بدل اشتمال من شاطئ الواد لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ وقال الجوهري : يقول شاطئ الأودية ولا يجمع قرأ الجمهور { في البقعة } بضم الباء وقرأ أبو سلمة والأشهب العقيلي بفتحها وهي لغة حكاها أبو زيد { أن يا موسى إني أنا الله } أن هي المفسرة ويجوز أن تكون هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة النداء معناه وقرئ بالفتح وهي قراءة ضعيفة (4/242)
وقوله : 31 - { وأن ألق عصاك } معطوف على { أن يا موسى } وقد تقدم تفسير هذا وما بعده في طه والنمل وفي الكلام حذف والتقدير : فألقاها فصارت ثعبانا فاهتزت { فلما رآها تهتز كأنها جان } في سرعة حركتها مع عظم جسمها { ولى مدبرا } أي منهزما وانتصاب مدبرا على الحال وقوله : { ولم يعقب } في محل نصب أيضا على الحال : أي لم يرجع { يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين } قد تقدم تفسير جميع ما ذكر هنا مستوفى فلا نعيده (4/243)
وكذلك قوله : 32 - { اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك } جناح الإنسان عضده ويقال لليد كلها جناح : أي اضمم إليك يديك المبسوطتين لتتقي بهما الحية كالخائف الفزع وقد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات : الأولى اسلك يدك في جيبك والثانية : واضمم إليك جناحك والثالثة : وأدخل يدك في جيبك ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعبانا ومعنى { من الرهب } من أجل الرهب وهو الخوف قرأ الجمهور { الرهب } بفتح الراء والهاء واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بفتح الراء وإسكان الهاء وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفصا بضم الراء وإسكان الهاء وقال الفراء : أراد بالجناح عصاه وقال بعض أهل المعاني : الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة قال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول لآخر : أعطني ما في رهبك فسألته عن الرهب فسألته عن الرهب فقال : الكم فعلى هذا يكون معناه : اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم { فذانك } إشارة إلى العصا واليد { برهانان من ربك إلى فرعون وملئه } أي حجتان نيرتان ودليلان واضحان قرأ الجمهور { فذانك } بتخفيف النون وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديدها قيل والتشديد لغة قريش وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر وشبل وأبو نوفل بباء تحتية بعد نون مكسورة والياء بدل من إحدى النونين وهي لغة هذيل وقيل لغة تميم وقوله : { من ربك } متعلق بمحذوف : أي كائنان منه وكذلك قوله : { إلى فرعون وملئه } متعلق بمحذوف : أي مرسلان أو واصلان إليهم { إنهم كانوا قوما فاسقين } متجاوزين الحد في الظلم خارجين عن الطاعة أبلغ خروج والجملة تعليل لما قبلها
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب في قوله : { تمشي على استحياء } قال : جاءت مستترة بكم درعها على وجهها وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفا عليه وأخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال : لما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء فقال له شعيب : كل قال موسى : أعوذ بالله قال : ولم ؟ ألست بجائع ؟ قال : بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا عما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا قال : لا والله ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس انه بلغه أن شعيبا هو الذي قص عليه القصص وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أ [ ي حاتم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : كان صاحب موسى أثرون ابن أخي شعيب النبي وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى يثرب صاحب مدين وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه قال : كان اسم ختن موسى يثربي وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : يقول أناس إنه شعيب وليس بشعيب ولكنه سيد الماء ييومئذ وأخرج ابن ماجه والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عتبة بن المنذر السلمي قال [ كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ سورة طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال : إن موسى أجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه فلما وفى الأجل قيل : يا رسول الله أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أبرهما وأوفاهما فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه ] الحديث بطوله وفي إسناده مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي ضعفه الأئمة وقد روي من وجه آخر وفيه نظر وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا : حدثنا أبو زرعة عن يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن المنذر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره وابن لهيعة ضعيف وينظر في بقية رجال السند وأخرج ابن جرير عن أنس طرفا منه موقوفا عليه وأخرج البزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه نحوه وقوله : إن رسول الله إذا قال فعل فيه نظر فإن موسى لم يقل إنه سيقضي أكثر الأجلين بل قال : أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن موسى قضى أتم الأجلين من طرق وأخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى ؟ فقل خيرهما وأبرهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت : يا أبت استأجره ] وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قال لي جبريل : يا محمد إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى ؟ فقل أوفاهما وإن سألوك أيهما تزوج ؟ فقل الصغرى منهما ] وأخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي ذر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أبرهما وأوفاهما قال : وإن سئلت أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما ] قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران وهو ضعيف وأما روايات أنه قضى أتم الأجلين فلها طرق يقوي بعضها بعضا وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي قال : قال ابن عباس : لما قضى موسى الأجل سار بأهله فضل الطريق وكان في الشتاء فرفعت له نار فلما رآها ظن أنها نار وكانت من نور الله { فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس } فإن لم أجد خبرا آتيكم بشهاب قبس { لعلكم تصطلون } من البرد وأخرج ابن أبي حاتم عنه لعلي آتيكم منها بخبر لعلي أجد من يدلني على الطريق وكانوا قد ضلوا الطريق وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { أو جذوة } قال : شهاب وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { نودي من شاطئ الواد } قال : كان النداء من السماء الدنيا وظاهر القرآن يخالف ما قاله رضي الله عنه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود قال : ذكرت لي الشجرة التي أوى إليها موسى فسرت إليها يومي وليلتي حتى صبحتها فإذا هي سمرة خضراء ترف فصليت على النبي صلى الله عليه و سلم وسلمت فأهوى إليها بعيري وهو جائع فأخذ نها ملآن فيه فلاكه فلم يستطع أن يسيغه فلفظه فصليت على النبي وسلمت ثم انصرفت وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { واضمم إليك جناحك } قال : يدك (4/243)
لما سمع موسى قول الله سبحانه : فذانك برهانان إلى فرعون طلب منه سبحانه أن يقوي قلبه فـ 33 - { قال رب إني قتلت منهم نفسا } يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه { فأخاف أن يقتلون } بها (4/246)
34 - { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا } لأنه كان في لسان موسى جبسة كما تقدم بيانه والفصاحة لغة الخلوص يقال فصح اللبن وأفصح فهو فصيح : أي خلص من الرغوة ومنه فصح الرجل : جادت لغته وأفصح : تكلم بالعربية وقيل الفصيح الذي ينطق والأعجم الذي لا ينطق واما في اصطلاح أهل البيان فالفصاحة : خلوص الكلمة عن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس وفصاحة الكلام : خلوصه من ضعف التأليف والتعقيد وانتصاب { ردءا } على الحال والردء المعين من أرادأته : أي أعنته يقال فلان ردء فلان : إذا كان ينصره ويشد ظهره ومنه قول الشاعر :
( ألم تر أن أصرم كان ردئي ... وخير الناس في قل ومال )
وحذفت الهمزة تخفيفا في قراءة نافع وأبي جعفر ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم أردى على المائة : إذا زاد عليها فكان المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي ومنه قول الشاعر :
( وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر )
وروي البيت في الصحاح بلفظ قد أربى والقسب الصلب وهو الثمر اليابس الذي يتفتت في الفم وهو صلب النواة { يصدقني } قرأ عاصم وحزة { يصدقني } بالرفع على الاستئناف أو الصفة لردءا أو الحال من مفعول أرسله وقرأ الباقون بالجزم على جواب الأمر وقرأ أبي وزيد بن علي { يصدقون } أي فرعون وملؤه { إني أخاف أن يكذبون } إذا لم يكن معي هارون لعدم انطلاق لساني بالمحاجة (4/246)
35 - { قال سنشد عضدك بأخيك } أي نقويك به فشد العضد كناية عن التقوية ويقال في دعاء الخير : شد الله عضدك وفي ضده : فت الله في عضدك قرأ الجمهور { عضدك } بفتح العين وقرأ الحسين وزيد بن علي بضمها وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بضمة وسكون وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما { ونجعل لكما سلطانا } أي حجة وبرهانا أو تسلطا عليه وعلى قومه { فلا يصلون إليكما } بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة و { بآياتنا } متعلق بمحذوف : أي تمتنعان منهم بآياتنا أو اذهبا بآياتنا وقيل الباء للقسم وجوابه يصلون وما أضعف هذا القول وقال الأخفش وابن جرير : في الكلام تقديم وتأخير والتقدير { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } بآياتنا وأول هذه الودوه أولاها وفي { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } تبشير لهما وتقوية لقلوبهما (4/247)
36 - { فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات } البينات الواضحات الدلالة وقد تقدم وجه إطلاق الآيات وهي جمع على العصا واليد في سورة طه { قالوا ما هذا إلا سحر مفترى } أي مختلق مكذوب اختلقته من قبل نفسك { وما سمعنا بهذا } الذي جئت به من دعوى النبوة أو ما سمعنا بهذا السحر { في آبائنا الأولين } أي كائنا أو واقعا في آبائنا الأولين (4/247)
37 - { وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } يريد نفسه وإنما جاء بهذه العبارة لئلا يصرح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة والله أعلم قرأ الجمهور { وقال موسى } بالواو وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن { قال موسى } بلا واو وكذلك هو في مصاحف أهل مكة وقرأ الكوفيون إلا عاصما { من تكون له عاقبة الدار } بالتحتية على أن اسم يكون عاقبة الدار والتذكير لوقوع الفصل ولأنه تأنيث مجازي وقرأ الباقون { تكون } بالفوقية وهي أوضح من القراءة الأولى والمراد بالدار هنا الدنيا وعاقبتها هي الدار الآخرة والمعنى : لمن تكون له العاقبة المحمودة والضمير في { إنه لا يفلح الظالمون } للشأن : أي إن الشأن أنه لا يفلح الظالمون : أي لا يفوزون بمطلب خير ويجوز أن يكون المراد بالعاقبة الدار خاتمة الخير (4/247)
وقال فرعون 38 - { يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } تمسك اللعين بمجرد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه وقد كان يعلم أنه ربه الله عز و جل ثم رجع إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال : { فأوقد لي يا هامان على الطين } أي اطبخ لي الطين حتى يصير آجرا { فاجعل لي صرحا } أي اجعل لي من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجرا صرحا : أي قصرا عاليا { لعلي أطلع إلى إله موسى } أي أصعد إليه { وإني لأظنه من الكاذبين } والطلوع والاطلاع واحد يقال طلع الجبل واطلع (4/248)
39 - { واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق } المراد بالأرض أرض مصر والاستكبار التعظيم بغير استحقاق بل بالعدوان لأنه لم يكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } أي فرعون وجنوده والمراد بالرجوع البعث والمعاد قرأ نافع وشيبة وابن محيصن وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي { لا يرجعون } بفتح الياء وكسر الجيم مبنيا للفاعل وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم مبنيا للمفعول واختار القراءة الثانية أبو عبيد (4/248)
40 - { فأخذناه وجنوده } بعد أن عتوا في الكفر وجازوا الحد فيه { فنبذناهم في اليم } أي طرحناهم في البحر وقد تقدم بيان الكلام في هذا { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم : أي انظر يا محمد كيف كان آخر أمر الكافرين حين صاروا إلى الهلاك (4/248)
41 - { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } أي صيرناهم رؤساء متبوعين مطاعين في الكافرين فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم اقتدوا وسلكوا طريقتهم تقليدا لهم وقيل المعنى : إنه لم يأتم بهم : أي يعتبر بهم من جاء بعدهم ويتعظ بما أصيروا به والأول أولى { ويوم القيامة لا ينصرون } أي لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من عذاب الله (4/248)
42 - { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } أي طردا وإبعادا أو أمرنا العباد بلعنهم فكل من ذكرهم لعنهم والأول أولى { ويوم القيامة هم من المقبوحين } المقبوح المطرود المبعد وقال أبو عبيدة وابن كيسان : معناه من المهلكين الممقوتين وقال أبو زيد : قبح الله فلانا قبحا وقبوحا أبعده من كل خير قال أبو عمرو : قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبحت بالتشديد ومثله قول الشاعر :
( ألا قبح الله البراجم كلها ... وقبح يربوعا وقبح دارما )
وقيل المقبوح المشوه الخلقة والعامل في يوم محذوف يفسره من المقبوحين والتقدير : وقبحوا يوم القيامة أو هو معطوف على موضع في هذه الدنيا : أي وأتبعناهم لعة يوم القيامة أو معطوف على لعنة على حذف مضاف : أي ولعنة يوم القيامة (4/248)
43 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } أي قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وقيل من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون وانتصاب { بصائر للناس } على أنه مفعول له أو حال : أي آتيناه الكتاب لأجل يتبصر به الناس أو حال كونه بصائر الناس يبصرون به الحق ويهتدون إليه وينقذون أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به { ورحمة } لهم من الله رحمهم بها { لعلهم يتذكرون } هذه النعم فيشكرون الله ويؤمنون ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ردءا يصدقني } كي يصدقني وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : لما قال فرعون : { يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } قال جبريل : يا رب طغى عبدك فائذن لي في هلكه فقال : يا جبريل هو عبدي ولن يسبقني له أجل يجيء ذلك الأجل فلما قال : { أنا ربكم الأعلى } قال الله : يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي وقد جاء أوان هلاكه وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلمتان قالهما فرعون { ما علمت لكم من إله غيري } وقوله { أنا ربكم الأعلى } قال : كان بينهما أربعون عاما : { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج واخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة ] ألم تر إلى قوله : { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } وأخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سعيد موقوفا (4/248)
قوله : 44 - { وما كنت بجانب الغربي } هذا شروع في بيان إنزال القرآن : أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي فيكون من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه واختاره الزجاج وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي : أي حيث ناجى موسى ربه { إذ قضينا إلى موسى الأمر } أي عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه { وما كنت من الشاهدين } لذلك حتى تقف على حقيقته وتحكيه من جهة نفسك وإذا تقرر أن الوقوف على تفاصيل تلك الأحوال لا يمكن أن يكون بالحضور عندها من نبينا محمد صلى الله عليه و سلم والمشاهدة لها منه وانتفى بالأدلة الصحيحة أنه لم يتلق ذلك من غيره من البشر ولا علمه معلم منهم كما قدمنا تقريره تبين أنه من عند الله سبحانه بوحي منه إلى رسوله بواسطة الملك النازل بذلك فهذا الكالم هو على طريقة { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } وقيل معنى { إذ قضينا إلى موسى الأمر } إذ كلفناه وألزمناه وقيل أخبرناه أن أمة محمد خير الأمم ولا يستلزم نفس كونه بجانب الغربي نفي كونه من الشاهدين لأنه يجوز أن يحضر ولا يشهد قيل المراد بالشاهدين السبعون الذين اختارهم موسى للميقات (4/250)
45 - { ولكنا أنشأنا قرونا } أي خلقنا أمما بين زمانك يا محمد وزمان موسى { فتطاول عليهم العمر } طالت عليهم المهلة وتمادى عليهم الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وتنوسيت الأديان فتركوا أمر الله ونسوا عهده ومثله قوله سبحانه : { فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } وقد استدل بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهودا في محمد صلى الله عليه و سلم وفي الإيمان به فلما طال عليهم العمر ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها { وما كنت ثاويا في أهل مدين } أي مقيما بينهم كما أقام موسى حتى تقرأ على أهل مكة خبرهم وتقص عليهم من جهة نفسك يقال ثوى يثوي ثواء وثويا فهو ثاو قال ذو الرمة :
( لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم )
وقال العجاج :
( فبات حيث يدخل الثوي )
يعني الضيف المقيم وقال آخر :
( طال الثواء على رسول المنزل )
{ تتلو عليهم آياتنا } أي تقرأ على أهل مدين آياتنا وتتعلم منهم وقيل تذكرهم بالوعد والوعيد والجملة في محل نصب على الحال أو خبر ثان ويجوز أن تكون هذه الجملة هي الخبر وثاويا حال وجعلها الفراء مستأنفة كأنه قيل وها أنت تتلو على أمتك { ولكنا كنا مرسلين } أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك لما علمتها قال الزجاج : المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك ولكنا أوحيناها إليك وقصصناها عليك (4/251)
46 - { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل المسمى الطور إذ نادينا موسى لما أتى إلى الميقات مع السبعين وقيل المنادي هي أمة محمد صلى الله عليه و سلم قال وهب : وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال : يا رب أرنيهم فقال الله : إنك لن تدركهم وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم قال : بلى يا رب فقال الله : يا أمة محمد فأجابوا من أصلاب آبائهم فيكون معنى الآية على هذا : ما كنت يا محمد بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك وسيأتي ما يدل على هذا ويقويه ويرجحه في آخر البحث إن شاء الله { ولكن رحمة من ربك } أي ولكن فعلنا ذلك رحمة منا بكم وقيل أرسلنا بالقرآن رحمة لكم وقيل علمناك وقيل عرفناك قال الأخفش : هو منصوب : يعني رحمة على المصدر : أي ولكن رحمناك رحمة وقال الزجاج : هو مفعول من أجله : أي فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة قال النحاس : أي لم تشهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك ولكن بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة وقال الكسائي : هو خبر لكان مقدرة : أي ولكن كان ذلك رحمة وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة رحمة بالرفع على التقدير : ولكن أنت رحمة وقال الكسائي : الرفع على أنها اسم كان المقدرة وهو بعيد إلا على تقدير أنها تامة واللام في { لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك } متعلق بالفعل المقدر على الاختلاف في تقديره والقوم هم أهل مكة فإنه لم يأتهم نذير ينذرهم قبله صلى الله عليه و سلم وجملة ما أتاهم إلخ صفة لقوما { لعلهم يتذكرون } أي يتعظون بإنذارك (4/251)
47 - { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم } لولا هذه هي الامتناعية وأن وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء وجوابها محذوف قال الزجاج : وتقديره ما أرسلنا إليهم رسلا : يعني أن الحامل على إرسال الرسل هو إزاحة عللهم فهو كقوله سبحانه : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقدره ابن عطية لعاجلناهم بالعقوبة ووافقه على هذا التقدير الواحدي فقال : والمعنى لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم وقوله : { فيقولوا } عطف على تصيبهم ومن جملة ما هو في حيز لولا : أي فيقولوا { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } ولولا هذه الثانية هي التحضيضية : أي هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك وجوابها هو { فنتبع آياتك } وهو منصوب بإضمار أن لكونه جوابا للتحضيض والمراد بالآيات الآيات التنزيلية الظاهرة الواضحة وإنما عطف القول على تصيبهم لكونه هو السبب للإرسال ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها كأنها هي السبب لإرسال الرسل بواسطة القول { ونكون من المؤمنين } بهذه الآيات ومعنى الآية : أنا ول عذبناهم لقالوا طال العهد بالرسل ولم يرسل الله إلينا رسولا ويظنون أن ذلك عذر لهم ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد إليهم (4/252)
48 - { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } أي فلما جاء أهل مكى الحق من عند الله وهو محمد صلى الله عليه و سلم وما أنزل عليه من القرآن قالوا تعنتا منهم وجدالا بالباطل : هلا أوتي هذا الرسول مثل ما أوتي موسى من الآيات التي من جملتها التوراة المنزلة عليه جملة واحدة فأجاب الله عليهم بقوله : { أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل } أي من قبل هذا القول أو من قبل ظهور محمد والمعنى : أنهم قد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد وجملة { قالوا سحران تظاهرا } مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم وعنادهم والمراد بقولهم ساحران موسى ومحمد والتظاهر التعاون : أي تعاونا على السحر والضمير في قوله أو لم يكفروا لكفار قريش وقيل هو لليهود والأول أولى فإن اليهود لا يصفون موسى بالسحر إنما يصفه بذلك كفار قريش وأمثالهم إلا أن يراد من أنكر نبوة موسى كفرعون وقومه فإنهم وصفوا موسى وهارون بالسحر ولكنهم ليسوا من اليهود ويمكن أن يكون الضمير لمن كفر بموسى ومن كفر بمحمد فإن الذين كفروا بموسى وصفوه بالسحر والذين كفروا بمحمد وصفوه أيضا بالسحر وقيل المعنى : أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبله بالبشارة بعيسى ومحمد قرأ الجمهور { ساحران } وقرأ الكوفيون { سحران } يعنون التوراة والقرآن وقيل الإنجيل والقرآن قال بالأول الفراء وقال بالثاني أبو زيد وقيل إن الضمير في أولم يكفروا لليهود وأنهم عنوا بقولهم ساحران عيسى ومحمدا { وقالوا إنا بكل كافرون } أي بكل من موسى ومحمد أو من موسى وهارون أو من موسى وعيسى على اختلاف الأقوال وهذا على قراءة الجمهور وأما على القراءة الثانية فالمراد التوراة والقرآن أو الإنجيل والقرآن وفي هذه الجملة تقرير لما تقدمها ن وصف النبيين بالسحر أو من وسف الكتابين به وتأكيد ذلك (4/252)
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يقول لهم قولا يظهر به عجزهم فقال : 49 - { قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه } أي قل لهم يا محمد فأتوا بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن وأتبه جواب الأمر وقد جزمه جمهور القراء لذلك وقرأ زيد بن علي برفع أتبعه على الاستئناف : أي فأنا أتبعه قال الفراء : إنه على هذه القراءة صفة للكتاب وفي هذا الكلام تهكم به وفيه أيضا دليل على أن قراءة الكوفيين أقوى من قراءة الجمهور لأنه رجع الكلام إلى الكتابين لا إلى الرسولين ومعنى { إن كنتم صادقين } إن كنتم فيما وصفتم به الرسولين أو الكتابين صادقين (4/253)
50 - { فإن لم يستجيبوا لك } أي لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين وجواب الشرط { فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } أي آراءهم الزائغة واستحساناتهم الزائفة بلا حجة ولا برهان وقيل المعنى : فإن لم يستجيبوا لك بالإيمان بما جئت به وتعدية يستجيبوا باللام هو أحد الجائزين { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } أي لا أحد أضل منه بل هو الفرد الكامل في الضلال { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } لأنفسهم بالكفر وتكذيب الأنبياء والإعراض عن آيات الله (4/253)
51 - { ولقد وصلنا لهم القول } قرأ الجمهور { وصلنا } بتشديد الصاد وقرأ الحسن بتخفيفها ومعنى الآية : أتبعنا بعضه بعضا وبعثنا رسولا بعد رسول وقال أبو عبيدة والأخفش : معناه أتممنا وقال ابن عيينة والسدي : بينا وقال ابن زيد وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا والأولى أولى وهو مأخوذ من وصل الحبال بعضها ببعض ومنه قول الشاعر :
( فقل لبني مروان ما بال ذمتي ... بحبل ضعيف لا تزال توصل )
وقال امرؤ القيس :
( يقلب كفيه بخيط موصل )
والضمير في لهم عائد إلى قريش وقيل إلى اليهود وقيل للجميع { لعلهم يتذكرون } فيكون التذكر سببا لإيمانهم مخافة أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم (4/253)
52 - { الذين آتيناهم الكتاب من قبله } أي من قبل القرآن والموصول مبتدأ وخبره { هم به يؤمنون } أخبر سبحانه أن طائفة من بني إسرائيل آمنوا بالقرآن كعبد الله بن سلام وسائر من أسلم من أهل الكتاب وقيل الضمير في من قبله يرجع إلى محمد صلى الله عليه و سلم والأول أولى والضمير في به راجع إلى القرآن على القول الأول وإلى محمد على القول الثاني (4/254)
53 - { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به } أي وإذا يتلى القرآن عليهم قالوا صدقنا به { إنه الحق من ربنا } أي الحق الذي نعرفه المنزل من ربنا { إنا كنا من قبله مسلمين } أي مخلصين لله بالتوحيد أو مؤمنين بمحمد وبما جاء به لما نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل من التبشير به وأنه سيبعث آخر الزمان وينزل عليه القرآن (4/254)
والإشارة بقوله : 54 - { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } إلى الموصوفين بتلك الصفات والباء في { بما صبروا } للسببية : أي بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأول والكتاب الآخر وبالنبي الأول والنبي الآخر { ويدرؤون بالحسنة السيئة } الدرء الدفع : أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن ما يلاقونه من الأذى وقيل يدفعون بالطاعة المعصية وقيل بالتوبة والاستغفار من الذنوب وقيل بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك { ومما رزقناهم ينفقون } أي ينفقون أموالهم في الطاعات وفيما أمر به الشرع (4/254)
ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو فقال : 55 - { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } تكرما وتنزها وتأدبا بآداب الشرع ومثله قوله سبحانه : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } واللغو هنا هو ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ولدينهم والاستهزاء بهم { وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } لا يلحقنا من ضرر كفركم شيء ولا يلحقكم من نفع إيماننا شيء { سلام عليكم } ليس المراد بهذا السلام سلام التحية ولكن المراد به سلام المتاركة ومعناه أمنة لكم منا وسلامة لا نجاريكم ولا نجاوبكم فيما أنتم فيه قال الزجاج : وهذا قبل الأمر بالقتال { لا نبتغي الجاهلين } أي لا نطلب صحبتهم وقال مقاتل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه وقال الكلبي : لا نحب دينكم الذي أنتم عليه (4/254)
56 - { إنك لا تهدي من أحببت } من الناس وليس ذلك إليك { ولكن الله يهدي من يشاء } هدايته { وهو أعلم بالمهتدين } أي القابلين للهداية المستعدين لها وهذه الآية نزلت في أبي طالب كما ثبت في الصحيحين وغيرهما وقد تقدم ذلك في براءة قال الزجاج : أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك أبو طالب دخولا أوليا (4/255)
57 - { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } أي قال مشركو قريش ومن تابعهم : إن ندخل في دينك يا محمد نختطف من أرضنا : أي يختطفنا العرب من أرضنا : يعنون مكة ولا طاقة لنا بهم وهذا من جملة أعذارهم الباطلة وتعللاتهم العاطلة والتخطف في الأصل هو الانتزاع بسرعة قرأ الجمهور { نتخطف } بالجزم جوابا للشرط وقرأ المنقري بالرفع على الاستئناف ثم رد الله ذلك عليهم ردا مصدرا باستفهام التوبيخ والتقريع فقال : { أولم نمكن لهم حرما آمنا } أي ألم نجعل لهم حرما ذا أمن قال أبو البقاء : عداه بنفسه لأنه بمعنى جعل كما صرح بذلك في قوله : { أولم يروا أنا جعلنا حرما } ثم وصف هذا الحرم بقوله : { يجبى إليه ثمرات كل شيء } أي تجمع إليه الثمرات على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة وتحمل إليه قرأ الجمهور { يجبى } بالتحتية اعتبارا بتذكير كل شيء ووجود الحائل بين الفعل وبين ثمرات وأيضا ليس تأنيث ثمرات بحقيقي واختار قراءة الجمهور أبو عبيد لما ذكرنا وقرأ نافع بالفوقية اعتبارا بثمرات وقرأ الجمهور أيضا { ثمرات } بفتحتين وقرأ أبان بضمتين جمع ثمر بضمتين وقرئ بفتح الثاء وسكون الميم { رزقا من لدنا } منتصب على المصدرية لأن معنى يجبى : نرزقهم ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول له لفعل محذوف : أي نسوقه إليهم رزقا من لدنا ويجوز أن ينتصب على الحال أي رازقين { ولكن أكثرهم لا يعلمون } لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم وعدم تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم لكونهم ممن طبع الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة
وقد أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أبي هريرة في قوله : { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } قال : نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني واستجبت لكم قبل أن تدعوني وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عنه في وجه آخر بنحوه وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الإبانة والديلمي عن عمرو بن عبسة قال : [ سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله : { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } ما كان النداء وما كانت الرحمة قال : كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى : يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة ] وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن حذيفة في قوله : { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } مرفوعا قال نودوا : يا أمة محمد ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم ولا سألتمونا إذ أعطيناكم وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا [ إن الله نادى : يا أمة محمد أجيبوا ربكم قال : فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا : لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا قال : صدقتم أنا ربكم وأنتم عبيدي حقا قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة ] وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الهالك في الفترة يقول : رب لم يأتني كتاب ولا رسول ثم قرأ هذه الآية { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } الآية ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { قالوا سحران تظاهرا } إلخ قال : هم أهل الكتاب { إنا بكل كافرون } يعني بالكتابين : التوراة والفرقان وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو القاسم البغوي والباوردي وابن قانع الثلاثة في معاجم الصحابة والطبراني وابن مردويه بسند جيد عن رفاعة القرظي قال : نزلت { ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون } إلى قوله : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } في عشرة رهط أنا أحدهم وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } قال : يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم من أهل الكتاب وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بالكتاب الأول والآخر ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المسيب ومسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن قوله { إنك لا تهدي من أحببت } نزلت في أبي طالب لما امتنع من الإسلام وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن ناسا من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : إن نتبعك يتخطفنا الناس فنزلت { وقالوا إن نتبع الهدى معك } الآية : وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { يجبى إليه ثمرات كل شيء } قال : ثمرات الأرض (4/255)
قوله : 58 - { وكم أهلكنا من قرية } أي من أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء فوقع منهم البطر فأهلكوا قال الزجاج : البطر الطغيان عند النعمة قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام قال الزجاج والمازني : معنى { بطرت معيشتها } بطرت في معيشتها فلما حذفت في تعدى الفعل كقوله : { واختار موسى قومه } وقال الفراء : هو منصوب على التفسير كما تقول : أبطرك مالك وبطرته ونظيره عند قوله تعالى : { إلا من سفه نفسه } ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين لأن معنى التفسير أن تكون النكرة دالة على الجنس وقيل إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى جهلت { فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } أي لم يسكنها أحد بعدهم إلا زمنا قليلا كالذي يمر بها مسافرا فإنه يلبث فيها يوما أو بعض يوم أو لم يبق من يسكنها فيها إلا أياما قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم وقيل إن الاستثناء يرجع إلى المساكن : أي لم تسكن بعد هلاك أهلا إلا قليلا من المساكن وأكثرها خراب كذا قال الفراء وهو قول ضعيف { وكنا نحن الوارثين } منهم لأنهم لم يتركوا وارثا يرث منازلهم وأموالهم ومحل جملة لم تسكن الرفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال (4/257)
59 - { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا } أي وما صح ولا استقام أن يكون الله مهلك القرى الكافرة : أي الكافر أهلها حتى يبعث في أمها رسولا ينذرهم ويتلوا عليهم آيات الله الناطقة بما أوجبه الله عليهم وما أعده من الثواب للمطيع والعقاب للعاصي ومعنى أمها : أكبرها وأعظمها وخص الأعظم منها بالبعثة إليها لأن فيها أشراف القوم وأهل الفهم والرأي وفيها الملوك والأكابر فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى وقال الحسن : أم القرى أولها وقيل المراد بأم القرى هنا مكة كما في قوله : { إن أول بيت وضع للناس } الآية وقد تقدم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف وجملة يتلوا عليهم آياتنا في محل نصب على الحال : أي تاليا عليهم ومخبرا لهم أن العذاب سينزل بهم إن لم يؤمنوا { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال : أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولا يدعوهم إلى الحق إلا حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم وتأكيد الحجة عليهم كما في قوله سبحانه : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } (4/258)
ثم قال سبحانه : 60 - { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } الخطاب لكفار مكة : أي وما أعطيتم من شيء من الأشياء فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به مدة حياتكم أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه أو يزول عنكم وعلى كل حال فذلك إلى فناء وانقضاء { وما عند الله } من ثوابه وجزائه { خير } من ذلك الزائل الفاني لأنه لذة خالصة عن شوب الكدر { وأبقى } لأنه يدوم أبدا وهذا ينقضي بسرعة { أفلا تعقلون } أن الباقي أفضل من الفاني وما فيه لذة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات المشوبة بالكدر المنغصة بعوارض البدن والقلب وقرئ بنصب متاع على المصدرية : أي فتمتعون متاع الحياة قرأ أبو عمرو { يعقلون } بالتحتية وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب وقراءتهم أرجح لقوله : { وما أوتيتم } (4/258)
61 - { أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه } أي وعدناه بالجنة وما فيها من النعم التي لا تحصى فهو لاقيه : أي مدركه لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد { كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } فأعطي منها بعض ما أراد مع سرعة زواله وتنغيصه { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } هذا معطوف على قوله متعناه داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له والمعنى : ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين بالنار وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا العذاب اقتضاه المقام والاستفهام للإنكار : أي ليس حالهما سواء فإن الموعد بالجنة لا بد أن يظفر بما وعد به مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا وهذا حال المؤمن وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلا مجرد التمتيع بشيء من الدنيا يستوي فيه هو والمؤمن وينال كل واحد منهما حظه منه وهو صائر إلى النار فهل يستويان ؟ قرأ الجمهور ثم هو بضم الهاء وقرأ الكسائي وقالون بسكون الهاء إجراء لثم مجرى الواو والفاء (4/259)
وانتصاب يوم في قوله : 62 - { ويوم يناديهم } بالعطف على يوم القيامة أو بإضمار اذكر : أي يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين { فيقول } لهم { أين شركائي الذين كنتم تزعمون } أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم ومفعولا يزعمون محذوفان : أي تزعمونهم شركائي لدلالة الكلام عليهما (4/259)
63 - { قال الذين حق عليهم القول } أي حقت عليهم كلمة العذاب وهم رؤساء الضلال الذين اتخذوا أربابا من دون الله كذا قال الكلبي وقال قتادة : هم الشياطين { ربنا هؤلاء الذين أغوينا } أي دعوناهم إلى الغواية يعنون الأتباع { أغويناهم كما غوينا } أي أضللناهم كما ضللنا { تبرأنا إليك } منهم والمعنى : أن رؤساء الضلال أو الشياطين تبرأوا ممن أطاعهم قال الزجاج : برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء كما قال الله تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } وهؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والعائد محذوف : أي أغويناهم والخبر أغويناهم وكما أغوينا نعت مصدر محذوف وقيل إن خبر هؤلاء هو الذي أغوينا وأما أغويناهم كما غوينا فكلام مستأنف لتقرير ما قبله ورجح هذا أبو علي الفارسي واعترض الوجه الأول ورد اعتراضه أبو البقاء { ما كانوا إيانا يعبدون } وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وقيل إن ما في ما كانوا مصدرية : أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا والأول أولى (4/259)
64 - { وقيل ادعوا شركاءكم } أي قيل للكفار من بني آدم هذا القول والمعنى : استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم { فدعوهم } عند ذلك { فلم يستجيبوا لهم } ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع { ورأوا العذاب } أي التابع والمتبوع فقد غشيهم { لو أنهم كانوا يهتدون } قال الزجاج : جواب لو محذوف والمعنى : لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم ذلك ولم يروا العذاب وقيل المعنى : لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم وقيل المعنى : لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لعلموا أن العذاب حق وقيل المعنى : لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب وقيل قد آن لهم أن يهتدوا لو كانوا يهتدون وقيل غير ذلك والأول أولى (4/260)
ويوم في قوله : 65 - { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } معطوف على ما قبله : ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي (4/260)
66 - { فعميت عليهم الأنباء يومئذ } أي خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمي الذين لا يهتدون والأصل فعموا عن الأنباء ولكنه عكس الكلام للمبالغة والأنباء الأخبار وإنما سمى حججهم أخبارا لأنها لم تكن من الحجة في شيء وإنما هي أقاصيص وحكايات { فهم لا يتساءلون } لا يسأل بعضهم بعضا ولا ينطقون بحجة ولا يدرون بما يجيبون لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ولا حجة يوم القيامة قرأ الجمهور عميت بفتح العين وتخفيف الميم وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم (4/260)
67 - { فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين } إن تاب من الشرك وصدق بما جاء به الرسل وأدى الفرائض واجتنب المعاصي فعسى أن يكون من المفلحين : أي الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين وعسى إن كانت في الأصل للرجاء فهو من الله واجب على ما هو عادة الكرام وقيل إن الترجي هو من التائب المذكور لا من جهة الله سبحانه (4/260)
68 - { وربك يخلق ما يشاء } أي يخلقه { ويختار } ما يشاء أن يختاره { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وهذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم واختاروهم : أي الاختيار إلى الله { ما كان لهم الخيرة } أي التخير وقيل المراد من الآية أنه ليس لأحد من خلق الله أن يختار بل الاختيار هو إلى الله عز و جل وقيل إن هذه الآية جواب عن قولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وقيل هذه الآية جواب عن اليهود حيث قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به
قال الزجاج : الوقف على ويختار تام على أن ما نافية قال : ويجوز أن تكون ما في موضع نصب بيختار والمعنى : ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة والصحيح الأول لإجماعهم على الوقف وقال ابن جرير : إن تقدير الآية ويختار لولايته الخيرة من خلقه وهذا في غاية من الضعف وجوز ابن عطية أن تكون كان تامة ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة وهذا أيضا بعيد جدا وقيل إن ما مصدرية : أي يختار اختيارهم والمصدر واقع موقع المفعول به : أي ويختار مختارهم وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير والراجح أول هذه التفاسير ومثله قوله سبحانه : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة } والخيرة التخير كالطيرة فإنها التطير اسمان يستعملان استعمال المصدر ثم نزه سبحانه نفسه فقال : { سبحان الله } أي تنزه تنزها خاصا به من غير أن ينازعه منازع ويشاركه مشارك { وتعالى عما يشركون } أي عن الذين يجعلونهم شركاء له أو عن إشراكهم (4/260)
69 - { وربك يعلم ما تكن صدورهم } أي تخفيه من الشرك أو من عداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق { وما يعلنون } أي يظهرونه من ذلك قرأ الجمهور { تكن } بضم التاء الفوقية وكسر الكاف وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية وضم الكاف (4/261)
ثم تمدح سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرد باستحقاق الحمد فقال : 70 - { وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى } أي الدنيا { والآخرة } أي الدار الآخرة { وله الحكم } يقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك { وإليه ترجعون } بالبعث فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته لا ترجعون إلى غيره
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } قال : قال الله لم نهلك قرية بإيمان ولكنه أهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها ولو كانت مكة آمنت لم يهلكوا مع من هلك ولكنهم كذبوا وظلموا فبذلك هلكوا وأخرج مسلم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله عز و جل : يابن آدم مرضت فلم تعدني ] الحديث بطوله وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا وأعطش ما كانوا وأعرى ما كانوا فمن أطعم لله عز و جل أطعمه الله ومن كسا لله عز و جل كساه الله ومن سقى لله عز و جل سقاه الله ومن كان في رضا الله كان الله على رضاه وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { فعميت عليهم الأنباء } قال : الحجج { فهم لا يتساءلون } قال : بالأنساب وقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح تعليم الاستخارة وكيفية صلاتها ودعائها فلا نطول بذكره (4/261)
قوله : 71 - { قل أرأيتم } أي أخبروني { إن جعل الله عليكم الليل سرمدا } السرمد الدائم المستمر من السرد وهو المتابعة فالميم زائدة ومنه قول طرفة :
( لعمرك ما أمري عليك بغمة ... نهاري ولا ليلي عليك بسرمد )
وقيل إن ميمه أصلية ووزنه فعلل لا فعمل وهو الظاهر بين لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة ليقوموا بشكر النعمة فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلا دائما إلى يوم القيامة لم يتمكنوا من الحركة فيه وطلب ما لا بد لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس ثم امتن عليهم فقال : { من إله غير الله يأتيكم بضياء } أي هل لكم إله من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء : أي بنور تطلبون فيه المعيشة وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه وتصلح به ثماركم وتنمو عنده زرائعكم وتعيش فيه دوابكم { أفلا تسمعون } هذا الكلام سماع فهم وقبول وتدبر وتفكر (4/263)
ثم لما فرغ من الامتنان عليهم بوجود النهار امتن عليهم بوجود الليل فقال : 72 - { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة } أي جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهارا إلى يوم القيامة { من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه } أي تستقرون فيه من النصب والتعب وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش والكسب { أفلا تبصرون } هذه المنفعة العظيمة إبصار متعظ حتى تنزجوا عما أنتم فيه من عبادة غير الله وإذا أقروا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز و جل فقد لزمتهم الحجة وبطل ما يتمسكون به من الشبه الساقطة وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله : { أفلا تسمعون } لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل قوله : { أفلا تبصرون } لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك (4/263)
73 - { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه } أي في الليل { ولتبتغوا من فضله } أي في النهار بالسعي في المكاسب { ولعلكم تشكرون } أي ولكي تشكروا نعمة الله عليكم وهذه الآية من باب اللف والنشر كما في قول امرئ القيس :
( كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي )
واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكنا وطلب الرزق في الليل ممكنا وذلك عند طلوع القمر على الأرض أو عند الاستضاءة بشيء بما له نور كالسراج لكن ذلك قليل نادر مخالف لما يألفه العباد فلا اعتبار به (4/264)
74 - { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } كرر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام وينادون أخرى فيسكتون وفي هذا التكرير أيضا تقريع بعد تقريع وتوبيخ بعد توبيخ (4/264)
وقوله : 75 - { ونزعنا من كل أمة شهيدا } عطف على ينادي وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق والمعنى : وأخرجنا من كل أمة من الأمم شهيدا يشهد عليهم قال مجاهد : هم الأنبياء وقيل عدول كل أمة والأول أولى ومثله قوله سبحانه : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله : { فقلنا هاتوا برهانكم } أي حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء فعند ذلك اعترفوا وخرسوا عن إقامة البرهان ولذا قال : { فعلموا أن الحق لله } في الإلهية وأنه وحده لا شريك له { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي غاب عنهم وبطل وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة (4/264)
ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون لما اشتملت عليه من بديع القدرة وعجيب الصنع فقال : 76 - { إن قارون كان من قوم موسى } قارون على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية وليس بعربي مشتق من قرنت قال الزجاج : لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف قال النخعي وقتادة وغيرهما : كان ابن عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق : كان عم موسى لأب وأم فجعله أخا لعمران وهما ابنا السامري وخرج عن طاعة موسى وهو معنى قوله : { فبغى عليهم } أي جاوز الحد في التجبر والتكبر عليهم وخرج عليهم وخرج عن طاعة موسى وكفر بالله قال الضحاك : بغيه على بني إسرائيل استخفافه بهم لكثرة ماله وولده وقال قتادة : بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه وحيلته وقيل كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم وقيل كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية { وآتيناه من الكنوز } جمع كنز وهو المال المدخر قال عطاء : أصاب كنزا من كنوز يوسف وقيل كان يعمل الكيمياء و ما في قوله { ما إن مفاتحه } موصولة صلتها إن وما في حيزها ولهذا كسرت ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع جعل المكسورة وما في حيزها صلة الذين واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع والمفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به وقيل المراد بالمفاتح : الخزائن فيكون واحدها مفتح بفتح الميم قال الواحدي : إن المفاتح الخزائن في قول أكثر المفسرين كقوله : { وعنده مفاتح الغيب } قال : وهو اختيار الزجاج فإنه قال : الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله وقال آخرون : هي جمع مفتاح وهو ما يفتح به الباب وهذا قول قتادة ومجاهد { لتنوء بالعصبة أولي القوة } هذه الجملة خبر إن وهي واسمها وخبرها صلة ما الموصولة يقال ناء بحمله : إذا نهض به مثقلا ويقال ناء بي الحمل : إذا أثقلني والمعنى : يثقلهم حمل المفاتح قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب والمعنى : لنتوء بها العصبة : أي تنهض بها قال أبو زيد : نؤت بالحمل : إذا نهضت به قال الشاعر :
( إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف )
وقال الفراء : معنى نتوء بالعصبة : تميلهم بثقلها كما يقال : يذهب بالبؤس ويذهب البؤس وذهبت به وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به وأنأته واختار هذا النحاس وبه قال كثير من السلف وقيل هو مأخوذ من النأي وهو البعد وهو بعيد وقرأ بديل بن ميسرة لينوء بالياء : أي لينوء الواحد منها أو المذكور فحمل على المعنى والمراد بالعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض قيل هي من الثلاثة إلى العشرة وقيل من العشرة إلى الخمسة عشرة وقيل ما بين العشرة إلى العشرين وقيل من الخمسة إلى العشرة وقيل أربعون وقيل سبعون وقيل غير ذلك { إذ قال له قومه لا تفرح } الظرف منصوب بتنوء وقيل بآتيناه وقيل ببغي وردهما أبو حبان بأن الإيتاء والبغي لم يكونا ذلك الوقت وقال ابن جرير : هو متعلق بمحذوف وهو اذكر والمراد بقومه هنا : هم المؤمنون من بني إسرائيل وقال الفراء : هو موسى وهو جمع أريد به الواحد ومعنى لا تفرح : لا تبطر ولا تأشر { إن الله لا يحب الفرحين } البطرين الأشرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم قال الزجاج : المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه وقيل المعنى : لا تفسد كقول الشاعر :
( إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع )
أي أفسدتك قال الزجاج : الفرحين والفارحين سواء وقال الفراء : معنى الفرحين الذين هم في حال الفرح والفارحين الذين يفرحون في المستقبل وقال مجاهد : معنى لا تفرح لا تبغ إن الله لا يحب الفرحين الباغين وقيل معناه : لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين (4/264)
77 - { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة فأنفقه فيما يرضاه الله لا في التجبر والبغي وقرئ واتبع { ولا تنس نصيبك من الدنيا } قال جمهور المفسرين : وهو أن يعمل في دنياه لآخرته ونصيب الإنسان عمره وعمله الصالح قال الزجاج : معناه لا تنس أن تعمل لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته وقال الحسن وقتادة : معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني { وأحسن كما أحسن الله إليك } أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك من نعم الدنيا وقيل أطع الله واعبده كما أنعم عليك ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما [ أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الإحسان فقال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] { ولا تبغ الفساد في الأرض } أي لا تعمل فيها بمعاصي الله { إن الله لا يحب المفسدين } في الأرض (4/266)
77 - { قال إنما أوتيته على علم عندي } قال قارون : هذه المقالة ردا على من نصحه بما تقدم : أي إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي فقوله على علم في محل نصب على الحال وعندي إما ظرف لأوتيته وإما صلة العلم وهذا العلم الذي جعله سببا لما ناله من الدنيا قيل هو علم التوراة وقيل علمه بوجوه المكاسب والتجارات وقيل معرفة الكنوز والدفائن وقيل علم الكيمياء وقيل المعنى : إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني واختار هذا الزجاج وأنكر ما عداه ثم رد الله عليه قوله هذا فقال : { أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا } المراد بالقرون الأمم الخالية ومعنى أكثر جمعا : أكثر منه جمعا للمال ولو كان المال أو القوة يدلان على فضيلة لما أهلكهم الله وقيل القوة الآلات والجمع الأعوان وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون لأنه قد قرأ التوراة وعلم علم القرون الأولى وإهلاك الله سبحانه لهم { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } أي لا يسألون سؤال استعتاب كما في قوله : { ولا هم يستعتبون } { فما هم من المعتبين } وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ كما في قوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } وقال مجاهد : لا تسأل الملائكة غدا عن المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون وقال قتادة : لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها بل يدخلون النار وقيل لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية (4/266)
79 - { فخرج على قومه في زينته } الفاء للعطف على قال وما بينهما اعتراض و في زينته متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعل خرج وقد ذكر المفسرون في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة والمراد أنه خرج في زينة انبهر لها من رآها ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها كا حكى الله عنهم بقوله : { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } وزينتها { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم } أي نصيب وافر من الدنيا
واختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة فقيل هم من مؤمني ذلك الوقت وقيل هم قوم من الكفار (4/266)
80 - { وقال الذين أوتوا العلم } وهم أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا { ويلكم ثواب الله خير } أي ثواب الله في خير مما تمنونه { لمن آمن وعمل صالحا } فلا تمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم { ولا يلقاها } أي هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار وقيل الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة وقيل إلى الجنة { إلا الصابرون } على طاعة الله والمصبرون أنفسهم عن الشهوات (4/267)
81 - { فخسفنا به وبداره الأرض } يقال : خسف المكان يخسف خسوفا : ذهب في الأرض وخسف به الأرض خسفا : أي غاب فيها والمعنى : أن الله سبحانه غيبه وغيب داره في الأرض { فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله } أي ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه { وما كان } هو في نفسه { من المنتصرين } من الممتنعين مما نزل به من الخسف (4/267)
82 - { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } أي منذ زمان قريب { يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر } أي يقول كل واحد منهم متندما على ما فرط منه من التمني قال النحاس : أحسن ما قيل في هذا ما قاله الخليل وسيبويه ويونس والكسائي أن القوم تنبهوا فقالوا : وي والمتندم من العرب يقول في خلال ندمه وي قال الجوهري : وي كلمة تعجب ويقال ويك وقد تدخل وي على كأن المخففة والمشددة ويكأن الله قال الخليل : هي مفصولة تقول وي ثم تبتدئ فيقول كأن وقال الفراء : هي كلمة تقرير كقولك : أما ترى صنع الله وإحسانه وقيل هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا وقال قطرب : إنما وهو ويلك فأسقطت لامه ومنه قول عنترة :
( ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر أقدم )
وقال ابن الأعرابي : معنى ويكأن الله : أعلم أن الله وقال القتيبي : معناها بلغة حمير رحمة وقيل هي بمعنى ألم تر وروي عن الكسائي أنه قال : هي كلمة تفجع { لولا أن من الله علينا } برحمته وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي ولم يؤاخذنا بما وقع منا من ذلك التمني و { لخسف بنا } كما خسف به قرأ حفص { لخسف } مبينا للفاعل وقرأ الباقون مبنيا للمفعول { ويكأنه لا يفلح الكافرون } أي لا يفوزون بمطلب من مطالبهم (4/267)
83 - { تلك الدار الآخرة } أي الجنة والإشارة إليها لقصد التعظيم لها والتفخيم لشأنها كأنه قال : تلك التي سمعت بخبرها وبلغك شأنها { نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض } أي رفعة وتكبرا على المؤمنين { ولا فسادا } أي عملا بمعاصي الله سبحانه فيها وذكر العلو والفساد منكرين في حيز النفي يدل على شمولهما لكل ما يطلق عليه أنه علو وأنه فساد من غير تخصيص بنوع خاص أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائنا ما كان وأما العلو فالممنوع منه ما كان على طريق التكبر على الغير والتطاول على الناس وليس منه طلب العلو في الحق والرئاسة في الدين ولا محبة اللباس الحسن والمركوب الحسن والمنزل الحسن (4/268)
84 - { من جاء بالحسنة فله خير منها } وهو أن الله يجازيه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون } أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل (4/268)
85 - { إن الذي فرض عليك القرآن } قال المفسرون : أي أنزل عليك القرآن وقال الزجاج : فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن وتقدير الكلام : فرض عليك أحكام القرآن وفرائضه { لرادك إلى معاد } قال جمهور المفسرين : أي إلى مكة وقال مجاهد وعكرمة والزهري والحسن : إن المعنى : لرادك إلى يوم القيامة وهو اختيار الزجاج يقال بيني وبينك المعاد : أي يوم القيامة لأن الناس يعودون فيه أحياء وقال أبو مالك وأبو صالح : لرادك إلى معاد إلى الجنة وبه قال أبو سعيد الخدري وروي عن مجاهد وقيل إلى معاد إلى الموت { قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين } هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم إنك في ضلال والمراد من جاء بالهدى هو النبي صلى الله عليه و سلم ومن هو في ضلال مبين المشركون : والأولى حمل الآية على العموم وأن الله سبحانه يعلم حال كل طائفة من هاتين الطائفتين ويجازيها بما تستحقه من خير وشر (4/268)
86 - { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } أي ما كنت ترجو أنا نرسلك إلى العباد وننزل عليك القرآن وقيل ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب بردك إلى معادك والاستثناء في قوله : { إلا رحمة من ربك } منقطع : أي لكن إلقاؤه عليك رحمة من ربك ويجوز أن يكون متصلا حملا على المعنى كأنه قيل : وما ألقي إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة من ربك والأول أولى وبه جزم الكسائي والفراء { فلا تكونن ظهيرا للكافرين } أي عونا لهم وفيه تعريض بغيره من الأمة وقيل المراد لا تكونن ظهيرا لهم بمداراتهم (4/268)
87 - { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك } أي لا يصدنك يا محمد الكافرون وأقوالهم وكذبهم وأذاهم عن تلاوة آيات الله والعمل بها بعد إذ أنزلها الله إليك وفرضت عليك قرأ الجمهور بفتح الياء الصاد من صده يصده وقرأ عاصم بضم الياء وكسر الصاد من أصده بمعنى صده { وادع إلى ربك } أي ادع الناس إلى الله وغلى توحيده والعمل بفرائضه واحتناب معاصيه { ولا تكونن من المشركين } وفي تعريض بغيره كما تقدم لأنه صلى الله عليه و سلم لا يكون من المشركين بحال من الأحوال (4/268)
وكذلك قوله : 88 - { ولا تدع مع الله إلها آخر } فإنه تعريض لغيره ثم وحد سبحانه نفسه ووصفها بالبقاء والدوام فقال : { لا إله إلا هو كل شيء } من الأشياء كائنا ما كان { هالك إلا وجهه } أي إلا ذاته قال الزجاج : وجهه منصوب على الاستثناء ولو كان في غير القرآن كان مرفوعا بمعنى كل شيء غير وجهه هالك كما قال الشاعر :
( وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان )
والمعنى كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه { له الحكم } أي القضاء النافذ يقضي بما شاء ويحكم بما أراد { وإليه ترجعون } عند البعث ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته لا إله غيره سبحانه وتعالى
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { سرمدا } قال : دائما وأخرج ابن أبي حاتم عنه { وضل عنهم } يوم القيامة { ما كانوا يفترون } قال : يكذبون في الدنيا وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا { إن قارون كان من قوم موسى } قال : كان ابن عمه وكان يتبع العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده فقال له موسى إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملون أن تعطوه أموالكم ؟ فقالوا لا نحتمل فما ترى ؟ فقال لهم أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك قالت : نعم فجاء قارون إلى موسى فقال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال نعم فجمعهم فقالوا له : ما أمرك ربك ؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم كذا وكذا وأمرني إذا زنا وقد أحصن أن يرجم قالوا : وإن كنت أنت قال نعم قالوا : فإنك قد زنيت قال أنا ؟ فأرسلوا للمرأة فجاءت فقالوا : ما تشهدين على موسى ؟ فقال لها موسى : أنشدك بالله إلا ما صدقت قالت : أما إذا نشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأن أشهد أنك برئ وأنك رسول الله فخر موسى ساجدا يبكي فأوحى الله إليه ما يبكيك ؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك فرفع رأسه فقال خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى فقال خذيهم فأخذتهم فغشيتهم فأوحى الله يا موسى : سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم قال ابن عباس : وذلك قوله : { فخسفنا به وبداره الأرض } خسف به إلى الأرض السفلى وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن خيثمة قال : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح مثل الأصبع كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلا أغر محجل وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه قال : وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غر محجلة لا يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح كنز قلت : لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لتنوء بالعصبة } قال : تثقل وأخرج ابن المنذر عنه قال : لا يرفعها العصبة من الرجال أولو القوة وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : العصبة أربعون رجلا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { إن الله لا يحب الفرحين } قال المرحين وفي قوله : { ولا تنس نصيبك من الدنيا } قال : أن تعمل فيها لآخرتك وأخرج ابن مردويه عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { فخرج على قومه في زينته } في أربعة آلاف بغل وقد روي عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة ولا يصح منها شيء مرفوعا بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرة ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه ابن مردويه فمن ظفر بكتابه فينظر فيه وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله : { فخسفنا به وبداره الأرض } قال : خسف به إلى الأرض السفلى وأخرج المحاملي والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا } قال : التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق وروي نحوه عن مسلم البطين وابن جريج وعكرمة وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { لا يريدون علوا في الأرض } قال : بغيا في الأرض وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هو الشرف والعلو عند ذوي سلطانهم وأقول : إن كان ذلك للتقوي به على الحق فهو من خصال الخير لا من خصال الشر وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال : إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا } قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن علي رضي الله عنه : وهذا محمول على من أحب ذلك لا لمجرد التجمل فهذا لا بأس به فقد ثبت [ أن رجلا قال يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة أفمن الكبر ذلك ؟ قال : لا إن الله جميل يحب الجمال ] وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب أنه قال : نزلت هذه الآية يعني { تلك الدار الآخرة } إلخ في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال : لما دخل علي النبي صلى الله عليه و سلم ألقي إليه وسادة فجلس على الأرض فقال : أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا فأسلم وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك وأخرج أيضا ابن مردويه عن علي بن الحسين بن واقد أن قوله تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن } الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجحفة حين خرج النبي صلى الله عليه و سلم مهاجرا إلى المدينة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد البخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس في قوله : { لرادك إلى معاد } قال : إلى مكة زاد ابن مردويه كما أخرجك منها وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن مردويه كما أخرجك منها وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري { لرادك إلى معاد } قال الآخرة وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن المنذر عنه أيضا في قوله : { لرادك إلى معاد } قال : معاده الجنة وفي لفظ معاده آخرته وأخرج الحاكم في التاريخ والديلمي عن علي بن أبي طالب قال : { لرادك إلى معاد } الجنة وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن مردويه عنه قالك لما نزلت { كل من عليها فان } قالت الملائكة : هلك أهل الأرض فلما نزلت { كل نفس ذائقة الموت } قالت الملائكة : هلك كل نفس فلما نزلت { كل شيء هالك إلا وجهه } قالت الملائكة : هلك أهل السماء والأرض وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس { كل شيء هالك إلا وجهه } قال : إلا ما أريد به وجهه (4/269)
سورة العنكبوت
تفسير سورة العنكبوت هي تسع وستون آية
وقد اختلف في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكيا وبعضها مدنيا على ثلاثة أقوال : الأول أنها مكية كلها أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وبه قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد والقول الثاني أنها مدنية كلها قال القرطبي : وهو أحد قولي ابن عباس وقتادة والقول الثالث أنها مكية إلا عشر آيات من أولها قال القرطبي : وهو أحد قولي ابن عباس وقتادة وهو قول يحيى بن سلام وحكي عن علي بن أبي طالب أنها نزلت بين مكة والمدينة وهذا قول رابع وأخرج الدارقطني في السنن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات يقرأ في الركعة الأولى العنكبوت أو الروم وفي الثانية يس
1 - { الم } قد تقدم الكلام على فاتحة هذه السورة مستوفى في سورة البقرة (4/272)
والاستفهام في قوله : 2 - { أحسب الناس } للتقريع والتوبيخ و { أن يتركوا } في موضع نصب بحسب وهي وما دخلت عليه قائمة مقام المفعولين على قوله سيبويه والجمهور و { أن يقولوا } في موضع نصب على تقدير : لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا وقيل هو بدل من أن يتركوا ومعنى الآية : أن الناس لا يتركون بغير اختبار ولا ابتلاء { أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } أي وهم لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم وليس الأمر كما حسبوا بل لا بد أن يختبرهم حتى يتبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان واستبعاده وبيان أنه لا بد من الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها قال الزجاج : المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ولا يمتحنون بما تتبين به حقيقة إيمانهم وهو قوله : { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } قال السدي وقتادة ومجاهد : أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح معنى ما ذكرناه وظاهرها شمول كل الناس من أهل الإيمان وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ كما قررناه غير مرة قال ابن عطية : وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه و سلم موجود حكمها بقية الدهر وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك (4/273)
3 - { ولقد فتنا الذين من قبلهم } أي هذه سنة الله في عباده وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة كما اختبر من قبلهم من الأمم كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء وما وقع مع قومهم من المحن وما اختبر الله به أتباعهم ومن آمن بهم من تلك الأمور التي نزلت بهم { فليعلمن الله الذين صدقوا } في قولهم : آمنا { وليعلمن الكاذبين } منهم في ذلك قرأ الجمهور { فليعلمن } بفتح الياء واللام في الموضعين : أي ليظهرن الله الصادق والكاذب في قولهم ويميز بينهم وقرأ علي بن أبي طالب في الموضعين بضم الياء وكسر اللام والمعنى أي يعلم الطائفتين في الآخرة بمنازلهم أو يعلم الناس بصدق من صدق ويفضح الكاذبين بكذبهم أو يضع لكل طائفة علامة تشتهر بها وتتميز عن غيرها (4/273)
4 - { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون وهو ساد مسد مفعولي حسب وأم هي المنقطعة { ساء ما يحكمون } أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك وقال الزجاج : ما في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون قال : ويجوز أن تكون ما في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم وجعلها ابن كيسان مصدرية : أي ساء حكمهم (4/273)
5 - { من كان يرجو لقاء الله } أي من كان يطمع والرجاء بمعنى الطمع قاله سعيد بن جبير وقيل الرجاء هنا بمعنى الخوف قال القرطبي : وأجمع أهل التفسير على أن المعنى : من كان يخاف الموت ومنه قول الهذلي :
( إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها )
قال الزجاج : معنى من كان يرجو لقاء الله : من كان يرجو ثواب لقاء الله : أي ثواب المصير إليه فالرجاء على هذا معناه الأمل { فإن أجل الله لآت } أي الأجل المضروب للبعث آت لا محالة قال مقاتل : يعني يوم القيامة والمعنى : فليعمل لذلك اليوم كما في قوله : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا } ومن في الآية التي هنا يجوز أن تكون شرطية والجزاء فإن أجل الله لآت ويجوز أن تكون موصولة ودخلت الفاء في جوابها تشبيها لها بالشرطية وفي الآية من الوعد والوعيد والترهيب والترغيب ما لا يخفى { وهو السميع } لأقوال عباده { العليم } بما يسرونه وما يعلنونه (4/274)
6 - { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } أي من جاهد الكفار وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات فإنما يجاهد لنفسه : أي ثواب ذلك له لا لغيره ولا يرجع إلى الله سبحانه من نفع ذلك شيء { إن الله لغني عن العالمين } فلا يحتاج إلى طاعتهم كما لا تضره معاصيهم وقيل المعنى : ومن جاهد عدوه لنفسه لا يريد بذلك وجه الله فليس لله حاجة لجهاده والأول أولى (4/274)
7 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم } أي لنغطينها عنهم بالمغفرة بسبب ما عملوا من الصالحات { ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون } أي بأحسن جزاء أعمالهم وقيل بجزاء أحسن أعمالهم والمراد بأحسن مجرد الوصف لا التفضيل لئلا يكون جزاؤهم بالحسن مسكوتا عنه وقيل يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن منه كما في قوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } (4/274)
8 - { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } انتصاب حسنا على أنه نعت مصدر محذوف : أي إيصاء حسنا على المبالغة أو على حذف المضاف : أي ذا حسن هذا مذهب البصريين وقال الكوفيون : تقديره ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا فهو مفعول لفعل مقدر ومنه قول الشاعر :
( عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا )
( خيرا بها كأنما خافونا )
أي يوصينا أن نفعل بها خيرا ومثله قول الحطيئة :
( وصيت من برة قلبا حرا ... بالكلب خيرا والحمأة شرا )
قال الزجاج : معناه ووصينا الإنسان : أن يفعل بوالديه ما يحسن وقيل هو صفة لموصوف محذوف : أي ووصيناه أمرا ذا حسن وقيل هو منتصب على أنه مفعول به على التضمين أي ألزمناه حسنا وقيل منصوب بنزع الخافض : أي ووصيناه بحسن وقيل هو مصدر لفعل محذوف : أي يحسن حسنا ومعنى الآية : التوصية للإنسان بوالديه بالبر بهما والعطف عليهما قرأ الجمهور { حسنا } بضم الحاء وإسكان الميم وقرأ أبو الرجاء وأبو العالية والضحاك بفتحهما وقرأ الجحدري إحسانا وكذا في مصحف أبي { وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } أي طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلها ليس لك به علم بكونه إلها فلا تطعهما فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وعبر بنفي العلم عن نفي الإله لأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه فكيف بما علم بطلانه ؟ وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم { إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } أي أخبركم بصالح أعمالكم وطالحها فأجازي كلا منكم بما يستحقه (4/274)
والموصول في قوله : 9 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } في محل رفع على الابتداء وخبره { لندخلنهم في الصالحين } أي في زمرة الراسخين في الصلاح ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال ويجوز أن يكون المعنى : لندخلنهم في مدخل الصالحين وهو الجنة كذا قيل والأول أولى (4/275)
10 - { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله } أي في شأن الله ولأجله كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به { جعل فتنة الناس } التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى { كعذاب الله } أي جزع من أذهاهم فلم يصبر عليه وجعله في الشدة والعظم كعذاب الله فأطاع الناس كما يطيع الله وقيل هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر قال الزجاج : ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله { ولئن جاء نصر من ربك } أي نصر من الله للمؤمنين وفتح وغلبة للأعداء وغنيمة يغنمونها منهم { ليقولن إنا كنا معكم } أي داخلون معكم في دينكم ومعاونون لكم على عدوكم فكذبهم الله وقال : { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } أي هو سبحانه أعلم بما في صدورهم منهم من خير وشر فكيف يدعون هذه الدعوى الكاذبة وهؤلاء هم قوم ممن كان في إيمانهم ضعف كانوا إذا مسهم الأذى من الكفار وافقوهم وإذا ظهرت قوة الإسلام ونصر الله المؤمنين في موطن من المواطن { ليقولن إنا كنا معكم } وقيل المراد بهذا وما قبله المنافقون قال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بالله بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة افتتنوا وقال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك والظاهر أن هذا النظم من قوله : { ومن الناس من يقول } إلى قوله : { وقال الذين كفروا } نازل في المنافقين لما يظهر من السياق (4/275)
ولقوله : 11 - { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } فإنها لتقرير ما قبلها وتأكيده : أي ليميزن الله بين الطائفتين ويظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى ويصبر في الله حق الصبر ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم وكفر بالله عز و جل وإن خفقت ريح الإسلام وطلع نصره ولاح فتحه رجع إلى الإسلام وزعم أنه من المسلمين (4/276)
12 - { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا } اللام في للذين آمنوا هي لام التبليغ : أي قالوا مخاطبين لهم كما سبق بيانه في غير موضع : أي قالوا لهم اسلكوا طريقتنا وادخلوا في ديننا { ولنحمل خطاياكم } أي إن كان اتباع سبيلنا خطيئة تؤاخذون بها عند البعث والنشور كما تقولون فلنحمل ذلك عنكم فنؤاخذ به دونكم واللام في لنحمل لام الأمر كأنهم أمروا أنفسهم بذلك وقال الفراء والزجاج : هو أمر في تأويل الشرط والجزاء : أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم ثم رد الله عليهم بقوله : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } من الأولى بيانية والثانية مزيدة للاستغراق : أي وما هم بحاملين شيئا من خطيئاتهم التي التزموا بها وضمنوا لهم حملها ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل فقال : { إنهم لكاذبون } فيما ضمنوا به من حمل خطاياكم قال المهدوي هذا التكذيب لهم من الله عز و جل حمل على المعنى لأن المعنى : إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر أوقع عليه التكذيب كما يوقع على الخبر (4/276)
13 - { وليحملن أثقالهم } أي أوزارهم التي عملوها والتعبير عنها بالأثقال للإيذان بأنها ذنوب عظيمة { وأثقالا مع أثقالهم } أي أوزارا مع أوزارهم وهي أوزار من أضلوهم وأخرجوهم عن الهدى إلى الضلالة ومثله قوله سبحانه : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } ومثله قوله صلى الله عليه و سلم : [ من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ] كما في حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم وغيره { وليسألن يوم القيامة } تقريعا وتوبيخا { عما كانوا يفترون } أي يختلقونه من الأكاذيب التي كانوا يأتون بها في الدنيا وقال مقاتل : يعني قولهم : نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { الم * أحسب الناس أن يتركوا } الآية قال : أنزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة لما أنزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا قال : فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه قد أنزل فيكم كذا وكذا فقالوا : نخرج فإن اتبعنا أحد قتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله فيهم { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة نحوه بأخصر منه وأخرج ابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال : نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله { الم * أحسب الناس أن يتركوا } الآية وأخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن مسعود قال : أول من أظهر الله إسلامه سبعة : رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وسمية أم عمار وعمار وصهيب وبلال والمقداد فأما رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنعه الله بعمه أبي طالب وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { أن يسبقونا } قال أن يعجزونا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : قالت أمي لا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يشجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } وأخرجه أيضا الترمذي من حديثه وقال : نزلت في أربع آيات وذكر نحو هذه القصة وقال : حسن صحيح وقد أخرج هذا الحديث أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجه وأبو يعلى وابن حبان وأبو نعيم والبيهقي والضياء عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أتت علي ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { جعل فتنة الناس كعذاب الله } قال : يرتد عن دين الله إذا أوذي في الله (4/276)
أجمل سبحانه قصة نوح تصديقا لقوله في أول السورة { ولقد فتنا الذين من قبلهم } وفيه تثبيت للنبي صلى الله عليه و سلم كأنه قيل له : إن نوحا لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قيلي فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك قيل ووقع في النظم إلا خمسين عاما ولم يقل تسعمائة سنة وخمسين لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه وقد اختلف في مقدار عمر نوح وسيأتي آخر البحث وليس في الآية إلا أنه لبث فيهم هذه المدة وهي لا تدل على أنها جميع عمره فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم وقد تلبث في الأرض بعد هلاكهم بالطوفان والفاء في 14 - { فأخذهم الطوفان } للتعقيب : أي أخذهم عقب تمام المدة المذكورة والطوفان يقال لكل شيء كثير مطيف بجمع محيط بهم من مطل أو قتل أو موت قاله النحاس وقال سعيد بن جبير وقتادة والسدي : هو المطر وقال الضحاك : الغرق وقيل الموت ومنه قول الشاعر :
( أفناهم طوفان موت جارف )
وجملة { وهم ظالمون } في محل نصب على الحال : أي مستمرون على الظلم ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح وذكرهم هذه المدة بطولها (4/279)
15 - { فأنجيناه وأصحاب السفينة } أي أنجيناه نوحا وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه واختلف في عددهم على أقوال { وجعلناها } أي السفينة { آية للعالمين } أي عبرة عظيمة لهم وفي كونها آية وجوه : أحدها أنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة وثانيها أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة وثالثها أن الماء غيض قبل نفاذ الزاد وهذا غير مناسب لوصف السفينة بأن الله جعلها آية وقيل إن الضمير راجع في جعلناها إلى الواقعة أو إلى النجاة أو إلى العقوبة بالغرق (4/279)
16 - { وإبراهيم إذ قال لقومه } انتصاب إبراهيم بالعطف على نوحا وقال النسائي : هو معطوف على الهاء في جعلناها وقيل منصوب بمقدر : أي واذكر إبراهيم وإذ قال منصوب معطوف على الظرفية : أي وأرسلنا إبراهيم وقت قوله لقومه اعبدوا الله أو جعلنا إبراهيم آية وقت قوله هذا : أو واذكر إبراهيم وقت قوله على أن الظرفية بدل اشتمال من إبراهيم { اعبدوا الله واتقوه } أي أفردوه بالعبادة وخصوه بها واتقوه أن تشركوا به شيئا { ذلكم خير لكم } أي عبادة الله وتقواه خير لكم من الشرك ولا خير في الشرك أبدا ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم { إن كنتم تعلمون } شيئا من العلم أو تعلمون علما تميزون به بين ما هو خير وما هو شر قرأ الجمهور وإبراهيم بالنصب ووجهه ما قدمنا وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة بالرفع على الابتداء والخبر مقدر : أي ومن المرسلين إبراهيم (4/279)
17 - { إنما تعبدون من دون الله أوثانا } بين لهم إبراهيم أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر ولا يسمع ولا يبصر والأوثان هي الأصنام وقال أبو عبيد : الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة وقال الجوهري : الوثن الصنم والجمع أوثان { وتخلقون إفكا } أي وتكذبون كذبا على أن معنى تخلقون تكذبون ويجوز أن يكون معناه : تعملون وتنحتون : أي تعلمونها وتنحتونها للإفك قال الحسن : معنى تخلقون تنحتون : أي إنما تعبدون أوثانا وأنتم تصنعونها قرأ الجمهور { تخلقون } بفتح الفوقية وسكون الخاء وضم اللام مضارع خلق و { إفكا } بكسر الهمزة وسكون الفاء وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي والسلمي وقتادة بفتح الخاء واللام مشددة والأصل تتخلقون وروي عن زيد بن عليأنه قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة وقرأ ابن الزبير وفضيل بن ورقان أفكا بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب أو صفة لمصدر محذوف : أي خلقا أفكا { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا } أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق { فابتغوا عند الله الرزق } أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فهو الذي عنده الرزق كله فاسألوه من فضله ووحدوه دون غيره { واشكروا له } أي على نعمائه فإن الشكر موجب لبقائها وسبب للمزيد عليها يقال شكرته وشكرت له { إليه ترجعون } بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره (4/280)
18 - { وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم } قيل هذا من قول إبراهيم : أي وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم وقيل هو من قول الله سبحانه : أي وإن تكذبوا محمدا فذلك عادة الكفار مع من سلف { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } لقومه الذي أرسل إليهم وليس عليه هدايتهم وليس ذلك في وسعه (4/280)
19 - { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده } قرأ الجمهور { أو لم يروا } بالتحتية على الخبر واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قال أبو عبيد : كأنه قال : أو لم ير الأمم وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقريش وقيل هو خطاب من الله لقريش قرأ الجمهور { كيف يبدئ } بذم التحتية من أبدأ يبدئ وقرأ الزبيري وعيسى بن عمر وأبو عمرو بفتحها من بدأ يبدأ وقرأ الزهري كيف بدأ والمعنى ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح ثم يخرجه إلى الدنيا ثم يتوفاه بعد ذلك وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم والواو للعطف على مقدر { إن ذلك على الله يسير } لأنه إذا أراد أمرا قال له كن فيكون (4/280)
ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في الأرض ليتفكروا ويعتبروا فقال : 20 - { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } على كثرتهم واختلاف ألوانهم وطبائعهم وألسنتهم وانظروا إلى مساكن القرون الماضية والأمم الخالية وآثارهم لتعلموا بذلك كمال قدرة الله وقيل إن المعنى : قل لهم يا محمد سيروا ومعنى قوله : { ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } أن الله الذي بدأ النشأة الأولى وخلقها على تلك الكيفية ينشئها نشأة ثانية عند البعث والجملة عطف على جملة سيروا في الأرض داخلة معها في حيز القول وجملة { إن الله على كل شيء قدير } تعليل لما قبلها قرأ الجمهور بـ { النشأة } بالقصر وسكون الشين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمد وفتح الشين وهما لغتان كالرأفة والرآفة وهي منتصبة على المصدرية بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة (4/281)
21 - { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء } أي هو سبحانه بعد النشأة الآخرة يعذب من يشاء تعذيبه وهم الكفار والعصاة ويرحم من يشاء رحمته وهم المؤمنون به المصدقون لرسله العاملون بأوامره ونواهيه { وإليه تقلبون } أي ترجعون وتردون لا إلى غيره (4/281)
22 - { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } قال الفراء : ولا من في السماء بمعجزين الله فيها قال : وهو كما في قول حسان :
( فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء )
أي ومن يمدحه وينصره سواء ومثله قوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } أي إلا من له مقام معلوم والمعنى : أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه وقال قطرب : إن معنى الآية : ولا في السماء لو كنتم فيها كما تقول : لا يفوتني فلان ها هنا ولا بالبصرة : يعني ولا بالبصرة لو صار إليها وقال المبرد : المعنى ولا من في السماء على أن من ليست موصولة بل نكرة وفي السماء صفة لها فأقيمت الصفة مقام الموصوف ورد ذلك علي بن سليمان وقال : لا يجوز ورجح ما قاله قطرب { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } من مزيدة للتأكيد : أي ليس لكم ولي يواليكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذاب الله (4/281)
23 - { والذين كفروا بآيات الله ولقائه } المراد بالآيات التنزيلية أو التكوينية أو جميعهما وكفروا بلقاء الله : أي أنكروا البعث وما بعده ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الكافرين بالآيات واللقاء وهو مبتدأ وخبره { يئسوا من رحمتي } أي إنهم في الدنيا آيسون من رحمة الله لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله ولا ما أخبرتهم به رسله وقيل المعنى : أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله وهي الجنة والمعنى : أنهم أويسوا من الرحمة { وأولئك لهم عذاب أليم } كرر سبحانه الإشارة للتأكيد ووصف العذاب بكوهنه أليما للدلالة على أنه في غاية الشدة (4/281)
24 - { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } هذا رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدم من خطاب محمد صلى الله عليه و سلم على قول من قال : إن قوله قل سيروا في الأرض خطاب محمد صلى الله عليه و سلم وأما على قول من قال : إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام فالكلام في سياقه سابقا ولاحقا : أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم : افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين ثم اتفقوا على تحريقه { فأنجاه الله من النار } وجعلها عليه بردا وسلاما { إن في ذلك } أي في إنجاء الله لإبراهيم { لآيات } بينة : أي دلالات واضحة وعلامات ظاهرة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه : حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثرا بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق وإنما خص المؤمنون لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه وأما من عداهم فهم عن ذلك غافلون قرأ الجمهور بنصب { جواب قومه } على أنه خبر كان وما بعده اسمها وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار والحسن برفعه على أنه اسم كان وما بعده في محل نصب على الخبر (4/282)
25 - { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا } أي قال إبراهيم لقومه : أي للتوادد بينكم والتواصل لاجتماعكم على عبادتها وللخشية من ذهاب المودة فيما بينكم إن تركتم عبادتها قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي { مودة بينكم } برفع مودة غير منونة وإضافتها إلى بينكم وقرأ الأعمش وابن وثاب مودة برفعها منونة وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بنصب { مودة } منونة ونصب { بينكم } على الظرفية وقرأ حمزة وحفص بنصب مودة مضافة إلى بينكم فأما قراءة الرفع فذكر الزجاج لها وجهين : الأول أنها ارتفعت على خبر إن في إنما اتخذتم وجعل ما موصوفة والتقدير : إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم والوجه الثاني أن تكون على إضمار مبتدأ : أي هي مودة أو تلك مودة والمعنى : أن المودة هي التي جمعتكم على عبادة الأوثان واتخاذها قيل ويجوز أن تكون مودة مرتفعة بالابتداء وخبرها في الحياة الدنيا ومن قرأ برفع مودة منونة فتوجيهه كالقراءة الأولى ونصب بينكم على الظرفية ومن قرأ بنصب مودة ولم ينونها جعلها اتخذتم وجعل إنما حرفا واحدا للحصر وهكذا من نصبها ونونها ويجوز أن يكون النصب في هاتين القراءتين على أن المودة علة فهي مفعول لأجله وعلى قراءة الرفع يكون مفعول اتخذتم الثاني محذوفا : أي أوثان آلهة وعلى تقدير أن ما في قوله إنما اتخذتم موصولة يكون المفعول الأول ضميرها : أي اتخذتموه والمفعول الثاني أوثانا { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر منهم فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة وقيل المعنى يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان وتتبرأ الأوثان من العابدين لهم { ويلعن بعضكم بعضا } أي يلعن كل فريق الآخرة على التفسيرين المذكورين { ومأواكم النار } أي الكفار وقيل يدخل في ذلك الأوثان : أي هي منزلكم الذي تأوون إليه { وما لكم من ناصرين } يخلصونكم منها ينصرتهم لكم (4/282)
26 - { فآمن له لوط } أي آمن لإبراهيم لوط فصدقه في جميع ما جاء به وقيل إنه لم يؤمن به إلا حين رأى النار لا تحرقه وكان لوط ابن أخي إبراهيم { وقال إني مهاجر إلى ربي } قال النخعي وقتادة : الذي قال إني مهاجر إلى ربي وهو إبراهيم قال قتادة : هاجر من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة والمعنى : إني مهاجر على مقتضى الحكمة (4/283)
وقيل إن القائل إني مهاجر إلى ربي هو لوط والأول أولى لرجوع الضمير في قوله : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } إلى إبراهيم وكذا في قوله : { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } وكذا في قوله : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف : أي من الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولدا له ويعقوب ولدا لولده إسحاق وجعل في ذريته النبوة والكتاب فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب والمراد التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ومعنى { وآتيناه أجره في الدنيا } أنه أعطي في الدنيا الأولاد وأخبره الله باستمرار النبوة فيهم وذلك مما تقر به عينه ويزداد به سروره وقيل أجره في الدنيا أن أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منهم وقيل أعطاه في الدنيا عملا صالحا وعاقبة حسنة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } : أي الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة وكثرة العطاء من الرب سبحانه وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة وأخرج ابن جرير عن عوف بن أبي شداد قال : إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال : جاء ملك الموت إلى نوح فقال : يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها ؟ قال : كرجل دخل بيتا له بابان فقال في وسط البيت هنيهة ثم خرج من الباب الآخر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وجعلناها آية للعالمين } قال : أبقاها الله آية فهي على الجودي وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وتخلقون إفكا } قال : تقولون كذبا وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { النشأة الآخرة } قال : هي الحياة بعد الموت وهو النشور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { فآمن له لوط } قال : صدق لوط إبراهيم وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال : [ أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان فقال النبي صلى الله عليه و سلم : صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط ] وأخرج ابن منده وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : [ هاجر عثمان إلى الحبشة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنه أول من هاجر بعد إبراهيم ولوط ] وأخرج ابن عساكر والطبراني والحاكم في الكنى عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط مهاجر ] وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : أول من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } قال هما ولدا إبراهيم وفي قوله : { وآتيناه أجره في الدنيا } قال إن الله وصى أهل الأديان بدينه فليس من أهل الأديان دين إلا وهم يقولون إبراهيم ويرضون به وأخرج هؤلاء عنه أيضا في قوله : { وآتيناه أجره في الدنيا } قال الذكر الحسن وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : الولد الصالح والثناء وقول ابن عباس : هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده لأن ولد الولد بمنزلة الولد ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس فهو حبر هذه الأمة وهذه الرواية عنه هي من رواية العوفي وفي الصحيحين [ إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ] (4/283)
قوله : 28 - { ولوطا } منصوب بالعطف على نوحا أو على إبراهيم أو بتقدير اذكر قال الكسائي : المعنى وأنجينا لوطا أو وأرسلنا لوطا { إذ قال لقومه } ظرف للعامل في لوط { إنكم لتأتون الفاحشة } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر أإنكم بالاستفهام وقرأ الباقون بلا استفهام والفاحشة الخصلة المتناهية في القبح وجملة { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } مقررة لكمال قبح هذه الخصلة وأنهم منفردون بذلك لم يسبقهم إلى عملها أحد من الناس على اختلاف أجناسهم (4/285)
ثم بين سبحانه هذه الفاحشة فقال : 29 - { أإنكم لتأتون الرجال } أي تلوطون بهم { وتقطعون السبيل } قيل إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم فقطعوا السبيل بهذا السبب قال الفراء : كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث وقيل كانوا يقطعون الطريق على المارة بقتلهم ونهبهم والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سببا لقطع الطريق من غير تقييد بسبب خاص وقيل إن معنى قطع الطريق : قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال { وتأتون في ناديكم المنكر } النادي والندي والمنتدى مجلس القوم ومتحدثهم
واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه فقيل كانوا يحذفون الناس بالحصباء وستخفون بالغريب وقيل كانوا يتضارطون في مجالسهم وقيل كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا وقيل كانوا يلعبون بالحمام وقيل كانوا يخضبون أصابعهم بالحناء وقيل كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش وقيل يلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات قال الزجاج : وفي هذه إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر وأن لا يجتمعوا على الهزؤ والمناهي ولما أنكر لوط عليهم ما كانوا يفعلونه أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } أي فما أجابوا بشيء إلا بهذا القول رجوعا منهم إلى التكذيب واللجاج والعناد وقد تقدم الكلام على هذه الآية وقد تقدم في سورة النمل { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم } وتقدم في سورة الأعراف { وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطا كان ثابتا على الإرشاد ومكررا للنهي لهم والوعيد عليهم فقالوا له أولا : ائتنا بعذاب الله كما في هذه الآية فلما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا : أخرجوهم كما في الأعراف والنمل وقيل إنهم قالوا أولا أخرجوهم من قريتكم ثم قالوا ثانيا ائتنا بعذاب الله (4/285)
ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة عليهم من الله سبحانه فـ 30 - { قال رب انصرني على القوم المفسدين } بإنزال عذابك عليهم وإفسادهم هو بما سبق من إتيان الرجال وعمل المنكر في ناديهم فاستجاب الله سبحانه وبعث لعذابهم ملائكته وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم (4/287)
ولهذا قال : 31 - { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } أي بالبشارة بالولد وهو إسحاق وبولد الولد وهو يعقوب { قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية } أي قالوا لإبراهيم هذه المقالة والقرية هي قرية سدوم التي كان فيها قوم لوط وجملة { إن أهلها كانوا ظالمين } تعليل للإهلاك : أي أهلاكنا لهم بهذا السبب (4/287)
32 - { قال إن فيها لوطا } أي قال لهم إبراهيم : إن في هذه القرية التي أنتم مهلكوها لوطا فكيف تهلكونها ؟ { قالوا نحن أعلم بمن فيها } من الأخيار والأشرار ونحن أعلم من غيرنا بمكان لوط { لننجينه وأهله } من العذاب قرأ الأعمش وحمزة ويعقوب والكسائي { لننجينه } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد { إلا امرأته كانت من الغابرين } أي الباقين في العذاب وهو لفظ مشترك بين الماضي والباقي وقد تقدم تحقيقه وقيل المعنى : من الباقين في القرية التي سينزل بها العذاب فتعذب من جملتهم ولا تنجو فيمن نجا (4/287)
33 - { ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم } أي لما جاءت الرسل لوطا بعد مفارقتهم إبراهيم سيء بهم : أي جاءه ما ساءه وخاف منه لأنه ظنهم من البشر فخاف عليهم من قومه لكونهم في أحسن صورة من الصور البشرية و أن في أن جاءت زائدة للتأكيد { وضاق بهم ذرعا } أي عجز عن تدبيرهم وحزن وضاق صدره وضيق الذراع كناية عن العجز كما يقال في الكناية عن الفقر : ضاقت يده وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة هود ولما شاهدت الملائكة ما حل به من الحزن والتضجر { قالوا لا تخف ولا تحزن } أي لا تخف علينا من من قومك ولا تحزن فإنهم لا يقدرون علينا { إنا منجوك وأهلك } من العذاب الذي أمرنا الله بأن ننزله بهم { إلا امرأتك كانت من الغابرين } أخبروا لوطا بما جاءوا به من إهلاك قومه وتنجيته وأهله إلا امرأته كما أخبروا بذلك إبراهيم قرأ حمزة والكسائي وشعبة ويعقوب والأعمش { منجوك } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد قال المبرد : الكاف في منجوك مخفوض ولم يجز عطف الظاهر على المضمر المخفوض فحمل الثاني على المعنى وصار التقدير : وننجي أهلك (4/287)
34 - { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء } هذه الجملة مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم من تخصيص التنجية به وبأهله والرجز العذاب أي عذابا من السماء وهو الرمي بالحجارة وقيل إحراقهم بنار نازلة من السماء وقيل هو الخسف والحصب كما في غير هذا الموضع ومعنى كون الخسف من السماء أن الأمر به نزل من السماء قرأ ابن عامر { منزلون } بالتشديد وبها قرأ ابن عباس وقرأ الباقون بالتخفيف والباء في { بما كانوا يفسقون } لسببية : أي لسبب فسقهم (4/287)
35 - { ولقد تركنا منها آية بينة } أي أبقينا من القرية علامة ودلالة بينة وهي الآثار التي بها من الحجارة رجموا بها وخراب الديار وقال مجاهد : هو الماء الأسود الباقي على وجه أرضهم ولا مانع من حمل الآية على جميع ما ذكر وخص من يعقل لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها (4/288)
36 - { وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلناه إليهم وقد تقدم ذكره وذكر نسبه وذكر قومه في سورة الأعراف وسورة هود { قال يا قوم اعبدوا الله } أي أفردوه في العبادة وخصوه بها { وارجوا اليوم الآخر } أي توقعوه وافعلوا اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم قال يونس النحوي : معناه اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } العثو العثى أشد الفساد وقد تقدم تفسيره (4/288)
37 - { فأخذتهم الرجفة } أي الزلزلة وتقدم في سورة هود { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } أي صيحة جبريل وهي سبب الرجفة { فأصبحوا في دارهم جاثمين } أي أصبحوا في بلدهم أو منازلهم جاثمين على الركب ميتين (4/288)
38 - { وعادا وثمود } قال الكسائي : قال بعضهم هو راجع إلى أول السورة : أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عادا وثمود قال : وأحب إلي أن يكون على فأخذتهم الرجفة أي وأخذت عادا وثمود وقال الزجاج : التقدير وأهلكنا عادا وثمود وقيل المعنى : واذكر عادا وثمودا إذ أرسلنا إليهم هودا وصالحا { وقد تبين لكم من مساكنهم } أي وقد ظهر لكم يا معاشر الكفار من مساكنهم بالحجر والأحقاف آيات بينات تتعظون بها وتتفكرون فيها ففاعل تبين محذوف { وزين لهم الشيطان أعمالهم } التي يعملونها من الكفر ومعاصي الله { فصدهم } بهذا التزيين { عن السبيل } أي الطريق الواضح الموصول إلى الحق { وكانوا مستبصرين } أي أهل بصائر يتمكنون بها من معرفة الحق بالاستبدال قال الفراء : كانوا عقلاء ذوي بصائر فلم تنفعهم بصائرهم وقيل المعنى : كانوا مستبصرين في كفرهم وضلالتهم معجبين بها يحسبون أنهم على هدى ويرون أن أمرهم حق فوصفهم بالاستبصار على هذا باعتبار ما عند أنفسهم (4/288)
39 - { وقارون وفرعون وهامان } قال الكسائي : إن شئت كان محمولا على عادا وكان فيه ما فيه وإن شئت كان على فصدهم عن السبيل أي وصد قارون وفرعون وهامان وقيل التقدير : وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل { فاستكبروا في الأرض } عن عبادة الله { وما كانوا سابقين } أي فائتين يقال سبق طالبه : إذا فاته : وقيل وما كانوا سابقين في الكفر بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة (4/288)
40 - { فكلا أخذنا بذنبه } أي عاقبنا بكفره وتكذيبه قال الكسائي : { فكلا أخذنا } أي فأخذنا كلا بذنبه { فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا } أي ريحا تأتي بالحصباء وهي الحصى الصغار فترجمهم بها وهم قوم لوط { ومنهم من أخذته الصيحة } وهم ثمود وأهل مدين { ومنهم من خسفنا به الأرض } وهو قارون وأصحابه { ومنهم من أغرقنا } وهم قوم نوح وقوم فرعون { وما كان الله ليظلمهم } بما فعل بهم لأنه قد أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } باستمرارهم على الكفر وتكذيبهم للرسل وعملهم بمعاصي الله
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وتأتون في ناديكم المنكر } قال : مجلسكم وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا في كتاب المصمت وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله سبحانه : { وتأتون في ناديكم المنكر } قال : كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم ] قال الترمذي : بعد إخراجه وتحسينه : ولا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك وأخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الحذف وهو قول الله سبحانه : { وتأتون في ناديكم المنكر } وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : هو الحذف وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة في الآية قالت : الضراط وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : { فأخذتهم الرجفة } قال : الصيحة وفي قوله : { وكانوا مستبصرين } قال : في الضلالة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا } قال : قوم لوط { ومنهم من أخذته الصيحة } قال : ثمود { ومنهم من خسفنا به الأرض } قال : قارون { ومنهم من أغرقنا } قال : قوم نوح (4/288)
قوله : 41 - { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } يوالونهم ويتكلمون عليهم في حاجاتهم من دون الله سواء كانوا من الجماد أو الحيوان ومن الأحياء أو من الأموات { كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } فإن بيتها لا يغني عنها شيئا لا في حر ولا قر ولا مطر كذلك ما تخذوه وليا من دون الله فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ولا يغني عنهم شيئا قال الفراء : هو مثل ضربه الله لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا قال : ولا يحسن الوقف على العنكبوت لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء شبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به وقد جوز الوقف على العنكبوت التي اتخذت بيتا فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول والعنكبوت تقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وتجمع على عناكب وعنكبوتات وهي الدويبة الصغيرة التي تنسج نسجا رقيقا وقد يقال لها عكنبات ومنه قول الشاعر :
( كأنما يسقط من لغامها ... بيت عكنبات على زمامها )
{ وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } لا بيت أضعف منه مما يتخذه الهوام بيتا ولا يدانيه في الوهى والوهن شيء من ذلك { لو كانوا يعلمون } أن اتخاذهم الأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت بيتا أو لو كانوا يعلمون شيئا من العلم لعلموا بهذا (4/290)
42 - { إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء } ما استفهامية أو نافية أو موصولة ومن للتبعيض أو مزيدة للتوكيد وقيل إن هذه الجملة على إضمار القول : أي قل للكافرين إن الله يعلم أي شيء يدعون من دونه وجزم أبو علي الفارسي بأنها استفهامية وعلى تقدير النفي كأنه قيل : إن الله يعلم أنكم لا تدعون من دونه من شيء : يعني ما تدعونه ليس بشيء وعلى تقدير الموصولة : إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه ويجوز أن تكون ما مصدرية ومن شيء عبارة عن المصدر قرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب { يدعون } بالتحتية واختار هذه القراءة أبو عبيد لذكر الأمم قبل هذه الآية وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب { وهو العزيز الحكيم } الغالب المصدر أفعاله على غاية الإحكام والإتقان (4/290)
43 - { وتلك الأمثال نضربها للناس } أي هذا المثل وغيره من الأمثال التي في القرآن نضربها للناس تنبيها لهم وتقريبا لما بعد من أفهامهم { وما يعقلها } أي يفهمها ويتعقل الأمر الذي ضربناها لأجله { إلا العالمون } بالله الراسخون في العلم المتدبرون المتفكرون لما يتلى عليهم وما يشاهدونه (4/291)
44 - { خلق الله السموات والأرض بالحق } أي بالعدل والقسط مراعيا في خلقها مصالح عباده وقيل المراد بالحق كلامه وقدرته ومحل بالحق النصب على الحال { إن في ذلك لآية للمؤمنين } أي لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته وتفرده بالإلهية وخص المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بذلك (4/291)
45 - { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } أي القرآن وفيه الأمر بالتلاوة للقرآن والمحافظة على قراءته مع التدبر لآياته والتفكر في معانيه { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } أي دم على إقامتها واستمر على أدائها كما أمرت بذلك وجملة { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } تعليل لما قبلها والفحشاء ما قبح من العمل والمنكر ما لا يعرف في الشريعة : أي تمنعه من معاصي الله وتبعده منها ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سببا للانتهاء والمراد هنا الصلوات المفروضة { ولذكر الله أكبر } أي أكبر من كل شيء : أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر قال ابن عطية : وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق : أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله مراقب له وقيل ذكر الله أكبر بالذكر في الآية التسبيح والتهليل يقول هو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر وقيل المراد بالذكر هنا الصلاة : أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وعبر عنها بالذكر كما في قوله : { فاسعوا إلى ذكر الله } للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات وقيل المعنى : ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم واختار هذا ابن جرير ويؤيده حديث [ من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ] { والله يعلم ما تصنعون } لا تخفى عليه من ذلك خافية فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا (4/291)
46 - { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } أي إلا بالخصلة التي هي أحسن وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز و جل والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة { إلا الذين ظلموا منهم } بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم هكذا فسر الآية أكثر المفسرين بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى وقيل معنى الآية : لا تجادلوا من آمن بمحمد من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن : يعني بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أهل الكتاب ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا القول هم الباقون على كفرهم وقيل هذه الآية منسوخة بآيات القتال وبذلك قال قتادة ومقاتل قال النحاس : من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد : إن المراد بالذين ظلموا منهم الذين نصبوا القتال للمسلمين فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا } من القرآن { وأنزل إليكم } من التوراة والإنجيل : أي آمنا بأنهما منزلان من عند الله وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية والبعثة المحمدية ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه { وإلهنا وإلهكم واحد } لا شريك له ولا ضد ولا ند { ونحن له مسلمون } أي ونحن معاشر أمة محمد مطيعون له خاصة لم نقل عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا اخذنا أحبارنا ورهباننا أربابا من دون الله ويحتمل أن يراد ونحن جميعا منقادون له ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب وطاعتهم أبلغ من طاعتهم
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } الآية قال : ذاك مثل ضربه الله لمن عبد غيره أن مثله كمثل بيت العنكبوت وأخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ العنكبوت شيطان مسخها الله فمن وجدها فليقتلها ] وأخرج ابن أبي حاتم عن مزيد بن ميسرة قال : العنكبوت شيطان وأخرج الخطيب عن علي قالك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن ] وروى القرطبي في تفسيره عن علي أيضا أنه قال : طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيت يورث الفقر وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني قال : نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود والثانية على النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } قال : في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمران بن حصين قال سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن قول الله { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فقال : [ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ] وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ] وفي لفظ [ لم يزد بها من الله إلا بعدا ] وأخرج الخطيب عن ابن عمر مرفوعا نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا نحوه قال السيوطي : وسنده ضعيف وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الشعب عنه نحوه موقوفا قال ابن كثير في تفسيره : والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولذكر الله أكبر } يقول : ولذكر الله لعباده إذا ذكروه أكبر من ذكرهم إياه وأخرج الفريابي وسعد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن ربيعة قال : سألني ابن عباس عن قول الله { ولذكر الله أكبر } فقلت : ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير قال : لذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ثم قال : اذكروني أذكركم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير عن ابن مسعود { ولذكر الله أكبر } قال : ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله وأخرج ابن السني وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : لها وجهان : ذكر الله أكبر مما سواه وفي لفظ : ذكر الله عند ما حرمه وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال : ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع لأن الله يقول في كتابه العزيز { ولذكر الله أكبر } وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في الشعب عن عنترة قال : قلت لابن عباس أي العمل أفضل ؟ قال : ذكر الله وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } قال : بلا إله إلا الله وأخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل ألينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ] وأخرج البيهقي في الشعب والديلمي وأبو نصر السجزي في الإبانة عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ] وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن مسعود قال : لا تسألوا أهل الكتاب وذكر نحو حديث جابر ثم قال : فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما وطأ كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه (4/292)
قوله : 47 - { وكذلك أنزلنا إليك الكتاب } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم والإشارة إلى مصدر الفعل كما بيناه في مواضع كثيرة أي ومثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا إليك الكتاب وهو القرآن وقيل المعنى : كما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك القرآن { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به } يعني مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وخصهم بإيتائهم الكتاب لكونهم العاملين به وكأن غيرهم لم يؤتوه لعدم عملهم بما فيه وجحدهم لصفات رسول الله صلى الله عليه و سلم المذكورة فيه { ومن هؤلاء من يؤمن به } الإشارة إلى أهل مكة والمراد أن منهم وهو من قد أسلم من يؤمن به : أي بالقرآن وقيل الإشارة إلى جميع العرب { وما يجحد بآياتنا } أي آيات القرآن { إلا الكافرون } المصممون على كفرهم من المشركين وأهل الكتاب { وما يجحد بآياتنا } أي آيات القرآن { إلا الكافرون } المصممون على كفرهم من المشركين وأهل الكتاب (4/294)
48 - { وما كنت تتلو من قبله من كتاب } الضمير في قبله راجع إلى القرآن لأنه المراد بقوله أنزلنا إليك الكتاب : أي ما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتابا ولا تقدر على ذلك لأنك أمي لا تقرأ ولا تكتب { ولا تخطه بيمينك } أي ولا تكتبه لأنك لا تقدر على الكتابة قال مجاهد كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه و سلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية قال النحاس : وذلك دليل على نبوته لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل كتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم { إذا لارتاب المبطلون } أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا لعله وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة أو من الكتب المدونة في أخبار الأمم فلما كنت أميا لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة ولا محل للشك أبدا بل إنكار من أنكر وكفر مجرد عناد وجحود بلا شبهة وسماهم مبطلين لأن ارتيابهم على تقدير أنه صلى الله عليه و سلم يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته ووضوح معجزاته (4/295)
49 - { بل هو آيات بينات } يعني القرآن { في صدور الذين أوتوا العلم } يعني المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده صلى الله عليه و سلم وحفظوه بعده وقال قتادة و ومقاتل : إن الضمير يرجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم : أي بل محمد آيات بينات : أي ذو آيات وقرأ ابن مسعود بل هي آيات بينات قال الفراء معنى هذه القراءة : بل آيات القرآن آيات بينات واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع بل هذا آيات بينات ولا دليل في هذه القراءة على ذلك لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن كما جاز أن تكون إلى النبي صلى الله عليه و سلم بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج ذلك إلى التأويل والتقدير { وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون } أي المجاوزون للحد في الظلم (4/295)
50 - { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه } أي قال المشركون هذا القول والمعنى : هلا أنزلت عليه آيات كآيات الأنبياء وذلك كآيات موسى وناقة صالح وإحياء المسيح للموتى ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال : { قل إنما الآيات عند الله } ينزلها على من يشاء من عباده ولا قدرة لأحد على ذلك { وإنما أنا نذير مبين } أنذركم كما أمرت وأبين لكم كما ينبغي ليس في قدرتي غير ذلك قرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي { لولا أنزل عليه آية } بالإفراد وقرأ الباقون بالجمع واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله { قل إنما الآيات } (4/295)
51 - { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } هذه الجملة مستأنفة للرد على اقتراحهم وبيان بطلانه : أي أو لم يكف المشركين من الآيات التي اقترحوها هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه فعجزوا ولو أتيتهم بآيات موسى وآيات غيره من الأنبياء لما آمنوا كما لم يؤمنوا بالقرآن الذي يتلى عليهم في كل زمان ومكان { إن في ذلك } الإشارة إلى الكتاب الموصوف بما ذكر { لرحمة } عظيمة في الدنيا والآخرة { وذكرى } في الدنيا يتذكرون بها وترشدهم إلى الحق { لقوم يؤمنون } أي لقوم يصدقون بما جئت به من عند الله فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك (4/295)
52 - { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا } أي قل للمكذبين كفى الله شهيدا بما وقع بيني وبينكم { يعلم ما في السموات والأرض } لا تخفى عليه من ذلك خافية ومن جملته ما صدر بينكم وبين رسوله { والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون } أي أمنوا بما يعبدونه من دون الله وكفروا بالحق وهو الله سبحانه أولئك هم الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة (4/296)
53 - { ويستعجلونك بالعذاب } استهزاء وتكذيبا منهم بذلك كقولهم { أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } { ولولا أجل مسمى } قد جعله الله لعذابهم وعينه وهو القيامة وقال الضحاك : الأجل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب { لجاءهم العذاب } أي لولا ذلك الأجل المضروب لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم وقيل المراد بالأجل المسمى النفخة الأولى وقيل الوقت الذي قدره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر والحاصل أن لكل عذاب أجلا لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه كما في قوله سبحانه : { لكل نبإ مستقر } وجملة { وليأتينهم بغتة } مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها ومعنى بغتة فجأة وجملة { وهم لا يشعرون } في محل نب على الحال : أي حال كونهم لا يعلمون بإتيانه (4/296)
ثم ذكر سبحانه أن موعد عذابهم النار فقال : 54 - { يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } أي يطلبون منك تعجيل عذابهم والحال أن مكان العذاب محيط بهم أي : سيحيط بهم عن قرب فإن ما هو آت قريب والمراد بالكافرين جنسهم فيدخل فيه هؤلاء المستعجلون دخولا أوليا فقوله : { ويستعجلونك بالعذاب } إخبار عنهم وقوله ثانيا { يستعجلونك بالعذاب } تعجب منهم وقيل التكرير للتأكيد (4/296)
ثم ذكر سبحانه كيفية إحاطة العذاب بهم فقال 55 - { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } أي من جميع جهاتهم فإذا غشيهم العذاب على هذه الصفة فقد أحاطت بهم جهنم { ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون } القائل هو الله سبحانه أو بعض ملائكته يأمره : أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي قرأ أهل المدينة والكوفة نقول بالنون وقرأ الباقون بالتحتية واختار القراءة الأخيرة أبو عبيد لقوله : { قل كفى بالله } وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة ويقال ذوقوا
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والإسماعيلي في معجمه عن ابن عباس في قوله : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ ولا يكتب كان أميا وفي قوله : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } قال : كان الله أنزل شأن محمد في التوراة والإنجيل لأهل العلم وعلمه لهم وجعله لهم آية فقال لهم : إن آية نبوته أن يخرج حين يخرج ولا يعلم كتابا ولا يخطه بيمينه وهي الآيات البينات التي قال الله تعالى وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب } الآية قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ ولا يكتب وأخرج الفريابي والدارمي وأبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال : [ جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال النبي صلى الله عليه و سلم : كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم فنزلت { أولم يكفهم } الآية ] وأخرجه الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة فذكره بمعناه وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في الشعب عن الزهري [ أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرأه والنبي صلى الله عليه و سلم يتلون وجهه فقال : والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا نبيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم ] وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن الضريس والحاكم في الكنى والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال : [ دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه و سلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط فقال عبد الله بن الحرث لعمر : أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر : رضينا بالله وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فسرى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم ] وأخرج نحوه عبد الرزاق والبيهقي من طريق أبي قلابة عن عمر وأخرج البيهقي وصححه عن عمر بن الخطاب قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن تعلم التوراة فقال : لا تتعلمها وآمن بها وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوا به ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } قال : جهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه وتكون فيه الشمس والقمر ثم يستوقد فيكون هو جهنم وفي هذا نكارة شديدة فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة (4/296)
لما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ومن المشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه فقال الله سبحانه : 56 - { يا عبادي الذين آمنوا } أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفا وتكريما والذين آمنوا صفة موضحة أو مميزة { إن أرضي واسعة } إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان وفي مكايدة للكفار فاخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي وتتسهل عليكم قال الزجاج : أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله وكذلك يجب على من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته وقال مطرف بن الشخير : المعنى إن رحمتي واسعة ورزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض وقيل المعنى : إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة فاعبدون حتى أورثكموها وانتصاب إياي بفعل مضمر : أي فاعبدوا إياي (4/299)
ثم خوفهم سبحانه بالموت ليهون عليهم أمر الهجرة فقال : 57 - { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى غيره فكل حي في سفر إلى دار القرار وإن طال لبثه في هذه الدار (4/299)
58 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا } في هذا الترغيب إلى الهجرة وأن جزاء من هاجر أن يكون في غرف الجنة ومعنى لنبوئنهم لننزلنهم غرف الجنة وهي علاليها : فانتصاب غرفا على أنه المفعول الثاني على تضمين نبوتهم معنى ننزلنهم أو على الظرفية مع عدم التضمين لأن نبوتهم لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد وإما منصوب بنزع الخافض اتساعا : أي في غرف الجنة وهو مأخوذ من المباءة وهي الإنزال قرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف يا عبادي بإسكان الياء وفتحها الباقون وقرأ ابن عامر { إن أرضي } بفتح الياء وسكنها الباقون وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم يرجعون بالتحتية وقرأ الباقون بالفوقية وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي { لنبوئنهم } بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة وقرأ الباقون بالباء الموحدة ومعنى لنثوينهم بالمثلثة : لنعطينهم غرفا يثوون فيها من الثوى وهو الإقامة قال الزجاج يقال ثوى الرجل : إذا أقام وأثويته : إذا أنزلته منزلا يقيم فيه قال الأخفش : لا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول أثويته الدار بل تقول في الدار وليس في الآية حرف جر في المفعول الثاني قال أبو علي الفارسي : هو على إرادة حرف الجر ثم حذف كما تقول أمرتك الخير : أي بالخير ثم وصف سبحانه تلك الغرف فقال : { تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت الغرف { خالدين فيها } أي في الغرف لا يموتون أبدا أو في الجنة والأول أولى { نعم أجر العاملين } المخصوص بالمدح محذوف : أي نعم أجر العاملين أجرهم والمعنى : العاملين للأعمال الصالحة (4/299)
ثم وصف هؤلاء العاملين فقال : 59 - { الذين صبروا } على مشاق التكليف وعلى أذية المشركين لهم ويجوز أن يكون منصوبا على المدح { وعلى ربهم يتوكلون } أي يفوضون أمورهم إليه في كل إقدام وإحجام (4/300)
ثم ذكر سبحانه ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب فقال : 60 - { وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم } قد تقدم الكلام في كأين وأن أصلها أي دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم كما صرح به الخليل وسيبويه وتقدريها عندهما كشيء كثير من العدد من دابة وقيل المعنى : وكم من دابة ومعنى { لا تحمل رزقها } لا تطيق حمل رزقها لضعفها ولا تدخره وإنما يرزقها الله من فضله ويرزقكم فكيف لا يتوكلون على الله مع قوتهم وقدرتهم على أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها قال الحسن : تأكل لوقتها لا تدخر شيئا قال مجاهد : يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئا { وهو السميع } الذي يسمع كل مسموع { العليم } بكل معلوم (4/300)
ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم وعجب السامع من كونهم يقرون بأن خالقهم ورازقهم ولا يوحدونه ويتركون عبادة غيره فقال : 61 - { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } أي خلقها لا يقدرون على إنكار ذلك ولا يتمكنون من جحوده { فأنى يؤفكون } أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده بالإلهية وأنه وحده لا شريك له والاستفهام للإنكار والاستبعاد (4/300)
ولما قال المشركون لبعض المؤمنين : لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء دفع سبحانه ذلك بقوله : 62 - { الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } أي التوسيع في الرزق والتقتير له هو من الله الباسط القابض يبسطه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته وما يليق بحال عباده من القبض والبسط ولهذا قال : { إن الله بكل شيء عليم } يعلم ما فيه صلاح عباده وفسادهم (4/300)
63 - { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله } أي نزله وأحيا به الأرض الله يعترفون بذلك لا يجدون إلى إنكاره سبيلا ثم لما اعترفوا هذا الاعتراف في هذه الآيات وهو يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة أمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يحمد الله على إقرارهم وعدم جحودهم مع تصلبهم في العناد وتشددهم في رد كل ما جاء به رسول الله من التوحيد فقال : { قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون } أي أحمد الله على أن جعل الحق معك وأظهر حجرك عليهم ثم ذمهم فقال : { بل أكثرهم لا يعقلون } الأشياء التي يتعلقها العقلاء فلذلك لا يعملون بمقتضى ما اعترفوا به مما يستلزم بطلان ما هم عليه عند كل عاقل (4/300)
ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا وأنها من جنس اللعب واللهو : وأن الدار على الحقيقة هي دار الآخرة فقال : 64 - { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب } من جنس ما يلهو به الصبيان ويلعبون به { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } قال ابن قتيبة وأبو عبيدة : إن الحيوان الحياة قال الواحدي : وهو قول جميع المفسرين ذهبوا إلى أن معنى الحيوان ههنا الحياة وأنه مصدر بمنزلة الحياة فيكون كالنزوان والغليان ويكون التقدير : وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان أو ذات الحيوان : أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا ينغضها موت ولا مرض ولا هم ولا غم { لو كانوا يعلمون } شيئا من العلم لما آثروا عليها الدار الفانية المنغصة (4/301)
ثم بين سبحانه أنه ليس المانع لهم من الإيمان إلا مجرد تأثير الحياة فقال : 65 - { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } أي إذا انقطع رجاؤهم من الحياة وخافوا الغرق رجعوا إلى الفطرة فدعوا الله وحده كائنين على صورة المخلصين له الدين بصدق نياتهم وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } أي فاجئوا المعاودة إلى الشرك ودعوا غير الله سبحانه والركوب هو الاستعلاء وهو متعد بنفسه وإنما عدي بكلمة في للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة (4/301)
واللام في 66 - { ليكفروا بما آتيناهم } وفي قوله : { وليتمتعوا } للتعليل : أي فاجئوا الشرك بالله ليكفروا بنعمة الله وليتمتعوا بهما فهما في الفعلين لام كي وقيل هما لاما الأمر تهديدا ووعيدا : أي اكفروا بما أعطيناكم من النعمة وتمتعوا ويدل على هذه القراءة قراءة أبي وتمتعوا وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسر اللام وأما على قراءة الجمهور بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر وفي قوله : { فسوف يعلمون } تهديد عظيم لهم : أي فسيعلمون عاقبة ذلك وما فيه من الوبال عليهم (4/301)
67 - { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } أي ألم ينظروا : يعني كفار قريش أنا جعلنا حرمهم هذا حرما آمنا يأمن فيه ساكنه من الغارة والقتل والسبي والنهب فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيرهم من العرب فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات وتجتاح أموالهم الغزاة وتسفك دماءهم الجنود وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشيطانها وجملة { ويتخطف الناس من حولهم } في محل نصب على الحال : أي يختلسون من حولهم بالقتل والسبي والنهب والخطف : الأخذ بسرعة وقد مضى تحقيق معناه في سورة القصص { أفبالباطل يؤمنون } وهو الشرك بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد { وبنعمة الله يكفرون } يجعلون كفرها مكان شكرها وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره (4/301)
68 - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أحد أظلم منه وهو من زعم أن لله شريكا { أو كذب بالحق لما جاءه } أي كذب بالرسول الذي أرسل إليه والكتاب الذي أنزله على رسوله وقال السدي : كذب بالتوحيد والظاهر شموله لما يصدق عليه أنه حق ثم هدد المكذبين وتوعدهم فقال : { أليس في جهنم مثوى للكافرين } أي مكان يستقرون فيه والاستفهام للتقرير والمعنى : أليس يستحقون الاستقرار فيها وقد فعلوا ما فعلوا (4/302)
ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله أردفه بحال عباده الصالحين فقال : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير لنهدينهم سبلنا : أي الطريق الموصل إلينا قال ابن عطية : هي مكية نزلت قبل فرض الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته وقيل : الآية هذه نزلت في العباد وقال إبراهيم بن أدهم : هي في الذين يعملون بما يعلمون { وإن الله لمع المحسنين } بالنصر والعون ومن كان معه لم يخذل ودخلت لام التوكيد على مع بتأويل كونها اسما أو على أنها حرف ودخلت عليها لإفادة معنى الاستقرار كما تقول : إن زيدا لفي الدار والبحث مقرر في علم النحو
وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب [ قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما نزلت هذه الآية { إنك ميت وإنهم ميتون } قلت يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء ؟ فنزلت { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } ] وينظر كيف صحة هذا فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعد أن يسمع قول الله سبحانه { إنك ميت وإنهم ميتون } يعلم أنه ميت وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا وأنه خاتم الأنبياء فكيف ينشأ عن هذه الآية ما سأل عنه علي رضي الله عنه من قوله أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء فلعل هذه الرواية لا تصح مرفوعة ولا موقوفة وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال [ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخل بعض حيطان المدينة فجعل يلتقط التمر ويأكل فقال لي مالك لا تأكل ؟ قلت : لا أشتهيه يا رسول الله قال : لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعف اليقين قال : فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت { وكأين من دابة لا تحمل رزقها } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبأ رزقا لغد ] وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة وفي إسناده أبو العطوف الجوزي وهو ضعيف وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } قال : باقية وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور ] وهو مرسل (4/302)
سورة الروم
هي ستون آية قال القرطبي كلها مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة الروم بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج عبد الرزاق وأحمد قال السيوطي بسند حسن عن رجل من الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم الصبح فقرأ فيها سورة الروم وأخرج البزار عن الإغر المدني مثله وأخرج عبد الرزاق عن معمر بن عبد الملك بن عمير أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد وابن قانع من طريق عبد الملك بن عمير مثل حديث الرجل الذي من الصحابة وزاد : يتردد فيها فلما انصرف قال : إنما يلبس علينا في صلاتنا قوم يحضرون الصلاة بغير طهور من شهد الصلاة فليحسن الطهور
1 - { الم } قد تقدم الكلام على فاتحة السورة في فاتحة سورة البقرة وتقدم الكلام على محلها من الإعراب ومحل أمثالها في غير موضع من موضع من فواتح السور (4/304)
قرأ الجمهور 2 - { غلبت الروم } بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبينا للمفعول وقرأ علي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري ومعاوية بن قرة وابن عمر وأهل الشام بفتح الغين واللام مبنيا للفاعل قال النحاس : قراءة أكثر الناس { غلبت } بضم الغين وكسر اللام قال أهل التفسير : غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة وقالوا : الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب وافتخروا على المسلمين وقالوا : نحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم وكان المسملون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب (4/304)
ومعنى 4 - { في أدنى الأرض } في أقرب أرضهم من أرض أرضهم من أرض العرب أو في أقرب أرض العرب منهم قيل هي أرض الجزيرة وقيل أذرعات وقيل كسكر وقيل الأردن وقيل فلسطين وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب وقيل إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه والتقدير : في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم ويكون المعنى : في أقرب أرض الروم من العرب قال ابن عطية : إن كانت الوقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } أي والروم من بعد غلب فارس سيغلبون أهل الفرس والغلب والغلبة لغتان والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور وإلى الفاعل على قراءة غيرهم قرأ الجمهور وإلى الفاعل على قراءة غيرهم قرأ الجمهور { سيغلبون } مبنيا للفاعل وقرأ علي وأبو سعيد ومعاوية بن قرة وابن عمر وأهل الشام على البناء للمفعول وابن السميفع من بعد غلبهم بسكون اللام (4/304)
4 - { في بضع سنين } متعلق بما قبله وقد تقدم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف والمراد به هنا ما بين الثلاثة إلى العشرة { لله الأمر من قبل ومن بعد } أي هو المنفرد بالقدرة وإنقاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ووقت غالبيتهم فكل ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه قرأ الجمهور من قبل ومن بعد بضمهما لكونهما مقطوعين عن الإضافة والتقدير : من قبل الغلب ومن بعده أو من قبل كل أمر ومن بعده وحكى الكسائي من قبل ومن بعد بكسر الأول منونا وضم الثاني بلا تنوين وحكى الفراء من قبل ومن بعد بكسرهما من غير تنوين وغلطه النحاس قال شهاب الدين : قد قرئ بكسرهما منونين قال الزجاج : ومعنى الآية : من متقدم ومن متأخر { ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله } أي يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين يفرح المؤمنون بنصر الله للروم لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم ولهذا سر المشركون بنصرهم على الروم وقيل نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس والأول أولى قال الزجاج : هذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه (4/305)
5 - { ينصر من يشاء } أن ينصره { وهو العزيز } الغالب القاهر { الرحيم } الكثير الرحمة لعباده المؤمنين وقيل المراد بالرحمة هنا : الدنيوية وهي شاملة للمسلم والكافر (4/305)
6 - { وعد الله لا يخلف الله وعده } أي وعد الله وعدا لا يخلفه وهو ظهور الروم على فارس { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن الله لا يخلف وعده وهم الكفار وقيل كفار مكة على الخصوص (4/305)
7 - { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } أي يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية وقيل هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع وقيل الظاهر الباطل { وهم عن الآخرة } التي هي النعمة الدائمة واللذة الخالصة { هم غافلون } لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما يحتاج إليه أو غافلة عن الإيمان بها والتصديق بمجيئها (4/305)
8 - { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما } الهمزة للإنكار عليهم والواو للعطف على مقدر كما في نظائره وفي أنفسهم ظرف للتفكر وليس مفعولا للتفكر والمعنى : أن أسباب التفكر حاصلة لهم وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانية الله وصدق أنبيائه وقيل إنها مفعول للتفكر والمعنى : أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئا و ما في ما خلق الله نافية : أي لم يخلقها إلا بالحق الثابت الذي يحق ثبوته أو هي اسم في محل نصبعلى إسقاط الخافض : أي بما خلق الله والعامل فيها إما العلم الذي يؤدي إليه التفكر وقال الزجاج في الكلام حذف : أي فيعلموا فجعل ما معمولة للفعل المقدر لا للعلم المدلول عليه والباء في { إلا بالحق } إما للسببية أو هي ومجرورها في محل نصب على الحال : أي ملتبسة بالحق قال الفراء : معناه إلا للحق : أي للثواب والعقاب وقيل بالحق بالعدل وقيل بالحكمة وقيل بالحق : أي أنه هو الحق وللحق خلقها { وأجل مسمى } معطوف على الحق : أي وبأجل مسمى للسموات والأرض وما بينهما تنتهي إليه وهو يوم القيامة وفي هذا تنبيه على الفناء وأن لكل مخلوق أجلا لا يجاوزه وقيل معنى { وأجل مسمى } أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء { وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } أي لكافرون بالبعث بعد الموت واللام هي المؤكدة والمراد بهؤلاء الكفار على الإطلاق أو كفار مكة (4/306)
9 - { أولم يسيروا في الأرض } الاستفهام للتقريع والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار والفاء في { فينظروا } للعطف على يسيروا داخل تحت ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ والمعنى : أنهم قد ساروا وشاهدوا { كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله وجحودهم للحق وتكذيبهم للرسل وجملة { كانوا أشد منهم قوة } مبينة للكيفية التي كانوا عليها وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية ومعنى { وأثاروا الأرض } حرثوها وقلبوها للزراعة وزاولوا أسباب ذلك ولم يكن أهل مكة أهل حرث { وعمروها أكثر مما عمروها } أي عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء لأن أولئك كانوا أطول منهم أعمارا وأقوى أجساما وأكثر تحصيلا لأسباب المعاش فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس { وجاءتهم رسلهم } بالبينات أي المعجزات وقيل بالأحكام الشرعية { فما كان الله ليظلمهم } بتعذيبهم على غير ذنب { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالكفر والتكذيب (4/306)
10 - { ثم كان عاقبة الذين أساؤوا } أي عملوا السيئات من الشرك والمعاصي { السوأى } هي فعلى من السوء تأنيث الأسوإ وهو الأقبح : أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات وقيل هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة ويجوز أن تكون مصدرا كالبشرى والذكرى وصفت به العقوبة مبالغة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو و { عاقبة } بالرفع على أنها اسم كان وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازيا والخبر السوأى : أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوأى أو الخبر { أن كذبوا } أي كان آخر أمرهم التكذيب عاقبة الذين أساءوا والسوأى مصدر أساءوا أو صفة لمحذوف وقال الكسائي : إن قوله : { أن كذبوا } في محل نصب على العلة : أي لأن كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله أو بأن كذبوا ومن القائلين بأن السوأى جهنم الفراء والزجاج وابن قتيبة وأكثر المفسرين وسميت سوأى لكونها تسوء صاحبها قال الزجاج : المعنى ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم وجملة { وكانوا بها يستهزئون } عطف على كذبوا داخلة معه في حكم العلية على أحد القولين أو في حكم الإسمية لكان أو الخبرية لها على القول الآخر
وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { الم * غلبت الروم } قال : [ كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم كانوا أصحاب أوثان وكان المسملون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل بينهم أجلا خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ألا جعلته أراه قال دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله : { الم * غلبت الروم } فغلبت ثم غلبت بعد بقول الله { لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله } ] قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب نحوه وزاد أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارسا ساء النبي ما جعله أبو بكر من المدة وكرهه وقال : ما دعاك إلى هذا ؟ قال : تصديقا لله ولرسوله فقال : تعرض لهم وأعظم الخطى واجعله إلى بضع سنين فأتاهم أبو بكر فقال : هل لكم في العود فإن العود أحمد ؟ قالوا نعم فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارسا وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا رومية فقمر أبو بكر فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هذا السحت تصدق به وأخرج الترمذي وصححه والدارقطني في الأفراد والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في الشعب عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت { الم * غلبت الروم } الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل الكتاب وفي ذلك يقول الله : { ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله } وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا أهل الكتاب ولا إيمان ببعث فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة { الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين } فقال ناس من قريش لأبي بكر : ذلك بيننا وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر : لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه قال : فسموا بينهم ست سنين فمضت الست قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين لأن الله قال : { في بضع سنين } فأسلم عند ذلك ناس كثير وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي بكر : [ ألا احتطت يا أبا بكر فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ] وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه وأخرج الفريابي والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت { الم * غلبت الروم } قرأها بالنصب : يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله : { يفرح المؤمنون * بنصر الله } قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال : سيجيء أقوام يقرأون { الم * غلبت الروم } يعني بفتح الغين وإنما هي غلبت : يعني بضمها وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } يعني معايشهم متى يغرسون ومتى يزرعون ومتى يحصدون وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { كانوا أشد منهم قوة } قال : كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل (4/306)
قوله : 11 - { الله يبدأ الخلق ثم يعيده } أي يخلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا { ثم إليه ترجعون } إلى موقف الحساب فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وأفراد الضمير في يعيده باعتبار لفظ الخلق وجمعه في ترجعون باعتبار معناه قرأ أبو بكر وأبو عمرو { يرجعون } بالتحتية وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب والالتفات المؤذن بالمبالغة (4/309)
12 - { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } قرأ الجمهور { يبلس } على البناء للفاعل وقرأ السلمي على البناء للمفعول يقال أبلس الرجل : إذا سكت وانقطعت حجته قال الفراء والزجاج : المبلس الساكت المنقطع في حجته الذي أيس أن يهتدي إليها ومنه قول العجاج :
( يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال نعم أعرفه وأبلسا )
وقال الكلبي : أي يئس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب وقد قدمنا تفسير الإبلاس عند قوله : { فإذا هم مبلسون } (4/310)
13 - { ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء } أي لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله { وكانوا } في ذلك الوقت { بشركائهم } أي بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء لله { كافرين } أي جاحدين لكونهم آلهة لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون وقيل إن معنى الآية : كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم والأول أولى (4/310)
14 - { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } أي يتفرق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله : { الله يبدأ الخلق } والمراد بالتفرق أن كل طائفة تنفرد فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة والكافرون إلى النار وليس المراد تفرق كل فرد منهم عن الآخر ومثله قوله تعالى : { فريق في الجنة وفريق في السعير } وذلك بعد تمام الحساب فلا يجتمعون أبدا (4/310)
ثم بين سبحانه كيفية تفرقهم فقال : 15 - { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون } قال النحاس : سمعت الزجاج يقول معنى أما دع ما كنا فيه وخذ في غيره وكذا قال سيبويه : إن معناه : مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه والروضة كل أرض ذات نبات قال المفسرون : والمراد بها هنا الجنة ومعنى يحبرون يسرون والحبور والحبرة السرور : أي فهم في رياض الجنة ينعمون قال أبو عبيد : الروضة ما كان في سفل فإذا كان مرتفعا فهو ترعة وقال غيره : أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع ومنه قول الأعشى :
( ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل )
وقيل معنى يحبرون يكرمون قال النحاس : حكى الكسائي حبرته : أي أكرمته ونعمته والأولى تفسير يحبرون بالسرور كما هو المعنى العربي ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم وفي السرور زيادة على ذلك وقيل التحبير التحسين فمعنى يحبرون يحسن إليهم وقيل هو السماع الذي يسمعونه في الجنة وقيل غير ذلك (4/310)
والوجه ما ذكرناه 16 - { وأما الذين كفروا } بالله { وكذبوا بآياتنا } وكذبوا { ولقاء الآخرة } أي البعث والجنة والنار والإشارة بقوله : { فأولئك } إلى المتصفين بهذه الصفات وهو مبتدأ وخبره { في العذاب محضرون } أي مقيمون فيه وقيل مجموعون وقيل نازلون وقيل معذبون والمعاني متقاربة والمراد دوام عذابهم ثم لما بين عاقبة طائفة المؤمنين وطائفة الكافرين أرشد المؤمنين إلى ما فيه الأجر الوافر والخير العام (4/311)
فقال : 17 - { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } والفاء لترتيب ما بعدها على ما فبلها أي فإذا علمتم ذلك فسبحوا الله : أي نزهوهعما يليق به في وقت الصباح والمساء وفي العشي وفي وقت الظهيرة وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس فقوله حين تمسون صلاة المغرب والعشاء وقوله وحين تصبحون صلاة الفج وقوله وعشيا صلاة العصر وقوله حين تظهرون صلاة الظهر كذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وغيرهما قال الواحدي : قال المفسرون : إن معنى فسبحان الله فصوا لله قال النحاس : أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات قال : وسمعت محمد بن زيد يقول : حقيقته عندي فسبحوا لله في الصلوات لأن التسبيح يكون في الصلاة (4/311)
وجملة 18 - { وله الحمد في السموات والأرض } معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح كما في قوله سبحانه : { فسبح بحمد ربك } وقوله : { ونحن نسبح بحمدك } وقيل معنى وله الحمد : أي الاختصا له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد والأول أولى وقرأ عكرمة حينا تمسون وحينا تصبحون والمعنى : حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه والعشي من صلاة المغرب إلى العتمة قاله الجوهري وقال قوم : هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ومنه قول الشاعر :
( غدونا غدوه سحرا بليل ... عشيا بعد ما انتصف النهار )
وقوله : { عشيا } معطوف على حين وفي السموات متعلق بنفس الحمد : أي الحمد له يكون في السموات والأرض (4/311)
19 - { يخرج الحي من الميت } كالإنسان من النطفة والطير من البيضة { ويخرج الميت من الحي } كالنطفة والبيضة من الحيوان وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران قيل ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم { ويحيي الأرض بعد موتها } أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس وهو شبيه بإخراج الحي من الميت { وكذلك تخرجون } أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم قرأ الجمهور { تخرجون } على البناء للمفعول وقرأ حمزة والكسائي على البناء للفاعل فأسند الخروج إليهم كقوله : { يوم يخرجون من الأجداث } (4/311)
20 - { ومن آياته أن خلقكم من تراب } أي ن آياته الباهرة الدالة على البعث أن خلقكم : أي خلق أباكم آدم من تراب وخلقكم في ضمن خلقه لأن الفرع مستمد من الأصل ومأخوذ منه وقد مضى تفسير هذا في الأنعام وأن في موضع رفع بالابتداء ومن آياته خبره { ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } في الأرض وإذا هي الفجائية : أي ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشرا تنتشرون في الأرض وإذا الفجائية وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع : من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما مكسوا لحما فاجأ البشرية والإنتشار ومعنى تنتشرون : تنصرفون فيما هو قوام معايشكم (4/312)
21 - { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا } أي ومن علاماته ودلالاته الدالة على البعث أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا : أي من جنسكم في البشرية والإنسانية وقيل المراد حواء فإنه خلقها من ضلع آدم { لتسكنوا إليها } أي تألفوها وتميلوا إليها فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ولا يميل قلبه إليه { وجعل بينكم مودة ورحمة } أي ودادا وتراحما بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة فضلا عن مودة ورحمة وقال مجاهد : المودة الجماع والرحمة الولد وبه قال الحسن وقال السدي : المودة المحبة والرحمة الشفقة وقيل المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها من أن يصيبها بسوء وقوله أن خلق لكم في موضع رفع على الابتداء ومن آياته خبره { إن في ذلك } المذكور سابقا { لآيات } عظيمة الشأن بديعة البيان واضحة الدلالة على قدرته سبحانه على البعث والنشور { لقوم يتفكرون } لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال لكون التفكر مادة له يتحصل عنه وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلا كالأنعام (4/312)
22 - { ومن آياته خلق السموات والأرض } فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة التي هي أجرام السموات والأرض وجعلها باقية ما دامت هذه الدار وخلق فيها من عجائب الصنع وغرائب التكوين ما هو عبرة للمعتبرين قادر عى أن يخلقكم بعد موتكم وينشركم من قبوركم { واختلاف ألسنتكم } أي لغاتكم من عرب وعجم وترك وروم وغير ذلك من اللغات { وألوانكم } من البياض والسواد والحمرة والصفرة والزرقة والخضرة مع كونكم أولاد رجل واحد وأم واحدة ويجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية وفصل واحد وهو الناطقية حتى صرتم متميزين في ذات بينكم لا يلتبس هذا بهذا بل كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلا العالمو ولا يفهمه إلا المتفكرون { إن في ذلك لآيات للعالمين } الذين هم من جنس هذا العالم من غير فرق بين بر وفاجر قرأ الجمهور بفتح لام العالمين وقرأ حفص وحده بكسرها قال الفراء : وله وجه جيد لأنه قد قال : { لآيات لقوم يعقلون } { لآيات لأولي الألباب } { وما يعقلها إلا العالمون } (4/312)
23 - { ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } قيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار وقيل المعنى صحيح من دون تقديم وتأخير : أي ومن آياته العظيمة أنكم تنامون بالليل وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة كوقت القيلولة وابتغاؤكم من فضله فيهما فإن كل واحد منهما يقع فيه ذلك وإن كان ابتغاء الفضل في النهار أكثر والأول هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى والآخر هو الناسب للنظم القرآني ها هنا ووجه ذكر النوم والابتغاء ها هنا وجعلهما من جملة الأدلة على البعث أن النوم شبيه بالموت والتصرف في الحاجات والسعي في المكاسب شبيه يالحياة بعد الموت { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } أي يسمعون الآيات والمواعظ سماع متفكر متدبر فيستدلون بذلك على البعث (4/313)
24 - { ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا } المعنى : أن يريكم فحذف أن لدلالة الكلام عليه كما قال طرفة :
( ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي )
والتقدير : أن أحضر فلما حذف الحرف في الآية والبيت بطل عمله ومنه المثل المشهور تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وقيل هو على التقديم والتأخير : أي ويريكم البرق من آياته فيكون من عطف جملة فعلية على جملة إسمية ويجوز أن يكون يريكم صفة لموصوف محذوف : أي ومن آياته آية يريكم بها وفيها البرق وقيل التقدير : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته قال الزجاج : فيكون من عطف جملة علة جملة قال قتادة : خوفا للمسافر وطمعا للمقيم وقال الضحاك : خوفا من الصواعق وطمعا في الغيث وقال يحيى بن سلام خوفا من البرد أن يهلك الزرع وطمعا في المطر أن يحيي الزرع وقال ابن بحر : خوفا أن يكون البرق برقا خلبا لا يمطر وطمعا أن يكون ممطرا وأنشد :
( لا يكن برقك برقا خلبا ... إن خير البرق ما الغيث معه )
وانتصاب خوفا وطمعا على العلة { وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها } أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدل بها على القدرة الباهرة (4/312)
25 - { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } أي قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه وقدرته بلا عمد يعمدهما ولا مستقر يستقران عليه قال الفراء : يقول أن تدوما قائمتين بأمره { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } أي ثم بعد موتكم ومصيركم في القبور إذا دعاكم دعوة واحدة فاجأتم الخروج منها بسرعة من غير تلبث ولا توقف كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع ومن الأرض متعلق بدعا : أي دعاكم من الأرض التي أنتم فيها كما يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي أو متعلق بمحذوف هو صفة لدعوة أو متعلق بمحذوف يدل عليه تخرجون : أي خرجتم من الأرض ولا يجوز أن يتعلق بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدم بيانه وقد أجمع القراء على فتح التاء في تخرجون هنا وغلط من قال إنه قرئ هنا بضمها على البناء للمفعول وإنما قرئ بضمها في الأعراف (4/314)
26 - { وله من في السموات والأرض } من جميع المخلوقات ملكا وتصرفا وخلقا ليس لغيره في ذلك شيء { كل له قانتون } أي مطيعون طاعة انقياد وقيل مقرون بالعبودية وقيل مصلون وقيل قائمون يوم القيامة كقوله : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } : أي للحساب وقيل بالشهادة أنهم عباده وقيل مخلصون (4/314)
27 - { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } بعد الموت فيحييه الحياة الدائمة { وهو أهون عليه } أي هين عليه لا يستصعبه أو أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم وعلى ما يقوله بعضكم لبعض وإلا فلا شيء في قدرته بعضه أهون من بعض بل كل الأشياء مستوية يوجدها بقوله كن فتكون قال أبو عبيد : من جعل أهون عبارة عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله : { وكان ذلك على الله يسيرا } وبقوله : { ولا يؤوده حفظهما } والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيرا كما في قول الفرزدق :
( إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول )
أي عزيزة طويلة وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك :
( تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد )
أي لست بواحد ومثله قول الآخر :
( لعمرك إن الزبرقان لباذل ... لمعروفه عند السنين وأفضل )
أي وفاضل وقرأ عبد الله بن مسعود وهو عليه هين وقال مجاهد وعكرمة والضحاك : إن الإعادة أهون عليه : أي على الله من البداية : أي أيسر وإن كان جميعه هينا وقيل المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداية وقيل الضمير في عليه للخلق : أي وهو أهون على الخلق لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم كونوا فيكونون فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخر النشأة { وله المثل الأعلى } قال الخليل : المثل الصفة : أي وله الوصف الأعلى { في السموات والأرض } كما قال : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي صفتها وقال مجاهد : المثل الأعلى قول لا إله إلا الله وبه قال قتادة وقال الزجاج { وله المثل الأعلى في السموات والأرض } أي قوله وهو أهون عليه قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل وقيل المثل الأعلى هو أنه ليس كمثله شيء وقيل هو أن ما أراده كان بقول كن وفي السموات والأرض متعلق بمضمون الجملة المتقدمة والمعنى : أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى ووصف به في السموات والأرض ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأعلى أو من الضمير في الأعلى { وهو العزيز } في ملكه القادر الذي لا يغالب { الحكيم } في أقواله وأفعاله
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يبلس } قال : يبتئس وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم { يبلس } قال : يكتئب وعنه الإبلاس : الفضيحة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يحبرون } قال : يكرمون وأخرج الديلمي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان يوم القيامة قال الله : أين الذين كانوا ينزهون أسماعهم وأبصارهم عن مزامير الشيطان ميزوهم فيميزون في كثب المسك والعنبر ثم يقول للملائكة : أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي قال : فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط ] وأخرج الدينوري في المجالسة عن مجاهد قال : ينادي مناد يوم القيامة فذكر نحوه ولم يسم من رواه له عن رسول الله وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والأصبهاني في الترغيب عن محمد بن المنكدر نحوه وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس قال في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام فيخرج أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعا نحوه وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أبي رزين قال : جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال نعم فقرأ { فسبحان الله حين تمسون } صلاة المغرب { وحين تصبحون } صلاة الصبح { وعشيا } صلاة العصر { وحين تظهرون } صلاة الظهر وقرأ { ومن بعد صلاة العشاء } وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة { فسبحان الله حين تمسون } قال : المغرب والعشاء { وحين تصبحون } الفجر { وعشيا } العصر { وحين تظهرون } الظهر وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل يوم وليلة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ] وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قال حين يصبح : { سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون * يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون } أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته ] وإسناده ضعيف وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { كل له قانتون } يقول مطيعون : يعني الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وهو أهون عليه } قال : أيسر وأخرج ابن الأنباري عنه أيضا في قوله : { وهو أهون عليه } قال : الإعادة أهون على المخلوق لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون وابتدأ الخلقة من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { وله المثل الأعلى } يقول : ليس كمثله شيء (4/314)
قوله : 28 - { ضرب لكم مثلا } قد تقدم تحقيق معنى المثل ومن في { من أنفسكم } لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محل نصب صفة لمثلا : أي مثلا منتزعا ومأخوذا من أنفسكم فإنها أقرب شيء منكم وأبين من غيرها عندكم فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك كان أظهر دلالة وأعظم وضوحا ثم بين المثل المذكور فقال : { هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم } من في مما ملكت للتبعيض وفي من شركاء زائدة للتأكيد والمعنى هل لكم شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم وهم العبيد والإماء والاستفهام للإنكار وجملة { فأنتم فيه سواء } جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي ومحققة لمعنى الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم : أي هل ترضون لأنفسكم والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم في البشرية أن يساووكم في التصرف بما رزقناكم من الأموال ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم { تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } الكاف نعت مصدر محذوف : أي تخافون الأحرار المشابهين لكم في الحرية وملك الأموال وجواز التصرف والمقصود نفي الأشياء الثلاثة الشركة بينهم وبين المملوكين والاستواء معهم وخوفهم إياهم وليس المراد ثبوت الشركة ونفي الاستواء والخوف كما قيل في قولهم : ما تأتينا فتحدثنا والمراد : إقامة الحجة على المشركين فإنهم لا بد أن يقولوا لا نرضى بذلك فيقال لهم فكيف تنزهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية وتجعلون عبيد الله شركاء له ؟ فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه والخلق كلهم عبيد الله تعالى ولم يبق إلا أنه الرب وحده لا شريك له قرأ الجمهور { أنفسكم } بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله { كذلك نفصل الآيات } تفصيلا واضحا وبيانا جليا { لقوم يعقلون } لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية والتكوينية باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها (4/317)
ثم أضرب سبحانه عن مخاطبة المشركين وإرشادهم إلى الحق بما ضربه لهم من المثل فقال : 29 - { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم } أي لم يعقلوا الآيات بل اتبعوا أهواءهم الزائغة وآرائهم الفاسدة الزائفة ومحل بغير علم النصب على الحال : أي جاهلين بأنهم على ضلالة { فمن يهدي من أضل الله } أي لا أحد يقدر على هدايته لأن الرشاد والهداية بتقدير الله وإرادته { وما لهم من ناصرين } أي ما لهؤلاء الذين أضلهم الله من ناصرين ينصرونهم ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه (4/318)
ثم أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بتوحيده وعبادته كما أمره فقال : 30 - { فأقم وجهك للدين حنيفا } شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه وإقباله عليه وانتصاب حنيفا على الحال من فاعل أقم أو من مفعوله : أي مائلا إليه مستقيما عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة { فطرة الله التي فطر الناس عليها } الفطرة في الأصل : الخلقة والمراد بها هنا الملة وهي الإسلام والتوحيد قال الواحدي : هذا قول المفسرين في نصرة الله والمراد بالناس هنا : الذين فطرهم الله على الإسلام لأن المشرك لم يفطر على الإسلام وهذا الخطاب وإن كان خاصا برسول الله فأمته داخلة معه فيه قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل : والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم وأنهم جميعا مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من مولود إلا يولد على الفطرة ] وفي رواية [ على هذه الملة ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ] ثم يقول أبو هريرة : واقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } وفي رواية حتى تكونوا أنتم تجدعونها وسيأتي في آخر البحث ما ورد معاضدا لحديث أبي هريرة هذا فكل فرد من أفراد الناس مفطور : أي مخلوق على ملة الإسلام ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم وقول جماعة من المفسرين وهو الحق والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف وقال آخرون : هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة والفاطر في كلام العرب هو المبتدئ وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة وإهمال معناها شرعا والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مرادا بها المعنى اللغوي كقوله تعالى : { الحمد لله فاطر السموات والأرض } أي خالقهما ومبتديهما وكقوله : { وما لي لا أعبد الذي فطرني } إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة وهو ما ذكره الأولون كما بيناه وانتصاب فطرة على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها وقال الزجاج : فطرة منصوب بمعنى اتبع فطرة الله قال : لأن معنى { فأقم وجهك للدين } اتبع الدين واتبع فطرة الله وقال ابن جرير : هي مصدر من معنى فأقم وجهك لأن معنى ذلك فطرة الله الناس على الدين وقيل هي منصوبة على الإغراء : أي الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله ورد هذا الوجه أبو حيان وقال : إن كلمة الإغراء لا تضمر إذ هي عوض عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العوض والمعوض عنه وهو إجحاف وأجيب بأن هذا رأي البصريين وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك وجملة { لا تبديل لخلق الله } تعليل لما قبلها من الأمر بلزوم الفطرة : أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه وقيل هو نفي معناه النهي : أي لا تبدلوا خلق الله قال مجاهد وإبراهيم النخعي : معناه لا تبديل لدين الله قال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد : هذا في المعتقدات وقال عكرمة : إن المعنى لا تغيير لخلق في البهائم بأن تخصى فحولها { ذلك الدين القيم } أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له هو الدين القيم أو لزوم الفطرة هو الدين القيم { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به (4/318)
31 - { منيبين إليه } أي راجعين إليه بالتوبة والإخلاص ومطيعين له في أوامره ونواهيه ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
( فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا )
قال الجوهري : أناب إلى الله : أقبل وتاب وانتصابه على الحال من فاعل أقم قال المبرد : لأن معنى أقم وجهك : أقيموا وجوهكم قال الفراء : المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين وكذا قال الزجاج وقال تقديره : فأقم وجهك وأمتك فالحال من الجميع وجاز حذف المعطوف لدلالة منيبين عليه وقيل هو منصوب على القطع وقيل على أنه خبر لكان محذوفة : أي وكونوا منيبين إليه لدلالة ولا تكونوا من المشركين على ذلك ثم أمرهم سبحانه بالتقوى بعد أمرهم بالإنابة فقال : { واتقوه } أي باجتناب معاصيه وهو معطوف على الفعل المقدر ناصبا لمنيبين { وأقيموا الصلاة } التي أمرتم بها { ولا تكونوا من المشركين } بالله (4/319)
وقوله : 32 - { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } هو بدل مما قبله بإعادة الجار والشيع الفرق : أي لا تكونوا من الذين تفرقوا فرقا في الدين يشايع بعضهم بعضا من أهل البدع والأهواء وقيل المراد بالذين فرقوا دينهم شيعا اليهود والنصارى وقرأ حمزة والكسائي { فرقوا دينهم } ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب : أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه وهو التوحيد وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنعام { كل حزب بما لديهم فرحون } أي كل فريق بما لديهم من الدين المبني على غير الصواب مسرورون مبتهجون يظنون أنهم على الحق وليس بأيديهم منه شيء وقال الفراء : يجوز أن يكون قوله من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا مستأنفا كما يجوز أن يكون متصلا بما قبله (4/320)
33 - { وإذا مس الناس ضر } أي قحط وشدة { دعوا ربهم } أن يرفع ذلك عنهم واستغاثوا به { منيبين إليه } أي راجعين إليه ملتجئين به لا يعولون على غيره وقيل مقبلين عليه بكل قلوبهم { ثم إذا أذاقهم منه رحمة } بإجابة دعائهم ورفع تلك الشدائد عنهم { إذا فريق منهم بربهم يشركون } إذا هي الفجائية وقعت جواب الشرط لأنها كالفاء في إفادة التعقيب : أي فاجأ فريق منهم الإشراك وهم الذين دعوه فخلصهم مما كانوا فيه وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم (4/320)
واللام في 34 - { ليكفروا بما آتيناهم } هي لام كي وقيل لام الأمر لقصد الوعيد والتهديد وقيل هي لام العاقبة ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال : { فتمتعوا فسوف تعلمون } ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم قرأ الجمهور { فتمتعوا } على الخطاب وقرأ أبو العالية بالتحتية على البناء للمفعول وفي مصحف ابن مسعود فليتمتعوا (4/320)
35 - { أم أنزلنا عليهم سلطانا } أم هي المنقطعة والاستفهام للإنكار والسلطان الحجة الظاهرة { فهو يتكلم } أي يدل كما في قوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } قال الفراء : إن العرب تؤنث السلطان يقولون : قضت به عليك السلطان فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح وبه جاء القرآن والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة وقيل المراد بالسلطان هنا الملك { بما كانوا به يشركون } أي ينطق بإشراكهم بالله سبحانه ويجوز أن تكون الباء سببية : أي بالأمر الذي بسببه يشركون (4/320)
36 - { وإذا أذقنا الناس رحمة } أي خصبا ونعمة وسعة وعافية { فرحوا بها } فرح بطر وأشر لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } ثم قال سبحانه : { وإن تصبهم سيئة } شدة على أي صفة { بما قدمت أيديهم } أي بسبب ذنوبهم { إذا هم يقنطون } القنوط الإياس من الرحمة كذا قال الجمهور وقال الحسن : القنوط ترك فرائض الله سبحانه قرأ الجمهور { يقنطون } بضم النون وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسرها { يقنطون } (4/321)
37 - { أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء } من عباده ويوسع له { ويقدر } أي يضيق على من يشاء لمصلحة في التوسيع لمن وسع له وفي التضييق على من ضيق عليه { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } فيستدلون على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع وغريب الخلق
وقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان يلبي أهل الشرك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك فأنزل الله { هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء } الآية وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال هي في الآلهة وفيه يقول : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { لا تبديل لخلق الله } قال : دين الله { ذلك الدين القيم } قال : القضاء القيم وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن الأسود بن سريع [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين فانتهى القتل إلى الذرية فلما جاءوا قال النبي صلى الله عليه و سلم : ما حملكم على قتل الذرية ؟ قالوا : يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين قال : وهل خياركم إلا أولاد المشركين ؟ والذي نفسي بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ] وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا ] رواه أحمد عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر وقال الإمام أحمد في المسند : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حماد : [ ان رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب يوما فقال في خطبته حاكيا عن الله سبحانه : وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ] الحديث (4/321)
لما بين سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه فقال : 38 - { فآت ذا القربى حقه } والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وأمته أسوته أو لكل مكلف له مال وسع الله به عليه وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب فهو صدقة مضاعفة وصلة رحم مرغوب فيها والمراد الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر { والمسكين وابن السبيل } أي وآت المسكين وابن السبيل حقهما الذي يستحقانه ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان ولكون ذلك واجبا لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول
وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فقيل هي منسوخة بآية المواريث وقيل محكمة وللقريب في مال قريبه الغني حق واجب وبه قال مجاهد وقتادة قال مجاهد : لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاج قال مقاتل : حق المسكين أن يتصدق عليه وحق ابن السبيل الضيافة وقيل المراد بالقربى النبي صلى الله عليه و سلم قال القرطبي : والأول أصح فإن حقهم مبين في كتاب الله عز و جل في قوله : { فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى } وقال الحسن : إن الأمر في إيتاء القربى للندب { ذلك خير للذين يريدون وجه الله } أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرب إلى الله سبحانه { وأولئك هم المفلحون } أي الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالا لأمره (4/322)
39 - { وما آتيتم من ربا } قرأ الجمهور { آتيتم } بالمد بمعنى أعطيتم وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم وأجمعوا على القراءة بالمد في قوله { وما آتيتم من زكاة } وأصل الربا الزيادة وقراءة القصر تؤول إلى قراءة المد لأن معناها ما فعلتم على وجه الإعطاء كما تقول : أتيت خطأ وأتيت صوابا والمعنى في الآية : ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض { ليربو في أموال الناس } أي ليزيد ويزكوا في أموالهم { فلا يربو عند الله } أي لا يبارك الله فيه قال السدي : الربا في هذا الموضع الهدية يهيدها الرجل لأخيه يطلب المكافأة لأن ذلك لا يربو عند الله لا يؤجر عليه صاحبه ولا إثم عليه وهكذا قال قتادة والضحاك قال الواحدي : وهذا قول جماعة المفسرين قال الزجاج : يعني دفع الإنسان الشيء ليعوض أكثر منه وذلك ليس بحرام ولكنه لا ثواب فيه لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه وقال الشعبي : معنى الآية أن ما خدم به الإنسان أحدا لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة لا يربو عند الله وقيل هذا كان حراما على النبي صلى الله عليه و سلم على الخصوص لقوله سبحانه : { ولا تمنن تستكثر } ومعناها : أن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضا عنه وقيل إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب قال ابن عطية : وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه قال عكرمة : الربا ربوان : فربا حلال وربا حرام فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه : يعني كما في هذه الآية وقيل إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرم فمعنى لا يربو عند الله على هذا القول لا يحكم به بل هو للمأخوذ منه
قال المهلب : اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب فقال مالك : ينظر فيه فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك مثل هبة الفقير للغني وهبة الخادم للمخدوم وهبة الرجل لأميره وهو أحد قولي الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يكون له ثواب إذا لم يشترط وهو قول الشافعي الآخر قرأ الجمهور { ليربو } بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطابا للجماعة بمعنى لتكونوا ذوي زيادات وقرأ أبو مالك لتربوها ومعنى الآية : أنه لا يزكو عند الله ولا يثيب عليه لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه خالصا له { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله } أي وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة وإنما تقصدون بها ما عند الله { فأولئك هم المضعفون } المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الفراء : هو نحو قولهم : مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت له إبل سمان أو عطاش أو ضعيفة وقرأ أبي المضعفون بفتح العين اسم مفعول (4/323)
40 - { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين وأنه الخالق الرزاق المميت المحيي ثم قال على جهة الاستفهام { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } ومعلوم أنهم يقولون ليس فيهم من يفعل شيئا من ذلك فتقوم عليهم الحجة ثم نزه سبحانه نفسه فقال : { سبحانه وتعالى عما يشركون } أي نزهوه تنزيها وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك وقوله : من شركائكم خبر مقدم ومن للتبعيض والمبتدأ هو الموصول : أعني من يفعل ومن ذلكم متعلق بمحذوف لأنه حال من شيء المذكور بعده ومن في من شيء مزيدة للتوكيد وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة ويجعلون لهم نصيبا من أموالهم (4/323)
41 - { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } بين سبحانه أن الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد في العالم
واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور فقيل هو القحط وعدم النبات ونقصان الرزق وكثرة الخوف ونحو ذلك وقال مجاهد وعكرمة : فساد البر قتل ابن آدم أخاه : يعني قتل قابيل لهابيل وفي البحر الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا
وليت شعري أي دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب فإن الآية نزلت على محمد صلى الله عليه و سلم والتعريف في الفساد يدل على الجنس فيعم كل فساد واقع في حيزي البر والبحر وقال السدي : الفساد الشرك وهو أعظم الفساد ويمكن أن يقال إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه وقيل الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش وقيل الفساد قطع السبل والظلم وقيل غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعا إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم أو راجعا إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار والبر والبحر هما المعروفان المشهوران وقيل البر الفيافي والبحر القرى التي على ماء قاله عكرمة والعرب تسمي الأمصار البحار قال مجاهد : البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر والبحر ما كان على شط نهر والأول أولى ويكون معنى البر مدن البر ومعنى البحر مدن البحر وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها والباء في بما كسبت للسببية وما إما موصولة أو مصدرية { ليذيقهم بعض الذي عملوا } اللام متعلقة بظهر وهي لام العلة : أي ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء عملهم { لعلهم يرجعون } عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله (4/324)
42 - { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل } لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بين لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأول وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار وجملة { كان أكثرهم مشركين } مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه (4/325)
43 - { فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له } هذا خطاب لرسول الله صلى الله علهي وسلم وأمته أسوته فيه كأن المعنى إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدم فأقم وجهك يا محمد إلخ قال الزجاج : اجعل جهتك اتباع الدين القيم وهو الإسلام المستقيم من قبل أن يأتي يوم يعني يوم القيامة لا مرد له لا يقدر أحد على رده والمرد مصدر رد وقيل المعنى : أوضح الحق وبالغ في الأعذار و { من الله } يتعلق بيأتي أو بمحذوف يدل عليه المصدر : أي لا يرده من الله أحد وقيل يجوز أن يكون المعنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى { يومئذ يصدعون } أصله يتصدعون والتصدع التفرق يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ومنه قول الشاعر :
( وكنا كندماني جذيمة برهة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا )
والمراد بتفرقهم ها هنا أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة وأهل النار يصيرون إلى النار (4/325)
44 - { من كفر فعليه كفره } أي جزاء كفره وهو النار { ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح والمهاد الفراش وقد مهدت الفراش مهدا : إذا بسطته ووطأته فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها وقيل المعنى : فعلى أنفسهم يشفقون من قولهم في المشفق : أم فرشت فأنامت وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص وقال مجاهد فلأنفسهم يمهدون في القبر (4/325)
واللام في 45 - { ليجزي الذين آمنوا } متعلقة بيصدعون أو يمهدون : أي يتفرقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه { من فضله } أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم وقيل يتعلق بمحذوف قال ابن عطية : تقديره ذلك ليجزي وتكون الإشارة إلى ما تقدم من قوله : من عمل ومن كفر وجعل أبو حيان قسيم قوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات محذوفا لدلالة قوله : { إنه لا يحب الكافرين } عليه لأنه كناية عن بغضه لهم الموجب لغضبه سبحانه وغضبه يستتبع عقوبته (4/326)
46 - { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } أي ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدمه كما في قوله سبحانه : { بشرا بين يدي رحمته } قرأ الجمهور الرياح وقرأ الأعمش الريح بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله مبشرات واللام في قوله : { وليذيقكم من رحمته } متعلقة بيرسل : أي يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته : يعني الغيث والخصب وقيل هو متعلق بمحذوف : أي وليذيقكم أرسلها وقيل الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك فتتعلق اللام بيرسل { ولتجري الفلك بأمره } معطوف على ليذيقكم من رحمته : أي يرسل الرياح لتجري الفلك في البحر عند هبوبها ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله بأمره { ولتبتغوا من فضله } أي تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن { ولعلكم تشكرون } هذه النعم فتفردون الله بالعبادة وتستكثرون من الطاعة
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وما آتيتم من ربا } الآية قال : الربا ربوان : ربا لا بأس به وربا لا يصلح فأما الربا الذي لا بأس به فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها وأضعافها وأخرج البيهقي عنه قال : هذا هو الربا الحلال أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر ونهى النبي صلى الله عليه و سلم خاصة فقال : { ولا تمنن تستكثر } وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا { وما آتيتم من زكاة } قال : هي الصدقة وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ظهر الفساد في البر والبحر } قال : البر البرية التي ليس عندها نهر والبحر ما كان من المدائن والقرى على شط نهر وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا وأخرج ابن المنذر عنه أيضا { لعلهم يرجعون } قال : من الذنوب وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا { يصدعون } قال : يتفرقون (4/326)
قوله : 47 - { ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم } كما أرسلناك إلى قومك { فجاؤوهم بالبينات } أي بالمعجزات والحجج النيرات فانتقمنا منهم : أي فكفروا { فانتقمنا من الذين أجرموا } أي فعلوا الإجرام وهي الآثام { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد وفيه تشريف للمؤمنين ومزيد تكرمة لعباده الصالحين ووقف بعض القراء على حقا وجعل اسم كان ضميرا فيها وخبرها حقا : أي وكان الانتقام حقا قال ابن عطية : وهذا ضعيف والصحيح أن نصر المؤمنين اسمها وحقا خبرها وعلينا متعلق بحقا أو بمحذوف هو صفة له (4/327)
28 - { الله الذي يرسل الرياح } قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وابن محيصن يرسل { الريح } بالإفراد وقرأ الباقون { الرياح } قال أبو عمرو : كل من كان بمعنى الرحمة فهو جمع وما كان بمعنى العذاب فهو موحد وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح فتكون على هذا جملة ولقد أرسلنا إلى قوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين معترض { فتثير سحابا } أي تزعجه من حيث هو { فيبسطه في السماء كيف يشاء } تارة سائرا وتارة واقفا وتارة مطبقا وتارة غير مطبق وتارة إلى مسافة بعيدة وتارة إلى مسافة قريبة وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وفي سورة النور { ويجعله كسفا } تارة أخرى أو يجعله بعد بسطه قطعا متفرقة والكسف جمع كسفة والكسفة القطعة من السحاب وقد تقدم تفسير واختلاف القراءة فيه { فترى الودق يخرج من خلاله } الودق المطر ومن خلاله من وسطه وقرأ أبو العالية والضحاك يخرج من خلله { فإذا أصاب به } أي بالمطر { من يشاء من عباده } أي بلادهم وأرضهم { إذا هم يستبشرون } إذا هي الفجائية : أي فاجئوا الاستبشار بمجيء المطر والاستبشار الفرح (4/328)
49 - { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } أي من قبل أن ينزل عليهم المطر وإن هي المخففة وفيها ضمير شأن مقدر هو اسمها : أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم وقوله : { من قبله } تكرير للتأكيد قاله الأخفش وأكثر النحويين كما حكاه عنهم النحاس وقال قطرب : إن الضمير في قبله راجع إلى المطر : أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر وقيل المعنى : من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع والمطر وقيل من قبل أن ينزل عليهم من قبل السحاب : أي من قبل رؤيته واختار هذا النحاس وقيل الضمير عائد إلى الكسف وقيل إلى الإرسال وقيل إلى الاستبشار والراجح الوجه الأول وما بعده من هذه الوجوه كلها ففي غاية التكلف والتعسف وخبر كان { لمبلسين } أي آيسين أو بائسين وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا (4/328)
50 - { فانظر إلى آثار رحمة الله } الناشئة عن إنزال المطر من النبات والثمار والزرائع التي بها يكون الخصب ورخاء العيش : أي انظر نظر اعتبار واستبصار لتستدل بذلك على توحيد الله وتفرده بهذا الصنع العجيب قرأ الجمهور { أثر } بالتوحيد وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي { آثار } بالجمع { كيف يحيي الأرض بعد موتها } فاعل الإحياء ضمير يعود إلى الله سبحانه وقيل ضمير يعود إلى الأثر وهذه الجملة في محل نصب بانظر : أي انظر إلى كيفية هذا الإحياء البديع للأرض وقرأ الجحدري وأبو حيوة تحيي بالفوقية على أن فاعله ضمير يعود إلى الرحمة أو إلى الآثار على قراءة من قرأ بالجمع والإشارة بقوله : { إن ذلك } إلى الله سبحانه : أي إن الله العظيم الشأن المخترع لهذه الأشياء المذكورة { لمحيي الموتى } أي لقادر على إحيائهم في الآخرة وبعثهم ومجازاتهم كما أحيا الأرض الميتة بالمطر { وهو على كل شيء قدير } أي عظيم القدرة كثيرها (4/328)
51 - { ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا } الضمير في فرأوه يرجع إلى الزرع والنبات الذي كان من أثر رحمة الله : أي فرأوه مصفرا من البرد الناشئ عن الريح التي أرسلها الله بعد اخضراره وقيل راجع إلى الريح وهو يجوز تذكيره وتأنيثه وقيل راجع إلى الأثر المدلول عليه بالآثار وقيل راجع إلى السحاب لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر والأول أولى واللام هي الموطئة وجواب القسم { لظلوا من بعده يكفرون } وهو يسد مسد جواب الشرط والمعنى : ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار لظلوا من بعد ذلك يكفرون بالله ويجحدون نعمه وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم وعدم صبرهم وضعف قلوبهم وليس كذا حال أهل الإيمان (4/329)
ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال : 52 - { فإنك لا تسمع الموتى } إذا دعوتهم فكذا هؤلاء لعدم فهمهم للحقائق ومعرفتهم للصواب { ولا تسمع الصم الدعاء } إذا دعوتهم إلى الحق ووعظتهم بمواعظ الله وذكرتهم الآخرة وما فيها وقوله : { إذا ولوا مدبرين } بيان لإعراضهم عن الحق بعد بيان كونهم كالأموات وكونهم صم الآذان قد تقدم تفسير هذا في سورة النمل (4/329)
ثم وصفهم بالعمى فقال : 53 - { وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم } لفقدهم للانتفاع بالأبصار كما ينبغي أو لفقدهم للبصائر { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } أي ما تسمع إلا هؤلاء لكونهم أهل التفكر والتدبر والاستدلال بالآثار على المؤثر { فهم مسلمون } أي مناقدون للحق متبعون له (4/329)
54 - { الله الذي خلقكم من ضعف } ذكر سبحانه استدلالا آخر على كمال قدرته وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة ومعنى من ضعف : من نطفة قال الواحدي : قال المفسرون : من نطفة والمعنى من ذي ضعف وقيل المراد حال الطفولية والصغر { ثم جعل من بعد ضعف قوة } وهي قوة الشباب فإنه إذ ذاك تستحكم القوة وتشتد الخلقة إلى بلوغ النهاية { ثم جعل من بعد قوة ضعفا } أي عند الكبر والهرم { وشيبة } الشيبة هي تمام الضعف ونهاية الكبر قرأ الجمهور ضعف بضم الضاد في هذه المواضع وقرأ عاصم وحمزة بفتحها وقرأ الجحدري بالفتح في الأولين والضم في الثالث قال الفراء : الضم لغة قريش والفتح لغة تميم قال الجوهري : الضعف والضعف خلاف القوة وقيل هو بالفتح في الرأي وبالضم في الجسم { يخلق ما يشاء } يعني من جميع الأشياء ومن جملتها القوة والضعف في بني آدم { وهو العليم } بتدبيره { القدير } على خلق ما يريده وأجاز الكوفيون من ضعف بفتح الضاد والعين (4/329)
55 - { ويوم تقوم الساعة } أي القيامة وسميت ساعة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا { يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } أي يحلفون ما لبثوا في الدنيا أو في قبورهم غير ساعة فيمكن أن يكونوا استقلوا مدة لبثهم واستقر ذلك في أذهانهم فحلفوا عليه وهم يظنون أن حلفهم مطابق للواقع وقال ابن قتيبة : إنهم كذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل وهذا هو الظاهر لأنهم إن أرادوا لبثهم في الدنيا فقد علم كل واحد منهم مقداره وإن أرادوا لبثهم في القبور فقد حلفوا على جهالة إن كانوا لا يعرفون الأوقات في البرزخ { كذلك كانوا يؤفكون } يقال أفك الرجل : إذا صرف عن الصدق فالمعنى : مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون وقيل المراد يصرفون عن الحق وقيل عن الخير والأول أولى وهو دليل على أن حلفهم كذب (4/330)
56 - { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث } اختلف في تعيين هؤلاء الذين أوتوا العلم فقيل الملائكة وقيل الأنبياء وقيل علماء الأمم وقيل مؤمنو هذه الأمة ولا مانع من الحمل على الجميع ومعنى في كتاب الله : في علمه وقضائه قال الزجاج : في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ قال الواحدي : والمفسرون حملوا هذا على التقديم والتأخير على تقدير : وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله وكان رد الذين أوتوا العلم عليهم باليمين للتأكيد أو للمقابلة لليمين باليمين ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن { هذا } الوقت الذي صاروا فيه هو { يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون } أنه حق بل كنتم تستعجلونه تكذيبا واستهزاء (4/330)
57 - { فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم } أي لا ينفعهم الاعتذار يومئذ ولا يفيدهم علمهم بالقيامة وقيل لما رد عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا قرأ الجمهور { لا تنفع } بالفوقية وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتحتية { ولا هم يستعتبون } يقال استعتبته فأعتبني : أي استرضيته فأرضاني وذلك إذا كنت جانيا عليه وحقيقة أعتبته أزلت عتبة والمعنى : أنهم لا يدعون إلى إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إلى ذلك في الدنيا (4/330)
58 - { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } أي من كل مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله وصدق رسله واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك { ولئن جئتهم بآية } من آيات القرآن الناطقة بذلك أو لئن جئتهم بآية كالعصا واليد { ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون } أي ما أنت يا محمد وأصحابك إلا مبطلون أصحاب أباطيل تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان (4/330)
59 - { كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الفاقدين للعلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق وينجون به من الباطل (4/331)
ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم بالصبر معللا لذلك بحقية وعد الله وعدم الخلف فيه فقال : 60 - { فاصبر } على ما تسمعه منهم من الأذى وتنظره من الأفعال الكفرية فإن الله قد وعدك بالنصر عليهم وإعلاء حجتك وإظهار دعوتك ووعده حق لا خلف فيه { ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } أي لا يحملنك على الخفة ويستفزنك عن دينك وما أنت عليه الذين لا يوقنون بالله ولا يصدقون أنبياءه ولا يؤمنون بكتبه والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم يقال استخف فلان فلانا : أي استهدله حتى حمله على اتباعه في الغي قرأ الجمهور يستخفنك بالخاء المعجمة والفاء وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق والنهي في الآية من باب : لا أرينك ها هنا
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } ] وهو من طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عنه في قوله : { ويجعله كسفا } قال : قطعا بعضها فوق بعض { فترى الودق } قال : المطر { يخرج من خلاله } قال : من بينه وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء } في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لأهل بدر والإسناد ضعيف والمشهور في الصحيحين وغيرهما أن عائشة استدلت بهذه الآية على رد رواية من روى من الصحابة أن النبي صلى الله عليه و سلم نادى أهل قليب بدر وهو من الاستدلال بالعام على رد الخاص فقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لما قيل له : إنك تنادي أجسادا بالية ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ] وفي مسلم من حديث أنس [ أن عمر بن الخطاب لما سمع النبي صلى الله عليه و سلم يناديهم فقال : يا رسول الله تناديهم بعد ثلاث وهل يسمعون ؟ يقول الله إنك لا تسمع الموتى فقال : والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يطيقون أن يجيبوا ] (4/331)
سورة لقمان
آياتها أربع وثلاثون آية
وهي مكية إلا ثلاث آيات وهي قوله : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } إلى تمام الآيات الثلاث قاله ابن عباس فيما أخرجه النحاس عنه وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها مكية ولم يستثن وحكي القرطبي عن قتادة أنها مكية إلا آيتين وأخرج النسائي وابن ماجه عن البراء قال : كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه و سلم الظهر نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات
قوله : 1 - { الم } قد تقدم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ومحلها من الإعراب مستوفى فلا نعيده وبيان مرجع الإشارة أيضا (4/332)
2 - { تلك آيات الكتاب } قد تقدم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ومحلها من الإعراب مستوفى فلا نعيده وبيان مرجع الإشارة أيضا و { الحكيم } إما أن يكون بمعنى مفعل أو بمعنى فاعل أو بمعنى ذي الحكمة أو الحكيم قائله (4/332)
3 - و { هدى ورحمة } منصوبان على الحال على قراءة الجمهور قال الزجاج : المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة وقرأ حمزة { ورحمة } بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف : أي هو هدى ورحمة ويجوز أن يكونا خبر تلك والمحسن العامل للحسنات أو من يعبد الله كأنه يراه كما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح لما سأله جبريل عن الإحسان : فقال [ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] (4/333)
ثم بين عمل المحسنين فقال : 4 - { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون } والموصل في محل جر على الوصف للمحسنين أو في محل رفع أو نصب على المدح أو القطع وخص هذه العبادات الثلاث لأنها عمدة العبادات (4/333)
5 - { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } وقد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة والمعنى هنا : أن أولئك المتصفين بالإحسان وفعل تلك الطاعات التي هي أمهات العبادات هم على طريقة الهدى وهم الفائزون بمطالبهم الظافرون بخيري الدارين (4/333)
6 - { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } محل ومن الناس الرفع على الابتداء كما تقدم بيانه في سورة البقرة وخبره من يشتري لهو الحديث ومن إما موصولة أو موصوفة ولهو الحديث كل ما يلهى عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة وكل ما هو منكر والإضافة بيانية وقيل المراد شراء القينات المغنيات والمغنين فيكون التقدير : ومن يشتري أهل لهو الحديث قال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء وروي عنه أنه قال : هو الكفر والشرك قال القرطبي : إن أولى ما قيل في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء قال : وهو قول الصحابة والتابعين واللام في { ليضل عن سبيل الله } للتعليل قرأ الجمهور بضم الياء من { ليضل } أي ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد وورش وابن أبي إسحاق بفتح الياء : أي ليضل هو في نفسه قال الزجاج : من قرأ بضم الياء فمعناه ليضل غيره فإذا أضل غيره فقد ضل هو ومن قرأ بفتح الياء فمعناه ليصير أمره إلى الضلال وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة فإنه يصير أمره إلى ذلك فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي قال القرطبي : قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري قال القاضي أبو بكر بن العربي : يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شيء منها عليه حرام لا من ظاهرها ولا من باطنها فكيف يمنع من التلذذ بصوتها ؟
قلت : قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء وما استدل به المحللون له والمحرمون له وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها وسميتها [ إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع ] فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها
ومحل قوله بغير علم النصب على الحال : أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه أو بحال ما ينفع من التجارة وما يضر لفهذا استبدل بالخير ما هو شر محض { ويتخذها هزوا } قرأ الجمهور برفع { يتخذها } عطفا على يشتري فهو من جملة الصلة وقيل الرفع على الاستئناف والضمير المنصوب في يتخذها يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها والأول أولى وقرأ حمزة والكسائي والأعمش { ويتخذها } بالنصب عطفا على يضل والضمير المنصوب راجع إلى السبيل فتكون على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم والمعنى : أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله واتخاذ السبيل هزوا : أي مهزوءا به والسبيل يذكر ويؤنث والإشارة بقوله : { أولئك لهم عذاب مهين } إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفارد في الفعلين باعتبار لفظها والعذاب المهين : هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهينا (4/333)
7 - { وإذا تتلى عليه آياتنا } أي وإذا تتلى آيات القرآن على هذا المستهزئ { ولى مستكبرا } أي أعرض عنها حال كونه مبالغا في التكبر وجملة { كأن لم يسمعها } في محل نصب على من لم يسمع وجملة { كأن في أذنيه وقرا } حال ثانية أو بدل من التي قبلها أو حال من ضمير يسمعها ويجوز أن تكون مستأنفة والوقر الثقل وقد تقدم بيانه وفيه مبالغة في إعراض ذلك المعرض { فبشره بعذاب أليم } أي أخبره بأن له العذاب البليغ في الألم (4/334)
ثم لما بين سبحانه حال من يعرض عن الآيات بين حال من يقبل عليها فقال : 8 - { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي آمنوا بالله وبآياته ولم يعرضوا عنها بل قبلوها وعملوا بها { لهم جنات النعيم } أي نعيم الجنات فعكسه للمبالغة جعل لهم جنات النعيم كما جعل للفريق الأول العذاب المهين (4/334)
وانتصاب 9 - { خالدين فيها } على الحال وقرأ زبد بن علي خالدون فيها على أنه خبر ثان لأن { وعد الله حقا } هما مصدران الأول مؤكد لنفسه : أي وعد الله وعدا والثاني مؤكد لغيره وهو مضمون الجملة الأولى وتقديره حق ذلك حقا والمعنى : أن وعده كائن لا محالة ولا خلف فيه { وهو العزيز } الذي لا يغلبه غالب { الحكيم } في كل أفعاله وأقواله (4/334)
ثم بين سبحانه عزته وحكمته بقوله : 10 - { خلق السموات بغير عمد ترونها } العمد جمع عماد وقد تقدم الكلام فيه في سورة الرعد وترونها في محل جر صفة لعمد فيمكن أن تكون ثم عمد ولكن لا ترى ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال : أي ولا عمد ألبتة قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفا : أي ولا عمد ثم { وألقى في الأرض رواسي } أي جبالا ثوابت { أن تميد بكم } في محل نصب على العلة : أي كراهة أن تميد بكم والكوفيون يقدرونه لئلا تميد والمعنى : أنها خلقت وجعلها مستقرة ثابتة لا تتحرك بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها { وبث فيها من كل دابة } أي من كل نوع من أنواع الدواب وقد تقدم بيان معنى البث { وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم } أي أنزلنا من السماء مطرا فأنبتنا فيها بسبب إنزاله من كل زوج : أي من كل صنف ووصفه بكونه كريما لحسن لونه وكثرة منافعه وقيل إن المراد بذلك الناس فالكريم منهم من يصير إلى الجنة واللئيم من يصير إلى النار قاله الشعبي وغيره والأول أولى (4/335)
والإشارة بقوله : 11 - { هذا } إلى ما ذكر في خلق السموات والأرض وهو مبتدأ وخبره { خلق الله } أي مخلوقه { فأروني ماذا خلق الذين من دونه } من آلهتكم التي تعبدونها والاستفهام للتقريع والتوبيخ والمعنى : فأروني أي شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله أو يقاربه وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت ثم أضرب عن تبكيتهم بما ذكر إلى الحكم عليهم بالضلال الظاهر فقال { بل الظالمون في ضلال } فقرر ظلمهم أولا وضلالهم ثانيا ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة ولا يهتدي إلى الحق
وقد أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } يعني باطل الحديث وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث الأعاجم وصنيعهم في دهرهم وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام ويكذب بالقرآن وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه في الآية قال : باطل الحديث وهو الغناء ونحوه { ليضل عن سبيل الله } قال : قراءة القرآن وذكر الله نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عنه أيضا في الآية قال : هو الغناء وأشباهه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : الجواري الضاربات وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي الصهباء قال : سألت عبد الله بن مسعود عن قوله : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } قال : هو والله الغناء ولفظ ابن جرير : هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أماة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ] في مثل هذا أنزلت هذه الآية { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الآية وفي إسناده عبيد بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن وفيهم ضعف وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأ { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } ] وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في السنن عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل ] وروياه عنه موقوفا وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك ] وفي الباب أحاديث في كل حديث منها مقال وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } قال : الرجل يشتري جارية تغني ليلا ونهارا وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر [ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في قوله : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } : إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل ] وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن نافع قال : كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق فسمع زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق فلم يزل يقول يا نافع أتسمع ؟ قلت لا فأخرج أصبعيه من أذنيه وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صنع وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة : خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان ] (4/335)
اختلف في لقمان هل هو عجمي أم عربي ؟ مشتق من اللقم فمن قال إنه عجمي منعه للتعريف والعجمة ومن قال إنه عربي منعه للتعريف ولزيادة الألف والنون واختلفوا أيضا هو نبي أم رجل صالح ؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه ليس بنبي وحكى الواحدي عن عكرمة والسدي والشعبي أنه كان نبيا والأول أرجح لما سيأتي في آخر البحث وقيل لم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط مع أن الراوي لذلك عنه جابر الجعفي وهو ضعيف جدا وهو لقمان بن باعورا بن ناحور بن تارخ وهو آزر أبو إبراهيم وقيل هو لقمان بن عنقا بن مروان وكان نوبيا من أهل أيلة ذكره السهيلي قال وهب : هو ابن أخت أيوب وقال مقاتل : هو ابن خالته عاش ألف سنة وأخذ عنه العلم وكن يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى فقيل له ؟ فقال ألا أكتفي إذ كفيت قال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل والحكمة التي آتاه الله هي الفقه والعقل والإصابة في القول وفسر الحكمة من قال بنبوته بالنبوة 1 - { أن اشكر لي } أن هي المفسرة لأن في إيتاء الحكمة معنى القول وقيل التقدير قلنا له أن اشكر لي وقال الزجاج : المعنى : ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن اشكر لي وقيل : بأن اشكر لي فشكر فكان حكيما بشكره والشكر لله الثناء عليه في مقابلة النعمة وطاعته فيما أمر به ثم بين سبحانه أن الشكر لا ينتفع به إلاى الشاكر فقال : { ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه } لأن نفع ذلك راجع إليه وفائدته حاصلة له إذ به تستبقى النعمة وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه { ومن كفر فإن الله غني حميد } أي من جعل كفر النعم مكان شكرها فإن الله غني عن شكره غير محتاج إليه حميد مستحق للحمد من خلقه لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها ولا يحصر عددها وإن لم يحمده أحد من خلقه فإن كل موجود ناطق بحمده بلسان الحال قال يحيى بن سلام : غني عن خلقه حميد في فعله (4/337)
13 - { وإذ قال لقمان لابنه } قال السهيلي : اسم ابنه ثاران في قول ابن جرير والقتيبي وقال الكلبي : مشكم وقال النقاش أنعم وقيل ماتان قال القشيري : كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما وهذه الجملة معطوفة على ما تقدم والتقدير : آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه وحين جعلناه واعظا لغيره قال الزجاج : إذ في موضع نصب بآتينا والمعنى : ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال قال النحاس : وأحسبه غلطا لأن في الكلام واوا وهي تمنع من ذلك ومعنى { وهو يعظه } يخاطبه بالمواعظ التي ترغبه في التوحيد وتصده عن الشرك { يا بني لا تشرك بالله } قرأ الجمهور بكسر الياء وقرأ ابن كثير بإسكانها وقرأ حفص بفتحها ونهيه عن الشرك يدل على أنه كان كافرا كما تقدم وجملة { إن الشرك لظلم عظيم } تعليل لما قبلها وبدأ في وعظه بنهيه عن الشرك لأنه أهم من غيره
وقد اختلف في هذه الجملة فقيل هي من كلام لقمان وقيل هي من كلام الله فتكون منقطعة عما قبلها ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أنها لما نزلت { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على الصحابة وقالوا : أينا لم يظلم نفسه فأنزل الله { إن الشرك لظلم عظيم } فطابت أنفسهم (4/338)
14 - { ووصينا الإنسان بوالديه } هذه الوصية بالوالدين وما بعدها إلى قوله : { بما كنتم تعملون } اعتراض بين كلام لقمان لقصد التأكيد لما قبلها من النهي عن الشرك بالله وتفسير التوصية هي قوله : { أن اشكر لي ولوالديك } وما بينهما اعتراض بين المفسر والمفسر وفي جعل الشكر لهما مقترنا بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد وأكبرها وأشدها وجوبا ومعنى { حملته أمه وهنا على وهن } أنها حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف وقيل المعنى : إن المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل وانتصاب وهنا على المصدر وقال النحاس على أنه مفعول ثان بإسقاط الحرف : أي حملته بضعف على ضعف وقال الزجاج المعنى لزمها بحملها إياه أن تضعف مرة بعد مرة وقيل انتصابه على الحال من أمه و على وهن صفة لوهنا أي وهنا كائنا على وهن قرأ الجمهور بسكون الهاء في الموضعين وقرأ عيسى الثقفي وهي رواية عن أبي عمرو بفتحهما وهما لغتان قال قعنب :
( هل للعواذل من ناه فيزجرها ... إن العواذل فيها الأين والوهن )
{ وفصاله في عامين } الفصال الفطام وهو أن يفصل الولد عن الأم وهو مبتدأ وخبره الظرف وقرأ الجحدري وقتادة وأبو رجاء والحسن ويعقوب وفصله وهما لغتان يقال انفصل عن كذا : أي تميز وبه سمي الفصيل وقد قدمنا أن أمه في قوله : { أن اشكر لي ولوالديك } هي المفسرة وقال الزجاج : هي مصدرية والمعنى : بأن اشكر لي قال النحاس : وأجود منه أن تكون أن مفسرة وجملة { إلي المصير } تعليل لوجوب امتثال الأمر : أي الرجوع إلي لا إلى غيري (4/338)
15 - { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم } أي ما لا علم لك بشركته { فلا تطعهما } في ذلك وقد قدمنا تفسير الآية وسبب نزولها في سورة العنكبوت وانتصاب { معروفا } على أنه صفة لمصدر محذوف : أي وصاحبهما صحابا معروفا وقيل هو منصوب بنزع الخافض والتقدير بمعروف { واتبع سبيل من أناب إلي } أي اتبع سبيل من رجع إلي من عبادي الصالحين بالتوبة والإخلاص { ثم إلي مرجعكم } جميعا لا إلى غيري { فأنبئكم } أي أخبركم عند رجوعكم { بما كنتم تعملون } من خير وشر فأجازي كل عامل بعمله وقد قيل إن هذا السياق من قوله ووصينا الإنسان إلى هنا من كلام لقمان فلا يكون اعتراضا وفيه بعد (4/339)
ثم شرع سبحانه في حكاية بقية كلام لقمان في وعظه لابنه فقال : 16 - { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل } الضمير في إنها عائد إلى الخطيئة لما روي أن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد هل يعلمها الله ؟ فقال إنها : أي الخطيئة والجملة الشرطية مفسرة للضمير : أي إن الخطيئة إن تك مثقال حبة من خردل قال الزجاج : التقدير إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من خردل وعبر بالخردلة أنها أصغر الحبوب ولا يدرك بالحس ثقلها ولا ترجح ميزانا وقيل إن الضمير في إنها راجع إلى الخصلة من الإساءة والإحسان : أي إن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تك مثقال حبة إلخ ثم زاد في بيان خفاء الحبة مع خفتها فقال : { فتكن في صخرة } فإن كونها في الصخرة قد صارت في أخفى مكان وأحرزه { أو في السموات أو في الأرض } أي أو حيث كانت من بقاع السموات أو من بقال الأرض { يأت بها الله } أي يحضرها ويحاسب فاعلها عليها { إن الله لطيف } لا تخفى عليه خافية بل يصل علمه إلى كل خفي { خبير } بكل شيء لا يغيب عنه شيء لا يغيب عنه شيء قرأ الجمهور { إن تك } بالفوقية على معنى إن تك الخطيئة أو المسألة أو الخصلة أو القصة وقرأوا { مثقال } بالنصب على أنه خبر كان واسمعها هو أحد تلك المقدرات وقرأ نافع برفع { مثقال } على أنه اسم كان وهي تامة وأنث الفعل في هذه القراءة لإضافة مثقال إلى المؤنث وقرأ الجمهور { فتكن } بضم الكاف وقرأ الجحدري بكسرها وتشديد النون من الكن الذي هو الشيء المغطى قال السدي : هذه الصخرة هي صخرة ليست في السموات ولا في الأرض ثم حكى سبحانه عن لقمان أنه أمر ابنه بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصيبة ووجه تخصيص هذه الطاعات أنها أمهات العبادات وعماد الخير كله (4/339)
والإشارة بقوله : 17 - { إن ذلك } إلى الطاعات المذكورة وخبر إن : قوله : { من عزم الأمور } قال المبرد : إن العين تبدل حاء فيقال عزم وحزم قال ابن جرير : ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة وصوب هذا القرطبي (4/340)
18 - { ولا تصعر خدك للناس } قرأ الجمهور تصعر وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم تصاعر والمعنى متقارب والصعر الميل يقال صعر خده وصاعر خده : إذا أمال وجهه وأعرض تكبرا والمعنى لا تعرض عن الناس تكبرا عليهم ومنه قول الشاعر :
( وكنا إذا الجبار صعر خده ... مشينا إليه بالسيوف نعابته )
ورواه ابن جرير هكذا :
( وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما )
قال الهروي { ولا تصعر خدك للناس } أي لا تعرض عنهم تكبرا يقال أصاب البعير صعر : إذا أصابه داء يلوي عنقه وقيل المعنى : ولا تلو شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره وقال ابن خويز منداد : كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة ولعله فهم من التصعير التذلل { ولا تمش في الأرض مرحا } أي خيلاء وفرحا والمعنى النهي عن التكبر والتجبر والمختال يمرح في مشيه وهو مصدر في موضع الحال وقد تقدم تحقيقه وجملة { إن الله لا يحب كل مختال فخور } تعليل للنهي الاختيال هو المرح والفخور هو الذي يفتخر على الناس بماله من المال أو الشرف أو القوة أو غير ذلك وليس منه التحدث بنعم الله فإن الله يقول : { وأما بنعمة ربك فحدث } (4/340)
19 - { واقصد في مشيك } أي توسط فيه والقصد ما بين الإسراع والبطء يقال قصد فلان في مشيته : إذا مشى مستويا لا يدب دبيب المتماوتين ولا يثب وثوب الشياطين وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا مشى أسرع فلا بد أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحد في السرعة وقال مقاتل : معناه لا تختل في مشيتك وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة كقوله : { يمشون على الأرض هونا } { واغضض من صوتك } أي انقص منه واخفضه ولا تتكلف رفعه فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع وجملة { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } تعليل للأمر بالغض من الصوت : أي أوحشها وأقبحها قال قتادة : أقبح الأصوات صوت الحمير أوله زفير وأخره شهيق قال المبرد : تأويله إن الجهر بالصوت ليس بمحمود وإنه داخل في باب الصوت المنكر واللام في لصوت للتأكيد ووحد الصوت مع كونه مضافا إلى الجمع لأنه مصدر وهو يدل على الكثرة وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أتدرون ما كان لقمان ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : كان حبشيا ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي الدنيا في كتاب المملوكين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا وأخرج الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عساكر عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن ] قال الطبراني : أراد الحبشة وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله : { ولقد آتينا لقمان الحكمة } يعني العقل والفهم والفطنة في غير نبوة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه كان نبيا وقد قدمنا أن الراوي عنه جابر الجعفي وهو ضعيف جدا وأخرج أحمد والحكيم والترمذي والحاكم في الكنى والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئا حفظه ] وقد ذكر جماعة من أهل الحديث روايات عن جماعة من الصحابة والتابعين تتضمن كلمات من مواعظ لقمان وحكمه ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك شيء ولا ثبت إسناد صحيح إلى لقمان بشيء منها حتى نقبله وقد حكى الله سبحانه من مواعظه لابنه ما حكاه في هذا الوضع وفي كفاية وما عدا ذلك مما لم يصح فليس في ذكره إلا شغلة للحيز وقطيعة للوقت ولم يكن نبيا حتى يكون ما نقل عنه من شرع من قبلنا ولا صح إسناد ما روي عنه من الكلمات حتى يكون ذكر ذلك من تدوين كلمات الحكمة التي هي ضالة المؤمن وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال : أنزلت في هذه الآية { وإن جاهداك على أن تشرك بي } وقد تقدم ذكر هذا وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وهنا على وهن } قال : شدة بعد شدة وخلفا بعد خلف وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه عن أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن قوله : { ولا تصعر خدك للناس } قال : لا تتكبر فتختقر عباد الله وتعرض عنهم إذا كلموك وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر (4/341)
لما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم وإقامة الحجج عليهم فقال : 20 - { ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض } قال الزجاج : معنى تسخيرها للآدميين الانتفاع بها انتهى فمن مخلوقات السموات المسخرة لبني آدم : أي التي ينتفعون بها الشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك ومن جملة ذلك الملائكة فإنهم حفظة لبني آدم بأمر الله سبحانه ومن مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم الأحجار والتراب والزرع والشجر والثمر والحيوانات التي ينتفعون بها والعشب الذي يرعون فيه دوابهم وغير ذلك مما لا يحصى كثرة فالمراد بالتسخير جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له سواء كان منقادا له وداخلا تحت تصرفه أم لا { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } أي أتم وأكمل عليكم نعمه يقال سبغت النعمة إذا تمت وكملت قرأ الجمهور { أسبغ } بالسين وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة أصبغ بالصاد مكان السين والنعم جمع نعمة على قراءة نافع وأبي عمرو وحفص وقرأ الباقون { نعمة } بسكون العين على الإفراد والتنوين اسم جنس يراد به الجمع ويدل به على الكثرة كقوله : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وهي قراءة ابن عباس والمراد بالنعم الظاهرة ما يدرك بالعقل أو الحس ويعرفه من يتعرفه وبالباطنة ما لا يدرك للناس ويخفى عليهم وقيل الظاهرة الصحة وكمال الخلق والباطنة المعرفة والعقل وقيل الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال وفعل الطاعات والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفعه الله عن البعد من الآفات وقيل الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم الآخرة وقيل الظاهرة الإسلام والجمال والباطنة ما ستره الله على العبد من الأعمال السيئة { ومن الناس من يجادل في الله } أي في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته مكابرة وعنادا بعد ظهور الحق له وقيام الحجة عليه ولهذا قال : { بغير علم } من عقل ولا نقل { ولا هدى } يهتدي به إلى طريق الصواب { ولا كتاب منير } أنزله الله سبحانه بل مجرد تعنت ومحض عناد وقد تقدم تفسيبر هذه الآية في سورة البقرة (4/343)
21 - { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله } أي إذا قيل لهؤلاء المجادلين والجمع باعتبار معنى من اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الكتاب تمسكوا بمجرد التقليد البحت و { قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا } فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون بها في دينهم ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت { أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } أي يدعوا آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم : أي يتبعونهم في الشرك ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع إلى عذاب السعير لأنه زين لهم اتباع آبائهم والتدين بدينهم ويجوز أن يراد أنه يدعوا جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب فدعاؤه للمتبوعين بتنزيينه لهم الشرك ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم وجواب لو محذوف : أي يدعوهم فيتبعونهم ومحل الجملة النصب على الحال وما أقبح التقليد وأكثر ضرره على صاحبه وأوخم عاقبته وأشأم عائدته على من وقع فيه فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق فتأبى ذلك وتتهافت في نار الحريق وعذاب السعير (4/343)
22 - { ومن يسلم وجهه إلى الله } أي يفوض إليه أمره ويخلص له عبادته ويقبل عليه بكليته { وهو محسن } في أعماله لأن العبادة من غير إحسان لها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها لا تقع بالمقوع الذي تقع به عبادة المحسنين وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له [ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي اعتصم بالعهد الأوثق وتعلق به وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى حبل متدل منه { وإلى الله عاقبة الأمور } أي مصيرها إليه لا إلى غيره وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي وعبد الله بن مسلم بن يسار ومن يسلم بالتشديد قال النحاس : والتخفيف في هذا أعرف كما قال عز و جل { فقل أسلمت وجهي لله } (4/344)
23 - { ومن كفر فلا يحزنك كفره } أي لا تحزن لذلك فإن كفره لا يضرك بين سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من بيان حال المؤمنين ثم توعدهم بقوله : { إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا } أي نخبرهم بقبائح أعمالهم ونجازيهم عليها { إن الله عليم بذات الصدور } أي بما تسره صدورهم لا تخفى عليه من ذلك خافية فالسر عنده كالعلانية (4/344)
24 - { نمتعهم قليلا } أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها فإن النعيم الزائل هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم وانتصاب قليلا على أنه صفة لمصدر محذوف : أي تمتيعا قليلا { ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } أي نلجئهم إلى عذاب النار فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه وأصيب به فلهذا استعير له الغلظ (4/344)
25 - { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } أي يعترفون بالله خالق ذلك لوضوح الأمر فيه عندهم وهذا اعتراف منهم بما يدل على التوحيد وبطلان الشرك ولهذا قال : { قل الحمد لله } أي قل يا محمد الحمد لله على اعترافكم فكيف تعبدون غيره وتجعلونه شيركا له ؟ أو المعنى : فقل الحمد لله على ما هدانا له من دينه ولا حد لغيرة ثم أضرب عن ذلك فقال : { بل أكثرهم لا يعلمون } أي لا ينظرون ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء هو الذي تجب له العبادة دون غيره (4/344)
26 - { لله ما في السموات والأرض } ملكا وخلقا فلا يستحق العبادة غيره { إن الله هو الغني } عن غيره { الحميد } أي المستحق للحمد أو المحمود من عباده بلسان المقال أو بلسان الحال (4/344)
ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السموات والأرض أتبعه بما يدل على أن له وراء ذلك ما لا يحيط به عدد ولا يحصر بحد فقال : 27 - { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } أي لو أن جميع ما في الأرض من الشجر أقلام ووحد الشجرة لما تقرلر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل فكأنه قال : كل شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلاما وجمع الأقلام لقصد التكثير : أي لو أن يعد كل شجرة من الشجر أقلاما قال أبو حيان : وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة كقوله : { ما ننسخ من آية } ثم قال سبحانه { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } أي يمده من بعد نفاده سبعة أبحر قرأ الجمهور { والبحر } بالرفع على أنه مبتدأ و { يمده } خبره والجملة في محل الحال : أي والحال أن البحر المحيط مع سعته يمده السبعة الأبحر مدا لا ينقطع كذا قال سيبويه وقال المبرد : إن البحر مرتفع بفعل مقدر تقديره ولو ثبت البحر حال كونه تمده من بعده سبعة أبحر وقيل : هو مرتفع بالعطف على أن وما في حيزها وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق { والبحر } بالنصب عطفا على اسم أن أو بفعل مضمر يفسره يمده وقرأ ابن هرمز والحسن يمده بضم حرف المضارعة وكسر الميم من أمد وقرأ جعفر بن محمد والبحر مداده وجواب لو { ما نفدت كلمات الله } أي كلماته التي هي عبارة عن معلوماته قال أبو علي الفارسي : المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود ووافقه القفال فقال : المعنى أن الأشجار لو كانت أقلاما والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفذ تلك العجائب قال القشيري : رد القفال معنى الكلمات إلى المقدورات وحمل الآية على الكلام القديم أولى قال النحاس : قد تبين أن الكلمات ها هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء لأنه جل وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من شيء وعلم ما فيه من مثاقيل الذر وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو وما في الشجرة من ورقة وما فيها من ضروب الخلق وقيل إن قريشا قالت : ما أكثر كلام محمد فنزلت قاله السدي وقيل إنها لما نزلت { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } في اليهود قالوا كيف وقد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه فنزلت قال أبو عبيدة : المراد بالبحر هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام وأما الماء المالح فلا ينبت الأقلام قلت : ما أسقط هذا الكلام وأقل جدواه { إن الله عزيز حكيم } أي غالب لا يعجزه شيء ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته (4/345)
28 - { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها قال النحاس : كذا قدره النحويون كخلق نفس مثل قوله : { واسأل القرية } قال الزجاج : أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم وعلى خلقهم كقدرته على خلق نفس واحدة وبعث نفس واحدة { إن الله سميع } لكل ما يسمع { بصير } بكل ما يبصر
وقد أخرج البيهقي في الشعب عن عطاء قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وأسبغ عليكم } الآية قال هذه من كنوز علمي سألت عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أما الظاهرة فما سوى من خلقك وأما الباطنة فما ستر من عورتك ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم ] وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب والديلمي وابن النجار عنه قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } فقال : أما الظاهرة فالإسلام وما سوى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه وأما الباطنة فما ستر من مساوئ عملك ] وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : النعمة الظاهرة الإسلام والنعمة الباطنة كل ما يستر عليكم من الذنوب والعيوب والحدود وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه قال في تفسير الآية هي : لا إله إلا الله وأخرج ابن أبي إسحاق وابن جرير ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ولو أنما في الأرض } الآية [ أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة : يا محمد أرأيت قولك { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } إيانا تريد أم قومك ؟ فقالك كلا فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال : إنها في علم الله قليل وأنزل الله { ولو أنما في الأرض } الآية ] وأخرجه ابن مردويه عنه بأطول منه وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن مسعود نحوه (4/346)
الخطاب بقوله : 29 - { ألم تر } لكل أحد يصلح لذلك أو للرسول صلى الله عليه و سلم { أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } أي يدخل كل واحد منهما في الآخر وقد تقدم تفسيره في سورة الحج والأنعام { وسخر الشمس والقمر } أي ذللهما وجعلهما منقادين بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وتتميما للمنافع والجملة معطوفة على ما قبلهما مع اختلافهما { كل يجري إلى أجل مسمى } اختلف في الأجل المسمى ماذا هو ؟ فقيل هو يوم القيامة وقيل وقت الطلوع ووقت الأفول والأول أولى وجملة { وأن الله بما تعملون خبير } معطوفة على أن الله يولج : أي خبير بما تعملونه من الأعمال لا تخفى عليه منها خافية لأن من قدر على مثل هذه الأمور العظيمة فقدرته على العلم بما تعملونه بالأولى قرأ الجمهور { تعملون } بالفوقية وقرأ السلمي ونصر بن عامر والدوري عن أبي عمرو بالتحتية على الخبر (4/347)
والإشارة بقوله : 30 - { ذلك } إلى ما تقدم ذكره والباء في { بأن الله } للسببية : أي ذلك بسبب أنه سبحانه { هو الحق } وغيره الباطل أو متعلقة بمحذوف : أي فعل ذلك ليعلموا أنه الحق { وأن ما يدعون من دونه الباطل } قال مجاهد : الذي يدعون من دونه هو الشيطان وقيل ما أشركوا به من صنم أو غيره وهذا أولى { وأن الله هو العلي الكبير } معطوفة على جملة { أن الله هو الحق } والمعنى : أن ذلك الصنع البديع الذي وصفه في الآيات المتقدمة للاستدلال به على حقية الله وبطلان ما سواه وعلوه وكبريائه : هو العلي في مكانته ذو الكبرياء في ربوبيته وسلطانه (4/347)
ثم ذكر من عجيب صنعه وبديع قدرته نوعا آخر فقال : 31 - { ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله } أي بلطفه بكم ورحمته لكم وذلك من أعظم نعمه عليكم لأنها تخلصكم من الغرق عند أسفاركم في البحر لطلب الرزق وقرأ ابن هرمز بنعمات الله جمع نعمة { ليريكم من آياته } من للتبعيض : أي ليريكم بعض آياته قال يحيى بن سلام : وهو جري السفن في البحر بالريح وقال ابن شجرة : المراد بقوله من آياته ما يشاهدونه من قدرة الله وقال النقاش : ما يرزقهم الله في البحر { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } هذه الجملة تعليل لما قبلها : أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة لكل من له صبر بليغ وشكر كثير يصبر عن معاصي الله ويشكر نعمه (4/347)
32 - { وإذا غشيهم موج كالظلل } شبه الموج لكبره بما يظل الإنسان من جبل أو سحاب أو غيرهما وإنما شبه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع لأن الموت يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا وقيل إن الموج في معنى الجمع لأنه مصدر وأصل الموج الحركة والازدحام ومنه يقال ماج البحر وماج الناس وقرأ محمد بن الحنفية موج كالظلال جمع ظل { دعوا الله مخلصين له الدين } أي دعوا الله وحده لا يعولون على غيره في خلاصهم لأنهم يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع سواه ولكنه تغلب على طبائعهم العادات وتقليد الأموات فإذا وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية الله وأخلصوا دينهم له طلبا للخلاص والسلامة مما وقعوا فيه { فلما نجاهم إلى البر } صاروا على قسمين : فقسم { مقتصد } أي موف عاهد عليه الله في البحر من إخلاص الدين له باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر وأخرجه إلى البر سالما قال الحسن : معنى مقتصد مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة وقال مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر والأولى ما ذكرناه ويكون في الكلام حذف والتقدير فمنهم مقتصد ومنهم كافر ويدل على هذا المحذوف قوله : { وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } الختر : أسوأ الغدر وأقبحه ومنه قول الأعشى :
( بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير ختار )
قال الجوهري : الختر الغدر يقال ختره فهو ختار قال الماوردي : وهذا قول الجمهور وقال ابن عطية : إنه الجاحد وجحد الآيات : إنكارها والكفور : عظيم الكفر بنعم الله سبحانه (4/348)