هذا خطاب لجميع بني آدم وإن كان واردا على سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والزينة ما يتزين به الناس من الملبوس أمروا بالتزين عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف وقد استدل بالآية على وجوب ستر العورة في الصلاة وإليه ذهب جمهور أهل العلم بل سترها واجب في كل حال من الأحوال وإن كان الرجل خاليا كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة والكلام على العورة وما يجب ستره منها مفصل في كتب الفروع قوله : 31 - { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } أمر الله سبحانه عباده بالأكل والشرب ونهاهم عن الإسراف فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب وتاركه بالمرة قاتل لنفسه وهو من أهل النار كما صح في الأحاديث الصحيحة والمقلل منه على وجه يضعف به بدنه ويعجز عن القيام بما يجب عليه القيام به من طاعة أو سعي على نفسه وعلى من يعول مخالفا لما أمر الله به وأرشد إليه والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه والتبذير مخالف لما شرعه الله لعباده واقع في النهي القرآني وهكذا من حرم حلالا أو حلل حراما فإنه يدخل في المسرفين ويخرج عن المقتصدين ومن الإسراف الأكل لا لحاجة وفي وقت شبع (2/291)
قوله : 32 - { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } الزينة ما يتزين به الإنسان من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة كالمعادن التي لم يرد نهي عن التزين بها والجواهر ونحوها وقيل : الملبوس خاصة ولا وجه له بل هو من جملة ما تشمله الآية فلا حرج على من لبس الثياب الجيدة الغالية القيمة إذا لم يكن مما حرمه الله ولا حرج على من تزين بشيء من الأشياء التي لها مدخل في الزينة ولم يمنع منها مانع شرعي ومن زعم أن ذلك يخالف الزهد فقد غلط غلطا بينا وقد قدمنا في هذا ما يكفي وهكذا الطيبات من المطاعم والمشارب ونحوهما مما يأكله الناس فإنه لا زهد في ترك الطيب منها ولهذا جاءت الآية هذه معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه أو حرمه على غيره وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري : ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض الشهوة وقد قدمنا نقل مثل هذا عنه مطولا والطيبات المستلذات من الطعام وقيل : هو اسم عام لما طاب كسبا ومطعما : قوله : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } أي أنها لهم بالأصالة وإن شاركهم الكفار فيها ما داموا في الحياة { خالصة يوم القيامة } أي مختصة بهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الكفار وقرأ نافع { خالصة } بالرفع وهي قراءة ابن عباس على أنها خبر بعد خبر وقرأ الباقون بالنصب على الحال قال أبو علي الفارسي : ولا يجوز الوقف على الدنيا لأن ما بعدها متعلق بقوله : { للذين آمنوا } حال منه بتقدير : قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة قوله : { كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات المشتملة على التحليل والتحريم (2/292)
قوله : 33 - { قل إنما حرم ربي الفواحش } جمع فاحشة وقد تقدم تفسيرها { ما ظهر منها وما بطن } أي ما أعلن منها وما أسر وقيل : هي خاصة بفواحش الزنا ولا وجه لذلك والإثم يتناول كل معصية يتسبب عنها الإثم وقيل : هو الخمر خاصة ومنه قول الشاعر :
( شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول )
ومثله قول الآخر :
( يشرب الإثم بالصواع جهارا )
وقد أنكر جماعة من أهل العلم على من جعل الإثم خاصا بالخمر قال النحاس : فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك وحقيقته أنه جميع المعاصي كما قال الشاعر :
( إني وجدت الأمر أرشده ... تقوى الإله وشره الإثم )
قال الفراء : الإثم ما دون الحق والاستطالة على الناس انتهى وليس في إطلاق الإثم على الخمر ما يدل على اختصاصه به فهو أحد المعاصي التي يصدق عليها قال في الصحاح : وقد يسمى الخمر إثما وأنشد :
( شربت الإثم )
البيت وكذا أنشده الهروي قبله في غريبته قوله : { والبغي بغير الحق } أي الظلم المجاوز للحد وأفرده بالذكر بعد دخوله فيما قبله لكونه ذنبا عظيما كقوله : { وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } أي وأن تجعلوا لله شريكا لم ينزل عليكم به حجة والمراد التهكم بالمشركين لأن الله لا ينزل برهانا بأن يكون غيره شريكا له { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } بحقيقته وأن الله قاله وهذا مثل ما كانوا ينسبون إلى الله سبحانه من التحليلات والتحريمات التي لم يأذن بها
وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس أن النساء كن يطفن عراة إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة وتقول :
( اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله )
فنزلت { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال : كان الرجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة والزينة : اللباس وما يواري السوءة وما سوى ذلك من جيد البر والمتاع وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خذوا زينة الصلاة قالوا : وما زينة الصلاة ؟ قال : البسوا نعالكم فصلوا فيها ] وأخرج العقيلي وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم في قول الله : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } قال : صلوا في نعالكم والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جدا وأما كون ذلك هو تفسير الآية كما روي في هذين الحديثين فلا أدري كيف إسنادهما وقد ورد النهي عن أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { إنه لا يحب المسرفين } قال : في الطعام والشراب وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون فأنزل الله : { قل من حرم زينة الله } فأمروا بالثياب أن يلبسوها { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } قال : ينتفعون بها في الدنيا لا يتبعهم فيها مأثم يوم القيامة وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن الضحاك { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } قال : المشركون يشاركون المؤمنين في زهرة الدنيا وهي خالصة يوم القيامة للمؤمنين دون المشركين وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { والطيبات من الرزق } قال : الودك واللحم والسمن وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها وهو قول الله : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } وهذا هذا فأنزل الله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } يعني شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا فأكلوا من طيبات طعامهم ولبسوا من جياد ثيابهم ونكحوا من صالحي نسائها ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : ما ظهر منها العربة وما بطن الزنا وكانوا يطوفون بالبيت عراة وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال : ما ظهر منها طواف الجاهلية عارة وما بطن الزنا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { والإثم } قال المعصية : { والبغي } قال : أن يبغي على الناس بغير حق (2/292)
قوله : 34 - { ولكل أمة أجل } أي وقت معين محدود ينزل فيه عذابهم من الله أو يميتهم فيه ويجوز أن تحمل الآية على ما هو أعم من الأمرين جميعا والضمير في { أجلهم } لكل أمة : أي إذا جاء أجل كل أمة من الأمم كان ما قدره عليهم واقعا في ذلك الأجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه ساعة قال أبو السعود ما معناه : إن قوله : { ولا يستقدمون } عطف على { يستأخرون } لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلا وقيل المراد بالمجيء : الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك وقرأ ابن سيرين ( آجالهم ) بالجمع وخص الساعة بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات وقد استدل بالآية الجمهور على أن كل ميت يموت بأجله وإن كان موته بالقتل أو التردي أو نحو ذلك والبحث في ذلك طويل جدا ومثل هذه الآية قوله تعالى : { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } (2/295)
قوله : 35 - { يا بني آدم إما يأتينكم } الآية إن هي الشرطية وما زائدة للتوكيد ولهذا لزمت الفعل النون المؤكدة والقصص قد تقدم معناه والمعنى : إن أتاكم رسل كائنون منكم يخبرونكم بأحكامي ويبينونها لكم { فمن اتقى وأصلح } أي اتقى معاصي الله وأصلح حال نفسه باتباع الرسل وإجابتهم { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وهذه الجملة الشرطية هي الجواب للشرط الأول وقيل : جوابه ما دل عليه الكلام : أي إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فأطيعوهم والأول أولى وبه قال الزجاج (2/295)
36 - { والذين كذبوا بآياتنا } التي يقصها عليهم رسلنا { واستكبروا } عن إجابتها والعمل بما فيها { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لا يخرجون منها بسبب كفرهم بتكذيب الآيات والرسل (2/296)
37 - { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته } أي لا أحد أظلم منه وقد تقدم تحقيقه والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المكذبين المستكبرين { ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي مما كتب الله لهم من خير وشر وقيل : ينالهم من العذاب بقدر كفرهم وقيل : الكتاب هنا القرآن لأن عذاب الكفار مذكور فيه وقيل : هو اللوح المحفوظ قوله : { حتى إذا جاءتهم رسلنا } أي إلى غاية هي هذه وجملة { يتوفونهم } في محل نصب على الحال والمراد بالرسل هنا ملك الموت وأعوانه وقيل : حتى هنا هي التي للابتداء ولكن لا يخفى أن كونها لابتداء الكلام بعدها لا ينافي كونها غاية لما قبلها والاستفهام في قوله : { أين ما كنتم تدعون من دون الله } للتقريع والتوبيخ : أي أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله وتعبدونها وجملة { قالوا ضلوا عنا } استئنافية بتقدير سؤال وقعت هي جوابا عنه : أي ذهبوا عنا وغابوا فلا ندري أين هم ؟ { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } أي أقروا بالكفر على أنفسهم (2/296)
قوله : 38 - { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم } القائل هو الله عز و جل و في بمعنى مع : أي مع أمم وقيل : هي على بابها والمعنى : ادخلوا في جملتهم وقيل : هو قول مالك خازن النار والمراد بالأمم التي قد خلت من قبلهم من الجن والإنس هم الكفار من الطائفتين من الأمم الماضية { كلما دخلت أمة } من الأمم الماضية { لعنت أختها } أي الأمة الأخرى التي سبقتها إلى النار وجعلت أختا لها باعتبار الدين أو الضلالة أو الكون في النار { حتى إذا اداركوا فيها } أي تداركوا والتدارك : التلاحق والتتابع والاجتماع في النار وقرأ الأعمش تداركوا على الأصل من دون إدغام وقرأ ابن مسعود ( حتى إذا أدركوا ) أي أدرك بعضهم بعضا وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بقطع ألف الوصل فكأنه سكت على إذا للتذكر فلما طال سكوته قطع ألف الوصل كالمبتدئ بها وهو مثل قول الشاعر :
( يا نفس صبرا كل حي لاقى ... وكل اثنين إلى افتراق )
{ قالت أخراهم لأولاهم } : أي أخراهم دخولا لأولاهم دخولا وقيل { أخراهم } : أي سفلتهم وأتباعهم { لأولاهم } لرؤسائهم وكبارهم وهذا أول كما يدل عليه { ربنا هؤلاء أضلونا } فإن المضلين هم الرؤساء ويجوز أن يراد أنهم أضلوهم لأنهم تبعوهم واقتدوا بدينهم من بعدهم فيصح الوجه الأول لأن أخراهم تبعت دين أولاهم قوله : { فآتهم عذابا ضعفا من النار } الضعف الزائد على مثله مرة أو مرات ومثله قوله تعالى : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } وقيل : الضعف هنا الأفاعي والحيات وجملة { قال لكل ضعف } استئنافية جوابا لسؤال مقدر والمعنى لكل طائفة منكم ضعف من العذاب : أي الطائفة الأولى والطائفة الأخرى { ولكن لا تعلمون } بما لكل نوع من العذاب (2/296)
39 - { وقالت أولاهم لأخراهم } أي قال السابقون للاحقين أو المتبوعون للتابعين { فما كان لكم علينا من فضل } بل نحن سواء في الكفر بالله واستحقاق عذابه { فذوقوا } عذاب النار كما ذقناه { بما كنتم تكسبون } من معاصي الله والكفر به
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب وابن النجار عن أبي الدرداء قال : تذاكرنا زيادة العمر عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا : من وصل رحمه أنسئ في أجله فقال : إنه ليس بزائد في عمره قال الله تعالى : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } ولكن الرجل يكون له الذرية الصالحة فيدعون الله من بعده فيبلغه ذلك فذلك الذي ينسأ في أجله وفي لفظ : فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر وهذا الحديث ينبغي أن يكشف عن إسناده فقيه نكارة وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما بخلافه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان الحسن يقول : ما أحمق هؤلاء القوم يقولون : اللهم أطل عمره والله يقول : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر من طريق الزهري عن ابن المسيب قال : لما طعن عمر قال كعب : لو دعا الله لأخر في أجله فقيل له : أليس قد قال الله : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } فقال كعب : وقد قال الله : { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } قال : ما قدر لهم من خير وشر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : من الأعمال من عمل خيرا جزي به ومن عمل شرا جزي به وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضا قال : نصيبهم من الشقاوة والسعادة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : ما سبق من الكتاب وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في الآية قال : رزقه وأجله وعمله وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في الآية قال : من العذاب وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { قد خلت } قال : قد مضت { كلما دخلت أمة لعنت أختها } قال : كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك يعلن المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والصابئون الصابئين والمجوس المجوس تلعن الآخرة الأولى { حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم } الذين كانوا في آخر الزمان { لأولاهم } الذين شرعوا لهم ذلك الدين { ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف } الأولى والآخرة { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } وقد ضللتم كما ضللنا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { عذابا ضعفا } قال : مضاعفا { قال لكل ضعف } قال : مضاعف وفي قوله : { فما كان لكم علينا من فضل } قال : تخفيف من العذاب (2/297)
قوله : 40 - { لا تفتح لهم أبواب السماء } قرأ ابن عباس وحمزة والكسائي بفتح التحتية لكون تأنيث الجمع غير حقيقي فجاز تذكيره وقرأ الباقون بالفوقية على التأنيث وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تفتح بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد والمعنى : أنها لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا وقد دل على هذا المعنى وأنه المراد من الآية ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة إذا انتهوا بروح الكافر إلى السماء الدنيا يستفتحون فلا تفتح لهم أبواب السماء وقيل : لا تفتح أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا قاله مجاهد والنخعي وقيل لأعمالهم : أي لا تقبل بل ترد عليهم فيضرب بها في وجوههم وقيل المعنى : أنها لا تفتح لهم أبواب الجنة يدخلونها لأن الجنة في السماء فيكون على هذا القول العطف لجملة { ولا يدخلون الجنة } من عطف التفسير ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه فإن ذلك لا يدل على فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية قوله : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } أي أن هؤلاء الكفار المكذبين المستكبرين لا يدخلون الجنة بحال من الأحوال ولهذا علقه بالمستحيل فقال : { حتى يلج الجمل في سم الخياط } وهو لا يلج أبدا وخص الجمل بالذكر لكونه يضرب به المثل في كبر الذات وخص سم الخياط وهو ثقب الإبرة بالذكر لكونه غاية في الضيق والجمل الذكر من الإبل والجمع جمال وأجمال وجمالات وإنما سمي جملا إذا أربع وقرأ ابن عباس الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشددة وهو حبل السفينة الذي يقال له : القلس وهو حبال مجموعة قاله ثعلب وقيل : الحبل الغليظ من القنب وقيل : الحبل الذي يصعد به في النخل وقرأ سعيد بن جبير الجمل بضم الجيم وتخفيف الميم وهو القلس أيضا وقرأ أبو السماك الجمل بضم الجيم وسكون الميم وقرئ أيضا بضمهما وقرأ عبد الله بن مسعود : حتى يلج الجمل الأصغر في سم الخياط وقرئ { في سم } بالحركات الثلاث والسم : كل ثقب لطيف ومنه ثقب الإبرة والخياط ما يخاط به يقال : خياط ومخيط { وكذلك نجزي المجرمين } أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين : أي جنس من أجرم وقد تقدم تحقيقه (2/298)
والمهاد : الفراش والغواش جمع غاشية : أي نيران تغشاهم من فوقهم كالأغطية 41 - { وكذلك نجزي الظالمين } أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من اتصف بصفة الظلم (2/299)
قوله : 42 - { لا نكلف نفسا إلا وسعها } أي لا نكلف العباد إلا بما يدخل تحت وسعهم ويقدون عليه ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر ومثله { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } وقرأ الأعمش تكلف بالفوقية ورفع نفس والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول وخبره { أصحاب الجنة } والجملة خبر الموصول وجملة { هم فيها خالدون } في محل نصب على الحال (2/300)
قوله : 43 - { ونزعنا ما في صدورهم من غل } هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة أن ينزع الله ما في قلوبهم من الغل على بعضهم حتى تصفو قلوبهم ويود بعضهم بعضا فإن الغل لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا لكان في ذلك تنغيص لنعيم الجنة لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهم عيش مع وجود الآخر والغل : الحقد الكامن في الصدور وقل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل المنازل { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } أي لهذا الجزاء العظيم وهو الخلود في الجنة ونزع الغل من صدورهم والهداية هذه لهذا هي الهداية لسببه من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا { وما كنا لنهتدي } قرأ ابن عامر بإسقاط الواو وقرأ الباقون بإثباتها وما كنا نطيق أن نهتدي بهذا الأمر لولا هداية الله لنا والجملة مستأنفة أو حالية وجواب لولا محذوف يدل عليه ما قبله : أي لولا هداية الله لنا ما كنا لنهتدي قوله : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } اللام لام القسم قالوا : هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم اغتباطا بما صاروا فيه بسبب ما تقدم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه قوله : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقيل لهم : تلكم الجنة أورثتموها : أي ورثتم منازلها بعملكم قال في الكشاف : بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقوله المبطلة انتهى
أقول : يا مسكين هذا قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما صح عنه : [ سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ] والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلا فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة وفي التنزيل : { ذلك الفضل من الله } وفيه { فسيدخلهم في رحمة منه وفضل }
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لا تفتح لهم أبواب السماء } يعني لا يصعد إلى الله من عملهم شيء وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال : لا تفتح لهم لعمل ولا لدعاء وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضا في الآية قال : لا تفتح لأرواحهم وهي تفتح لأرواح المؤمنين وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا { حتى يلج الجمل } قال : ذو القوائم { في سم الخياط } قال : في خرت الإبرة وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الكبير وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله : { حتى يلج الجمل } قال : زوج الناقة وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وقال : هو الحبل الغليظ أو هو من حبال السفن وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر أنه سئل عن سم الخياط فقال : الجمل في ثقب الإبرة وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : المهاد الفراش والغواش اللحف وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب مثله وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } وأخرج النسائي وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله فيكون حسرة عليهم وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لولا أن هدانا الله فهذا شكرهم ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } قال : نودوا أن صحوا فلا تسقموا وانعموا فلا تبأسوا وشبوا فلا تهرموا واخلدوا فلا تموتوا (2/300)
مناداة أصحاب الجنة لأصحاب النار لم تكن لقصد الإخبار لهم بما نادوهم به بل لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم و 44 - { أن قد وجدنا } هو نفس النداء : أي إنا قد وصلنا إلى ما وعدنا الله به من النعيم فهل وصلتم إلى ما وعدكم الله به من العذاب الأليم والاستفهام هو للتقريع والتوبيخ وحذف مفعول وعد الثاني لكون الوعد لم يكن لهم بخصوصهم بل لكل الناس كالبعث والحساب والعقاب وقيل : حذف لإسقاط الكفار عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد { قالوا نعم } أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وقرأ الأعمش والكسائي { نعم } بكسر العين قال مكي : من قال : نعم بكسر العين فكأنه أراد أن يفرق بين نعم التي جواب وبين نعم التي هي اسم للبقر والغنم والإبل والمؤذن : المنادي أي فنادى مناد بينهم : أي بين الفريقين قيل : هو من الملائكة { أن لعنة الله على الظالمين } قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والبزي بتشديد { أن } وهو الأصل وقرأ الباقون بالتخفيف على أنها المخففة من الثقيلة أو المفسرة وقرأ الأعمش بكسر همزة إن على إضمار القول (2/302)
وجملة 45 - { الذين يصدون عن سبيل الله } صفة للظالمين ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم أو أعني والصد : المنع : أي يمنعون الناس عن سلوك سبيل الحق { ويبغونها عوجا } أي يطلبون إعوجاجها : أي ينفرون الناس عنها ويقدحون في استقامتها بقولهم إنها غير حق وإن الحق ما هو فيه والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصبا وبالفتح ما كان في المنتصب كالرمح وجملة { وهم بالآخرة كافرون } في محل نصب على الحال (2/302)
قوله : 46 - { وبينهما حجاب } أي بين الفريقين أو بين الجنة والنار والحجاب هو السور المذكور في قوله تعالى : { فضرب بينهم بسور } قوله : { وعلى الأعراف رجال } الأعراف : جمع عرف وهي شرفات السور المضروب بينهم ومنه عرف الفرس وعرف الديك والأعراف في اللغة : المكان المرتفع وهذا الكلام خارج مخرج المدح كما في قوله : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله }
وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف من هم ؟ فقيل : هم الشهداء ذكره القشيري وشرحبيل بن سعد وقيل : هم فضلاء المؤمنين فرغوا من شغل أنفسهم وتفرغوا لمطالعة أحوال الناس ذكره مجاهد وقيل : هم قوم أنبياء ذكره الزجاج وقيل : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم قاله ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وسعيد بن جبير وقيل : هم العباس وحمزة وعلي وجعفر الطيار يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها حكي ذلك عن ابن عباس وقيل : هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة واختار هذا القول النحاس وقيل : هم أولاد الزنا روي ذلك عن ابن عباس وقيل : هم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار ذكره أبو مجلز وجملة { يعرفون كلا بسيماهم } صفة لرجال والسيما العلامة : أي يعرفون كلا من أهل الجنة والنار بعلاماتهم كبياض الوجوه وسوادها أو مواضع الوضوء من المؤمنين أو علامة يجعلها الله لكل فرق في ذلك الموقف يعرف رجال الأعراف بها السعداء من الأشقياء { ونادوا أصحاب الجنة } أي نادى رجال الأعراف أصحاب الجنة حين رأوهم { أن سلام عليكم } أي نادوهم بقولهم سلام عليكم تحية لهم وإكراما وتبشيرا أو أخبروهم بسلامتهم من العذاب قوله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف والحال أنه يطمعون في دخولها وقيل معنى { يطمعون } يعلمون أنهم يدخلونها وذلك معروف عند أهل اللغة : طمع بمعنى علم ذكره النحاس وهذا القول أعني كونهم أهل الأعراف مروي عن جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود وقال أبو مجلز : هم أهل الجنة : أي أن أهل الأعراف قالوا لهم : سلام عليكم حال كون أهل الجنة لم يدخلوها والحال أنهم يطمعون في دخولها (2/302)
قوله : 47 - { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } أي إذا صرفت أبصار أهل الأعراف تلقاء أصحاب النار : أي جهة أصحاب واصل معنى { تلقاء } جهة اللقاء وهي جهة المقابلة ولم يأت مصدر على تفعال بكسر أوله غير مصدرين أحدهما هذا والآخر تبيان وما عداهما بالفتح { قالوا } أي قال أهل الأعراف : { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } سألوا الله أن لا يجعلهم منهم (2/303)
48 - { ونادى أصحاب الأعراف رجالا } من الكفار { يعرفونهم بسيماهم } أي بعلاماتهم { قالوا } بدل من نادى { ما أغنى عنكم جمعكم } الذي كنتم تجمعون للصد عن سبيل الله والاستفهام للتقريع والتوبيخ قوله : { وما كنتم تستكبرون } ما مصدرية : أي وما أغنى عنكم استكباركم (2/303)
49 - { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } هذا من كلام أصحاب الأعراف : أي قالوا للكفار مشيرين إلى المسلمين الذين صاروا إلى الجنة هذه المقالة وقد كان الكفار يقسمون في الدنيا عند رؤيتهم لضعفاء المسلمين بهذا القسم وهذا تبكيت للكفار وتحسير لهم قوله : { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } هذا تمام كلام أصحاب الأعراف : أي قالوا للمسلمين ادخلوا الجنة فقد انتفى عنكم الخوف والحزن بعد الدخول وقرأ طلحة بن مصرف أدخلوا بكسر الخاء
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } قال : من النعيم والكرامة { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } قال : من الخزي والهوان والعذاب وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما وقف على قليب بدر تلا هذ الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وبينهما حجاب } قال : هو السور وهو الأعراف وإنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن حذيفة قال : الأعراف سور بين الجنة والنار وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس قال : الأعراف هو الشيء المشرف وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال : الأعراف سور له عرف كعرف الديك وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : الأعراف جبال بين الجنة والنار فهم على أعرافها يقول على ذراها وأخرج ابن جرير عن ابن عباس إنها تل بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : زعموا أنه الصراط وأخرج ابن جرير عن حذيفة قال : أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار وهم آخر من يدخل الجنة قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود : أنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يقفون على الصراط وأخرج ابن جرير عن حذيفة نحوه وكذا أخرج نحوه عنه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أصحاب الأعراف ؟ فقال : هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم ] قال ابن كثير : وهذا مرسل حسن وأخرج البيهقي في البعث عن حذيفة أراه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يجمع الناس يوم القيامة فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة ويؤمر بأهل النار إلى النار ثم يقال لأصحاب الأعراف ما تنتظرون ؟ قالوا : ننتظر أمرك فيقال لهم : إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوا بمغفرتي ورحمتي ] وأخرج سعيد بن منصور وابن منيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الرحمن المزني قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أصحاب الأعراف ؟ فقال : هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آبائهم فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله ومنعهم من الجنة معصيتهم آباءهم ] وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه وأخرج ابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة مرفوعا نحوه أيضا وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلالي عن أبيه مرفوعا نحوه وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن رجل من مزينة مرفوعا نحوه وأخرج أبو الشيخ عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار أنه سئل عن قوله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } قال : سلمت عليهم الملائكة وهم لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها حين سلمت وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : أصحاب الأعراف يعرفون الناس بسيماهم أهل النار بسواد وجوههم وأهل الجنة ببياض وجوههم فإذا مروا بزمرة يذهب بهم إلى الجنة قالوا : { سلام عليكم } وإذا مروا بزمرة يذهب بها إلى النار قالوا : { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ونادى أصحاب الأعراف رجالا } قال : في النار { يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون } قال : الله لأهل التكبر { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } يعني أصحاب الأعراف { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } (2/303)
قوله : 50 - { أن أفيضوا علينا من الماء } الإفاضة : التوسعة يقال : أفاض عليه نعمه طلبوا منهم أن يواسوهم بشيء من الماء أو بشيء مما رزقهم الله من غيره من الأشربة أو الأطعمة فأجابوا بقولهم : { إن الله حرمهما } أي الماء وما رزقهم الله من غيره { على الكافرين } فلا نواسيكم بشيء مما حرمه الله عليكم وقيل : إن هذا النداء من أهل النار كان بعد دخول أهل الأعراف الجنة (2/306)
وجملة 51 - { الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا } في محل جر صفة الكافرين وقد تقدم تفسير اللهو واللعب والغرر قوله : { فاليوم ننساهم } أي نتركهم في النار { كما نسوا لقاء يومهم هذا } الكاف نعت مصدر محذوف وما مصدرية : أي نسيانا كنسيانهم لقاء يومهم هذا قوله : { وما كانوا بآياتنا يجحدون } معطوف على ما نسوا : أي كما نسوا وكما كانوا بآياتنا يجحدون : أي ينكرونها (2/306)
واللام في 52 - { ولقد جئناهم } جواب القسم والمراد بالكتاب الجنس إن كان الضمير للكفار جميعا وإن كان للمعاصرين للنبي صلى الله عليه و سلم فالمراد بالكتاب القرآن والتفصيل التبيين و { على علم } في محل نصب على الحال : أي عالمين حال كونه { هدى } للمؤمنين { ورحمة } لهم قال الكسائي والفراء : ويجوز هدى ورحمة بالخفض على النعت لكتاب (2/306)
قوله : 53 - { هل ينظرون إلا تأويله } بالهمز من آل وأهل المدينة يخفون الهمزة والنظر الانتظار : أي هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في الكتاب من العقاب الذي يؤول الأمر إليه وقيل : تأويله جزاؤه وقيل : عاقبته والمعنى متقارب ويوم ظرف ليقول : أي يوم يأتي تأويله وهو يوم القيامة { يقول الذين نسوه من قبل } أي تركوه من قبل أن يأتي تأويله { قد جاءت رسل ربنا بالحق } الذي أرسلهم الله به إلينا { فهل لنا من شفعاء } استفهام منهم ومعناه التمني { فيشفعوا لنا } منصوب لكونه جوابا للاستفهام قوله : { أو نرد } قال الفراء : المعنى أو هل نرد { فنعمل غير الذي كنا نعمل } وقال الزجاج : نرد عطف على المعنى : أي هل يشفع لنا أحد أو نرد وقرأ ابن أبي إسحاق أو نرد فنعمل بنصبهما كقول امرئ القيس :
( فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا )
وقرأ الحسن برفعهما ومعنى الآية : هل لنا شفعاء يخلصونا مما نحن فيه من العذاب أو هل نرد إلى الدنيا فنعمل صالحا غير ما كنا نعمل من المعاصي { قد خسروا أنفسهم } أي لم ينتفعوا بها فكانت أنفسهم بلاء عليهم ومحنة لهم فكأنهم خسروها كما يخسر التاجر رأس ماله وقيل : خسروا النعيم وحظ الأنفس { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي افتراؤهم أو الذي كانوا يفترونه والمعنى أنه بطل كذبهم الذي كانوا يقولونه في الدنيا أو غاب عنهم ما كانوا يجعلونه شريكا لله فلم ينفعهم ولا حضر معهم (2/306)
قوله : 54 - { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } هذا نوع من بديع صنع الله وجليل قدرته وتفرده بالإيجاد الذي يوجب على العباد توحيده وعبادته وأصل ستة سدسة أبدلت التاء من أحد السينين وأدغم فيها الدال والدليل على هذا أنك تقول في التصغير سديسة وفي الجمع أسداس وتقول جاء فلانا سادسا واليوم من طلوع الشمس إلى غروبها قيل : هذه الأيام من أيام الدنيا وقيل : من أيام الآخرة وهذه الأيام الست أولها الأحد وآخرها الجمعة وهو سبحانه قادر على خلقها في لحظة واحدة يقول لها كوني فتكون ولكنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور أو خلقها في ستة أيام لكون لكل شيء عنده أجلا وفي آية أخرى : { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } قوله : { ثم استوى على العرش } :
قد اختلف العلماء في معنى هذا على أربعة عشر قولا وأحقها وأولاها بالصواب مذهب السلف الصالح أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف بل على الوجه الذي يليق به مع تنزهه عما لا يجوز عليه والاستواء في لغة العرب هو العلو والاستقرار قال الجوهري : استوى على ظهر دابته : أي استقر واستوى إلى السماء : أي صعد واستوى : أي استولى وظهر ومنه قول الشاعر :
( قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق )
واستوى الرجل : أي انتهى شبابه واستوى : أي انتسق واعتدل وحكي عن أبي عبيدة أن معنى { استوى } هنا : علا ومثله قول الشاعر :
( فيورد بهم ماء ثقيفا بقفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى )
أي علا وارتفع والعرش قال الجوهري : هو سرير الملك ويطلق العرش على معان أخر منها عرش البيت : سقفه وعرش البئر : طيها بالخشب وعرش السماك : أربعة كواكب صغار ويطلق على الملك والسلطان والعز ومنه قول زهير :
( تداركتما عبسا وقد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامهما النعل )
وقول الآخر :
( إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحرث بن شهاب )
وقول الآخر :
( رأوا عرشي تثلم جانباه ... فلما أن تثلم أفردوني )
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما وهو المراد هنا قوله : { يغشي الليل النهار } أي يجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { يغشي } بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان يقال : أغشى يغشي وغشي يغشي والتغشية في الأصل : إلباس الشيء الشيء ولم يذكر في هذه الآية يغشي الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } وقرأ حميد بن قيس يغشي الليل والنهار على إسناد الفعل إلى الليل ومحل هذه الجملة النصب على الحال والتقدير : استوى على العرش مغشيا الليل النهار وهكذا قوله : { يطلبه حثيثا } حال من الليل : أي حال كون الليل طالبا للنهار طلبا حثيثا لا يفتر عنه بحال وحثيثا صفة مصدر محذوف أي يطلبه طلبا حثيثا : أو حال من فاعل يطلب والحث : الاستعجال والسرعة يقال ولى حثيثا : أي مسرعا قوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } قال الأخفش : معطوف على السموات وقرأ ابن عامر برفعها كلها على الابتداء والخبر والمعنى على الأول : وخلق الشمس والقمر والنجوم حال كونها مسخرات وعلى الثاني : الإخبار عن هذه بالتسخير قوله : { ألا له الخلق والأمر } إخبار منه سبحانه لعباده بأنهما له والخلق : المخلوق والأمر : كلامه وهو كن في قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل أو التصرف في مخلوقاته ولما ذكر سبحانه في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير ثم ذكر استواءه على عرشه وتسخير الشمس والقمر والنجوم وأن له الخلق والأمر قال : { تبارك الله رب العالمين } أي كثرت بركته واتسعت ومنه بورك الشيء وبورك فيه كذا قال ابن عرفة وقال الأزهري في { تبارك } معناه تعالى وتعاظم وقد تقدم تفسير { رب العالمين } في الفاتحة مستكملا
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } قال : ينادي الرجل أخاه فيقول : يا أخي أغثني فإني قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال : أجبه فيقول : { إن الله حرمهما على الكافرين } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } قال : من الطعام وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال : يستسقونهم ويستطعمونهم وفي قوله : { إن الله حرمهما على الكافرين } قال : طعام الجنة وشرابها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } يقول : نتركهم في النار كما تركوا لقاء يومهم هذا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فاليوم ننساهم } قال : نؤخرهم وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { هل ينظرون إلا تأويله } قال : عاقبته وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : { يوم يأتي تأويله } جزاؤه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { يوم يأتي تأويله } قال : يوم القيامة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { ما كانوا يفترون } قال : ما كانوا يكذبون في الدنيا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { استوى على العرش } الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به إيمان والجحود كفر وأخرج اللالكائي عن مالك أن رجلا سأله كيف استوى على العرش ؟ فقال : الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء والخطيب في تاريخه عن الحسن بن علي قال : أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية في كل ليلة أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم ومن كل شيطان مريد ومن كل سبع ضاري ومن كل لص عادي : آية الكرسي وثلاث آيات من الأعراف { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } وعشرا من أول سورة الصافات وثلاث آيات من الرحمن أولها { يا معشر الجن والإنس } وخاتمة الحشر وأخرج أبو الشيخ عن عبيد بن أبي مرزوق قال : من قرأ عند نومه { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } الآية بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح وعوفي من السرق وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن قيس صاحب عمر بن عبد العزيز قال : مرض رجل من أهل المدينة فجاءه زمرة من أصحابه يعودونه فقرأ رجل منهم { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } الآية كلها وقد أصمت الرجل فتحرك ثم استوى جالسا ثم سجد يومه وليلته حتى كان من الغد من الساعة التي سجد فيها قال له أهله : الحمد لله الذي عافاك قال : بعث إلى نفسي ملك يتوفاها فلما قرأ صاحبكم الآية التي قرأ سجد الملك وسجدت بسجوده فهذا حين رفع رأسه ثم مال فقضى وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { يغشي الليل النهار } قال : يغشي الليل النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعا حتى يدركه وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : يلبس الليل النهار وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { حثيثا } قال : سريعا وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في قوله : { ألا له الخلق والأمر } قال : الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال : الخلق هو الخلق والأمر هو الكلام (2/307)
أمرهم الله سبحانه بالدعاء وقيد ذلك بكون الداعي متضرعا بدعائه مخفيا له وانتصاب 55 - { تضرعا وخفية } على الحال : أي متضرعين بالدعاء مخفين له أو صفة مصدر محذوف : أي ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية والتضرع من الضراعة وهي الذلة والخشوع والاستكانة والخفية : الإسرار به فإن ذلك أقطع لعرق الرياء وأحسم لباب ما يخالف الإخلاص ثم علل ذلك بقوله : { إنه لا يحب المعتدين } أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كل شيء فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى والله لا يحب المعتدين وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولا أوليا ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا أو إدراك ما هو محال في نفسه أو بطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة أو يرفع صوته بالدعاء صارخا به (2/310)
قوله : 56 - { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه قليلا كان أو كثيرا ومنه قتل الناس وتخريب منازلهم وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم ومن الفساد في الأرض الكفر بالله والوقوع في معاصيه ومعنى { بعد إصلاحها } : بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع قوله : { وادعوه خوفا وطمعا } إعرابهما يحتمل الوجهين المتقدمين في { تضرعا وخيفة } وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفا وجلا طامعا في إجابة الله لدعائه فإنه إذا كان عند الدعاء جامعا بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه والخوف : الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها والطمع : توقع حصول الأمور المحبوبة قوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عبادة الله
وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله حيث قال : قريب ولم يقل قريبة فقال الزجاج : إن الرحمة مؤولة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران ورجح هذا التأويل النحاس وقال النضر بن شميل : الرحمة مصدر بمعنى الترحم وحق المصدر التذكير وقال الأخفش سعيد : أراد بالرحمة هنا المطر وتذكير بعض المؤنث جائز وأنشد :
( فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها )
وقال أبو عبيدة : تذكير قريب على تذكير المكان : أي مكان قريب قال علي بن سليمان الأخفش : وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا كما تقول : إن زيدا قريبا منك وقال الفراء : إن القريب إذا كان بمعنى المسافة فيذكر ويؤنث وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم وروي عن الفراء أنه قال : يقال في النسب قريبة فلان وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث فيقال : دارك عنا قريب وفلانة منا قريب قال الله تعالى : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } ومنه قول امرئ القيس :
( لك الويل أن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا )
وروي عن الزجاج أنه خطأ الفراء فيما قاله وقال : إن سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما وقيل : إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي جاز في خبرها التذكير ذكر معناه الجوهري (2/311)
قوله : 57 - { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } عطف على قوله : { يغشي الليل النهار } يتضمن ذكر نعمة من النعم التي أنعم بها على عباده مع ما في ذلك من الدلالة على وحدانيته وثبوت إلاهيته ورياح جمع ريح وأصل ريح روح وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو { نشرا } بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب : أي ذات نشر وقرأ الحسن وقتادة وابن عامر { نشرا } بضم النون وإسكان الشين من نشر وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي { نشرا } بفتح النون وإسكان الشين على المصدر ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ومعنى هذه القراءات يرجع إلى النشر الذي هو خلاف الطي فكأن الريح مع سكونها كانت مطوية ثم ترسل من طيها فتصير كالمنفتحة وقال أبو عبيدة : معناه متفرقة في وجوهها على معنى ننشرها هاهنا وهاهنا وقرأ عاصم { بشرا } بالباء الموحدة وإسكان الشين جمع بشير : أي الرياح تبشر بالمطر ومثله قوله تعالى : { يرسل الرياح مبشرات } قوله : { بين يدي رحمته } أراد بالرحمة هنا المطر : أي قدام رحمته والمعنى : أنه سبحانه يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات بين يدي المطر قوله : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا } أقل فلان الشيء : حمله ورفعه والسحاب يذكر ويؤنث والمعنى : حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء الذي صارت تحمله { سقناه } أي السحاب { لبلد ميت } أي مجدب ليس فيه نبات يقال : سقته لبلد كذا وإلى بلد كذا وقيل اللام هنا لام العلة : أي لأجل بلد ميت والبلد هو الموضع العامر من الأرض { فأنزلنا به الماء } أي بالبلد الذي سقناه لأجله أو بالسحاب : أي أنزلنا بالسحاب الماء الذي تحمله أو بالريح : أي فأنزلنا بالريح المرسلة بين يدي المطر الماء وقيل إن الباء هنا بمعنى من : أي فأنزلنا منه الماء { فأخرجنا به } أي بالماء { من كل الثمرات } أي من جميع أنواعها قوله : { كذلك نخرج الموتى } أي مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات نخرج الموتى من القبور يوم حشرهم { لعلكم تذكرون } أي تتذكرون فتعلمون بعظيم قدرة الله وبديع صنعته وأنه قادر على بعثكم كما قدر على إخراج الثمرات التي تشاهدونها (2/312)
قوله : 58 - { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } أي التربة الطيبة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره إخراجا حسنا تاما وافيا { والذي خبث لا يخرج إلا نكدا } أي والتربة الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكدا : أي لا خير فيه وقرأ طلحة بن مصرف نكدا بسكون الكاف وقرأ ابن القعقاع { نكدا } بفتح الكاف : أي ذا نكد وقرأ الباقون { نكدا } بفتح النون وكسر الكاف وقرئ { يخرج } أي يخرجه البلد قيل الكاف : أي ذا نكد وقرأ الباقون نكدا بفتح النون وكسر الكاف وقرئ { يخرج } أي خرجه البلد قيل : ومعنى الآية التشبيه شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب والبليد بالبلد الخبيث ذكره النحاس وقيل هذا مثل للقلوب فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب والنائي عنه بالبلد الخبيث قاله الحسن وقيل : هو مثل لقلب المؤمن والمنافق قاله قتادة وقيل : هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم قاله مجاهد { كذلك نصرف الآيات } أي مثل ذلك التصريف { لقوم يشكرون } الله ويعترفون بنعمته
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } قال : السر { إنه لا يحب المعتدين } في الدعاء ولا في غيره وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : التضرع علانية والخفية سر وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } يعني مستكينا وخفية : يعني في خفض وسكون في حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة { إنه لا يحب المعتدين } يقول : لا تدعوا على المؤمن والمؤمنة بالشر : اللهم اخزه والعنه ونحو ذلك فإن ذلك عدوان وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي مجلز في قوله : { إنه لا يحب المعتدين } قال : لا تسألوا منازل الأنبياء وأخرج ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله يقول : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا فرضي قوله فقال : { إذ نادى ربه نداء خفيا } وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن صالح في قوله : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } قال : بعدما أصلحها الأنبياء وأصحابهم وأخرج أبو الشيخ عن أبي سنان في الآية قال : أحللت حلالي وحرمت حرامي وحددت حدودي فلا تفسدوها وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ادعوه خوفا وطمعا } قال : خوفا منه وطمعا لما عنده { إن رحمة الله قريب من المحسنين } يعني المؤمنين ومن لم يؤمن بالله فهو من المفسدين وأخرج ابن جريج وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وهو الذي يرسل الرياح } قال : إن الله يرسل الريح فيأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان فيخرجه من ثم ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { بشرا بين يدي رحمته } قال : يستبشر بها الناس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { بين يدي رحمته } قال : هو المطر وفي قوله : { كذلك نخرج الموتى } قال : كذلك تخرجون وكذلك النشور كما يخرج الزرع بالماء وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { كذلك نخرج الموتى } قال : إذا أراد الله أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى يشقق عنهم الأرض ثم يرسل الأرواح فيهوي كل روح إلى جسده فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والبلد الطيب } الآية قال : هو مثل ضربه الله للمؤمن يقول : هو طيب وعمله طيب كما أن البلد الطيب ثمرها طيب { والذي خبث } ضرب مثلا للكافر كالبلد السبخة المالحة التي لا تخرج منها البركة فالكافر هو الخبيث وعمله خبيث وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين (2/312)
لما بين سبحانه كمال قدرته وبديع صنعته في الآيات السابقة ذكر هنا أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار ووعيدهم لتنبيه هذه الأمة على الصواب وأن لا يقتدوا بمن خالف الحق من الأمم السالفة واللام جواب قسم محذوف وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم وقد تقدم ذكر نوح في آل عمران فأغنى عن الإعادة هنا وما قيل من أن إدريس قبل نوح فقال ابن العربي : إنه وهم قال المازري : فإن صح ما ذكره المؤرخون كان محمولا على أن إدريس كان نبيا غير مرسل وجملة 59 - { فقال يا قوم اعبدوا الله } استئنافية جواب سؤال مقدر قوله : { ما لكم من إله غيره } هذه الجملة في حكم العلة لقوله : { اعبدوا } أي اعبدوه لأنه لم يكن لكم إله غيره حتى يستحق منكم أن يكون معبودا قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة وابن كثير وابن عامر برفع { غيره } على أنه نعت لإله على الموضع وقرأ الكسائي بالخفض في جميع القرآن على أنه نعت على اللفظ وأجاز الفراء والكسائي النصب على الاستثناء : يعني ما لكم من إله إلا إياه وقال أبو عمرو : ما أعرف الجر ولا النصب ويرده أن بعض بني أسد ينصبون غير في جميع الأحوال ومنه قول الشاعر :
( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أرقال )
وجملة { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } جملة متضمنة لتعليل الأمر بالعبادة : أي إن لم تعبدوه فإني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة أو عذاب يوم الطوفان (2/314)
قوله : 60 - { قال الملأ من قومه } جملة استئنافية جواب سؤال مقدر والملأ أشراف القوم ورؤساؤهم وقيل : هم الرجال وقد تقدم بيانه في البقرة والضلال : العدول عن طريق الحق والذهاب عنه : أي إنا لنراك في دعائك إلى عبادة الله وحده في ضلال عن طريق الحق (2/315)
وجملة 61 - { قال يا قوم } استئنافية أيضا جواب سؤال مقدر { ليس بي ضلالة } كما تزعمون { ولكني رسول من رب العالمين } : أرسلني إليكم لسوق الخير إليكم ودفع الشر عنكم نفى عن نفسه الضلالة وأثبت لها ما هو أعلى منصبا وأشرف رفعة وهو أنه رسول الله إليهم (2/315)
وجملة 62 - { أبلغكم رسالات ربي } في محل رفع على أنها صفة لرسول أو هي مستأنفة مبينة لحال الرسول والرسالات : ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه { وأنصح لكم } عطف على { أبلغكم } يقال : نصحته ونصحت له وفي زيادة اللام دلالة على المبالغة في إمحاض النصح وقال الأصمعي : الناصح : الخالص من الغل وكل شيء خلص فقد نصح فمعنى أنصح هنا : أخلص النية لكم عن شوائب الفساد والاسم النصيحة وجملة { وأعلم من الله ما لا تعلمون } معطوفة على الجملة التي قبلها مقررة لرسالته ومبينة لمزيد علمه وأنه يختص بعلم الأشياء التي لا يعلمونها بإخبار الله له بذلك (2/315)
قوله : 63 - { أوعجبتم } فتحت الواو لكونها العاطفة ودخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار عليهم والمعطوف عليه مقدر : كأنه قيل استبعدتم وعجبتم أو أكذبتم وعجبتم أو أنكرتم وعجبتم { أن جاءكم ذكر من ربكم } أي وحي وموعظة { على رجل منكم } أي على لسان رجل منكم تعرفونه ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه أو لا تعرفون لغته وقيل على بمعنى مع : أي مع رجل منكم لأجل ينذركم به { ولتتقوا } ما يخالفه { ولعلكم ترحمون } بسبب ما يفيده الإنذار لكم والتقوى منكم من التعرض لرحمة الله سبحانه لكم ورضوانه عنكم (2/315)
64 - { فكذبوه } أي فبعد ذلك كذبوه ولم يعملوا بما جاء به من الإنذار { فأنجيناه والذين معه } من المؤمنين به المستقرين معه { في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } واستمروا على ذلك ولم يرجعوا إلى التوبة وجملة { إنهم كانوا قوما عمين } علة لقوله : { وأغرقنا } أي أغرقنا المكذبين لكونهم عمي القلوب لا تنجع فيهم الموعظة ولا يفيدهم التذكير
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أول نبي أرسل نوح ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نعيم وابن عساكر عن يزيد الرقاشي قال : إنما سمي نوح عليه السلام نوحا لطول ما ناح على نفسه وأخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : الملأ يعني الأشراف من القوم وأخرج أبو الشيخ عن السدي { أن جاءكم ذكر من ربكم } يقول بيان من ربكم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إنهم كانوا قوما عمين } قال : كفارا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { إنهم كانوا قوما عمين } قال : عن الحق (2/316)
قوله : 65 - { وإلى عاد أخاهم هودا } أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم : أي واحدا من قبيلتهم أو صاحبهم أو سماه أخا لكونه ابن آدم مثلهم وعاد هو من ولد سام بن نوح قيل : هو عاد بن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وهود هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح و { هودا } عطف بيان { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } قد تقدم تفسير هذا قريبا والاستفهام في { أفلا تتقون } للإنكار (2/317)
وقد تقدم أيضا تفسير الملأ والسفاهة الخفة والحمق وقد تقدم بيان ذلك في البقرة نسبوه إلى الخفة والطيش ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا 66 - { إنا لنظنك من الكاذبين } مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة (2/317)
67 - { قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين } ثم أجاب عليهم بنفي السفاهة عنه واستدرك من ذلك بأنه رسول رب العالمين وقد تقدم بيان معنى هذا قريبا (2/317)
وكذلك سبق تفسير 68 - { أبلغكم رسالات ربي } وتقدم معنى الناصح والأمين المعروف بالأمانة (2/317)
وسبق أيضا تفسير 69 - { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } في قصة نوح التي قبل هذه القصة قوله : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أذكرهم نعمة من نعم الله عليهم وهي أنه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح : أي جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها أو جعلهم ملوكا وإذ منصوب بأذكر وجعل الذكر للوقت والمراد ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة لأن الشيء إذا كان وقته مستحقا للذكر فهو مستحق له بالأولى { وزادكم في الخلق بسطة } أي طولا في الخلق وعظم جسم زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد قوله : { فاذكروا آلاء الله } الآلاء : جمع إلى ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم وكرر التذكير لزيادة التقرير والآلاء النعم { لعلكم تفلحون } إن تذكرتم ذلك لأن الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها ومن شكر فقد أفلح (2/317)
قوله : 70 - { قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده } هذا استنكار منهم لدعائه إلى عبادة الله وحده دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله وإنما كان هذا مستنكرا عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه { ونذر ما كان يعبد آباؤنا } أي نترك الذي كانوا يعبدونه وهذا داخل في جملة ما استنكروه قوله : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به لشدة تمردهم على الله ونكوصهم عن طريق الحق وبعدهم عن اتباع الصواب (2/318)
فأجابهم بقوله : 71 - { قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيها على تحقق وقوعه كما ذكره أئمة المعاني والبيان وقيل معنى وقع وجب : والرجس العذاب وقيل : هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر ثم استنكر عليهم ما وقع منهم من المجادلة فقال : { أتجادلونني في أسماء } يعني أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها جعلها أسماء لأن مسمياتها لا حقيقة لها بل تسميتها بالآلهة باطلة فكأنها معدومة لم توجد بل الموجود أسماؤها فقط { سميتموها أنتم وآباؤكم } أي سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم أنتم وآباؤكم ولا حقيقة لذلك { ما نزل الله بها من سلطان } أي من حجة تحتجون بها على ما تدعونه لها من الدعاوى الباطلة ثم توعدهم بأشد وعيد فقال : { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } أي فانتظروا ما طلبتموه من العذاب فإني معكم من المنتظرين له وهو واقع بكم لا محالة ونازل عليكم بلا شك (2/318)
ثم أخبر الله سبحانه أنه نجى هودا ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ولم يقبل رسالته وأنه قطع دابر القوم المكذبين : أي استأصلهم جميعا وقد تقدم تحقيق معناه وجملة 72 - { وما كانوا مؤمنين } معطوفة على كذبوا : أي استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذيب بآياتنا وعدم الإيمان
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وإلى عاد أخاهم هودا } قال : ليس بأخيهم في الدين ولكنه أخوهم في النسب لأنه منهم فلذلك جعل أخاهم وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن خيثم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر وأخرج ابن عساكر عن وهب قال : كان الرجل من عاد ستين ذراعا بذراعهم وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع وكذلك مناخرهم وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا طولا وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس قال : كان الرجل منهم ثمانون ذراعا وكانت البرة فيهم ككلية البقرة والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه { وزادكم في الخلق بسطة } قال : شدة وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { آلاء الله } قال : نعم الله وفي قوله : { رجس } قال : سخط وأخرج ابن عساكر قال : لما أرسل الله الريح على عاد اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلتذ به الأنفس وإنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض وتدمغه بالحجارة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { وقطعنا دابر الذين كذبوا } قال : استأصلناهم وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة وأخرج ابن عساكر عن عثمان بن أبي العاتكة قال : قبلة مسجد دمشق قبر هود وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال : كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة (2/318)
قوله : 73 - { وإلى ثمود أخاهم صالحا } معطوف على ما تقدم : أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم وثمود قبيلة سموا باسم أبيهم وهو ثمود بن عاد بن إرم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وصالح عطف بيان وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود وامتناع ثمود من الصرف لأنه جعل اسما للقبيلة وقال أبو حاتم : لم ينصرف لأنه أعجمي قال النحاس : وهو غلط لأنه من الثمد وهو الماء القليل وقد قرأ القراء { ألا إن ثمود كفروا ربهم } على أنه اسم للحي وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى قوله : { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } قد تقدم تفسيره في قصة نوح { قد جاءتكم بينة من ربكم } أي معجزة ظاهرة وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد وجملة { هذه ناقة الله لكم آية } مشتملة على بيان البينة المذكورة وانتصاب آية على الحال والعامل فيها معنى الإشارة وفي إضافة الناقة إلى الله تشريف لها وتكريم قوله : { فذروها تأكل في أرض الله } أي دعوها تأكل في أرض الله فهي ناقة الله والأرض أرضه فلا تمنعوها مما ليس لكم ولا تملكونه { ولا تمسوها } بشيء من السوء : أي لا تتعرضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوءها قوله : { فيأخذكم عذاب أليم } هو جواب النهي : أي إذا لم تتركوا مسها بشيء من السوء أخذكم عذاب أليم : أي شديد الألم (2/320)
قوله : 74 - { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } أي استخلفكم في الأرض أو جعلكم ملوكا فيها كما تقدم في قصة هود { وبوأكم في الأرض } أي جعل لكم فيها مباءة وهي المنزل الذي تسكنونه { تتخذون من سهولها قصورا } أي تتخذون من سهولة الأرض قصورا أو هذه الجملة مبينة لجملة : { وبوأكم في الأرض } وسهول الأرض ترابها يتخذون منه اللبن والآجر ونحو ذلك فيبنون به القصور { وتنحتون الجبال بيوتا } أي تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتا تسكنون فيها وقد كانوا لقوتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال فيتخذون فيها كهوفا يسكنون فيها لأن الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم وانتصاب بيوتا على أنها حال مقدرة أو على أنها مفعول ثان لتنحتون على تضمينه معنى تتخذون قوله : { فاذكروا آلاء الله } تقدم تفسيره في القصة التي قبل هذه قوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } العثي والعثو لغتان وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما يغني عن الإعادة (2/320)
75 - { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } : أي قال الرؤساء المستكبرون من قوم صالح للمستضعفين الذين استضعفهم المستكبرون و { لمن آمن منهم } بدل من الذين استضعفوا بإعادة حرف الجر بدل البعض من الكل لأن من المستضعفين من ليس بمؤمن هذا على عود ضمير منهم إلى الذين استضعفوا فإن عاد إلى قومه كان بدل كل من المستضعفين ومقول القول : { أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه } قالوا هذا عن طريق الاستهزاء والسخرية قوله : { قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم هل تعلمون برسالته أم لا مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان وتنبيها على أن كونه مرسلا أمر واضح مكشوف لا يحتاج إلى السؤال عنه (2/321)
فأجابوا تمردا وعنادا بقولهم : 76 - { إنا بالذي آمنتم به كافرون } وهذه الجمل المعنوية يقال : مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كما سبق بيانه (2/321)
قوله : 77 - { فعقروا الناقة } العقر : الجرح وقيل : قطع عضو يؤثر في تلف النفس يقال عقرت الفرس : إذا ضربت قوائمه بالسيف وقيل أصل العقر : كسر عرقوب البعير ثم قيل للنحر عقر لأن العقر سبب النحر في الغالب وأسند العقر إلى الجميع مع كون العاقر واحدا منهم لأنهم راضون بذلك موافقون عليه وقد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه فقيل : قدار بن سالف وقيل غير ذلك { وعتوا عن أمر ربهم } أي استكبروا يقال عتا يعتو عتوا : استكبر وتعتى فلان : إذا لم يطع والليل العاتي : الشديد الظلمة { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا } من العذاب { إن كنت من المرسلين } هذا استعجال منهم للنقمة وطلب منهم لنزول العذاب وحلول البلية بهم (2/321)
78 - { فأخذتهم الرجفة } أي الزلزلة يقال : رجف الشيء يرجف رجفانا وأصله حركة مع صوت ومنه { يوم ترجف الراجفة } وقيل : كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم { فأصبحوا في دارهم } أي بلدهم { جاثمين } لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر وأصل الجثوم للأرنب وشبهها وقيل : للناس والطير والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم (2/321)
79 - { فتولى عنهم } صالح عند اليأس من إجابتهم { وقال } لهم هذه المقالة { لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ويحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية لحالهم الماضية كما وقع من النبي صلى الله عليه و سلم من التكليم لأهل قليب بدر بعد موته أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم وكأنه كان مشاهدا لذلك فتحسر على ما فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب ثم أبان عن نفسه أنه لم يأل جهدا في إبلاغهم الرسالة ومحض النصح لكن أبوا ذلك فلم يقبلوا منه فحق عليهم العذاب ونزل بهم ما كذبوا به واستعجلوه
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي الطفيل قال : قالت ثمود لصالح ائتنا بآية إن كنت من الصادقين قال : اخرجوا فخرجوا إلى هضبة من الأرض فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل ثم إنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها فقال لهم صالح : { هذه ناقة الله لكم آية } فلما ملوها عقروها { فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة : أن صالحا قال لهم حين عقروا الناقة : تمتعوا ثلاثة أيام ثم قال لهم : آية هلاككم أن تصبح وجوهكم غدا مصفرة وتصبح اليوم الثاني محمرة ثم تصبح اليوم الثالث مسودة فأصبحت كذلك فلما كان اليوم الثالث أيقنوا بالهلاك فتكفنوا وتحنطوا ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم وقال عاقر الناقة : لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون أترضين ؟ فتقول : نعم والصبي حتى رضوا أجمعون فعقرها وأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال : يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام وكان وعد من الله غير مكذوب ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله فقيل يا رسول الله من هو ؟ فقال : أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ] قال ابن كثير : هذا الحديث على شرط مسلم وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أبي الطفيل مرفوعا مثله وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بالحجر : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم ] وأصل الحديث في الصحيحين من غير وجه وفي لفظ لأحمد من هذا الحديث قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود وأخرج أحمد وابن
المنذر نحوه مرفوعا من حديث أبي كبشة الأنماري وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { ولا تمسوها بسوء } قال : لا تعقروها وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وتنحتون من الجبال بيوتا } قال : كانوا ينقبون في الجبال البيوت وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وعتوا عن أمر ربهم } قال : غلوا في الباطل { فأخذتهم الرجفة } قال : الصيحة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد { فأصبحوا في دارهم جاثمين } قال : ميتين وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله (2/322)
قوله : 80 - { ولوطا } معطوف على ما سبق : أي وأرسلنا لوطا أو منصوب بفعل مقدر : أي واذكر لوطا وقت قال لقومه قال الفراء : لوط مشتق من قولهم : هذا أليط بقلبي : أي ألصق قال الزجاج : زعم بعض النحويين أن لوطا يجوز أن يكون مشتقا من لطت الحوض إذا ملسته بالطين وهذا غلط لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق وقال سيبويه نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة فلذلك صرفت ولوط هو ابن هاران بن تارخ فهو ابن أخي إبراهيم بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم { أتأتون الفاحشة } أي الخصلة الفاحشة المتمادية في الفحش والقبح قال : ذلك إنكارا عليهم وتوبيخا لهم { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } أي لم يفعلها أحد قبلكم فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة و من مزيدة للتوكيد للعموم في النفي وإنه مستغرق لما دخل عليه والجملة مسوقة لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم (2/323)
قوله : 81 - { إنكم لتأتون الرجال شهوة } قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة وقرأ الباقون بهمزتين على الاستفهام المقتضي للتوبيخ والتقريع واختار القراءة الأولى أبو عبيد والكسائي وغيرهما واختار الخليل وسيبويه القراءة الثانية فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة مبينة لقوله : { أتأتون الفاحشة } وكذلك على القراءة الثانية مع مزيد الاستفهام وتكريره المفيد للمبالغة في التقريع والتوبيخ وانتصاب شهوة على المصدرية : أي تشتهونهم شهوة ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال : أي مشتهين ويجوز أن يكون مفعولا له : أي لأجل الشهوة وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل فهم في هذا كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض لما يتقاضاها من الشهوة { من دون النساء } أي متجاوزين في فعلكم هذا للنساء اللاتي هن محل لقضاء الشهوة وموضع لطلب اللذة ثم أضرب عن الإنكار المتقدم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة (2/324)
قوله : 82 - { وما كان جواب قومه } الواقعين في هذه الفاحشة على ما أنكره عليهم منها { إلا أن قالوا أخرجوهم } أي لوطا وأتباعه { من قريتكم } : أي ما كان لهم جواب إلا هذا القول المباين للإنصاف المخالف لما طلبه منهم وأنكره عليهم وجملة { إنهم أناس يتطهرون } تعليل لما أمروا به من الإخراج ووصفهم بالتطهر يمكن أن يكون على حقيقته وأنهم أرادوا أن هؤلاء يتنزهون عن الوقوع في هذه الفاحشة فلا يساكنونا في قريتنا ويحتمل أنهم قالوا ذلك على طريق السخرية والاستهزاء (2/324)
ثم أخبر الله سبحانه أنه أنجى لوطا وأهله المؤمنين به واستثنى امرأته من الأهل لكونها لم تؤمن به ومعنى { كانت من الغابرين } أنها كانت من الباقين في عذاب الله يقال : غبر الشيء إذا مضى وغبر إذا بقي فهو من الأضداد وحكى ابن فارس في المجمل عن قوم أنهم قالوا : الماضي عابر بالعين المهملة والباقي غابر بالمعجمة وقال الزجاج : { من الغابرين } أي من الغائبين عن النجاة وقال أبو عبيد : المعنى { من الغابرين } أي من المعمرين وكانت قد هرمت وأكثر أهل اللغة على أن الغابر الباقي (2/324)
قوله : 84 - { وأمطرنا عليهم مطرا } قيل : أمطر بمعنى إرسال المطر وقال أبو عبيدة : مطر في الرحمة وأمطر في العذاب والمعنى هنا : أن الله أمطر عليهم مطرا غير ما يعتادونه وهو رميهم بالحجارة كما في قوله : { وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } هذا خطاب لكل من يصلح له أو لمحمد صلى الله عليه و سلم وسيأتي في هود قصة لوط بأبين مما هنا
وقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { أتأتون الفاحشة } قال : أدبار الرجال وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : إنما كان بدء عمل قوم لوط : أن إبليس جاءهم في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جسروا على ذلك وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : { إنهم أناس يتطهرون } قال : من أدبار الرجال ومن أدبار النساء وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { إلا امرأته كانت من الغابرين } قال : من الباقين في عذاب الله وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان قوم لوط أربعة آلاف ألف (2/324)
قوله : 85 - { وإلى مدين أخاهم شعيبا } معطوف على ما تقدم : أي وأرسلنا ومدين اسم قبيلة وقيل اسم بلد والأول أولى وسميت القبيلة باسم أبيهم : وهو مدين بن إبراهيم كما يقال : بكر وتميم قوله : { أخاهم شعيبا } شعيب عطف بيان وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما وقال الشرفي بن القطامي : إنه شعيب بن عيفاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقال قتادة : هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم قوله : { قال يا قوم } إلى قوله : { بينة من ربكم } قد سبق شرحه في قصة نوح قوله : { فأوفوا الكيل والميزان } أمرهم بإيفاء الكيل والميزان لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن وكانوا لا يعرفونهما وذكر الكيل الذي هو المصدر وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة
واختلف في توجيه ذلك فقيل : المراد بالكيل المكيال فتناسب عطف الميزان عليه وقيل : المراد بالميزان الوزن فيناسب الكيل والفاء في فأوفوا للعطف على اعبدوا قوله : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } البخس النقص وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وظاهر قوله : { أشياءهم } أنهم كانوا يبخسون الناس في كل الأشياء وقيل : كانوا مكاسين يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم ومنه قول زهير :
( أفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم )
قوله : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } قد تقدم تفسيره قريبا ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره ودقيقه وجليله والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى العمل بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه والمراد بالخيرية هنا الزيادة المطلقة لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن وفي بخس الناس وفي الفساد في الأرض أصلا (2/326)
قوله : 86 - { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } الصراط الطريق : أي لا تقعدوا بكل طريق توعدون الناس بالعذاب قيل : كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويقولون : إنه كذاب فلا تذهب إليه كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وغيرهم وقيل : المراد القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة ويؤيده { وتصدون عن سبيل الله من آمن به } وقيل : المراد بالآية النهي عن قطع الطريق وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم وقيل : إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس فنهوا عن ذلك والقول الأول أقربها إلى الصواب مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة وجملة توعدون في محل نصب على الحال وكذلك ما عطف عليها : أي لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله صادين عن سبيل الله باغين لها عوجا والمراد بالصد عن سبيل الله : صد الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه ومنعهم من الوصول إلى شعيب فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبي الله هو سلوك سبيل الله و { من آمن به } مفعول { تصدون } والضمير في آمن به يرجع إلى الله أو إلى سبيل الله أو إلى كل صراط أو إلى شعيب { وتبغونها عوجا } أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة وقد سبق الكلام على العوج قال الزجاج : كسر العين في المعاني وفتحها في الإحرام { واذكروا إذ كنتم } أي وقت كنتم { قليلا } عددكم { فكثركم } بالنسل وقيل : كنتم فقراء فأغناكم { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } من الأمم الماضية فإن الله أهلكهم وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم (2/327)
87 - { وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به } إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم { وطائفة } منكم { لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين ومثله قوله تعالى : { فتربصوا إنا معكم متربصون } أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحل بهم من أذى الكفار حتى ينصرهم الله عليهم (2/327)
88 - { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } أي قال : الأشراف المستكبرون { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك } لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه بل جاوزوا ذلك بغيا وبطرا وأشرا إلى توعد نبيهم ومن آمن به بالإخراج من قريتهم أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية : أي لا بد من أحد الأمرين : إما الإخراج أو العود قال الزجاج : يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء يقال : عاد إلي من فلان مكروه : أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك فلا يرد ما يقال : كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولا ؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب بالعود إلى ملتهم وجملة { قال أو لو كنا كارهين } مستأنفة جواب عن سؤال مقدر والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود والواو للحال : أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها أو في حال كراهتنا للأمرين جميعا والمعنى : إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ولا يصح لكم ذلك فإن المكره لا اختيار له ولا تعد موافقته مكرها موافقة ولا عوده إلى ملتكم مكرها عودا وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام (2/327)
89 - { قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم } التي هي الشرك { بعد إذ نجانا الله منها } بالإيمان فلا يكون منا عود إليها أصلا { وما يكون لنا } أي ما يصح لنا ولا يستقيم { أن نعود فيها } بحال من الأحوال { إلا أن يشاء الله } أي إلا حال مشيئته سبحانه فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قال الزجاج : أي إلا بمشيئة الله عز و جل قال : وهذا قول أهل السنة والمعنى : أنه لا يكون منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك فالاستثناء منقطع وقيل : إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز و جل كما في قوله : { وما توفيقي إلا بالله } وقيل : هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيض الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط والغراب لا يبيض والجمل لا يلج فهو من باب التعليق بالمحال { وسع ربنا كل شيء علما } أي أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء وعلما منصوب على التمييز وقيل : المعنى { وما يكون لنا أن نعود فيها } أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لكم { إلا أن يشاء الله } عودنا إليها { على الله توكلنا } أي عليه اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ويتم علينا نعمته ويعصمنا من نقمته قوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } الفتاحة الحكومة أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقين على المبطلين : كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين وحلول نقمة الله بهم (2/328)
90 - { وقال الملأ الذين كفروا من قومه } معطوف على { قال الملأ الذين استكبروا } يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب واللام في { لئن اتبعتم شعيبا } موطئة لجواب قسم محذوف : أي دخلتم في دينه وتركتم دينكم { إنكم إذا لخاسرون } جواب القسم ساد مسد جواب الشرط وخسرانهم : هلاكهم أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به (2/328)
91 - { فأخذتهم الرجفة } أي الزلزلة وقيل : الصيحة كما في قوله : { وأخذت الذين ظلموا الصيحة } { فأصبحوا في دارهم جاثمين } قد تقدم تفسيره في قصة صالح (2/329)
قوله : 92 - { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حل بهم من النقمة والموصول مبتدأ وكأن لم يغنوا خبره : يقال غنيت بالمكان إذا أقمت به وغني القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها والمغني : المنزل والجمع المغاني قال حاتم الطائي :
( غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكاسيهما الدهر )
( فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بإحساننا الفقر )
ومعنى الآية : الذين كذبوا شعيبا كأن لم يقيموا في دارهم لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب والموصل في { الذين كذبوا شعيبا } مبتدأ خبره { كانوا هم الخاسرين } وهذه الجملة مستأنفة كالأولى متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين (2/329)
93 - { فتولى عنهم } أي شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي } التي أرسلني بها إليكم { ونصحت لكم } ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم { فكيف آسى } أي أحزن { على قوم كافرين } بالله مصرين على كفرهم متمردين عن الإجابة أو الأسى شدة الحزن آسى على ذلك فهو آس قال شعيب هذه المقالة تحسرا على عدم إيمان قومه ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله وعدم قبولهم لما جاء به رسوله
وقد أخرج ابن إسحاق وابن عساكر عن عكرمة والسدي قالا : ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا : مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } قال : لا تظلموا الناس وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } قال : لا تظلموهم { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } قال : كانوا يوعدون من أتى شعيبا وغشيه وأراد الإسلام وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } قال : كانوا يجلسون في الطريق فيخبرون من أتى عليهم أن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { بكل صراط توعدون } قال : بكل سبيل حق { وتصدون عن سبيل الله } قال : تصدون أهلها { وتبغونها عوجا } قال : تلتمسون لها الزيغ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } قال : هو العاشر { وتصدون عن سبيل الله } قال : تصدون عن الإسلام { وتبغونها عوجا } قال : هلاكا وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال : هم العشار وأخرج ابن جرير عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره : شك أبو العالية قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } قال : ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله { إلا أن يشاء الله ربنا } والله لا يشاء الشرك ولكن يقول : إلا أن يكون الله قد علم شيئا فإنه قد وسع كل شيء علما وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس قال : ما كنت أدري ما قوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } حتى سمعت ابنه ذي يزن تقول : تعال أفاتحك تعني أقاضيك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ربنا افتح } يقول : اقض وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : الفتح القضاء لغة يمانية إذا قال أحدهم : تعال أقاضيك القضاء قال : تعال أفاتحك وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { لم يغنوا فيها } قال : لم يعيشوا فيها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فكيف آسى } قال : أحزن وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب فقبر إسماعيل في الحجر وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه إن شعيبا مات بمكة ومن معه من المؤمنين فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن إسحاق قال : ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا ذكر شعيبا قال : ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة ] (2/329)
قوله : 94 - { وما أرسلنا في قرية من نبي } لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم وهم المذكورون سابقا أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها : أي وما أرسلنا في قرية من القرى من نبي من الأنبياء وفي الكلام محذوف أي فكذب أهلها إلا أخذناهم والاستثناء مفرغ : أي ما أرسلنا في حال من الأحوال إلا في حال أخذنا أهلها فمحل أخذنا النصب والبأساء : البؤس والفقر والضراء : الضر وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء { لعلهم يضرعون } أي لكي يتضرعوا ويتذللوا فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء (2/331)
قوله : 95 - { ثم بدلنا } معطوف على أخذنا : أي ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدلناهم { مكان السيئة } التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان { الحسنة } أي الخصلة الحسنة : فصاروا في خير وسعة وأمن { حتى عفوا } يقال : عفا كثر وعفا درس فهو من أسماء الأضداد والمراد هنا : أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم : أي أعطيناهم الحسنة مكان السيئة حتى كثروا { وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } أي قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة : أي أن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء ثم من الرخاء والخصب من بعد هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله فمسهم من البأساء والضراء ما مسنا ومن النعمة والخير ما نلناه ومعناهم : أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم واختبارا لما عندهم وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوهم ما لا يخفى ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال : { فأخذناهم بغتة } أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال { و } الحال أنـ { هم لا يشعرون } بذلك ولا يترقبونه (2/331)
واللام في 96 - { القرى } للعهد : أي { ولو أن أهل القرى } التي أرسلنا إليهم رسلنا { آمنوا } بالرسل المرسلين إليهم { واتقوا } ما صمموا عليه من الكفر ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } أي يسرنا لهم خير السماء والأرض كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها قيل المراد بخير السماء : المطر وخير الأرض النبات والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس والمراد : لو أن أهل القرى أين كانوا وفي أي بلاد سكنوا آمنوا واتقوا إلى آخر الآية { ولكن كذبوا } بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا { فأخذناهم } بالعذاب بـ سبب { ما كانوا يكسبون } من الذنوب الموجبة لعذابهم (2/332)
والاستفهام في 97 - { أفأمن أهل القرى } للتقريع والتوبيخ وأهل القرى هم أهل القرى المذكورة قبله والفاء للعطف وهو مثل { أفحكم الجاهلية يبغون } وقيل : المراد بالقرى مكة وما حولها لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه و سلم والحمل على العموم أولى قوله : { أن يأتيهم بأسنا بياتا } أي وقت بيات وهو الليل على أنه منصوب على الظرفية ويجوز أن يكون مصدرا : بمعنى تبيتا أو مصدرا في موضع الحال : أي مبيتين وجملة { وهم نائمون } في محل نصب على الحال (2/332)
والاستفهام في 98 - { أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } كالاستفهام الذي قبله والضحى ضحوة النهار وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت قرأ ابن عامر والحرميان { أو أمن } بإسكان الواو وقرأ الباقون بفتحها وجملة { وهم يلعبون } في محل نصب على الحال : أي يشتغلون بما لا يعود عليهم بفائدة (2/332)
والاستفهام في 99 - { أفأمنوا مكر الله } للتقريع والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم ثم بين حال من أمن مكر الله فقال : { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } أي الذين أفرطوا في الخسران ووقعوا في وعيده الشديد وقيل : مكر الله هنا هو استدراجه بالنعمة والصحة والأولى حمله على ما هو أعم من ذلك (2/332)
قوله : 100 - { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } قرئ نهد بالنون وبالتحتية فعلى القراءة بالنون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه ومفعول الفعل { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } أي أن الشأن هو هذا وعلى القراءة بالتحتية يكون فاعل يهد هو { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } أي أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم والهداية هنا بمعنى التبيين ولهذا عديت باللام قوله : { ونطبع على قلوبهم } أي ونحن نطبع على قلوبهم على الاستئناف ولا يصح عطفه على أصبنا لأنهم ممن طبع الله على قلبه عدم قبولهم للإيمان وقيل : هو معطوف على فعل مقدر دل عليه الكلام كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع وقيل : معطوف على يرثون قوله : { فهم لا يسمعون } جواب لو : أي صاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم والطبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من الوعظ والإعذار والإنذار
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } قال : مكان الشدة الرخاء { حتى عفوا } قال : كثروا وكثرت أموالهم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { حتى عفوا } قال : جموا وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { قد مس آباءنا الضراء والسراء } قال : قالوا : قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئا { فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ولو أن أهل القرى آمنوا } قال : بما أنزل الله { واتقوا } قال : ما حرمه الله { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } يقول : أعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها وأخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة عن موسى الطائفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أكرموا الخبز فإن الله أنزله من بركات السماء وأخرجه من بركات الأرض ] وأخرج البزار والطبراني قال السيوطي : بسند ضعيف عن عبد الله ابن أم حرام قال : صليت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أكرموا الخبز فإن الله أنزله من بركات السماء وسخر له بركات الأرض ومن تتبع ما يسقط من السفرة غفر له ] وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : كان أهل قرية أوسع الله عليهم حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { أولم يهد } قال : أو لم نبين وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } قال : المشركون (2/333)
قوله : 101 - { تلك القرى } أي التي أهلكناها وهي قرى نوح وصالح ولوط وشعيب المتقدم ذكرها { نقص عليك } أي نتلو عليك { من أنبائها } أي من أخبارها وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين ونقص إما في محل نصب على أنه حال و { تلك القرى } مبتدأ وخبر أو يكون في محل رفع على أنه الخبر و { القرى } صفة لتلك ومن في { من أنبائها } للتبعيض : أي نقص عليك بعض أنبائها واللام في { لقد جاءتهم رسلهم بالبينات } جواب القسم والمعنى : أن من أخبارهم أنها جاءتهم رسل الله ببيناته كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا { فما كانوا ليؤمنوا } عند مجيء الرسل { بما كذبوا } به { من قبل } مجيئهم أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم بل هم مستمرون على الكفر متشبثون بأذيال الطغيان دائما ولم ينجع فيهم مجيء الرسل ولا ظهر له أثر بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله وقيل المعنى : فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم كقوله : { ولو ردوا لعادوا } وقيل : سألوا المعجزات فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها والأول أولى ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل : أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل وإنزال الكتب قوله : { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } أي مثل ذلك الطبع الشديد يطبع الله على قلوب الكافرين فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب (2/334)
قوله : 102 - { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقا : أي ما وجدنا لأكثر أهل هذه القرى من عهد : أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به بل دأبهم نقض العهود في كل حال وقيل : الضمير يرجع إلى الناس على العموم : أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد وقيل المراد بالعهد : هو المأخوذ عليهم في عالم الذر وقيل : الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى : أي الأكثر منهم لا عهد ولا وفاء والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه وإن في { وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف : أي أن الشأن وجدنا أكثرهم لفاسقين أو هي النافية واللام في { لفاسقين } بمعنى إلا : أي إلا فاسقين خارجين عن الطاعة خروجا شديدا
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي بن كعب في قوله : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } قال : كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق من يكذب به ممن يصدق به وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } قال : مثل قوله : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } قال : الوفاء وأخرج ابن أبي حاتم في الآية قال : هو ذاك العهد يوم أخذ الميثاق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } قال : ذاك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به (2/334)
قوله : 103 - { ثم بعثنا من بعدهم موسى } أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب : أي ثم أرسلنا موسى بعد إرسالنا لهؤلاء الرسل وقيل : الضمير في { من بعدهم } راجع إلى الأمم السابقة : أي من بعد إهلاكهم { إلى فرعون وملئه } فرعون هو لقب لكل من يملك أرض مصر بعد العمالقة وملأ فرعون : أشراف قومه وتخصيص الذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم لأن من عداهم كالأتباع لهم قوله : { فظلموا بها } أي كفروا بها وأطلق الظلم على الكفر لكون كفرهم بالآيات التي جاء بها موسى كان كفرا متبالغا لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التي جاءهم بها والمراد بالآيات هنا : هي الآيات التسع أو معنى { فظلموا بها } ظلموا الناس بسببها لما صدوهم عن الإيمان بها أو ظلموا أنفسهم بسببها { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } أي المكذبين بالآيات الكافرين بها وجعلهم مفسدين لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد (2/335)
قوله : 104 - { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } أخبره بأنه مرسل من الله إليه وجعل ذلك عنوانا لكلامه معه لأن من كان مرسلا من جهة من هو رب العالمين أجمعين فهو حقيق بالقبول لما جاء به كما يقول من أرسله الملك في حاجة إلى رعيته : أنا رسول الملك إليكم ثم يحكي ما أرسل به فإن في ذلك من تربية المهابة وإدخال الروعة ما لا يقادر قدره (2/336)
قوله : 105 - { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } قرئ ( حقيق علي أن لا أقول ) : أي واجب علي ولازم لي أن لا أقول فيما أبلغكم عن الله إلا القول الحق وقرئ { حقيق على أن لا أقول } بدون ضمير في علي قيل : في توجيهه أن على معنى الباء : أي حقيق بأن لا أقول ويؤيده قراءة أبي والأعمش فإنهما قرآ ( حقيق بأن لا أقول ) وقيل : إن { حقيق } مضمن معنى حريص وقيل : إنه لما كان لازما للحق كان الحق لازما له فقول الحق حقيق عليه وهو حقيق على قول الحق وقيل : إنه أغرق في وصف نفسه في ذلك المقام حتى جعل نفسه حقيقة على قول الحق كأنه وجب على الحق أن يكون موسى هو قائله وقرأ عبد الله بن مسعود حقيق أن لا أقول بإسقاط على ومعناه واضح ثم قال بعد هذا : { قد جئتكم ببينة من ربكم } أي بما يتبين به صدقي وأني رسول من رب العالمين وقد طوى هنا ذكر ما دار بينهما من المحاورة كما في موضع آخر أنه قال فرعون { فمن ربكما يا موسى } ثم قال بعد جواب موسى { وما رب العالمين } الآيات الحاكية لما دار بينهما قوله : { فأرسل معي بني إسرائيل } أمره بأن يدع بني إسرائيل يذهبون معه ويرجعون إلى أوطانهم وهي الأرض المقدسة وقد كانوا باقين لديه مستعبدين ممنوعين من الرجوع إلى وطنهم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها (2/336)
فلما قال ذلك 106 - { قال } له فرعون { إن كنت جئت بآية } من عند الله كما تزعم { فأت بها } حتى نشاهدها وننظر فيها { إن كنت من الصادقين } في هذه الدعوى التي جئت بها (2/336)
قوله : 107 - { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } أي وضعها على الأرض فانقلبت ثعبانا : أي حية عظيمة من ذكور الحيات ومعنى { مبين } أن كونها حية في تلك الحال أمر ظاهر واضح لا لبس فيه (2/337)
108 - { ونزع يده } أي أخرجها وأظهرها من جيبه أو من تحت إبطه وفي التنزيل : { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء } قوله : { فإذا هي بيضاء للناظرين } أي فإذا يده التي أخرجها بيضاء تتلألأ نورا يظهر لكل مبصر (2/337)
109 - { قال الملأ } أي الأشراف { من قوم فرعون } لما شاهدوا انقلاب العصى حية ومصير يده بيضاء من غير سوء { إن هذا } أي موسى { لساحر عليم } أي كثير العلم بالسحر ولا تنافي بين نسبة هذا القول إلى الملأ هنا وإلى فرعون في سورة الشعراء فكلهم قد قالوه فكان ذلك مصححا لنسبته إليهم تارة وإليه أخرى (2/337)
وجملة 110 - { يريد أن يخرجكم من أرضكم } وصف لساحر والأرض المنسوبة إليهم هي أرض مصر : وهذا من كلام الملأ وأم { فماذا تأمرون } فقيل : هو من كلام فرعون قال : للملأ لما قالوا بما تقدم : أي بأي شيء تأمرونني وقيل : هو من كلام الملأ : أي قالوا لفرعون فبأي شيء تأمرنا وخاطبوه بما تخاطب به الجماعة تعظيما له كما يخاطب الرؤساء أتباعهم وما في موضع نصب بالفعل الذي بعدها ويجوز أنتكون ذا بمعنى الذي كما ذكره النحاة في ماذا صنعت (2/337)
وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى بدليل ما بعده وهو 111 - { قالوا أرجه وأخاه } قال : الملأ جوابا لكلام فرعون حيث استشارهم وطلب ما عندهم من الرأي أرجه : أي أخره وأخاه يقال : أرجأته وأرجيته : أخرته قرأ عاصم والكسائي وحمزة وأهل المدينة { أرجه } بغير همز وقرأ الباقون بالهمز وقرأ أهل الكوفة إلا الكسائي { أرجه } بسكون الهاء قال الفراء : هي لغة للعرب يقفون على الهاء في الوصل وأنكر ذلك البصريون وقيل معنى أرجه : احبسه وقيل : هو من رجا يرجو : أي أطمعه ودعه يرجوك حكاه النحاس عن محمد بن يزيد المبرد { وأرسل في المدائن حاشرين } أي أرسل جماعة حاشرين في المدائن التي فيها السحرة وحاشرين مفعول أرسل وقيل : هو منصوب على الحال (2/337)
و 112 - { يأتوك } جواب الأمر : أي يأتوك هؤلاء الذين أرسلتهم { بكل سحار عليم } أي بكل ماهر في السحر كثير العلم بصناعته قرأ أهل الكوفة إلا عاصم { سحار } وقرأ من عداهم { ساحر } (2/337)
قوله : 113 - { وجاء السحرة فرعون } في الكلام طي : أي فبعث في المدائن حاشرين وجاء السحرة فرعون قوله : { قالوا إن لنا لأجرا } أي فلما جاءوا فرعون قالوا له إن لنا لأجرا والجملة استئنافية جواب سؤال مقدر كأنه قيل : أي شيء قالوا له لما جاءوه ؟ والأجر الجائزة والجعل ألزموا فرعون أن يجعل لهم جعلا إن غلبوا موسى بسحرهم قرأ نافع وابن كثير { إن لنا } على الإخبار وقرأ الباقون { أإن لنا } على الاستفهام استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة ومعنى الاستفهام التقرير وأما على القراءة الأولى فكأنهم قاطعون بالجعل وأنه لا بد لهم منه (2/337)
فأجابهم فرعون بقوله : { نعم وإنكم لمن المقربين } أي إن لكم لأجرا وإنكم مع هذا الأجر المطلوب منكم لمن المقربين لدينا (2/338)
قوله : 115 - { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فما قالوا لموسى بعد أن قال لهم فرعون : { نعم وإنكم لمن المقربين } والمعنى : أنهم خيروا موسى بين أن يبتدئ بإلقاء ما يلقيه عليهم أو يبتدئوه هم بذلك تأدبا معه وثقة من أنفسهم بأنهم غالبون وإن تأخروا وأن في موضع نصب قاله الكسائي والفراء : أي إما أن تفعل الإلقاء أو نفعله نحن (2/338)
فأجابهم موسى بقوله : 116 - { ألقوا } اختار أن يكونوا المتقدمين عليه بإلقاء ما يلقونه غير مبال بهم ولا هائب لما جاءوا به قال الفراء : في الكلام حذف المعنى : قال لهم موسى إنكم لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا آياته وقيل هو تهديد : أي ابتدئوا بالإلقاء فستنظرون ما يحل بكم من الافتضاح والموجب لهذين التأويلين عند من قال بهما أنه لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر { فلما ألقوا } أي حبالهم وعصيهم { سحروا أعين الناس } أي قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاءوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة { واسترهبوهم } أي أدخلوا الرهبة في قلوبهم إدخالا شديدا { وجاؤوا بسحر عظيم } في أعين الناظرين لما جاءوا به وإن كان لا حقيقة له في الواقع (2/338)
قوله : 117 - { وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك } أمره الله سبحانه عند أن جاء السحرة بما جاءوا به من السحر أن يلقي عصاه { فإذا هي } أي العصا { تلقف ما يأفكون } قرأ حفص { تلقف } بإسكان اللام وتخفيف القاف من لقف يلقف وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد القاف من تلقف يتلقف يقال : لقفت الشيء وتلقفته : إذا أخذته أو بلغته قال أبو حاتم : وبلغني في بعض القراءات تلقم بالميم والتشديد قال الشاعر :
( أنت عصا موسى التي لم تزل ... تلقم ما يأفكه الساحر )
و ما في { ما يأفكون } مصدرية أو موصولة : أي إفكهم أو ما يأفكونه سماه إفكا لأنه لا حقيقة له في الواقع بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة (2/338)
118 - { فوقع الحق } أي ظهر وتبين لما جاء به موسى { وبطل ما كانوا يعملون } من سحرهم : أي تبين بطلانه (2/338)
119 - { فغلبوا } أي السحرة { هنالك } أي في الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم { وانقلبوا } من ذلك الموقف { صاغرين } أذلاء مقهورين (2/338)
120 - { وألقي السحرة ساجدين } أي خروا ساجدين كأنما ألقاهم ملق على هيئة السجود أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا أنفسهم (2/338)
وجملة 121 - { قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ماذا قالوا عند سجودهم أو في سجودهم وإنما قالوا هذه المقالة وصرحوا بأنهم آمنوا برب العالمين (2/338)
ثم لم يكتفوا بذلك حتى قالوا : 122 - { رب موسى وهارون } لئلا يتوهم متوهم من قوم فرعون المقرين بإلهيته أن السجود له
وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ثم بعثنا من بعدهم موسى } قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر فالماء بالقبطية مو والشجر سي وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد : أن فرعون كان فارسيا من أهل إصطخر وأخرج أيضا عن ابن لهيعة : أنه كان من أبناء مصر وأخرج أيضا وأبو الشيخ عن محمد بن المنكدر قال : عاش فرعون ثلثمائة سنة وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة أن فرعون كان قبطيا ولد زنا طوله سبعة أشبار وأخرج أيضا عن الحسن قال : كان علجا من همذان وأخرج أبو الشيخ عن إبراهيم بن مقسم الهذلي قال : مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { فألقى عصاه } قال : ذكر لنا أن تلك العصا عصا آدم أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فتخرج له رزقه ويهش بها على غنمه { فإذا هي ثعبان مبين } قال : حية تكاد تساوره وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لقد دخل موسى على فرعون وعليه زرمانقة من صوف ما تجاوز مرفقيه فاستأذن على فرعون فقال : أدخلوه فدخل فقال : إن إلهي أرسلني إليك فقال للقوم حوله : ما علمت لكم من إله غيري خذوه قال : إني قد جئتك بآية قال : فائت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فصارت ثعبانا بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض وأدخل يده في جيبه فأخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار فخروا على وجوههم وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا نفر منه فلما أفاق وذهب عن فرعون الروع قال للملأ حوله : ماذا تأمروني { قالوا أرجه وأخاه } ولا تأتنا به ولا يقربنا { وأرسل في المدائن حاشرين } وكانت السحرة يخشون من فرعون فلما أرسل إليهم قالوا : قد احتاج إليكم إلهكم ؟ قال : إن هذا قعل كذا وكذا قالوا : إن هذا ساحر سحر { إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين } وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : عصا موسى اسمها ماشا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عنه في قوله : { فإذا هي ثعبان مبين } قال : الحية الذكر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { فإذا هي ثعبان مبين } قال : الذكر من الحيات فاتحة فمها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سورة القصر ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه فلما رآها ذعر منها ووثب فأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك فصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فصارت عصا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { أرجه } قال : أخره وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : احبسه وأخاه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس من طرق في قوله : { وأرسل في المدائن حاشرين } قال : الشرط وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { وجاء السحرة } قال : كانوا سبعين رجلا أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء
وقد اختلفت كلمة السلف في عددهم فقيل : كانوا سبعين كما قال ابن عباس وقيل : كانوا إثني عشر وقيل : خمسة عشر ألفا وقيل : سبعة عشر ألفا وقيل : تسعة عشر ألفا وقيل : ثلاثين ألفا وقيل : سبعين ألفا وقيل : ثمانين ألفا وقيل : ثلثمائة ألف وقيل : تسعمائة ألف وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { إن لنا لأجرا } أي عطاء وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فلما ألقوا } قال : ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال : ألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم فلما رأوا ذلك سجدوا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { تلقف ما يأفكون } قال : ما يكذبون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { تلقف ما يأفكون } قال : ما يكذبون واخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { تلقف ما يأفكون } قال : تسترط حبالهم وعصيهم وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال : التقى موسى وأمير السحرة فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق ؟ فقال الساحر : لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأؤمنن بك ولأشهدن أنه حق وفرعون ينظر إليهما وهو قول فرعون { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي قال : لما خر السحرة سجدا رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها (2/339)
قوله : 123 - { آمنتم به } قرئ بحذف الهمزة على الإخبار وبإثباتها أنكر على السحرة فرعون إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك ثم قال بعد الإنكار عليهم مبينا لما هو الحامل لهم على ذلك في زعمه { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى عن مواطأة بينكم سابقة { لتخرجوا } من مدينة مصر { أهلها } من القبط وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل ومعنى { في المدينة } أن هذه الحيلة والمواطأة كانت بينكم وأنتم بالمدينة مدينة مصر قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء ثم هددهم بقوله : { فسوف تعلمون } عاقبة صنعكم هذا وسوء مغبته (2/341)
ثم لم يكتف بهذا الوعيد المجمل بل فصله فقال : 124 - { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } أي الرجل اليمنى واليد اليسرى أو الرجل اليسرى واليد اليمنى ثم لم يكتف عدو الله بهذا بل جاوزه إلى غيره فقال : { ثم لأصلبنكم } في جذوع النخل : أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكيل بهم وإفراطا في تعذيبهم (2/341)
وجملة : 125 - { قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } استئنافية جواب سؤال كما تقدم ومعناه : إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل فتعده يوم الجزاء سيجازيك الله بصنعك ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة لما توعدهم بعذاب الدنيا ويحتمل أن يكون المعنى : { إنا إلى ربنا منقلبون } بالموت : أي لا بد لنا من الموت ولا يضرنا كونه بسبب منك (2/342)
قوله : 126 - { وما تنقم منا } قرأ الحسن بفتح القاف قال الأخفش : هي لغة وقرأ الباقون بكسرها يقال : نقمت الأمر أنكرته : أي لست تعيب علينا وتنكر منا { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل ومثله لا يكون موضعا للعيب ومكانا للإنكار بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العلي مفوضين الأمر إليه طالبين منه عز و جل أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين { ربنا أفرغ علينا صبرا } الإفراغ : الصب : أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا : طلبوا أبلغ أنواع الصبر استعدادا منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدو الله وتوطينا لأنفسهم على التصلب في الحق وثبوت القدم على الإيمان ثم قالوا : { وتوفنا مسلمين } أي توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام غير محرفين ولا مبدلين ولا مفتونين ولقد كان ما هم عليه من السحر والمهارة في علمه مع كونه شرا محضا سببا للفوز بالسعادة لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر وأنه من فعل الله سبحانه فوصلوا بالشر إلى الخير ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان وإذا كانت المهارة في علم الشر قد تأتي بمثل هذه الفائدة فما بالك بالمهارة في علم الخير اللهم انفعنا بما علمتنا وثبت أقدامنا على الحق وأفرغ علينا سجال الصبر وتوفنا مسلمين (2/342)
قوله : 127 - { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } هذا الاستفهام منهم للإنكار عليه : أي أتتركه وقومه ليفسدوا في الأرض بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل والمراد بالأرض هنا : أرض مصر قوله : { ويذرك وآلهتك } قرأ نعيم بن ميسرة ويذرك بالرفع على تقدير مبتدأ : أي وهو يذرك أو على العطف على { أتذر موسى } : أي أتذره ويذرك وقرأ الأشهب العقيلي { ويذرك } بالجزم : إما على التخفيف بالسكون لثقل الضمة أو على ما قيل في { وأكن من الصالحين } في توجيه الجزم وقرأ أنس بن مالك ونذرك بالنون والرفع ومعناه : أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونه وآلهته وقرأ الباقون { ويذرك } بالنصب بأن مقدرة على أنه جواب الاستفهام والواو نائبة عن الفاء أو عطفا على { يفسدوا } أي ليفسدوا وليذرك لأنهم على الفساد في زعمهم وهو يؤدي إلى ترك فرعون وآلهته
واختلف المفسرون في معنى { وآلهتك } لكون فرعون كان يدعي الربوبية كما في قوله : { ما علمت لكم من إله غيري } وقوله : { أنا ربكم } فقيل معنى وآلهتك : وطاعتك وقيل معناه : وعبادتك ويؤيده قراءة علي وابن عباس والضحاك وإلهتك وفي حرف أبي أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك وقيل إنه كان يعبد بقرة وقيل كان يعبد النجوم وقيل كان له أصنام يعبدها قومه تقربا إليه فنسبت إليه ولهذا قال : { أنا ربكم الأعلى } قاله الزجاج وقيل كان يعبد الشمس فقال فرعون مجيبا لهم ومثبتا لقلوبهم على الكفر { سنقتل أبناءهم } قرأ نافع وابن كثير { سنقتل } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد : أي سنقتل الأبناء ونستحيي النساء : أي نتركهن في الحياة ولم يقل سنقتل موسى لأنه يعلم أنه لا يقدر عليه { وإنا فوقهم قاهرون } أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة أو هم تحت قهرنا وبين أيدينا ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه (2/342)
وجملة : 128 - { قال موسى لقومه } مستأنفة جواب سؤال مقدر لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة ثم أخبرهم { إن الأرض } يعني أرض مصر { لله يورثها من يشاء من عباده } أو جنس الأرض وهو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه وأن الله سيورثهم أرضهم وديارهم ثم بشرهم أن العاقبة للمتقين : أي العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة للمتقين من عباده وهم موسى ومن معه وعاقبة كل شيء آخره وقرئ والعاقبة بالنصب عطفا على الأرض (2/343)
وجملة 129 - { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } مستأنفة جواب سؤال مقدر كالتي قبلها : أي أوذينا من قبل أن تأتينا رسولا وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده { ومن بعد ما جئتنا } رسولا بقتل أبنائنا الآن وقيل : المعنى أوذينا من قبل أن تأتينا باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل { ومن بعد ما جئتنا } بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا وقيل : إن الأذى من قبل ومن بعد واحد وهو قبض الجزية منهم وجملة { قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم } مستأنفة كالتي قبلها وعدهم بإهلاك الله لعدوهم وهو فرعون وقومه قوله : { ويستخلفكم في الأرض } هو تصريح بما رمز إليه سابقا من أن الأرض لله وقد حقق الله رجاءه وملكوا مصر في زمان داود وسليمان وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون وأهلك فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم { فينظر كيف تعملون } من الأعمال بعد أن يمن عليكم بإهلاك عدوكم { ويستخلفكم في الأرض } فيجازيكم بما عملتم فيه من خير وشر
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } إذا التقيتما لتظاهرا فتخرجا منها أهلها { لأقطعن أيديكم } الآية قال : فقتلهم وقطعهم كما قال وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان أول من صلب فرعون وهو أول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : { من خلاف } قال : يدا من هاهنا ورجلا من هاهنا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } قال : من قبل إرسال الله إياك ومن بعده وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب بن منبه في الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى كان فرعون يكلفنا اللبن قبل أن تأتينا فلما جئت كلفنا اللبن مع التبن أيضا فقال موسى : أي رب أهلك فرعون حتى متى تبقيه ؟ فأوحى الله إليه إنهم لم يعملوا الذنب الذي أهلكهم به وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال : حزا لعدو الله حاز أنه يولد في العام غلام يسلب ملكك قال : فتتبع أولادهم في ذلك العام بذبح الذكر منهم ثم ذبحهم أيضا بعدما جاءهم موسى وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن بنا أهل البيت يفتح ويختم ولا بد أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن تكون من بني هاشم ؟ وفيهم نزلت : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس فالآية نازلة في بني إسرائيل لا في بني هاشم واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون (2/343)
المراد بآل فرعون هنا قومه والمراد بالسنين الجدب وهذا معروف عند أهل اللغة يقولون أصابتهم سنة : أي جدب سنة وفي الحديث : [ اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ] وأكثر العرب يعربون السنين إعراب جمع المذكر السالم ومن العرب من يعربه إعراب المفرد ويجري الحركات على النون وأنشد الفراء :
( أرى مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال )
بكسر النون من السنين قال النحاس : وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون
أقول : قد ورد ما لا احتمال فيه وهو قول الشاعر :
( وماذا تزدري الأقوام مني ... وقد جاوزت حد الأربعين )
وبعده :
( أخو الخمسين مجتمع أشدي ... وتجذبني مداورة السنين )
فإن الأبيات قبله وبعده مكسورة وأول هذه الأبيات :
( أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني )
وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون : أقمت عنده سنينا مصروفا قال : وبنو تميم لا يصرفونه ويقال أسنت القوم : أي أجدبوا ومنه قول ابن الزبعري :
( ورجال مكة مسنتون عجاف )
130 (2/345)
قوله : 131 - { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه } أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر وصلاح الثمرات ورخاء الأسعار { قالوا لنا هذه } أي أعطيناها باستحقاق وهي مختصة بنا { وإن تصبهم سيئة } أي خصلة سيئة من الجدب والقحط وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء { يطيروا بموسى ومن معه } أي يتشاءموا بموسى ومن معه من المؤمنين به والأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء وقرأ طلحة { تطيرنا } على أنه فعل ماض وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء ومثل هذا قوله تعالى : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } قيل : ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها قوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط هو من عند الله ليس بسبب موسى ومن معه وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته { ولكن أكثرهم لا يعلمون } بهذا بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلا منهم (2/345)
وقرأ الحسن طيرهم قوله : 132 - { وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } قال الخليل : أصل مهما ما الشرطية زيدت عليه ما التي للتوكيد كما تزاد في سائر الحروف مثل : حيثما وأينما وكيفما ومتى ما ولكنهم كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا ألف الأولى هاء وقال الكسائي : أصله مه : أي اكفف ما تأتينا به من آية وزيدت عليها ما الشرطية وقيل : هي كلمة مفردة يجازي بها ومحل مهما الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره ما بعدها و من آية لبيان مهما وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده وهو { لتسحرنا بها } أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعله السحرة بسحرهم والضمير في به عائد إلى مهما والضمير في بها عائد إلى آية وقيل : إنهما جميعا عائدان إلى مهما وتذكير الأول باعتبار اللفظ وتأنيث الثاني باعتبار المعنى { فما نحن لك بمؤمنين } جواب الشرط : أي فما نحن لك بمصدقين : أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر (2/346)
فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عز و جل المبينة بقوله : 133 - { فأرسلنا عليهم الطوفان } وهو المطر الشديد قال الأخفش : واحدة طوفانة وقيل : هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له وقيل الطوفان : الموت وقال النحاس : الطوفان في اللغة ما كان مهلكا من موت أو سيل : أي ما يطيف بهم فيهلكهم { والجراد } هو الحيوان المعروف أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها { والقمل } قيل : هي الدباء والدباء الجراد قبل أن تطير وقيل : هي السوس وقيل البراغيث وقيل دواب سود صغار وقيل ضرب من القردان وقيل الجعلان قال النحاس : يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم وقرأ الحسن القمل بفتح القاف وإسكان الميم وقرأ الباقون بضم القاف وفتح الميم مشددة وقد فسر عطاء الخراساني القمل بالقمل { والضفادع } جمع ضفدع وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء { والدم } روي أنه سال النيل عليهم دما وقيل هو الرعاف قوله : { آيات مفصلات } أي مبينات قال الزجاج : هو منصوب على الحال والمعنى : أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات بينات ظاهرات { فاستكبروا } أي ترفعوا عن الإيمان بالله { وكانوا قوما مجرمين } لا يهتدون إلى حق ولا ينزعون عن باطل (2/346)
قوله : 134 - { ولما وقع عليهم الرجز } أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم وقرئ بضم الراء وهما لغتان وقيل : كان هذا الرجز طاعونا مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفا { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي بما استودعك من العلم أو بما اختصك به من النبوة أو بما عهد إليك أن تدعو به فيجيبك والباء متعلقة بادع على معنى أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله أو ادع لنا متوسلا إليه بعهده عندك وقيل إن الباء للقسم وجوابه لنؤمنن : أي أقسمنا بعهد الله عندك { لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك } على أن جواب الشرط ساد مسد جواب القسم وعلى أن الباء ليست للقسم تكون اللام في { لئن كشفت عنا الرجز } جواب قسم محذوف و { لنؤمنن } جواب الشرط ساد مسد جواب القسم { ولنرسلن معك بني إسرائيل } معطوف على لنؤمنن وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم يمتهنونهم في الأعمال فوعدوه بإرسالهم معه (2/347)
135 - { فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه } أي رفعنا عنهم العذاب عند أن رجعوا إلى موسى وسألوه بما سألوه لكن لا رفعا مطلقا بل رفعا مقيدا بغاية هي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق وجواب لما { إذا هم ينكثون } أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم وإذا هي الفجائية : أي فاجثوا النكث وبادروه (2/347)
136 - { فانتقمنا منهم } أي أردنا الانتقام منهم لما نكثوا بسبب ما تقدم لهم من الذنوب المتعددة { فأغرقناهم في اليم } أي في البحر قيل : هو الذي لا يدرك قعره وقيل : هو لجته وأوسطه وجملة { بأنهم كذبوا بآياتنا } تعليل للإغراق { وكانوا عنها غافلين } معطوف على كذبوا : أي كانوا غافلين عن النقمة المدلول عليها بانتقمنا أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها بل كذبوا بها وكانوا في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } قال : السنين الجوع وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : السنين الجوائح { ونقص من الثمرات } دون ذلك وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر واجتمعوا إلى فرعون فقالوا : إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء قال : غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال : أي شيء صنعت إن لم أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني ؟ فلما كان جوف الليل قام فاغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى نيل مصر فقال : اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بجزر الماء يقبل فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فإذا جاءتهم الحسنة } قال : العافية والرخاء { قالوا لنا هذه } نحن أحق بها { وإن تصبهم سيئة } قال : بلاء وعقوبة { يطيروا بموسى } قال : يتشاءموا به وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } قال : الأمر من قبل الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الطوفان الموت ] قال ابن كثير : هو حديث غريب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : الطوفان الغرق وأخرج هؤلاء عن مجاهد قال : الطوفان الموت على كل حال وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : الطوفان : مطروا دائما بالليل والنهار ثمانية أيام والقمل : الجراد الذي له أجنحة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : الطوفان أمر من أمر ربك ثم قرأ : { فطاف عليها طائف من ربك } وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : الطوفان : الماء والطاعون والجراد قال : يأكل مسامير أرتجهم : يعني أبوابهم وثيابهم والقمل الدباء والضفادع تسقط على فرشهم وفي أطعمتهم والدم يكون في ثيابهم ومائهم وطعامهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : القمل الدباء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : كانت الضفادع برية فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : سال النيل دما فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيبا ويستقي الفرعوني دما ويشتركان في إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء طيبا وما يلي الفرعوني دما وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله : { والدم } قال : سلط الله عليهم الرعاف وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين سنة يريهم الآيات والجراد والقمل والضفادع وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { آيات مفصلات } قال : كانت آيات مفصلات يتبع بعضها بعضا ليكون لله الحجة عليهم وأخرج ابن المنذر عنه قال : يتبع بعضها بعضا تمكث فيهم سبتا إلى سبت ثم ترفع عنهم شهرا وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الرجز : العذاب ] وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : الرجز الطاعون وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إلى أجل هم بالغوه } قال : الغرق وأخرج ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : اليم البحر وأخرج أيضا عن السدي مثله (2/347)
قوله : 137 - { وأورثنا القوم } يعني بني إسرائيل { الذين كانوا يستضعفون } أي يذلون ويمتهون بالخدمة لفرعون وقومه { مشارق الأرض ومغاربها } منصوبان بأورثنا وقال الكسائي والفراء : إن الأصل في مشارق الأرض ومغاربها ثم حذفت في فنصبا والأول أظهر لأنه يقال : أورثته المال والأرض هي مصر والشام ومشارقها جهات مشرقها ومغاربها جهات مغربها وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط وقيل : المراد جميع الأرض لأن داود وسليمان من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض قوله : { التي باركنا فيها } صفة للمشارق والمغارب وقيل : صفة الأرض والمباركة فيها إخراج الزرع والثمار منها على أتم ما يكون وأنفع ما ينفق قوله : { وتمت كلمة ربك الحسنى } أي مضت واستمرت على التمام والكلمة هي { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين } وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على أملاكهم والحسنى : صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن وتمام هذه الكلمة { على بني إسرائيل } بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه قوله : { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } التدمير الإهلاك : أي أهلكنا بالخراب ما كانوا يصنعونه من العمارات { وما كانوا يعرشون } قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم يعرشون بضم الراء قال الكسائي : هي لغة تميم وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة يعرشون بتشديد الراء وضم حرف المضارعة وقرأ الباقون بكسر الراء مخففة : أي ما كانوا يعرشونه من الجنات ومنه قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } وقيل : معنى يعرشون يبنون يقال : عرش يعرش : أي بنى يبني (2/349)
قوله : 138 - { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } جزناه بهم وقطعناه وقرئ جوزنا بالتشديد وهو بمعنى قراءة الجمهور { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم } قرأ حمزة والكسائي { يعكفون } بكسر الكاف وقرأ الباقون بضمها يقال : عكيف يعكف : ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه والمصدر منهما عكوف قيل : هؤلاء القوم الذين أتاهم بنو إسرائيل هم من لخم كانوا نازلين بالرقة كانت أصنامهم تماثيل بقر وقيل : كانوا من الكنعانيين { قالوا } أي بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل { يا موسى اجعل لنا إلها } أي صنما نعبده كائنا كالذي لهؤلاء القوم فالكاف متعلق بمحذوف وقع صفة لإلها فأجاب عليهم موسى و { قال إنكم قوم تجهلون } وصفهم بالجهل لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله ولكن هؤلاء القوم : أعني بني إسرائيل أشد خلق الله عنادا وجهلا وتلونا وقد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك (2/350)
ثم قال لهم موسى : { إن هؤلاء } يعني القوم العاكفين على الأصنام { متبر ما هم فيه } التبار الهلاك وكل إناء منكسر فهو متبر : أي أن هؤلاء هالك ما هم فيه مدمر مكسر والذي هم فيه عبادة الأصنام أخبرهم بأن هذا الدين الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمر لا يتم منه شيء قوله : { وباطل ما كانوا يعملون } أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام قال في الكشاف : وفي إيقاع هؤلاء اسما لـ إن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا (2/351)
قوله : 140 - { أغير الله أبغيكم إلها } الاستفهام للإنكار والتوبيخ : أي كيف أطلب لكم غير الله إلها تعبدونه وقد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي البعض منه ؟ والمعنى : أن هذا الذي طلبتم لا يكون أبدا وإدخال الهمزة على غير للإشعار بأن المنكر هو كون المبتغي غيره سبحانه إلها و غير مفعول للفعل الذي بعده وإلها تمييز أو حال وجملة { وهو فضلكم على العالمين } في محل نصب على الحال : أي والحال أنه فضلكم على العالمين من أهل عصركم بما أنعم به عليكم من إهلاك عدوكم واستخلافكم في الأرض وإخراجكم من الذل والهوان إلى العز والرفعة فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره (2/351)
قوله : 141 - { وإذ أنجيناكم من آل فرعون } أي واذكروا وقت إنجائنا لكم من آل فرعون بعد أن كانوا مالكين لكم يستعبدونكم فيما يريدونه منكم ويمتهنونكم بأنواع الامتهانات هذا على أن هذا الكلام محكي عن موسى وأما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد فهو بمعنى اذكروا إذ أنجينا أسلافكم من آل فرعون وجملة { يسومونكم سوء العذاب } في محل نصب على الحال : أي أنجيناكم من آل فرعون حال كونهم { يسومونكم سوء العذاب } ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه وجملة { يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم } مفسرة للجملة التي قبلها أو بدل منها وقد سبق بيان ذلك والإشارة بقوله : { وفي ذلكم } إلى العذاب : أي في هذا العذاب التي كنتم فيه { بلاء } عليكم { من ربكم عظيم } وقيل : الإشارة إلى الإنجاء والبلاء النعمة والأول أولى
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } قال : الشام وأخرج هؤلاء عن قتادة مثله وأخرج ابن عساكر عن زيد بن أسلم نحوه وأخرج أبو الشيخ عن عبد الله بن شوذب قال : هي فلسطين وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وتمت كلمة ربك الحسنى } قال : ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وما ورثهم منها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وما كانوا يعرشون } قال : يبنون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم } قال : لخم وجذام وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : تماثيل بقر من نحاس فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر فذلك كان أول شأن العجل ليكون الله عليهم الحجة فينتقم منهم بعد ذلك وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال : [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت : يا رسول الله اجعل لنا هذه ذوات أنواط كما للكفار ذوات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم ] وأخرج نحوه ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا وكثير ضعيف جدا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { متبر } قال : خسران وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال : هلاك (2/351)
هذا من جملة ما كرم الله به موسى عليه السلام وشرفه والثلاثين هي ذو القعدة والعشر هي عشر ذي الحجة ضرب الله هذه المدة موعدا لمناجاة موسى ومكالمته قيل : وكان التكليم في يوم النحر والفائدة في 142 - { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } مع العلم بأن الثلاثين والعشر أربعون ليلا يتوهم وأن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها فبين أن العشر غير الثلاثين وأربعين ليلة منصوب على الحال : أي فتم حال كونه بالغا أربعين ليلة قوله : { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي } أي كن خليفتي فيهم قال موسى : هذا لما أراد المضي إلى المناجاة { وأصلح } أمر بني إسرائيل بحسن سياستهم والرفق بهم وتفقد أحوالهم { ولا تتبع سبيل المفسدين } أي لا تسلك سبيل العاصين ولا تكن عونا للظالمين
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله : { وواعدنا موسى } الآية قال : ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد مثله وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : إن موسى قال لقومه : إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله فلما مضى ثلاثون ليلة كان السامري قد أبصر جبريل فأخذ من أثر الفرس قبضة من تراب ثم ذكر قصة السامري (2/352)
اللام في 143 - { لميقاتنا } للاختصاص : أي كان مجيئه مختصا بالميقات المذكور بمعنى أنه جاء في الوقت الموعود { وكلمه ربه } أي اسمعه كلامه من غير واسطة قوله : { أرني أنظر إليك } أي أرني نفسك أنظر إليك : أي سأله النظر إليه اشتياقا إلى رؤيته لما أسمعه كلامه وسؤال موسى للرؤية يدل على أنها جائزة عنده في الجملة ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها والجواب بقوله : { لن تراني } يفيد أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه أو أنه لا يرى ما دام الرائي حيا في دار الدنيا وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة ومنهج الحق واضح ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه آباءه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب والمتعصب وإن كان بصره صحيحا فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم وما أقل المنصفين بعد ظهوره هذه المذاهب في الأصول والفروع فإنه صار بها باب الحق مرتجا وطريق الإنصاف مستوعرة والأمر لله سبحانه والهداية منه :
( يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح )
وجملة { قال لن تراني } مستأنفة لكونها جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : فما قال الله له ؟ والاستدراك بقوله : { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } معناه أنك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرما وصلابة وقوة وهو الجبل فانظر إليه { فإن استقر مكانه } ولم يتزلزل عند رؤيتي له { فسوف تراني } وإن ضعف عن ذلك فأنت منه أضعف فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام الجبل وقيل : هو من باب التعليق بالمحال وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا
وقد تمسك بهذه الآية كلا طائفتي المعتزلة والأشعرية : فالمعتزلة استدلوا بقوله : { لن تراني } وبأمره بأن ينظر إلى الجبل والأشعرية قالوا : إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدل على أنها جائزة غير ممتنعة ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله والخلاف بينهم هو فيها لا في الرؤية في الدنيا فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة وكلامهم فيها معروف قوله : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } تجلى معناه : ظهر من قولك جلوت العروس : أي أبرزتها وجلوت السيف : أخلصته من الصدأ وتجلى الشيء : انكشف والمعنى : فلما ظهر ربه للجبل جعله دكا وقيل المتجلي هو أمره وقدرته قاله قطرب وغيره والدك مصدر بمعنى المفعول : أي جعله مدكوكا مدقوقا فصار ترابا هذا على قراءة من قرأ دكا بالمصدر وهم أهل المدينة وأهل البصرة وأما على قراءة أهل الكوفة { جعله دكاء } على التأنيث والجمع دكاوات كحمراء وحمراوات وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض أو للأرض المستوية فالمعنى : أن الجبل صار صغيرا كالرابية أو أرضا مستوية قال الكسائي : الدك : الجبال العراض واحدها أدك والدكاوات جمع دكاء وهي رواب من طين ليست بالغلاظ والدكادك : ما التبد من الأرض فلم يرتفع وناقة دكاء : لا سنام لها { وخر موسى صعقا } أي مغشيا عليه مأخوذا من الصاعقة : والمعنى : أنه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له يقال : صعق الرجل فهو صعق ومصعوق : إذا أصابته الصاعقة { فلما أفاق } من غشيته { قال سبحانك } أي أنزهك تنزيها من أن أسأل شيئا لم تأذن لي به { تبت إليك } عن العود إلى مثل هذا السؤال قال القرطبي : وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية فإن الأنبياء معصومون وقيل : هي توبة من قتله للقبطي ذكره القشيري ولا وجه له في مثل هذا المقام { وأنا أول المؤمنين } بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك (2/354)
وجملة 144 - { قال يا موسى } مستأنفة كالتي قبلها متضمنة لإكرام موسى واختصاصه بما اختصه الله به والاصطفاء : الاجتباء والاختيار : أي اخترتك على الناس المعاصرين لك برسالتي كذا قرأ نافع وابن كثير بالإفراد وقرأ الباقون بالجمع والرسالة مصدر والأصل فيه الإفراد ومن جمع فكأنه نظر إلى أن الرسالة هي على ضروب فجمع لاختلاف الأنواع والمراد بالكلام هنا : التكليم امتن الله سبحانه عليه بهذين النوعين العظيمين من أنواع الإكرام وهما الرسالة والتكليم من غير واسطة ثم أمره بأن يأخذ ما آتاه : أي أعطاه من هذا الشرف الكريم وأمره بأن يكون من الشاكرين على هذا العطاء العظيم والإكرام الجليل (2/355)
قوله : 145 - { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء } من كل شيء : أي من كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في دينهم ودنياهم وهذه الألواح : هي التوراة قيل : كانت من زمردة خضراء وقيل : من ياقوتة حمراء وقيل : من زبرجد وقيل : من صخرة صماء وقد اختلف في عدد الألواح وفي مقدار طولها وعرضها والألواح : جمع لوح وسمي لوحا لكونه تلوح فيه المعاني وأسند الله سبحانه الكتابة إلى نفسه تشريفا للمكتوب في الألواح وهي مكتوبة بأمره سبحانه وقيل : هي كتابة خلقها الله في الألواح و { من كل شيء } في محل نصب على أنه مفعول { كتبنا } و { موعظة وتفصيلا } بدل من محل كل شيء أي موعظة لمن يتعظ بها من بني إسرائيل وغيرهم وتفصيلا للأحكام المحتاجة إلى التفصيل { فخذها بقوة } أي خذ الألواح بقوة : أي بجد ونشاط وقيل : الضمير عائد إلى الرسالات أو إلى كل شيء أو إلى التوراة قيل : وهذا الأمر على إضمار القول : أي فقلنا له خذها وقيل إن { فخذها } بدل من قوله : { فخذ ما آتيتك } { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } أي بأحسن ما فيها بما أجره أكثر من غيره وهو مثل قوله تعالى : { اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وقوله : { فيتبعون أحسنه } ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه والعمل بالعزيمة دون الرخصة وبالفريضة دون النافلة وفعل المأمور به وترك المنهي عنه قوله : { سأريكم دار الفاسقين } قيل : هي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه وقيل : منازل عاد وثمود وقيل : هي جهنم وقيل : منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها وقيل الدار : الهلاك والمعنى : سأريكم هلاك الفاسقين وقد تقدم تحقيق معنى الفسق (2/355)
قوله : 146 - { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } قيل : معنى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون } سأمنعهم فهم كتابي وقيل : سأصرفهم عن الإيمان بها وقيل : سأصرفهم عن نفعها مجازاة على تكبرهم كما في قوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقيل : سأطبع على قلوبهم حتى لا يتفكروا فيها ولا يعتبروا بها
واختلف في تفسير الآيات فقيل هي المعجزات وقيل الكتب المنزلة وقيل هي خلق السموات والأرض وصرفهم عنها أن لا يعتبروا بها ولا مانع من حمل الآيات على جميع ذلك حمل الصرف على جميع المعاني المذكورة و { بغير الحق } إما متعلق بقوله : { يتكبرون } أي يتكبرون بما ليس بحق أو بمحذوف وقع حالا : أي يتكبرون متلبسين بغير الحق قوله : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } معطوف على { يتكبرون } منتظم معه في حكم الصلة والمعنى سأصرف عن آياتي المتكبرين التاركين للإيمان بما يرونه من الآيات ويدخل تحت كل آية الآيات المنزلة والآيات التكوينية والمعجزات : أي لا يؤمنون بآية من الآيات كائنة ما كانت وقرأ مالك بن دينار يروا بضم الياء في الموضعين وجملة { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا } معطوفة على ما قبلها داخلة في حكمها وكذلك جملة { وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } والمعنى : أنهم إذا وجدوا سبيلا من سبل الرشد تركوه وتجنبوه وإن رأوا سبيلا من سبل الغي سلكوه واختاروه لأنفسهم قرأ أهل المدينة وأهل البصرة { الرشد } بضم الراء وإسكان الشين وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما بفتح الراء والشين قال أبو عبيدة : فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال : الرشد الصلاح والرشد في الدين قال النحاس : سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد كالسخط والسخط قال الكسائي : والصحيح عن أبي عمرو وغيره ما قال أبو عبيدة وأصل الرشد في اللغة : أن يظفر الإنسان بما يريد وهو ضد الخيبة والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الصرف : أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو الإشارة إلى التكبر وعدم الإيمان بالآيات وتجنب سبيل الرشد وسلوك سبيل الغي واسم الإشارة مبتدأ وخبره جملة { بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها (2/356)
والموصول في 147 - { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } مبتدأ وخبره { حبطت أعمالهم } والمراد بلقاء الآخرة : لقاء الدار الآخرة : أي لقائهم لها أو لقائهم ما وعدوا به فيها على أن الإضافة إلى الظرف وحباط الأعمال بطلانها : أي بطلان ما عملوه مما صورته صورة الطاعة كالصدقة والصلة وإن كانوا في حال كفرهم لا طاعات لهم ويحتمل أن يراد أن تبطل بعدما كانت مرجوة النفع على تقدير إسلامهم لما في الحديث الصحيح : [ لما أسلمت على ما أسلفت من خير ] { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } من الكفر بالله والتكذيب بآياته وتنكب سبيل الحق وسلوك سبيل الغي
وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن كعب قال : لما كلم الله موسى قال : يا رب أهكذا كلامك ؟ قال : يا موسى إنما أكلمك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها ولو كلمتك بكنه كلامي لم تك شيئا وأخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه فقال له موسى : يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به ؟ قال : يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : يا موسى صف لنا كلام الرحمن فقال : لا تستطيعونه ألم تروا إلى أصوات الصواعق التي تقتل في أحلى حلاوة سمعتموه فذاك قريب منه وليس به ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال : إنما كلم الله موسى بقدر ما يطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء فمكث موسى أربعين ليلة لا يراه أحد إلا مات من نور رب العالمين وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { قال رب أرني أنظر إليك } يقول : أعطني أنظر إليك وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : لما سمع الكلام طمع في الرؤية وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : حين قال موسى لربه تبارك وتعالى : { رب أرني أنظر إليك } قال الله : يا موسى إنك لن تراني قال : يقول : ليس تراني ولا يكون ذلك أبدا يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا قال موسى : رب إني أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا فقال الله لموسى : يا موسى انظر إلى الجبل العظيم الطويل الشديد { فإن استقر مكانه } يقول : فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهد لبعض ما يرى من عظمتي { فسوف تراني } أنت لضعفك وذلتك وإن الجبل انهد بقوته وشدته وعظمته فأنت أضعف وأذل وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } قال : هكذا وأشار بأصبعيه ووضع إبهاميه على أنملة الخنصر وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل { وخر موسى صعقا } ] وفي لفظ : [ فساخ الجبل في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة ]
وهذا الحديث حديث صحيح على شرط مسلم وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : الجبل الذي أمره الله أن ينظر إليه الطور وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في كتاب الرؤية عن ابن عباس : { فلما تجلى ربه للجبل } قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر { جعله دكا } قال : ترابا { وخر موسى صعقا } قال : مغشيا عليه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والديلمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة بالمدينة : أحد وورقان ورضوى وبمكة : حراء وثبير وثور ] وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لما تجلى الله لموسى تطايرت سبعة أجبل ففي الحجاز خمسة منها وفي اليمن اثنان في الحجاز : أحد وثبير وحراء وثور وورقان وفي اليمن : حضور وصبر ] وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس أن موسى لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه فسأله فقال : { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل } قال : فحف حول الجبل الملائكة وحف حول الملائكة بنار وحف حول النار بملائكة وحف حولهم بنار ثم تجلى ربه للجبل تجلى منه مثل الخنصر فجعل الجبل دكا وخر موسى صعقا فلم يزل صعقا ما شاء الله ثم أفاق فقال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين من بني إسرائيل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : كتب الله الألواح لموسى وهو يسمع صريف الأقلام في لوح وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح إثني عشر ذراعا ] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كانوا يقولون كانت الألواح من ياقوتة وأنا أقول : إنما كانت من زمرد وكتابها الذهب كتبها الله بيده فسمع أهل السموات صريف الأقلام
أقول : رحم الله سعيدا ما كان أغناه عن هذا الذي قاله من جهة نفسه فمثله لا يقال بالرأي ولا بالحدس والذي يغلب به الظن أن كثيرا من السلف رحمهم الله كانوا يسألون اليهود عن هذه الأمور فلهذا اختلفت واضطربت فهذا يقول من خشب وهذا يقول من ياقوت وهذا يقول من زمرد وهذا يقول من زبرجد وهذا يقول من برد وهذا يقول من حجر وأخرج أبو الشيخ عن السدي { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } كل شيء أمروا به ونهوا عنه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله وقد اختلف السلف في المكتوب في الألواح اختلافا كثيرا ولا مانع من حمل المكتوب على جميع ذلك لعدم التنافي وأخرج وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { فخذها بقوة } قال : بجد وحزم { سأريكم دار الفاسقين } قال : دار الكفار وأخرج ابن جرير عنه { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } قال : أمر موسى أن يأخذها بأشد مما أمر به قومه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس { فخذها بقوة } قال : بطاعة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { فخذها بقوة } يعني بجد واجتهاد { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } قال : بأحسن ما يجدون منها وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { سأريكم دار الفاسقين } قال : مصيرهم في الآخرة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة قال : منازلهم في الدنيا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : جهنم وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : مصر وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { سأصرف عن آياتي } قال : عن أن يتفكروا في آياتي وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج { عن آياتي } قال : عن خلق السموات والأرض والآيات التي فيها سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها أو يعتبروا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سفيان بن عيينة في الآية قال : أنزع عنهم فهم القرآن (2/357)
قوله : 148 - { واتخذ قوم موسى من بعده } أي من بعد خروجه إلى الطور { من حليهم } متعلق باتخذ أو بمحذوف وقع حالا ومن للتبعيض أو للابتداء أو للبيان والحلي جمع حلى وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة من حليهم بضم الحاء وتشديد الياء وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما بكسر الحاء وقرأ يعقوب بفتح الحاء وتخفيف الياء قال النحاس : جمع حلي وحلي وحلى مثل ثدي وثدي وثدي والأصل حلوى أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء وتكسر الحاء لكسرة اللام وضمها على الأصل وأضيفت الحلي إليهم وإن كانت لغيرهم لأن الإضافة تجوز لأدنى ملابسة و { عجلا } مفعول اتخذ وقيل : هو بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين ثانيهما محذوف : أي اتخذوا عجلا إلها و { جسدا } بدل من عجلا وقيل : وصف له والخوار الصياح : يقال : خار يخور خورا إذا صاح وكذلك خار يخار خوارا ونسب اتخاذ العجل إلى القوم جميعا مع أنه اتخذه السامري وحده لكونه واحدا منهم وهم راضون بفعله روي أنه لما وعد موسى قومه ثلاثين ليلة فأبطأ عليهم في العشر المزيدة قال السامري لبني إسرائيل وكان مطاعا فيهم : إن معكم حليا من حلي آل فرعون الذي استعرتموه منهم لتتزينوا به في العيد وخرجتم وهو معكم وقد أغرق الله أهله من القبط فهاتوها فدفعوها إليه فاتخذ منها العجل المذكور قوله : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } الاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي ألم يعتبروا بأن هذا الذي اتخذوه إلها لا يقدر على تكليمهم فضلا عن أن يقدر على جلب نفع لهم أو دفع ضر منهم { ولا يهديهم سبيلا } أي طريقا واضحة يسلكونها { اتخذوه وكانوا ظالمين } أي اتخذوه إلها { وكانوا ظالمين } لأنفسهم في اتخاذه أو في كل شيء ومن جملة ذلك هذا الاتخاذ (2/360)
قوله : 149 - { ولما سقط في أيديهم } أي ندموا وتحيروا بعد عود موسى من الميقات يقال للنادم المتحير : قد سقط في يده قال الأخفش : يقال : سقط في يده وأسقط ومن قال : سقط في أيديهم على البناء للفاعل غما فالمعنى عنده : سقط الندم وأصله أن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه قد وقع فيها وقال الأزهري والزجاج والنحاس وغيرهم : معنى سقط في أيديهم : أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال : حصل في يده مكروه وإن كان محالا أن يكون في اليد تشبيها لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد قال الله تعالى : { ذلك بما قدمت يداك } وأيضا الندم وإن حل القلب فأثره يظهر في البدن لأن النادم يعض يده ويضرب إحدى يديه على الأخرى قال الله تعالى : { فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها } ومنه { يوم يعض الظالم على يديه } أي من الندم وأيضا النادم يضع ذقنه في يده { ورأوا أنهم قد ضلوا } سقط : أي تبينوا أنهم قد ضلوا باتخاذهم العجل وأنهم قد ابتلوا بمعصية الله سبحانه { قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا } قرأ حمزة والكسائي بالفوقية في الفعلين جميعا وقرأ الباقون بالتحتية واللام للقسم وجوابه { لنكونن من الخاسرين } وفي هذا الكلام منهم ما يفيد الاستغاثة بالله والتضرع والابتهال في السؤال وسيأتي في سورة طه إن شاء الله ما يدل على أن هذا الكلام المحكي عنهم هنا وقع بعد رجوع موسى وإنما قدم هنا على رجوعه لقصد حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد (2/361)
قوله : 150 - { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه وانتصاب غضبان و أسفا على الحال والأسف شديد الغضب قيل : هو منزلة وراء الغضب أشد منه وهو أسف وأسيف وأسفان وأسوف قال ابن جرير الطبري : أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا فلذلك رجع وهو غضبان أسفا { قال بئسما خلفتموني من بعدي } هذا ذم من موسى لقومه : أي بئس العمل ما عملتموه من بعدي : أي من بعد غيبتي عنكم يقال : خلفه بخير وخلفه بشر استنكر عليهم ما فعلوه وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلون حالهم واضطراب أفعالهم ثم قال منكرا عليهم : { أعجلتم أمر ربكم } والعجلة : التقدم بالشيء قبل وقته يقال : عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل حملته على العجلة والمعنى : أعجلتم عن انتظار أمر ربكم : أي ميعاده الذي وعدنيه وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم وقيل معناه : تعجلتم سخط ربكم وقيل معناه : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم { وألقى الألواح } أي طرحها لما اعتراه من شدة الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل قوله : { وأخذ برأس أخيه يجره إليه } أي أخذ برأس أخيه هارون أو بشعر رأسه حال كونه يجره إليه : فعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامري ولا غيره ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل فقال هارون معتذرا منه : { ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين استضعافهم لي ومقاربتهم لقتلي وإنما قال ابن أم مع كونه أخاه من أبيه وأمه لأنها كلمة لين وعطف ولأنها كانت كما قيل مؤمنة وقال الزجاج : قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه قرئ ابن أم بفتح الميم تشبيها له بخمسة عشر فصار كقولك : يا خمسة عشر أقبلوا وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد : إن الفتح على تقدير يابن أما وقال البصريون هذا القول خطأ : لأن الألف خفيفة لا تحذف ولكن جعل الإسمين إسما واحدا كخمسة عشر واختاره الزجاج والنحاس وأما من قرأ بكسر الميم فهو على تقدير ابن أمي ثم حذفت الياء وأبقيت الكسرة لتدل عليها وقال الأخفش وأبو حاتم : ابن أم بالكسر كما تقول : يا غلام أقبل وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة وإنما هذا فيما يكون مضافا إليك وقرئ { ابن أم } بإثبات الياء قوله : { فلا تشمت بي الأعداء } الشماتة : السرور من الأعداء بما يصيب من يعادونه مع المصائب ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء ] وهو في الصحيح ومنه قول الشاعر :
( إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا )
( فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا )
والمعنى : لا تفعل بي ما يكون سببا للشماتة منهم وقرأ مجاهد ومالك بن دينار { فلا تشمت بي الأعداء } بفتح حرف المضارعة وفتح الميم ورفع الأعداء على أن الفعل مسند إليهم : أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي وروي عن مجاهد أنه قرأ { تشمت } كما تقدم عنه مع نصب الأعداء قال ابن جني : والمعنى فلا تشمت بي أنت يا رب وجاز هذا كما في قوله : { الله يستهزئ بهم } ونحوه ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلا نصب به الأعداء كأنه قال : ولا تشمت يا رب بي الأعداء وما أبعد هذه القراءة عن الصواب وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب قوله : { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } أي لا تجعلني بغضبك علي في عداد القوم الظالمين : يعني الذين عبدوا العجل أو لا تعتقد أني منهم (2/361)
قوله : 151 - { قال رب اغفر لي ولأخي } هذا كلام مستأنف جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال موسى بعد كلام هارون هذا ؟ فقيل : { قال رب اغفر لي ولأخي } طلب المغفرة له أولا ولأخيه ثانيا ليزيل عن أخيه ما خافه من الشماتة فكأنه تذمم مما فعله بأخيه وأظهر أنه لا وجه له وطلب المغفرة من الله مما فرط منه في جانبه ثم طلب المغفرة لأخيه إن كان قد وقع منه تقصير فيما يجب عليهم من الإنكار عليهم وتغيير ما وقع منهم ثم طلب إدخاله وإدخال أخيه في رحمة الله التي وسعت كل شيء فهو { أرحم الراحمين }
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { واتخذ قوم موسى } الآية قال : حين دفنوها ألقى عليها السامري قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : استعاروا حليا من آل فرعون فجمعه السامري فصاغ منه { عجلا } فجعله { جسدا } لحما ودما { له خوار } وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { خوار } قال : الصوت وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : خار العجل خورة لم يئن ألم تر أن الله قال : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { سقط في أيديهم } قال : ندموا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس { أسفا } قال : حزينا وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال : الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب قال : الأسف الغضب الشديد وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها وأخرج أبو الشيخ عنه قال : رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع وأخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال : لما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } قال : مع أصحاب العجل (2/363)
الغضب ما نزل بهم من العقوبة في الدنيا بقتل أنفسهم وما سينزل بهم في الآخرة من العذاب والذلة هي التي ضربها الله عليهم بقوله : { ضربت عليهم الذلة } وقيل هي إخراجهم من ديارهم وقيل هي الجزية وفيه نظر لأنها لم تؤخذ منهم وإنما أخذت من ذراريهم والأولى أن يقيد الغضب والذلة بالدنيا لقوله : 152 - { في الحياة الدنيا } وإن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلها لا لمن بعدهم من ذراريهم ومجرد ما أمروا به من قتل أنفسهم هو غضب من الله عليهم وبه يصيرون أذلاء وكذلك خروجهم من ديارهم هو من غضب الله عليهم وبه يصبرون أذلاء وأما ما نال ذراريهم من الذلة فلا يصح تفسير ما في الآية به إلا إذا تعذر حمل الآية على المعنى الحقيقي وهو لم يتعذر هنا { وكذلك نجزي المفترين } أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين والافتراء الكذب فمن افترى على الله سيناله من الله غضب وذلة في الحياة الدنيا وإن لم يكن بنفس ما عوقب به هؤلاء بل المراد ما يصدق عليه أنه من غضب الله سبحانه وأن فيه ذلة بأي نوع كان (2/364)
153 - { والذين عملوا السيئات } أي سيئة كانت { ثم تابوا } عنها { من بعد } عملـ { من بعدها وآمنوا } بالله { إن ربك من بعدها } أي من بعد هذه التوبة أو من بعد عمل هذه السيئات التي قد تاب عنها فاعلها وآمن بالله { لغفور رحيم } أي كثير الغفران لذنوب عباده وكثير الرحمة لهم (2/364)
قوله : 154 - { ولما سكت عن موسى الغضب } أصل السكوت السكون والإمساك يقال : جرى الوادي ثلاثا ثم سكن : أي أمسك عن الجري : قيل : هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا وألق الألواح وجر برأس أخيك فترك الإغراء وسكت وقيل : هذا الكلام فيه قلب والأصل سكت موسى عن الغضب كقولهم : أدخلت الأصبع الخاتم والخاتم الأصبع وأدخلت القلنسوة رأسي ورأسي القلنسوة وقرأ معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب وقرئ سكت وأسكت { أخذ الألواح } التي ألقاها عند غضبه { وفي نسختها هدى ورحمة } النسخ نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر ويقال للأصل الذي كان النقل منه : نسخة وللمنقول نسخة أيضا قال القشيري والمعنى { وفي نسختها } : أي فيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة { هدى ورحمة } وقيل المعنى : وفيما نسخ له منها : أي من اللوح المحفوظ وقيل المعنى : وفيما كتب له فيها هدى ورحمة فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه وهذا كما يقال : أنسخ ما يقول فلان : أي أثبته في كتابك والنسخة فعلة بمعنى مفعولة كالخطبة والهدى ما يهتدون به من الأحكام والرحمة ما يحصل لهم من الله عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة واللام في { للذين هم } متعلقة بمحذوف : أي كائنة لهم أو لأجلهم واللام في { لربهم يرهبون } للتقوية للفعل لما كان مفعوله متقدما عليه فإنه يضعف بذلك بعض الضعف وقد صرح الكسائي بأنها زائدة وقال الأخفش : هي لام الأجل أي لأجل ربهم يرهبون وقال محمد بن يزيد المبرد : هي متعلقة بمصدر الفعل المذكور والتقدير : للذين هم رهبتهم لربهم يرهبون
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أيوب قال : تلا أبو قلابة هذه الآية { إن الذين اتخذوا العجل } إلى قوله : { وكذلك نجزي المفترين } قال : هو جزاء كل مفتر يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة ولما جاء فرأى بني إسرائيل عكوفا على العجل رمى التوراة من يده فتحطمت وأقبل على هارون فأخذ برأسه فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع : { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة } قال : فيما بقي منها وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال : كانت الألواح من زمرد فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى والرحمة وقرأ وكتبنا له في الألواح موعظة وتفصيلا لكل شيء وقرأ { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة } قال : ولم يذكر التفصيل هاهنا (2/364)
قوله : 155 - { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا } هذا شروع في بيان ما كان من موسى ومن القوم الذين اختارهم وسبعين مفعول اختار وقومه منصوب بنزع الخافض : أي من قومه على الحذف والإيصال ومثله قول الراعي :
( اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم ... واعتل من كان يرجى عنده السول )
يريد اخترتك من الناس ومعنى { لميقاتنا } للوقت الذي وقتناه له بعد أن وقع من قومه ما وقع والميقات الكلام الذي تقدم ذكره لأن الله أمره أن يأتي إلى الطور في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه سبحانه من عبادة العجل كذا قيل والرجفة في اللغة : الزلزلة الشديدة قيل : إنهم زلزلوا حتى ماتوا فلما رأى موسى أخذ الرجفة لهم : { قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } قاله عليه السلام تحسرا وتلهفا لأن سبب أخذ الرجفة لهم { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة } على ما تقدم في البقرة وقيل : هؤلاء السبعون غير من قالوا { أرنا الله جهرة } بل أخذتهم الرجفة بسبب عدم انتهائهم عن عبادة العجل وقيل : إنهم قوم لم يرضوا بعبادة العجل ولا نهوا السامري ومن معه عن عبادته فأخذتهم الرجفة بسبب سكوتهم والمعنى لو شئت إهلاكنا لأهلكتنا بذنوبنا قبل هذا الوقت اعترافا منه عليه السلام بالذنب وتلهفا على ما فرط من قومه والاستفهام في قوله : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } للجحد : أي لست ممن يفعل ذلك قاله ثقة منه برحمة الله والمقصود منه الاستعطاف والتضرع وقيل معناه الدعاء والطلب : أي لا تهلكنا قال المبرد : المراد بالاستفهام استفهام الإعظام كأنه يقول : وقد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره ولكنه كقول عيسى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك } وقيل المراد بالسفهاء : السبعون والمعنى : أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم : { أرنا الله جهرة } وقيل المراد بهم : السامري وأصحابه قوله : { إن هي إلا فتنتك } أي ما الفتنة التي وقع فيها هؤلاء السفهاء إلا فتنتك التي تختبر بها من شئت وتمتحن بها من أردت ولعله عليه السلام استفاد هذا من قوله سبحانه : { إنا قد فتنا قومك من بعدك } { تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } أي تضل بهذه الفتنة من تشاء من عبادك وتهدي بها من تشاء منهم ومثله : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ثم رجع إلى الاستعطاف والدعاء فقال : { أنت ولينا } أي المتولي لأمورنا { فاغفر لنا } ما أذنبناه { وارحمنا } برحمتك التي وسعت كل شيء { وأنت خير الغافرين } للذنوب (2/366)
156 - { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } بتوفيقنا للأعمال الصالحة أو تفضل علينا بإفاضة النعم في هذه الدنيا من العافية وسعة الرزق { وفي الآخرة } أي واكتب لنا في الآخرة الجنة بما تجازينا به أو بما تتفضل به علينا من النعيم في الآخرة وجملة { إنا هدنا إليك } تعليل لما قبلها من سؤال المغفرة والرحمة والحسنة في الدنيا وفي الآخرة أي إنا تبنا إليك ورجعنا عن الغواية التي وقعت من بني إسرائيل والهود : التوبة وقد تقدم في البقرة وجملة { قال عذابي أصيب به من أشاء } مستأنفة كنظائرها فيما تقدم قيل المراد بالعذاب هنا : الرجفة : وقيل : أمره سبحانه لهم بأن يقتلوا أنفسهم : أي ليس هذا إليك يا موسى بل ما شئت كان وما لم أشأ لم يكن والظاهر أن العذاب هنا يندرج تحته كل عذاب ويدخل فيه عذاب هؤلاء دخولا أوليا وقيل : المراد من أشاء من المستحقين للعذاب أو من أشاء أن أضله وأسلبه التوفيق { ورحمتي وسعت كل شيء } من الأشياء من المكلفين وغيرهم ثم أخبر سبحانه أنه سيكتب هذه الرحمة الواسعة { للذين يتقون } الذنوب { ويؤتون الزكاة } المفروضة عليهم { والذين هم بآياتنا يؤمنون } أي يصدقون بها ويذعنون لها (2/367)
ثم بين سبحانه هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } وهو محمد عليه الصلاة و السلام فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل والأمي : إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب : وهم العرب أو نسبة إلى الأم والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب وقيل : نسبة إلى أم القرى وهي مكة { الذي يجدونه } يعني اليهود والنصارى : أي يجدون نعته { مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } وهما مرجعهم في الدين وهذا الكلام منه سبحانه مع موسى قبل نزول الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون ثم وصف هذا النبي الذي يجدونه كذلك بأنه يأمر بالمعروف : أي بكل ما تعرفه القلوب ولا تنكره من الأشياء التي هي من مكارم الأخلاق { وينهاهم عن المنكر } أي ما تنكره القلوب ولا تعرفه وهو ما كان من مساوئ الأخلاق قيل إن قوله : { يأمرهم بالمعروف } إلى قوله : { أولئك هم المفلحون } كلام يتضمن تفصيل أحكام الرحمة التي وعد بها ذكر معناه الزجاج وقيل هو في محل نصب على الحال من النبي وقيل هو مفسر لقوله : { مكتوبا } قوله : { يحل لهم الطيبات } أي المستلذات وقيل : يحل لهم ما حرم عليهم من الأشياء التي حرمت عليهم بسبب ذنوبهم { ويحرم عليهم الخبائث } أي المستخبئات كالحشرات والخنازير { ويضع عنهم إصرهم } الإصر الثقل : أي يضع عنهم التكاليف الشاقة الثقيلة وقد تقدم بيانه في البقرة { والأغلال التي كانت عليهم } أي ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم الأغلال مستعارة للتكاليف الشاقة التي كانوا قد كلفوها { فالذين آمنوا به } أي بمحمد صلى الله عليه و سلم { واتبعوه } فيما جاء به من الشرائع { وعزروه } أي عظموه ووقروه قاله الأخفش وقيل : معناه منعوه من عدوه وأصل العزر : المنع وقرأ الجحدري { وعزروه } بالتخفيف { ونصروه } أي قاموا بنصره على من يعاديه { واتبعوا النور الذي أنزل معه } أي اتبعوا القرآن الذي أنزل عليه مع نبوته وقيل المعنى : واتبعوا القرآن المنزل إليه مع اتباعه بالعمل بسنته مما يأمر به وينهى عنه أو اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه والإشارة بـ { أولئك } إلى المتصفين بهذه الأوصاف { هم المفلحون } الفائزون بالخير والفلاح لا غيرهم من الأمم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { واختار موسى قومه } الآية قال كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز بهم ليدعوا ربهم فكان فيما دعوا الله أن قالوا : اللهم أعطنا ما لم تعط أحدا من قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة { قال } موسى { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك } يقول : إن هي إلا عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عمن تشاء وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { لميقاتنا } قال : لتمام الموعد وفي قوله : { فلما أخذتهم الرجفة } قال : ماتوا ثم أحياهم وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن أبي العالية في قوله : { إن هي إلا فتنتك } قال : بليتك وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { إن هي إلا فتنتك } قال : مشيئتك وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يرضوا العمل ولم ينهوا عنه وأخرج سعيد بن منصور عنه في قوله : { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } فلم يعطها موسى { قال عذابي أصيب به من أشاء } إلى قوله : { المفلحون } وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } قال : فكتب الرحمة يومئذ لهذه الأمة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { إنا هدنا إليك } قال : تبنا إليك وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي وجزة السعدي وكان من أعلم الناس بالعربية قال : لا والله ما أعلمها في كلام العرب هدنا قيل : فكيف قال هدنا بكسر الهاء يقول : ملنا وأخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن وقتادة في قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } قال : وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة وأخرج مسلم وغيره عن سلمان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة ] وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والطبراني والحاكم والضياء المقدسي من حديث جندب بن عبد الله العجلي وأخرج أبو الشيخ عن السدي قال : لما نزلت { ورحمتي وسعت كل شيء } قال إبليس : وأنا من الشيء فنسخها الله فنزلت { فسأكتبها للذين يتقون } إلى آخر الآية وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج قال : لما نزلت { ورحمتي وسعت كل شيء } قال إبليس : أنا من الشيء قال الله تعالى : { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } قالت اليهود : فنحن نتقي ونؤتي الزكاة قال الله : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } فعزلها الله عن إبليس وعن اليهود وجعلها لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه وأخرج البزار في مسنده وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : سأل موسى ربه مسألة فأعطاها محمدا صلى الله عليه و سلم قوله : { واختار موسى قومه } إلى قوله : { فسأكتبها للذين يتقون } فأعطى محمدا كل شيء سأل موسى ربه في هذه الآية وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : { فسأكتبها للذين يتقون } قال : كتبها الله لهذه الأمة وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : يتقون الشرك وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن النخعي في قوله : { النبي الأمي } قال : كان لا يقرأ ولا يكتب وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : هو نبيكم صلى الله عليه و سلم كان أميا لا يكتب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { الذي يجدونه مكتوبا عندهم } قال : يجدون نعته وأمره ونبوته مكتوبا عندهم وأخرج ابن سعد والبخاري وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تعفو وتصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وأخرج ابن سعد والدارمي في مسنده والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الله بن سلام مثله وقد روي نحو هذا مع اختلاف في بعض الألفاظ وزيادة في بعض ونقص في بعض عن جماعة وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { ويحل لهم الطيبات } قال : الحلال { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } قال : التثقيل الذي كان في دينهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { ويحرم عليهم الخبائث } قال : كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله وفي قوله : { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } قال : هو ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرم عليهم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { ويضع عنهم إصرهم } قال : ما غلظ على بني إسرائيل من قرض البول من جلودهم إذا أصابهم ونحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وعزروه } يعني : عظموه ووقروه (2/367)
لما تقدم ذكر أوصاف رسول الله صلى الله عليه و سلم المكتوبة في التوراة والإنجيل : أمره سبحانه أن يقول هذا القول المقتضي لعموم رسالته إلى الناس جميعا لا كما كان غيره من الرسل عليهم السلام فإنهم كانوا يبعثون إلى قومهم خاصة وجميعا منصوب على الحال : أي حال كونكم جميعا و { الذي له ملك السموات والأرض } إما في محل جر على الصفة للاسم الشريف أو منصوب على المدح أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وجملة { لا إله إلا هو } بدل من الصلة مقرر لمضمونها مبين لها لأن من ملك السموات والأرض وما فيهما هو الإله على الحقيقة وهكذا من كان يحيي ويميت هو المستحق لتفرده بالربوبية ونفي الشركاء عنه والأمر بالإيمان بالله وبرسوله متفرع على ما قبله وقد تقدم تفسير النبي الأمي وهما وصفان لرسوله وكذلك { الذي يؤمن بالله وكلماته } وصف له والمراد بالكلمات ما أنزله الله عليه وعلى الأنبياء من قبله أو القرآن فقط وجملة { واتبعوه } مقررة لجملة { فآمنوا بالله } و { لعلكم تهتدون } علة للأمر بالإيمان والاتباع
وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم إلى الأحمر والأسود فقال : { يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } والأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى مشهورة فلا نطيل بذكرها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { يؤمن بالله وكلماته } قال : آياته وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { وكلماته } قال : عيسى (2/370)
قوله : 159 - { ومن قوم موسى } لما قص الله علينا ما وقع من السامري وأصحابه وما حصل من بني إسرائيل من التزلزل في الدين : قص علينا سبحانه أن من قوم موسى أمة مخالفة لأولئك الذين تقدم ذكرهم ووصفهم بأنهم { يهدون بالحق } أي يدعون الناس إلى الهداية حال كونهم متلبسين بالحق { وبه } أي بالحق { يعدلون } بين الناس في الحكم وقيل : هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم منهم (2/372)
160 - { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا } الضمير يرجع إلى قوم موسى المتقدم ذكرهم : لا إلى هؤلاء الأمة منهم الذين يهدون بالحق وبه يعدلون والمعنى : صيرناهم قطعا متفرقة وميزنا بعضهم من بعض وهذا من جملة ما قصه الله علينا من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل والمعنى : أنه ميز بعضهم من بعض حتى صاروا أسباطا كل سبط معروف على انفراده لكل سبط نقيب كما في قوله تعالى : { وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } وقد تقدم وقوله : { اثنتي عشرة } هو ثاني مفعولي قطعنا لتضمنه معنى التصيير وأسباطا تمييز له أو بدل منه أو { أمما } نعت للأسباط أو بدل منه والأسباط جمع سبط : وهو ولد الولد صاروا اثنتي عشرة أمة من إثني عشر ولدا وأراد بالأسباط القبائل ولهذا أنث العدد كما في قول الشاعر :
( وإن قريشا كلها عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر )
أراد بالبطن القبيلة وقد تقدم تحقيق معنى الأسباط في البقرة وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ { قطعناهم } مخففا وسماهم أمما لأن كل سبط كان جماعة كثيرة العدد : وكانوا مختلفي الآراء يؤم بعضهم غير ما يؤمه الآخر { وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه } أي وقت استسقائهم له لما أصابهم العطش في التيه { أن اضرب بعصاك الحجر } تفسير لفعل الإيحاء { فانبجست } عطف على مقدر يدل عليه السياق : أي فضرب فانبجست والانبجاس : الانفجار أي فانفجرت { منه اثنتا عشرة عينا } بعدد الأسباط لكل سبط عين يشربون منها { قد علم كل أناس مشربهم } أي كل سبط منهم العين المختصة به التي يشرب منها وقد تقدم في البقرة ما فيه كفاية مغنية عن الإعادة { وظللنا عليهم الغمام } أي جعلناه ظللا عليهم في التيه يسير بسيرهم ويقيم بإقامتهم { وأنزلنا عليهم المن والسلوى } أي الترنجبين والسماني كما تقدم تحقيقه في البقرة { كلوا من طيبات ما رزقناكم } أي وقلنا لهم : كلوا من المستلذات التي رزقناكم { وما ظلمونا } بما وقع منهم من المخالفة وكفران النعم وعدم تقريرها حق قدرها { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } أي كان ظلمهم مختصا بهم مقصورا عليهم لا يجاوزهم إلى غيرهم (2/372)
161 - { وإذ قيل لهم } أي واذكر وقت قيل لهم هذا القول وهو { اسكنوا هذه القرية } أي بيت المقدس أو أريحاء وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه { وكلوا منها } أي من المأكولات الموجودة فيها { حيث شئتم } أي في أي مكان شئتم من أمكنتها لا مانع لكم من الأكل فيه { وقولوا حطة } قد تقدم تفسيرها في البقرة { وادخلوا الباب } أي باب القرية المتقدمة حال كونكم { سجدا } أمروا بأن يجمعوا بين قولهم حطة وبين الدخول ساجدين فلا يقال : كيف قدم الأمر بالقول هنا على الدخول وأخره في البقرة ؟ وقد تقدم بيان معنى السجود الذي أمروا به { نغفر لكم خطيئاتكم } جواب الأمر وقرئ { خطيئاتكم } ثم وعدهم بقوله : { سنزيد المحسنين } أي سنزيدهم على المغفرة للخطايا بما يتفضل به عليهم من النعم والجملة استئنافية جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا لهم بعد المغفرة ؟ (2/373)
162 - { فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم } قد تقدم بيان ذلك في البقرة { فأرسلنا عليهم رجزا من السماء } أي عذابا كائنا منها { بما كانوا يظلمون } أي بسبب ظلمهم (2/373)
قوله : 163 - { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } معطوف على عامل إذ المقدر : أي اذكر إذ قيل لهم واسألهم وهذا سؤال تقريع وتوبيخ والمراد من سؤال القرية : سؤال أهلها : أي اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها المخالف لما أمرهم الله به وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن اطلاعه لا يكون إلا بإخبار له من الله سبحانه فيكون دليلا على صدقه
واختلف أهل التفسير في هذه القرية : أي قرية هي ؟ فقيل أيلة وقيل طبرية وقيل مدين وقيل إيليا وقيل قرية من قرى ساحل الشام التي كانت حاضرة البحر : أي التي كانت بقرب البحر يقال كنت بحضرة الدار : أي بقربها والمعنى : سل يا محمد هؤلاء اليهود الموجودين عن قصة أهل القرية المذكورة قرئ واسألهم وقرئ سلهم { إذ يعدون } أي وقت يعدون وهو ظرف لمحذوف دل عليه الكلام لأن السؤال هو عن حالهم وقصتهم وقت يعدون وقيل : إنه ظرف لكانت أو لحاضرة وقرئ يعدون بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال من الإعداء للآلة وقرأ الجمهور يعدون بفتح الياء وسكون العين وضم الدال مخففة : أي يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت الذي نهوا عن الاصطياد فيه وقرئ يعدون بفتح الياء والعين وضم الدال مشددة بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال والسبت هو اليوم المعروف وأصله السكون يقال : سبت إذا سكن وسبت اليهود تركوا العمل في سبتهم والجمع أسبت وسبوت وأسبات وقرأ ابن السميفع في الأسبات على الجمع { إذ تأتيهم حيتانهم } ظرف ليعدون والحيتان : جمع حوت وأضيفت إليهم لمزيد اختصاص لهم بما كان منها على هذه الصفة من الإتيان يوم السبت دون ما عداه و { يوم سبتهم } ظرف لتأتيهم وقرئ يوم أسباتهم و { شرعا } حال وهو جمع شارع : أي ظاهرة على الماء وقيل رافعة رؤوسها وقيل إنها كانت تشرع على أبوابها كالكباش البيض قال في الكشاف : يقال : شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا انتهى { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } أي لا يفعلون السبت وذلك عند خروج يوم السبت لا تأتيهم الحيتان كما كانت تأتيهم في يوم السبت { كذلك نبلوهم } أي مثل ذلك البلاء العظيم نبلوهم بسبب فسقهم والابتلاء الامتحان والاختبار (2/373)
164 - { وإذ قالت أمة } معطوف على إذ يعدون معمول لعامله داخل في حكمه والأمة الجماعة : أي قالت جماعة من صلحاء أهل القرية لآخرين ممن كان يجتهد في وعظ المتعدين في السبت حين أيسوا من قبولهم للموعظة وإقلاعهم عن المعصية { لم تعظون قوما الله مهلكهم } أي مستأمل لهم بالعقوبة { أو معذبهم عذابا شديدا } بما انتهكوا من الحرمة وفعلوا من المعصية وقيل : إن الجماعة القائلة لم تعظون قوما ؟ هم العصاة الفاعلون للصيد في يوم السبت قالوا ذلك للواعظين لهم حين وعظوهم والمعنى : إذا علمتم أن الله مهلكنا كما تزعمون فلم تعظوننا { قالوا معذرة إلى ربكم } أي قال الواعظون للجماعة القائلين لهم لم تعظون وهم طائفة من صلحاء القرية على الوجه الأول أو الفاعلين على الوجه الثاني { معذرة إلى ربكم } قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف { معذرة } بالنصب وهي قراءة حفص عن عاصم وقرأ الباقون بالرفع قال الكسائي : ونصبه على وجهين : أحدهما على المصدر والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة : أي لأجل المعذرة والرفع على تقدير مبتدأ : أي موعظتنا معذرة إلى الله حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أوجبهما علينا ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا ويقلعوا عما هم فيه من المعصية
قال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق : فرقة عصت وصادت وكانت نحو سبعين ألفا وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعص وفرقة اعتزلت ونهت ولم تعص فقالت الطائفة التي لم تنه ولم تعص للفرقة الناهية { لم تعظون قوما } يريدون الفرقة العاصية { الله مهلكهم أو معذبهم } قالوا ذلك على غلبة الظن لما جرت به عادة الله من إهلاك العصاة أو تعذيبهم من دون استئصال بالهلاك فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ولعلهم يتقون ولو كانوا فرقتين فقط ناهية غير عاصية وعاصية لقال : لعلكم تتقون (2/374)
قوله : 165 - { فلما نسوا ما ذكروا به } أي لما ترك العصاة من أهل القرية ما ذكرهم به الصالحون الناهون عن المنكر ترك الناسي للشيء المعرض عنه كلية الإعراض { أنجينا الذين ينهون عن السوء } أي الذين فعلوا النهي ولم يتركوه { وأخذنا الذين ظلموا } وهم العصاة المعتدون في السبت { بعذاب بئيس } أي شديد من بؤس الشيء يبؤس بأسا إذا اشتد وفيه إحدى عشرة قراءة للسبعة وغيرهم { بما كانوا يفسقون } أي بسبب فسقهم والجار والمجرور متعلق بأخذنا (2/375)
166 - { فلما عتوا عن ما نهوا عنه } أي تجاوزوا الحد في معصية الله سبحانه تمردا وتكبرا { قلنا لهم كونوا قردة } أي أمرناهم أمرا كونيا لا أمرا قوليا : أي مسخناهم قردة قيل : إنه سبحانه عذبهم أولا بسبب المعصية فلما لم يقلعوا مسخهم قردة وقيل إن قوله : { فلما عتوا عن ما نهوا عنه } تكرير لقوله : { فلما نسوا ما ذكروا به } للتأكيد والتقرير وأن المسخ هو العذاب البيس والخاسئ الصاغر الذليل أو المباعد المطرود يقال : خسأته فخسئ : أي باعدته فتباعد واعلم أن ظاهر النظم القرآني هو أنه لم ينج من العذاب إلا الفرقة الناهية التي لم تعص لقوله : { أنجينا الذين ينهون عن السوء } وأنه لم يعذب بالمسخ إلا الطائفة العاصية لقوله : { فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } فإن كانت الطوائف منهم ثلاثا كما تقدم فالطائفة التي لم تنه ولم تعص يحتمل أنها ممسوخة مع الطائفة العاصية لأنها قد ظلمت نفسها بالسكوت عن النهي وعتت عما نهاها الله عنه من ترك النهي عن المنكر ويحتمل أنها لم تمسخ لأنها وإن كانت ظالمة لنفسها عاتية عن أمر ربها ونهيه لكنها لم تظلم نفسها بهذه المعصية الخاصة وهي صيد الحوت في يوم السبت ولا عتت عن نهيه لها عن الصيد وأما إذا كانت الطائفة الثالثة ناهية كالطائفة الثانية وإنما جعلت طائفة مستقلة لكونها قد جرت المقاولة بينها وبين الطائفة الأخرى من الناهين المعتزلين فهما في الحقيقة طائفة واحدة لاجتماعهما في النهي والاعتزال والنجاة من المسخ
وقد أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال موسى : يا رب أجد أمة أناجيلهم في قلوبهم قال : تلك أمة تكون بعدك : أمة أحمد قال : يا رب أجد أمة يعطون صدقات أموالهم ثم ترجع فيهم فيأكلون قال : تلك بعدك : أمة أحمد قال : يا رب اجعلني من أمة أحمد فأنزل الله كهيئة المرضاة لموسى { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { ومن قوم موسى أمة } الآية قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا إثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا قال ابن جريج : قال ابن عباس : فذلك قوله : { وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا } ووعد الآخرة عيسى ابن مريم قال ابن عباس ساروا في السرب سنة ونصفا
أقول : ومثل هذا الخبر العجيب والنبأ الغريب محتاج إلى تصحيح النقل
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة ولتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة فأما اليهود فإن الله يقول : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فهذه التي تنجو وأما النصارى فإن الله يقول : { منهم أمة مقتصدة } فهذه التي تنجو وأما نحن فيقول : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فهذه التي تنجو من هذه الأمة وقد قدمنا أن زيادة كلها في النار لم تصح لا مرفوعة ولا موقوفة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { فانبجست } قال : فانفجرت وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : دخلت على ابن عباس وهو يقرأ هذه الآية { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } قال : يا عكرمة هل تدري أي قرية هذه ؟ قلت : لا قال : هي أيلة وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال : هي طبرية وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إذ يعدون في السبت } قال : يظلمون وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { شرعا } يقول : من كل مكان وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : ظاهرة على الماء وأخرج ابن المنذر عنه قال : واردة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها : أيلة فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم فكانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا في ساحل البحر فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها فمكثوا كذلك ما شاء الله ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة فلم يزدادوا إلا غيا فقالت طائفة من النهاة يعلمون أن هؤلاء قوم حق عليهم العذاب { لم تعظون قوما الله مهلكهم } وكانوا أشد غضبا من الطائفة الأخرى وكل قد كانوا ينهون فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا : { لم تعظون } والذين قالوا : { معذرة إلى ربكم } وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أنهم ثلاث فرق : فرقة العصاة وفرقة الناهون وفرقة القائلون لم تعظون فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم فأصبح الذين نهوا ذات غداة في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم وقد باتوا من ليلتهم وغلقوا عليهم دورهم فجعلوا يقولون إن للناس لشأنا فانظروا ما شأنهم ؟ فاطلعوا في دورهم فإذا القوم قد مسخوا يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد والمرأة بعينها وإنها لقردة وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس فذكر القصة وفي آخرها أنه قال : فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها قال عكرمة : فقلت : جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : { لم تعظون قوما الله مهلكهم } قال : فأمر بي فكسيت ثوبين غليظين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أيضا قال : نجا الناهون وهلك الفاعلون ولا أدري ما صنع بالساكتين وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عنه قال : والله لأن أكون علمت أن القوم الذين قالوا : { لم تعظون قوما } نجوا من الذين نهوا عن السوء أحب إلي مما عدل به وفي لفظ : من حمر النعم ولكن أخاف أن تكون العقوبة نزلت بهم جميعا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : قال ابن عباس : ما أدري أنجا الذين قالوا : { لم تعظون قوما الله مهلكهم } أم لا ؟ قال : فما زلت أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا فكساني حلة وأخرج عبد بن حميد عن ليث بن أبي سليم قال : مسخوا حجارة الذين قالوا : { لم تعظون قوما الله مهلكهم } وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله : { بعذاب بئيس } قال : أليم وجيع (2/375)
قوله : 167 - { وإذ تأذن ربك } معطوف على ما قبله : أي واسألهم وقت تأذن ربك وتأذن تفعل من الإيذان وهو الإعلام قال أبو علي الفارسي : آذن بالمد أعلم وأذن بالتشديد نادى وقال قوم : كلاهما بمعنى أعلم كما يقال : أيقن وتيقن والمعنى في الآية : واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك { ليبعثن عليهم } قيل : وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بما يجاب به القسم حيث قال : { ليبعثن عليهم } أي ليرسلن عليهم ويسلطن كقوله : { بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد } { إلى يوم القيامة } غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم وقد كانوا أقماهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قطر من أقطار الأرض في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار يسلمون الجزية بحقن دمائهم ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار ومعنى { يسومهم } يذيقهم وقد تقدم بيان أصل معناه ثم علل ذلك بقوله : { إن ربك لسريع العقاب } يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء { وإنه لغفور رحيم } أي كثير الغفران والرحمة (2/378)
168 - { وقطعناهم في الأرض } أي فرقناهم في جوانبها أو شتتنا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة و { أمما } منتصب على الحال أو مفعول ثان لقطعنا على تضمينه معنى صيرنا وجملة { منهم الصالحون } بدل من أمما قيل : هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدل وقيل : هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدم بيانه قبل هذا { ومنهم دون ذلك } أي دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح ومحل { دون ذلك } الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير : ومنهم أناس دون ذلك والمراد بهؤلاء هم من لم يؤمن بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به قال النحاس { دون } منصوب على الظرف ولا نعلم أحدا رفعه { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } أي امتحناهم بالخير والشر رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي (2/379)
169 - { فخلف من بعدهم خلف } المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع سواء والخلف بفتح اللام البدل ولدا كان أو غيره وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح الصالح وبالسكون الطالح قال لبيد :
( ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب )
ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ومنه قول حسان بن ثابت :
( لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع )
{ ورثوا الكتاب } أي التوراة من أسلافهم يقرأونها ولا يعملون بها { يأخذون عرض هذا الأدنى } أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم وقوة نهمتهم والأدنى مأخوذ من الدنو وهو القرب : أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها وقيل : إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط : أي إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء السابق { ويقولون سيغفر لنا } أي يعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق وجملة { يأخذون } يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم أو في محل نصب على الحال وجملة { يقولون } معطوفة عليها والمراد بهذا الكلام : التقريع والتوبيخ لهم وجملة { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } في محل نصب على الحال : أي يتعللون بالمغفرة والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة وقيل : الضمير في { يأتيهم } ليهود المدينة : أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه و سلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذه أسلافهم { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } أي التوراة { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } والاستفهام للتقريع والتوبيخ وجملة { ودرسوا ما فيه } معطوفة على { يؤخذ } على المعنى وقيل على { ورثوا الكتاب } والأولى أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد والمعنى : أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل وذلك أشد ذنبا وأعظم جرما وقيل : معنى { درسوا ما فيه } أي محوه بترك العمل به والفهم له من قولهم درست الريح الآثار : إذا محتها { والدار الآخرة خير } من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها { للذين يتقون } اله ويجتنبون معاصيه { أفلا تعقلون } فتعلمون بهذا وتفهمونه وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره (2/379)
قوله : 170 - { والذين يمسكون بالكتاب } قرأ الجمهور يمسكون بالتشديد من مسك وتمسك : أي استمسك بالكتاب وهو التوراة وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر بالتخفيف من أمسك يمسك وروي عن أبي بن كعب أنه قرأ مسكوا والمعنى : أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه وهم من تقدم ذكره وطائفة يتمسكون بالكتاب : أي التوراة ويعملون بما فيه ويرجعون إليه في أمر دينهم فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله والموصول مبتدأ و { إنا لا نضيع أجر المصلحين } خبره : أي لا نضيع أجر المصلحين منهم وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة لأنها رأس العبادات وأعظمها فكان ذلك وجها لتخصيصها بالذكر وقيل : لأنها تقام في أوقات مخصوصة والتمسك بالكتاب مستمر فذكرت لهذا وفيه نظر فإن كل عبادة في الغالب تختص بوقت معين ويجوز أن يكون الموصول معطوفا على الموصول الذي قبله وهو للذين يتقون ولكون { أفلا تعقلون } جملة معترضة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { يسومهم سوء العذاب } قال : محمد وأمته إلى يوم القيامة وسوء العذاب : الجزية وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال : { سوء العذاب } الخراج وفي قوله : { وقطعناهم } قال : هم اليهود بسطهم الله في الأرض فليس منها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله : { ليبعثن عليهم } قال : على اليهود والنصارى { إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } فبعث الله عليهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم يأخذون منهم الجزية وهم صاغرون { وقطعناهم في الأرض أمما } قال : يهود { منهم الصالحون } وهم مسلمة أهل الكتاب { ومنهم دون ذلك } قال : اليهود { وبلوناهم بالحسنات } قال : الرخاء والعافية { والسيئات } قال : البلاء والعقوبة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } بالخصب والجدب وأخرج أبو الشيخ عنه أنه سئل عن هذه الآية { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى } قال : أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها ويتبعون رخص القرآن { ويقولون سيغفر لنا } ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فخلف من بعدهم خلف } قال : النصارى { يأخذون عرض هذا الأدنى } قال : ما أشرف لهم من شيء من الدنيا حلالا أو حراما يشتهونه أخذوه ويتمنون المغفرة وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { فخلف من بعدهم خلف } الآية يقول : يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام { ويقولون سيغفر لنا } وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله : { ودرسوا ما فيه } قال : علموا ما في الكتاب لم يأتوه بجهالة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { والذين يمسكون بالكتاب } قال : هي لأهل الإيمان منهم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { والذين يمسكون بالكتاب } قال : من اليهود والنصارى (2/380)
قوله : 171 - { وإذ } منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله : أي واسألهم إذ نتقنا الجبل : أي رفعنا الجبل { فوقهم } و { كأنه ظلة } أي كأنه لارتفاعه سحابة تظلهم والظلة : اسم لكل ما أظل وقرئ طلة بالطاء من أطل عليه إذا أشرف { وظنوا أنه واقع بهم } أي ساقط عليهم قيل : الظن هنا بمعنى العلم وقيل : هو على بابه { خذوا ما آتيناكم بقوة } هو على تقدير القول : أي وقلنا لهم خذوا والقوة : الجد والعزيمة : أي أخذا كائنا بقوة { واذكروا ما فيه } من الأحكام التي شرعها الله لكم ولا تنسوه { لعلكم تتقون } رجاء أن تتقوا ما نهيتهم عنه وتعملوا بما أمرتم به وقد تقدم تفسير ما هنا في البقرة مستوفى فلا نعده
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وإذ نتقنا الجبل } يقول : رفعناه وهو قوله : { ورفعنا فوقهم الطور } فقال : { خذوا ما آتيناكم بقوة } وإلا أرسلته عليكم وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : رفعته الملائكة فوق رؤوسهم فقيل لهم : { خذوا ما آتيناكم بقوة } فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا : سمعنا وأطعنا وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا : سمعنا وعصينا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضا قال : إني لأعلم لم تسجد اليهود على حرف قال الله : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } قال : لتأخذن أمري أو لأرمينكم به فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة { وإذ نتقنا الجبل } قال : انتزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم ثم قال : لتأخذن أمري أو لأرمينكم به (2/381)
قوله : 172 - { وإذ } منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله كما تقدم قوله : { من بني آدم } استدل بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا : هم ذرية بني آدم أخرجهم الله من أصلابهم نسلا بعد نسل
وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين قالوا : ومعنى { أشهدهم على أنفسهم } دلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد فتكون هذه الآية من باب التمثيل كما في قوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } وقيل المعنى : أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت من خطابه سبحانه وقيل المراد ببني آدم هنا : آدم نفسه كما وقع في غير هذا الموضع والمعنى : أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد وهؤلاء هم عالم الذر وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وموقوفا على غيره من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وسنذكر آخر هذا البحث إن شاء الله بعض ما ورد في ذلك قوله : { من ظهورهم } هو بدل من بني آدم بدل بعض من كل وقيل : بدل اشتمال قوله : { ذرياتهم } قرأ الكوفيون وابن كثير { ذريتهم } بالتوحيد وهي تقع على الواحد والجمع وقرأ الباقون { ذرياتهم } بالجمع { وأشهدهم على أنفسهم } أي أشهد كل واحد منهم { ألست بربكم } أي قائلا : ألست بربكم فهو على إرادة القول { قالوا بلى شهدنا } أي على أنفسنا بأنك ربنا قوله : { أن تقولوا } قرأ أبو عمرو بالياء التحتية في هذا وفي قوله : { أن يقولوا } على الغيبة كما كان فيما قبله على الغيبة وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب والمعنى : كراهة أن يقولوا أو لئلا يقولوا : أي فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد كراهة أن يقولوا : { يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له (2/382)
قوله : 173 - { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } معطوف على { تقولوا } الأول أي فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم و { أو } لمنع الخلو دون الجمع فقد يعتذرون بمجموع الأمرين { من قبل } أي من قبل زماننا { وكنا ذرية من بعدهم } لا نهتدي إلى الحق ولا نعرف الصواب { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثار سلفنا بين الله سبحانه في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة ويعتلوا بهذه العلة الباطلة ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة (2/383)
174 - { وكذلك } أي ومثل ذلك التفصيل { نفصل الآيات ولعلهم يرجعون } إلى الحق ويتركون ما هم عليه من الباطل
وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة : أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية { وإذ أخذ ربك } الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عنها فقال : [ إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار ] وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرها بين يديه ثم كلمهم فقال : { ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا } إلى قوله : { المبطلون } ] وإسناده لا مطعن فيه وقد أخرجه ابن أبي حاتم موقوفا على ابن عباس وأخرج ابن جرير وابن منده في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم قال : أخذهم من ظهره كما يؤخذ المشط من الرأس فقال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى قالت الملائكة : شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ] وفي إسناده أحمد بن أبي ظيبة أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد وأخرج له النسائي في سننه وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه وقال ابن عدي : حدث بأحاديث كثيرة غرائب وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر وهؤلاء أئمة ثقات وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لما خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال : يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا : لبيك ربنا وسعديك قال : ألست بربكم قالوا : بلى ] الحديث والأحاديث في هذا الباب كثيرة بعضها مقيد بتفسير هذه الآية وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ العهد عليهم كما في حديث أنس مرفوعا في الصحيحين وغيرهما وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة منها عن ابن عباس عند عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } الآية قال : خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه وكتب أجله ورزقه ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم وأخرج نحوه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وأخرج نحوه عنه أيضا ابن جرير وابن المنذر وأخرج نحوه عنه عبد الرزاق وابن المنذر وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده وهذا المعنى مروي عنه من طرق كثيرة غير هذه موقوفة عليه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمر في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } الآية قال : أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن ابن مسعود وناس من الصحابة في تفسير الآية نحوه وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد بن حنبل في رواية المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة وابن عساكر في تاريخه عن أبي بن كعب في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } الآية قال : جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق ثم أشهدهم على أنفسهم وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل (2/383)
قوله : 175 - { واتل } معطوف على الأفعال المقدرة في القصص السابقة : وإيراد هذه القصة منه سبحانه وتذكير أهل الكتاب بها لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات { فانسلخ منها } فقيل : هو بلعم بن باعوراء وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة وقيل : كان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو عليه فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه فقيل له في ذلك فقال : لا أقدر على أكثر مما تسمعون واندلع لسانه على صدره فقال : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة وسأمكر لكم وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا فإن وقعوا فيه هلكوا فوقع بنو إسرائيل في الزنا فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا وقيل : إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل وقيل : المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه و سلم حسده وكفر به وقيل : هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية فكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم وقيل : نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه و سلم فكفروا بها وقيل : نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلى الله عليه و سلم فكفروا به قوله : { فانسلخ منها } أي من هذه الآيات التي أوتيها كما تنسلخ الشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال { فأتبعه الشيطان } عند انسلاخه عن الآيات : أي لحقه فأدركه وصار قرينا له أو فأتبعه خطواته وقرئ فاتبعه بالتشديد بمعنى تبعه { فكان من الغاوين } المتمكنين في الغواية وهم الكفار (2/385)
قوله : 176 - { ولو شئنا لرفعناه بها } الضمير يعود إلى الذي أوتي الآيات والمعنى : لو شئنا رفعه : بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها : أي بسببها ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها وقيل المعنى : ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها : أي بالعمل بها { ولكنه أخلد إلى الأرض } أصل الإخلاد اللزوم يقال : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه والمعنى هنا : أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة { واتبع هواه } أي اتبع ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله وهو حطام الدنيا وقيل : كان هواه مع الكفار وقيل : اتبع رضا زوجته وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله قوله : { فمثله كمثل الكلب } أي فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطا إلى أسفل رتبة مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلا له في أقبح أوصافه وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه فهو لاهث سواء زجر أو ترك طرد أو لم يطرد شد عليه أو لم يشد عليه وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء وجملة { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } في محل نصب على الحال : أي مثله كمثل الكلب حال كونه متصفا بهذه الصفة والمعنى : أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ وذكره المذكر وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك قال القتيبي : كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته ضل وإن تركته ضل فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } واللهث : إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك قال الجوهري : لهث الكلب بالفتح يلهث لهثا ولهاثا بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش وكذلك الرجل إذا أعيا قيل معنى الآية : أنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا وإن تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلا علي ومدبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان والإشارة بقوله ذلك إلى ما تقدم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة وهو مبتدأ وخبره { مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } أي ذلك المثل الخسيس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا وبدلوا وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذبوا بها { فاقصص القصص } أي فاقصص عليهم هذا القصص الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذي تقص عليهم { لعلهم يتفكرون } في ذلك ويعملون فيه أفهامهم فينزجرون عن الضلال ويقبلون على الصواب (2/386)
قوله : 177 - { ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا } هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية : يقال : ساء الشيء قبح فهو لازم وساءه يسوؤه مساءة : فهو متعد وهو من أفعال الذم : كبئس وفاعله ضمير مستتر فيه ومثلا تمييز مفسر له والمخصوص بالذم هو الذين كذبوا بآياتنا ولا بد من تقدير مضاف محذوف لأجل المطابقة أي ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا وقال الأخفش : جعل المثل القوم مجازا والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ التقدير : ساء المثل مثلا هو مثل القوم كذا قال وقدره أبو علي الفارسي : ساء مثلا مثل القوم كما قدمنا وقرأ الجحدري والأعمش { ساء مثلا القوم } قوله : { وأنفسهم كانوا يظلمون } أي ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها والجملة معطوفة على التي قبلها على معنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم (2/387)
178 - { من يهد الله فهو المهتدي } لما أمر به وشرعه لعباده { ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } الكاملون في الخسران من هداه فلا مضل له ومن أضله فلا هادي له : ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
وقد أخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } قال : هو رجل من بني إسرائيل يقال له : بلعم بن آبز وأخرج ابن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : هو بلعم بن باعوراء وفي لفظ : بلعام بن باعر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له : بلعم تعلم اسم الله الأكبر فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا الله فسلخ ما كان فيه وفي قوله : { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } قال : إن حمل الحكمة لم يحملها وإن ترك لم يهت لخير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن يطرد لهث وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في الآية قال : هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن وكانت له امرأة له منها ولد فقالت : اجعل لي منها واحدة قال : فلك واحدة فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو في الآية قال : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي وفي لفظ : نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشعبي في هذه الآية قال : قال ابن عباس : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام بن باعوراء وكانت الأنصار تقول : هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق وكانت ثقيف تقول : هو أمية بن أبي الصلت وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو صيفي بن الراهب وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { فانسلخ منها } قال : نزع منه العلم وفي قوله : { ولو شئنا لرفعناه بها } قال : رفعه الله بعلمه وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ] ثم يقول : [ بعثت أنا والساعة كهاتين ] (2/387)
179 - { ولقد ذرأنا } أي خلقنا وقد تقدم بيان أصل معناه مستوفى وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها { لجهنم } أي للتعذيب بها { كثيرا } أي خلقا كثيرا { من الجن والإنس } أي من طائفتي الجن والإنس جعلهم سبحانه للنار بعدله وبعمل أهلها يعملون وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ثم وصف هؤلاء فقال : { لهم قلوب لا يفقهون بها } كما يفقه غيرهم بعقولهم وجملة { لا يفقهون بها } في محل رفع على أنها صفة لقلوب وجملة { لهم قلوب } في محل نصب صفة لكثيرا جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم غير فاقهة مطلقا وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم وهكذا معنى { ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها } فإن الذي انتفى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار وإن كانت مبصرة في غير ذلك والذي انتفى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة وما جاءت به رسل الله وإن كانوا يسمعون غير ذلك والإشارة بقوله : { أولئك } إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بههذ المشاعر ثم حكم عليهم بأنهم أضل منها لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرها فتنتفع بما ينفع وتجتنب ما يضر وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضر باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هو عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولقد ذرأنا } قال : خلقنا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : خلقنا لجهنم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن النجار عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم ] وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { ولقد ذرأنا لجهنم } قال : لقد خلقنا لجهنم { لهم قلوب لا يفقهون بها } قال : لا يفقهون شيئا من أمور الحياة { ولهم أعين لا يبصرون بها } الهدى { ولهم آذان لا يسمعون بها } الحق ثم جعلهم كالأنعام ثم جعلهم شرا من الأنعام فقال : { بل هم أضل } ثم أخبر أنهم الغافلون (2/389)
هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التفصيل والحسنى تأنيث الأحسن : أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة وقد ثبت في الصحيح : [ إن لله تسعة وتسعين إسما من أحصاها دخل الجنة ] وسيأتي أيضا بيان عددها آخر البحث إن شاء الله قوله : 180 - { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } الإلحاد : الميل وترك القصد يقال : لحد الرجل في الدين وألحد : إذا مال ومنه اللحد في القبر لأنه في ناحية وقرئ يلحدون وهما لغتان والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه : إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض ومعنى { وذروا الذين يلحدون } أتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال وقيل معناه : الوعيد كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } وقوله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } وهذا أولى لقوله : { سيجزون ما كانوا يعملون } فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم فقال رجل من المشركين : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو ربين اثنين ؟ حكى ذلك القرطبي
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر ] وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم : [ من دعى بها استجاب الله دعاءه ] وزاد الترمذي في سننه بعد قوله يحب الوتر : [ هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الأحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور ]
هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعة وقال : هذا حديث غريب وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث ورواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة والحاكم من طريق صفوان بإسناده السابق ورواه ابن ماجه في سننه من طريق أخرى عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا فسرد الأسماء المتقدمة بزيادة ونقصان قال ابن كثير في تفسيره والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك : أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي قال : ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وأمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ فقال : بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ] وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه بمثله انتهى وأخرجه البيهقي أيضا في الأسماء والصفات قال ابن حزم : جاءت في إحصائها يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلا وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكراه ولا أدري كيف إسناده وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني كلاهما في الدعاء وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة : إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة : أسأل الله الرحمن الرحيم الإله الرب الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الحليم العليم السميع البصير الحي القيوم الواسع اللطيف الخبير الحنان المنان البديع الغفور الودود الشكور المجيد المبدئ المعيد النور البارئ وفي لفظ : القائم الأول الآخر الظاهر الباطن العفو الغفار الوهاب الفرد وفي لفظ : القادر الأحد الصمد الوكيل الكافي الباقي المغيث الدائم المتعالي ذا الجلال والإكرام المولى البصير الحق المتين الوارث المنير الباعث القدير وفي لفظ : المجيب المحيي المميت الحميد وفي لفظ : الجميل الصادق الحفيظ المحيط الكبير القريب الرقيب الفتاح التواب القديم الوتر الفاطر الرزاق العلام العلي العظيم الغني الملك المقتدر الأكرم الرؤوف المدبر المالك القاهر الهادي الشاكر الكريم الرفيع الشهيد الواحد ذا الطول ذا المعارج ذا الفضل الخلاق الكفيل الجليل
وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة ؟ فقال : هي في القرآن ففي الفاتحة خمسة أسماء : يا الله يارب يا رحمن يا رحيم يا ملك وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسما : يا محيط يا قدير يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم يا تواب يا بصير يا ولي يا واسع يا كافي يا رؤوف يا بديع يا شاكر يا واحد يا سميع يا قابض يا مجيب يا عزيز يا نصير يا قوي يا شديد يا سريع يا خبير وفي آل عمران : يا وهاب يا قائم يا صادق يا باعث يا منعم يا متفضل وفي النساء : يا رقيب يا حسيب يا شهيد يا مقيت يا وكيل يا علي يا كبير وفي الأنعام : يا فاطر يا قاهر يا لطيف يا برهان وفي الأعراف : يا محيي يا مميت وفي الأنفال : يا نعم المولى ويا نعم النصير وفي هود : يا حفيظ يا مجيد يا ودود يا فعال لما تريد وفي الرعد : يا كبير يا متعالي وفي إبراهيم : يا منان يا وارث وفي الحجر : يا خلاق وفي مريم : يا فرد وفي طه : يا غفار وفي قد أفلح يا كريم وفي النور : يا حق يا مبين وفي الفرقان : يا هادي وفي سبأ : يا فتاح وفي الزمر : يا عالم وفي غافر : يا قابل التوب يا ذا الطول يا رفيع وفي الذاريات : يا رزاق يا ذا القوة يا متين وفي الطور : يا بر وفي اقتربت : يا مقتدر يا مليك وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإكرام يا رب المشرقين يا رب المغربين يا باقي يا معين وفي الحديد : يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن وفي الحشر : يا ملك يا قدوس يا سلام يا مؤمن يا مهيمن يا عزيز يا جبار يا متكبر يا خالق يا بارئ يا مصور وفي البروج : يا مبدئ يا معيد وفي الفجر : يا وتر وفي الإخلاص : يا أحد يا صمد انتهى
وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررها منه تسعة وتسعين ثم سردها فابحثه ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن ] وأخرج البيهقي عن عائشة [ أنها قالت : يا رسول الله علمني اسم الله الذي إذا دعي به أجاب قال لها : قومي فتوضئي وادخلي المسجد فصلي ركعتين ثم ادعي حتى أسمع ففعلت فلما جلست للدعاء قال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم وفقها فقالت : اللهم إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلها ما علمنا منها وما لم نعلم وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر الذي من دعاك به أجبته ومن سألك به أعطيته قال النبي : أصبتيه أصبتيه ]
وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال : الإلحاد أن يدعو اللات والعزى في أسماء الله وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : الإلحاد التكذيب وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في الآية قال : اشتقوا العزى من العزيز واشتقوا اللات من الله وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال : الإلحاد المضاهاة وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش أنه قرأ يلحدون من لحد وقال تفسيرها : يدخلون فيها ما ليس منها وأخرج عبد الرزاق وابن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال : يشركون (2/390)
قوله : 181 - { وممن خلقنا } خبر مقدم و { أمة } مبتدأ مؤخر و { يهدون } وما بعده صفة له ويجوز أن يكون { وممن خلقنا } هو المبتدأ كما تقدم في قوله : { ومن الناس من يقول } والمعنى : أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق أو يهدونهم بماعرفون من الحق { و } بالحق { يعدلون } بينهم قيل : هم من هذه الأمة وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين كما ورد في الحديث الصحيح (2/395)
ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال : 182 - { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } والاستدراج : هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة والدرج : كف الشيء يقال : أدرجته ودرجته ومنه إدراج الميت في أكفانه وقيل : هو من الدرجة فالاستدراج : أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود ومنه درج الصبي : إذا قارب بين خطاه وأدرج الكتاب : طواه شيئا بعد شيء ودرج القوم : مات بعضهم في أثر بعض والمعنى : سنستدينهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها فينهمكون في الغواية ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة (2/395)
قوله : 183 - { وأملي لهم } معطوف على سنستدرجهم : أي أطيل لهم المدة وأمهلهم وأؤخر عنهم العقوبة وجملة { إن كيدي متين } مقررة لما قبلها من الاستدراج والإملاء ومؤكدة له والكيد : المكر والمتين : الشديد القوي وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب قال في الكشاف : سماه كيدا لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان (2/395)
والاستفهام في 184 - { أولم يتفكروا } للإنكار عليهم حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وفيما جاء به و ما في { ما بصاحبهم } للاستفهام الإنكاري وهي في محل رفع بالابتداء والخبر بصاحبهم والجنة مصدر : أي وقع منهم التكذيب ولم يتفكروا أي شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلا وقولهم زورا وبهتا وقيل إن ما نافية واسمها { من جنة } وخبرها بصاحبهم : أي ليس بصاحبهم شيء مما يدعونه من الجنون فيكون هذا ردا لقولهم : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } ويكون الكلام قد تم عند قوله : { أولم يتفكروا } والوقف عليه من الأوقاف الحسنة وجملة { إن هو إلا نذير مبين } مقررة لمضمون ما قبلها ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/395)
والاستفهام في 185 - { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } للإنكار والتقريع والتوبيخ ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية والملكوت من أبنية المبالغة ومعناه الملك العظيم وقد تقدم بيانه والمعنى : إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به بل هم سادرون في ضلالتهم خائضون في غوايتهم لا يعملون فكرا ولا يمعنون نظرا قوله : { وما خلق الله من شيء } أي لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائنا ما كان فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين وموعظة للمتفكرين سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض أو من دقائقها من سائر مخلوقاته قوله : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } معطوف على ملكوت وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى وما بعدها : أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتون عن قريب والمعنى : إنهم إذا كانوا يجوزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به { فبأي حديث بعده يؤمنون } الضمير يرجع إلى ما تقدم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة : أي فبأي حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون ؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره وقيل الضمير للقرآن وقيل لمحمد صلى الله عليه و سلم وقيل للأجل المذكور قبله (2/396)
وجملة 186 - { من يضلل الله فلا هادي له } مقررة لما قبلها : أي إن هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله ومن يضلله فلا هادي له : أي فلا يوجد من يهديه إلى الحق وينزعه عن الضلالة ألبتة { ويذرهم في طغيانهم يعمهون } قرئ بالرفع على الاستئناف وبالجزم عطفا على محل الجزاء وقرئ بالنون ومعنى يعمهون : يتحيرون وقيل يترددون وهو في محل نصب على الحال
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقول إذا قرأها : [ هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } ] وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } يقول : سنأخذهم من حيث لا يعلمون قال : عذاب بدر وأخرج أبو الشيخ عن يحيى بن المثنى في الآية قال : كلما أحدثوا ذنبا جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن سفيان في الآية قال : نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ثابت البناني أنه سئل عن الاستدراج فقال : ذلك مكر الله بالعباد المضيعين وأخرج أبو الشيخ في قوله : { وأملي لهم } يقول : أكف عنهم { إن كيدي متين } إن مكري شديد ثم نسخها الله فأنزل : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كيد الله العذاب والنقمة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا [ أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا : يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت حتى أصبح فأنزل الله : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين } ] (2/396)
قوله : 187 - { يسألونك عن الساعة } السائلون : هم اليهود وقيل قريش والساعة : القيامة وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها وأيان ظرف زمان مبني على الفتح قال الراجز :
( أيان تقضي حاجتي أيانا ... أما ترى لنجحها أوانا )
ومعناه معنى متى واشتقاقه من أي : وقيل من أين وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة وهو في موضع رفع على الخبر و { مرساها } المبتدأ عند سيبويه ومرساها بضم الميم : أي وقت إرسائها من أرساها الله : أي أثبها وبفتح الميم من رست : أي ثبتت ومنه { وقدور راسيات } ومنه رسا الجبل والمعنى : متى يرسيها الله : أي يثبتها ويوقعها وظاهر { يسألونك عن الساعة } أن السؤال عن نفس الساعة وظاهر { أيان مرساها } أن السؤال عن وقتها فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله : { قل إنما علمها عند ربي } أي علمها باعتبار وقوعها عند الله لا يعلمها غيره ولا يهتدي إليها سواه { لا يجليها لوقتها إلا هو } أي لا يظهرها لوقتها ولا يكشف عنها إلا الله سبحانه والتجلية : إظهار الشيء يقال : جلى لي فلان الخبر : إذا أظهره وأوضحه وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها وهذه الجملة مقررة لمضمون التي قبلها قوله : { ثقلت في السموات والأرض } قيل معنى ذلك : أنه لما خفي علمها على أهل السموات والأرض كانت ثقيلة لأن كل ما خفي علمه ثقيل على القلوب وقيل المعنى : لا تطيقها السموات والأرض لعظمها لأن السماء تنشق والنجوم تتناثر والبحار تنضب وقيل عظم وصفها عليهم وقيل ثقلت المسألة عنها وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أيضا { لا تأتيكم إلا بغتة } إلا فجأة على غفلة والبغتة مصدر في موضع الحال وهذه الجملة كالتي قبلها في التقرير قوله : { يسألونك كأنك حفي عنها } قال ابن فارس : الحفي العالم بالشيء والحفي المستقصي في السؤال ومنه قول الأعشى :
( فإن تسألي عني فيا رب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا )
يقال : أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محف وحفي على التكثير مثل مخصب وخصيب والمعنى : يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها أو كأنه مستقص للسؤال عنها ومستكثر منه والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال أي يسألونك مشبها حالك حال من هو حفي عنها وقيل المعنى : يسألونك عنها كأنك حفي بهم : أي حفي ببرهم وفرح بسؤالهم والأول هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي قوله : { قل إنما علمها عند ربي } أمره الله سبحانه بأن يكرر ما أجاب عليهم سابقا لتقرير الحكم وتأكيده وقيل ليس بتكرير بل أحدهما معناه الاستئثار بوقوعها والآخر الاستئثار بكنهها نفسها { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } باستئثار الله بهذا وعدم علم خلقه به لم يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل (2/398)
قوله : 188 - { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } هذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدم من عدم علمه بالساعة أيان تكون ومتى تقع لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له أو دفع ضر عنه إلا ما شاء الله سبحانه من النفع له والدفع عنه فبالأولى أن يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه و سلم ما فيه أعظم زاجر وأبلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصا أو الزجر ثم أكد هذا وقرره بقوله : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } أي لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني ولكني عبد لا أدري ما عند ربي ولا ما قضاه في وقدره لي فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه وقيل المعنى : لو كنت أعلم ما يريد الله عز و جل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته وقيل : لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب وقيل : لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه والأولى حمل الآية على العموم فتندرج هذه الأمور وغيرها تحتها وقد قيل إن { وما مسني السوء } كلام مستأنف أي ليس بي ما تزعمون من الجنون والأولى أنه متصل بما قبله والمعنى : لو علمت الغيب ما مسنى السوء ولحذرت عنه كما قدمنا ذلك قوله : { إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } أي ما أنا إلا مبلغ عن الله لأحكامه أنذر بها قوما وأبشر بها آخرين ولست أعلم بغيب الله سبحانه واللام في { لقوم } متعلق بكلا الصفتين : أي بشير لقوم ونذير لقوم وقيل هو متعلق ببشير والمتعلق بنذير محذوف : أي نذير لقوم يكفرون وبشير لقوم يؤمنون (2/399)
قوله : 189 - { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها مما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية وأنه المنفرد بالإلهية قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة آدم وقوله : { وجعل منها زوجها } معطوف على { خلقكم } أي هو الذي خلقكم من نفس آدم وجعل من هذه النفس زوجها وهي حواء خلقها من ضلع من أضلاعه وقيل المعنى { جعل منها } من جنسها كما في قوله : { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } والأول أولى { ليسكن إليها } علة للجعل : أي جعله منها لأجل يسكن إليها يأنس إليها ويطمئن بها فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار : ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما فقال : { فلما تغشاها } والتغشي كناية عن الوقاع : أي فلما جامعها { حملت حملا خفيفا } علقت به بعد الجماع ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخف منه عند كونه علقة وعند كونه علقة أخف منه عند كونه مضغة وعند كونه مضغة أخف مما بعده وقيل : إنه خف عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه ولم تجد منه ثقلا كما تجده الحوامل من النساء لقوله : { فمرت به } أي استمرت بذلك الحمل تقوم وتقعد وتمضي في حوائجها لا تجد به ثقلا والوجه الأول أولى لقوله : { فلما أثقلت } فإن معناه : فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها وقرئ فمرت به بالتخفيف : أي فجزعت لذلك وقرئ فمارت به من المور وهو المجيء والذهاب وقيل المعنى : فاستمرت به وقد رويت قراءة التخفيف عن ابن عباس ويحيى بن يعمر ورويت قراءة فمارت عن عبد الله بن عمر وروي عن ابن عباس أنه قرأ فاستمرت به قوله : { دعوا الله ربهما } جواب لما : أي دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما { لئن آتيتنا صالحا } أي ولدا صالحا واللام جواب قسم محذوف و { لنكونن من الشاكرين } جواب القسم ساد مسد جواب الشرط : أي من الشاكرين لك على هذه النعمة وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب (2/399)
190 - { فلما آتاهما } ما طلباه من الولد الصالح وأجاب دعاءهما { جعلا له شركاء فيما آتاهما } قال كثير من المفسرين : إنه جاء إبليس إلى حواء وقال لها : إن ولدت ولدا فسميه باسمي فقالت : وما اسمك ؟ قال : الحرث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحرث فكان هذا شركا في التسمية ولم يكن شركا في العبادة وإنما قصدا أن الحرث كان سبب نجاة الولد كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه كما قال حاتم الطائي :
( وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد )
وقال جماعة من المفسرين : إن الجاعل شركا فيما آتاهما هم جنس بني آدم كما وقع من المشركين منهم ولم يكن ذلك من آدم وحواء ويدل على هذا جمع الضمير في قوله : { فتعالى الله عما يشركون } وذهب جماعة من الفسرين إلى أن معنى { من نفس واحدة } من هيئة واحدة وشكل واحد { وجعل منها زوجها } أي من جنسها { فلما تغشاها } يعني جنس الذكر جنس الأنثى وعلى هذا لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين وقد قدمنا الإشارة إلى نحو هذا وذكرنا أنه خلاف الأولى لأمور منها { وجعل منها زوجها } بأن هذا إنما هو لحواء ومنها { دعوا الله ربهما } فإن كل مولود يولد بين الجنسين لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء وقد قرأ أهل المدينة وعاصم شركا على التوحيد وقرأ أبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى وأجيب عنه بأنها صحيحة على حذف المضاف : أي جعلا له ذا شرك أو ذوي شرك (2/400)
والاستفهام في 191 - { أيشركون ما لا يخلق شيئا } للتقريع والتوبيخ : أي كيف يجعلون لله شريكا لا يخلق شيئا ولا يقدر على نفع لهم ولا دفع عنهم قوله : { وهم يخلقون } عطف على { ما لا يخلق } والضمير راجع إلى الشركاء الذين لا يخلقون شيئا : أي وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام أو الشياطين مخلوقون وجمعهم جمع العقلاء لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك (2/401)
192 - { ولا يستطيعون لهم } أي لمن جعلهم شركاء { نصرا } إن طلبه منهم { ولا أنفسهم ينصرون } إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم ومن عجز عن نصر نفسه فهو عن نصر غيره أعجز
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قال حمل بن أبي قيس وشمول بن زيد لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم ما هي ؟ فأنزل الله { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي } إلى قوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة { أيان مرساها } أي متى قيامها ؟ { قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو } قال : قالت قريش يا محمد أسر إلينا الساعة لما بيننا وبينك من القرابة ؟ قال : { يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله } وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ تهيج الساعة بالناس والرجل يسقى على ماشيته والرجل يصلح حوضه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه والرجل يقيم سلعته في السوق قضاء الله لا تأتيكم إلا بغتة ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أيان مرساها } قال : منتهاها وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { لا يجليها لوقتها إلا هو } يقول : لا يأتي بها إلا الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هو يجليها لوقتها لا يعلم ذلك إلا الله وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ثقلت في السموات والأرض } قال : ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ثقلت في السموات والأرض } قال : ثقل علمها على أهل السموات والأرض يقول كبرت عليهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { ثقلت في السموات والأرض } قال : إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال وما يصيب الأرض وكان ما قال الله سبحانه فذلك ثقلها فيهما وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { لا تأتيكم إلا بغتة } قال : فجأة آمنين وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في البعث عن مجاهد في قوله : { كأنك حفي عنها } قال : استحفيت عنها السؤال حتى علمتها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { كأنك حفي عنها } يقول : كأنك عالم بها : أي لست تعلمها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عنه { كأنك حفي عنها } قال : لطيف بها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا { كأنك حفي عنها } يقول : كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم قال : لما سأل الناس محمدا صلى الله عليه و سلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم فأوحى الله إليه { إنما علمها عند الله } استأثر بعلمها فلم يطلع ملكا ولا رسولا وأخرج عبد بن حميد عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ : كأنك حفي بها وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } قال : الهدى والضلالة { ولو كنت أعلم الغيب } متى أموت { لاستكثرت من الخير } قال : العمل الصالح وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } قال : لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه فلا أبيع شيئا لا ربح فيه { وما مسني السوء } قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته عبد الحرث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن سمرة في قوله : { فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء } قال : سمياه عبد الحرث وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي بن كعب نحو حديث سمرة المرفوع موقوفا عليه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : حملت حواء فأتاها إبليس فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما سمياه عبد الحرث فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت فأتاهما أيضا فقال مثل ذلك فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحرث فذلك قوله : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن سمرة في قوله : { حملت حملا خفيفا } لم يستبن { فمرت به } لما استبان حملها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فمرت به } قال : فشكت أحملت أم لا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أيوب قال : سئل الحسن عن قوله : { فمرت به } قال : لو كنت عربيا لعرفتها إنما هي استمرت بالحمل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { حملت حملا خفيفا } قال : هي النطفة { فمرت به } يقول : استمرت به وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فمرت به } يقول : استخفته وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في قوله : { لئن آتيتنا صالحا } فقال : أشفقا أن يكون بهيمة فقالا : لئن آتيتنا بشرا سويا وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : غلاما سويا وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { جعلا له شركاء } قال : كان شريكا في طاعة ولم يكن شريكا في عبادة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : ما أشرك آدم إن أولها شكر وآخرها مثل ضربه لمن بعده وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { فتعالى الله عما يشركون } هذا فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب وأخرج ابن أبي مالك نحوه وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : هذا في الكفار يدعون الله فإذا آتاهما صالحا هودا أو نصرا ثم قال : { أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون } يقول : يطيعون ما لا يخلق شيئا وهي الشياطين لا تخلق شيئا وهي تخلق { ولا يستطيعون لهم نصرا } يقول : لمن يدعوهم (2/401)
قوله : 193 - { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } هذا خطاب للمشركين : أي وإن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم لا يتبعوكم ولا يجيبوكم إلى ذلك وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع ودفع الضر والنصر على الأعداء قال الأخفش معناه وإن تدعوهم : أي الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم وقيل : المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن وقرئ لا يتبعوكم مشددا ومخففا وهما لغتان وقال بعض أهل اللغة أتبعه مخففا : إذا مضى خلفه ولم يدركه واتبعه مشددا : إذا مضى خلفه فأدركه وجملة { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } مقررة لمضمون ما قبلها : أي دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء لا فرق بينهما لأنهم لا ينفعون ولا يضرون ولا يسمعون ولا يجيبون وقال : { أم أنتم صامتون } مكان أصمتم لما في الجملة الإسمية من المبالغة وقال محمد بن يحيى : إنما جاء بالجملة الإسمية لكونها رأس آية يعني لمطابقة { ولا أنفسهم ينصرون } وما قبله (2/404)
قوله : 194 - { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } أخبرهم سبحانه بأنه هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباد لله كما أنتم عباد له مع أنكم أكمل منهم لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون وهذه الأصنام ليست كذلك ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره وفي هذا تقريع لهم بالغ وتوبيخ لهم عظيم وجملة { فادعوهم فليستجيبوا لكم } مقررة لمضمون ما قبلها من أنهم إن دعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم وأنهم لا يستطيعون شيئا : أي ادعوا هؤلاء الشركاء فإن كانوا كما تزعمون { فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } فيما تدعونه لهم من قدرتهم على النفع والضر (2/404)
والاستفهام في قوله : 195 - { ألهم أرجل } وما بعده للتقريع والتوبيخ : أي هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم فضلا عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم { أرجل يمشون بها } في نفع أنفسهم فضلا عن أن يمشوا في نفعكم وليس { لهم أيد يبطشون بها } كما يبطش غيرهم من الأحياء وليس { لهم أعين يبصرون بها } كما تبصرون وليس { لهم آذان يسمعون بها } كما تسمعون فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات وبهذه المنزلة من العجز وأم في هذه المواضع هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة كما ذكره أئمة النحو وقرأ سعيد بن جبير { إن الذين تدعون } بتخفيف إن ونصب عبادا : أي ما الذين تدعون { من دون الله عباد أمثالكم } على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية وقد ضعفت هذه القراءة بأنها خلاف ما رجحه سيبويه وغيره من اختيار الرفع في خبرها وبأن الكسائي قال : إنها لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى ما إلا أن يكون بعدها إيجاب كما في قوله : { إن الكافرون إلا في غرور } والبطش : الأخذ بقوة وقرأ أبو جعفر { يبطشون } بضم الطاء وهي لغة ثم لما بين لهم حال هذه الأصنام وتعاور وجوه النقص والعجز لها من كل باب أمره الله بأن يقول لهم ادعوا شركاءكم الذين تزعمون أن لهم قدرة على النفع والضر { ثم كيدون } أنتم وهم جميعا بما شئتم من وجوه الكيد { فلا تنظرون } أي فلا تمهلوني ولا تؤخرون إنزال الضرر بي من جهتها والكيد : المكر وليس بعد هذا التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء (2/404)
ثم قال لهم : 196 - { إن وليي الله الذي نزل الكتاب } أي كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها ولي ولي ألجأ إليه وأستنصر به وهو الله عز و جل { الذي نزل الكتاب } وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها وولي الشيء هو الذي يحفظه ويقوم بنصرته ويمنع منه الضرر { وهو يتولى الصالحين } أي يحفظهم وينصرهم ويحول ما بينهم وبين أعدائهم قال الأخفش : وقرئ { إن وليي الله الذي نزل الكتاب } يعني جبرائيل قال النحاس : هي قراءة عاصم الجحدري والقراءة الأولى أبين لقوله : { وهو يتولى الصالحين } (2/405)
قوله : 197 - { والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } كرر سبحانه هذا لمزيد التأكيد والتقرير ولما في تكرار التوبيخ والتقريع من الإهانة للمشركين والتنقص بهم وإظهار سخف عقولهم وركاكة أحلامهم (2/405)
198 - { وتراهم ينظرون إليك } جملة مبتدأة لبيان عجزهم أو حالية : أي والحال أنك تراهم ينظرون إليك حال كونهم لا يبصرون والمراد : الأصنام إنهم يشبهون الناظرين ولا أعين لهم يبصرون بها قيل : كانوا يجعلون للأصنام أعينا من جواهر مصنوعة فكانوا بذلك في هيئة الناظرين ولا يبصرون وقيل المراد بذلك المشركون أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم
وقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : يجاء بالشمس والقمر حتى يلقيا بين يدي الله تعالى ويجاء بمن كان يعبدهما فيقال : { ادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وتراهم ينظرون إليك } قال : هؤلاء المشركون وأخرج هؤلاء أيضا عن مجاهد في قوله : { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } ما يدعوهم إليه من الهدى (2/405)
قوله : 199 - { خذ العفو } لما عدد الله ما عدده من أحوال المشركين وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم : أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم يقال : أخذت حقي عفوا : أي سهلا وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول : [ يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ] والمراد بالعفو هنا ضد الجهد وقيل المراد : خذ العفو من صدقاتهم ولا تشدد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة { وأمر بالعرف } أي بالمعروف وقرأ عيسى بن عمر بالعرف بضمتين وهما لغتان والعرف والمعروف والعارفة : كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس ومنه قول الشاعر :
( من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس )
{ وأعرض عن الجاهلين } أي إذا أقمت الحجة في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا فأعرض عنهم ولا تمارهم ولا تسافههم مكافأة لما يصدر منهم من المراء والسفاهة قيل : وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف قاله عبد الرحمن بن زيد وعطاء وقيل : هي محكمة قاله مجاهد وقتادة (2/406)
قوله : 200 - { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } النزغ الوسوسة وكذا النغز والنخس قال الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون ومن الشيطان أدنى وسوسة وأصل النزغ : الفساد يقال : نزغ بيننا : أي أفسد وقيل النزغ : الإغواء والمعنى متقارب أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم إذا أدرك شيئا من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله وقيل : [ إنه لما نزل قوله : { خذ العفو } قال النبي صلى الله عليه و سلم : كيف يا رب بالغضب فنزلت وجملة { إنه سميع عليم } ] علة لأمره بالاستعاذة أي استعذ به والتجئ إليه فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به (2/407)
وجملة 201 - { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } مقررة لمضمون ما قبلها : أي إن شأن الذين يتقون الله وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة به والالتجاء إليه عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيرا قرأ أهل البصرة { طيف } وكذا أهل مكة وقرأ أهل المدينة والكوفة { طائف } وقرأ سعيد بن جبير { طيف } بالتشديد قال النحاس : كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف قال الكسائي : هو مخفف مثل ميت وميت قال النحاس : ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم وكذا معنى طائف قال أبو حاتم : سألت الأصمعي عن طيف فقال : ليس في المصادر فيعل قال النحاس : ليس هو مصدرا ولكن يكون بمعنى طائف وقيل : الطيف والطائف معنيان مختلفان فالأول التخيل والثاني الشيطان نفسه فالأول من طاف الخيال يطوف طيفا ولم يقولوا من هذا طائف قال السهيلي : لأنه تخيل لا حقيقة له فأما قوله : { فطاف عليها طائف من ربك } فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة قال الزجاج : طفت عليهم أطوف فطاف الخيال يطيف قال حسان :
( فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء )
وسميت الوسوسة طيفا لأنها لمة من الشيطان تشبه لمة الخيال { فإذا هم مبصرون } بسبب التذكر : أي منتبهون وقيل على بصيرة وقرأ سعيد بن جبير { تذكروا } بتشديد الذال قال النحاس : ولا وجه له في العربية (2/407)
قوله : 202 - { وإخوانهم يمدونهم في الغي } قيل المعنى : وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقا والمراد به الجنس فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه { يمدونهم في الغي } أي تمدهم الشياطين في الغي وتكون مددا لهم وسميت الفجار من الإنس إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم وقيل : إن المراد بالإخوان الشياطين وبالضمير الفجار من الإنس فيكون الخبر جاريا على من هو له وقال الزجاج : في الكلام تقديم وتأخير والمعنى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون { وإخوانهم يمدونهم في الغي } لأن الكفار إخوان الشياطين { ثم لا يقصرون } الإقصار : الانتهاء عن الشيء : أي لا تقصر الشياطين في مد الكفار في الغي قيل : إن في الغي متصلا بقوله : { يمدونهم } وقيل : بالإخوان والغي : والجهل قرأ نافع { يمدونهم } بضم حرف المضارعة وكسر الميم وقرأ الباقون بفتح حرف المضارعة وضم الميم وهما لغتان : يقال : مد وأمد قال مكي : ومد أكثر وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة : فإنه يقال إذا كثر شيء شيئا بنفسه مده وإذا كثره بغيره قيل : أمده نحو { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } وقيل : يقال مددت في الشر وأمددت في الخير وقرأ عاصم الجحدري { يمدونهم في الغي } وقرأ عيسى بن عمر { ثم لا يقصرون } بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف (2/407)
قوله : 203 - { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها } اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه : أي جمعه أي هلا اجتمعتها افتعالا لها من عند نفسك ؟ وقيل المعنى : اختلقتها يقال : اجتبيت الكلام : انتحلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تراخى الوحي هذه المقالة فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله : { إنما أتبع ما يوحى إلي } أي لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه كما تزعمون { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } فما أوحاه إلي وأنزله علي أبلغته إليكم وبصائر جمع بصيرة : أي هذا القرآن المنزل علي هو { بصائر من ربكم } يتبصر بها من قبلها وقيل : البصائر الحجج والبراهين وقال الزجاج : البصائر الطرق { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } معطوف على بصائر : أي هذا القرآن هو بصائر وهدى يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم (2/408)
قوله : 204 - { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح قيل : هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقصر على سببه فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة وعلى أي صفة مما يجب على السامع وقيل : هذا خاص بقراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم للقرآن دون غيره ولا وجه لذلك { لعلكم ترحمون } أي تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه ثم أمره الله سبحانه أن يذكره في نفسه فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأدعى للقبول قيل : المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها (2/408)
وقال النحاس : لم يختلف في معنى 205 - { واذكر ربك في نفسك } أنه الدعاء وقيل هو خاص بالقرآن : أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبرا و { تضرعا وخيفة } منتصبان على الحال : أي متضرعا وخائفا والخيفة : الخوف وأصلها خوفة قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة خيف قال الجوهري : والخيفة الخوف والجمع خيف وأصله الواو : أي خوف { ودون الجهر من القول } أي دون المجهور به من القول وهو معطوف على ما قبله : أي متضرعا وخائفا ومتكلما بكلام هو دون الجهر من القول و { بالغدو والآصال } متعلق بأذكر أي أوقات الغدوات وأوقات الأصائل والغدو : جمع غدوة والآصال : جمع أصيل قاله الزجاج والأخفش مثل يمين وأيمان وقيل : الآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل فهو على هذا جمع الجمع قاله الفراء قال الجوهري : الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصيلة قال الشاعر :
( لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفنائه بالأصائل )
ويجمع أيضا على أصلان مثل بعير وبعران وقرأ أبو مجلز والإيصال وهو مصدر وخص هذين الوقتين لشرفهما والمراد دوام الذكر لله { ولا تكن من الغافلين } أي عن ذكر الله (2/408)
206 - { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته } المراد بهم الملائكة قال القرطبي : بالإجماع قال الزجاج : وقال عند ربك والله عز و جل بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته وكل قريب من رحمة الله عز و جل فهو عنده وقال غيره : لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله وقيل : إنهم رسل الله كما يقال عند الخليفة جيش كثير وقيل : هذا على جهة التشريف والتكريم لهم ومعنى { يسبحونه } يعظمونه وينزهونه عن كل شين { وله يسجدون } أي يخصونه بعبادة السجود التي هي أشرف عبادة وقيل : المراد بالسجود الخضوع والذلة وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري وأبو داود والنسائي والنحاس في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير في قوله : { خذ العفو } الآية قال : ما نزلت هذه الآية إلا في اختلاف الناس وفي لفظ : أمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { خذ العفو } قال : أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي قال : [ لما أنزل الله { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما هذا يا جبريل ؟ قال : لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك ] وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه وأخرج ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة قال : لما نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال : والله لأمثلن بسبعين منهم فجاءه جبريل بهذه الآية وأخرج ابن مردويه عن عائشة في قوله : { خذ العفو } قال : ما عفا لك من مكارم الأخلاق وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { خذ العفو } قال : خذ ما عفا من أموالهم ما أتوك به من شيء فخذه وهذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقة وتفصيلها وأخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه عن السدي في الآية قال : الفضل من المال نسخته الزكاة وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : [ لما نزل { خذ العفو } الآية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف بالغضب يا رب ؟ فنزل { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إن الذين اتقوا } قال : هم المؤمنون وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إذا مسهم طائف من الشيطان } قال : الغضب وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الطيف الغضب وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { تذكروا } قال : إذا زلوا تابوا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال الطائف : اللمة من الشيطان { تذكروا فإذا هم مبصرون } يقول : فإذا هم منتهون عن المعصية آخذون بأمر الله عاصون للشيطان { وإخوانهم } قال : إخوان الشياطين { يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } قال : لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين تمسك عنهم و { إذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها } يقول : لولا أحدثتها لولا تلقيتها فأنشأتها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه { وإخوانهم يمدونهم في الغي } قال : هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس { ثم لا يقصرون } يقول : لا يسأمون { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها } يقول : هلا افتعلتها من تلقاء نفسك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله : { وإذا قرئ القرآن } الآية قال : نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصلاة وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : يعني في الصلاة المفروضة وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه قال : صلى الله عليه و سلم فقرأ خلفه قوم فخلطوا فنزلت { وإذا قرئ القرآن } الآية فهذه في المكتوبة قال : وإن كنا لم نستمع لمن يقرأ بالأخفى من الجهر وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن مغفل نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود نحوه أيضا وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف وصرحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في الآية قال : عند الصلاة المكتوبة وعند الذكر وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال : في الصلاة وحين ينزل الوحي وأخرج البيهقي عنه في الآية أنه قال : هذا في الصلاة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { واذكر ربك في نفسك } الآية قال : أمره الله أن يذكره ونهاه عن الغفلة : أما بالغدو فصلاة الصبح والآصال بالعشي وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر قال : الآصال ما بين الظهر والعصر وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال : لا تجهر بذاك { بالغدو والآصال } بالبكر والعشي وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد { بالغدو } قال : آخر الفجر صلاة الصبح والآصال آخر العشي صلاة العصر والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة وعدد المواضع التي يسجد فيها وكيفية السجود وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه فلا نطول بإيراد ذلك هاهنا (2/409)
سورة الأنفال
صرح كثير من المفسرين بأنها مدنية ولم يستثنوا منها شيئا وبه قال الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء وقد روي مثل هذا عن ابن عباس أخرجه النحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال : سورة الأنفال نزلت بالمدينة وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وأخرجه ابن مردويه أيضا عن زيد بن ثابت وأخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : نزلت في بدر وفي لفظ : تلك سورة بدر قال القرطبي : قال ابن عباس هي مدنية إلا سبع آيات من قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } إلى آخر سبع آيات وجملة آيات هذه السورة ست وسبعون آية وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ بها في صلاة المغرب كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب وأخرج أيضا زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال
الأنفال جمع نفل محركا وهو الغنيمة ومنه قول عنترة :
( إنا إذا احمر الوغى نروي القنا ... ونعف عند مقاسم الأنفال )
أي الغنائم وأصل النفل : الزيادة وسميت الغنيمة به لأنها زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرما على غيرهم أو لأنها زيادة على ما يحصل للمجاهد من أجر الجهاد ويطلق النفل على معان أخر منها اليمين والابتغاء ونبت معروف والنافلة التطوع لكونها زائدة على الواجب والنافلة : ولد الولد لأنه زيادة على الولد وكان سبب نزول الآية : اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر كما سيأتي بيانه فنزع الله ما غنموه من أيديهم وجعله لله والرسول فقال : 1 - { قل الأنفال لله والرسول } أي حكمها مختص بهما يقسمها بينكم رسول الله عن أمر الله سبحانه وليس لكم حكم في ذلك
وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ثم أمرهم بالتقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما وترك الاختلاف الذي وقع بينهم ثم قال : { إن كنتم مؤمنين } أي امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مؤمنين بالله وفيه من التهييج والإلهاب ما لا يخفى مع كونهم في تلك الحال على الإيمان فكأنه قال : إن كنتم مستمرين على الإيمان بالله لأن هذه الثلاثة الأمور التي هي تقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة الله والرسول لا يكمل الإيمان بدونها بل لا يثبت أصلا لمن لم يمتثلها فإن من ليس بمتق وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن
وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول صلى الله عليه و سلم فقسمه رسول الله بين المسلمين عن بواء يقول عن سواء وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه و سلم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنه العدو وهزمناهم وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه و سلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } قسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع وإذا أقبل راجعا وكل الناس نفل الثلث وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال : [ بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية فنصرها الله وفتح عليها فكان من آتاه بشيء نفله من الخمس فرجع رجال كانوا يستقدمون ويقتلون ويأسرون وتركوا الغنائم خلفهم فلم ينالوا من الغنائم شيئا فقالوا : يا رسول الله ما بال رجال منا يستقدمون ويأسرون وتخلف رجال لم يصلوا بالقتال فنفلتهم بالغنيمة ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزل : { يسألونك عن الأنفال } الآية فدعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ردوا ما أخذتم واقتسموا بالعدل والسوية فإن الله يأمركم بذلك فقالوا : قد أنفقنا وأكلنا فقال : احتسبوا ذلك ] وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال : [ قلت : يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف فقال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت قلت : عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي قلت : قد أنزل الله في شيئا ؟ قال : كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإنه قد وهب لي فهو لك وأنزل الله هذه الآية { يسألونك عن الأنفال } ] وفي لفظ لأحمد [ أن سعدا قال : لما قتل أخي يوم بدر وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكنيفة فأتيت به رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر نحو ما تقدم ] وقد روي هذا الحديث عن سعد من وجوه أخر وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : [ أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنائم يوم بدر فنزلت : { يسألونك عن الأنفال } ] وأخرج ابن مروديه عنه قال : لم ينفل النبي صلى الله عليه و سلم بعد إذ نزلت عليه { يسألونك عن الأنفال } إلا من الخمس فإنه نفل يوم خيبر من الخمس وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت : { يسألونك عن الأنفال } الآية فقسم النبي صلى الله عليه و سلم الغنائم بينهم بالسوية ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { يسألونك عن الأنفال } قال : الأنفال المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم خالصة ليس لأحد منها شيء ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعطيهم منها شيئا فأنزل الله : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال } لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } إلى قوله : { إن كنتم مؤمنين } ثم أنزل الله { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولذي القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وجعل أربعة أخماس الناس فيه سواء للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللراجل سهم وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يسألونك عن الأنفال } قال : هي المغانم ثم نسخها { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية وأخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال : الفرس من النفل والسلب من النفل فأعاد المسألة فقال ابن عباس : هذا مثل ضبيع الذي ضربه عمر وفي لفظ : فقال ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بضبيع العراقي وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : الأنفال المغانم أمروا أن يصلحوا ذات بينهم فيها فيرد القوي على الضعيف وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ عن عطاء في قوله : { يسألونك عن الأنفال } قال : هو ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو دابة أو متاع فذلك للنبي صلى الله عليه و سلم يصنع به ما شاء وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن عمرو قال : أرسلنا إلى سعيد بن المسيب نسأله عن الأنفال فقال : تسألوني عن الأنفال وإنه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج عبد الرزاق عن سعيد أيضا قال : ما كانوا ينفلون إلا من الخمس وروى عبد الرزاق عنه أنه قال : لا نفل في غنائم المسلمين إلا في خمس الخمس وأخرج عبد الرزاق عن أنس أن أميرا من الأمراء أراد أن ينفله قبل أن يخمسه فأبى أنس أن يقبله حتى يخمسه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله : { يسألونك عن الأنفال } قال : ما أصابت السرايا وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والنحاس في ناسخه عن مجاهد وعكرمة قال : كانت الأنفال لله والرسول حتى نسخها آية الخمس { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { وأصلحوا ذات بينكم } قال : هذا تخريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم حيث اختلفوا في الأنفال وأخرج ابن أبي حاتم عن مكحول قال : كان صلاح ذات بينهم أن ردت الغنائم فقسمت بين من ثبت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين من قاتل وغنم وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله : { وأطيعوا الله ورسوله } قال : طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة (2/411)
الوجل : الخوف والفزع والمراد أن حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله فالحصر باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان قال جماعة من المفسرين : هذه الآية متضمنة للتحريض على طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما أمر به من قسمة الغنائم ولا يخفاك أن هذا وإن صح إدراجه تحت معنى الآية من جهة أن وجل القلوب عند الذكر وزيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يستلزمان امتثال ما أمر به سبحانه من كون الأنفال لله والرسول ولكن الظاهر أن مقصود الآية هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال ولا بوقت دون وقت ولا بواقعة دون واقعة والمراد من تلاوة آياته تلاوة الآيات المنزلة أو التعبير عن بديع صنعته وكمال قدرته في آياته التكوينية بذكر خلقها البديع وعجائبها التي يخشع عند ذكرها المؤمنون قيل : والمراد بزيادة الإيمان هو زيادة انشراح الصدر وطمأنينة القلب وانثلاج الخاطر عند تلاوة الآيات وقيل : المراد بزيادة الإيمان زيادة العمل لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص والآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة ترد ذلك وتدفعه 2 - { وعلى ربهم يتوكلون } لا على غيره والتوكل على الله : تفويض الأمر إليه في جميع الأمور (2/415)
والموصول في قوله : 3 - { الذين يقيمون الصلاة } في محل رفع على أنه وصف للموصول الذي قبله أو بدل منه أو بيان له أو في محل نصب على المدح وخص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخير وأساسه و من في { مما } للتبعيض (2/416)
والإشارة بقوله : 4 - { أولئك } إلى المتصفين بالأوصاف المتقدمة وهو مبتدأ وخبره { هم المؤمنون } أي أن هؤلاء هم الكاملون الإيمان البالغون فيه إلى أعلى درجاته وأقصى غاياته و { حقا } مصدر مؤكد لمضمون جملة هم المؤمنون : أي حق ذلك حقا أو صفة مصدر محذوف : أي هم المؤمنون إيمانا حقا ثم ذكر ما أعد لمن كان جامعا بين هذه الأوصاف من الكرامة فقال : { لهم درجات } أي منازل خير وكرامة وشرف في الجنة كائنة عند ربهم وفي كونها عنده سبحانه زيادة تشريف لهم وتكريم وتعظيم وتفخيم وجملة { لهم درجات عند ربهم } خبر ثان لـ { أولئك } أو مستأنفة جوابا لسؤال مقدر { ومغفرة } معطوف على درجات أي مغفرة لذنوبهم { ورزق كريم } يكرمهم الله به من واسع فضله وفائض جوده
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وجلت قلوبهم } قال : فرقت قلوبهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون على الله ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ثم وصف المؤمنين فقال : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } فأدوا فرائضه وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير وأبو الشيخ من طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت : إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر بن حوشب أما تجد قشعريرة ؟ قلت : بلى قالت : فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك وأخرج الحكيم الترمذي عن ثابت البناني قال : قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي ؟ قالوا : ومن أين لك ؟ قال : إذا اقشعر جلدي ووجل قلبي وفاضت عيناي فذلك حين يستجاب لي وأخرج أيضا عن عائشة قالت : ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له : اتق الله فيجل قلبه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { زادتهم إيمانا } قال : تصديقا وأخرج هؤلاء عن الربيع بن أنس في قوله : { زادتهم إيمانا } قال : خشية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وعلى ربهم يتوكلون } يقول : لا يرجون غيره وأخرجا عنه في قوله : { أولئك هم المؤمنون حقا } قال : برئوا من الكفر وأخرج أبو الشيخ عنه { حقا } قال : خالصا وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { لهم درجات } يعني فضائل ورحمة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { لهم درجات } قال : أعمال رفيعة وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { لهم درجات } قال : أهل الجنة بعضهم فوق بعض فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ولا يرى الذي هو أسفل أنه فضل عليه أحد وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : { ومغفرة } قال : بترك الذنوب { ورزق كريم } قال : الأعمال الصالحة وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : إذا سمعتم الله يقول : { ورزق كريم } فهي الجنة (2/416)
قوله : 5 - { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } قال الزجاج : الكاف في موضع نصب : أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق : أي مثل إخراج ربك والمعنى : امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا لأن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئا قال : بقي أكثر الناس بغير شيء فموضع الكاف نصب كما ذكرنا وبه قال الفراء وقال أبو عبيدة : هو قسم : أي والذي أخرجك فالكاف بمعنى الواو وما بمعنى الذي وقال الأخفش سعيد بن مسعدة : المعنى أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك وقال عكرمة المعنى : أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك ربك وقيل : كما أخرجك متعلق بقوله : { لهم درجات } أي هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } الواجب له فأنجز وعدك وظفرك بعدوك وأوفى لك ذكره النحاس واختاره وقيل : الكاف في كما كاف التشبيه على سبيل المجازاة كقول القائل لعبده : كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مددا مددا فأمددتك وقويتك وأزحت علتك فخذهم الآن فعاقبهم وقيل : إن الكاف في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب ذكره صاحب الكشاف وبالحق متعلق بمحذوف والتقدير : إخراجا متلبسا بالحق الذي لا شبهة فيه وجملة { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } في محل نصب على الحال : أي كما أخرجك في حال كراهتهم لذلك لأنه لما وعدهم الله إحدى الطائفتين إما العير أو النفير رغبوا في العير لما فيها من الغنيمة والسلامة من القتال كما سيأتي بيانه (2/418)
وجملة 6 - { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } إما في محل نصب على أنها حال بعد حال أو مستأنفة جواب سؤال مقدر ومجادلتهم لما ندبهم إلى إحدى الطائفتين وفات العير وأمرهم بقتال النفير ولم يكن معهم كثير أهبة لذلك شق عليهم وقالوا : لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة وأكملنا الأهبة ومعنى { في الحق } أي في القتال بعدما تبين لهم أنك لا تأمر بالشيء إلا بإذن الله أو بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم بالظفر بإحدى الطائفتين وأن العير إذا فاتت ظفروا بالنفير و بعد ظرف ليجادلونك وما مصدرية أي يجادلونك بعدما تبين الحق لهم قوله : { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } الكاف في محل نصب على الحال من الضمير في { لكارهون } أي حال كونهم في شدة فزعهم من القتال يشبهون حال من يساق ليقتل وهو مشاهد لأسباب قتله ناظر إليها لا يشك فيها (2/418)
قوله : 7 - { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } الظرف منصوب بفعل مقدر : أي واذكروا وقت وعد الله إياكم إحدى الطائفتين وأمرهم بتذكير الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث لقصد المبالغة والطائفتان : هما العير والنفير وإحدى هو ثاني مفعولي يعد و { أنها لكم } بدل منه بدل اشتمال ومعناه : أنها مسخرة لكم وأنكم تغلبونها وتغنمون منها وتصنعون بها ما شئتم من قتل وأسر وغنيمة لا يطيقون لكم دفعا ولا يملكون لأنفسهم منكم ضرا ولا نفعا وفي هذه الجملة تذكير لهم بنعمة من النعم التي أنعم الله بها عليهم قوله : { وتودون } معطوف على { يعدكم } من جملة الحوادث التي أمروا بذكر وقتها { أن غير ذات الشوكة } من الطائفتين وهي طائفة العير { تكون لكم } دون ذات الشوكة وهي طائفة النفير قال أبو عبيدة : أي غير ذات الحد والشوكة : السلاح والشوكة : النبت الذي له حد ومنه رجل شائك السلاح : أي حديد السلاح ثم يقلب فيقال : شاكي السلاح فالشوكة مستعارة من واحدة الشوك والمعنى : وتودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهي طائفة العير لأنها غنيمة صافية عن كدر القتال إذ لم يكن معها من يقوم بالدفع عنها قوله : { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } معطوف على { تودون } وهو من جملة ما أمروا بذكر وقته : أي ويريد الله غير ما تريدون وهو أن يحق الحق بإظهاره لما قضاه من ظفركم بذات الشوكة وقتلهم لصناديدهم وأسر كثير منهم واغتنام ما غنمتم من أموالهم التي أجلبوا بها عليكم وراموا دفعكم بها والمراد بالكلمات : الآيات التي أنزلها في محاربة ذات الشوكة ووعدكم منه بالظفر بها { ويقطع دابر الكافرين } الدابر الآخر وقطعه عبارة عن الاستئصال والمعنى : ويستأصلهم جميعا (2/419)
قوله : 8 - { ليحق الحق ويبطل الباطل } هذه الجملة علة لما يريده الله : أي أراد ذلك أو يريد ذلك ليظهر الحق ويرفعه { ويبطل الباطل } ويضعه أو اللام متعلقة بمحذوف : أي فعل ذلك ليحق الحق وقيل : متعلق بيقطع وليس في هذه الجملة تكرير لما قبلها لأن الأولى لبيان التفاوت فيما بين الإرادتين وهذه لبيان الحكمة الداعية إلى ذلك والعلة المقتضية له والمصلحة المترتبة عليه وإحقاق الحق إظهاره وإبطال الباطل إعدامه { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } ومفعول { ولو كره المجرمون } محذوف : أي ولو كرهوا أن يحق الحق ويبطل الباطل والمجرمون هم المشركون من قريش أو جميع طوائف الكفار
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي أيوب الأنصاري قال : [ قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن بالمدينة وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت فقال : ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا فخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتعاد ففعلنا فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر فأخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم بعدتنا فسر بذلك وحمد الله وقال : عدة أصحاب طالوت فقال : ما ترون في قتال القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم فقلنا : يا رسول الله لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم إنما خرجنا للعير ثم قال : ما ترون في قتال القوم ؟ فقلنا مثل ذلك فقال المقداد : لا تقولوا كما قال قوم موسى لموسى : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } فأنزل الله : { كما أخرجك ربك } إلى قوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين إما القوم وإما العير طابت أنفسنا ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم إني أنشدك وعدك فقال ابن رواحة : يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك ورسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل من
أن يشير عليه إن الله أجل وأعظم من أن تنشده وعده فقال : يا ابن رواحة لأنشدن الله وعده فإن الله لا يخلف الميعاد فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم في وجوه القوم فانهزموا فأنزل الله : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } فقتلنا وأسرنا فقال عمر : يا رسول الله ما أرى أن يكون لك أسرى فإنما نحن داعون مؤلفون فقلنا : يا معشر الأنصار إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استيقظ فقال : ادعوا لي عمر فدعى له فقال : إن الله قد أنزل علي { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } الآية ] وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال معروف وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن مردويه عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبيه عن جده قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال : كيف ترون ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله بلغنا أنهم كذا وكذا ثم خطب الناس فقال : كيف ترون ؟ فقال عمر مثل قول أبي بكر ثم خطب الناس فقال : كيف ترون ؟ فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن
لنسيرن معك ولا نكونن كالذين قالوا لموسى : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له فصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وعاد من شئت وسالم من شئت وخذ من أموالنا ما شئت فنزل القرآن على قول سعد { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } إلى قوله : { ويقطع دابر الكافرين } وإنما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد الغنيمة مع أبي سفيان فأحدث الله إليه القتال ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } قال : كذلك يجادلونك في خروج القتال وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } قال : خروج النبي صلى الله عليه و سلم إلى بدر { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } قال : لطلب المشركين { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } قال : هي عير أبي سفيان ود أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أن العير كانت لهم وأن القتال صرف عنهم وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { ويقطع دابر الكافرين } أي شأفتهم ووقعة بدر قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير والتاريخ مستوفاة فلا نطيل بذكرها (2/419)
قوله : 9 - { إذ تستغيثون } الظرف متعلق بمحذوف : أي واذكروا وقت استغاثتكم وقيل : بدل من { وإذ يعدكم الله } معمول لعامله وقيل : متعلق بقوله : { ليحق الحق } والاستغاثة : طلب الغوث يقال : استغاثني فلان فأغثته والاسم الغياث والمعنى : أن المسلمين لما علموا أنه لا بد من قتال الطائفة ذات الشوكة وهم النفير كما أمرهم الله بذلك وأراده منهم ورأوا كثرة عدد النفير وقلة عددهم استغاثوا بالله سبحانه وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ أن عدد المشركين يوم بدر ألف وعدد المسلمين ثلثمائة وسبعة عشر رجلا وأن النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى ذلك استقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ] الحديث { فاستجاب لكم } عطف على تستغيثون داخل معه في التذكير وهو وإن كان مستقبلا فهو بمعنى الماضي ولهذا عطف عليه استجاب قوله : { أني ممدكم بألف من الملائكة } أي بأني ممدكم فحذف حرف الجر وأوصل الفعل إلى المفعول وقرئ بكسر الهمزة على إرادة القول أو على أن في استجاب معنى القول قوله : { مردفين } قرأ نافع بفتح الدال اسم مفعول وقرأ الباقون بكسرها اسم فاعل وانتصابه على الحال والمعنى على القراءة الأولى : أنه جعل بعضهم تابعا لبعض وعلى القراءة الثانية : أنهم جعلوا بعضهم تابعا لبعض وقيل : إن مردفين على القراءتين نعت لألف وقيل : إنه على القراءة الأولى حال من الضمير المنصور في ممدكم : أي ممدكم في حال إردافكم بألف من الملائكة وقد قيل : إن ردف وأردف بمعنى واحد وأنكره أبو عبيدة قال : لقوله تعالى : { تتبعها الرادفة } ولم يقل المردفة قال سيبويه : وفي الآية قراءة ثالثة وهي مردفين بضم الراء وكسر الدال مشددة وقراءة رابعة بفتح الراء وتشديد الدال وقرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري بآلاف جمع ألف وهو الموافق لما تقدم في آل عمران (2/421)
والضمير في 10 - { وما جعله الله } راجع إلى الإمداد المدلول عليه بقوله : إني ممدكم { إلا بشرى } أي إلا بشارة لكم بنصره وهو استثناء مفرغ : أي ما جعل إمدادكم لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بالنصر { ولتطمئن به } أي بالإمداد قلوبكم وفي هذا إشعار بأن الملائكة لم يقاتلوا بل أمد الله المسلمين بهم للبشرى لهم وتطمين قلوبهم وتثبيتها واللام في لتطمئن متعلقة بفعل محذوف يقدر متأخرا : أي ولتطمئن قلوبكم فعل ذلك لا لشيء آخر { وما النصر إلا من عند الله } لا من عند غيره ليس للملائكة في ذلك أثر فهو الناصر على الحقيقة وليسوا إلا سببا من أسباب النصر التي سببها الله لكم وأمدكم بها { إن الله عزيز } لا يغالب { حكيم } في كل أفعاله
وقد أخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه و سلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه و سلم وأنا في الميسرة وأخرج سنيد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال : ما أمد النبي صلى الله عليه و سلم بأكثر من هذه الألف التي ذكر الله في الأنفال وما ذكر الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف إلا بشرى وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { مردفين } قال : متتابعين وأخرج ابن جرير في قوله : { مردفين } يقول : المدد وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضا في الآية قال : وراء كل ملك ملك وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين فكانوا أربعة آلاف وهم مدد المسلمين في ثغورهم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { مردفين } قال : مجدين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : متتابعين أمدهم الله بألف ثم بثلاثة ثم أكملهم خمسة آلاف { وما جعله الله إلا بشرى } لكم { ولتطمئن به قلوبكم } قال : يعني نزول الملائكة قال : وذكر لنا أن عمر قال : أما يوم بدر فلا نشك أن الملائكة كانوا معنا وأما بعد ذلك فالله أعلم وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد { مردفين } قال : بعضهم على أثر بعض (2/422)
قوله : 11 - { إذ يغشيكم } الظرف منصوب بفعل مقدر كالذي قبله أو بدل ثان من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر المذكور قبله وقل غير ذلك مما لا وجه له و { يغشيكم } هي قراءة نافع وأهل المدينة على أن الفاعل هو الله سبحانه وهذه القراءة هي المطابقة لما قبلها : أعني قوله : { وما النصر إلا من عند الله } ولما بعدها أعني { وينزل عليكم } فيتشاكل الكلام ويتناسب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { يغشيكم } على أن الفاعل النعاس وقرأ الباقون { يغشيكم } بفتح الغين وتشديد الشين وهي كقراءة نافع وأهل المدينة في إسناد الفعل إلى الله ونصب النعاس قال مكي : والاختيار ضم الياء والتشديد ونصب النعاس لأن بعده { أمنة منه } والهاء في منه لله فهو الذي يغشيهم النعاس ولأن الأكثر عليه وعلى القراءة الأولى والثالثة يكون انتصاب أمنة على أنها مفعول له ولا يحتاج في ذلك إلى تأويل وتكلف لأن فاعل الفعل المعلل والعلة واحد بخلاف انتصابها على العلة باعتبار القراءة الثانية فإنه يحتاج إلى تكلف وأما على جعل الأمنة مصدرا فلا إشكال يقال : أمن أمنة وأمنا وأمانا وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدو والمهابة لجانبه سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها قيل : وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : أحدهما : أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد الثاني : أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم وقيل : إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران قوله : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } هذا المطر كان بعد النعاس وقيل : قبل النعاس وحكى الزجاج أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فأنزل الله المطر ليلة بدر والذي في سيرة ابن إسحاق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر وأنه منع قريشا من السبق إلى الماء مطر عظيم ولم يصب المسلمين منه إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير ومعنى { ليطهركم به } ليرفع عنكم الأحداث { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي وسوسته لكم بما كان قد سبق إلى قلوبهم من الخواطر التي هي منه من الخوف والفشل حتى كانت حالهم حال من يساق إلى الموت { وليربط على قلوبكم } فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب والضمير في { به } من قوله : { ويثبت به الأقدام } راجع إلى الماء الذي أنزله الله : أي يثبت بهذا الماء الذي أنزله عليكم عند الحاجة إليه أقدامكم في مواطن القتال وقيل : الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل (2/423)
قوله : 12 - { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } الظرف منصوب بفعل محذوف خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يقف على ذلك سواه : أي واذكر يا محمد وقت إيحاء ربك إلى الملائكة وقيل : هو بدل من { إذ يعدكم } كما تقدم ولكنه يأبى ذلك أن هذا لا يقف عليه المسلمون فلا يكون من جملة النعم التي عددها الله عليهم وقيل : العامل فيه يثبت فيكون المعنى : يثبت الأقدام وقت الوحي وليس لهذا التقييد معنى وقيل : العامل فيه { ليربط } ولا وجه لتقييد الربط على القلوب بوقت الإيحاء ومعنى الآية : أني معكم بالنصر والمعونة فعلى قراءة الفتح للهمزة هو مفعول { يوحي } وعلى قراءة الكسر يكون بتقدير القول ومعنى { فثبتوا الذين آمنوا } بشروهم بالنصر أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم وتكثير سوادهم وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها قوله : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } قد تقدم بيان معنى إلقاء الرعب في آل عمران قيل : هذه الجملة تفسير لقوله : { أني معكم } قوله : { فاضربوا فوق الأعناق } قيل : المراد الأعناق أنفسها و { فوق } زائدة : قاله الأخفش وغيره وقال محمد بن يزيد : هذا خطأ لأن فوق يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها وقيل : المراد بما فوق الأعناق : الرؤوس وقيل : المراد بفوق الأعناق : أعاليها لأنها المفاصل الذي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع قيل : وهذا أمر للملائكة وقيل : للمؤمنين وعلى الأول قيل : هو تفسير لقوله : { فثبتوا الذين آمنوا } قوله : { واضربوا منهم كل بنان } قال الزجاج : واحد البنان بنانة وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء والبنان مشتق من قولهم أبن الرجل بالمكان إذا أقام به لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة وقيل المراد بالبنان هنا : أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وهو عبارة عن الثبات في الحرب فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء قال عنترة :
( وقد كان في الهيجاء يحمي ذمارها ... ويضرب عند الكرب كل بنان )
وقال عنترة أيضا :
( وإن الموت طوع يدي إذا ما ... وطئت بنانها بالهنداوي )
قال ابن فارس : البنان الأصابع ويقال : الأطراف (2/424)
والإشارة بقوله : 13 - { ذلك } إلى ما وقع عليهم من القتل ودخل في قلوبهم من الرعب وهو مبتدأ و { بأنهم شاقوا الله ورسوله } خبره : أي ذلك بسبب مشاقهم والشقاق أصله أن يصير كل واحد من الخصمين في شق وقد تقدم تحقيق ذلك { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } له يعاقبه بسبب ما وقع منه من الشقاق (2/425)
قوله : 14 - { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } الإشارة إلى ما تقدم من العقاب أو الخطاب هنا للكافرين كما أن الخطاب في قوله : { ذلكم } للنبي صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح للخطاب قال الزجاج : ذلكم رفع بإضمار الأمر أو القصة : أي الأمر أو القصة ذلكم فذوقوه قال : ويجوز أن يضمر واعلموا قال في الكشاف : ويجوز أن يكون نصبا على : عليكم ذلكم فذوقوه كقولك : زيدا فاضربه قال أبو حيان : لا يجوز تقدير عليكم لأنه اسم فعل وأسماء الأفعال لا تضمر وتشبيهه بزيدا فاضربه غير صحيح لأنه لم يقدر فيه عليك بل هو من باب الاشتغال وجملة { وأن للكافرين عذاب النار } معطوفة على ما قبلها فتكون الإشارة على هذا إلى العقاب العاجل الذي أصيبوا به ويكون { وأن للكافرين عذاب النار } إشارة إلى العقاب الآجل
وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب في الآية قال : بلغنا أن هذه الآية أنزلت في المؤمنين يوم بدر فيما أغشاهم الله من النعاس أمنة منه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { أمنة منه } قال : أمنا من الله وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { أمنة منه } قال : رحمة منه أمنة من العدو وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال النعاس في الرأس والنوم في القلب وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا قال : كان النعاس أمنة من الله وكان النعاس نعاسين : نعاس يوم بدر ونعاس يوم أحد وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب في قوله : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } قال : طش كان يوم بدر وأخرج هؤلاء عن مجاهد في الآية قال : المطر أنزل الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار والتبدت به الأرض وطابت به أنفسهم وثبتت به أقدامهم وأخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهسا وأصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ما لبد الأرض ولم يمنعهم السير وأصاب قريشا مالم يقدروا على أن يرتحلوا معه وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فصحا المسلمون وصلوا مجنبين محدثين فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال : أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين ؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسته وقد قدمنا أن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء وهذا المروي عن ابن عباس في إسناده العوفي وهو ضعيف جدا وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { رجز الشيطان } قال : وسوسته وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وليربط على قلوبكم } قال : بالبصر { ويثبت به الأقدام } قال : كان بطن الوادي دهاسا فلما مطروا اشتدت الرملة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { ويثبت به الأقدام } قال : حتى تشتد على الرمل وهو كهيئة الأرض وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي تلك الليلة ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد وأصابهم تلك الليلة مطر شديد فذلك قوله : { ويثبت به الأقدام } ] وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : قال لي أبي : يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدثا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق به وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { فاضربوا فوق الأعناق } يقول : الرؤوس وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطية { فاضربوا فوق الأعناق } قال : اضربوا الأعناق وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك { فاضربوا فوق الأعناق } يقول : اضربوا الرقاب وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :
{ واضربوا منهم كل بنان } قال : يعني بالبنان الأطراف وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطية { واضربوا منهم كل بنان } قال : كل مفصل (2/425)
الزحف : الدنو قليلا قليلا وأصله الاندفاع على الإلية ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفا والتزاحف : التداني والتقارب تقول : زحف إلى العدو زحفا وازدحف القوم : أي مشى بعضهم إلى بعض وانتصاب زحفا إما على أنه مصدر لفعل محذوف : أي تزحفون زحفا أو على أنه حال من المؤمنين : أي حال كونكم زاحفين إلى الكفار أو حال من الذين كفروا : أي حال كون الكفار زاحفين إليكم أو حال من الفريقين أي متزاحفين { فلا تولوهم الأدبار } نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم وقد دب بعضهم إلى بعض للقتال فظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا حالة التحرف والتحيز وقد روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة ويزيد وابن أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه و سلم فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض وبه قال أبو حنيفة (2/427)
قالوا : ويؤيده قوله : 16 - { ومن يولهم يومئذ دبره } فإنه إشارة إلى يوم بدر وقيل : إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة وأن الفرار من الزحف محرم ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر وأجيب عن قول الأولين بأن الإشارة في { يومئذ } إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف بل هذه الآية مقيدة بها فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله في آية الضعف ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بالخروج لأنه صلى الله عليه و سلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث : [ اجتنبوا السبع الموبقات وفيه : والتوالي يوم الزحف ] ونحوه من الأحاديث وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه وهو مبين في مواطنه قال ابن عطية : والأدبار جمع دبر والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفار والذم له قوله : { إلا متحرفا لقتال } التحرف : الزوال عن جهة الاستواء والمراد به هنا التحرف من جانب إلى جانب في المعركة طلبا لمكائد الحرب وخدعا للعدو وكمن يوهم أنهم منهزم ليتبعه العدو فيكر عليه ويتمكن منه ونحو ذلك من مكائد الحرب فإن الحرب خدعة قوله : { أو متحيزا إلى فئة } أي إلى جماعة من المسلمين غير الجماعة المقابلة للعدو وانتصاب متحرفا ومتحيزا على الاستثناء من المولين : أي ومن يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا ويجوز انتصابهما على الحال ويكون حرف الاستثناء لغوا لا عمل له وجملة { فقد باء بغضب من الله } جزاء للشرط والمعنى : من ينهزم ويفر من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله إلا المتحرف والمتحيز { ومأواه جهنم } أي المكان الذي يأوي إليه هو النار فقراره أوقعه إلى ما هو أشد بلاء مما فر منهم وأعظم عقوبة والمأوى : ما يأوي إليه الإنسان { وبئس المصير } ما صار إليه من عذاب النار وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفر عن الزحف وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة (2/428)
قوله : 17 - { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } الفاء جواب شرط مقدر : أي إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة وإيقاع الرعب في قلوبهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر قوله : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } اختلف المفسرون في هذا الرمي على أقوال : فروي عن مالك أن المراد به ما كان منه صلى الله عليه و سلم في يوم حنين فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي فأصابت كل واحد منهم وقيل : المراد به الرمية التي رمى رسول الله صلى الله عليه و سلم أبي بن خلف بالحربة في عنقه فانهزم ومات منها وقيل : المراد به السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه و سلم في حصن خيبر فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه وهذه الأقوال ضعيفة فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر وأيضا المشهور في كتب السير والحديث في قتل ابن أبي الحقيق أنه وقع على صورة غير هذه الصورة والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية هو ما كان منه صلى الله عليه و سلم في يوم بدر فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين فأصابت كل واحد منهم ودخلت في عينيه ومنخريه وأنفه قال ثعلب : المعنى { وما رميت } الفزع والرعب في قلوبهم { إذ رميت } بالحصباء فانهزموا { ولكن الله رمى } أي أعانك وأظفرك والعرب تقول : رمى الله لك : أي أعانك وأظفرك وصنع لك وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز وقال محمد بن يزيد المبرد : المعنى { وما رميت } بقوتك { إذ رميت } ولكنك بقوة الله رميت وقيل المعنى : إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه و سلم لأن صورتها وجدت منه ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عز و جل فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه و سلم اصلا هكذا في الكشاف قوله : { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } البلاء هاهنا النعمة والمعنى : ولينعم على المؤمنين إنعاما جميلا واللام متعلقة بمحذوف : أي وللإنعام عليهم بنعمه الجميلة فعل ذلك لا لغيره أو الواو عاطفة لما بعدها على علة مقدرة قبلها : أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا { إن الله سميع عليم } لدعائهم عليم بأحوالهم (2/429)
والإشارة بقوله ذلكم إلى البلاء الحسن وهو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي الغرض 18 - { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } أي إن الغرض منه سبحانه بما وقع مما حكته الآيات السابقة إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وقيل المشار إليه القتل والرمي وقد قرئ بتشديد الهاء وتخفيفها مع التنوين وقرأ الحسن بتخفيف الهاء مع الإضافة والكيد : المكر وقد تقدم بيانه
وقد أخرج البخاري في تاريخه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن نافع أنه سأل ابن عمر قال : إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة أمامنا أو عسكرنا ؟ فقال لي : الفئة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : إن الله يقول : { إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } قال : إنما نزلت هذه الآية في أهل بدر لا قبلها ولا بعدها وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في قوله : { ومن يولهم يومئذ دبره } الآية قال : إنها كانت لأهل بدر خاصة وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال : لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في أهل بدر خاصة ما كان لهم أن ينهزموا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ويتركوه وقد روى اختصاص هذه الآية بأهل بدر عن جماعة من التابعين ومن بعدهم وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { إلا متحرفا لقتال } يعني مستطردا يريد الكرة على المشركين { أو متحيزا إلى فئة } يعني أو ينحاز إلى أصحابه من غير هزيمة { فقد باء بغضب من الله } يقول : استوجبوا سخطا من الله { ومأواه جهنم وبئس المصير } فهذا يوم بدر خاصة كان شديدا على المسلمين يومئذ ليقطع دابر الكافرين وهو أول قتال قاتل المشركين من أهل مكة وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : المتحرف المتقدم من أصحابه أن يرى عورة من العدو فيصيبها والمتحيز : الفار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك من فر اليوم إلى أميره وأصحابه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { ومن يولهم يومئذ دبره } قال : هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال { الآن خفف الله عنكم } الآية وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال : [ كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا : كيف نلقى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب فأتينا رسول الله قبل صلاة الفجر فخرج فقال : من القوم ؟ فقلنا : نحن الفرارون فقال : لا بل أنتم العكارون فقبلنا يده فقال : أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ثم قرأ : { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } ] وقد روي في تحريم الفرار من الزحف وأنه من الكبائر أحاديث وورد عن جماعة من الصحابة أنه من الكبائر كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فلم تقتلوهم } قال لأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم حين قال : هذا قتلت وهذا قتلت { وما رميت إذ رميت } قال لمحمد صلى الله عليه و سلم حين حصب الكفار وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وما رميت إذ رميت } قال : رماهم يوم بدر بالحصباء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن حكيم بن حزام قال : [ لما كان يوم بدر سمعنا صوتا من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه و سلم بتلك الحصباء وقال : شاهت الوجوه فانهزمنا فذلك قوله تعالى :
{ وما رميت إذ رميت } الآية ] وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن جابر قال : سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه و سلم فرمى بهن في وجوه المشركين فانهزموا فذلك قوله : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه [ عن ابن عباس في قوله : { وما رميت إذ رميت } قال : قال رسول الله لعلي : ناولي قبضة من حصباء فناوله فرمى بها في وجوه القوم فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه عن الحصباء فنزلت هذه الآية : { وما رميت إذ رميت } ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : [ لما كان يوم أحد أخذ أبي بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم واعترض رجال من المسلمين لأبي بن خلف ليقتلوه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : استأخروا فاستأخروا فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم حربته في يده فرمى بها أبي بن خلف وكسر ضلعا من أضلاعه فرجع أبي بن خلف إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه حين ولوا قافلين فطفقوا يقولون لا بأس فقال أبي حين قالوا له ذلك : والله لو كانت بالناس لقتلتهم ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه ] قال ابن المسيب : وفي ذلك أنزل الله { وما رميت إذ رميت } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهري نحوه وإسناده صحيح إليهما وقد أخرجه الحاكم في المستدرك قال ابن كثير : وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جدا ولعلهما أرادا أن الآية تتناولهما بعمومهما وهكذا قال فيما قاله عبد الرحمن بن جبير كما سيأتي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم ابن أبي الحقيق دعا بقوس فرمى بها الحصن فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله : { ولكن الله رمى } أي لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله من نصرك وما ألقى في صدور عدوك حتى هزمهم { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته (2/429)
الاستفتاح : طلب النصر وقد اختلف في المخاطبين بالآية من هم ؟ فقيل : إنها خطاب للكفار تهكما بهم والمعنى : إن تستنصروا الله على محمد فقد جاءكم النصر وقد كانوا عند خروجهم من مكة سألوا الله أن ينصر أحق الطائفتين بالنصر فتهكم الله بهم وسمى ما حل بهم من الهلاك نصرا ومعنى بقية الآية على هذا القول { وإن تنتهوا } عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله { فهو } أي الانتهاء { خير لكم وإن تعودوا } إلى ما كنتم عليه من الكفر والعداوة { نعد } بتسليط المؤمنين عليكم ونصرهم كما سلطناهم ونصرناهم في يوم بدر { ولن تغني عنكم فئتكم } أي جماعتكم { شيئا ولو كثرت } أي لا تغني عنكم في حال من الأحوال ولو في حال كثرتها ثم قال : { وأن الله مع المؤمنين } ومن كان الله معه فهو المنصور ومن كان الله عليه فهو المخذول قرئ بكسر إن وفتحها فالكسر على الاستئناف والفتح على تقدير : ولأن الله مع المؤمنين فعل ذلك وقيل : إن الآية خطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر في يوم بدر وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم وفداء الأسرى قبل الإذن لكم بذلك فهو خير لكم وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما في قوله : { لولا كتاب من الله سبق } الآية ولا يخفى أنه يأبى هذا القول معنى { ولن تغني عنكم فئتكم شيئا } ويأباه أيضا { وأن الله مع المؤمنين } وتوجيه ذلك لا يمكن إلا بتكلف وتعسف وقيل : إن الخطاب في { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } للمؤمنين وما بعده للكافرين ولا يخفى ما في هذا من تفكيك النظم وعود الضمائر الجارية في الكلام على نمط واحد إلى طائفتين مختلفتين
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحا منه فنزلت { إن تستفتحوا } الآية وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية قال : قال أبو جهل يوم بدر : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الفئتين وخير الفئتين فنزلت الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } قال : كفار قريش في قولهم : ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ففتح بينهم يوم بدر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله : { إن تستفتحوا } قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وإن تنتهوا } قال : عن قتال محمد صلى الله عليه و سلم { وإن تعودوا نعد } قال : إن تستفتحوا الثانية أفتح لمحمد { وأن الله مع المؤمنين } قال : مع محمد وأصحابه وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { وإن تعودوا نعد } يقول : نعد لكم بالأسر والقتل (2/432)
أمر الله سبحانه المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن التولي عن رسوله فالضمير في 20 - { عنه } عائد إلى الرسول لأن طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم هي من طاعة الله و { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ويحتمل أن يكون هذا الضمير راجعا إلى الله وإلى رسوله كما في قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وقيل : الضمير راجع إلى الأمر الذي دل عليه أطيعوا وأصل تولوا تتولوا فطرحت إحدى التاءين هذا تفسير الآية على ظاهر الخطاب للمؤمنين وبه قال الجمهور وقيل : إنه خطاب للمنافقين والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط قال ابن عطية : وهذا وإن كان محتملا على بعد فهو ضعيف جدا لأن الله وصف من خاطبه في هذه الآية بالإيمان وهو التصديق والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء وأبعد من هذا من قال : الخطاب لبني إسرائيل فإنه أجنبي من الآية وجملة { وأنتم تسمعون } في محل نصب على الحال والمعنى : وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين وتصدقون بها ولستم كالصم والبكم (2/434)
21 - { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } وهم المشركون أو المنافقون أو اليهود أو الجميع من هؤلاء فإنهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل فهم كالذي لم يسمع أصلا لأنه لم ينتفع بما سمعه (2/434)
ثم أخبر سبحانه بـ 22 - { إن شر الدواب } أي ما دب على الأرض { عند الله } أي في حكمه { الصم البكم } أي الذين لا يسمعون ولا ينطقون وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق { الذين لا يعقلون } ما فيه النفع لهم فيأتونه وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه فهم شر الدواب عند الله لأنها تميز بعض تمييز وتفرق بين ما ينفعها ويضرها (2/434)
23 - { ولو علم الله فيهم } أي في هؤلاء الصم البكم { خيرا لأسمعهم } جواب كل ما سألوا عنه وقيل { لأسمعهم } كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون وجملة { وتراهم يعرضون } في محل نصب على الحال
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وهم لا يسمعون } قال : غاضبون وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله : { إن شر الدواب عند الله } الآية قال : إن هذه الآية نزلت في فلان وأصحاب له وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إن شر الدواب عند الله } قال : هم نفر من قريش من بني عبد الدار وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { الصم البكم الذين لا يعقلون } قال : لا يتبعون الحق وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث وقومه ولعله المكنى عنه بفلان فيما تقدم من قول علي رضي الله عنه وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } أي لأنفذ لهم قولهم الذي قالوا بألسنتهم ولكن القلوب خالفت ذلك منهم وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : قالوا نحن صم عما يدعونا إليه محمد لا نسمعه بكم لا نجيبه فيه بتصديق قتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء يوم أحد (2/434)
الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة ووحد الضمير هنا حيث قال : { إذا دعاكم } كما وحده في قوله : { ولا تتولوا } وقد قدمنا الكلام في وجه ذلك والاستجابة : الطاعة قال أبو عبيدة : معنى استجيبوا : أجيبوا وإن كان استجاب يتعدى باللام وأجاب بنفسه كما في قوله : { يا قومنا أجيبوا داعي الله } وقد يتعدى استجاب بنفسه كما قول الشاعر :
( وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب )
{ إذا دعاكم لما يحييكم } اللام متعلقة بقوله : { استجيبوا } أي استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم ولا مانع من أن تكون متعلقة بدعا : أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة فإن العلم حياة كما أن الجهل موت فالحياة هنا مستعارة للعلم قال الجمهور من المفسرين : المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنعمة السرمدية وقيل : المراد بقوله : { لما يحييكم } الجهاد فإنه سبب الحياة في الظاهر لأن العدو إذا لم يغز غزا ويستدل بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائنا ما كان ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة وترك التقيد بالمذاهب وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائنا ما كان قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } قيل معناه : بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم وقيل معناه : إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ويبدل عدوهم من الأمن خوفا وقيل : هو من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } ومعناه : أنه مطلع على ضمائر القلوب لا تخفى عليه منها خافية واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عز و جل بأنه أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئته عز و جل ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني { وأنه إليه تحشرون } معطوف على { أن الله يحول بين المرء وقلبه } وأنكم محشورون إليه وهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا قال الفراء : ولو استأنفت فكسرت همزة { إنه } لكان صوابا ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية (2/435)
قوله : 25 - { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } أي اتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح ولا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم
وقد اختلف النحاة في دخول هذه النون المؤكدة في { تصيبن } فقال الفراء : هو بمنزلة قولك : انزل عن الدابة لا تطرحنك فهو جواب الأمر بلفظ النهي : أي إن تنزل عنها لا تطرحنك ومثله قوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده } أي إن تدخلوا لا يحطمنكم فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء وقال المبرد : إنه نهي بعد أمر والمعنى : النهي للظالمين : أي لا يقربن الظلم ومثله ما روي عن سيبويه : لا أرينك هاهنا فإن معناه : لا تكن هاهنا فإن من كان هاهنا رأيته وقال الجرجاني : إن لا تصيبن نهي في موضع وصف لفتنة وقرأ علي وزيد بن أبي ثابت وأبي وابن مسعود { لا تصيبن } على أن اللام جواب لقسم محذوف والتقدير : اتقوا فتنة والله لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة فيكون معنى هذه القراءة مخالفا لمعنى قراءة الجماعة لأنها تفيد أن الفتنة تصيب الظالم خاصة بخلاف قراءة الجماعة { واعلموا أن الله شديد العقاب } ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه ولا يعذب إلا بجنايته فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة والله أعلم ويمكن أن يقال : إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتكون الإصابة المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إذا دعاكم لما يحييكم } قال : للحق وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية : قال هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله : { إذا دعاكم لما يحييكم } أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل وقواكم بها بعد الضعف ومنعكم بها من العذاب بعد القهر منهم لكم وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلى قال : [ كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي فقال : ألم يقل الله تعالى : { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ] الحديث وفيه دليل على ما ذكرنا من أن الآية تعم كل دعاء من الله أو من رسوله وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في الآية قال : علمه يحول بين المرء وقلبه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال : يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال : في القرب منه وأخرج أحمد والبزار وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف قال : قلت للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه قال الزبير : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وعثمان { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : قرأ الزبير { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } قال : البلاء والأمر الذي هو كائن وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في الآية قال : نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال : نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال : تصيب الظالم والصالح عامة وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : هي مثل { يحول بين المرء وقلبه } حتى يتركه لا يعقل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأن هذه الأمة إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر عمهم الله بعذاب من عنده (2/436)
الخطاب بقوله : 26 - { واذكروا إذ أنتم قليل } للمهاجرين : أي اذكروا وقت قلتكم و { مستضعفون } خبر ثاني للمبتدأ والأرض : هي أرض مكة والخطف : الأخذ بسرعة والمراد بالناس : مشركو قريش وقيل : فارس والروم { فآواكم } يقال : آوى إليه بالمد وبالقصر بمعنى : انضم إليه فالمعنى : ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار { وأيدكم بنصره } أي قواكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر أو قواكم بالملائكة يوم بدر { ورزقكم من الطيبات } التي من جملتها الغنائم { لعلكم تشكرون } أي إرادة أن تشكروا هذه النعم التي أنعم بها عليكم (2/438)
والخون أصله كما في الكشاف : النقص كما أن الوفاء التمام ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان وقيل معناه : الغدر وإخفاء الشيء ومنه قوله تعالى : { يعلم خائنة الأعين } نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم أو يخونوا رسوله بترك شيء مما أمهنهم عليه أو بترك شيء مما سنه لهم أو يخونوا شيئا من الأمانات التي اؤتمنوا عليها وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق مأخذوة من الأمن وجملة 27 - { وأنتم تعلمون } في محل نصب على الحال : أي وأنتم تعلمون أن ذلك الفعل خيانة فتفعلون الخيانة عن عمد أو أنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل (2/438)
ثم قال : { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } لأنهم سبب الوقوع في كثير من الذنوب فصاروا من هذه الحيثية محنة يختبر الله بها عباده وإن كانوا من حيثية أخرى زينة الحياة الدنيا كما في الآية الأخرى : { وأن الله عنده أجر عظيم } فآثروا حقه على أموالكم وأولادكم ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { واذكروا إذ أنتم قليل } قال : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا وأعراه جلودا وأبينه ضلالة من عاش عاش شقيا ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون لا والله ما نعلم قبيلا من حاضري الأرض يومئذ كان أشر منزلا منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله عز و جل وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { يتخطفكم الناس } قال : في الجاهلية بمكة { فآواكم } إلى الإسلام وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن وهب في قوله : { يتخطفكم الناس } قال : الناس إذ ذاك فارس والروم وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس } قيل : يا رسول الله ومن الناس ؟ قال : أهل فارس ] وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { فآواكم } قال : إلى الأنصار بالمدينة { وأيدكم بنصره } قال : يوم بدر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله [ أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن أبا سفيان بمكة كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فأخرجوا إليه واكتموافكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } الآية ] وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن أبي قتادة قال : نزلت هذه الآية { لا تخونوا الله والرسول } في أبي لبابة بن عبد المنذر سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر ؟ فأشار إلى حلقه أنه الذبح فنزلت قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله وأخرج سنيد وابن جرير عن الزهري نحوه بأطول منه وأخرج عبد بن حميد عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفا لهم فأومأ بيده أنه الذبح فنزلت وأخرج أبو الشيخ عن السدي في هذه الآية أنها نزلت في أبي لبابة ونسختها الآية التي في براءة { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لا تخونوا الله } قال : بترك فرائضه { والرسول } بترك سننه وارتكاب معصيته { وتخونوا أماناتكم } يقول : لا تنقصوها والأمانة : الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد وأخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ولعل مراده أن من جملة ما يدخل تحت عمومها قتل عثمان وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب في الآية قال : هو الإخلال بالسلاح في المغازي ولعل مراده أن هذا مما يندرج تحت عمومها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة لأن الله يقول : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن وأخرج هؤلاء عن ابن زيد في الآية قال : فتنة الاختبار اختبرهم وقرأ { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (2/439)
جعل سبحانه التقوى شرطا في الجعل المذكور مع سبق علمه بأنهم يتقون أو لا يتقون جريا على ما يخاطب به الناس بعضهم بعضا والتقوى : اتقاء مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه والفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل والمعنى : أنه يجعل لهم من ثبات القلوب وثقوب البصائر : وحسن الهداية ما يفرقون به بينهما عند الالتباس وقيل : الفرقان المخرج من الشبهات والنجاة من كل ما يخافونه ومنه قول الشاعر :
( ما لك من طول الأسى فرقان ... بعد قطين رحلوا وبانوا )
ومنه قول الآخر :
( وكيف أرجى الخلد والموت طالبي ... وما لي من كأس المنية فرقان )
وقال الفراء : المراد بالفرقان الفتح والنصر قال ابن إسحاق : الفرقان الفصل بين الحق والباطل وبمثله قال ابن زيد وقال السدي : الفرقان النجاة ويؤيد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } وبه قال مجاهد ومالك بن أنس 29 - { ويكفر عنكم سيئاتكم } أي يسترها حتى تكون غير ظاهرة { ويغفر لكم } ما اقترفتم من الذنوب وقد قيل إن المراد بالسيئات الصغائر وبالذنوب التي تغفر الكبائر وقيل : المعنى أنه يغفر لهم ما تقدم من الذنوب وما تأخر { والله ذو الفضل العظيم } فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يجعل لكم فرقانا } قال : هو المخرج وأخرج ابن جرير عنه قال : هو النجاة وأخرج ابن جرير عن عكرمة مثله وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : هو النضر (2/440)
قوله : 30 - { وإذ يمكر بك الذين كفروا } الظرف معمول لفعل محذوف : أي واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين بك أو معطوف على ما تقدم من قوله واذكروا ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم كما سيأتي بيانه { ليثبتوك } يثبتوك بالجراحات كما قال ثعلب وأبو حاتم وغيرهما وعنه قول الشاعر :
( فقلت ويحكم ما في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا )
وقيل : المعنى ليحبسوك يقال أثبته : إذا حبسه وقيل : ليوثقوك ومنه : { فشدوا الوثاق } وقرأ الشعبي : { يبيتون } من البيات وقرئ ليثبتوك بالتشديد { أو يخرجوك } معطوف على ما قبله : أي يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك وجملة { ويمكرون ويمكر الله } مستأنفة والمكر : التدبير في الأمر في خفية والمعنى : أنهم يخفون ما يعدونه لرسول الله صلى الله عليه و سلم من المكايد فيجازيهم الله على ذلك ويرد كيدهم في نحورهم وسمى ما يقع منه تعالى مكرا مشاكلة كما في نظائره { والله خير الماكرين } أي المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون فيكون ذلك أشد ضررا عليهم وأعظم بلاء من مكرهم (2/441)
قوله : 31 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا } أي التي تأتيهم بها وتتلوها عليهم { قالوا } تعنتا وتمردا وبعدا عن الحق { قد سمعنا } ما تتلوه علينا { لو نشاء لقلنا مثل هذا } الذي تلوته علينا قيل : إنهم قالوا هذا توهما منهم أنهم يقدرون على ذلك فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه ثم قال عنادا وتمردا : { إن هذا إلا أساطير الأولين } أي ما يسطره الوراقون من أخبار الأولين وقد تقدم بيانه مستوفى (2/442)
32 - { وإذ قالوا } أي واذكر إذ قالوا { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } بنصب الحق على أنه خبر كان والضمير للفصل ويجوز الرفع قال الزجاج : ولا أعلم أحدا قرأ بها ولا اختلاف بين النحوين في إجازتها ولكن القراءة سنة والمعنى إن كان القرءان الذي جاءنا به محمد هو الحق { فأمطر علينا } قالوا : هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار قال أبو عبيدة : يقال أمطر في العذاب ومطر في الرحمة وقال في الكشاف : قد كثر الإمطار في معنى العذاب { أو ائتنا بعذاب أليم } سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد (2/442)
فأجاب الله عليهم بقوله : 33 - { وما كان الله ليعذبهم وأنت } يا محمد { فيهم } موجود فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك : أي وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرون وقيل المعنى : لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم وقيل : إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم : أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده وقيل المعنى : وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس في قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه و سلم وقال بعضهم : بل اقتلوه وقال بعضهم : بل أخرجوه فاطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه و سلم حتى لحق بالغار فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوه عليا رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ فقال : لا أدري فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس فذكر القصة بأطول مما هنا وفيها ذكر الشيخ النجدي : أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلى الله عليه و سلم وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاما ويعطوا كل واحد منهم سيفا ثم يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأي فتفرقوا على ذلك وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال : لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه و سلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال : يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني قال : من حدثك بهذا ؟ قال : ربي قال : نعم الرب ربك استوص به خيرا قال : أنا أستوصي به ؟ بل هو يستوصي بي وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عنه وهذا لا يصح فقد كان أبو طالب مات قبل وقت الهجرة بسنين وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } قال : { ليثبتوك } يعني ليوثقوك وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : [ قتل النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدرا صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد : يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول قال : وفيه أنزلت هذه الآية : { وإذا تتلى عليهم آياتنا } ] وهذا مرسل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في النضر بن الحارث وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أنس بن مالك قال : قال أبو جهل بن هشام { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية فنزلت : { وما كان الله ليعذبهم } الآية وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنها نزلت في أبي جهل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية أنها نزلت في النضر بن الحارث وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد مثله وأخرج ابن جرير عن عطاء نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ويقولون : غفرانك غفرانك فأنزل الله : { وما كان الله ليعذبهم } الآية قال ابن عباس كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه و سلم والاستغفار فذهب النبي صلى الله عليه و سلم وبقي الاستغفار وأخرج الترمذي وضعفه عن أبي موسى الأشعري قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنزل الله علي أمانين لأمتي { وما كان الله ليعذبهم } الآية فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار ] وأخرج
أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر قال : { وما كان الله ليعذبهم } الآية وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه والحاكم وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري نحوه أيضا والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في مطلق الاستغفار كثيرة جدا معروفة في كتب الحديث (2/442)
قوله : 34 - { وما لهم أن لا يعذبهم الله } لما بين سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله صلى الله عليه و سلم بين ظهورهم ووقوع الاستغفار ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار أعني كفار مكة مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح والمعنى : أي شيء لهم يمنع من تعذيبهم ؟ قال الأخفش : إن أن زائدة قال النحاس : لو كان كما قال لرفع يعذبهم وجملة { وهم يصدون عن المسجد الحرام } في محل نصب على الحال : أي وما يمنع من تعذيبهم ؟ والحال أنهم يصدون الناس عن المسجد الحرام كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه من البيت وجملة { وما كانوا أولياءه } في محل نصب على أنها حال من فاعل { يصدون } وهذا كالرد لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت وأن أمره مفوض إليهم ثم قال مبينا لمن له ذلك : { إن أولياؤه إلا المتقون } أي ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ذلك والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون (2/444)
قوله : 35 - { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } المكاء : الصفير من مكا يمكو مكاء ومنه قول عنترة :
( وخليل غانية تركت مجندلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم )
أي تصوت ومنه مكت است الدابة : إذا نفخت بالريح قيل المكاء : هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء قال الشاعر :
( إذا غرد المكاء في غير دوحة ... فويل لأهل الشاء والحمرات )
والتصدية : التصفيق يقال : صدى يصدي تصدية : إذا صفق ومنه قول عمر بن الأطنابة :
( وظلوا جميعا لهم ضجة ... مكاء لدى البيت بالتصدية )
أي بالتصفيق وقيل المكاء : الضرب بالأيدي والتصدية : الصياح وقيل المكاء : إدخالهم أصابعهم في أفواههم والتصدية : الصفير وقيل التصدية : صدهم عن البيت قيل : والأصل على هذا تصددة فأبدل من إحدى الدالين ياء ومعنى الآية : أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة فوضعوا ذلك موضع الصلاة قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة وقرئ بنصب صلاتهم على أنها خبر كان وما بعده اسمها قوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديدا لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم والمراد به : عذاب الدنيا كيوم بدر وعذاب الآخرة (2/445)
قوله : 36 - { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } لما فرغ سبحانه من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية والمعنى : أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله صلى الله عليه و سلم وجمع الجيوش لذلك وإنفاق أموالهم عليها وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز فقال : { فسينفقونها } أي سيقع منهم هذا الإنفاق { ثم تكون } كما وعد الله به في مثل قوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } ومعنى { ثم } في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة ثم قال : { والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } أي استمروا على الكفر لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقا من أسلم وحسن إسلامه : أي يساقون إليها لا إلى غيرها (2/445)
ثم بين العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعله فقال : 37 - { ليميز الله الخبيث } أي الفريق الخبيث من الكفار { من } الفريق { الطيب } وهم المؤمنون { ويجعل الخبيث بعضه على بعض } أي يجعل فريق الكفار الخبيث بعضه على بعض { فيركمه جميعا } عبارة عن الجمع والضم : أي يجمع بعضهم على بعض ويضم بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم يقال : ركم الشيء يركمه : إذا جمعه وألقى بعضه على بعض والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الفريق الخبيث { هم الخاسرون } أي الكاملون في الخسران وقيل : الخبيث والطيب : صفة للمال والتقدير يميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كما في قوله تعالى : { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } قال في الكشاف : واللام على هذا متعلقة بقوله : { ثم تكون عليهم حسرة } وعلى الأول بيحشرون و { أولئك } إشارة إلى الذين كفروا انتهى
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } ثم استثنى أهل الشرك فقال : { وما لهم أن لا يعذبهم الله } وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله : { وما لهم أن لا يعذبهم الله } قال : عذابهم فتح مكة وأخرج ابن إسحاق وأبو حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير { وما لهم أن لا يعذبهم الله } وهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله : { وهم يصدون عن المسجد الحرام } أي من آمن بالله وعبده أنت ومن اتبعك { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده : أي أنت ومن آمن بك وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إن أولياؤه إلا المتقون } قال : من كانوا حيث كانوا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه و سلم في الطواف ويستهزئون ويصفرون ويصفقون فنزلت : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء عن ابن عباس قال : كانت قريش يطوفون بالكعبة عراة تصفر وتصفق فأنزل الله : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } قال : والمكاء الصفير إنما شبهوا بصفير الطير وتصدية : التصفيق وأنزل الله فيهم : { قل من حرم زينة الله } الآية وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس نحوه وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه نحوه أيضا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال : المكاء الصفير والتصدية التصفيق وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : قال : المكاء إدخال أصابعهم في أفواههم والتصدية الصفير يخلطون بذلك كله على محمد صلى الله عليه و سلم صلاته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي : قال : المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز والتصدية التصفيق وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { إلا مكاء } قال : كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهن { وتصدية } قال : صدهم الناس وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال وهو قوله : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } فالمكاء مثل نفخ البوق والتصدية طوافهم على الشمال وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } قال : يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل كلهم من طريقه : قال : حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحسين بن عبد الرحمن بن عمرو قالوا : لما أصيب قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثأرا ففعلوا ففيهم كما ذكر ابن عباس أنزل الله : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } إلى { والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه وأخرج هؤلاء وغيرهم عن سعيد بن جبير نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحكم بن عتيبة في الآية قال : نزلت في أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب وكانت الوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا من ذهب وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شمر بن عطية في قوله : { حتى يميز الخبيث من الطيب } قال : يميز يوم القيامة ما كان من عمر صالح في الدنيا ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { فيركمه جميعا } قال : يجمعه جميعا (2/445)
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول للكفار هذا المعنى وسواء قاله بهذه العبارة أو غيرها قال ابن عطية : ولو كان كما قال الكسائي إنه في مصحف عبد الله بن مسعود ( قل للذين كفروا إن تنتهوا ) يعني بالتاء المثناة من فوق لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها وقال في الكشاف : أي قل لأجلهم هذا القول وهو 38 - { إن ينتهوا } ولو كان بمعنى خاطبهم لقيل إن تنتهوا يغفر لكم وهي قراءة ابن مسعود ونحوه { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه } خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه : أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقتاله بالدخول في الإسلام { يغفر لهم ما قد سلف } لهم من العداوة انتهى وقيل معناه : إن ينتهوا عن الكفر قال ابن عطية : والحامل على ذلك جواب الشرط بـ { يغفر لهم ما قد سلف } ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يجب ما قبله { وإن يعودوا } إلى القتال والعداوة أو إلى الكفر الذي هم عليه ويكون العود بمعنى الاستمرار { فقد مضت سنة الأولين } هذه العبارة مشتملة على الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله : أي قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأولين من الأمم أن يصيبه بعذاب فليتوقعوا مثل ذلك (2/448)
39 - { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي كفر وقد تقدم تفسير هذا في البقرة مستوفى { فإن انتهوا } عما ذكر { فإن الله بما يعملون بصير } لا يخفى عليه ما وقع منهم من الانتهاء (2/448)
40 - { وإن تولوا } عما أمروا به من الانتهاء { فاعلموا } أيها المؤمنون { بل الله مولاكم } أي ناصركم عليهم { نعم المولى ونعم النصير } فمن والاه فاز ومن نصره غلب
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فقد مضت سنة الأولين } قال : في قريش وغيرها يوم بدر والأمم قبل ذلك وأخرج أحمد ومسلم عن [ عمرو بن العاص قال : لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : أبسط يدك فلأبايعك فبسط يمينه فقبضت يدي وقال : ما لك ؟ قلت : أردت أن أشترط قال : تشترط ماذا ؟ قلت : أن تستغفر لي قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ ] وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها ] وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى : { فقد مضت سنة الأولين } بما مضى في الأمم المتقدمة من عذاب من قاتل الأنبياء وصمم على الكفر وقال السدي ومحمد بن إسحاق : المراد بالآية يوم بدر وفسر جمهور السلف الفتنة المذكورة هنا بالكفر وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا { حتى لا تكون فتنة } حتى لا يفتن مسلم عن دينه (2/448)
لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة ذكر حكم الغنيمة والغنيمة قد قدمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدو ثم استعملت في كل ما يصاب منهم وقد تستعمل في كل ما ينال بسعي ومنه قول الشاعر :
( وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب )
ومثله قول الآخر :
( ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم )
وأما معنى الغنيمة في الشرع فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله تعالى : 41 - { واعلموا أنما غنمتم من شيء } مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر قال : ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية بعد قوله : { يسألونك عن الأنفال } وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين وأن قوله : { يسألونك عن الأنفال } نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدم أول السورة وقيل إنها أعني قوله : { يسألونك عن الأنفال } محكمة غير منسوخة وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة حكاه الماوردي عن كثير من المالكية قالوا : وللإمام أن يخرجها عنهم واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين وكان أبو عبيدة يقول : افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين وكيفيتها كثيرة جدا قال القرطبي : ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } الآية ناسخ لقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية بل قال الجمهور : إن قوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } ناسخ وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها قال : وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا تعطي الغنائم قريشا وتتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه فقال لهم : أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيوتكم كما في مسلم وغيره وليس لغيره أن يقول هذا القول بل ذلك خاص به قوله : { أنما غنمتم من شيء } يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة و { من شيء } بيان لما الموصولة وقد خصص الإجماع من عموم الآية : الأسارى فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام وقيل : كذلك الأرض المغنومة ورد بأنه لا إجماع على الأرض قوله : { فأن لله خمسه } قرأ النخعي : { فإن لله } بكسر إن وقرأ الباقون بفتحها على أن أن وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف والتقدير : فحق أو فواجب أن لله خمسه
وقد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة : الأول : قالت طائفة : يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة وهو الذي لله والثاني : لرسول الله والثالث : لذوي القربى والرابع : لليتامى والخامس : للمساكين والسادس : لابن السبيل والقول الثاني : قاله أبو العالية والربيع : إنها تقسم الغنيمة على خمسة فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين ثم يضرب يده في السهم الذي عزله فما قبضه من شيء جعله للكعبة ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خسمة للرسول ومن بعده الآية القول الثالث : روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال : إن الخمس لنا فقيل له : إن الله يقول : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } فقال : يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا القول الرابع : قول الشافعي : إن الخمس يقسم على خمسة وإن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية القول الخامس : قول أبي حنيفة : إنه يقسم الخمس على ثلاثة : اليتامى والمساكين وابن السبيل وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم بموته كما ارتفع حكم سهمه قال : ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند وروي نحو هذا عن الشافعي القول السادس : قول مالك : إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده فيأخذ منه بغير تقدير ويعطي منه الغزاة باجتهاد ويصرف الباقي في مصالح المسلمين قال القرطبي وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا وعليه يدل قوله صلى الله عليه و سلم : [ ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ] فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهل من يدفع إليه قال الزجاج محتجا لهذا القول : قال الله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك قوله : { ولذي القربى } قيل : إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه و سلم
وقد اختلف العلماء في القربى على أقوال : الأول أنهم قريش كلها روي ذلك عن بعض السلف واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلا : يا بني فلان يا بني فلان وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد : هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلى الله عليه و سلم : [ إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه ] وهو في الصحيح وقيل هم بنو هاشم خاصة وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم وهو مروي عن علي بن الحسين ومجاهد قوله : { إن كنتم آمنتم بالله } قال الزجاج عن فرقة : إن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله وقالت فرقة أخرى : إن { إن } متعلقة بقوله : { واعلموا أنما غنمتم } قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح لأن قوله : { واعلموا } يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم فعلق إن بقوله : { واعلموا } على هذا المعنى : أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا الأمر لله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة وقال في الكشاف : إنه متعلق بمحذوف يدل عليه { واعلموا } بمعنى إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة وليس المراد بالعلم المجرد ولكن العلم المتضمن بالعمل والطاعة لأمر الله لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر انتهى قوله : { وما أنزلنا على عبدنا } معطوف على الاسم الجليل : أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا و { يوم الفرقان } يوم بدر لأنه فرق بين أهل الحق وأهل الباطل { الجمعان } الفريقان من المسلمين والكافرين { والله على كل شيء قدير } ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقل على الفريق الأكثر (2/449)
قوله : 42 - { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى } قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين في العدوة في الموضعين وقرأ الباقون بالضم فيها و إذ بدل من يوم الفرقان ويجوز أن يكون العامل محذوفا : أي واذكروا إذ أنتم والعدوة : جانب الوادي والدنيا : تأنيث الأدنى : والقصوى : تأنيث الأقصى من دنا يدنو وقصا يقصو ويقال : القصيا والأصل الواو وهي لغة أهل الحجاز والعدوة الدنيا كانت مما يلي المدينة والقصوى كانت مما يلي مكة والمعنى : وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة وعدوكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة وجملة { والركب أسفل منكم } في محل نصب على الحال وانتصاب { أسفل } على الظرف ومحله الرفع على الخبرية : أي والحال أن الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشد سفلا منكم والركب : جمع راكب ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل ولا يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب وكذا قال ابن فارس وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة والمراد بالركب هاهنا ركب أبي سفيان وهي المراد بالعير فإنهم كانوا في موضل أسفل منهم مما يلي ساحل البحر قيل : وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم الدلالة على قوة شأن العدو وشوكته وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا يابس بها وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم فامتن الله على المسلمين بنصرتهم عليهم والحال هذه قوله : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } أي لو تواعدتم أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال لخالف بعضكم بعضا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى الله عليه و سلم { ولكن } جمع الله بينكم في هذا الموطن { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } أي حقيقا بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم وأخرج الكافرين للمدافعة عنها ولم يكن في حساب الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة واللام في ليقضي متعلقة بمحذوف والتقدير : جمعهم ليقضي وجملة { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي } بدل من الجملة التي قبلها : أي ليموت من
يموت عن بينة ويعيش عن بينة لئلا يبقى لأحد على الله حجة وقيل : الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام : أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة ويقين بأنه دين الحق ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة قرأ نافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي وأبو بكر { من حي } بياءين على الأصل وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام وهي اختيار أبي عبيد لأنها كذلك وقعت في المصحف { وإن الله لسميع عليم } أي سميع بكفر الكافرين عليم به وسميع بإيمان المؤمنين عليم به
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : ثم وضع مقاسم الفيء فقال : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } بعد الذي كان مضى من بدر { فأن لله خمسه } إلى آخر الآية وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن قيس بن مسلم الجدلي قال : سألت الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية عن قول الله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } قال : هذا مفتاح كلام لله الدنيا والآخرة { وللرسول ولذي القربى } فاختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذين السهمين قال قائل منهم : سهم ذي القربى لقرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال قائل منهم : سهم ذي القربى لقرابة الخليفة وقال قائل منهم : سهم النبي صلى الله عليه و سلم للخليفة من بعده واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك في خمسه ثم قرأ : { واعلموا أنما غنمتم } الآية قال قوله : { فأن لله خمسه } مفتاح كلام لله ما في السموات وما في الأرض فجعل الله سهم الله والرسول واحدا { ولذي القربى } فجعل هذين السهمين قوة في الخيل والسلاح وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم وجعل الأربعة الأسهم الباقية للفرس سهما ولراكبه سهما وللراجل سهما وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : فأربعة منها بين من قاتل عليها وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس فربع لله وللرسول ولذي القربة يعني قرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه و سلم ولم يأخذ النبي صلى الله عليه و سلم من الخمس شيئا والربع الثاني لليتامى والربع الثالث للمساكين والربع الرابع لابن السبيل وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية قال : كان يجاء بالغنيمة فتوضع فيقسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم على خمسة أسهم فيعزل سهما منها ويقسم أربعة أسهم بين الناس يعني لمن شهد الوقعة ثم
يضرب بيده في جميع السهم الذي عزله فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة فهو الذي سمى الله لا تجعلوا لله نصيبا فأن لله الدنيا والآخرة ثم يعمد إلى بقية السهم فيقسمه على خمسة أسهم : سهم للنبي صلى الله عليه و سلم وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله وفي كسوة الكعبة وطيبها وما تحتاج إليه الكعبة ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله وسهم ذي القربى لقرابته يضعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم مع سهمه مع الناس ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم يضعها رسول الله فيمن شاء حيث شاء ليس لبني عبد المطلب في هذه الثلاثة الأسهم ولرسول الله صلى الله عليه و سلم سهم من سهام الناس وأخرج ابن أبي حاتم عن حسين المعلم قال : سألت عبد الله بن بريدة عن قوله : { فأن لله خمسه وللرسول } فقال : الذي لله لنبيه والذي للرسول لأزواجه وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن نجدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله فكتب إليه إنا كنا نرى أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا قريش كلها ذوو قربى وزيادة قوله : وقالوا قريش كلها تفرد بها أبو معشر وفيه ضعف وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس : أن نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى ويقول : لمن تراه ؟ فقال ابن عباس : هو لقربى رسول الله صلى الله عليه و سلم قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليهم وأبينا أن نقبله وكان عرض عليهم إن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم وأن يعطي فقيرهم وأبى أن يزديهم على ذلك وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : رغبت لكم عن غسالة الأيدي لأن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم أو يغنيكم رواه ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عنه مرفوعا قال ابن كثير : هذا حديث حسن الإسناد وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم وقال يحيى بن معين : يأتي بمناكير وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر عن جبير بن مطعم : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم سهم ذوي القربى من خيبر على
بني هاشم وبني المطلب قال : فمشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا عليه فقلنا : يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا فإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب ؟ فقال : إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام ] وقد أخرجه مسلم في صحيحه وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال : آل محمد الذين أعطوا الخمس : آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان للنبي صلى الله عليه و سلم شيء واحد من المغنم يصطفيه لنفسه إما خادم وإما فرس ثم يصيب بعد ذلك من الخمس وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن علي قال : قلت يا رسول الله : ألا وليتني ما خصنا الله به من الخمس ؟ فولانيه وأخرج الحاكم وصححه عنه قال : ولاني رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { يوم الفرقان } قال : هو يوم بدر وبدر ما بين مكة والمدينة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في
الدلائل عن ابن عباس في قوله : { يوم الفرقان } قال : هو يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان وأخرج عنه ابن جرير أيضا وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } قال : العدوة الدنيا شاطئ الوادي { والركب أسفل منكم } قال أبو سفيان وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : العدوة الدنيا شفير الوادي الأدنى والعدوة القصوى شفير الوادي الأقصى (2/452)
إذ منصوب بفعل مقدر : أي اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان والمعنى : أن النبي صلى الله عليه و سلم رآهم في منامه قليلا فقص ذلك على أصحابه فكان ذلك سببا لثباتهم ولو رآهم في منامه كثيرا لفشلوا وجبنوا عن قتالهم وتنازعوا في الأمر هل يلاقونهم أم لا ؟ 43 - { ولكن الله سلم } أي سلمهم وعصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام وقيل : عني بالمنام محل النوم وهو العين : أي في موضع منامك وهو عينك روي ذلك عن الحسن قال الزجاج : هذا مذهب حسن ولكن الأول أسوغ في العربية لقوله : { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم } فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء وأن تلك رؤية النوم (2/456)
قوله : 44 - { وإذ يريكموهم } الظرف منصوب بمضمر معطوف على الأول : أي واذكروا وقت إراءتكم إياها حال كونهم قليلا حتى قال القائل من المسلمين لآخر : أتراهم سبعين ؟ قال : هم نحو المائة وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم : إنما هم أكلة جزور وكان هذا قبل القتال فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين كما قال في آل عمران : { يرونهم مثليهم رأي العين } ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلا أقدموا على القتال غير خائفين ثم يرونهم كثيرا فيفشلون وتكون الدائرة عليهم ويحل بهم عذاب الله وسوط عقابه واللام في { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } متعلقة بمحذوف كما سبق مثله قريبا وإنما كرره لاختلاف المعلل به { وإلى الله ترجع الأمور } كلها يفعل فيها ما يريد ويقضي في شأنها ما يشاء
وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { إذ يريكهم الله في منامك قليلا } قال : أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه بذلك فكان ذلك تثبيتا لهم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم } يقول : لجبنتم { ولتنازعتم في الأمر } قال : لاختلفتم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولكن الله سلم } أي أتم وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه { ولكن الله سلم } يقول : سلم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { وإذ يريكموهم } الآية قال : لقد قلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : لا بل هم مائة حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه قال : كنا ألفا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : حضض بعضهم على بعض قال ابن كثير : إسناده صحيح وأخرج ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله : { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } أي ليلف بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه والإنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته (2/456)
قوله : 45 - { إذا لقيتم فئة } اللقاء الحرب والفئة الجماعية : أي إذا حاربتم جماعة من المشركين { فاثبتوا } لهم ولا تجبنوا عنهم وهذا لا ينافي الرخصة المتقدمة في قوله : { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة والرخصة هي في حال الضرورة وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرف والتحيز { واذكروا الله } أي اذكروا الله عند جزع قلوبكم فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد وقيل المعنى : اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان قيل : وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت { ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب وتزيع عندها البصائر (2/457)
ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي فإن ذلك يتسبب عنه الفشل وهو الجبن في الحرب والفاء جواب النهي والفعل منصوب بإضمار أن ويجوز أن يكون الفعل معطوفا على تنازعوا مجزوما بجازمه قوله : 46 - { وتذهب ريحكم } قرئ بنصب الفعل وجزمه عطفا على تفشلوا على الوجهين والريح : القوة والنصر كما يقال : الريح لفلان إذا كان غالبا في الأمر وقيل : الريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها ومنه قول الشاعر :
( إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فعقبى كل خافقة سكون )
وقيل : المراد بالريح ريح الصبا لأن بها كان ينصر النبي صلى الله عليه و سلم ثم أمرهم بالصبر على شدائد الحرب وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة (2/458)
ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس وهم قريش فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ومعهم القيان والمعازف فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت فلم يرجعوا بل قالوا : لا بد لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر وتغني لهم القيان وتسمع العرب بمخرجهم فكان ذلك منهم بطرا وأشرا وطلبا للثناء من الناس وللتمدح إليهم والفخر عندهم وهو الرياء قيل والبطر في اللغة : التقوي بنعم الله على معاصيه وهو مصدر في موضع الحال : أي خرجوا بطرين مرائين وقيل : هو مفعول له وكذا رياء : أي خرجوا للبطر والرياء وقوله : { ويصدون } معطوف على بطرا والمعنى كما تقدم : أي خرجوا بطرين مرائين صادين عن سبيل الله أو للصدر عن سبيل الله والصد : إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية ويجوز أن يكون ويصدون معطوفا على يخرجون والمعنى : يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد { والله بما يعملون محيط } لا تخفى عليه من أعمالهم خافية فهو مجازيهم عليها (2/457)
قوله : 48 - { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } الظرف متعلق بمحذوف : أي واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم والتزيين : التحسين وقد روي أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة وهي : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } أي مجير لكم من كل عدو أو من بني كنانة ومعنى الجار هنا : الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار وكان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم وقيل المعنى : إنه ألقى في روعهم هذه المقالة وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون { فلما تراءت الفئتان } أي فئة المسلمين والمشركين { نكص على عقبيه } أي رجع القهقرى ومنه قول الشاعر :
( ليس النكوص على الأعقاب مكرمة ... إن المكارم إقدام على الأمل )
وقول الآخر :
( وما نفع المستأخرين نكوصهم ... ولا ضر أهل السابقات التقدم )
وقيل : معنى نكص هاهنا : بطل كيده وذهب ما خيله { وقال إني بريء منكم } أي تبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة ثم علل ذلك بقوله : { إني أرى ما لا ترون } يعني الملائكة ثم علل بعلة أخرى فقال : { إني أخاف الله } قيل : خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا الوقعة وقيل : إن دعوى الخوف كذب منه ولكنه رأى أنه لا قوة له ولا للمشركين فاعتل بذلك وجملة { والله شديد العقاب } يحتمل أن تكون من تمام كلام إبليس ويحتمل أن تكون كلاما مستأنفا من جهة الله سبحانه (2/459)
قوله : 49 - { إذ يقول المنافقون } الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر ويجوز أن يتعلق بنكص أو بزين أو بشديد العقاب قيل : المنافقون هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر { والذين في قلوبهم مرض } هم الشاكون من غير نفاق بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة أعني { غر هؤلاء } أي المسلمين { دينهم } حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش وقيل : الذين في قلوبهم مرض هم المشركون ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد فأجاب الله عليهم بقوله : { من يتوكل على الله فإن الله عزيز } لا يغلبه غالب ولا يذل من توكل عليه { حكيم } له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { واذكروا الله } قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون : عند الضراب بالسيوف وأخرج الحاكم وصححه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثنتان لا يردان : الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا ] وأخرج الحاكم وصححه عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يكره الصوت عند القتال وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } يقول : لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وتذهب ريحكم } قال : نصركم وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } الآية يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف فأنزل الله هذه الآية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في
الآية قال : أبو جهل وأصحابه يوم بدر وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : [ كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر وقد قيل لهم يومئذ ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم فقالوا : لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال يومئذ : اللهم إن قريشا قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك ] وذكر لنا أنه قال يومئذ : [ جاءت من مكة أفلاذها ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } وأقبل جبريل على إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبرا وشيعته فقال الرجل : يا سراقة إنك جار لنا فقال : { إني أرى ما لا ترون } وذلك حين رأى الملائكة { إني أخاف الله والله شديد العقاب } قال ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين وقلل المشركين في أعين المسلمين فقال المشركون : وما هؤلاء غر هؤلاء دينهم وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك فقال الله : { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن رفاعة بن رافع الأنصاري قال : لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال : اللهم إن أسألك نظرتك إياي وأخرج الواقدي وابن مردويه عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إني أرى ما لا ترون } قال : ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة وقال : { إني أخاف الله } كذب عدو الله ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له به ولا منعة له وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن معمر قال : ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك فأنكر أن يكون قال شيئا من ذلك وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إذ يقول المنافقون } قال : وهم يومئذ في المسلمين وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { والذين في قلوبهم مرض } قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي في قوله : { والذين في قلوبهم مرض } قال : هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر فلما رأوا المسلمين قالوا : { غر هؤلاء دينهم } وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي نحوه (2/459)
قوله : 50 - { ولو ترى } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له كما تقدم تحقيقه في غير موضع والمعنى : ولو رأيت لأن لو تقلب المضارع ماضيا و { إذ } ظرف لترى والمفعول محذوف : أي ولو ترى الكافرين وقت توفي الملائكة لهم قيل : أراد بالذين كفروا من لم يقتل يوم بدر وقيل : هي فيمن قتل ببدر وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما وجملة { يضربون وجوههم } في محل نصب على الحال والمراد بأدبارهم أستاههم كنى عنها بالأدبار وقيل : ظهورهم قيل : هذا الضرب يكون عند الموت كما يفيده ذكر التوفي وقيل : هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار قوله : { وذوقوا عذاب الحريق } قاله الفراء المعنى : ويقولون ذوقوا عذاب الحريق والجملة معطوفة على يضربون وقيل : إنه يقول لهم هذه المقالة خزنة جهنم والذوق قد يكون محسوسا وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار وأصله من الذوق بالفم (2/462)
والإشارة بقوله : 51 - { ذلك } إلى ما تقدم من الضرب والعذاب والباء في { بما قدمت أيديكم } سببية : أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي واقترفتم من الذنوب وجملة { وأن الله ليس بظلام للعبيد } في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي والأمر أنه لا يظلمهم ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبرا لقوله : { ذلك } وهي { بما قدمت أيديكم } أي ذلك العذاب بسبب المعاصي وبسبب { أن الله ليس بظلام للعبيد } لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وأوضح لهم السبيل وهداهم النجدين كما قال سبحانه : { وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } (2/462)
قوله : 52 - { كدأب آل فرعون } لما ذكر الله سبحانه ما أنزله بأهل بدر أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين والدأب : العادة والكاف في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف : أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون { والذين من قبلهم } والمعنى : أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر وجملة قوله : { كفروا بآيات الله } مفسرة لدأب آل فرعون : أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم والمراد بذنوبهم : معاصيهم المترتبة على كفرهم فيكون الباء في { بذنوبهم } للملابسة أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها وجملة { إن الله قوي شديد العقاب } معترضة مقررة لمضمون ما قبلها (2/462)
والإشارة بقوله : 53 - { ذلك } إلى العقاب الذي أنزله الله بهم وهو مبتدأ وخبره ما بعده والجملة جارية مجرى التعليل لما حل بهم من عذاب الله والمعنى : أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم { حتى يغيروا ما بأنفسهم } من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمط إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومن عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه والعمل به من شكرها وقبولها وجملة { وأن الله سميع عليم } معطوفة على { بأن الله لم يك مغيرا نعمة } داخلة معها في التعليل : أي ذلك بسبب أن الله لم يك مغيرا إلخ وبسبب أن الله سميع عليم يسمع ما يقولونه ويعلم ما يفعلونه وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف (2/463)
ثم كرر ما تقدم فقال : 54 - { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم } لقصد التأكيد مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بأنه كان بالإغراق وقيل : إن الأول باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم والثاني باعتبار ما فعل بهم وقيل : المراد بالأول كفرهم بالله وبالثاني تكذيبهم الأنبياء وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف والكلام في { أهلكناهم بذنوبهم } كالكلام المتقدم في { فأخذهم الله بذنوبهم } { وأغرقنا آل فرعون } معطوف على أهلكناهم عطف الخاص على العام لفظاعته وكونه من أشد أنواع الإهلاك ثم حكم على الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله وبالظلم لغيرهم كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } قال : الذين قتلهم الله ببدر من المشركين وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : قال رجل يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك قال : ذلك ضرب الملائكة وهذا مرسل وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وأدبارهم } قال : وأستاههم ولكن الله كريم يكني وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } قال : نعمة الله : محمد صلى الله عليه و سلم أنعم الله به على قريش فكفروا فنقله الله إلى الأنصار (2/463)
قوله : 55 - { إن شر الدواب } أي شر ما يدب على وجه الأرض { عند الله } أي في حكمه { الذين كفروا } أي المصرون على الكفر المتمادون في الضلال ولهذا قال : { فهم لا يؤمنون } أي إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبدا ولا يرجعون عن الغواية أصلا وجعلهم شر الدواب لا شر الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم (2/464)
قوله : 56 - { الذين عاهدت منهم } بدل من الذين كفروا أو عطف بيان أو في محل نصب على الذم والمعنى : أن هؤلاء الكافرين الذين هم شر الدواب عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم : أي أخذت منهم عهدهم { ثم } هم { ينقضون عهدهم } الذي عاهدتم { في كل مرة } من مرات المعاهدة { و } الحال أنـ { وهم لا يتقون } النقض ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه وقيل إن من في قوله : { منهم } للتبعيض ومفعول عاهدت محذوف : أي الذين عاهدتهم وهم بعض أولئك الكفرة : يعني الأشراف منهم وعطف المستقبل وهو ثم ينقضون على الماضي وهو عاهدت للدلالة على استمرار النقض منهم وهؤلاء هم قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك كما سيأتي (2/464)
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشدة والغلظة عليهم فقال : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم } أي فإما تصادفنهم في ثقاف وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها وتتمكن من غلبهم { فشرد بهم من خلفهم } أي ففرق بقتلهم والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك حتى يهابوا جانبك ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء والثقاف في أصل اللغة : ما يشد به القناة أو نحوها ومنه قول النابغة :
( تدعو قعيبا وقد غص الحديد بها ... غص الثقاف على ضم الأنابيب )
يقال : ثقفته : وجدته وفلان ثقف : سريع الوجود لما يحاوله والتشريد : التفريق مع الاضطراب وقال أبو عبيدة : { شرد بهم } سمع بهم وقال الزجاج : افعل بهم فعلا من القتل تفرق به من خلفهم يقال : شردت بني فلان : قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها قال الشاعر :
( أطوف في الأباطح كل يوم ... مخافة أن يشردني حكيم )
ومنه شرد البعير : إذا فارق صاحبه وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : ( فشرذ بهم ) بالذال المعجمة قال قطرب : التشريذ بالذال المعجمة هو التنكيل وبالمهملة هو التفريق وقال المهدي : الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما قال : ولا يعرف فشرذ في اللغة وقرئ { من خلفهم } بكسر الميم والفاء (2/464)
قوله : 58 - { وإما تخافن من قوم خيانة } أي غشا ونقضا للعهد من القوم المعاهدين { فانبذ إليهم } أي فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم { على سواء } على طريق مستوية والمعنى : أنه يخبرهم إخبارا ظاهرا مكشوفا بالنقض ولا يناجزهم الحرب بغتة وقيل معنى { على سواء } على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم أو تستوي أنت وهم فيه قال الكسائي : السواء العدل وقد يكون بمعنى الوسط ومنه قوله : { في سواء الجحيم } ومنه قول حسان :
( يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد )
ومن الأول قول الشاعر :
( فاضرب وجوه الغدر الأعداء ... حتى يجيبوك إلى سواء )
وقيل معنى : { فانبذ إليهم على سواء } على جهر لا على سر والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه قال ابن عطية : والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله : { فشرد بهم من خلفهم } ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة وجملة { إن الله لا يحب الخائنين } تعليل لما قبلها يحتمل أن تكون تحذيرا لرسول الله صلى الله عليه و سلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة (2/465)
قوله : 59 - { ولا تحسبن } قرأ ابن عامر ويزيد وحفص بالياء التحتية وقرأ الباقون بالمثناة من فوق فعلى القراءة الأولى يكون الذين كفروا فاعل الحسبان ويكون مفعوله الأول محذوفا : أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ومفعوله الثاني سبقوا ومعناه : فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومفعوله الأول الذين كفروا والثاني سبقوا وقرئ { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } وقرئ يحسبن بكسر الياء وجملة { إنهم لا يعجزون } تعليل لما قبلها أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم وقرأ ابن عامر أنهم بفتح الهمزة والباقون بكسرها وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة تعليلية وقيل : المراد بهذه الآية من أفلت من وقعة بدر من المشركين والمعنى : أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن قراءة من قرأ يحسبن بالتحتية لحن لا تحل القراءة بها لأنه لم يأت ليحسبن بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين قال النحاس : وهذا تحامل شديد ومعنى هذه القراءة : ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا فيكون الضمير يعود على ما قتدم إلا أن القراءة بالتاء أبين وقال المهدوي : يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلا والمفعول الأول محذوف والمعنى : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا قال مكي : ويجوز أن يضمر مع سبقوا أن فتسد مسد المفعولين والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا فهو مثل { أحسب الناس أن يتركوا } في سد أن مسد المفعولين (2/465)
ثم أمر سبحانه بإعداد القوة للأعداء والقوة كل ما يتقوى به في الحرب ومن ذلك السلاح والقسي وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو على المنبر يقول : [ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي قالها ثلاث مرات ] وقيل هي الحصون والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم متعين قوله : 60 - { ومن رباط الخيل } قرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة ( ومن ربط الخيل ) بضم الراء والباء ككتب : جمع كتاب قال أبو حاتم : الرباط من الخيل الخمس فما فوقها وهي الخيل التي ترتبط بإزار العدو ومنه قول الشاعر :
( أمر الإله بربطها لعدوه ... في الحرب إن الله خير موفق )
قال في الكشاف : والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال انتهى ومن فسر القوة بكل ما يتقوى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام وجملة { ترهبون به عدو الله وعدوكم } في محل نصب على الحال والترهيب والتخويف والضمير في به عائد إلى ما في ما استطعتم أو إلى المصدر المفهوم من وأعدوا وهو الإعداد والمراد بعدو الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة وغيرهم من مشركي العرب قوله : { وآخرين من دونهم } معطوف على عدو الله وعدوكم ومعنى من دونهم : من غيرهم قيل هم اليهود وقيل فارس والروم وقيل الجن ورجحه ابن جرير وقيل المراد بالآخرين من غيرهم كل من لا تعرف عداوته قاله السهيلي وقيل هم بنو قريظة خاصة وقيل غير ذلك والأولى الوقف في تعيينهم لقوله : { لا تعلمونهم الله يعلمهم } قوله : { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله } أي في الجهاد وإن كان يسيرا حقا { يوف إليكم } جزاؤه في الآخرة فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة كما قررناه سابقا { وأنتم لا تظلمون } في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله : أي من ثوابها بل يصير ذلك إليكم وافيا وافرا كاملا : { وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } { أني لا أضيع عمل عامل منكم }
وقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : نزلت { إن شر الدواب عند الله } الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم } قال : قريظة يوم الخندق مالأوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أعداءه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فشرد بهم من خلفهم } قال : نكل بهم من بعدهم وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : نكل بهم من وراءهم وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال : أنذر بهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : عظ بهم من سواهم من الناس وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : أخفهم بهم وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { لعلهم يذكرون } يقولون : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك وأخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال : دخل جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة وأنزل فيهم { وإما تخافن من قوم خيانة } الآية وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إنهم لا يعجزون } قال : لا يفوتونا وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } قال : الرمي والسيوف والسلاح وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } قال : أمرهم بإعداد الخيل وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن عكرمة في الآية قال : القوة ذكور الخيل والرباط الإناث وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في الآية قال : القوة الفرس إلى السهم فما دونه وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : القوة الحصون و { من رباط الخيل } قال : الإناث وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ترهبون به عدو الله وعدوكم } قال : تخزون به عدو الله وعدوكم وقد ورد في استحباب الرمي وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة وكذلك ورد في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها وكثرة ثواب صاحبها أحاديث لا يتسع المقام لبسطها وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات (2/466)
الجنوح : الميل يقال : جنح الرجل إلى الرجل : مال إليه ومنه قيل للأضالع جوانح لأنها مالت إلى الحنوة وجنحت الإبل : إذا مالت أعناقها في السير ومنه قول ذي الرمة :
( إذا مات فوق الرحل أحييت روحه ... بذكراك والعيس المراسيل جنح )
ومثله قول عنترة :
( جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب )
يعني الطير والسلم : الصلح قرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل بكسر السين وقرأ الباقون بفتحها وقرأ العقيلي { فاجنح } بضم النون وقرأ الباقون بفتحها والأولى لغة قيس والثانية لغة تميم قال ابن جني : ولغة قيس هي القياس والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب أو هي مؤولة بالخصلة أو الفعلة
وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة ؟ فقيل : هي منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } وقيل : ليست بمنسوخة لأن المراد بها قبول الجزية وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم فتكون خاصة بأهل الكتاب وقيل : إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزة وقوة لا إذا لم يكونوا كذلك فهو جائز كما وقع منه صلى الله عليه و سلم من مهادنة قريش وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرر في مواطنه { وتوكل على الله } في جنوحك للسلم ولا تخف من مكرمهم فـ { إنه } سبحانه { هو السميع } لما يقولون { العليم } بما يفعلون (2/468)
62 - { وإن يريدوا أن يخدعوك } بالصلح وهم مضمرون الغدر والخدع { فإن حسبك الله } أي كافيك ما تخافه من شرورهم بالنكث والغدر وجملة { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } تعليلية : أي لا تخف من خدعهم ومكرهم فإن الله الذي قواك عليهم بالنصر فيما مضى وهو يوم بدر هو الذي سينصرك ويقويك عليهم عند حدوث الخدع والنكث والمراد بالمؤمنين المهاجرين والأنصار (2/469)
ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال : 63 - { وألف بين قلوبهم } وظاهره العموم وأن ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله وقال جمهور المفسرين : المراد الأوس والخزرج فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة فألف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل : أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار والحمل على العموم أولى فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضا ولا يحترم ماله ولا دمه حتى جاء الإسلام فصاروا يدا واحدة وذهب ما كان بينهم من العصبية وجملة { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } مقررة لمضمون ما قبلها والمعنى أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حد لا يمكن دفعه بحال من الأحوال ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض لم يتم له ما طلبه من التأليف لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جدا { ولكن الله ألف بينهم } بعظيم قدرته وبديع صنعه { إنه عزيز } لا يغالبه مغالب ولا يستعصي عليه أمر من الأمور { حكيم } في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وإن جنحوا للسلم } قال : قريظة وأخرج أبو الشيخ عن السدي في الآية قال : نزلت في بني قريظة نسختها { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } إلى آخر الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : السلم الطاعة وأخرج أبو الشيخ عنه في الآية قال : إن رضوا فارض وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : إن أرادوا الصلح فأرده وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : نسختها هذه الآية : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله : { وهم صاغرون } وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ عن قتادة قال : ثم نسخ ذلك { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وإن يريدوا أن يخدعوك } قال : قريظة وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وبالمؤمنين } قال : بالأنصار وأخرج ابن مردويه عن النعمان بن بشير نحوه وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه أيضا وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال : مكتوب على العرش لا إله إلا الله أنا الله وحدي لا شريك لي ومحمد عبدي ورسولي أيدته بعلمي وذلك قوله : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } وأخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا والنسائي والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله { لو أنفقت ما في الأرض جميعا } الآية وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان واللفظ له عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ومنة المنعم تكفر ولم نر مثل تقارب القلوب يقول الله : { لو أنفقت ما في الأرض جميعا } الآية وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم والبيهقي عنه نحوه وليس في هذا عن ابن عباس ما يدل على أنه سبب النزول ولكن الشأن في قول ابن مسعود رضي الله عنه : إن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله مع أن الواقع قبلها { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } والواقع بعدها { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ومع كون الضمير في قوله : { ما ألفت بين قلوبهم } يرجع إلى المؤمنين المذكورين قبله بلا شك ولا شبهة وكذلك الضمير في قوله : { ولكن الله ألف بينهم } فإن هذا يدل على أن التأليف المذكور هو بين المؤمنين الذين أيد الله بهم رسوله صلى الله عليه و سلم (2/469)
قوله : 64 - { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ليس هذا تكريرا لما قبله فإن الأول مقيد بإرادة الخدع { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله } فهذه كفاية خاصة وفي قوله : { يا أيها النبي حسبك الله } كفاية عامة غير مقيدة : أي حسبك الله في كل حال والواو في قوله : { ومن اتبعك } يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف والمعنى : حسبك الله وحسبك المؤمنون : أي كافيك الله وكافيك المؤمنون ويحتمل أن تكون بمعنى مع كما تقول : حسبك وزيدا درهم والمعنى : كافيك وكافي المؤمنين الله لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرر في علم النحو وأجازه الكوفيون قال الفراء : ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك بل المستعمل أن يقال : حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار فلو كان قوله : { ومن اتبعك } مجرورا لقيل : حسبك الله وحسب من اتبعك واختار النصب على المفعول معه النحاس وقيل : يجوز أن يكون المعنى : ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله فحذف الخبر (2/470)
قوله : 65 - { حرض المؤمنين على القتال } أي حثهم وحضهم والتحريض في اللغة : المبالغة في الحث وهو كالتحضيض مأخوذ من الحرض وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور به ثم بشرهم تثبيتا لقلوبهم وتسكينا لخواطرهم بأن الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار فقال : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } ثم زاد هذا إيضاحا مفيدا لعدم اختصاص هذه البشارة بهذا العدد بل هي جارية في كل عدد فقال : { وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا } وفي هذا دلالة على أن الجماعة من المؤمنين قليلا كانوا أو كثيرا لا يغلبهم عشرة أمثالهم من الكفار بحال من الأحوال وقد وجد في الخارج ما يخالف ذلك فكم من طائفة من طوائف الكفار يغلبون من هو مثل عشرهم من المسلمين بل مثل نصفهم بل مثلهم وأجيب عن ذلك بأن وجود هذا في الخارج لا يخالف ما في الآية لاحتمال أن لا تكون الطائفة من المؤمنين متصفة بصفة الصبر وقيل : إن هذا الخبر الواقع في الآية هو في معنى الأمر كقوله تعالى : { والوالدات يرضعن } { والمطلقات يتربصن } فالمؤمنون كانوا مأمورين من جهة الله سبحانه بأن تثبت الجماعة منهم لعشرة أمثالهم ثم لما شق ذلك عليهم واستعظموه خفف عنهم ورخص لهم لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم فقال : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } إلى آخر الآية فأوجب على الواحد أن يثبت لاثنين من الكفار وقرأ حمزة عن عاصم { ضعفا } بفتح الضاد وقوله : { بأنهم قوم لا يفقهون } متعلق بقوله : { يغلبوا } أي إن هذا الغلب بسبب جهلهم وعدم فقههم وأنهم يقاتلون على غير بصيرة ومن كان هكذا فهو مغلوب في الغالب وقد قيل في نكتة التنصيص على غلب العشرين للمائتين والمائة للألف أن سراياه التي كان بعثها صلى الله عليه و سلم كان لا ينقص عددها عن العشرين ولا يجاوز المائة وقيل في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المائة للمائتين والألف للألفين على أنه بشارة للمسلمين بأن عساكر الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف (2/471)
66 - { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله وتيسيره لا بقوتهم وجلادتهم ثم بشرهم بأنه مع الصابرين وفيه الترغيب إلى الصبر والتأكيد عليهم بلزومه والتوصية به وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر لأن من كان الله معه لم يستقم لأحد أن يغلبه وقد اختلف أهل العلم هل هذا التخفيف نسخ أم لا ؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة
وقد أخرج البزار عن ابن عباس قال : لما أسلم عمر قال المشركون : قد انتصف القوم منا اليوم وأنزل الله : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أسلم مع النبي صلى الله عليه و سلم تسعة وثلاثون رجلا وامرأة ثم إن عمر أسلم صاروا أربعين فنزل : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : لما أسلم مع النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثة وثلاثون وست نسوة ثم أسلم عمر نزلت : { يا أيها النبي حسبك الله } وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزهري في الآية قال : نزلت في الأنصار وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي في قوله : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } قال : حسبك الله وحسب من اتبعك وأخرج البخاري و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : لما نزلت { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } فكتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة وأن لا يفر عشرون من مائتين ثم نزلت : { الآن خفف الله عنكم } الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين قال سفيان وقال ابن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا إن كانا رجلين أمرهما وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : لما نزلت { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف { الآن خفف الله عنكم } الآية قال : فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم (2/472)
هذا حكم آخر من أحكام الجهاد ومعنى 67 - { ما كان لنبي } ما صح له وما استقام قرأ أبو عمرو وسهيل ويعقوب ويزيد والمضل { أن تكون } بالفوقية وقرأ الباقون بالتحتية وقرأ أيضا يزيد والمفضل أسارى وقرأ الباقون أسرى والأسرى جمع أسير مثل قتلى وقتيل وجرحى وجريح ويقال في جمع أسير أيضا أسارى بضم الهمزة وفتحها وهو مأخوذ من الأسر وهو القد لأنهم كانوا يشدون به الأسير فسمي كل أخيذ وإن لم يشد بالقد أسيرا قال الأعشى :
( وقيدني الشعر في بيته ... كما قيدت الأسرات الحمارا )
وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون والأسارى هم الموثقون رقا والإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه تقول العرب : أثخن فلان في هذا الأمر : أي بالغ فيه فالمعنى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك وقيل معنى الإثخان : التمكن وقيل هو القوة أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال : { فإما منا بعد وإما فداء } كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله قوله : { تريدون عرض } الحياة { الدنيا } أي نفعها ومتاعها بما قبضتم من الفداء وسمي عرضا لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر { والله يريد الآخرة } أي يريد لكم الدار الآخرة بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل وقرئ يريد الآخرة بالجر على تقدير مضاف وهو المذكور قبله : أي والله يريد عرض الآخرة { والله عزيز } لا يغالب { حكيم } في كل أفعاله (2/473)
قوله : 68 - { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو ؟ على أقوال : الأول : ما سبق في علم الله من أنه سيحل لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرمة على سائر الأمم والثاني : أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر كما في الحديث الصحيح : [ إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] القول الثالث : هو أنه لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم كما قال سبحانه : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } القول الرابع : أنه لا يعذب أحدا بذنب فعله جاهلا لكونه ذنبا القول الخامس : أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر القول السادس : أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم نهي عن ذلك وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها { لمسكم } أي لحل بكم { فيما أخذتم } أي لأجل ما أخذتم من الفداء { عذاب عظيم } (2/473)
والفاء في 69 - { فكلوا مما غنمتم } لترتيب ما بعدها على سبب محذوف : أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم ويجوز أن تكون عاطفة على مقدر محذوف : أي اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره وقيل إن { ما } عبارة عن الفداء : أي كلوا من الفداء الذي غنمتم فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و { حلالا طيبا } منتصبان على الحال أو صفة المصدر المحذوف : أي أكلا حلالا طيبا { واتقوا الله } فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به { إن الله غفور } لما فرط منكم { رحيم } بكم فلذلك رخص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان
وقد أخرج أحمد عن أنس قال : [ استشار النبي صلى الله عليه و سلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال : إن الله قد أمكنم منهم فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم ثم عاد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس فقام عمر فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم ثم عاد فقال مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء فعفا عنهم وقبل منهم الفداء فأنزل الله : { لولا كتاب من الله سبق } الآية ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : [ لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما تريدون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه
عليهم نارا فقال العباس وهو يسمع : قطعت رحمك فدخل النبي صلى الله عليه و سلم عليهم ولم يرد عليهم شيئا فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر وقال أناس : يأخذ بقول عمر وقال قوم : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال : { من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق فقال عبد الله : يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إلا سهيل بن بيضاء
فأنزل الله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } الآية ] وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي قال : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في الأسارى يوم بدر : إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتم واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم فكان آخر السبعين ثابت بن قيس استشهد باليمامة ] وأخرج عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة عن عبيدة نحوه وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عمر قال : [ لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسره أسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار أن يقتلوه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه فقال له عمر : فآتيهم ؟ قال : نعم فأتى عمر الأنصار فقال : أرسلوا العباس فقالوا : لا والله لا نرسل فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم رضا قالوا : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم رضا فخذه فأخذه عمر فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم فوالله إن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يعجبه إسلامك قال : فاستشار رسول الله أبا بكر فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم فاستشار عمر فقال : اقتلهم ففاداهم رسول الله فأنزل الله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } الآية ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { حتى يثخن في الأرض } يقول حتى يظهروا على الأرض وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : الإثخان هو القتل وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد أيضا في الآية قال : ثم نزلت الرخصة بعد إن شئت فمن وإن شئت ففاد وأخرج ابن المنذر عن قتادة { تريدون عرض الدنيا } قال : أراد أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يوم بدر الفداء ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة { تريدون عرض الدنيا } قال : الخراج وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { لولا كتاب من الله سبق } قال : سبق لهم المغفرة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : ما سبق لأهل بدر من السعادة وأخرج النسائي وابن مردويه وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعملوا بالمعصية وأخرج أبو حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : سبق أن لا يعذب أحدا حتى يبين له ويتقدم إليه (2/474)
اختلاف القراء في أسرى والأسارى هو هنا كما سبق في الآية التي قبل هذه خاطب الله النبي صلى الله عليه و سلم بهذا : أي قل لهؤلاء الأسرى الذين هم في أيديكم أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم الفداء 70 - { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } من حسن إيمان وصلاح نية وخلوص طوية { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } من الفداء : أي يعوضكم في هذه الدنيا رزقا خيرا منه وأنفع لكم أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة { ويغفر لكم } ذنوبكم { والله غفور رحيم } شأنه المغفرة لعباده والرحمة لهم (2/476)
ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيرا ذكر من هو على ضد ذلك منهم فقال : 71 - { وإن يريدوا خيانتك } بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدقوك ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة بل هو مماكرة ومخادعة فليس ذلك بمستبعد منهم فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه وهو أنهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم فكفروا به وقاتلوا رسوله { فأمكن منهم } بأن نصرك عليهم في يوم بدر فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت { والله عليم } بما في ضمائرهم { حكيم } في أفعاله بهم
وقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت : [ لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في فداء أبي العاص وبعثت فيه بقلادة فلما رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم رق رقة مباشرة وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وقال العباس : إني كنت مسلما يا رسول الله قال : الله أعلم بإسلامك فإن تكن كما تقول فالله يجزيك فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو قال : ما ذاك عندي يا رسول الله قال : فأين المال الذي دفنت أنت وأم الفضل ؟ فقلت لها : إن أصبت فهذا المال لبني ؟ فقال : والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها فاحسب لي ما أصبتم مني عشرون أوقية من مال كان معي قال : لا أفعل ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ونزلت : { قل لمن في أيديكم من الأسرى } الآية فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله ] وأخرج ابن سعد والحاكم وصححه عن أبي موسى [ أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بمال من البحرين ثمانين ألفا فما أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم مال أكثر منه فنشر
على حصير وجاء الناس فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطيهم وما كان يومئذ عدد ولا وزن فجاء العباس فقال : يا رسول الله إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر أعطني من هذا المال فقال : خذ فحثا في خميصته ثم ذهب ينصرف فلم يستطع فرفع رأسه وقال : يا رسول الله ارفع علي فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وذهب وهو يقول : أما أحد اللذين وعد الله فقد أنجزنا وما ندري ما يصنع في الأخرى { قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم } فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة ] والروايات في هذا الباب كثيرة وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في الأسارى يوم بدر منهم العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه في قوله : { وإن يريدوا خيانتك } إن كان قولهم كذبا { فقد خانوا الله من قبل } فقد كفروا وقاتلوك { فأمكن } ك الله { منهم } (2/476)
ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به وسمى سبحانه المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلبا لما عند الله وإجابة لداعيه { والذين آووا ونصروا } هم الأنصار والإشارة بقوله : { أولئك } إشارة إلى الموصول الأول والآخر وهو مبتدأ وخبره الجملة المذكورة بعده ويجوز أن يكون { بعضهم } بدلا من اسم الإشارة والخبر { أولياء بعض } أي بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة وقيل المعنى : إن بعضهم أولياء بعض في الميراث وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } قوله : { والذين آمنوا } مبتدأ وخبره { ما لكم من ولايتهم من شيء } قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة { من ولايتهم } بكسر الواو وقرأ الباقون بفتحها : أي ما لكم من نصرتهم وإعانتهم أو من ميراثهم ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم { حتى يهاجروا } فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة { وإن استنصروكم } أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين { فعليكم النصر } أي فواجب عليكم النصر { إلا } أن يستنصروكم { على قوم بينكم وبينهم ميثاق } فلا تنصروهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته قال الزجاج : ويجوز فعليكم النصر بالنصب على الإغراء (2/478)
قوله : 73 - { والذين كفروا } مبتدأ خبره { بعضهم أولياء بعض } أي بعضهم ينصر بعضا ويتولاه في أموره أو يرثه إذا مات وفيه تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم قوله : { إلا تفعلوه } الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم على التفصيل المذكور وترك موالاة الكافرين { تكن فتنة في الأرض } أي تقع فتنة إن لم تفعلوا ذلك { وفساد كبير } أي مفسدة كبيرة في الدين والدنيا (2/478)
ثم بين سبحانه حكما آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين أووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار فقال : 74 - { أولئك هم المؤمنون حقا } أي الكاملون في الإيمان وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء والأول وارد في إيجاب الموالاة والنصرة ثم أخبر سبحانه أن { لهم } منه { مغفرة } لذنوبهم في الآخرة { و } لهم في الدنيا { رزق كريم } خالص عن الكدر طيب مستلذ (2/479)
ثم أخبر سبحانه بأن من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المجاهدين الأولين والأنصار فهو من جملتهم : أي من جملة المهاجرين الأولين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم ثم بين سبحانه بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث والمراد بهم القرابات فيتناول كل قرابة وقيل المراد بهم هنا العصبات قالوا : ومنه قول العرب : وصلتك رحم فإنهم لا يريدون قرابة الأم قالوا : ومنه قول قتيلة :
( ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق )
ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات وقد استدل بهذه الآية من أثبت ميراث ذوي الأرحام وهم من ليس بعصبة ولا ذي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث والخلاف في ذلك معروف مقرر في مواطنه وقد قيل : إن هذه الآية ناسخه للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدم من قوله : { بعضهم أولياء بعض } وما بعده بالتوارث وأما من فسرها بالنصرة والمعونة فيجعل هذه الآية إخبارا منه سبحانه وتعالى بأن القرابات 75 - { بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن ويدخل في هذه الأولوية الميراث دخولا أوليا لوجود سببه أعني القرابة { إن الله بكل شيء عليم } لا يخفى عليه شيء من الأشياء كائنا ما كان ومن جملة ذلك ما تضمنته هذه الآيات
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إن الذين آمنوا وهاجروا } الآية قال : إن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم على ثلاث منازل منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه وفي قوله : { والذين آووا ونصروا } قال : آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة وشهروا السيوف على من كذب وجحد فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض وفي قوله : { والذين آمنوا ولم يهاجروا } قال : كانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم وهي الولاية التي قال : { ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } كان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قوتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم ميثاق فلا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذي لا ميثاق لهم ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا { والذين آمنوا ولم يهاجروا } فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبا مفروضا لقوله : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } الآية وفي رواية لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أولئك بعضهم أولياء بعض } قال : يعني في الميراث جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } ما لكم من ميراثهم من شيء { حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين } يعني إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدو لهم فعليهم أن ينصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق فكانوا يعملون على ذلك حتى أنزل الله هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } فنسخت الآية التي قبلها وصارت المواريث لذوي الأرحام وأخرج أبو عبيد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في هذه الآيات قال : كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابي المهاجر فنسختها هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه أيضا قال : قال رجل من المسلمين : لنورثن ذوي القربى منا من المشركين فنزلت : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ] وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافرا ولا كافرا مسلما ثم قرأ : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } الآية ] وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله فينا خاصة معشر قريش : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم فآخونا فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخى عمر فلانا وآخى عثمان بن عفان رجلا من بني زريق بن سعد الزرقي قال الزبير : وآخيت أنا كعب بن مالك ووارثونا ووارثناهم فلما كان يوم أحد قيل لي : قد قتل أخوك كعب بن مالك فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما يرى فوالله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار فرجعنا إلى مواريثنا وأخرج أبو داود الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب (2/479)
سورة التوبة
هي مائة وثلاثون آية وقيل مائة وسبع وعشرون آية ولها أسماء : منها سورة التوبة لأن فيها التوبة على المؤمنين وتسمى الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها : ومنهم ومنهم حتى كادت أن لا تدع أحدا وتسمى البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة البحث وتسمى أيضا بأسماء آخر كالمقشقشة لكونها تقشقش من النفاق : أي تبرئ منه والمخزية لكونها أخزت المنافقين والمثيرة لكونها تثير أسرارهم والحافرة لكونها تحفر عنها والمنكلة لما فيها من التنكيل لهم والمدمدمة لأنها تدمدم عليهم
وهي مدنية قال القرطبي باتفاق وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : نزلت براءة بعد فتح مكة وأخرج ابن مردويه عنه قال : نزلت سورة التوبة بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحوه وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه أيضا وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء قال : آخر آية نزلت : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وآخر سورة تامة براءة
وقد اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أولها على أقوال : الأول : عن المبرد وغيره : أنه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه و سلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : سألت علي بن أبي طالب لم لا تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال وأخرج أبو الشيخ عن أبي رجاء قال : سألت الحسن عن الأنفال وبراءة أسورتان أو سورة ؟ قال : سورتان وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة قال : يسمون هذه السورة سورة التوبة وهي سورة العذاب وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال في هذه السورة : هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها وأخرج أبو الشيخ عن عمر نحوه وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن أسلم أن رجلا قال لعبد الله بن عمر سورة التوبة فقال ابن عمر : وأيتهن سورة التوبة ثم قال : وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي ؟ ما كنا ندعوها إلا المقشقشة وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : يسمونها سورة التوبة وإنها لسورة عذاب وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال : كانت براءة تسمى في زمن النبي صلى الله عليه و سلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال : كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أبي عطية الهمداني قال : كتب عمر بن الخطاب : تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور ومن جملة الأقوال في حذف البسملة أنها كانت تعدل سورة البقرة أو قريبا منها وأنه لما سقط أولها سقطت البسملة روي هذا عن مالك بن أنس وابن عجلان ومن جملة الأقوال في سقوط البسملة أنهم لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف الصحابة فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما وقول من جعلهما سورة واحدة أظهر لأنهما جميعا في القتال وتعدان جميعا سابعة السبع الطوال
قوله : 1 - { براءة من الله ورسوله } برئت من الشيء أبرأ براءة وأنا منه بريء : إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه وبراءة مرتفعة على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي هذه براءة ويجوز أن ترتفع على الابتداء لأنها نكرة موصوفة والخبر { إلى الذين عاهدتم } وقرأ عيسى بن عمر { براءة } بالنصب على تقدير اسمعوا براءة أو على تقدير التزموا براءة لأن فيها معنى الإغراء و من في قوله : { من الله } لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وقع صفة : أي واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم وقرأ روح وزيد بنصب رسوله وقرأ الباقون بالرفع والعهد : العقد الموثق باليمين والخطاب في عاهدتم للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله ومن الرسول صلى الله عليه و سلم والمعنى : الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض فصار النبذ إليهم بعهدهم واجبا على المعاهدين من المسلمين ومعنى براءة الله سبحانه : وقوع الإذن منه سبحانه بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة والتهويل لها والتسجيل على المشركين بالذل والهوان ما لا يخفى (2/481)
قوله : 2 - { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } هذا أمر منه سبحانه بالسياحة بعد الإخبار بتلك البراءة والسياحة : السير يقال : ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ومنه سيح الماء في الأرض وسيح الخيل ومنه قول طرفة بن العبد :
( لو خفت هذا منك ما نلتني ... حتى ترى خيلا أمامي تسيح )
ومعنى الآية أن الله سبحانه بعد أن أذن بالنبذ إلى المشركين بعهدهم أباح للمشركين الضرب في الأرض والذهاب إلى حيث يريدون والاستعداد للحرب هذه الأربعة الأشهر وليس المراد من الأمر بالسياحة تكليفهم بها قال محمد بن إسحاق وغيره : إن المشركين صنفان : صنف كانت مدة عهدهم أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر والآخر كانت أكثر من ذلك فقصر على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث يوجد وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاح الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما : عشرون من ذي الحجة وشهر محرم وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } ورجح هذا ابن جرير وغيره وسيأتي في آخر البحث من الرواية ما يتضح به معنى الآية : { واعلموا أنكم غير معجزي الله } أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ليتوب من تاب وفي ذلك ضرب من التهديد كأنه قيل : افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم : أي مذلكم ومهينكم في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب وفي وضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن سبب هذا الإخزاء هو الكفر ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين فيدخل فيه المخاطبون دخولا أوليا (2/483)
قوله : 3 - { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } ارتفاع أذان على أنه خبر مبتدأ محذوف أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده على ما تقدم في ارتفاع براءة والجملة هذه معطوفة على جملة { براءة من الله ورسوله } وقال الزجاج : إن قوله : وأذان معطوف على قوله براءة واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لكن أذان مخبر عنه بالخبر الأول وهو { إلى الذين عاهدتم من المشركين } وليس ذلك بصحيح بل الخبر هو إلى الناس والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ومعنى قوله : { إلى الناس } التعميم في هذا : أي أنه إيذان من الله إلى كافة الناس غير مختص بقوم دون قوم فهذه الجملة متضمنة للإخبار بوجوب الإعلام لجميع الناس والجملة الأولى متضمنة للإخبار بالبراءة إلى المعاهدين خاصة و { يوم الحج } ظرف لقوله وأذان ووصفه بالأكبر لأنه يجتمع فيه الناس أو لكون معظم أفعال الحج فيه
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا اليوم المذكور في الآية فذهب جمع منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة ومجاهد أنه يوم النحر ورجحه ابن جرير وذهب آخرون منهم عمر وابن عباس وطاوس أنه يوم عرفة والأول أرجح لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من بعثه لإبلاغ هذا إلى المشركين أن يبلغهم يوم النحر قوله : { أن الله بريء من المشركين ورسوله } قرئ بفتح أن على تقدير بأن الله بريء من المشركين فحذفت الباء تخفيفا وقرئ بكسرها لأن في الإيذان معنى القول وارتفاع رسوله على أنه معطوف على موضع اسم أن أو على الضمير في بريء أو على أنه مبتدأ وخبره محذوف والتقدير : ورسوله بريء منهم وقرأ الحسن وغيره { ورسوله } بالنصب عطفا على لفظ اسم أن وقرئ ورسوله بالجر على أن الواو للقسم روي ذلك عن الحسن وهي قراءة ضعيفة جدا إذ لا معنى للقسم برسول الله صلى الله عليه و سلم هاهنا مع ما ثبت من النهي عن الحلف بغير الله وقيل إنه مجرور على الجوار قوله : { فإن تبتم } أي من الكفر وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب قيل : وفائدة هذا الالتفات زيادة التهديد والضمير في قوله : { فهو } راجع إلى التوبة المفهومة من تبتم { خير لكم } مما أنتم فيه من الكفر { وإن توليتم } أي أعرضتم عن التوبة وبقيتم على الكفر { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } أي غير فائتين عليه بل هو مدرككم فمجازيكم بأعمالكم قوله : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } هذا تهكم بهم وفيه من التهديد ما لا يخفى
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال : إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر وعليا فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها أو بالموسم كله فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات عشرون من آخر ذي الحجة إىل عشر تخلو من ربيع الآخر ثم لا عهد هلم وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي قال : لما نزلت عشر آيات من براءة عن النبي صلى الله عليه و سلم دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال لي : أدرك يا أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاقرأه على أهل مكة فلحقته فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر وقال : يا رسول الله نزل في شيء قال : لا ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أنس نحوه وأخرج ابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص نحوه أيضا وأخرج أحمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل مكة ببراءة فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف البيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد فإن أجله وأمده إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن علي في يوم النحر ببراءة : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وأخرج الترمذي وحسنه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا فحجا فقام علي في أيام التشريق فنادى : إن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر ينادي بها وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن المنذر والنحاس والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن زيد بن تبيع قال : سألت عليا بأي شيء بعثت مع أبي بكر في الحج ؟ قال : بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع مؤمن وكافر بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { براءة من الله ورسوله } الآية قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا وحد أجل من ليس له عهد انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم خمسين ليلة فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمي لهم من العهد والميثاق وأذهب الشرط الأول { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } يعني أهل مكة وأخرج النحاس عنه نحو هذا وقال : ولم يعاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هذا أحدا وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس عن الزهري { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } قال : نزلت في شوال فهي الأربعة أشهر : شوال ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { وأذان من الله ورسوله } قال : هو إعلام من الله ورسوله وأخرج الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم النحر وأخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وأبو الشيخ عنه من قوله وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن قرط قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم يوم القر ] وأخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يوم الأضحى هذا يوم الحج الأكبر ] وأخرج البخاري تعليقا وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر :
[ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم النحر قال : هذا يوم الحج الأكبر ] وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر : يوم النحر والحج الأكبر : الحج وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم مشرك وأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } الآية وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب [ أن رسول الله قال زمن الفتح : إن هذا عام الحج الأكبر ] قال : [ اجتماع حج المسلمين وحج المشركين في ثلاثة أيام متتابعات واجتمع النصارى واليهود في ثلاثة أيام متتابعات فاجتمع حج المسلمين والمشركين والنصارى واليهود في ستة أيام متتابعات ولم يجتمع منذ خلق السموات والأرض كذلك قبل العام ولا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة ] وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال : ما لكم وللحج الأكبر ؟ ذاك عام حج فيه أبو بكر استخلفه رسول الله صلى الله عليه و سلم فحج بالناس واجتمع فيه المسلمون والمشركون فلذلك سمي الحج الأكبر ووافق عيد اليهود والنصارى وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر ألم تر أن الإمام يخطب فيه وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر ] وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال : الحج الأكبر يوم عرفة وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء البكري قال : سألت علي بن أبي طالب عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم عرفة وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن يوم عرفة يوم الحج الأكبر وأخرج ابن جرير عن الزبير نحوه
ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة في كون يوم النحر هو يوم الحج الأكبر هي ثابتة في الصحيحين وغيرهم من طرق فلا تقوى لمعارضتها هذه الروايات المصرحة بأنه يوم عرفة وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أنه سئل : هذا الحج الأكبر فما الحج الأصغر ؟ قال : عمرة في رمضان وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن إسحاق قال : سألت عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر فقال : الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر : العمرة وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن مسعود قال : سئل سفيان بن عيينة عن البشارة تكون في المكروه فقال : ألم تسمع قوله : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } (2/484)
الاستثناء بقوله : 4 - { إلا الذين عاهدتم } قال الزجاج : إنه يعود إلى قوله : { براءة } والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم وقال في الكشاف : إنه مستثنى من قوله : { فسيحوا } والتقدير : فقولوا لهم فسيحوا إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم فأتموا إليهم عهدهم قال : والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراه وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه وهو { وأذان من الله } إلخ وأجيب بأن ذلك لا يضر لأنه ليس بأجنبي وقيل : إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله فيكون متصلا وهو ضعيف قوله : { ثم لم ينقصوكم شيئا } أي لم يقع منهم أي نقص وإن كان يسيرا وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار ينقضوكم بالضاد المعجمة : أي لم ينقضوا عهدكم وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت عليه فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه و سلم بنقض عهد من نقض وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته { ولم يظاهروا عليكم أحدا } المظاهرة : المعاونة : أي لم يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم { فأتموا إليهم عهدهم } أي أدوا إليهم عهدهم تاما غير ناقص { إلى مدتهم } التي عاهدتموهم إليها وإن كانت أكثر من أربعة أشهر ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من القتال بعد مضي المدة المذكورة سابقا وهي أربعة أشهر أو خمسون يوما على الخلاف السابق (2/488)
قوله : 5 - { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } انسلاخ الشهر : تكامله جزءا فجزءا إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فاستعير لانقضاء الأشهر يقال : سلخت الشهر تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه ومنه قول الشاعر :
( إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ... كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي )
ويقال : سلخت المرأة درعها : نزعته وفي التنزيل { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار }
واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا فقيل : هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب : ثلاثة سرد وواحد فرد ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوما تنقضي بانقضاء شهر المحرم فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير وقيل المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } وسميت حرما لأن الله سبحانه حرم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرض لهم وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب وقيل : هي الأشهر المذكورة في قوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة ورجحه ابن كثير وحكاه عن مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله ومعنى { حيث وجدتموهم } في أي مكان وجدتموهم من حل أو حرم ومعنى { خذوهم } الأسر فإن الأخيذ هو الأسير ومعنى الحصر منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو يقال : رصدت فلانا أرصده : أي رقبته أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها قال عامر بن الطفيل :
( ولقد علمت وما إخالك عالما ... أن المنية للفتى بالمرصد )
وقال النابغة :
( أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ... وإن المنايا للنفوس بمرصد )
وكل في { كل مرصد } ينتصب على الظرفية وهو اختيار الزجاج وقيل : هو منتصب بنزع الخافض : أي في كل مرصد وخطأ أبو علي الفارسي الزجاج في جعله ظرفا وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك لا يخرج عنها إلا من خصته السنة وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم وقال الضحاك وعطاء والسدي : هي منسوخة بقوله : { فإما منا بعد وإما فداء } وأن الأسير لا يقتل صبرا بل يمن عليه أو يفادى وقال مجاهد وقتادة : بل هي ناسخه لقوله : { فإما منا بعد وإما فداء } وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل وقال ابن زيد : الآيتان محكمتان قال القرطبي : وهي الصحيح لأن المن والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم من أول حرب جاء بهم وهو يوم بدر قوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام وهو إقامة الصلاة وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات لكونه رأسها واكتفى بالركن الآخر المالي وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات لأنه أعظمها { فخلوا سبيلهم } أي اتركوهم وشأنهم فلا تأسروهم ولا تحصروهم ولا تقتلوهم { إن الله غفور } لهم { رحيم } بهم (2/489)
قوله : 6 - { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } يقال : استجرت فلانا : أي طلبت أن يكون جارا : محاميا ومحافظا من أن يظلمني ظالم أو يتعرض لي متعرض وأحد مرتفع بفعل مقدر يفسره المذكور بعده : أي وإن استجارك أحد استجارك وكرهوا الجمع بين المفسر والمفسر والمعنى : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم فأجره : أي كن جارا له مؤمنا محاميا { حتى يسمع كلام الله } منك ويتدبره حق تدبره ويقف على حقيقة ما تدعو إليه { ثم أبلغه مأمنه } أي إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتله فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه ووجوب قتله حيث يوجد والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم من الأمر بالإجارة وما بعده { بأنهم قوم لا يعلمون } أي بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إلا الذين عاهدتم } قال : هم قريش وأخرج أيضا عن قتادة قال : هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر فأمر نبيه أن يوفي بعهدهم هذا إلى مدتهم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن عباد بن جعفر في قوله : { إلا الذين عاهدتم } قال : هم بنو جذيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } قال : كان بقي لبني مذحج وخزاعة عهد فهو الذي قال الله : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين } قال : هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج من بني كنانة كانوا حلفاء للنبي صلى الله عليه و سلم في غزوة العشيرة من بطن ينبع { ثم لم ينقصوكم شيئا } ثم لم ينقصوا عهدكم بغدر { ولم يظاهروا عليكم أحدا } قال : لم يظاهروا عدوكم عليكم { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } يقول : أجلهم الذي شرطتم لهم { إن الله يحب المتقين } يقول : الذين يتقون الله فيما حرم عليهم فيوفون بالعهد قال : فلم يعاهد النبي صلى الله عليه و سلم بعد هؤلاء الآيات أحدا وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } قال : هي الأربعة : عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر قلت : مراد السدي أن هذه الأشهر تسمى حرما لكون تأمين المعاهدين فيها يستلزم تحريم القتال لا أنها الأشهر الحرم المعروفة وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : هي عشر من ذي القعدة وذي الحجة والمحرم سبعون ليلة وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال : هي الأربعة الأشهر التي قال : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحو قول السدي السابق وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس في قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ثم نسخ واستثنى فقال : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } وقال : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } يقول : من جاءك واستمع ما تقول واستمع ما أنزل إليك فهو آمن حين يأتيك فيسمع كلام الله حتى يبلغ مأمنه من حيث جاء وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { ثم أبلغه مأمنه } قال : إن لم يوافقه ما يقص عليه ويخبر به فأبلغه مأمنه وهذا ليس بمنسوخ وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله : { حتى يسمع كلام الله } أي كتاب الله وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان الرجل يجيء إذا سمع كتاب الله وأقر به وأسلم فذاك الذي دعي إليه وإن أنكر ولم يقر به رد مأمنه ثم نسخ ذلك فقال : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } (2/491)
قوله : 7 - { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } الاستفهام هنا للتعجب المتضمن للإنكار وعهد اسم يكون وفي خبره ثلاثة أوجه : الأول : أنه كيف وقدم للاستفهام والثاني : للمشركين وعند على هذين ظرف للعهد أو ليكون أو صفة للعهد والثالث : أن الخبر عند الله وفي الآية إضمار والمعنى : كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به من عذابه وقيل معنى الآية : محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم مضمرون للغدر فلا يطمعوا في ذلك ولا يحدثوا به أنفسهم ثم استدرك فقال : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } أي لكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ولم ينقضوا ولم ينكثوا فلا تقاتلوهم فما داموا مستقيمين لكم على العهد الذي بينكم وبينهم { فاستقيموا لهم } قيل هم بنو بكر وقيل بنو كنانة وبنو ضمرة وفي ما وجهان : أحدهما : أنها مصدرية زمانية والثاني : أنها شرطية وفي قوله : { إن الله يحب المتقين } إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين فيكون تعليلا للأمر بالاستقامة (2/493)
قوله : 8 - { كيف وإن يظهروا عليكم } أعاد الاستفهام التعجيبي للتأكيد والتقرير والتقدير : كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله ؟ والحال أنهم إن يظهروا عليكم بالغلبة لكم { لا يرقبوا } أي لا يراعوا فيكم { إلا } : أي عهدا { ولا ذمة } قال في الصحاح : الإل العهد والقرابة ومنه قول حسان :
( لعمرك أن إلك من قريش ... كإل السقب من رئل النعام )
قال الزجاج : الإل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدة ومنه الإلة للحربة ومنه أذن مؤلفة : أي محددة ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب :
( مؤلتان يعرف العنق منهما ... كسامعتي شاة بحومل مفرد )
قال أبو عبيدة : الإل العهد والذمة والنديم وقال الزهري : هو اسم لله بالعبرانية وأصله من الأليل وهو البريق يقال : أل لونه يول إلا : أي صفا ولمع والذمة العهد وجمعها ذمم فمن فسر الإل بالعهد كان التكرير للتأكيد مع اختلاف اللفظين وقال أبو عبيدة : الذمة التذمم وقال أبو عبيدة : الذمة الأمان كما في قوله صلى الله عليه و سلم : [ ويسعى بذمتهم أدناهم ] وروي عن أبي عبيدة أيضا أن الذمة ما يتذمم به : أي ما يجتنب فيه الذم قوله : { يرضونكم بأفواههم } أي يقولون بألسنتهم ما فيه مجاملة ومحاسنة لكم طلبا لمرضاتكم وتطييب قلوبكم وقلوبهم تأبى ذلك وتحالفه وتود ما فيه مساءتكم ومضرتكم كما يفعله أهل النفاق وذوو الوجهين ثم حكم عليهم بالفسق وهو التمرد والتجري والخروج عن الحق لنقضهم العهود وعدم مراعاتهم للعقود (2/493)
ثم وصفهم بقوله : 9 - { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } أي استبدلوا بآيات القرآن التي من جملتها ما فيه الأمر بالوفاء بالعهود ثمنا قليلا حقيرا وهو ما آثروه من حطام الدنيا { فصدوا عن سبيله } أي فعدلوا وأعرضوا عن سبيل الحق أو صرفوا غيرهم عنه (2/494)
قوله : 10 - { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } قال النحاس : ليس هذا تكريرا ولكن الأول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة والدليل على هذا { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } يعني اليهود وقيل : هذا فيه مراعاة لحقوق المؤمنين على الإطلاق وفي الأول المراعاة لحقوق طائفة من المؤمنين خاصة { وأولئك هم المعتدون } أي المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد أو البالغون في الشر والتمرد إلى الغاية القصوى (2/494)
11 - { فإن تابوا } عن الشرك والتزموا حكام الإسلام { فإخوانكم } أي فهم إخوانكم { في الدين } أي في دين الإسلام { ونفصل الآيات } أي نبينها ونوضحها { لقوم يعلمون } بما فيها من الأحكام ويفهمونه وخص أهل العلم لأنهم المنتفعون بها والمراد بالآيات ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين على اختلاف أنواعهم
وقد أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } قال : قريش وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم عاهد أناسا من بني ضمرة بني بكر وكنانة خاصة عاهدهم عند المسجد الحرام وجعل مدتهم أربعة أشهر وهم الذين ذكر الله { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } يقول : ما وفوا لكم بالعهد ففوا لهم وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : هم بنو جذيمة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } قال : هو يوم الحديبية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إلا ولا ذمة } قال : الإل القرابة والذمة العهد وأخرج الفريابي وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : الإل الله عزوجل وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة مثله وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } قال : أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فإن تابوا } الآية يقول : إن تركوا اللات والعزى وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإخوانكم في الدين وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : حرمت هذه الآية قتال أو دماء أهل الصلاة (2/494)
قوله : 12 - { وإن نكثوا } معطوف على فإن تابوا والنكث : النقض وأصله نقض الخيط بعد إبرامه ثم استعمل في كل نقض ومنه نقض الإيمان والعهود على طريق الاستعارة ومعنى { من بعد عهدهم } أي من بعد أن عاهدوكم والمعنى : أن الكفار إن نكثوا العهود التي عاهدوا بها المسلمين ووثقوا لهم بها وضموا إلى ذلك الطعن في دين الإسلام والقدح فيه فقد وجب على المسلمين قتالهم وأئمة الكفر : جمع إمام والمراد صناديد المشركين وأهل الرئاسة فيهم على العموم وقرأ حمزة ( أإمة ) وأكثر النحويين يذهب إلى أن هذا لحن لأن فيه الجمع بين همزتين في كلمة واحدة وقرأ الجمهور بجعل الهمزة الثانية بين بين : أي بين مخرج الهمزة والياء وقرئ بإخلاص الياء وهو لحن كما قال الزمخشري : قوله : { إنهم لا أيمان لهم } هذه الجملة تعليل لما قبلها : والأيمان : جمع يمين في قراءة الجمهور وقرأ ابن عامر { لا أيمان لهم } بكسر الهمزة والمعنى على قراءة الجمهور : أن أيمان الكافرين وإن كانت في الصورة يمينا فهي في الحقيقة ليست بيمين وعلى القراءة الثانية : أن هؤلاء الناكثين للأيمان الطاعنين في الدين ليسوا من أهل الإيمان بالله حتى يستحقوا العصمة لدمائهم وأموالهم فقتالهم واجب على المسلمين قوله : { لعلهم ينتهون } أي عن كفرهم ونكثهم وطعنهم في دين الإسلام والمعنى : أن قتالهم يكون إلى الغاية هي الانتهاء عن ذلك
وقد استدل بهذه الآية على أن الذمي إذا طعن في الدين لا يقتل حتى ينكث العهد كما قال أبو حنيفة لأن الله إنما أمر بقتلهم بشرطين : أحدهما : نقض العهد والثاني : الطعن في الدين وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه إذا طعن في الدين قتل لأنه ينتقض عهده بذلك قالوا : وكذلك إذا حصل من الذمي مجرد النكث فقط من دون طعن في الدين فإنه يقتل (2/495)
قوله : 13 - { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } الهمزة الداخلة على حرف النفي للاستفهام التوبيخي مع ما يستفاد منها من التحضيض على القتال والمبالغة في تحققه والمعنى : أن من كان حاله كحال هؤلاء من نقض العهد وإخراج الرسول من مكة والبداءة بالقتال فهو حقيق بأن لا يترك قتاله وأن يوبخ من فرط في ذلك : ثم زاد في التوبيخ فقال : { أتخشونهم } فإن هذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع : أي تخشون أن ينالكم منهم مكروه فتتركون قتالهم لهذه الخشية ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه فقال : { فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } أي هو أحق بالخشية منكم فإنه الضار النافع بالحقيقة ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتاله فإن قضية الإيمان توجب ذلك عليكم (2/496)
ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال : 14 - { قاتلوهم } ورتب على هذا الأمر فوائد : الأولى : تعذيب الله للكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر والثانية : إخزاؤهم قيل بالأسر وقيل بما نزل بهم من الذل والهوان والثالثة : نصر المسلمين عليهم وغلبتهم لهم والرابعة : أن الله يشفي بالقتال صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال ولا حضره (2/496)
والخامسة : أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين الذي نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدر فإن قيل : شفاء الصدور وإذهاب غيظ القلوب كلاهما بمعنى فيكون تكرارا قيل في الجواب : إن القلب أخص من الصدر وقيل : إن شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالفتح ولا ريب أن الانتظار لنجاز الوعد مع الثقة به فيهما شفاء للصدر وأن إذهاب غيظ القلوب إشارة إلى وقوع الفتح وقد وقعت للمؤمنين ولله الحمد هذه الأمور كلها ثم قال : { ويتوب الله على من يشاء } وهو ابتداء كلام يتضمن الإخبار بما سيكون وهو أن بعض الكافرين يتوب عن كفره كما وقع من بعض أهل مكة يوم الفتح فإنهم أسلموا وحسن إسلامهم وهذا على قراءة الرفع في يتوب وهي قراءة الجمهور : وقرئ بنصب يتوب بإضمار أن ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى قرأ بذلك ابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي والأعرج فإن قيل : كيف تقع التوبة جزاء للمقاتلة ؟ وأجيب أن القتال قد يكون سببا لها إذا كانت من جهة الكفار وأما إذا كانت من جهة المسلمين فوجهه أن النصر والظفر من جهة الله يكون سببا لخلوص النية والتوبة عن الذنوب (2/496)
قوله : 16 - { أم حسبتم أن تتركوا } أم هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة والاستفهام للتوبيخ وحرف الإضراب للدلالة على الانتقال من كلام إلى آخر والمعنى : كيف يقع الحسبان منكم بأن تتركوا على ما أنتم عليه وقوله : أن تتركوا في موضع مفعولي الحسبان عند سيبويه وقال المبرد : إنه حذف الثاني والتقدير : أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب وجملة { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } في محل نصب على الحال والمراد من نفي العلم نفي المعلوم والمعنى كيف تحسبون أنكم تتركون ولما يتبين المخلص منكم في جهاده من غير المخلص وجملة { ولم يتخذوا } معطوفة على جاهدوا داخلة معه في حكم النفي واقعة في حيز الصلة والوليجة من الولوج : وهو الدخول ولج يلج ولوجا : إذا دخل : فالوليجة : الدخيلة قال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة قال أبان بن ثعلب :
( فبئس الوليجة للهاربيـ ... ن والمعتدين وأهل الريب )
وقال الفراء : الوليجة البطانة من المشركين والمعنى واحد : أي كيف تتخذون دخيلة أو بطانة من المشركين تفشون إليهم بأسراركم وتعلمونهم أموركم من دون الله { والله خبير بما تعملون } أي بجميع أعمالكم
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وإن نكثوا أيمانهم } قال : عهدهم وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : يقول الله لنبيه وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم فقاتلهم إنهم أئمة الكفر وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله أئمة الكفر قال : أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وسهيل بن عمرو وهم الذين نكثوا عهد الله وهموا بإخراج الرسول من مكة وأخرج ابن عساكر عن مالك بن أنس مثله وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { فقاتلوا أئمة الكفر } قال : رؤوس قريش وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال : أبو سفيان بن حرب منهم وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنهم الديلم وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة أنهم ذكروا عند هذه الآية فقالوا : ما قوتل أهل هذه الآية بعد وأخرج ابن مردويه عن علي نحوه وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن مردويه عن حذيفة قال : ما بقي من أهل هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة فقال أعرابي : إنكم أصحاب محمد تخبروننا لا ندري فما بال هؤلاء الذين ينقرون بيوتنا ويسترقون أعلاقنا قال : أولئك الفساق أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده والأولى : أن الآية عامة في كل رؤساء الكفار من غير تقييد بزمن معين أو بطائفة معينة اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومما يفيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه كان في عهد أبي بكر الصديق إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال : إنكم ستجدون قوما مجوفة رؤوسهم فاضربوا مقاعد الشيطان منهم بالسيوف فوالله لأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله يقول : { فقاتلوا أئمة الكفر } وأخرج أبو الشيخ عن حذيفة { لا أيمان لهم } قال : لا عهود لهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار مثله وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } قال : قتال قريش حلفاء النبي صلى الله عليه و سلم وهمهم بإخراج الرسول زعموا أن ذلك عام عمرة النبي صلى الله عليه و سلم في العام التابع للحديبية نكثت قريش العهد عهد الحديبية وجعلوا في أنفسهم إذا دخلوا مكة أن يخرجوا منها فذلك همهم بإخراجه فلم تتابعهم خزاعة على ذلك فلما خرج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة قالت قريش لخزاعة : عميتمونا عن إخراجه فقاتلوهم فقتلوا منهم رجالا وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : نزلت في خزاعة { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم } الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه وأخرج أبو الشيخ عن قتادة نحوه أيضا وقد ساق القصة ابن إسحاق في سيرته وأورد فيها النظم الذي أرسلته خزاعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأوله :
( يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا )
وأخرج القصة البيهقي في الدلائل وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : الوليجة : البطانة من غير دينهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال : وليجة أي خيانة (2/497)
قرأ الجمهور 17 - { يعمروا } بفتح حرف المضارعة وضم الميم من عمر يعمر وقرأ ابن السميفع بضم حرف المضارعة من أعمر يعمر : أي يجعلون لها من يعمرها وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وسهم ويعقوب { مساجد الله } بالإفراد وقرأ الباقون { مساجد } بالجمع واختارها أبو عبيدة قال النحاس : لأنها أعم والخاص يدخل تحت العام وقد يحتمل أن يراد بالجمع المسجد الحرام خاصة وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس كما يقال فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا قال : وقد أجمعوا على الجمع في قوله : { إنما يعمر مساجد الله } وروي عن الحسن البصري أنه تعالى إنما قال مساجد والمراد المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد قال الفراء : العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم : فلان كثير الدرهم وبالعكس كقولهم فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكا واحدا والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي وهو ملازمته والتعبد فيه وكلاهما ليس للمشركين أما الأول : فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم وأما الثاني : فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام ومعنى { ما كان للمشركين } ما صح لهم وما استقام أن يفعلوا ذلك و { شاهدين على أنفسهم بالكفر } حال : أي ما كان لهم ذلك حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها وجعلها آلهة فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر وإن أبوا ذلك بألسنتهم فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين : عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرب إلى الله بعمارة مساجده وقيل : المارد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وقيل : شهادتهم على أنفسهم بالكفر : إن اليهودي يقول : هو يهودي والنصراني يقول : هو نصراني والصابئ يقول : هو صابئ والمشرك يقول هو مشرك { أولئك حبطت أعمالهم } التي يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير : أي بطلت ولم يبق لها أثر { وفي النار هم خالدون } وفي هذه الجملة الإسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها (2/499)
ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المسجد فقال : 18 - { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } وفعل ما هو من لوازم الإيمان من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة { ولم يخش } أحدا { إلا الله } فمن كان جامعا بين هذه الأوصاف فهو الحقيق بعمارة المساجد لا من كان خاليا منها أو من بعضها واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيها بما هو من أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده لأن كل ذلك من لوازم الإيمان وقد تقدم الكلام في وجه جمع المساجد وفي بيان ماهية العمارة ومن جوز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما وفي قوله : { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بتلك الصفات إذا كان اهتداؤهم مرجوا فقط فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات وقيل عسى من الله واجبة وقيل هي بمعنى خليق : أي فخليق أن يكونوا من المهتدين وقيل : إن الرجاء راجع إلى العباد (2/500)
والاستفهام في 19 - { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام } للإنكار والسقاية والعمارة مصدران كالسعاية والحماية وفي الكلام حذف والتقدير : أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وعمارة المسجد أو أهلهما { كمن آمن } حتى يتفق الموضوع والمحمول أو يكون التقدير في الخبر : أي جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كعمل من آمن أو كإيمان من آمن وقرأ ابن أبي وجزة السعدي وابن الزبير وسعيد بن جبير أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام جمع ساق وعامر وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير محذوف والمعنى : أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير وإن لم ينتفعوا بها وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ويفضلونهما على عمل المسلمين فأنكر الله عليهم ذلك ثم صرح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم وعدم استوائهم فقال : { لا يستون عند الله } أي لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله ودل سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون : أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون ثم حكم عليهم بالظلم وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه وفي هذا إشارة إلى الفريق (2/500)
ثم صرح بالفريق الفاضل فقال : 20 - { الذين آمنوا } إلى آخره : أي الجامعون بين الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس { أعظم درجة عند الله } وأحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحيطة الباطلة وفي قوله : { عند الله } تشريف عظيم للمؤمنين والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المتصفين بالصفات المذكورة { هم الفائزون } أي المختصون بالفوز عند الله (2/501)
ثم فسر الفوز بقوله : 21 - { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } والتنكير في الرحمة والرضوان والجنات للتعظيم والمعنى أنها فوق وصف الواصفين وتصور المتصورين والنعيم المقيم : الدائم المستمر الذي لا يفارق صاحبه (2/501)
وذكر الأبد بعد الخلود تأكيد له وجملة 22 - { إن الله عنده أجر عظيم } مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل : أي أعطاهم الله سبحانه هذه الأجور العظيمة لكون الأجر الذي عنده عظيم يهب منه ما يشاء لمن يشاء وهو ذو الفضل العظيم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } وقال : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } فنفى المشركين من المسجد { من آمن بالله } يقول : من وحد الله وآمن بما أنزل الله : { وأقام الصلاة } يعني الصلوات الخمس { ولم يخش إلا الله } يقول : لم يعبد إلا الله { فعسى أولئك } يقول : أولئك هم المهتدون كقوله لنبيه صلى الله عليه و سلم : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } يقول : إن ربك سيبعثك مقاما محمودا وهي الشفاعة وكل عسى في القرآن فهي واجبة وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن المنذر والبيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ] قال الله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } وقد وردت أحاديث كثيرة في استحباب ملازمة المساجد وعمارتها والتردد إليها للطاعات وأخرج مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن النعمان بن بشير قال : [ كنت عند
منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر : بل جهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله : { أجعلتم سقاية الحاج } إلى قوله : { لا يهدي القوم الظالمين } ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أجعلتم سقاية الحاج } الآية وذلك أن المشركين قالوا عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد فكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره فذكر الله سبحانه استكبارهم وإعراضهم فقال لأهل الحرم من المشركين : { قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون } يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم وقال به سامرا : كانوا به يسمرون ويهجرون بالقرآن والنبي صلى الله عليه و سلم فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبي الله على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن لينفعهم عند الله مع الشرك به وإن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه قال الله : { لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا وفي إسناده العوفي وهو ضعيف وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال العباس حين أسر يوم بدر : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله : { أجعلتم سقاية الحاج } الآية : يعني أن ذلك كان في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : نزلت في علي بن أبي طالب والعباس وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي قال : تفاخر علي والعباس وشيبة في السقاية والحجابة فأنزل الله : { أجعلتم سقاية الحاج } الآية وقد روي معنى هذا من طرق (2/502)
23 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } الخطاب للمؤمنين كافة وهو حكم باق إلى يوم القيامة يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين وقالت طائفة من أهل العلم : إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعا في سكنى البلاد والكفر إن استحبوا : أي أحبوا كما يقال : استجاب بمعنى أجاب وهو في الأصل طلب المحبة وقد تقدم تحقيق المقام في سورة المائدة في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدها (2/503)
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يقول لهم : 24 - { إن كان آباؤكم } إلى آخره والعشيرة : الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد وعشيرة الرجل قرابته الأدنون وهم الذين يعاشرونه وهي اسم جمع وقرأ أبو بكر وحماد { عشيرتكم } بالجمع قال الأخفش لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر وقرأ الحسن { عشيرتكم } وقرأ الباقون { عشيرتكم } والاقتراف : الاكتساب وأصله اقتطاع الشيء من مكانه والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه والتجارة الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها والكساد عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان ومن غرائب التفسير ما روي عن ابن المبارك أنه قال : إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا واستشهد لذلك بقول الشاعر :
( كسدن من الفقر في قومهن ... وقد زادهن مقامي كسادا )
وهذا البيت وإن كان فيه إطلاق الكساد على عدم وجود الخاطب لهن فليس فيه جواز إطلاق اسم التجارة عليهن والمراد بالمساكن التي يرضونها : المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم ويرون الإقامة فيها أحب إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله وأحب خبر كان : أي كانت هذه الأشياء المذكورة في الآية أحب إليكم من الله ورسوله ومن الجهاد في سبيل الله { فتربصوا } أي انتظروا { حتى يأتي الله بأمره } فيكم وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم وقيل المراد بأمر الله سبحانه : القتال وقيل فتح مكة وفيه بعد فقد روي أن هذه السورة نزلت بعد الفتح وفي هذا وعيد شديد ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردد بين أنواع العقوبات { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي الخارجين عن طاعته النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : أمروا بالهجرة فقال العباس بن عبد المطلب : أنا أسقي الحاج وقال طلحة أخو بني عبد الدار : أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر فأنزلت : { لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في هذه الآية قال : هي الهجرة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة { اقترفتموها } قال : أصبتموها وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { حتى يأتي الله بأمره } قال : بالفتح في أمره بالهجرة هذا كله قبل فتح مكة وأخرج البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله فأنزل الله : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر } الآية وهي تؤكد معنى هذه الآية وقد تقدم بيان حكم الهجرة في سورة النساء (2/503)
المواطن جمع موطن ومواطن الحرب : مقاماتها والمواطن التي نصر الله المسلمين فيها هي يوم بدر وما بعد من المواطن التي نصر الله المسلمين على الكفار فيها قبل يوم حنين 25 - { ويوم حنين } معطوف على مواطن بتقدير مضاف : إما في الأول وتقديره في أيام مواطن أو في الثاني وتقديره وموطن يوم حنين لئلا يعطف الزمان على المكان ورد بأنه لا استبعاد في عطف الزمان على المكان فلا يحتاج إلى تقدير وقيل : إن يوم حنين منصور بفعل مقدر معطوف على { نصركم } أي ونصركم يوم حنين ورجح هذا صاحب الكشاف قال : وموجب ذلك أن قوله : { إذ أعجبتكم } بدل من يوم حنين فلو جعلت ناصبة هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ولم يكونوا كثيرا في جميعها ورد بأن العطف لا يجب فيه تشارك المتعاطفين في جميع ما ثبت للمعطوف كما تقول : جاءني زيد وعمرو مع قومه أو في ثيابه أو على فرسه وقيل إن { إذ أعجبتكم كثرتكم } ليس ببدل من يوم حنين بل منصوب بفعل مقدر : أي اذكروا إذ أعجبتكم كثرتكم وحنين : واد بين مكة والطائف وانصرف على أنه اسم للمكان ومن العرب من يمنعه على أنه اسم للبقعة ومنه قول الشاعر :
( نصروا نبيهم وشدوا أزره ... بحنين يوم تواكل الأبطال )
وإنما أعجب من أعجب من المسلمين بكثرتهم لأنهم كانوا إثني عشر ألفا وقيل : أحد عشر ألفا وقيل : ستة عشر ألفا فقال بعضهم : لن نغلب اليوم من قلة فوكلوا إلى هذه الكلمة فلم تغن الكثرة شيئا عنهم بل انهزموا وثبت رسول الله صلى الله عليه و سلم وثبت معه طائفة يسيرة منهم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث ثم تراجع المسلمون فكان النصر والظفر والإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة : أي لم تعطكم الكثرة شيئا يدفع حاجتكم ولم تفدكم قوله : { بما رحبت } الرحب بضم الراء : السعة والرحب بفتح الراء : المكان الواسع والباء بمعنى مع وما مصدرية ومحل الجار والمجرور النصب على الحال والمعنى : أن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليهم بسبب ما حل بهم من الخوف والوجل وقيل إن الباء بمعنى على : أي على رحبها { ثم وليتم مدبرين } أي انهزمتم حال كونكم مدبرين : أي مولين أدباركم جاعلين لها إلى جهة عدوكم (2/505)
قوله : 26 - { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } : هم الذين لم ينهزموا وقيل الذين انهزموا والظاهر جميع من حضر منهم لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا قوله : { وأنزل جنودا لم تروها } هم الملائكة
وقد اختلف في عددهم على أقوال : قيل خمسة آلاف وقيل ثمانية آلاف وقيل ستة عشر ألفا وقيل غير ذلك وهذا لا يعرف إلا من طريق النبوة واختلفوا أيضا هل قاتلت الملائكة في هذا اليوم أم لا ؟ وقد تقدم أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر وأنهم إنما حضروا في غير بدر لتقوية قلوب المؤمنين وإدخال الرعب في قلوب المشركين { وعذب الذين كفروا } بما وقع عليهم من القتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذرية والإشارة بقوله : { وذلك } إلى التعذيب المفهوم من عذب وسمي ما حل بهم من العذاب في هذا اليوم جزاء مع أنه غير كاف بل لا بد من عذاب الآخرة مبالغة في وصف ما وقع عليهم وتعظيما له (2/506)
27 - { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } أي من بعد هذا التعذيب على من يشاء ممن هداه منهم إلى الإسلام { والله غفور } يغفر لمن أذنب فتاب { رحيم } بعباده يتفضل عليهم بالمغفرة لما اقترفوه
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : حنين ما بين مكة والطائف قاتل نبي الله هوازن وثقيف وعلى هوازن مالك بن عوف وعلى ثقيف عبد ياليل بن عمرو الثقفي وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : [ لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا : الآن نقاتل حين اجتمعنا فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم فالتقوا فهزموا حتى ما يقوم أحد منهم على أحد حتى جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ينادي أحياء العرب : إلي إلي فوالله ما يعرج عليه أحد حتى أعرى موضعه فالتفت إلى الأنصار وهم ناحية فناداهم : يا أنصار الله وأنصار رسوله إلي عباد الله أنا رسول الله فجثوا يبكون وقالوا : يا رسول الله ورب الكعبة إليك والله فنكسوا رؤوسهم يبكون وقدموا أسيافهم يضربون بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى فتح الله عليهم ] وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع [ أن رجلا قال يوم حنين : لن نغلب من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم } قال الربيع : وكانوا إثني عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة ] وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار فكنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة ورسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلته البيضاء يمضي قدما فقال : ناولني كفا من تراب فناولته فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا وولى المشركون أدبارهم ووقعة حنين مذكورة في كتب السير والحديث بطولها وتفاصيلها فلا نطول بذلك وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وأنزل جنودا لم تروها } قال : هم الملائكة { وعذب الذين كفروا } قال : قتلهم بالسيف وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : في يوم حنين أمد الله رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين قال : فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم قال : رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل النجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة ولم تكن إلا هزيمة القوم (2/506)
النجس : مصدر لا يثنى ولا يجمع يقال : رجل نجس وامرأة نجس ورجلان نجس وامرأتان نجس ورجال نجس ونساء نجس ويقال : نجس ونجس بكسر الجيم وضمها ويقال : نجس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف من المحرك قيل : لا تستعمل إلا إذا قيل معه رجس وقيل ذلك أكثري لا كلي والمشركون مبتدأ وخبره المصدر مبالغة في وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة أو على تقدير مضاف : أي ذوو نجس لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس وقال قتادة ومعمر وغيرهما : إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يتجنبون النجاسات
وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات كما ذهب إليه بعض الظاهرية والزيدية وروي عن الحسن البصري وهو محكي عن ابن عباس وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات لأن الله سبحانه أحل طعامهم وثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم النجاسة ذواتهم فأكل في آنيتهم وشرب منها وتوضأ فيها وأنزلهم في مسجده قوله : 28 - { فلا يقربوا المسجد الحرام } الفاء للتفريع فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرع على نجاستهم والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم روي ذلك عن عطاء فيمنعون عنده من جميع الحرم وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم
وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد وقال الشافعي : الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد قال ابن العربي : وهذا جمود منه على الظاهر لأن قوله تعالى : { إنما المشركون نجس } تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه و سلم لثمامة بن أثال في مسجده وإنزال وفد ثقيف فيه وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة وقيده الشافعي بالحاجة وقال قتادة : إنه يجوز ذلك للذمي دون المشرك وروي عن أبي حنيفة أيضا أنه يجوز لهم دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد ونهى المشركين عن أن يقربوا المسجد الحرام هو نهي للمسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك فهو من باب قولهم : لا أرينك هاهنا قوله : { بعد عامهم هذا } فيه قولان : أحدهما : أنه سنة تسع وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم الثاني : أنه سنة عشر قاله قتادة قال ابن العربي : وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ ومن العجب أن يقال إنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه : لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه انتهى ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه فإن الإشارة بقوله : { بعد عامهم هذا } إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء وهكذا في المثال الذي ذكره المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب والأمر ظاهر لا يخفى ولعله أراد تفسير ما بعد المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر وأما تفسير العام المشار إليه بهذا فلا شك ولا ريب أنه عام تسع وعلى هذا يحمل قول قتادة وقد استدل من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد أعني قوله : { بعد عامهم هذا } قائلا إن النهي مختص بوقت الحج والعمرة فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط لا عن مطلق الدخول ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص قوله : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } العيلة الفقر يقال : عال الرجل يعيل : إذا افتقر قال الشاعر :
( وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل )
وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود عايلة وهو مصدر كالقايلة والعافية والعاقبة وقيل معناه : خصلة شاقة يقال : عالني الأمر يعولني : أي شق علي واشتد وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال عال يعول : إذا افتقر وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا : من أين نعيش ؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله قال الضحاك : ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } الآية وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به وقيل أغناهم بالفيء وفائدة التقييد بالمشيئة التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به مما له تعلق بالزمن المستقبل ولئلا يفتروا عن الدعاء والتضرع { إن الله عليم } بأحوالكم { حكيم } في إعطائه ومنعه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (2/507)
قوله : 29 - { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } الآية فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف قال أبو الوفاء بن عقيل : إن قوله : { قاتلوا } أمر بالعقوبة ثم قال : { الذين لا يؤمنون بالله } فبين الذنب الذي توجبه العقوبة ثم قال : { ولا باليوم الآخر } فأكد الذنب في جانب الاعتقاد ثم قال : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } فيه زيادة للذنب في مخالفة الأعمال ثم قال : { ولا يدينون دين الحق } فيه إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام ثم قال : { من الذين أوتوا الكتاب } تأكيد للحجة عليهم لأنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ثم قال : { حتى يعطوا الجزية } فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة انتهى قوله : { من الذين أوتوا الكتاب } بيان للموصول مع ما في خبره وهم أهل التوراة والإنجيل قوله : { حتى يعطوا الجزية عن يد } الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي : إذا كافأ عما أسدي إليه فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن وقيل : سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزون : أي يقضوه وهي في الشرع ما يعطيه المعاهد على عهده و { عن يد } في محل نصب على الحال والمعنى : عن يد مواتية غير ممتنعة وقيل معناه : يعطونها بأيديهم غير مستنيبين فيها أحدا وقيل معناه : نقد غير نسيئة وقيل عن قهر وقيل معناه : عن إنعام منكم عليهم لأن أخذها منهم نوع من أنواع الإنعام عليهم وقيل معناه : مذمومون وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور إلى أنها لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب وقال الأوزاعي ومالك : إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائنا من كان ويدخل في أهل الكتاب على القول الأول المجوس قال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم
وقد اختلف أهل العلم في مقدار الجزية فقال عطاء : لا مقدار لها وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه وبه قال يحيى بن آدم وأبو عبيد وابن جرير إلا أنه قال : أقلها دينار وأكثرها لا حد له وقال الشافعي : دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء وبه قال أبو ثور قال الشافعي : وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم وقال مالك : إنه أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا لا يزيد ولا ينقص وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل : إثنا عشر وأربعة وعشرون وثمانية وأربعون والكلام في الجزية مقرر في مواطنه والحق من هذه الأقوال قد قررناه في شرحنا للمنتقي وغيره من مؤلفاتنا قوله : { وهم صاغرون } في محل نصب على الحال والصغار الذل والمعنى : إن الذمي يعطي الجزية حال كونه صاغرا قيل : وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم قاعد وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسلم لها حال قبضها صاغرا ذليلا
وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله في قوله : { إنما المشركون نجس } الآية قال : إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة وقد روي مرفوعا من وجه آخر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمكم ] قال ابن كثير : تفرد به أحمد مرفوعا والموقوف أصح وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتجرون به فلما نهوا عن أن يأتوا البيت قال المسلمون : فمن أين لنا الطعام ؟ فأنزل الله : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } قال : فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم حيث ذهب المشركون عنهم وأخرج ابن مردويه عنه قال : فأغناهم الله من فضله وأمرهم بقتال أهل الكتاب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { وإن خفتم عيلة } قال : الفاقة وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { فسوف يغنيكم الله من فضله } قال : بالجزية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الضحاك مثله وأخرج نحوه عبد الرزاق عن قتادة وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله : { إنما المشركون نجس } قال : قذر وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال : من صافحهم فليتوضأ وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } قال : نزلت هذه الآية حين أمر محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه بغزوة تبوك وأخرج ابن المنذر عن ابن شهاب قال : نزلت في كفار قريش والعرب { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } وأنزلت في أهل الكتاب : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } الآية إلى قوله : { حتى يعطوا الجزية } فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } يعني الذين لا يصدقون بتوحيد الله { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } يعني الخمر والحرير { ولا يدينون دين الحق } يعني دين الإسلام { من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } يعني مذللون وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { عن يد } قال : عن قهر وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في قوله : { عن يد } قال : من يده ولا يبعث بها غيره وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي سنان في قوله : { عن يد } قال : عن قدرة وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وهم صاغرون } قال : يمشون بها متلتلين وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : يلكزون وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سلمان في الآية قال : غير محمودين (2/509)
قوله : 30 - { وقالت اليهود عزير ابن الله } كلام مبتدأ لبيان شرك أهل الكتابين وعزير مبتدأ وابن الله خبره وقد قرأ عاصم والكسائي { عزير } بالتنوين وقرأ الباقون بترك التنوين لاجتماع العجمة والعلمية فيه ومن قرأ بالتنوين فقد جعله عربيا وقيل إن سقوط التنوين ليس لكونه ممتنعا بل لاجتماع الساكنين ومنه قراءة من قرأ : { قل هو الله أحد * الله الصمد } قال أبو علي الفارسي وهو كثير في الشعر وأنشد ابن جرير الطبري :
( لتجديني بالأمير برا ... وبالقناة لامرا مكرا )
( إذا غطيت السلمي فرا )
وظاهر قوله : { وقالت اليهود } إن هذه المقالة لجميعهم وقيل : هو لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص لأنه لم يقل ذلك إلا البعض منهم وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها ؟ بل قد انقرضوا وقيل : إنه قال ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم جماعة منهم فنزلت الآية متضمنة لحكاية ذلك عن اليهود لأن قول بعضهم لازم لجميعهم قوله : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } قالوا هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب فكان ذلك سببا لهذه المقالة والأولى : أن يقال : إنهم قالوا هذه المقالة لكون في الإنجيل وصفه تارة بابن الله وتارة بابن الإنسان كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم أو لم يظهر لهم أن دلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة قيل : وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى لا لكلهم قوله : { ذلك قولهم بأفواههم } الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة ووجه قولهم بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا الفم بأن هذا القول لما كان ساذجا ليس فيه بيان ولا عضده برهان كان مجرد دعوى لا معنى تحتها فارغة صادرة عنهم صدور المهملات التي ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه غير مفيدة لفائدة يعتد بها وقيل : إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد كما في كتبت بيدي ومشيت برجلي ومنه قوله تعالى : { يكتبون الكتاب بأيديهم } وقوله : { ولا طائر يطير بجناحيه } وقال بعض أهل العلم : إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا كقوله : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } وقوله : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } وقوله : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } قوله : { يضاهئون قول الذين كفروا } المضاهاة : المشابهة قيل : ومنه قول العرب امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض لأنها شابهت الرجال قال أبو علي الفارسي : من قال { يضاهئون } مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء فقوله خطأ لأن الهمزة في ضاهأ أصلية وفي ضهياء زائدة كحمراء وأصله يضاهئون وامرأة ضهياء ومعنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا فيه أقوال لأهل العلم : الأول : أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم واللات والعزى ومناة بنات الله القول الثاني : أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزير ابن الله وأن المسيح ابن الله قوله : { قاتلهم الله } دعاء عليهم بالهلاك لأن من قاتله الله هلك وقيل : هو تعجب من شناعة قولهم وقيل معنى قاتلهم الله : لعنهم الله ومنه قول أبان بن ثعلب :
( قاتلها الله تلحاني وقد علمت ... أني لنفسي إفسادي وإصلاحي )
وحكى النقاش أن أصل ( قاتل الله ) : الدعاء ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء وأنشد الأصمعي :
( يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني ... وأخبر الناس أني لا أباليها )
{ أنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل (2/512)
قوله : 31 - { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } الأحبار : جمع حبر وهو الذي يحسن القول ومنه ثوب محبر وقيل : جمع حبر بكسر الحاء قال يونس : لم أسمعه إلا بكسر الحاء وقال الفراء : الفتح والكسر لغتان وقال ابن السكيت : الحبر بالكسر العالم والحبر بالفتح العالم والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة وهم علماء النصارى كما أن الأحبار علماء اليهود ومعنى الآية أنهم لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه كانوا بمنزلة المتخذين لهم أربابا لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب قوله : { والمسيح ابن مريم } معطوف على رهبانهم : أي اتخذه النصارى ربا معبودا وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزير ربا معبودا وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة والتمرة بالتمرة والماء بالماء فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه فأعرتموهما آذانا صما وقلوبا غلفا وأفهاما مريضة وعقولا مهيضة وأذهانا كليلة وخواطر عليلة وأنشدتم بلسان الحال :
( وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد )
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم ومتعبدهم ومتعبدكم ومعبودهم ومعبودكم واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتكم وقدوتهم وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم
( دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آبن في دينه كمخاطر )
اللهم هادي الضال مرشد التائه موضح السبيل اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب وأوضح لنا منهج الهداية قوله : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا والحال أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله وحده أو وما أمر الذين اتخذوهم أربابا من الأحبار والرهبان إلا بذلك فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أربابا قوله : { لا إله إلا هو } صفة ثانية لقوله إلها { سبحانه عما يشركون } أي تنزيها له عن الإشراك في طاعته وعبادته (2/514)
قوله : 32 - { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من أنواع ضلالهم وبعدهم عن الحق وهو ما راموه من إبطال الحق بأقاويلهم الباطلة التي هي مجرد كلمات ساذجة ومجادلات زائفة وهذا تمثيل لحالهم في محاولة إبطال دين الحق ونبوة نبي الصدق بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم قد أنارت به الدنيا وانقشعت به الظلمة ليطفئه ويذهب أضواءه { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } أي دينه القويم وقد قيل : كيف دخلت إلا الاستثنائية على يأبى ولا يجوز كرهت أو بغضت إلا زيدا قال الفراء : إنما دخلت لأن في الكلام طرفا من الجحد وقال الزجاج : إن العرب تحذف مع أبى والتقدير ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره وقال علي بن سليمان : إنما جاز هذا في أبى لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي قال النحاس : وهذا أحسن كما قال الشاعر :
( وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله إلا أن أكون لها إبنا )
وقال صاحب الكشاف : إن أبر قد أجري مجرى لم يرد : أي ولا يريد إلا أن يتم نوره قوله : { ولو كره الكافرون } معطوف على جملة قبله مقدرة : أي أبى الله إلا أن يتم نوره ولو لم يكره الكافرون ذلك ولو كرهوا (2/515)
ثم أكد هذا بقوله : 33 - { هو الذي أرسل رسوله بالهدى } أي بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله لعباده { ودين الحق } وهو الإسلام { ليظهره } أي ليظهر رسوله أو دين الحق بما اشتمل عليه من الحجج والبراهين وقد وقع ذلك ولله الحمد { ولو كره المشركون } الكلام فيه كالكلام في { ولو كره الكافرون } كما قدمنا ذلك
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك وقت تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله ؟ فأنزل الله : { وقالت اليهود عزير ابن الله } الآية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه قال : كن نساء بني إسرائيل يجتمعن بالليل فيصلين ويعتزلن ويذكرون ما فضل الله به ني إسرائيل وما أعطاهم ثم سلط عليهم شر خلقه بختنصر فحرق التوراة وخرب بيت المقدس وعزير يومئذ غلام فقال عزير : أو كان هذا ؟ فلحق بالجبال والوحش فجعل يتعبد فيها وجعل لا يخالط الناس فإذا هو ذات يوم بامرأة عند قبر وهي تبكي قال : يا أمه اتقي الله واحتسبي واصبري أما تعلمين أن سبيل الناس إلى الموت ؟ فقالت : يا عزير أتنهاني أن أبكي وأنت قد خلفت بني إسرائيل ولحقت بالجبال والوحش ؟ ثم قالت : إني لست بامرأة ولكني الدنيا وإنه سينبع في مصلاك عين وتنبت شجرة فاشرب من ماء العين وكل من ثمر الشجرة فإنه سيأتيك ملكان فاتركهما يصنعان ما أرادا فلما كان من الغد نبعت العين ونبتت الشجرة فشرب من ماء العين وأكل من ثمرة الشجرة وجاء ملكان ومعهما قارورة فيها نور فأوجراه ما فيها فألهمه الله التوراة فجاء فأملاه على الناس فعند ذلك قالوا عزير ابن الله تعالى الله عن ذلك وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا فذكر قصة وفيها : أن عزير سأل الله بعد ما أنسى بني إسرائيل التوراة ونسخها من صدورهم أن يرد الذي نسخ من صدره فبينما هو يصلي نزل نور من الله عز و جل فدخل جوفه فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة فأذن في قومه فقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي وأخرج أبو الشيخ عن كعب قال : دعاء عزير ربه أن يلقي التوراة كما أنزل على موسى في قلبه فأنزلها الله عليه فبعد ذلك قالوا : عزير ابن الله وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال : ثلاث أشك فيهن : فلا أدري عزير كان نبيا أم لا ؟ ولا أدري ألعن تبع أم لا ؟ قال : ونسيت الثالثة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يضاهئون } قال : يشبهون وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { قاتلهم الله } قال : لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقرأ في سورة براءة : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } فقال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه وأخرجه أيضا أحمد وابن جرير وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أبي البحتري قال : سأل رجل حذيفة فقال : أرأيت قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } أكانوا يعبدونهم ؟ قال : لا ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : أحبارهم قراؤهم ورهبانهم علماؤهم وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله وأخرج أيضا عن الفضيل بن عياض قال : الأحبار العلماء والرهبان العباد وأخرج أيضا عن السدي في قوله : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } قال : يريدون أن يطفئوا الإسلام بأقوالهم وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } يقول : يريدون أن يهلك محمد وأصحابه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : هم اليهود والنصارى وأخرج أبو الشيخ عن السدي { هو الذي أرسل رسوله بالهدى } يعني بالتوحيد والإسلام والقرآن (2/515)
لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أربابا ذكر حال المتبوعين فقال : 34 - { إن كثيرا من الأحبار } إلى آخره ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة وأثبت هذا للكثير منهم لأن فيهم من لم يتلبس بذلك بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل ولا ميل إلى حطام الدنيا ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان فالله المستعان { ويصدون عن سبيل الله } أي عن الطريق إليه وهو دين الإسلام أو عن ما كان حقا في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل قوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة } قيل : هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع وقيل : هم من يفعل ذلك من المسلمين والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع ولا يختص بالذهب والفضة قال ابن جرير : الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها انتهى ومنه ناقة كناز : أي مكتنزة اللحم واكتنز الشيء : اجتمع
واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا ؟ فقال قوم : هو كنز وقال آخرون : ليس بكنز ومن القائلين بالقول الأول أبو ذر وقيده بما فضل عن الحاجة ومن القائلين بالقول الثاني عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز قوله : { ولا ينفقونها في سبيل الله } اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين هما الذهب والفضة فقال ابن الأنباري : إنه قصد إلى الأعم الأغلب وهو الفضة قال : ومثله قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم ومثله قوله : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } أعاد الضمير إلى التجارة لأنها الأهم وقيل إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه والعرب تؤنث الذهب وتذكره وقيل إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله : { يكنزون } وقيل إلى الأموال وقيل للزكاة وقيل إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى وهو كثير في كلام العرب وأنشد سيبويه :
( نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف )
ولم يقل راضون ومثله قول الآخر :
( رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريا ومن أجل الطوى رماني )
ولم يقل بريين ومثله قول حسان :
( إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ... ود ما لم يعاض كان مجنونا )
ولم يقل يعاضا وقيل إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمان الأشياء وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز قوله : { فبشرهم بعذاب أليم } وهو خبر الموصول وهو من باب التهكم بهم كما في قوله :
( تحية بينهم ضرب وجيع )
وقيل : إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب سواء كان في الفرح أو في الغم (2/517)
ومعنى 35 - { يوم يحمى عليها في نار جهنم } أن النار توقد عليها وهي ذات حمى وحر شديد ولو قال يوم تحمى : أي الكنوز لم يعط هذا المعنى فجعل الإحماء للنار مبالغة ثم حذف النار وأسند الفعل إلى الجار كما تقول رفعت القصة إلى الأمير فإن لم تذكر القصة قلت رفع إلى الأمير وقرأ ابن عامر { يحمى } بالمثناة الفوقية وقرأ أبو حيوة فيكوى بالتحتية وخص الجباه والجنوب والظهور لكون التألم بكيها أشد لما في داخلها من الأعضاء الشريفة وقيل ليكون الكي في الجهات الأربع : من قدام وخلف وعن يمين وعن يسار وقيل : لأن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تكلف قوله : { هذا ما كنزتم لأنفسكم } أي يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم : أي كنزتموه لتنتفعوا به فهذا نفعه على طريقة التهكم والتوبيخ { فذوقوا ما كنتم تكنزون } ما مصدرية أو موصولة : أي ذوقوا وباله وسوء عاقبته وقبح مغبته وشؤم فائدته
وقد أخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { إن كثيرا من الأحبار والرهبان } يعني علماء اليهود والنصارى { ليأكلون أموال الناس بالباطل } والباطل كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس وذلك قول الله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله } وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة } قال : هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة من أموالهم وكل مال لا تؤدى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز وكل مال أديت زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها وأخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ من وجه آخر وأخرج مالك وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر نحوه وأخرج ابن مردويه عنه نحوه مرفوعا وأخرج ابن عدي والخطيب عن جابر نحوه مرفوعا أيضا وأخرجه ابن أبي شيبة عنه موقوفا وأخرج أحمد في الزهد والبخاري وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في الآية قال : إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال ثم قال : ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهبا أعلم عدده وأزكيه وأعمل فيه بطاعات الله ؟ وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال : ليس بكنز ما أدى زكاته وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أم سلمة مرفوعا نحوه وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده وأبو داود وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : [ لما نزلت هذه الآية { والذين يكنزون الذهب والفضة } كبر ذلك على المسلمين وقالوا : ما يستطيع أحد منا لولوده ما لا يبقى بعده فقال عمر : أنا أفرج عنكم فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية فقال : إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم فكبر عمر ثم قال له النبي صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته ] وقد أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن سالم بن أبي الجعد من غير وجه عن ثوبان وحكى البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة } قال : هم أهل الكتاب وقال : هي خاصة وعامة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال : حلية السيوف من الكنوز ما أحدثكم إلا ما سمعت وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز أنهما قالا في قوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة } إنها نسختها الآية الأخرى { خذ من أموالهم صدقة } الآية وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا جعلها يوم القيامة صفائح ثم أحمى عليها في نار جهنم ثم يكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ] وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالزبدة فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ؟ فقال : كنا بالشام فقرأت : { والذين يكنزون الذهب والفضة } الآية فقال معاوية : ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب قلت : إنها لفينا وفيهم (2/519)
قوله : 36 - { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نوع آخر من قبائح الكفار وذلك أن الله سبحانه لما حكم في كل وقت بحكم خاص غيروا تلك الأوقات بالنسيء والكبيسة فأخبرنا الله بما هو حكمه فقال : { إن عدة الشهور } أي عدد شهور السنة عند الله في حكمه وقضائه وحكمته إثنا عشر شهرا قوله : { في كتاب الله } أي فيما أثبته في كتابه قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن يتعلق في كتاب الله بقوله : عدة الشهور للفصل بالأجنبي وهو الخبر : أعني إثنا عشر شهرا فقوله : في كتاب الله وقوله : يوم خلق بدل من قوله من عند الله والتقدير : إن عدة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض وفائدة الإبدالين تقرير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله في كتاب الله وثابت في علمه في أول ما خلق الله العالم ويجوز أن يكون في كتاب الله صفة إثنا عشر : أي إثنا عشر مثبتة في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يوما وبعضها أكثر وبعضها أقل قوله : { منها أربعة حرم } هي ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب : ثلاثة سرد وواحد فرد كما ورد بيان ذلك في السنة المطهرة قوله : { ذلك الدين القيم } أي كون هذه الشهور كذلك ومنها أربعة حرم هو الدين المستقيم والحساب الصحيح والعدد المستوفي قوله : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أي في هذه الأشهر الحرم بإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها وقيل : إن الضمير يرجع إلى الشهور كلها الحرم وغيرها وإن الله نهى عن الظلم فيها والأول أولى وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية ولقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } ولقوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } الآية
وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه و سلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما فقد أجيب عنه أنه لم يبتد محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه وبهذا يحصل الجمع قوله : { وقاتلوا المشركين كافة } أي جميعا وهو مصدر في موضع الحال قال الزجاج : مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة لا يثنى ولا يجمع { كما يقاتلونكم كافة } أي جميعا وفيه دليل على وجوب قتال المشركين وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض { واعلموا أن الله مع المتقين } أي ينصرهم ويثبتهم ومن كان الله معه فهو الغالب وله العاقبة والغلبة (2/521)
قوله : 37 - { إنما النسيء زيادة في الكفر } قرأ نافع في رواية ورش عنه { النسيء } بياء مشددة بدون همز وقرأ الباقون بياء بعدها همزة قال النحاس : ولم يرو أحد عن نافع هذه القراءة إلا ورش وحده وهو مشتق من نسأه وأنسأه : إذا أخره حكى ذلك الكسائي قال الجوهري : النسيء فعيل بمعنى مفعول من قولك : نسأت الشيء فهو منسوء : إذا أخرته ثم تحول منسوء إلى نسيء كما تحول مقتول إلى قتيل قال ابن جرير : في النسيء بالهمزة معنى الزيادة يقال : نسأ ينسأ : إذا زاد قال : ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان كما قال تعالى : { نسوا الله فنسيهم } ورد على نافع قراءته وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرموا غيرها فإذا قاتلوا في المحرم حرموا بدله شهر صفر وهكذا في غيره وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيرا منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض ونهب على ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه ويقع بينهم بسبب ذلك القتال وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضر بهم تواليها وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم فيحللون بعضها ويحرمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه وقد وقع الخلاف في أول من فعل ذلك فقيل : هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد ويلقب القلمس وإليه يشير الكميت بقوله :
( ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما )
وفيه يقول قائلهم :
( ومنا ناسئ الشهر القلمس )
وقيل هو عمرو بن لحي وقيل هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة وسمى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر لأنه نوع من أنواع كفرهم ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر قوله : { يضل به الذين كفروا } قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر { يضل } على البناء للمعلوم وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول ومعنى القراءة الأولى أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء ومعنى القراءة الثانية أن الذي سن لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم واختار القراءة الثانية أبو عبيد وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب { يضل } بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول ومفعوله محذوف ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه ومفعوله الموصول وقرئ بفتح الياء والضاد من ضل يضل وقرئ نضل بالنون قوله : { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } الضمير راجع إلى النسيء : أي يحلون النسيء عاما ويحرمونه عاما أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه : أي يحلونه عاما بإبداله بشهر آخر من شهور الحل يحرمونه عاما : أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال بل يبقونه على حرمته قوله : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } أي لكي يواطئوا والمواطأة الموافقة يقال : تواطأ القوم على كذا : أي توافقوا عليه واجتمعوا والمعنى : إنهم لم يحلوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة قال قطرب : معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم وقرنوه بالمحرم في التحريم وكذا قال الطبري قوله : { فيحلوا ما حرم الله } أي من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها { زين لهم سوء أعمالهم } أي زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي يعملونها ومن جملتها النسيء وقرئ على البناء الفاعل { والله لا يهدي القوم الكافرين } أي المصرين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في حجته فقال : [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ] وأخرج نحوه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث ابن عمر : وأخرج نحوه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث ابن عباس وأخرج نحوه أيضا البزار وابن جرير وابن مردويه من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد وابن مردويه من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعا مطولا وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس { منها أربعة حرم } فقال : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : إنما سمين حرما لئلا يكون فيهن حرب وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما وعظم حرماتهن وجعل الدين فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } قال : في كلهن { وقاتلوا المشركين كافة } يقول جميعا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله : { وقاتلوا المشركين كافة } قال : نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كانت العرب يحلون عاما شهرا وعاما شهرين ولا يصيبون الحج إلا في كل عشرين سنة مرة وهي النسيء الذي ذكره الله في كتابه فلما كان عام حج أبو بكر بالناس وافق ذلك العام فسماه الله الحج الأكبر ثم حج رسول الله صلى الله عليه و سلم من العام المقبل واستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعقبة فقال : [ إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ] فكانوا يحرمون المحرم عاما ويستحلون صفر ويحرمون صفر عاما ويستحلون المحرم وهي النسيء وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان جنادة بن عوف الكناني يوافي الموسم كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يخاب ولا يعاب ألا وإن صفر الأول العام حلال فيحله للناس فيحرم صفر عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : المحرم كانوا يسمونه صفر وصفر يقولون صفران الأول والآخر يحل لهم مرة الأول ومرة الآخر وأخرج ابن مردويه عنه قال : كانت النساءة حي من بني مالك من كنانة من بني فقيم فكان آخرهم رجلا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم (2/522)
قوله : 38 - { يا أيها الذين آمنوا } لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم والاستفهام في { ما لكم } للإنكار والتوبيخ : أي أي شيء يمنعكم من ذلك ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام والنفر : هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث قوله : { اثاقلتم إلى الأرض } أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء لقربها منها وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن ومثله : اداركوا و اطيرتم واطيروا وأنشد الكسائي :
( توالى الضجيع إذا ما اشتاقها حضرا ... عذب المذاق إذا ما اتابع القبل )
وقرأ الأعمش { اثاقلتم } على الأصل ومعناه تباطأتم وعدي بإلى لتضمنه معنى الميل والإخلاد وقيل معناه : ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقرئ { اثاقلتم } على الاستفهام ومعناه التوبيخ والعامل في الظرف ما في { ما لكم } من معنى الفعل كأنه قيل ما يمنعكم أو ما تصنعون إذا قيل لكم ؟ و { إلى الأرض } متعلق باثاقلتم وكما مر قوله : { أرضيتم بالحياة الدنيا } أي بنعيمها بدلا من الآخرة كقوله تعالى : { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } أي بدلا منكم ومثله قول الشاعر :
( قلبت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان )
أي بدلا من ماء زمزم والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء يعلق عليه الماء ليبرد ومعنى { في الآخرة } أي في جنب الآخرة وفي مقابلها { إلا قليل } أي إلا متاع حقير لا يعبأ به ويجوز أن يراد بالقليل العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل إذ من البعيد أن يطبقوا جميعا على التباطؤ والتثاقل وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل وهو كثير شائع (2/525)
قوله : 39 - { إلا تنفروا يعذبكم } هذا تهديد شديد ووعيد مؤكد لمن ترك النفير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم { يعذبكم عذابا أليما } أي يهلككم بعذاب شديد مؤلم قيل في الدنيا فقط وقيل هو أعم من ذلك قوله : { ويستبدل قوما غيركم } أي يجعله لرسله بدلا منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم
واختلف في هؤلاء القوم من هم ؟ فقيل أهل اليمن وقيل أهل فارس ولا وجه للتعيين بدون دليل قوله : { ولا تضروه شيئا } معطوف على { يستبدل } والضمير قيل لله وقيل للنبي صلى الله عليه و سلم : أي ولا تضروا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئا أو لا تضروا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئا { والله على كل شيء قدير } ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم (2/526)
قوله : 40 - { إلا تنصروه فقد نصره الله } أي إن تركتم نصره فالله متكفل به فقد نصره في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له حال كونه { ثاني اثنين } أي أحد اثنين وهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وقرئ بسكون الياء قال ابن جني : حكاها أبو عمرو بن العلاء ووجهها أن تسكن الياء تشبيها بالألف قال ابن عطية : فهي كقراءة الحسن { ما بقي من الربا } وكقول جرير :
( هو الخليفة فارضوا ما رضيه لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف )
قوله : { إذ هما في الغار } بدل من { إذ أخرجه } بدل بعض والغار : ثقب في الجبل المسمى ثورا وهو المشهور بغار ثور وهو جبل قريب من مكة وقصة خروجه صلى الله عليه و سلم من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث قوله : { إذ يقول لصاحبه } بدل ثان : أي وقت قوله لأبي بكر : { لا تحزن إن الله معنا } أي دع الحزن فإن الله بنصره وعونه وتأييده معنا ومن كان الله معه فلن يغلب ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن قوله : { فأنزل الله سكينته عليه } السكينة : تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه وحصل له الأمن على أن الضمير في { عليه } لأبي بكر وقيل : هو للنبي صلى الله عليه و سلم ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له ويؤيد كون الضمير في { عليه } للنبي صلى الله عليه و سلم الضمير في { أيده بجنود لم تروها } فإنه للنبي صلى الله عليه و سلم لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة كما كان في يوم بدر وقيل : إنه لا محذور في رجوع الضمير من { عليه } إلى أبي بكر ومن { وأيده } إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإن ذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } أي كلمة الشرك وهي دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام { وكلمة الله هي العليا } قرأ الأعمش ويعقوب بنصب { كلمة } حملا على { جعل } وقرأ الباقون برفعها على الاستئناف وقد ضعف قراءة النصب الفراء وأبو حاتم وفي ضمير الفصل أعني { هي } تأكيد لفضل كلمته في العلو وأنها المختصة به دون غيرها وكلمة الله هي كلمة التوحيد والدعوة إلى الإسلام { والله عزيز حكيم } أي غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب (2/526)
ثم لما توعد من لم ينفر مع الرسول صلى الله عليه و سلم وضرب له من الأمثال ما ذكره عقبه بالأمر الجزم فقال : 41 - { انفروا خفافا وثقالا } أي حال كونكم خفافا وثقالا قيل المراد منفردين أو مجتمعين وقيل نشاطا وغير نشاط وقيل فقراء وأغنياء وقيل شبابا وشيوخا وقيل رجالا وفرسانا وقيل من لا عيال له ومن له عيال وقيل من يسبق إلا الحرب كالطلائع ومن يتأخر كالجيش وقيل غير ذلك ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني لأن معنى الآية : انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت قيل : وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } وقيل الناسخ لها قوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } الآية وقيل هي محكمة وليست بمنسوخة ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج } وإخراج الضعيف والمريض بقوله : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } من باب التخصيص لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله : { خفافا وثقالا } والظاهر عدم دخولهم تحت العموم قوله : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد فالفقراء يجاهدون بأنفسهم والأغنياء بأموالهم وأنفسهم والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدو وبدفعه فإن كان لا يقوم بالعدو إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدم من الأمر بالنفير والأمر بالجهاد { خير لكم } أي خير عظيم في نفسه وخير من السكون والدعة { إن كنتم تعلمون } ذلك وتعرفون الأشياء الفاضلة وتميزونها عن المفضولة (2/527)
قوله : 42 - { لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك } قال الزجاج : لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه والعرض : ما يعرض من منافع الدنيا والمعنى : غنيمة قريبة غير بعيدة { وسفرا قاصدا } عطف على ما قبله : أي سفرا متوسطا بين القرب والبعد وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد { ولكن بعدت عليهم الشقة } قال أبو عبيدة وغيره : إن الشقة السفر إلى أرض بعيدة يقال منه شقة شاقة قال الجوهري : الشقة بالضم من الثياب والشقة أيضا : السفر البعيد وربما قالوه بالكسر والمراد بهذا غزوة تبوك فإنها كانت سفرة بعيدة شاقة وقرأ عيسى بن عمر بعدت عليهم الشقة بكسر العين والشين { وسيحلفون بالله } أي المتخلفون عن غزوة تبوك حال كونكم قائلين { لو استطعنا لخرجنا معكم } أي لو قدرنا على الخروج ووجدنا ما نحتاج إليه فيه مما لا بد منه { لخرجنا معكم } هذه الجملة سادة مسد جواب القسم والشروط قوله : { يهلكون أنفسهم } هو بدل من قوله : { سيحلفون } لأن من حلف كاذبا فقد أهلك نفسه أو يكون حالا : أي مهلكين أنفسهم موقعين لها موقع الهلاك { والله يعلم إنهم لكاذبون } في حلفهم الذي سيحلفون به لكم
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا } الآية قال هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحين أمرهم بالنفير في الصيف وحين خرفت النخل وطابت الثمار واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج فأنزل الله : { انفروا خفافا وثقالا } وأخرج أبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه فأنزل الله هذه الآية فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت : { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } وقد كان تخلف عنه أناس في البدو يفقهون قومهم فقال المؤمنون : قد بقي ناس في البوادي وقالوا هلك أصحاب البوادي فنزلت : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وأخرج أبو داود وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { إلا تنفروا } الآية قال : نسختها { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إلا تنصروه فقد نصره الله } قال : ذكر ما كان من أول شأنه حين بعث يقول : فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب وعروة : أنهم ركبوا في كل وجه يعني المشركين يطلبون النبي صلى الله عليه و سلم وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم ويجعلون لهم الحمل العظيم وأتوا على ثور الجبل الذي فيه الغار والذي فيه النبي صلى الله عليه و سلم حتى طلعوا فوقه وسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر أصواتهم فأشفق أبو بكر وأقبل عليه الهم والخوف فعند ذلك يقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم : { لا تحزن إن الله معنا } ودعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت عليه السكينة من الله فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين الآية وأخرج ابن شاهين وابن مردويه وابن عساكر عن حبشي بن جنادة قال : [ قال أبو بكر : يا رسول الله لو أن أحدا من المشركين رفع قدمه لأبصرنا فقال : يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا ] وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري في قوله : { إذ هما في الغار } قال : هو الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس في قوله : { فأنزل الله سكينته عليه } قال : على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم تزل معه السكينة وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : [ دخل النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر غار حراء فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم : لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإياك فقال صلى الله عليه و سلم : ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر ؟ إن الله أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود لم يروها ] وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت { فأنزل الله سكينته عليه } قال : على أبي بكر فأما النبي صلى الله عليه و سلم فقد كانت عليه السكينة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } قال : هي الشرك بالله { وكلمة الله هي العليا } قال : لا إله إلا الله وأخرج الفريابي وأبو الشيخ عن أبي الضحى قال : أول ما أنزل من براءة { انفروا خفافا وثقالا } ثم نزل أولها وآخرها وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي مالك نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { خفافا وثقالا } قال : نشاطا وغير نشاط وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم في الآية قال : مشاغيل وغير مشاغيل وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : في العسر واليسر وأخرج ابن المنذر عن زيد بن أسلم قال : فتيانا وكهولا وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عكرمة قال : شبابا وشيوخا أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : قالوا إن فينا الثقيل وذا الحاجة والضيعة والشغل فأنزل الله : { انفروا خفافا وثقالا } وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال : جاء رجل زعموا أنه المقداد وكان عظيما سمينا فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى فنزلت : { انفروا خفافا وثقالا } فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله فقال : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } الآية وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قيل له : ألا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب ابنة عظيم الروم ؟ فقال رجلان : قد علمت يا رسول الله أن النساء فتنة فلا تفتنا بهن فأذن لنا فأذن لهما فلما انطلقنا قال أحدهما : إن هو إلا شحمة لأول آكل فسار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم ينزل عليه شيء في ذلك فلما كان بعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المناة { لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك } ونزل عليه : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } ونزل عليه : { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } ونزل عليه : { إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون } وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس : { لو كان عرضا قريبا } قال : غنيمة قريبة { ولكن بعدت عليهم الشقة } قال : المسير وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { والله يعلم إنهم لكاذبون } قال : لقد كانوا يستطيعون الخروج ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد (2/528)
الاستفهام في 43 - { عفا الله عنك لم أذنت لهم } للإنكار من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم حيث وقع منه اإذن لمن استأذنه في القعود قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه ومن هو كاذب فيه وفي ذكر العفو عنه صلى الله عليه و سلم ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه وقيل إن هذا عتاب له صلى الله عليه و سلم في إذنه للمنافقين بالخروج معه لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج والأول أولى وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله : { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا موجه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات والله أعلم وقيل : إن قوله : { عفا الله عنك } هي افتتاح كلام كما تقول : أصلحك الله وأعزك ورحمك كيف فعلت كذا وكذا حكاه مكي والنحاس والمهدوي وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على { عفا الله عنك } وعلى التأويل الأول لا يحسن ولا يخافك أن التفسير الأول هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه و سلم والمسألة مدونة في الأصول وفيها أيضا دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة والاغترار بظواهر الأمور و حتى في { حتى يتبين لك الذين صدقوا } للغاية كأنه قيل : لما سارعت إلى الإذن لهم وهلا تأنيث حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه وكذب من هو كاذب منهم في ذلك ؟ (2/531)
ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في القعود عن الجهاد بل كان من عادتهم أنهم صلى الله عليه و سلم إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك فقال : 44 - { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا } وهذا على أن معنى الآية أن لا يجاهدوا على حذف حرف النفي وقيل المعنى : لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد وقيل : إن معنى الاستئذان في الشيء الكراهة له وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى : لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم لوقوع الإذن منك فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف قال الزجاج : أن يجاهدوا في موضع نصب بإضمار في : أي في أن يجاهدوا { والله عليم بالمتقين } وهم هؤلاء الذين لم يستأذنوا (2/532)
45 - { إنما يستأذنك } في القعود عن الجهاد والتخلف عنه { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } وهم المنافقون وذكر الإيمان بالله أولا ثم باليوم الآخر ثانيا في الموضعين لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله قوله : { وارتابت قلوبهم } عطف على قوله : { الذين لا يؤمنون } وجاء بالماضي للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم وهو الشك قوله : { فهم في ريبهم يترددون } أي في شكهم الذي حل بقلوبهم يتحيرون والتردد التحير والمعنى : فهؤلاء الذين يستأذنوك ليسوا بمؤمنين بل مرتابين حائرين لا يهتدون إلى طريق الصواب ولا يعرفون الحق (2/532)
قوله : 46 - { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } أي لو كانوا صادقين فيما يدعونه ويخبرونك به من أنهم يريدون الجهاد معك ولكن لم يكن معهم من العدة للجهاد ما يحتاج إليه لما تركوا إعداد العدة وتحصيلها قبل وقت الجهاد كما يستعد لذلك المؤمنون فمعنى هذا الكلام : أنهم لا يريدوا الخروج أصلا ولا استعدوا للغزو والعدة ما يحتاج إليه المجاهد من الزاد والراحلة والسلاح قوله : { ولكن كره الله انبعاثهم } أي ولكن كره الله خروجهم فتثبطوا عن الخروج فيكون المعنى : ما خرجوا ولكن تثبطوا لأن كراهة الله انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج والانبعاث الخروج : أي حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم لأنهم قالوا : إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا على المؤمنين وقيل المعنى : لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لكراهة الله له قوله : { وقيل اقعدوا مع القاعدين } قيل القائل لهم هو الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة وقيل قاله بعضهم لبعض وقيل قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم غضبا عليهم وقيل هو عبارة عن الخذلان : أي أوقع الله في قلوبهم القعود خذلانا لهم ومعنى { مع القاعدين } أي مع أولي الضرر من العميان والمرضى والنساء والصبيان وفيه من الذم لهم والإزراء عليهم والتنقص بهم ما لا يخفى (2/532)
قوله : 47 - { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين عن تخلف المنافقين والخبال : الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف قيل هذا الاستثناء منقطع : أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال وقيل المعنى : لا يزيدونكم فيما ترددون فيه من الرأي إلا خبالا فيكون متصلا وقيل هو استثناء من أعم العام : أي ما زادوكم شيئا إلا خبالا فيكون الاستثناء من قسم المتصل لأن الخبال من جملة ما يصدق عليه الشيء قوله : { ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } الإيضاع : سرعة السير ومنه قول ورقة بن نوفل :
( يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع )
يقال : أوضع البعير : إذا أسرع السير وقيل : الإيضاع سير الخبب والخلل الفرجة بين الشيئين والجمع الخلال : أي الفرج التي تكون بين الصفوف والمعنى : لسعوا بينكم بالإفساد بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الإرجاف والنمائم الموجبة لفساد ذات البين قوله : { يبغونكم الفتنة } يقال : بغيته كذا : طلبته له وأبغيته كذا : أعنته على طلبه والمعنى : يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد وقيل : الفتنة هنا الشرك وجملة { وفيكم سماعون لهم } في محل نصب على الحال : أي والحال أن فيكم من يستمع ما يقولونه من الكذب فينقله إليكم فيتأثر من ذلك الاختلاف بينكم والفساد لإخوانكم { والله عليم بالظالمين } وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم فلذلك اقتضت حكمته البالغة أن لا يخرجوا معكم وكره انبعاثهم معكم ولا ينافي حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تقدم من عتابه على الإذن لهم في التخلف لأنه سارع إلى الإذن لهم ولم يكن قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم يفعلون هذه الأفاعيل فعوتب صلى الله عليه و سلم على تسرعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب ولهذا قال الله سبحانه فيما يأتي في هذه السورة : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا } الآية وقال في سورة الفتح : { سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم } إلى قوله : { قل لن تتبعونا } (2/533)
قوله : 48 - { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } أي لقد طلبوا الإفساد والخبال وتفريق كلمة المؤمنين وتشتيت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها كما وقع من عبد الله بن أبي وغيره { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } قوله : { وقلبوا لك الأمور } أي صرفوها من أمر إلى أمر ودبروا لك الحيل والمكائد ومنه قول العرب حول قلب إذا كان دائرا حول المكائد والحيل يدير الرأي فيها ويتدبره وقرئ وقلبوا بالتخفيف { حتى جاء الحق } أي إلى غاية هي مجيء الحق وهو النصر لك والتأييد { وظهر أمر الله } بإعزاز دينه وإعلام شرعه وقهر أعدائه وقيل : الحق القرآن { وهم كارهون } أي والحال أنهم كارهون لمجيء الحق وظهور أمر الله ولكن كان ذلك على رغم منهم (2/534)
49 - { ومنهم } أي من المنافقين { من يقول } لرسول الله صلى الله عليه و سلم { ائذن لي } في التخلف عن الجهاد { ولا تفتني } أي لا توقعني في الفتنة : أي الإثم إذا لم تأذن لي فتخلفت بغير إذنك وقيل معناه : لا توقعني في الهلكة بالخروج { ألا في الفتنة سقطوا } أي في نفس الفتنة سقطوا وهي فتنة التخلف عن الجهاد والاعتذار الباطل والمعنى : أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل وذلك أشد من مجرد الدخول في الفتنة ثم توعدهم على ذلك فقال : { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } أي مشتملة عليهم من جميع الجوانب لا يجدون عنها مخلصا ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال
وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير عن عمرو بن ميمون قال : اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يؤمر فيهما بشيء : إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فأنزل الله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله قال : سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا ؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة فقال : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { عفا الله عنك } الآية قال : ناس قالوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } الثلاث الآيات قال : نسخها { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عنه في قوله : { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله } الآية قال : هذا تعبير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر وعذر الله المؤمنين فقال : { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضا في قوله : { لا يستأذنك } الآيتين قال : نسختها الآية التي في سورة النور : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } إلى { إن الله غفور رحيم } فجعل الله النبي صلى الله عليه و سلم بأعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { ولكن كره الله انبعاثهم } قال : خروجهم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فثبطهم } قال : حبسهم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } قال : هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ولأوضعوا خلالكم } قال : لأسرعوا بينكم وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ولأوضعوا خلالكم } قال : لارفضوا { يبغونكم الفتنة } يبطئونك عبد الله بن نبتل وعبد الله بن أبي بن سلول ورفاعة بن تابوت وأوس بن قيظي { وفيكم سماعون لهم } محدثون لهم بأحاديثكم غير منافقين وهم عيون للمنافقين وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس قال : لما أراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس : يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر ؟ فقال : يا رسول الله إني امرؤ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن فأذن لي ولا تفتني فأنزل الله : { ومنهم من يقول ائذن لي } الآية وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله نحوه وأخرج ابن مردويه عن عائشة نحوه أيضا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا تفتني } قال : لا تخرجني { ألا في الفتنة سقطوا } يعني في الخروج وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ولا تفتني } قال : لا تؤثمني { ألا في الفتنة } قال : ألا في الإثم وقصة تبوك مذكورة في كتب الحديث والسير فلا نطول بذكرها (2/534)
قوله : 50 - { إن تصبك حسنة } أي حسنة كانت بأي سبب اتفق كما يفيده وقوعها في حيز الشرط وكذلك القول في المصيبة وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في القتال كما يفيده السياق دخولا أوليا فمن جملة ما تصدق عليه الحسنة الغنيمة والظفر ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة الخيبة والانهزام وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم والإخبار بعظيم عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين فإن المساءة بالحسنة والفرح بالمصيبة من يعظم ما يدل على أنهم في العداوة قد بلغوا إلى الغاية ومعنى { يتولوا } رجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ومواطن التحدث حال كونهم فرحين بالمصيبة التي أصابت المؤمنين ومعنى قولهم : { قد أخذنا أمرنا من قبل } أي احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحزم فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة (2/536)
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يجيب عليهم بقوله : 51 - { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } أي في اللوح المحفوظ أو في كتابه المنزل علينا وفائدة هذا الجواب أن الإنسان إذا علم أن ما قدره الله كائن وأن كل ما ناله من خير أو شر إنما هو بقدر الله وقضائه هانت عليه المصائب ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة { هو مولانا } أي ناصرنا وجاعل العاقبة لنا ومظهر دينه على جميع الأديان والتوكل على الله تفويض الأمور إليه والمعنى : أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم مختصا بالله سبحانه لا يتوكلون على غيره وقرأ طلحة بن مصرف { يصيبنا } بتشديد الياء وقرأ أعين قاضي الري يصيبنا بنون مشددة وهو لحن لأن الخبر لا يؤك ورد بمثل قوله تعالى : { هل يذهبن كيده ما يغيظ } وقال الزجاج : معناه لا يصيبنا إلا ما اختصنا الله من النصرة عليكم أو الشهادة (2/537)
وعلى هذا القول يكون قوله : 52 - { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } تكريرا لغرض التأكيد والأول أولى حتى يكون كل واحد من الجوابين اللذين أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عليهم بهما مفيدا لفائدة غير فائدة الآخر والتأسيس خير من التأكيد ومعنى { هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخصلتين الحسنيين : إما النصرة أو الشهادة وكلاهما مما يحسن لدينا والحسنى تأنيث الأحسن ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ { ونحن نتربص بكم } إحدى المساءتين لكم : إما { أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } أي قارعة نازلة من السماء فيسحتكم بعذابه { أو } بعذاب لكم { بأيدينا } أي بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي والفاء في فتربصوا فصيحة والأمر للتهديد كما في قوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أي تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا فنحن معكم متربصون ما هو عاقبتكم فستنظرون عند ذلك ما يسرنا يسوءكم وقرأ البزي وابن فليح هل تربصون بإظهار اللام وتشديد التاء وقرأ الكوفيون بإدغام اللام في التاء وقرأ الباقون بإظهار اللام وتخفيف التاء (2/537)
قوله : 53 - { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } هذا الأمر معناه الشرط والجزاء لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم والتقدير : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم وقيل هو أمر في معنى الخبر : أي أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل منكم فهو كقوله : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول وانتصاب طوعا أو كرها على الحال فهما مصدران في موقع المشتقين : أي أنفقوا طائعين في غير أمر من الله ورسوله أو مكرهين بأمر منهما وسمي الأمر منهما إكراها لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم وجملة { إنكم كنتم قوما فاسقين } تعليل لعدم قبول إنفاقهم والفسق : التمرد والعتو وقد سبق بيانه لغة وشرعا (2/537)
ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال : 54 - { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } أي كفرهم بالله وبرسوله جعل المانع من القبول ثلاثة أمور : الأول : الكفر الثاني : أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل لأنهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظهرا بالإسلام الذي يبطنون خلافه والثالث : أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون ولا ينفقونها طوعا لأنهم يعدون إنفاقها وضعا لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله (2/538)
قوله : 55 - { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } الإعجاب بالشيء : أن يسر به سرورا راض متعجب من حسنه قيل مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه والمعنى : لا تستحسن ما معهم من الأموال والأولاد { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } بما يحصل معهم من الغم والحزن عند أن يغنمها المسلمون ويأخذوها قسرا من أيديهم مع كونها زينة حياتهم وقرة أعينهم وكذا في الآخرة يعذبهم بعذاب النار بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها والتصدق بما يحق التصدق به وقيل في الكلام تقديم وتأخير والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة لأنهم منافقون فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون قوله : { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } الزهوق : الخروج بصعوبة والمعنى : أن الله يريد أن تزهق أنفسهم وتخرج أرواحهم حال كفرهم لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء وأرسلت به الرسل وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة (2/538)
ثم ذكر الله سبحانه نوعا آخر من قبائح المنافقين فقال : 56 - { ويحلفون بالله إنهم لمنكم } أي من جملتكم في دين الإسلام والانقياد لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولكتاب الله سبحانه { وما هم منكم } في ذلك إلا بمجرد ظواهرهم دون بواطنهم { ولكنهم قوم يفرقون } أي يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبي فيظهرون لكم الإسلام تقية منهم لا عن حقيقة (2/538)
57 - { لو يجدون ملجأ } يلتجئون إليه ويحفظون نفوسهم فيه منكم من حصن أو غيره { أو مغارات } جمع مغارة من غار يغير قال الأخفش : ويجوز أن يكون من أغار يغير والمغارات : الغيران والسراديب وهي المواضع التي يستتر فيها ومنه غار الماء وغارت العين والمعنى : لو وجدوا أمكنة يغيبون فيا أشخاصهم هربا منكم { أو مدخلا } من الدخول : أي مكانا يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات قال النحاس : الأصل فيه متدخل قلبت التاء دالا وقيل أصله مدتخل وقرأ أبي متدخلا وروي عنه أنه قرأ مندخلا بالنون وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن أو مدخلا بفتح الميم وإسكان الدال قال الزجاج : ويقرأ أو مدخلا بضم الميم وإسكان الدال وقرأ الباقون بتشديد الدال مع ضم الميم { لولوا إليه } أي لالتجئوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه { و } الحال أنـ { وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء من جمح الفرس : إذا لم يرده اللجام ومنه قول الشاعر :
( سبوح جموح وإحضارها ... كمعمعة السعف الموقد )
والمعنى : لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه و سلم أخبار السوء يقولون : إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله : { إن تصبك حسنة تسؤهم } الآية وأخرج سنيد وابن جرير عن ابن عباس { إن تصبك حسنة تسؤهم } يقول : إن يصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك حسنة تسؤهم قال : الجد وأصحابه يعني الجد بن قيس وأخرج أبو الشيخ عن السدي { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } قال : إلا ما قضى الله لنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } قال : فتح أو شهادة وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { أو بأيدينا } قال : القتل بالسيوف وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قال الجد بن قيس إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي قال : ففيه نزلت : { قل أنفقوا طوعا أو كرها } الآية وأخرج وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { فلا تعجبك أموالهم } قال : هذه من تقاديم الكلام يقول : لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } قال : تزهق أنفسهم في الحياة الدنيا { وهم كافرون } قال : هذه آية فيها تقديم وتأخير وأخرج أبو حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { فلا تعجبك } يقول : لا يغررك { وتزهق } قال : تخرج أنفسهم قال في الدنيا وهم كافرون وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { لو يجدون ملجأ } الآية قال : الملجأ الحرز في الجبال والمغارات : الغيران والمدخل : السرب وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي { وهم يجمحون } قال : يسرعون (2/539)
قوله : 58 - { ومنهم من يلمزك } هذا ذكر نوع آخر من قبائحهم يقال : يلمزه : إذا عابه قال الجوهري : اللمز العيب وأصله الإشارة بالعين ونحوه وقد لمزه يلمزه ويلمزه ورجل لماز ولمزة : أي عياب قال الزجاج : لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها : إذا عبته وكذا همزته ومعنى الآية : ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات : أي في تفريقها وقسمتها وروي عن مجاهد أنه قال : معنى { يلمزك } يرزؤك ويسألك والقول عند أهل اللغة هو الأول كما قال النحاس وقرى يلمزك بضم الميم ويلمزك بكسرها مع التشديد وقرأ الجمهور بكسرها مخففة { فإن أعطوا منها } أي من الصدقات بقدر ما يريدون { رضوا } بما وقع من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يعيبوه وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا وليسوا من الدين في شيء { وإن لم يعطوا منها } أي من الصدقات ما يريدونه ويطلبونه { إذا هم يسخطون } أي وإن لم يعطوا فاجئوا السخط وفائدة إذا الفجائية أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه وقد نابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاء (2/540)
59 - { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله } أي ما فرضه الله لهم وما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصدقات وجواب لو محذوف : أي لكان خيرا لهم فإن فيما أعطهم الخير العاجل والآجل { وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله } أي قالوا هذه المقالة عند أن أعطاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ما هو لهم : أي كفانا الله سيعطينا من فضله ويعطينا رسوله بعد هذا ما نرجوه ونؤمله { إنا إلى الله راغبون } في أن يعطينا من فضله ما نرجوه (2/540)
قوله : 60 - { إنما الصدقات للفقراء } لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه و سلم في قسمة الصدقات بين الله لهم مصرفها دفعا لطعنهم وقطعا لشغبهم و { إنما } من صيغ القصر وتعريف الصدقات للجنس : أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه الأصناف المذكورة لا يتجاوزها بل هي لهم لا لغيرهم
وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة ؟ فذهب إلى الأول الشافعي وجماعة من أهل العلم وذهب إلى الثاني مالك وأبو حنيفة وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم : احتج الأولون بما في الآية من القصر وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فبايعته فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : [ إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك ] وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف لا لوجوب استيعاب الأصناف وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة وصح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم ] وقد ادعى مالك الإجماع على القول الآخر قال ابن عبد البر : يريد إجماع الصحابة فإنه لا يعلم له مخالفا منهم قوله : { للفقراء } قدمهم لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدة فاقتهم وحاجتهم
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال : فقال يعقوب بن السكيت والقتيبي ويونس بن حبيب : إن الفقير أحسن حالا من المسكين قالوا : لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه والمسكين الذي لا شيء له وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة وقال آخرون بالعكس فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير واحتجوا بقوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين } فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر وربما ساوت جملة من المال ويؤيده تعوذ النبي صلى الله عليه و سلم من الفقر مع قوله : [ اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا ] وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة وحكاه الطحاوي عن الكوفيين وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه وقال قوم : إن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك وبه قال أبو يوسف وقال قوم : الفقير المحتاج المتعفف والمسكين السائل قاله الأزهري واختاره ابن شعبان وهو مروي عن ابن عباس وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتد بها والأولى في بيان ماهية المسكين ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عند البخاري
ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا ] قوله : { والعاملين عليها } أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة فإنهم يستحقون منها قسطا
وقد اختلف في القدر الذي يأخذونه منها فقيل الثمن روي ذلك عن مجاهد والشافعي وقيل على قدر أعمالهم من الأجرة روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه وقيل : يعطون من بيت الله قدر أجرتهم روي ذلك عن مالك ولا وجه لهذا فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيبا من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها ؟ واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشميا أم لا ؟ فمنعه قوم وأجازه آخرون قالوا : ويعطى من غير الصدقة قوله : { والمؤلفة قلوبهم } هم قوم كانوا في صدر الإسلام فقيل : هم الكفار الذين كان النبي صلى الله عليه و سلم يتألفهم ليسلموا وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف بل بالعطاء وقيل : هم قوم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتألفهم بالعطاء وقيل : هم من أسلم من اليهود والنصارى وقيل : هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع أعطاهم النبي صلى الله عليه و سلم ليتألفوا أتباعهم على الإسلام وقد أعطى النبي صلى الله عليه و سلم جماعة ممن أسلم ظاهرا كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل تألفهم بذلك وأعطى آخرين دونهم
وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا ؟ فقال عمر والحسن والشعبي : قد انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي وقد ادعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك وقال جماعة من العلماء : سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين قال يونس : سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخ ذلك وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف قوله : { وفي الرقاب } أي في فك الرقاب بأن يشتري رقابا ثم يعتقها روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وقال الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد : إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ورواية عن مالك والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعا لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة قوله : { والغارمين } هم الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب وقد أعان النبي صلى الله عليه و سلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها قوله : { وفي سبيل الله } هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء وهذا قول أكثر العلماء وقال ابن عمر : هم الحجاج والعمار وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به قوله : { وابن السبيل } هو المسافر والسبيل الطريق ونسب إليها المسافر لملازمته إياها والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره فإنه يعطى منها وإن كان غنيا في بلده وإن وجد من يسلفه وقال مالك : إذا وجد من يسلفه فلا يعطى قوله : { فريضة من الله } مصدر مؤكد لأن قوله : { إنما الصدقات للفقراء } معناه : فرض الله الصدقات لهم والمعنى : أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته { والله عليم } بأحوال عباده { حكيم } في أفعاله وقيل : إن فريضة منتصبة بفعل مقدر : أي فرض الله ذلك فريضة قال في الكشاف : فإن قلت لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الآخرة ؟ قلت : للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره وقيل : النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا به كما شاءوا وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة كذا قيل
وقد أخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : [ بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التيمي فقال : اعدل يا رسول الله فقال : ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] الحديث حتى [ قال : وفيهم نزلت : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ومنهم من يلمزك } قال : يرزأك يسألك وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال : يطعن عليك وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : [ لما قسم النبي صلى الله عليه و سلم غنائم حنين سمعت رجلا يقول : إن هذه لقسمة ما أريد بها الله فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم وذكرت ذلك له فقال : رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ] ونزل : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نسخت هذه الآية كل صدقة في القرآن { إنما الصدقات للفقراء } الآية وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ عن حذيفة في قوله : { إنما الصدقات للفقراء } الآية قال : إن شئت جعلتها في صنف واحد من الأصناف الثمانية التي سمى الله أو صنفين أو ثلاثة وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي العالية والحسن وعطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير نحوه وأخرج ابن المنذر والنحاس عن ابن عباس قال : الفقراء فقراء المسلمين والمساكين الطوافون وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ عن قتادة قال : الفقير الذي به زمانة والمسكين المحتاج الذي ليس به زمانة وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر في قوله : { إنما الصدقات للفقراء } قال : هم زمنى أهل الكتاب وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والعاملين عليها } قال : السعاة أصحاب الصدقة وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والمؤلفة قلوبهم } قال : هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أسلموا وكان يرضخ لهم من الصدقات فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيرا قالوا : هذا دين صالح وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : [ بعث علي بن أبي طالب من اليمن إلى النبي صلى الله عليه و سلم بذهيبة فيها تربتها فقسمها بين أربعة من المؤلفة : الأقرع بن حابس الحنظلي وعلقمة بن علاثة العامري وعيينة بن بدر الفزاري وزيد الخيل الطائي فقالت قريش والأنصار : يقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنما أتألفهم ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الزهري أنه سئل عن المؤلفة قلوبهم قال : من أسلم من يهودي أو نصراني قلت : وإن كان موسرا ؟ قال : وإن كان موسرا وأخرج هؤلاء عن أبي جعفر قال : ليس اليوم مؤلفة قلوبهم وأخرج هؤلاء أيضا عن الشعبي مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : { وفي الرقاب } قال : هم المكاتبون وأخرج ابن المنذر عن النخعي نحوه أخرج أيضا عن عمر بن عبد الله قال : سهم الرقاب نصفان : نصف لكل مكاتب ممن يدعي الإسلام والنصف الآخر يشتري به رقاب ممن صلى وصام وقدم إسلامه من ذكر وأنثى يعتقون لله وأخرج ابن أبي شيبة وأبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في الحج وأن يعتق منها رقبة وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري أنه سئل عن الغارمين قال : أصحاب الدين وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر في قوله : { والغارمين } قال : هو الذي يسأل في دم أو جائحة تصيبه { وفي سبيل الله } قال : هم المجاهدون { وابن السبيل } قال : المنقطع به يعطى قدر ما يبلغه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : العامل عليها أو الرجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني ] وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ] وأخرج أحمد عن رجل من بني هلال قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر مثله وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال : [ أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال : إن شئتما اعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ] (2/541)
قوله : 61 - { ومنهم } هذا نوع آخر بما حكاه الله من فضائح المنافقين وقبائحهم وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه و سلم على وجه الطعن والذم هو أذن قال الجوهري : يقال رجل أذن : إذا كان يسمع مقال كل أحد يستوي فيه الواحد والجمع ومرادهم أقمأهم الله أنهم إذا آذوا النبي وبسطوا فيه ألسنهم وبلغه ذلك اعتذروا له وقبل ذلك منهم لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه أنه أذن مبالغة لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع حتى كأن جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للربيئة عين وإيذاؤهم له هو قولهم : { هو أذن } لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كل ما يقال له ولا يفرق بين الصحيح والباطل اغترارا منهم بحلمه عنهم وصفحه عن جناياتهم كرما وحلما وتغاضيا ثم أجاب الله عن قولهم هذا فقال : { قل أذن خير لكم } بالإضافة على قراءة الجمهور وقرأ الحسن بالتنوين وكذا قرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن هو لكونه أذن خير لكم وليس بأذن في غير ذلك كقولهم رجل صدق يريدون الجودة والصلاح والمعنى أنه يسمع الخير ولا يسمع الشر وقرئ أذن بسكون الذال وضمها ثم فسر كونه أذن خير بقوله : { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } أي يصدق بالله ويصدق المؤمنين لما علم فيهم من خلوص الإيمان فتكون اللام في { للمؤمنين } للتقوية كما قال الكوفيون أو متعلقة بمصدر محذوف كما قال المبرد وقرأ الجمهور ورحمة بالرفع عطف على أذن وقرى حمزة بالخفض عطفا على خير والمعنى على القراءة الأولى : هو أنه أذن خير وأنه هو رحمة للمؤمنين وعلى القراءة الثانية : أنه أذن خير وأذن رحمة قال النحاس : وهذا عند أهل العربية بعيد يعني قراءة الجر لأنه قد تباعد بين الإسمين وهذا يقبح في المخفوض والمعنى : أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن خير للمنافقين { ورحمة } لهم حيث لم يكشف أسرارهم ولا فضحهم فكأنه قال : هو أذن كما قلتم لكنه أذن خير لكمن لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه إلا أنه فسره بما هو مدح له وثناء عليه وإن كانوا قصدوا به المذمة والتقصير بفطنته ومعنى { للذين آمنوا منكم } أي الذين أظهروا الإيمان وإن لم يكونوا مؤمنين حقيقة { والذين يؤذون رسول الله } صلى الله عليه و سلم بما تقدم من قولهم : هو أذن ونحو ذلك مما يصدق عليه أنه أذية لرسول الله صلى الله عليه و سلم { لهم عذاب أليم } أي شديد الألم وقرأ ابن أبي عبلة ورحمة للمؤمنين بالنصب على أنها علة لمعلل محذوف : أي ورحمة لكم يأذن لكم (2/546)
ثم ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال : 62 - { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } والخطاب للمؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا في خلواتهم يطعنون على المؤمنين وعلى النبي صلى الله عليه و سلم فإذا بلغ ذلك إلى رسول الله وإلى المؤمنين جاء المنافقون فحلفوا على أنهم لم يقولوا ما بلغ عنهم قاصدين بهذه الأيمان الكاذبة أن يرضوا رسول الله ومن معه من المؤمنين فنعى الله ذلك عنهم وقال : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } أي هما أحق بذلك من إرضاء المؤمنين بالأيمان الكاذبة فإنهم لو اتقوا الله وآمنوا به وتركوا النفاق لكان ذلك أولى لهم وإفراد الضمير في يرضوه إما للتعظيم للجناب الإلهي بإفراده بالذكر أو لكون لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله فإرضاء الله إرضاء لرسوله أو المراد : الله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك كما قال سيبويه ورجحه النحاس أو لأن الضمير موضوع موضع اسم الإشارة فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدد أو الضمير راجع إلى المذكور وهو يصدق عليهما وقال الفراء : المعنى ورسوله أحق أن يرضوه والله افتتاح كلام كما تقول ما شاء الله وشئت وهذه الجملة أعني { والله ورسوله أحق أن يرضوه } في محل نصب على الحال وجواب { إن كانوا مؤمنين } محذوف : أي إن كانوا مؤمنين فليرضوا الله ورسوله (2/547)
قوله : 63 - { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم } قرأ الحسن وابن هرمز ألم تعلموا بالفوقية وقرأ الباقون بالتحتية : والمحاددة وقوع هذا في حد وذلك في حد كالمشاقفة : يقال حاد فلان فلانا : أي صار في حد غيره حده { فإن له نار جهنم } قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي فحق أن له نار جهنم وقال الخليل وسيبويه : إن أن الثانية مبدلة من الأولى وزعم المبرد أن هذا القول مردود وأن الصحيح ما قال الجرمي : أن الثانية مكررة للتوكيد لما طال الكلام وقال الأخفش : المعنى فوجوب النار له وأنكره المبرد وقال : هذا خطأ من أجل أن أن المفتوحة المشددة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر وقرئ بكسر الهمزة قال سيبويه وهي قراءة جيدة وأنشد :
( وإني إذا ملت ركابي مناخها ... فإني على حظي من الأمر جامح )
وانتصاب خالدا على الحال والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر من العذاب وهو مبتدأ وخبره { الخزي العظيم } أي الخزي البالغ إلى الغاية التي لا يبلغ إليها غيره وهو الذل والهوان (2/547)
قوله : 64 - { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة } قيل : هو خبر وليس بأمر وقال الزجاج : معناه ليحذر فالمعنى على القول الأول : أن المنافقين كانوا يحذرون نزول القرآن فيهم وعلى الثاني : الأمر لهم بأن يحذروا ذلك وأن تنزل في موضع نصب : أي من أن تنزل ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع خفض على تقدير من وإعمالها ويجوز أن يكون النصب على المفعولين وقد أجاز سيبويه حذرت زيدا وأنشد :
( حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار )
ومنع من النصب على المفعولية المبرد ومعنى { عليهم } أي على المؤمنين في شأن المنافقين على أن الضمير للمؤمنين والأولى أن يكون الضمير للمنافقين : أي في شأنهم { تنبئهم } أي المنافقين { بما في قلوبهم } مما يسرونه فضلا عما يظهرونه وهم وإن كانوا عالمين بما في قلوبهم فالمراد من إنباء السورة لهم إطلاعهم على أن المؤمنين قد علموا بما في قلوبهم ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عليهم فقال : { قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون } هو أمر تهديد : أي افعلوا الاستهزاء إن الله مخرج ما تحذرون من ظهوره حتى يطلع عليه المؤمنون إما بإنزال سورة أو بإخبار رسوله بذلك أو نحو ذلك (2/548)
قوله : 65 - { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } أي ولئن سألتهم عما قالوه من الطعن في الدين وثلب المؤمنين بعد أن يبلغ إليه ذلك ويطلعك الله عليه ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ولم نكن في شيء من أمرك ولا أمر المؤمنين ثم أمره الله يجيب عنهم فقال : { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } والاستفهام للتقريع والتوبيخ وأثبت وقوع ذلك منهم ولم يعبأ بإنكارهم لأنهم كانوا كاذبين في الإنكار بل جعلهم كالمعترفين بوقوع ذلك منهم حيث جعل المستهزأ به والباء لحرف النفي فإن ذلك إنما يكون بعد وقوع الاستهزاء وثبوته (2/548)
ثم قال : 66 - { لا تعتذروا } نهيا لهم عن الاشتغال بالاعتذارات الباطلة فإن ذلك غير مقبول منهم وقد نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب وقطعه من قولهم اعتذر المنزل إذا درس واعتذرت المياه إذا انقطعت { قد كفرتم } أي أظهرتم الكفر بما وقع منكم من الاستهزاء المذكور { بعد إيمانكم } أي بعد إظهاركم الإيمان مع كونكم تبطنون الكفر { إن نعف عن طائفة منكم } وهم من أخلص الإيمان وترك النفاق وتاب عنه قال الزجاج : الطائفة في اللغة الجماعة قال ابن الأنباري : ويطلق لفظ الجمع على الواحد عند العرب { نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } سبب { أنهم كانوا مجرمين } مصرين على النفاق لم يتوبوا منه قرئ نعذب بالنون وبالتاء الفوقية على البناء للمفعول وبالتحتية على البناء للفاعل وهو الله سبحانه
وقد أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين وهو الذي قال لهم : إنما محمد أذن من حدثه بشيء صدقه فأنزل الله فيه : { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : اجتمع ناس من المنافقين فيهم خلاس بن سويد بن صامت ومخشي بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه و سلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا : إنا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم فقال بعضهم : إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا فنزل : { ومنهم الذين يؤذون النبي } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { هو أذن } يعني أنه يسمع من كل أحد قال الله تعالى : { أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } يعني يصدق بالله ويصدق المؤمنين وأخرج الطبراني وابن عساكر وابن مردويه عن عمير بن سعد قال : في أنزلت هذه الآية { ويقولون هو أذن } وذلك أن عمير بن سعد كان يسمع أحاديث أهل المدينة فيأتي النبي صلى الله عليه و سلم فيساره حتى كانوا يتأذون بعمير بن سعد وكرهوا مجالسته وقال : { هو أذن } فأنزل فيه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ولئن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمير فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد لحق ولأنت شر من الحمار فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : ما حملك على الذي قلت ؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله في ذلك : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله وسمى الرجل المسلم عامر بن قيس من الأنصار وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله } يقول : يعادي الله ورسوله وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { يحذر المنافقون } الآية قال : يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا هذا وأخرج أبو نعيم في الحلية عن شريح بن عبيد أن رجلا قال لأبي الدرداء : يا معشر القراء ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم وأعظم لقما إذا أكلتم ؟ فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه بشيء فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك فقال بثوبه وخنقه وقاده إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال الرجل : إنما كنا نخوض ونلعب فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه و سلم { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوما : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء فقال رجل في المجلس : كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزل القرآن قال عبد الله : فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم والحجارة تنكبه وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب والنبي صلى الله عليه و سلم يقول : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب في رواية مالك عن ابن عمر فقال : رأيت عبد الله بن أبي وهو يشتد قدام النبي صلى الله عليه و سلم والأحجار تنكبه وهو يقول : يا محمد إنما كنا نخوض ونلعب والنبي صلى الله عليه و سلم يقول : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم : [ احبسوا علي هؤلاء الركب ] فأتاهم فقال : قلتم كذا قالوا : يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم ما تسمعون وقد روي نحو هذا من طرق عن جماعة من الصحابة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إن نعف عن طائفة } قال : الطائفة الرجل والنفر (2/549)
قوله : 67 - { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } ذكر هاهنا جملة أحوال المنافقين وأن ذكورهم في ذلك كإناثهم وأنهم متناهون في النفاق والبعد عن الإيمان وفيه إشارة إلى نفي أن يكونوا من المؤمنين ورد لقولهم : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم } ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم لحال المنافقين فقال : { يأمرون بالمنكر } وهو كل قبيح عقلا أو شرعا { وينهون عن المعروف } وهو كل حسن عقلا أو شرعا قال الزجاج : هذا متصل بقوله : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم } أي ليسوا من المؤمنين ولكن بعضهم من بعض : أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف { ويقبضون أيديهم } أي يشحون فيما ينبغي إخراجه من المال في الصدقة والصلة والجهاد فالقبض كناية عن الشح كما أن البسط كناية عن الكرم والنسيان الترك : أي تركوا ما أمرهم به فتركهم من رحمته وفضله لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان ثم حكم عليهم بالفسق : أي الخروج عن طاعة الله إلى معاصيه وهذا التركيب يفيد أنهم هم الكاملون في الفسق (2/551)
ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر بأنه 68 - { نار جهنم } و { خالدين فيها } حال مقدرة : أي مقدرين الخلود وفي هذه الآية دليل على أن وعد يقال في الشر كما يقال في الخير : { هي حسبهم } أي كافيتهم لا يحتاجون إلى زيادة على عذابها { و } مع ذلك فقد { لعنهم الله } أي طردهم وأبعدهم من رحمته { ولهم عذاب مقيم } أي نوع آخر من العذاب دائم لا ينفك عنهم (2/552)
قوله : 69 - { كالذين من قبلكم } شبه حال المنافقين بالكفار الذين كانوا من قبلهم ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب والكاف محلها رفع على خبرية مبتدأ محذوف : أي أنتم مثل الذين من قبلكم أو محلها نصب : أي فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم من الأمم وقال الزجاج : التقدير وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلكم وقيل المعنى : فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحذف المضاف ثم وصف حال أولئك الكفار الذين من قبلهم وبين وجه تشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم بأنهم كانوا أشد من هؤلاء المنافقين والكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه و سلم { قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا } أي تمتعوا { بخلاقهم } أي نصيبكم الذي قدره الله لهم من ملاذ الدنيا { فاستمتعتم } أنتم { بخلاقكم } أي نصيبكم الذي قدره الله لكم { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } أي انتفعتم به كما انتفعوا به والغرض من هذا التمثيل ذم هؤلاء المنافقين والكفار بسبب مشابهتهم لمن قبلهم من الكفار في الاستمتاع بما رزقهم الله وقد قيل : ما فائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم في حق المنافقين ثانيا ثم تكريره في حق الأولين ثالثا ؟ وأجيب : بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغرقهم في تلك الحظوظ فلما قرر تعالى هذا عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة قوله : { وخضتم كالذي خاضوا } معطوف على ما قبله : أي كالفوج الذي خاضوا أو كالخوض الذي خاضوا وقيل : أصله كالذين فحذفت النون والأولى أن يقال : إن الذي اسم موصول مثل من وما يعبر به عن الواحد والجمع يقال : خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا والموضع مخاضة وهو ما جاز الناس فيه مشاة وركبانا وجمعها المخاض والمخاوض ويقال : منه خاض القوم في الحديث وتخاوضوا فيه أي تفاوضوا فيه والمعنى : خضتم في أسباب الدنيا واللهو اللعب وقيل في أمر محمد صلى الله عليه و سلم بالتكذيب : أي دخلتم في ذلك والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المتصفين بهذه الأوصاف من المشبهين والمشبه بهم { حبطت أعمالهم } أي بطلت والمراد بالأعمال ما عملوه مما هو في صورة طاعة لا هذه الأعمال المذكورة هنا فإنها من المعاصي ومعنى { في الدنيا والآخرة } أنها باطلة على كل حال : أما بطلانها في الدنيا فلأن ما يترتب على أعمالهم فيها لا يحصل لهم بل يصير ما يرجونه من الغنى فقرا ومن العز ذلا ومن القوة ضعفا وأما في الآخرة فلأنهم يصيرون إلى عذاب النار ولا ينتفعون بشيء مما عملوه من الأعمال التي يظنونها طاعة وقربة { وأولئك هم الخاسرون } أي المتمكنون في الخسران الكاملون فيه فيه الدنيا والآخرة (2/552)
70 - { ألم يأتهم } أي المنافقين { نبأ الذين من قبلهم } أي خبرهم الذي له شأن وهو ما فعلوه وما فعل بهم ولما شبه حالهم بحالهم فيما سلف عن الإجمال في المشبه بهم ذكر منهم ههنا ست طوائف قد سمع العرب أخبارهم لأن بلادهم وهي الشام قريبة من بلاد العرب فالاستفهام للتقرير وأولهم : قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق وثانيهم : قوم عاد وقد أهلكوا بالريح العقيم وثالثهم : قوم ثمود وقد أخذوا بالصيحة ورابعهم : قوم إبراهيم وقد سلط الله عليهم البعوض وخامسهم : أصحاب مدين وهم قوم شعيب وقد أخذتهم الرجفة وسادسهم : أصحاب المؤتفكات وهي قرى قوم لوط وقد أهلكهم الله بما أمطر عليهم من الحجارة وسميت مؤتفكات لأنها انقلبت بهم حتى صار عاليها سافلها والائتفاك الانقلاب { أتتهم رسلهم بالبينات } أي رسل هذه الطوائف الست وقيل : رسل أصحاب المؤتفكات لأن رسولهم لوط وقد بعث إلى كل قرية من قراهم رسولا والفاء في { فما كان الله ليظلمهم } للعطف على مقدر يدل عليه الكلام : أي فكذبوهم فأهلكهم الله فما ظلمهم بذلك لأنه قد بعث إليهم رسله فأنذروهم وحذروهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بسبب ما فعلوه من الكفر بالله وعدم الانقياد لأنبيائه وهذا التركيب يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان مستمرا
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يأمرون بالمنكر } قال : هو التكذيب قال : وهو أنكر المنكر { وينهون عن المعروف } شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما أنزل الله وهو أعظم المعروف وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ويقبضون أيديهم } قال : لا يبسطونها بنفقة فيحق وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { نسوا الله فنسيهم } قال : تركوا الله فتركهم من كرامته وثوابه وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { كالذين من قبلكم } قال : صنيع الكفار كالكفار وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : ما أشبه الليلة بالبارحة { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة } إلى قوله : { وخضتم كالذي خاضوا } هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم والذي نفسي بيده لنتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { بخلاقهم } قال : بدينهم وأخرجا أيضا عن أبي هريرة قال الخلاق : الدين وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { فاستمتعوا بخلاقهم } قال : بنصيبهم في الدنيا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وخضتم كالذي خاضوا } قال : لعبتم كالذي لعبوا وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والمؤتفكات } قال : قوم لوط ائتفكت بهم أرضهم فجعل عاليها سافلها (2/553)
قوله : 71 - { بعضهم أولياء بعض } أي قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله ثم بين أوصافهم الحميدة كما بين أوصاف من قبلهم من المنافقين فقال : { يأمرون بالمعروف } أي بما هو معروف في الشرع غير منكر ومن ذلك توحيد الله سبحانه وترك عبادة غيره { وينهون عن المنكر } أي عما هو منكر في الدين غير معروف وخصص إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر من جملة العبادات لكونهما الركنين العظيمين فيما يتعلق بالأبدان والأموال وقد تقدم معنى هذا { ويطيعون الله } في صنع ما أمرهم بفعله أو نهاهم عن تركه والإشارة بـ { أولئك } إلى المؤمنين والمؤمنات المتصفين بهذه الأوصاف والسين في { سيرحمهم الله } للمبالغة في إنجاز الوعد { إن الله عزيز } لا يغالب { حكيم } في أقواله وأفعاله (2/554)
ثم ذكر تفصيل ما يدخل تحت الرحمة إجمالا باعتبار الرحمة في الدار الآخرة فقال : 72 - { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } والإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير ومعنى جري الأنهار من تحت الجنات أنها تجري تحت أشجارها وغرقها وقد تقدم تحقيقه في البقرة { ومساكن طيبة } أي منازل يسكنون فيها من الدر والياقوت و { جنات عدن } يقال : عدن بالمكان : إذا أقام به ومنه المعدن قيل هي أعلى الجنة وقيل أوسطها وقيل قصور من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد وصف الجنة بأوصاف : الأول : جري الأنهار من تحتها والثاني : أنهم فيها خالدون والثالث : طيب مساكنها والرابع : أنها دار عدن : أي إقامة غير منقطعة هذا على ما هو معنى عدن لغة وقيل هو علم والتنكير في رضوان للتحقير : أي { ورضوان } حقير يستر { من } رضوان { الله أكبر } من ذلك كله الذي أعطاهم الله إياه وفيه دليل على أنه لا شيء من النعم وإن جلت وعظمت يماثل رضوان الله سبحانه وأن أدنى رضوان منه لا يساويه شيء من اللذات الجسمانية وإن كانت على غاية ليس وراءها غاية اللهم ارض عنا رضا لا يشوبه سخط ولا يكدره نكد يا من بيده الخير كله دقه وجله والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم مما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات { هو الفوز العظيم } دون كل فوز مما يعده الناس فوزا
وقد أخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { يأمرون بالمعروف } قال : يدعون إلى الإيمان بالله ورسوله والنفقات في سبيل الله وما كان من طاعة الله { وينهون عن المنكر } عن الشرك والكفر قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من فرائض الله كتبها الله على المؤمنين وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { بعضهم أولياء بعض } قال : إخاؤهم في الله يتحابون بجلال الله والولاية لله وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأحاديث ما هو معروف وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال : سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير قوله تعالى : { ومساكن طيبة في جنات عدن } قالا : على الخبير سقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لونا من كل طعام في كل بيت سبعون وصيفا فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { جنات عدن } قال : معدن الرجل الذي يكون فيه وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : معدنهم فيها أبدا وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { ورضوان من الله أكبر } يعني : إذا أخبروا أن الله عنهم راض فهو أكبر عندهم من التحف والتسنيم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ] (2/554)
الأمر للنبي صلى الله عليه و سلم بهذا الجهاد أمر لأمته من بعده وجهاد الكفار يكون بمقاتلتهم حتى يسلموا وجهاد المنافقين يكون بإقامة الحجة عليهم حتى يخرجوا عنه ويؤمنوا بالله وقال الحسن : إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم واختاره قتادة قيل في توجيهه إن المنافقين كانوا أكثر من يفعل موجبات الحدود قال ابن العربي : إن هذه دعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق دائما لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين تشهد بسياقتها أنهم لم يكونوا منافقين قوله : 73 - { واغلظ عليه } الغلظ : نقيض الرأفة وهو شدة القلب وخشونة الجانب قيل : وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح (2/556)
ثم ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة فقال : 74 - { يحلفون بالله ما قالوا }
وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية فقيل : نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت وذلك أنه لما كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم فقالا : لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير فقال له عامر بن قيس : أجل والله إن محمدا لصادق مصدق وإنك لشر من الحمار وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه و سلم وجاء الجلاس فحلف بالله إن عامرا لكاذب وحلف عامر لقد قال وقال : اللهم أنزل على نبيك شيئا فنزلت وقيل : إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي وقيل حذيفة وقيل بل سمعه ولد امرأته : أي امرأة الجلاس واسمه عمير بن سعد فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره وقيل : إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي رأس المنافقين لما قال : ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك و { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فجاء عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله وقيل : إنه قول جميع المنافقين وأن الآية نزلت فيهم وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف ثم رد الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذبا فقال : { ولقد قالوا كلمة الكفر } وهي ما تقدم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة { وكفروا بعد إسلامهم } أي كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم للإسلام وإن كانوا كفارا في الباطن والمعنى : أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم قوله : { وهموا بما لم ينالوا } قيل : هو همهم بقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة في غزوة تبوك وقيل : هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبي وقيل : هو هم الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } أي وما عابوا وأنكروا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء وهو إغناء الله لهم من فضله والاستثناء مفرغ من أعم العام وهو من باب قول النابغة :
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب )
ومن باب قول الشاعر :
( ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا )
فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة اتسعت معيشتهم وكثرت أموالهم قوله : { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } أي فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق يكن ذلك الذي فعلوه من التوبة خيرا لهم في الدين والدنيا وقد تاب الجلاس بن سويد وحسن إسلامه وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر
وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق فمنع من قبولها مالك وأتباعه لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام { وإن يتولوا } أي يعرضوا عن التوبة والإيمان { يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا } بالقتل والأسر ونهب الأموال { و } في { الآخرة } بعذاب النار { وما لهم في الأرض من ولي } يواليهم { ولا نصير } ينصرهم
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال : لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فسمعها عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا وأعزهم علي أن يدخل عليه شيء يكرهه ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني ولإحداهما أشد علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ما قال الجلاس فحلف بالله ما قال ولكن كذب علي عمير فأنزل الله : { يحلفون بالله ما قالوا } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك قال : [ سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه و سلم يخطب : إن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير قال زيد : هو والله صادق وأنت شر من الحمار فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فجحد القائل فأنزل الله : { يحلفون بالله ما قالوا } الآية ] وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم جالسا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان
ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم وأنزل الله : { يحلفون بالله ما قالوا } الآية ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي للأوس : انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك والله { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله : { يحلفون بالله } الآية وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب هذه الآية وفيما ذكرناه كفاية وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وهموا بما لم ينالوا } قال : هم رجل يقال له الأسود بقتل النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وهموا بما لم ينالوا } قال : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج وأخرج ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل ديته اثني عشر ألفا وذلك قوله : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } قال : بأخذهم الدية (2/556)
اللام الأولى وهي 75 - { لئن آتانا } الله { من فضله } لام القسم واللام الثانية وهي { لنصدقن } لام الجواب للقسم والشرط ومعنى { لنصدقن } لنخرج الصدقة وهي أعم من المفروضة وغيرها { ولنكونن من الصالحين } أي من جملة أهل الصلاح من المؤمنين القائمين بواجبات الدين التاركين لمحرماته (2/559)
76 - { فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } أي لما أعطاهم ما طلبوا من الرزق بخلوا به : أي بما آتاهم من فضله فلم يتصدقوا بشيء منه كما حلفوا به { وتولوا } أي أعرضوا عن طاعة الله وإخراج صدقات ما أعطاهم الله من فضله { و } الحال أنـ { وهم معرضون } في جميع الأوقات قبل أن يعطيهم الله ما أعطاهم من الرزق وبعده (2/559)
قوله : 77 - { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه } الفاعل هو الله سبحانه : أي فأعقبهم الله بسبب البخل الذي وقع منهم والإعراض نفاقا كائنا في قلوبهم متمكنا منها مستمرا فيها { إلى يوم يلقون } الله عز و جل وقيل : إن الضمير يرجع إلى البخل : أي فأعقبهم البخل بما عاهدوا الله عليه نفاقا كائنا في قلوبهم إلى يوم يلقون بخلهم : أي جزاء بخلهم ومعنى { فأعقبهم } أن الله سبحانه جعل النفاق المتمكن في قلوبهم إلى تلك الغاية عاقبة ما وقع منهم من البخل والباء في { بما أخلفوا الله ما وعدوه } للسببية : أي بسبب إخلافهم لما وعدوه من التصدق والصلاح وكذلك الباء في { وبما كانوا يكذبون } أي وبسبب تكذيبهم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/559)
ثم أنكر عليهم فقال : 78 - { ألم يعلموا } أي المنافقون وقرئ بالفوقية خطابا للمؤمنين { أن الله يعلم سرهم ونجواهم } أي جميع ما يسرونه من النفاق وجميع ما يتناجون به فيما بينهم من الطعن على النبي صلى الله عليه و سلم وعلى أصحابه وعلى دين الإسلام { وأن الله علام الغيوب } فلا يخفى عليه شيء من الأشياء المغيبة كائنا ما كان ومن جملة ذلك ما يصدر عن المنافقين (2/559)
قوله : 79 - { الذين يلمزون المطوعين } الموصول محله النصب أو الرفع على الذم أو الجر بدلا من الضمير في سرهم ونجواهم ومعنى { يلمزون } يعيبون وقد تقدم تحقيقه والمطوعين : أي المتطوعين والتطوع : التبرع والمعنى : أن المنافقين كانوا يعيبون المسلمين إذا تطوعوا بشيء من أموالهم وأخرجوه للصدقة فكانوا يقولون : ما أغنى الله عن هذا ويقولون : ما فعلوا هذا إلا رياء ولم يكن لله خالصا و { في الصدقات } متعلق بيلمزون : أي يعيبونهم في شأنها قوله : { والذين لا يجدون إلا جهدهم } معطوف على المطوعين : أي يلمزون المتطوعين ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم وقيل معطوف على المؤمنين : أي يلمزون المتطوعين من المؤمنين ومن الذين لا يجدون إلا جهدهم وقرئ جهدهم بفتح الجيم والجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة وقيل هما لغتان ومعناهما واحد وقد تقدم بيان ذلك والمعنى : أن المنافقين كانوا يعيبون فقراء المؤمنين الذين كانوا يتصدقون بما فضل عن كفايتهم قوله : { فيسخرون منهم } معطوف على يلمزون : أي يستهزئون بهم لحقارة ما يخرجونه في الصدقة مع كون ذلك جهد المقل وغاية ما يقدر عليه ويتمكن منه قوله : { سخر الله منهم } أي جازاهم على ما فعلوه من السخرية بالمؤمنين بمثل ذلك فسخر الله منهم بأن أهانهم وأذلهم وعذبهم والتعبير بذلك من باب المشاكلة كما في غيره وقيل هو دعاء عليهم بأن يسخر الله بهم كما سخروا بالمسلمين { ولهم عذاب أليم } أي ثابت مستمر شديد الألم
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والعسكري في الأمثال والطبراني وابن منده والبارودي وأبو نعيم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي قال : [ جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا قال : ويلك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا قال : ويحك يا ثعلبة : أما تحب أن تكون مثلي فلو شئت أن يسير ربي هذه الجبال معي ذهبا لسارت فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه قال : ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه قال : يا رسول الله ادع الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم ارزقه مالا قال : فاتخذ غنما فنمت كما تنمو الدود حتى ضاقت بها المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما تنمو الدود فتنحى بها فكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم نمت كما تنمو الدود فضاق بها
مكانه فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار وفقده رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عنه فأخبروه أنه اشترى غنما وأن المدينة ضاقت به وأخبروه خبره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ويح ثعلبة بن حاطب ويح ثعلبة بن حاطب ثم إن الله تعالى أمر رسوله أن يأخذ الصدقات وأنزل : { خذ من أموالهم صدقة } الآية فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلين رجلا من جهينة ورجلا من بني سلمة يأخذان الصدقات وكتب لهما أسنان الإبل والغنم كيف يأخذانها ووجوهها وأمرهما أن يمرا على ثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم فخرجا فمرا بثعلبة فسألا الصدقة فقال : أرياني كتابكما فنظر فيه فقال : ما هذه إلا جزية انطلقا حتى تفرعا ثم مرا إلي فانطلقا وسمع بهما السلمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا : إنما عليك دون هذا فقال ما كنت أتقرب إلى الله إلا بخير مالي فقبلا فلما فرغا مرا بثعلبة فقال : أرياني كتابكما فنظر فيه فقال : ما هذه إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قبل أن يكلمهما : ويح ثعلبة بن حاطب ودعا للسلمي بالبركة وأنزل الله : { ومنهم من عاهد الله } الثلاث الآيات قال : فسمع بعض أقارب ثعلبة فأتى ثعلبة فقال : ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا قال : فقدم ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله هذه صدقة مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله قد منعني أن أقبل منك فجعل يبكي ويحثي التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى مضى ثم أتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر : اقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار فقال أبو بكر : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقبلها ؟ فلم يقبلها أبو بكر ثم ولي عمر بن الخطاب فأتاه فقال : يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل مني صدقتي قال : ويثقل عليه بالمهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه و سلم فقال عمر : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أبو بكر أقبلها أنا ؟ فأبى أن يقبلها ثم ولي عثمان فسأله أن يقبل صدقته فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك ؟ فلم يقبلها منه فهلك في خلافة عثمان وفيه نزلت : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات } ] قال : وذلك في الصدقة وهذا الحديث هو مروي من حديث معاذ بن رفاعة عن علي بن زيد عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الله بن يزيد بن معاوية عن أبي أمامة الباهلي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { ومنهم من عاهد الله } الآية وذلك أن رجلا كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلسا فأشهدهم فقال : لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه وتصدقت منه وجعلت منه للقرابة فابتلاه الله فآتاه من فضله فأخلف ما وعده فأغضب الله بما أخلفه ما وعده فقص الله شأنه في القرآن وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رجلا من الأنصار هو الذي قال هذا فمات ابن عم له فورث منه مالا فبخل به ولم يف بما عاهد الله عليه فأعقبه بذلك نفاقا في قلبه إلى أن يلقاه قال ذلك : { بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا : مراء وجاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة هذا فنزلت : { الذين يلمزون المطوعين } الآية وفي الباب روايات كثيرة وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله : { الذين يلمزون المطوعين } أي يطعنون على المطوعين (2/559)
أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بأن صدور الاستغفار منه للمنافقين وعدمه سواء وذلك لأنهم ليسوا بأهل لاستغفاره صلى الله عليه و سلم ولا للمغفرة من الله سبحانه لهم فهو كقوله تعالى : { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } ثم قال : 80 - { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وفيه بيان لعدم المغفرة من الله سبحانه للمنافقين وإن أكثر النبي صلى الله عليه و سلم من الاستغفار لهم وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولا كما في سائر مفاهيم الأعداد بل المراد بهذا المبالغة في عدم القبول فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير والمعنى : أنه لن يغفر الله لهم وإن استغفرت لهم استغفارا بالغا في الكثرة غاية المبالغ وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد قبول الزيادة عليه ويدل لذلك ما سيأتي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لأزيدن على السبعين ] وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجها فقال : إن السبعة عدد شريف لأنها عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع فصير كل واحد من السبعة إلى عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها وقيل : خصت السبعون بالذكر لأنه صلى الله عليه و سلم كبر على عمه الحمزة سبعين تكبيرة فكأنه قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة وانتصاب سبعين على المصدر كقولهم : ضربته عشرين ضربة ثم علل عدم المغفرة لهم بقوله : { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } أي ذلك الامتناع بسبب كفرهم بالله ورسوله { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي المتمردين الخارجين عن الطاعة المتجاوزين لحدودها والمراد هنا الهداية الموصلة إلى المطلوب لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق (2/562)
ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من قبائح المنافقين فقال : 81 - { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } المخلفون المتروكون وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك أو الذين خلفهم الله وثبطهم أو الشيطان أو كسلهم أو المؤمنون ومعنى { بمقعدهم } أي بقعودهم يقال : قعد قعودا ومقعدا : أي جلس وأقعده غيره ذكر معناه الجوهري فهو متعلق بفرح : أي فرح المخلفون بقعودهم وخلاف رسول الله منتصب على أنه ظرف لمقعدهم قال الأخفش ويونس : الخلاف بمعنى الخلف : أي بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك أن جهة الإمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف وقال قطرب والزجاج : معنى خلاف رسول الله مخالفة الرسول حين سار وأقاموا فانتصابه على أنه مفعول له : أي قعدوا لأجل المخالفة أو على الحال مثل وأرسلها العراك : أي مخالفين له ويؤيد ما قاله الأخفش ويونس قراءة أبي حيوة خلف رسول الله قوله : { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } سبب ذلك الشح بالأموال والأنفس وعدم وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص ووجود الصارف عن ذلك وهو ما هم فيه من النفاق وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله لوجود الداعي معهم وانتفاء الصارف عنهم { وقالوا لا تنفروا في الحر } أي قال المنافقون لإخوانهم : هذه المقالة تثبيطا لهم وكسرا لنشاطهم وتواصيا بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم : { نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } والمعنى : أنكم أيها المنافقون كيف تفرون من هذا الحر اليسير ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبدا أشد حرا مما فررتم منه فإنكم إنما فررتم من حر يسير في زمن قصير ووقعتم في حر كثير في زمن كبير بل غير متناه أبد الآبدين ودهر الداهرين
( فكنت كالساعي إلى مثعب ... موائلا من سبل الراعد )
وجواب لو في { لو كانوا يفقهون } مقدر : أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا (2/563)
قوله : 82 - { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } هذان الأمران معناهما الخبر والمعنى : فسيضحكون قليلا ويبكون كثيرا وإنما جيء بهما على لفظ الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره وقليلا وكثيرا منصوبان على المصدرية أو الظرفية : أي ضحكا قليلا وبكاء كثيرا أو زمانا قليلا وزمانا كثيرا { جزاء بما كانوا يكسبون } أي جزاء بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي وانتصاب جزاء على المصدرية : أي يجزون جزاء (2/564)
83 - { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } الرجع متعد كالرد والرجوع لازم والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها وإنما قال { إلى طائفة } لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة وفيهم من المؤمنين من لا عذر له ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا وسيأتي بيان ذلك وقيل إنما قال : إلى طائفة لأن منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف { فاستأذنوك للخروج } معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه { فقل } لهم { لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } أي قل لهم ذلك عقوبة لهم ولما في استصحابهم من المفاسد كما تقدم في قوله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } وقرئ بفتح الياء من معي في الموضعين وقرئ بسكونها فيهما وجملة { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } للتعليل : أي لن تخرجوا معي ولن تقاتلوا لأنكم رضيتم بالقعود والتخلف أول مرة وهي غزوة تبوك والفاء في { فاقعدوا مع الخالفين } لتفريع ما بعدها على ما قبلها والخالفين جمع خالف كأنهم خلفوا الخارجين والمراد بهم من تخلف عن الخروج وقيل المعنى : فاقعدوا مع الفاسدين من قولهم : فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم من قولك خلف اللبن : أي فسد بطول المكث في السقاء ذكر معناه الأصمعي وقرئ { فاقعدوا مع الخالفين } وقال الفراء : معناه المخالفين
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم [ عن عروة أن عبد الله بن أبي قال : لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله وهو القائل : { ليخرجن الأعز منها الأذل } فأنزل الله : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لأزيدن على السبعين فأنزل الله : { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم والنحاس وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول : لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه و سلم للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت : أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا والقائل كذا وكذا ؟ أعدد أيامه ورسول الله صلى الله عليه و سلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال : يا عمر أخر عني إني قد خيرت قد قيل لي : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه و سلم والله ورسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } فما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على منافق بعد حتى قبضه الله عز و جل وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { فرح المخلفون } الآية قال : عن غزوة تبوك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال رجال : يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر فقال الله : { قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } فأمره بالخروج وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } قال : هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعبا يقول الله : فليضحكوا قليلا في الدنيا وليبكوا كثيرا في الآخرة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وفيهم قيل ما قيل وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فاقعدوا مع الخالفين } قال : هم الرجال الذين تخلفوا عن الغزو (2/564)
قوله : 84 - { مات } صفة لأحد و { أبدا } ظرف لتأبيد النفي قال الزجاج : معنى قوله : { ولا تقم على قبره } أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع هاهنا منه وقيل معناه : لا تقم بمهمات إصلاح قبره وجملة { إنهم كفروا } تعليل للنهي وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلا في دينه والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبحة في كل دين (2/566)
85 - { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } ثم نهى رسوله عن أن تعجبه أموالهم وأولادهم وهو تكرير لما سبق في هذه السورة وتقرير لمضمونه وقيل : إن الآية المتقدمة في قوم وهذه في آخرين وقيل هذه في اليهود والأولى في المنافقين وقيل غير ذلك وقد تقدم في الآية الأولى جميع ما يحتاج إليه في تفسير هذه الآية (2/566)
ثم عاد الله سبحانه إلى توبيخ المنافقين فقال : 86 - { وإذا أنزلت سورة } أي من القرآن ويجوز أن يراد بعض السورة وأن يراد تمامها وقيل هي هذه السورة : أي سورة براءة و أن في أن آمنوا بالله مفسرة لما في الإنزال من معنى القول أو مصدرية حذف منها الجار : أي بأن آمنوا وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان { استأذنك أولو الطول منهم } أي ذوو الفضل والسعة من طال عليه طولا كذا قال ابن عباس والحسن وقال الأصم : الرؤساء والكبراء المنظور إليهم وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود { وقالوا ذرنا } أي اتركنا { نكن مع القاعدين } أي المتخلفين عن الغزو من المعذورين كالضعفاء والزمنى (2/566)
والخوالف : النساء اللاتي يخلفن الرجال في القعود في البيوت جمع خالفة وجوز بعضهم أن يكون جمع خالف وهو من لا خير فيه 87 - { وطبع على قلوبهم } وهو كقوله : { ختم الله على قلوبهم } وقد مر تفسيره { فهم لا يفقهون } شيئا مما فيه نفعهم وضرهم بل هم كالأنعام
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام عمر فأخذ ثوبه فقال : يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ؟ فقال : إن ربي خيرني وقال : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وسأزيد على السبعين فقال : إنه منافق فصلى عليه فأنزل الله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } الآية فترك الصلاة عليهم وأخرج ابن ماجه والبزار وابن جرير وابن مردويه عن جابر قال : مات رأس المنافقين بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأن يكفنه في قميصه فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن أبي أوصى أن يكفن في قميصك فصلى عليه وألبسه قميصه وقام على قبره فأنزل الله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أولو الطول } قال : أهل الغنى وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله : { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } قال : مع النساء وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : رضوا بأن يقعدوا كما قعدت النساء وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : الخوالف النساء (2/566)
المقصود من الاستدراك بقوله : 88 - { لكن الرسول } إلى آخره الإشعار بأن تخلف هؤلاء غير ضائر فإنه قد قام بفريضة الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية كما في قوله : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } وقد تقدم بيان الجهاد بالأموال والأنفس ثم ذكر منافع الجهاد فقال : { وأولئك لهم الخيرات } وهي جمع خير فيشمل منافع الدنيا والدين وقيل المراد به : النساء الحسان كقوله تعالى : { فيهن خيرات حسان } ومفردة خيرة بالتشديد ثم خففت مثل هينة وهينة وقد تقدم معنى الفلاح والمراد به هنا الفائزون بالمطلوب وتكرير اسم الإشارة لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم (2/567)
والجنات : البساتين وقد تقدم بيان جري الأنهار من تحتها وبيان الخلود والفوز والإشارة بقوله : 89 - { ذلك } إلى ما تقدم من الخيرات والفلاح وإعداد الجنات الموصوفة بتلك الصفة ووصف الفوز بكونه عظيما يدل على أنه الفرد الكامل من أنواع الفوز وقد أخرج القرطبي في تفسيره عن الحسن أنه قال الخيرات : هن النساء الحسان (2/567)
قرأ الأعرج والضحاك 90 - { المعذرون } بالتخفيف من أعذر ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس قال في الصحاح : وكان ابن عباس يقرأ : { وجاء المعذرون } مخففة من أعذر ويقول : والله هكذا أنزلت قال النحاس : إلا أن مدارها على الكلبي وهي من أعذر : إذا بالغ في العذر ومنه من أنذر فقد أعذر أي بالغ في العذر وقرأ الجمهور المعذرون بالتشديد ففيه وجهان أحدهما أن يكون أصله المعتذرون فأدغمت التاء في الذال وهم الذين لهم عذر ومنه قول لبيد :
( إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر )
فالمعذرون على هذا : هم المحقون في اعتذارهم وقد روي هذا عن الفراء والزجاج ابن الأنباري وقيل هو من عذر وهو الذي يعتذر ولا عذر له يقال عذر في الأمر : إذا قصر واعتذر بما ليس بعذر ذكره الجوهري وصاحب الكشاف فالمعذرون على هذا : هم المبطلون لأنهم اعتذروا بأعذار باطلة لا أصل لها وروي عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيدة أنه يجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع والمعنى : أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتخلف عن الغزو وطائفة أخرى لم يعتذروا بل قعدوا عن الغزو لغير عذر وهم منافقو الأعراب الذين كذبوا الله ورسوله ولم يؤمنوا ولا صدقوا ثم توعدهم الله سبحانه فقال : { سيصيب الذين كفروا منهم } أي من الأعراب وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة والذين لم يعتذروا بل كذبوا الله ورسوله { عذاب أليم } أي كثير الأليم فيصدق على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وجاء المعذرون من الأعراب } أي أهل العذر منهم وروى ابن أبي حاتم عنه نحو ذلك وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عنه أيضا أنه كان يقول : لعن الله المعذرين ويقرأ بالتشديد كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد : هو المظهر للعذر اعتلالا من غير حقيقة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن إسحاق في قوله : { وجاء المعذرون من الأعراب } قال : ذكر لي أنهم نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا منهم خفاف بن إيماء وقيل لهم : رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا ومواشينا (2/568)
لما ذكر سبحانه المعذرون ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو وبدأ بالعذر في أصل الخلقة فقال : 91 - { ليس على الضعفاء } وهم أرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ونحو ذلك ثم ذكر العذر العارض فقال : { ولا على المرضى } والمراد بالمرض : كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعا وقيل إنه يدخل في المرض الأعمى والأعرج ونحوهما ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن فقال : { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } أي ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم مقيدا بقوله : { إذا نصحوا لله ورسوله } وأصل النصح إخلاص العمل من الغش ومنه التوبة النصوح قال نفطويه نصح الشيء : إذا خلص ونصح له القول : أي أخلصه له والنصح لله : الإيمان به والعمل بشريعته وترك ما يخالفها كائنا ما كان ويدخل تحته دخولا أوليا نصح عباده ومحبة المجاهدين في سبيله وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه ونصيحة الرسول صلى الله عليه و سلم : التصديق بنبوته وبما جاء به وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهى عنه وموالاة من والاه
ومعاداة من عاداه ومحبته وتعظيم سنته وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال : الدين النصيحة ثلاثا قالوا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ] وجملة { ما على المحسنين من سبيل } مقررة لمضمون ما سبق : أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل : أي طريق عقاب ومؤاخذة ومن مزيدة للتأكيد وعلى هذا فيكون لفظ { المحسنين } موضوعا في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقا أو يكون المراد : ما على جنس المحسنين من سبيل وهؤلاء المذكورون سابقا من جملتهم فتكون الجملة تعليلية وجملة { والله غفور رحيم } تذييلية وفي معى هذه الآية قوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم فيه قالوا : يا
رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ فقال : حبسهم العذر ] وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر (2/569)
ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه } والعطف على جملة { ما على المحسنين } أي ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل ويجوز أن تكون عطفا على الضعفاء : أي ولا على إذا ما أتوك إلى آخره حرج والمعنى : أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك قيل : وجملة { لا أجد ما أحملكم عليه } في محل نصب على الحال من الكاف في أتوك بإضمار قد : أي إذا ما أتوك قائلا لا أجد وقيل هي بدل من أتوك وقيل جملة معترضة بين الشرط والجزاء والأول أولى وقوله : { تولوا } جواب إذا وجملة { وأعينهم تفيض من الدمع } في محل نصب على الحال : أي تولوا عنك لما قلت لهم لا أجد ما أحملكم عليه حال كونهم باكين و { حزنا } منصوب على المصدرية أو على العلية أو الحالية و { أن لا يجدوا } مفعول له وناصبه { حزنا } وقال الفراء : أن لا بمعنى ليس : أي حزنا أن ليس يجدوا وقيل المعنى : حزنا على أن لا يجدوا وقيل المعنى : حزنا أنهم لا يجدون ما ينفقون لا عند أنفسهم ولا عندك (2/570)
ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال : 93 - { إنما السبيل } أي طريق العقوبة المؤاخذة { على الذين يستأذنونك } في التخلف عن الغزو { و } الحال أنـ { وهم أغنياء } أي يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به وجملة { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } مستأنفة كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء وقد تقدم تفسير الخوالف قريبا وجملة { وطبع الله على قلوبهم } معطوفة على { رضوا } أي سبب الاستئذان مع الغنى أمران : أحدهما : الرضا بالصفقة الخاسرة وهي أن يكونوا مع الخوالف والثاني : الطبع من الله على قلوبهم { فهم } بسبب هذا الطبع { لا يعلمون } ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسر
وقد أخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الإفراد وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت براءة فكنت أكتب ما أنزل عليه فإني لواضع القلم عن أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت : { ليس على الضعفاء } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : أنزلت هذه الآية في عابد بن عمر المزني وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزل من عند قوله : { عفا الله عنك } إلى قوله : { ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم } في المنافقين وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { ما على المحسنين من سبيل } قال : ما على هؤلاء من سبيل بأنهم نصحوا لله ورسوله ولم يطيقوا الجهاد فعذرهم الله وجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين ألم تسمع أن الله يقول : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } فجعل الله للذين عذر من الضعفاء وأولي الضرر والذين لا يجدون ما ينفقون من الأجر مثل ما جعل للمجاهدين وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ما على المحسنين من سبيل } قال { والله } لأهل الإساءة { غفور رحيم } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ولا على الذين إذا ما أتوك } الآية قال : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينبعثوا غازين معه فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا : يا رسول الله احملنا فقال : والله ما أجد ما أحملكم عليه فتولوا ولهم بكاء وعزيز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فأنزل الله عذرهم { ولا على الذين إذا ما أتوك } الآية وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله بن مغفل قال : إني لا أجد الرهط الذين ذكر الله { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } الآية وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال : هم سبعة نفر من بني عمر بن عوف سالم بن عمير ومن بني واقف حرمي بن عمرو ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن صخر ومن بني حارثة عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة واختلفوا في البعض ولا يأتي التطويل في ذلك بكثير فائدة وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم أن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ثم ذكروا أسماءهم وفيه فاستحملوا رسول الله وكانوا أهل حاجة قال : { لا أجد ما أحملكم عليه } وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن الحسن قال : كان معقل بن يسار من البكائين الذين قال الله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك في قوله : { لا أجد ما أحملكم عليه } قال : الماء والزاد وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال : حدثني مشيخة من جهينة قالوا : أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم الحملان فقالوا : ما سألناه إلا الحملان على النعال وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه في قوله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } قال : ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن صالح في الآية قال : استحملوه النعال وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { إنما السبيل على الذين يستأذنونك } قال : هي وما بعدها إلى قوله : { إن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } في المنافقين (2/571)
قوله : 94 - { يعتذرون إليكم } إخبار من الله سبحانه عن المنافقين المتعذرين بالباطل بأنهم يعتذرون إلى المؤمنين إذا رجعوا من الغزو وهذا كلام مستأنف وإنما قال : { إليهم } أي إلى المعتذرين بالباطل ولم يقل إلى المدينة لأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها ثم أخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بما يجيب به عليهم فقال : { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم } فنهاهم أولا عن الاعتذار بالباطل ثم علله بقوله : { لن نؤمن لكم } أي لن نصدقكم كأنهم ادعوا أنهم صادقون في اعتذارهم لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به فإذا عرف أنه لا يصدق ترك الاعتذار وجملة { قد نبأنا الله من أخباركم } تعليلية للتي قبلها : أي لا يقع منا تصديق لكم لأن الله قد أعلمنا بالوحي ما هو مناف لصدق اعتذاركم وإنما خص الرسول صلى الله عليه و سلم بالجواب عليهم فقال : { قل لا تعتذروا } مع أن الاعتذار منهم كائن إلى جميع المؤمنين لأنه صلى الله عليه و سلم رأسهم والمتولي لما يرد عليهم من جهة الغير ويحتمل أن يكون المراد بالضمير في قوله : { إليكم } هو الرسول صلى الله عليه و سلم على التأويل المشهور في مثل هذا قوله : { وسيرى الله عملكم } أي ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشر أم تبقون عليه ؟ وقوله : { ورسوله } معطوف على الاسم الشريف ووسط مفعول الرؤية إيذانا بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شر هي التي يدور عليها الإثابة أو العقوبة وفي جملة { ثم تردون إلى عالم الغيب } إلى آخرها تخويف شديد لما هي مشتملة عليه من التهديد ولا سيما ما اشتملت عليه من وضع الظاهر موضع المضمر لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه ويتظاهرون به وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه (2/573)
ثم ذكر أن هؤلاء المعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاءوا به من الأعذار الباطلة بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو وغرضهم من هذا التأكيد هو أن يعرض المؤمنون عنهم فلا يوبخونهم ولا يؤاخذونهم بالتخلف ويظهرون الرضا عنهم كما يفيده ذكر الرضا من بعد وحذف المحلوف عليه لكون الكلام يدل عليه وهو اعتذارهم الباطل وأمر المؤمنين بالإعراض عنهم المراد به تركهم والمهاجرة لهم لا الرضا عنهم والصفح عن ذنوبهم كما تفيده جملة 95 - { إنهم رجس } الواقعة علة للأمر بالإعراض والمعنى : أنهم في أنفسهم رجس لكون جميع أعمالهم نجسة فكأنها قد صيرت ذواتهم رجسا أو أنهم ذوو رجس : أي ذوو أعمال قبيحة ومثله { إنما المشركون نجس } وهؤلاء لما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير والتحذير من الشر فليس لهم إلا الترك وقوله : { ومأواهم جهنم } من تمام التعليل فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء ليلا أو نهارا وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا وإيواء و { جزاء } منصوب على المصدرية أو على العلية والباء في { بما كانوا يكسبون } للسببية (2/574)
وجملة 96 - { يحلفون لكم } بدل مما تقدم وحذف هنا المحلوف به لكونه معلوما مما سبق والمحلوف عليه لمثل ما تقدم وبين سبحانه أن مقصدهم بهذا الحلف هو رضا المؤمنين عنهم ثم ذكر ما يفيد أنه لا يجوز الرضا عن هؤلاء المعتذرين بالباطل فقال : { فإن ترضوا عنهم } كما هو مطلوبهم مساعدة لهم { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } وإذا كان هذا هو ما يريده الله سبحانه من عدم الرضا على هؤلاء الفسقة العصاة فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم على أن رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتد به ولا مفيد لهم والمقصود من إخبار الله سبحانه بعدم رضاه عنهم نهي المؤمنين عن ذلك لأن الرضا على من لا يرضى الله عليه مما لا يفعله مؤمن (2/574)
قوله : 97 - { الأعراب أشد كفرا ونفاقا } لما ذكر الله سبحانه أحوال المنافقين بالمدينة ذكر حال من كان خارجا عنها من الأعراب وبين أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر غيرهم ومن نفاق غيرهم لأنهم أقسى قلبا وأغلظ طبعا وأجفى قولا وأبعد عن سماع كتب الله وما جاءت به رسله والأعراب : هم من سكن البوادي بخلاف العرب فإنه عام لهذا النوع من بني آدم سواء سكنوا البوادي أو القرى هكذا قال أهل اللغة ولهذا قال سيبويه : إن الأعراب صيغة جمع وليست بصيغة جمع العرب قال النيسابوري : قال أهل اللغة : رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتا وجمعه عرب كالمجوسي والمجوس واليهودي واليهود فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ومن نزل البادية فهو أعرابي ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب وإنما هم عرب قال : قيل إنما سمي العرب عربا لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشأوا بالعرب وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم وقيل : لأن ألسنهم معربة عما في ضمائرهم ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة انتهى { وأجدر } معطوف على أشد ومعناه أخلق يقال : فلان جدير بكذا : أي خليق به وأنت جدير أن تفعل كذا والجمع جدر أو جديرون واصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء والمعنى : أنهم أحق وأخلق بـ { أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله } من الشرائع والأحكام لبعدهم عن مواطن الأنبياء وديار التنزيل { والله عليم } بأحوال مخلوقاته على العموم وهؤلاء منهم { حكيم } فيما يجازيهم به من خير وشر (2/574)
قوله : 98 - { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } هذا تنويع لجنس أو نوعين الأول هؤلاء والثاني { ومن الأعراب من يؤمن بالله } والمغرم الغرامة والخسران وأصل الغرم والغرامة ما ينفقه الرجل وليس بلازم له في اعتقاده ولكنه ينفقه للرياء والتقية وقيل أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه يلزمه لأمر خارج لا تنبعث له النفس و { الدوائر } جمع دائرة وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية وأصلها ما يحيط بالشيء ودوائر الزمان : نوبه وتصاريفه ودوله وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه ثم دعا سبحانه عليهم بقوله : { عليهم دائرة السوء } وجعل ما دعا به عليهم مماثلا لما أرادوه بالمسلمين والسوء بالفتح عند جمهور القراء مصدر أضيفت إليه الدائرة للملابسة كقولك رجل صدق وقرأ أبو عمرو وابن كثير بضم السين وهو المكروه قال الأخفش : أي عليهم دائرة الهزيمة والشر وقال الفراء : { عليهم دائرة السوء } العذاب والبلاء قال : والسوء بالفتح مصدر سوءته سوءا ومساءة وبالضم اسم لا مصدر وهو كقولك دائرة البلاء والمكروه { والله سميع } لما يقولونه { عليم } بما يضمرونه (2/575)
قوله : 99 - { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } هذا النوع الثاني من أنواع الأعراب كما تقدم : أي يصدق بهما { ويتخذ ما ينفق } أي يجعل ما ينفقه في سبيل الله { قربات } وهي جمع قربة ويه ما يتقرب به إلى الله سبحانه تقول منه قربت لله قربانا والجمع قرب وقربات والمعنى : أنه يجعل ما ينفقه سببا لحصول القربات { عند الله و } سببا لـ { صلوات الرسول } أي لدعوات الرسول لهم لأنه صلى الله عليه و سلم كان يدعو للمتصدقين ومنه قوله : { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم صل على آل أبي أوفى ] ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا النوع من الأعراب تقربا إلى الله مقبول واقع على الوجه الذي أرادوه فقال : { ألا إنها قربة لهم } فأخبر سبحانه بقبولها خبرا مؤكدا بإسمية الجملة وحرفي التنبيه والتحقيق وفي هذا من التطييب لخواطرهم والتطمين لقلوبهم ما لا يقادر قدره مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرما والتوبيخ له بأبلغ وجه والمضير في إنها راجع إلى ما في ما ينفق وتأنيثه باعتبار الخبر وقرأ نافع في رواية عنه قربة بضم الراء وقرأ الباقون بسكونها تخفيفا ثم فسر سبحانه القربة بقوله : { سيدخلهم الله في رحمته } والسين لتحقيق الوعد
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { قد نبأنا الله من أخباركم } قال : أخبرنا أنكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالا و [ في قوله : { فأعرضوا عنهم } قال : لما رجع النبي صلى الله عليه و سلم قال للمؤمنين : لا تكلموهم ولا تجالسوهم فأعرضوا عنهم كما أمر الله ] وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله : { لتعرضوا عنهم } قال : لتجاوزوا عنهم وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله : { الأعراب أشد كفرا ونفاقا } قال : من منافقي المدينة { وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } يعني الفرائض وما أمر به من الجهاد وأخرج أبو الشيخ عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن ] وإسناد أحمد هكذا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبي موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره قال في التقريب : وأبو موسى عن وهب بن منبه مجهول من السادسة ووهم من قال إنه إسرائيل بن موسى وقال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري وأخرج أبو داود والبيهقي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان افتتن وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا ] وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } قال : يعني بالمغرم أنه لا يرجو له ثوابا عند الله ولا مجازاة وإنما يعطي من يعطي من الصدقات كرها { ويتربص بكم الدوائر } الهلكات وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء على أن يغزوا ويحاربوا ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرما وأخرج ابن جرير وابن المنذر ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ومن الأعراب من يؤمن بالله } قال : هم بنو مقرن من مزينة وهم الذين قال الله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } الآية وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن معقل قال : كنا عشرة ولد مقرن فنزلت فينا : { ومن الأعراب من يؤمن بالله } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وصلوات الرسول } يعني استغفار النبي صلى الله عليه و سلم (2/575)
لما ذكر سبحانه أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين لهم وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ 100 - { والأنصار } بالرفع عطفا على { والسابقون } وقرأ سائر القراء من الصحابة فمن بعدهم بالجر قال الأخفش : الخفض في الأنصار الوجه لأن السابقين منهم يدخلون في قوله : { والسابقون } وفي الآية تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة أو الذين شهدوا بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية في قول الشعبي أو أهل بدر في قول محمد بن كعب وعطاء بن يسار ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها قال أبو منصور البغدادي : أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية قوله : { والذين اتبعوهم بإحسان } قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { الذين اتبعوهم } محذوف الواو وصفا للأنصار على قراءته برفع الأنصار فراجعه في ذلك زيد بن ثابت فسأل أبي بن كعب فصدق زيدا فرجع عمر عن القراءة المذكورة كما رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ومعنى الذين اتبعوهم بإحسان : الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة وليس المراد بهم التابعين اصطلاحا وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى الله عليه و سلم بل هم من جملة من يدخل تحت الآية فتكون من في قوله : { من المهاجرين } على هذا للتبعيض وقيل إنها للبيان فيتناول المدح جميع الصحابة ويكون المراد بالتابعين من بعدهم من الأمة إلى يوم القيامة وقوله : { بإحسان } قيد للتابعين : أي والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأولين قوله : { رضي الله عنهم } خبر للمبتدأ وما عطف عليه ومعنى رضاه سبحانه عنهم : أنه قبل طاعاتهم وتجاوز عنهم ولم يسخط عليهم { ورضوا عنه } بما أعطاهم من فضله ومع رضاه عنهم فقد { أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } في الدار الآخرة وقرأ ابن كثير { تجري من تحتها الأنهار } بزيادة من وقرأ الباقون بحذفها والنصب على الظرفية وقد تقدم تفسير جري الأنهار من تحت الجنات وتفسير الخلود والفوز (2/577)
قوله : 101 - { وممن حولكم من الأعراب منافقون } هذا عود إلى شرح أحوال المنافقين من أهل المدينة ومن يقرب منها من الأعراب وممن حولكم خبر مقدم ومن الأعراب بيان وهو في محل نصب على الحال ومنافقون هو المبتدأ قيل : وهؤلاء الذين هم حول المدينة من المنافقين هم جهينة ومزينة وأشجع وغفار وجملة { ومن أهل المدينة مردوا على النفاق } معطوفة على الجملة الأولى عطف جملة على جملة وقيل : إن { من أهل المدينة } عطف على الخبر في الجملة الأولى فعلى الأول يكون المبتدأ مقدرا : أي ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق وعلى الثاني يكون التقدير : وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا ولكون جملة مردوا على النفاق مستأنفة لا محل لها وأصل مرد وتمرد اللين والملاسة والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق ومنه غصن أمرد : لا ورق عليه وفرس أمرد : لا شعر فيه وغلام أمرد : لا شعر بوجهه وأرض مرداء : لا نبات فيها وصرح ممرد : مجرد فالمعنى : أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه قال ابن زيد : معناه لجوا فيه وأتوا غيره وجملة { لا تعلمهم } مبينة للجملة الأولى وهي مردوا على النفاق : أي ثبتوا عليه ثبوتا شديدا ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف سائر المؤمنين ؟ والمراد عدم علمه صلى الله عليه و سلم بأعيانهم لا من حيث الجملة فإن للمنافق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه و سلم وجملة { نحن نعلمهم } مقررة لما قبلها لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق ورسوخهم فيه على وجه يخفى على البشر ولا يظهر لغير الله سبحانه لعلمه بما يخفى وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر ثم توعدهم سبحانه فقال : { سنعذبهم مرتين } قيل المراد بالمرتين : عذاب الدنيا بالقتل والسبي وعذاب الآخرة وقيل : الفضيحة بانكشاف نفاقهم والعذاب في الآخرة وقيل : المصائب في أموالهم وأولادهم وعذاب القبر وقيل : غير ذلك مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه والظاهر أن هذا العذاب المكرر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب وأنهم يعذبون مرة بعد مرة ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة وهو المراد بقوله : { ثم يردون إلى عذاب عظيم } ومن قال إن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة قال معنى قوله : { ثم يردون إلى عذاب عظيم } أنهم يردون بعد عذابهم في النار كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها أو أنهم يعذبون في النار عذابا خاصا بهم دون سائر الكفار ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار (2/578)
ثم ذكر سبحانه حال طائفة من المسلمين وهم المخلطون في دينهم فقال : 102 - { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } وهو معطوف على قوله : منافقون : أي وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة قوم آخرون ويجوز أن يكون آخرون مبتدأ واعترفوا بذنوبهم صفته وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا خبره والمعنى : أن هؤلاء الجماعة تخلفوا عن الغزو لغير عذر مسوغ للتخلف ثم ندموا على ذلك ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون بل تابوا واعترفوا بالذنب ورجوا أن يتوب الله عليهم والمراد بالعمل الصالح : ما تقدم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن والمراد بالعمل السيء : هو تخلفهم عن هذه الغزوة وقد أتبعوا هذا العمل السيء عملا صالحا وهو الاعتراف به والتوبة عنه وأصل الاعتراف الإقرار بالشيء ومجرد الإقرار لا يكون في توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال والاستقبال وقد وقع منهم ما يفيد هذا كما سيأتي بيانه إن شاء الله ومعنى الخلط : أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء كقولك : بعت الشاة شاة ودرهما : أي بدرهم وفي قوله : { عسى الله أن يتوب عليهم } دليل على أنه قد وقع منهم مع الاعتراف ما يفيد التوبة أو أن مقدمة التوبة وهي الاعتراف قامت مقام التوبة وحرف الترجي وهو عسى هو في كلام الله سبحانه يفيد تحقيق الوقوع لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب لكونه أكرم الأكرمين { إن الله غفور رحيم } أي يغفر الذنوب ويتفضل على عباده (2/579)
قوله : 103 - { خذ من أموالهم صدقة } اختلف أهل العلم في هذه الصدقة المأمور بها فقيل : هي صدقة الفرض وقيل : هي مخصوصة بهذه الطائفة المعترفة بذنوبها لأنهم بعد التوبة عليهم عرضوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية و { من } للتبعيض على التفسيرين والآية مطلقة مبينة بالسنة المطهرة والصدقة مأخوذة من الصدق إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه قوله : { تطهرهم وتزكيهم بها } الضمير في الفعلين للنبي صلى الله عليه و سلم : أي تطهرهم وتزكيهم يا محمد بما تأخذه من الصدقة منهم وقيل الضمير في تطهرهم للصدقة : أي تطهرهم هذه الصدقة المأخوذة منهم والضمير في تزكيهم للنبي صلى الله عليه و سلم : أي تزكيهم يا محمد بالصدقة المأخوذة والأول أولى لما في الثاني من الاختلاف في الضميرين في الفعلين المتعاطفين وعلى الأول فالفعلان منتصبان على الحال وعلى الثاني فالفعل الأول صفة لصدقة والثاني حال منه صلى الله عليه و سلم ومعنى التطهير : إذهاب ما يتعلق بهم من أثر الذنوب ومعنى التزكية : المبالغة في التطهير قال الزجاج : والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه و سلم : أي فإنك يامحمد تطهرهم وتزكيهم بها على القطع والاستئناف ويجوز الجزم على جواب الأمر والمعنى : أن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وقد قرأ الحسن بجزم تطهرهم وعلى هذه القراءة فيكون { وتزكيهم } على تقدير مبتدأ : أي وأنت تزكيهم بها قوله : { وصل عليهم } : أي ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم قال النحاس : وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء ثم علل سبحانه أمره لرسوله صلى الله عليه و سلم بالصلاة على من يأخذ منه الصدقة فقال : { إن صلاتك سكن لهم } قرأ حفص وحمزة والكسائي { صلاتك } بالتوحيد وقرأ الباقون بالجمع والسكن ما تسكن إليه النفس وتطمئن به (2/580)
قوله : 104 - { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } لما تاب الله سبحانه على هؤلاء المذكورين سابقا قال الله : { ألم يعلموا } أي غير التائبين أو التائبون قبل أن يتوب الله عليهم ويقبل صدقاتهم { أن الله هو يقبل التوبة } لاستغنائه عن طاعة المطيعين وعدم مبالاته بمعصية العاصين وقرئ { ألم تعلموا } بالفوقية وهو إما خطاب للتائبين أو لجماعة من المؤمنين ومعنى { ويأخذ الصدقات } : أي يتقبلها منهم وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه بعد أمره لرسوله صلى الله عليه و سلم بأخذها تشريف عظيم لهذه الطاعة ولمن فعلها وقوله : { وأن الله هو التواب الرحيم } معطوف على قوله : { أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } مع تضمنه لتأكيد ما اشتمل عليه المعطوف عليه : أي أن هذا شأنه سبحانه وفي صيغة المبالغة في التواب وفي الرحيم مع توسيط ضمير الفصل والتأكيد من التبشير لعباده والترغيب لهم ما لا يخفى (2/580)
قوله : 105 - { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } فيه تخويف وتهديد : أي إن عملكم لا يخفى على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين فسارعوا إلى أعمال الخير وأخلصوا أعمالكم لله عز و جل وفيه أيضا ترغيب وتنشيط فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء كان خيرا أو شرا رغب إلى أعمال الخير وتجنب أعمال الشر وما أحسن قول زهير :
( ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم )
والمراد بالرؤية هنا العلم بما يصدر منهم من الأعمال ثم جاء سبحانه بوعيد شديد فقال : { وستردون إلى عالم الغيب والشهادة } أي وستردون بعد الموت إلى الله سبحانه الذي يعلم ما تسرونه وما تعلنونه وما تخفونه وما تبدونه وفي تقديم الغيب على الشهادة إشعار بسعة علمه عز و جل وأنه لا يخفى عليه شيء ويستوي عنده كل معلوم ثم ذكر سبحانه ما سيكون عقب ردهم إليه فقال : { فينبئكم } أي يخبركم { بما كنتم تعملون } في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ويتفضل على من يشاء من عباده (2/581)
قوله : 106 - { وآخرون مرجون لأمر الله } ذكر سبحانه ثلاثة أقسام في المتخلفين : الأول : المنافقون الذين مردوا على النفاق والثاني : التائبون المعترفون بذنوبهم الثالث : الذين بقي أمرهم موقوفا في تلك الحال وهم المرجون لأمر الله من أرجيته وأرجأته : إذا أخرته قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص { مرجون } بالواو من غير همز وقرأ الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم والمعنى : أنهم مؤخرون في تلك الحال لا يقطع لهم بالتوبة ولا بعدمها بل هم على ما يتبين من أمر الله سبحانه في شأنهم { إما يعذبهم } إن بقوا على ما هم عليه ولم يتوبوا { وإما يتوب عليهم } إن تابوا توبة صحيحة وأخلصوا إخلاصا تاما والجملة في محل نصب على الحال والتقدير { وآخرون مرجون لأمر الله } حال كونهم إما معذبين وإما متوبا عليهم { والله عليم } بأحوالهم { حكيم } فيما يفعله بهم من خير أو شر
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نعيم في المعرفة عن أبي موسى أنه سئل عن قوله : { والسابقون الأولون } فقال : هم الذين صلوا القبلتين جميعا وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن سعيد بن المسيب مثله وأخرج ابن المنذر وأبو نعيم عن الحسن ومحمد بن سيرين مثله أيضا وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : هم أبو بكر وعمر وعلي وسلمان وعمار بن ياسر وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن الشعبي قال : هم من أدرك بيعة الرضوان وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والذين اتبعوهم بإحسان } قال : التابعون وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : هم من بقي من أهل الإسلام إلى أن تقوم الساعة وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال : قلت لمحمد بن كعب القرظي : أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما أريد الفتن قال : إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم قلت له : وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه ؟ قال : ألا تقرأون قوله تعالى : { والسابقون الأولون } الآية أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشرطه فيهم قلت : وما اشترط عليهم ؟ قال : اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان يقول : يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدون بهم في غير ذلك قال أبو صخر : فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي ابن كعب وأخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي قال : حدثني يحيى بن أبي كثير والقسم ومكحول وعبدة بن أبي لبابة وحسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يقولون لما أنزلت هذه الآية { والسابقون الأولون } إلى قوله : { ورضوا عنه } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا لأمتي كلهم وليس بعد الرضا سخط ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وممن حولكم من الأعراب } الآية قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم جمعة خطيبا فقال : قم يا فلان فاخرج فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يكن عمر بن الخطاب يشهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن الناس قد انصرفوا واختبأوا هم من عمر وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل عمر المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا فقال له رجل : أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم فهو العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله : { وممن حولكم من الأعراب } قال : جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { مردوا على النفاق } قال : أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب آخرون وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : ماتوا عليه : عبد الله بن أبي وأبو عامر الراهب والجد بن قيس وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { سنعذبهم مرتين } قال : بالجوع والقتل وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك قال : بالجوع وعذاب القبر وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن قتادة قال : عذاب في القبر وعذاب في النار وقد روي عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين والظاهر ما قدمنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا } قال : كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه و سلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممر النبي صلى الله عليه و سلم إذا رجع عليهم فلما رآهم قال : من هؤلاء الموثقون أنفسهم ؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم قال : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فنزلت : { عسى الله أن يتوب عليهم } وعسى من الله واجب فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه و سلم فأطلقهم وعذرهم فجاءوا بأموالهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا قال : ما أمرت أن آخذ أموالكم فأنزل الله عز و جل : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم } يقول : استغفر لهم { إن صلاتك سكن لهم } يقول : رحمة لهم فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم وكانوا ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا سنة لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم ؟ فأنزل الله عز و جل : { لقد تاب الله على النبي } إلى قوله : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } إلى قوله : { ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } يعني : إن استقاموا وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله سواء وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله : { اعترفوا بذنوبهم } قال : هو أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال وأشار إلى حلقه بأن محمدا يذبحكم إن نزلتم على حكمه والقصة مذكورة في كتب السير وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { خلطوا عملا صالحا } قال : غزوهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم { وآخر سيئا } قال : تخلفهم عنه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وصل عليهم } قال : استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوها { إن صلاتك سكن لهم } قال : رحمة لهم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أتي بصدقة قال : اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } قال : هذا وعيد من الله عز و جل وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا والضياء في المختارة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان ] وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله : { وآخرون مرجون لأمر الله } قال : هم الثلاثة الذين خلفوا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : هم هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { إما يعذبهم } يقول : يميتهم على معصية { وإما يتوب عليهم } فأرجأ أمرهم ثم نسخها فقال : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } (2/581)
لما ذكر الله أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم وهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا فيكون التقدير : ومنهم الذين اتخذوا على أن الذين متبدأ وخبره منهم المحذوف والجملة معطوفة على ما تقدمها ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الذم وقرأ المدنيون وابن عامر { الذين اتخذوا } بغير واو فتكون قصة مستقلة الموصول مبتدأ وخبره { لا تقم } قاله الكسائي وقال النحاس : إن الخبر هو { لا يزال بنيانهم الذي بنوا } وقيل الخبر محذوف والتقدير يعذبون وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار و { ضرارا } منصوب على المصدرية أو على العلية { وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا } معطوفة على { ضرارا } فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة : الأول : الضرار لغيرهم وهو المضاررة الثاني : الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق الثالث : التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى الرابع : الإرصاد لمن حارب الله ورسوله : أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله قال الزجاج : الإرصاد الانتظار وقال ابن قتيبة : الإرصاد الانتظار مع العداوة وقال الأكثرون : هو الإعداد والمعنى متقارب يقال : أرصدت لكذا : إذا أعددته مرتقبا له به وقال أبو زيد : يقال رصدته وأرصدته في الخير وأرصدت له في الشر وقال ابن الأعرابي : لا يقال إلا أرصدت ومعناه ارتقبت والمراد بمن حارب الله ورسوله : المنافقون ومنهم أبو عامر الراهب : أي أعدوه لهؤلاء وارتقبوا به وصولهم وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنين وقوله : { من قبل } متعلق باتخذوا : أي اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار أو متعلق بحارب : أي لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار قوله : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } أي ما أردنا إلا الخصلة الحسنى وهي الرفق بالمسلمين فرد الله عليهم بقوله : { والله يشهد إنهم لكاذبون } فيما حلفوا عليه (2/585)
ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم عن الصلاة في مسجد الضرار فقال : 108 - { لا تقم فيه أبدا } أي في وقت من الأوقات والنهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه وقد يعبر عن الصلاة بالقيام يقال فلان يقوم الليل : أي يصلي ومنه الحديث الصحيح : [ من قام رمضان إيمانا به واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام فيه بقوله : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } واللام في { لمسجد } لام القسم وقيل لام الابتداء وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة وتأسيس البناء : تثبيته ورفعه ومعنى تأسيسه على التقوى : تأسيسه على الخصال التي تتقي بها العقوبة
واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى فقالت طائفة : هو مسجد قباء كما روي عن ابن عباس والضحاك والحسن والشعبي وغيرهم وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه و سلم والأول : أرجح لما سيأتي قريبا إن شاء الله و { من أول يوم } متعلق بأسس : أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه قال بعض النحاة : إن { من } هنا بمعنى منذ : أي منذ أول يوم ابتدئ ببنائه وقوله : { أحق أن تقوم فيه } خبر المبتدأ والمعنى : لو كان القيام في غيره جائزا لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله لكونه أسس على التقوى من أول يوم ولكون { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } وهذه الجملة مستأنفة لبيان أحقية قيامه صلى الله عليه و سلم فيه : أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل فهو أولى من جهة الحال فيه ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي حال كون فيه رجال يحبون أن يتطهروا ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد ومعنى محبتهم للتطهر : أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه وقيل معناه : يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والأول أولى وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المطهرة من الذنوب فحموا جميعا وهذا ضعيف جدا ومعنى محبة الله لهم الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه (2/585)
ثم بين سبحانه أن بين الفريقين بونا بعيدا فقال : 109 - { أفمن أسس بنيانه } والهمزة للإنكار التقريري والبنيان مصدر كالعمران وأريد به المبني أسس دينه على ضد ذلك وهو الباطل والنفاق والموصول مبتدأ وخبره خير وقرئ أسس بنيانه على بناء الفعل للفاعل ونصب بنيانه واختار هذه القراءة أبو عبيدة وقرئ على البناء للمجهول وقرئ أساس بنيانه بإضافة أساس إلى بنيانه وقرى أس بنيانه والمراد : أصول البناء وحكى أبو حاتم قراءة أخرى ويه آساس بنيانه على الجمع ومنه :
( أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العباس )
والشفا : الشفير والجرف : ما يتجرف بالسيول وهي الجوانب التي تنجرف بالماء والاجتراف : اقتلاع الشيء من أصله وقرئ بضم الراء من جرف وبإسكانها والهار : الساقط يقال هار البناء : إذا سقط وأصله هائر كما قالوا : شاك السلاح وشائك كذا قال الزجاج وقال أبو حاتم : إن أصله هاور قال في شمس العلوم : الجرف ما جرف السيل أصله وأشرف أعلاه فإن انصدع أعلاه فهو الهار اه جعل الله سبحانه هذا مثلا لما بنوا عليه دينهم الباطل المضمحل بسرعة ثم قال : { فانهار به في نار جهنم } وفاعل فانهار ضمير يعود إلى الجرف : أي فانهار الجرف بالبنيان في النار ويجوز أن يكون الضمير في { به } يعود إلى من وهو الباني والمعنى : أنه طاح الباطل بالبناء أو الباني في نار جهنم وجاء بالانهيار الذي هو للجرف ترشيحا للمجاز وسبحان الله ما أبلغ هذا الكلام وأقوى تراكيبه وأوقع معناه وأفصح مبناه (2/586)
ثم ذكر سبحانه أن بنيانهم هذا موجب لمزيد ريبهم واستمرار ترددهم وشكهم فقال : 110 - { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } أي شكا في قلوبهم ونفاقا ومنه قول النابغة :
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب )
وقيل معنى الريب : الحسرة والندامة لأنهم ندموا على بنيانه وقال المبرد : أي حرارة وغيظا وقد كان هؤلاء الذين بنوا مسجد الضرار منافقين شاكين في دينهم ولكنهم ازدادوا بهدم رسول الله صلى الله عليه و سلم نفاقا وتصميما على الكفر ومقتا للإسلام لما أصابهم من الغيظ الشديد والغضب العظيم بهدمه ثم ذكر سبحانه ما يدل على استمرار هذه الريبة ودوامها وهو قوله : { إلا أن تقطع قلوبهم } أي لا يزال هذا إلا أن تتقطع قلوبهم قطعا وتتفرق أجزاء : إما بالموت أو بالسيف والمقصود أن هذه الريبة دائمة لهم ما داموا أحياء ويجوز أن يكون ذكر التقطع تصويرا لحال زوال الريبة وقيل معناه : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب وأبو جعفر بفتح حرف المضارعة وقرأ الجمهور بضمها وروي عن يعقوب أنه قرأ تقطع بالتخفيف والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم : أي إلا أن تقطع يا محمد قلوبهم وقرأ أصحاب عبد الله بن مسعود : ولو تقطعت قلوبهم وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم إلى أن تقطع على الغاية أي لا يزالون كذلك إلى أن يموتوا
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا } قال : هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر الراهب : ابنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا فيجب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فأنزل الله { لا تقم فيه أبدا } وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : [ لما بنى رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار منهم بجدح جد عبد الله بن حنيف ووديعة بن حزام ومجمع بن جارية الأنصاري فبنوا مسجد النفاق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لبجدح : ويلك يا بجدح ما أردت إلى ما أرى فقال : يا رسول الله والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب فصدقه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأراد أن يعذره فأنزل الله تعالى : { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله } يعني رجلا يقال له أبو عامر كان محاربا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وكان قد انطلق إلى هرقل وكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه وكان قد خرج من المدينة محاربا لله ولرسوله ] وأخرج ابن إسحاق وابن مردويه عنه أيضا قال : دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم مالك بن الدخشم فقال مالك لعاصم : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل على أهله فأخذ سعفات من نار ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه وخرج أهله فتفرقوا عنه فأنزل الله هذه الآية ولعل في هذه الرواية حذفا بين قوله صلى الله عليه و سلم دعا رسول الله مالك بن الدخشم وبين قوله فقال مالك لعاصم ويبين ذلك ما أخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة قال : [ أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل بذي أوان : بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه قال : إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي وأخاه عاصم بن عدي أحد بني العجلان فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل : { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا } ] إلى آخر القصة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم إن الذين بنوا مسجد الضرار كانوا إثني عشر رجلا وذكرا أسماءهم وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري قال : اختلف رجلان : رجل من بني خدرة وفي لفظ : تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال العمري : هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألاه عن ذلك فقال : هو هذا المسجد لمسجد رسول
الله وقال في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والزبير بن بكار في أخبار المدينة وأبو يعلى وابن حبان والطبراني والحاكم في الكنى وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال : [ سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن المسجد الذي أسس على التقوى قال : هو مسجدي هذا ] وأخرج الطبراني والضياء المقدسي في المختارة عن زيد بن ثابت مرفوعا مثله وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه والطبراني من طريق عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال : المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم مسجد النبي صلى الله عليه و سلم قال عروة : مسجد النبي صلى الله عليه و سلم خير منه إنما أنزلت في مسجد قباء وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عمر قال : المسجد الذي أسس على التقوى : مسجد النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج المذكوران عن أبي سعيد الخدري مثله وقد روي عن جماعة غير هؤلاء مثل قولهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه مسجد
قباء وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه و سلم قد عين هذا المسجد الذي أسس على التقوى وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه و سلم كما قدمنا من الأحاديث الصحيحة فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم ولا غيرهم ولا يصح لإيراده في مقابلة ما قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى على أن ما ورد في فضائل مسجده صلى الله عليه و سلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك ولا شبهة تعم وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } [ بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عويم بن ساعدة فقال : ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم ؟ فقالوا : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو قال : مقعدته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هو هذا ] وأخرج أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم وابن مردويه [ عن عويم بن ساعدة الأنصارى أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاهم في مسجد قباء فقال : إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تتطهرون به ؟ قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا ] رواه أحمد عن حسن بن محمد حدثنا أبو أويس حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة فذكره وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وأخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الجارود في المنتقى والدارقطني والحاكم وابن مردويه وابن عساكر عن طلحة بن نافع قال : حدثني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن هذه الآية لما نزلت : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا ؟ قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال : فهل مع ذلك غيره ؟ قالوا : لا غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال : هو ذاك فعليكموه ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وابن جرير والبغوي في معجمه والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال : [ لما أتى
رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء فقال : إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرا أفلا تخبروني ؟ يعني قوله تعالى : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } فقالوا : يا رسول الله إنا لنجده مكتوبا علينا في التوراة الاستنجاء بالماء ونحن نفعله اليوم ] وإسناد أحمد في هذا الحديث هكذا : حدثنا يحيى بن آدم حدثني مالك يعني ابن مغول سمعت سيارا أبا الحكم عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام وقد روي عن جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا ولا يخفاك أن بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله وبعضها ضعيف وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء وعلى كل حال لا تقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه و سلم في صحتها وصراحتها وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فانهار به في نار جهنم } قال : يعني قواعده في نار جهنم وأخرج مسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حيث انهار على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } قال : يعني الشك { إلا أن تقطع قلوبهم } يعني الموت وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن حبيب بن أبي ثابت في قوله : { ريبة في قلوبهم } قال : غيظا في قلوبهم { إلا أن تقطع قلوبهم } قال : إلى أن يموتوا وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله : { إلا أن تقطع قلوبهم } قال : إلا أن يتوبوا (2/587)
لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم منها ما هو لائق به عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه وذكر الشراء تمثيل كما في قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء وأصله الشراء بين العباد هو إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه أو أنفع منه فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين : أي بأن يكونوا من جملة أهل الجنة وممن يسكنها فقد جادوا بأنفسهم وهي أنفس الأعلاق والجود بها غاية الجود :
( يجود بالنفس إن ضن الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود )
وجاد الله عليهم بالجنة وهي أعظم ما يطلبه العباد ويتوسلون إليه بالأعمال والمراد بالأنفس هن أنفس المجاهدين وبالأموال ما ينفقونه في الجهاد قوله : 111 - { يقاتلون في سبيل الله } بيان للبيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور كأنه قيل كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة ؟ فقيل : يقاتلون في سبيل الله ثم بين هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله : { فيقتلون ويقتلون } والمراد أنهم يقدمون على قتل الكفار في الحرب ويبذلون أنفسهم في ذلك فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد والتعرض للموت بالإقدام على الكفار قرأ الأعمش والنخعي وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول وقوله : { وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن } إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل كما وقع في القرآن وانتصاب وعدا وحقا على المصدرية أو الثاني نعت للأول وفي التوراة متعلق بمحذوف : أي وعدا ثابتا فيها قوله : { ومن أوفى بعهده من الله } في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال ما لا يخفى فإنه أولا أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وجاء بهذه العبارة الفخيمة وهي كون الجنة قد صارت ملكا لهم ثم أخبر ثانيا بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزلة ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق لا بد من حصول الموعود به فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد ثم زادهم سرورا وحبورا فقال : { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } أي أظهروا السرور بذلك والبشارة هي إظهار السرور وظهوره يكون في بشرة الوجه ولذا يقال أسارير الوجه : أي التي يظهر فيها السرور وقد تقدم إيضاح هذا والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله والمعنى : أظهروا السرور بهذا البيع الذي بايعتم به الله عز و جل فقد ربحتم فيه ربحا لم يربحه أحد من الناس إلا من فعل مثل فعلكم والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الجنة أو إلى نفس البيع الذي ربحوا فيه الجنة ووصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظم يدل على أنه فوز لا فوز مثله (2/591)
قوله : 112 - { التائبون } خبر مبتدأ محذوف : أي هم التائبون يعني المؤمنون والتائب الراجع : أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة وقال الزجاج : الذي عندي أن قوله : { التائبون العابدون } رفع بالابتداء وخبره مضمر : أي التائبون ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا قال : وهذا أحسن إذ لو كانت هذه أوصافا للمؤمنين المذكورين في قوله : { اشترى من المؤمنين } لكان الوعد خاصا بمجاهدين وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج من أن هذا الكلام منفصل عما قبله طائفة من المفسرين وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى وأنها على جهة الشرط : أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف وفي مصحف عبد الله بن مسعود : التائبين العابدين إلى آخرها وفيه وجهان : أحدهما : أنها أوصاف للمؤمنين الثاني : أن النصب على المدح وقيل : إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير يقاتلون وجوز صاحب الكشاف أن يكون التائبون مبتدأ وخبره العابدون وما بعده أخبار كذلك : أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال وفيه من البعد ما لا يخفى والعابدون القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص و { الحامدون } الذين يحمدون الله سبحانه على السراء والضراء و { السائحون } قيل : هم الصائمون وإليه ذهب جمهور المفسرين ومنه قوله تعالى : { عابدات سائحات } وإنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كما يتركها السائح في الأرض ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب :
( وبالسائحين لا يذوقون فطرة ... لربهم والراكدات العوامل )
وقال آخر :
( تراه يصلي ليله ونهاره ... يظل كثير الذكر لله سائحا )
قال الزجاج : ومذهب الحسن أن السائحين هاهنا هم الذين يصومون الفرض وقيل : إنهم الذين يديمون الصيام وقال عطاء : السائحون المجاهدون وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : السائحون المهاجرون وقال عكرمة : هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم وقيل : هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والسياحة في اللغة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه و { الراكعون الساجدون } معناه المصلون و { الآمرون بالمعروف } القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة { والناهون عن المنكر } القائمون بالإنكار على من فعل منكرا : أي شيئا ينكره الشرع { والحافظون لحدود الله } القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه وعلى لسان رسله وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين وهما { والناهون عن المنكر والحافظون } إلخ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه وقيل : إن العطف في الصفات يجيء بالواو وبغيرها كقوله : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } وقيل : إن الواو زائدة وقيل : هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة كما في قوله تعالى : { ثيبات وأبكارا } وقوله : { وفتحت أبوابها } وقوله : { سبعة وثامنهم كلبهم } وقد أنكر واو الثمانية أبو علي الفارسي وناظره في ذلك ابن خالويه { وبشر المؤمنين } الموصوفين بالصفات السابقة
وقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : [ قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت قال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : الجنة قال : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } الآية ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : [ أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } فكبر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية ؟ قال : نعم فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل ] وقد أخرج ابن سعد عن عبادة بن الصامت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والسمع والطاعة ولا ينازعوا في الأمر أهله ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم قالوا : نعم قال قائل الأنصار : نعم هذا لك يا رسول الله فما لنا ؟
قال : الجنة ] وأخرجه ابن سعد أيضا من وجه آخر وليس في قصة العقبة ما يدل على أنها سبب نزول الآية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال : من مات على هذه التسع فهو في سبيل الله { التائبون العابدون } إلى آخر الآية وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن المنذر عن ابن عباس قال : الشهيد من كان فيه التسع الخصال المذكورة في هذه الآية وأخرج أبو الشيخ عنه قال : العابدون الذين يقيمون الصلاة وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء ] وأخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال : [ سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن السائحين فقال : هم الصائمون ] وأخرج الفريابي وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عبيد بن عمير عن أبي هريرة مرفوعا مثله وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه وابن النجار من طريق أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا مثله وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا مثله وقد روي عن أبي هريرة موقوفا وهو أصح من المرفوع من طريقه وحديث عبيد بن عمير مرسل وقد أسنده منطريق أبي هريرة في الرواية الثانية وقد روي من قول جماعة من الصحابة مثل هذا : منهم عائشة عند ابن جرير وابن المنذر ومنهم ابن عباس عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ ومنهم ابن مسعود عند هؤلاء المذكورين قبله وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة [ أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في السياحة فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ] وصححه عبد الحق وأخرج أبو الشيخ عن الربيع في هذه الآية قال : هذه أعمال قال فيها أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله قضى على نفسه في التوراة والإنجيل والقرآن لهذه الأمة أن من قتل منهم على هذه الأعمال كان عند الله شهيدا ومن مات منهم عليها فقد وجب أجره على الله وأخرج ابن المنذر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : الشهيد من لو مات على فراشه دخل الجنة قال : وقال ابن عباس من مات وفيه تسع فهو شهيد وقرأ هذه الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } يعني بالجنة ثم قال : { التائبون }
إلى قوله : { والحافظون لحدود الله } يعني القائمون على طاعة الله وهو شرط اشترطه الله على أهل الجهاد وإذا وفوا لله بشرطه وفي لهم بشرطهم (2/592)
لما بين الله سبحانه في أول السورة وما بعده أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيدا وصرح بأن ذلك متحتم ولوكانوا أولي قربى وأن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها وقد ذكر أهل التفسير أن ما كان في القرآن يأتي على وجهين : الأول : على النفي نحو { ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } والآخر : على معنى النهي نحو { ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } و 113 - { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار وتحريم الاستغفار لهم والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافرا ولا ينافي هذا ماثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح أنه [ قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ] لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين وعلى فرض أنه قد كان بلغه كما يفيده سبب النزول فإنه قبل يوم أحد بمدة طويلة وسيأتي فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء كما في صحيح مسلم عن عبد الله قال : [ كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه و سلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح
الدم عن وجهه ويقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ] وفي البخاري [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يخبر عنه بأنه قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ] قوله : { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار والمعنى أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا وعدم الاعتداد بالقرابة لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال سبحانه : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده (2/595)
قوله : 114 - { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } الآية : ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدو الله وأنه غير مستحق للاستغفار وهذا يدل على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار ومن أعداء الله فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصر على الكفر ومات عليه وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدو الله فإن ثبوت هذه العداوة تدل على الكفر وكذلك لم يعلم نبينا صلى الله عليه و سلم بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل وقيل : المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه إلى الإسلام وهو ضعيف جدا وقيل : المراد بالاستغفار في هذه الآية النهي عن الصلاة على جنائز الكفار فهو كقوله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجئ إلى ذلك ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم فقال : { إن إبراهيم لأواه } وهو كثير التأوه كما تدل على ذلك صيغة المبالغة
وقد اختلف أهل العلم في معنى الأواه فقال ابن مسعود وعبيد بن عمير : إنه الذي يكثر الدعاء وقال الحسن وقتادة : إنه الرحيم بعباد الله وروي عن ابن عباس : أنه المؤمن بلغة الحبشة وقال الكلبي : إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر وروي مثله عن ابن المسيب وقيل : الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد روي ذلك عن عقبة بن عامر وقيل : هو الذي يكثر التلاوة حكي ذلك عن ابن عباس وقيل : إنه الفقيه قاله مجاهد والنخعي وقيل : المتضرع الخاضع روي ذلك عن عبد الله بن شداد بن الهاد وقيل : هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها روي ذلك عن أبي أيوب وقيل : هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى وقال : إنه المعلم للخير وقيل : إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله قاله عطاء والمطابق لمعنى الأواه لغة أن يقال إنه الذي يكثر التأوه من ذنوبه فيقول مثلا : آه من ذنوبي آه مما أعاقب به بسببها ونحو ذلك وبه قال الفراء وهو مروي عن أبي ذر ومعنى التأوه هو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء قال في الصحاح : وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه والاسم منه آهة بالمد قال :
( إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين )
و { حليم } الكثير الحلم كما تفيده صيغة المبالغة وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى وقيل الذي لا يعاقب أحدا قط إلا الله
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : [ لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي صلى الله عليه و سلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاندانه بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت : { ما كان للنبي } الآية وأنزل الله في أبي طالب { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فنزلت : { ما كان للنبي } الآية وأخرج ابن سعد
وابن عساكر عن علي قال : [ أخبرت النبي صلى الله عليه و سلم بموت أبي طالب فبكى فقال : اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه { ما كان للنبي } الآية ] وقد روي كون سبب نزول الآية استغفار النبي صلى الله عليه و سلم لأبي طالب من طرق كثيرة : منها عن محمد بن كعب عند ابن أبي حاتم وأبي الشيخ مرسل ومنها عن عمرو بن دينار عند ابن جرير وهو مرسل أيضا ومنها عن سعيد بن المسيب عند ابن جرير وهو مرسل أيضا ومنها عن عمر بن الخطاب عند ابن سعد وأبي الشيخ وابن عساكر ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر وهو مرسل وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي صلى الله عليه و سلم لقبر أمه واستغفاره لها من طريق ابن عباس عند الطبراني وابن مردويه ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وعن بريدة عند ابن مردويه وما في الصحيحين مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح فكيف وهو ضعيف غالبه وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } إلى قوله : { كما ربياني صغيرا } قال : ثم استثنى فقال : { ما كان للنبي } إلى قوله : { إلا عن موعدة وعدها إياه } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فلما تبين له أنه عدو لله } قال : تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدو الله فتبرأ منه وأخرج ابن مردويه عن جابر [ أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل : لو أن هذا خفض صوته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : دعه فإنه أواه ] وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عقبة بن عامر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرجل يقال له ذو النجادين : إنه أواه ] وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء وأخرجه أيضا أحمد قال : حدثنا موسى بن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر فذكره وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : قال رجل : يا رسول الله ما الأواه ؟ قال : الخاشع المتضرع الدعاء وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأواه وإسناده عند ابن جرير هكذا : حدثني المثنى حدثني الحجاج بن منهال حدثنا عبد الحميد بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد فذكره وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إن إبراهيم لأواه حليم } قال : كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له : هداك الله (2/596)
لما نزلت الآية المتقدمة في النهي عن الاستغفار للمشركين خاف جماعة ممن كان يستغفر لهم من العقوبة من الله بسبب ذلك الاستغفار فأنزل الله سبحانه : 115 - { وما كان الله ليضل قوما } إلخ : أي أن الله سبحانه لا يوقع الضلال على قوم ولا يسميهم ضلالا بعد أن هداهم إلى الإسلام والقيام بشرائعه ما لم يقدموا على شيء من المحرمات بعد أن يتبين لهم أنه محرم وأما قبل أن يتبين لهم ذلك فلا إثم عليهم ولا يؤاخذون به ومعنى { حتى يبين لهم ما يتقون } حتى يتبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من محرمات الشرع { إن الله بكل شيء عليم } مما يحل لعباده ويحرم عليهم ومن سائر الأشياء التي خلقها (2/599)
116 - { إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } ثم بين لهم أن له سبحانه ملك السموات والأرض لا يشاركه في ذلك مشارك ولا ينازعه منازع يتصرف في ملكه بما شاء من التصرفات التي من جملتها أنه يحيي من قضت مشيئته بإحيائه ويميت من قضت مشيئته بإماتته وما لعباده من دونه من ولي يواليهم ولا نصير ينصرهم فلا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى فإن القرابة لا تنفع شيئا ولا تؤثر أثرا بل التصرف في جميع الأشياء لله وحده (2/599)
قوله : 117 - { لقد تاب الله على النبي } فيما وقع منه صلى الله عليه و سلم من الإذن في التخلف أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أو له لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار وقد تكون التوبة منه تعالى على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه و سلم لأجل التعريف للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها وكذلك تاب الله سبحانه على المهاجرين والأنصار فيما قد اقترفوه من الذنوب ومن هذا القبيل ما صح عنه صلى الله عليه و سلم من قوله : [ إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه و سلم فلم يتخلفوا عنه وساعة العسرة هي غزوة تبوك فإنهم كانوا في عسرة شديدة فالمراد بالساعة جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها والعسرة صعوبة الأمر قوله : { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } في كاد ضمير الشأن وقلوب مرفوع بتزيغ عند سيبويه وقيل : هي مرفوعة بكاد ويكون التقدير من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ وقرأ الأعمش وحمزة وحفص { يزيغ } بالتحتية قال أبو حاتم : من قرأ بالياء التحتية فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد قال النحاس : والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجمع ومعنى { يزيغ } تتلف بالجهد والمشقة والشدة وقيل معناه : تميل عن الحق وتترك المناصرة والممانعة وقيل معناه : تهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة وفي قراءة ابن مسعود من بعد ما زاغت وهم المتخلفون على هذه القراءة وفي تكرير التوبة عليهم بقوله : { ثم تاب عليهم ليتوبوا } تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها هذا إن كان الضمير راجعا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار (2/599)
قوله : 118 - { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا : أي أخروا ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم قال ابن جرير : معنى خلفوا تركوا يقال : خلفت فلانا فارقته وقرأ عكرمة بن خالد خلفوا بالتخفيف : أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين إلى الغزو وقرأ جعفر بن محمد خالفوا وهؤلاء الثلاثة : هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع أو ابن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي وكلهم من الأنصار لم يقبل النبي صلى الله عليه و سلم توبتهم حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم وقيل معنى خلفوا فسدوا مأخوذ من خلوف الفم قوله : { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } معناه : أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وما مصدرية : أي برحبها لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى الناس أن يكالموهم والرحب : الواسع يقال : منزل رحب ورحيب ورحاب وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديبا لهم لينزجروا عن المعاصي ومعنى ضيق أنفسهم عليهم : أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة وعبر بالظن في قوله : { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } عن العلم : أي علموا أن لا ملجأ يلجئون إليه قط إلا إلى الله سبحانه بالتوبة والاستغفار قوله : { ثم تاب عليهم ليتوبوا } أي رجع عليهم بالقبول والرحمة وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ليتوبوا عنها ويرجعوا إلى الله فيها ويندموا على ما وقع منهم { إن الله هو التواب } أي الكثير القبول لتوبة التائبين { الرحيم } أي الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده (2/600)
قوله : 119 - { وكونوا مع الصادقين } هذا الأمر بالكون مع الصادقين بعد قصة الثلاثة فيه الإشارة إلى أن هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق ما حصل من توبة الله وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم } قال : نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى قال : لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم ولكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه { حتى يبين لهم ما يتقون } قال : حتى ينهاهم قبل ذلك وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة وفي بيانه طاعته ومعصيته غامض ما فعلوا أو تركوا وأخرج ابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب : حدثنا من شأن ساعة العسرة فقال : خرجنا مع رسول الله إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر وقد وقع الاتفاق بين الرواة أن ساعة العسرة هي غزوة تبوك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن منده وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله في قوله : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } قال : كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار وأخرج ابن منده وابن عساكر عن ابن عباس مثله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن كعب بن مالك قال : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر منها في الناس وأشهر ثم ذكر القصة الطويلة المشهورة في كتب الحديث والسير وهي معلومة عند أهل العلم فلا نطول بذكرها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } قال : يعني خلفوا عن التوبة لم يتب عليهم حين تاب الله على أبي لبابة وأصحابه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن عساكر عن عكرمة نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن نافع في قوله : { وكونوا مع الصادقين } قال : نزلت في الثلاثة الذين خلفوا قيل لهم : كونوا مع محمد وأصحابه وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله : { وكونوا مع الصادقين } قال : مع أبي بكر وعمر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن الضحاك في الآية قال : مع أبي بكر وعمر وأصحابهما وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : مع علي بن أبي طالب وأخرج ابن عساكر عن أبي جعفر قال : مع الثلاثة الذين خلفوا (2/600)
في قوله : 120 - { ما كان لأهل المدينة } إلخ زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وتحريم التخلف عنه : أي ما صح وما استقام لأهل المدينة { ومن حولهم من الأعراب } كمزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار { أن يتخلفوا عن رسول الله } صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك وإنما خصهم الله سبحانه لأنهم قد استنفروا فلم ينفروا بخلاف غيرهم من العرب فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } أي وما كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه فيشحون بها ويصونونها ولا يشحون بنفس رسول الله ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها يقال : رغبت عن كذا : أي ترفعت عنه بل واجب عليهم أن يكابدوا معه المشاق ويجاهدوا بين يديه أهل الشقاق ويبذلوا أنفسهم دون نفسه وفي هذا الإخبار معنى الأمر لهم مع ما يفيده إيراده على هذه الصيغة من التوبيخ لهم والتقريع الشديد والتهييج لهم والإزراء عليهم والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما يفيده السياق من وجوب المتابعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أي ذلك الوجوب عليهم بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد والظمأ : العطش والنصب : التعب والمخمصة : المجاعة الشديدة التي يظهر عندها ضمور البطن وقرأ عبيد بن عمير ظماء بالمد وقرأ غيره بالقصر وهما لغتان مثل خطأ وخطاء و { لا } في هذه المواضع زائدة للتأكيد ومعنى { في سبيل الله } في طاعة الله قوله : { ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار } أي لا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بأقدامهم أو بحوافر خيولهم أو بأخفاف رواحلهم فيحصل بسبب ذلك الغيظ للكفار والموطئ : اسم مكان ويجوز أن يكون مصدرا { ولا ينالون من عدو نيلا } أي يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو هزيمة أو غنيمة وأصله من نلت الشيء أنال : أي أصيب قال الكسائي : هو من قولهم أمر مثيل منه وليس هو من التناول إنما التناول من نلته بالعطية قال غيره : نلت أنول من العطية ونلته أناله : أدركته والضمير في { به } يعود إلى كل واحد من الأمور المذكورة والعمل الصالح : الحسنة المقبولة : أي إلا كتبه الله لهم حسنة مقبولة يجازيهم بها وجملة { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } في حكم التعليل لما سبق مع كونه يشمل كل محسن ويصدق على المذكورين هنا صدقا أوليا (2/602)
قوله : 121 - { ولا ينفقون نفقة } معطوف على ما قبله : أي ولا يقع منهم الإنفاق في الحرب وإن كان شيئا صغيرا يسيرا { ولا يقطعون واديا } وهو في الأصل كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل والعرب تقول : واد وأودية على غير قياس قال النحاس : ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة { إلا كتب لهم } أي كتب لهم ذلك الذي عملوه من النفقة والسفر في الجهاد { ليجزيهم الله } به { أحسن ما كانوا يعملون } أي أحسن جزاء ما كانوا يعملون من الأعمال ويجوز أن يكون في قوله : { إلا كتب لهم } ضمير يرجع إلى عمل صالح وقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بالآية المذكورة بعدها وهي قوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } فإنها تدل على جواز التخلف من البعض مع القيام بالجهاد من البعض وسيأتي
وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عمر بن مالك عن بعض الصحابة قال : [ لما نزلت { ما كان لأهل المدينة } الآية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : والذي بعثني بالحق لولا ضعفاء الناس ما كانت سرية إلا كنت فيها ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { ما كان لأهل المدينة } قال هذا حين كان الإسلام قليلا لم يكن لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كثر الإسلام وفشا قال الله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وإبراهيم بن محمد الفزاري وعيسى بن يونس السبيعي أنهم قالوا في قوله تعالى : { ولا ينالون من عدو نيلا } قالوا : هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة (2/603)
اختلف المفسرون في معنى 122 - { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية من الكفار ينفرون جميعا ويتركون المدينة خالية فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك : أي ما صح لهم ولا استقام أن ينفروا جميعا بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرقة ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة قالوا : ويكون الضمير في قوله : { ليتفقهوا } عائدا إلى الفرقة الباقية والمعنى : أن الطائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ليأخذوا عنه الفقه في الدين وينذروا قومهم وقت رجوعهم إليهم وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد وهي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين جعله الله سبحانه متصلا بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد فيكون السفر نوعين : الأول : سفر الجهاد والثاني : السفر لطلب العلم ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر والفقه : هو العلم بالأحكام الشرعية وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو وصرف وبيان وأصول ومعنى { فلولا نفر } فهلا نفر والطائفة في اللغة الجماعة وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين وإنذار من لم يتفقه فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين وهما تعلم العلم وتعليمه فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض ديني فهو كما قلت :
( وطالب الدنيا بعلم الدين أي بائس ... كمن غدا لنعله يمسح بالقلانس )
ومعنى { لعلهم يحذرون } الترجي لوقوع الحذر منهم عن التفريط فيما يجب فعله فيترك أو فيما يجب تركه فيفعل (2/604)
ثم أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدة والجهاد واجب لكل الكفار وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهم وأقدم ثم الأقرب فالأقرب ثم أخبرهم الله بما يقوي عزائمهم ويثبت أقدامهم فقال : 123 - { واعلموا أن الله مع المتقين } أي بالنصرة لهم وتأييدهم على عدوهم ومن كان الله معه لم يقم له شيء
وقد أخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : نسخ هؤلاء الآيات { انفروا خفافا وثقالا } و { إلا تنفروا يعذبكم } قوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } يقول : لتنفر طائفة وتمكث طائفة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فالماكثون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو ولعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عنه نحوه من طريق أخرى بسياق أتم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في هذه الآية قال : ليست هذه الآية في الجهاد ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يخلوا بالمدينة من الجهد ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجهدوهم فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين فردهم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله : { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } وفي الباب روايات عن جماعة من التابعين وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } قال : الأدنى فالأدنى وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سئل عن غزو الديلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } قال : الروم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وليجدوا فيكم غلظة } قال : شدة (2/604)
قوله : 124 - { وإذا ما أنزلت سورة } حكاية منه سبحانه لبقية فضائح المنافقين : أي إذا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم سورة من كتابه العزيز فمن المنافقين { من يقول } لإخوانه منهم { أيكم زادته هذه } السورة النازلة { إيمانا } يقولون هذا استهزاء بالمؤمنين ويجوز أن يقولوه لجماعة من المسلمين قاصدين بذلك صرفهم عن الإسلام وتزهيدهم فيه وأيكم مرفوع بالابتداء وخبره زادته وقد تقدم بيان معنى السورة ثم حكى الله سبحانه بعد مقالتهم هذه أن المؤمنين زادتهم إيمانا إلى إيمانهم والحال أنهم يستبشرون مع هذه الزيادة بنزول الوحي وما يشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية (2/606)
125 - { وأما الذين في قلوبهم مرض } وهم المنافقون { فزادتهم } السورة المنزلة { رجسا إلى رجسهم } أي خبثا إلى خبثهم الذين هم عليه من الكفر وفساد الاعتقاد وإظهار غير ما يضمرونه وثبتوا على ذلك واستمروا عليه إلى أن ماتوا كفارا منافقين والمراد بالمرض هنا الشك والنفاق وقيل المعنى : زادتهم إثما إلى إثمهم (2/606)
قوله : 126 - { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } قرأ الجمهور { يرون } بالتحتية وقرأ حمزة ويعقوب بالفوقية خطابا للمؤمنين وقرأ الأعمش أو لم يروا وقرأ طلحة بن مصرف أو لا ترى خطابا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وهي قراءة ابن مسعود ومعنى { يفتنون } يختبرون قاله ابن جرير وغيره أو يبتليهم الله سبحانه بالقحط والشدة قاله مجاهد وقال ابن عطية بالأمراض والأوجاع وقال قتادة والحسن بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه و سلم ويرون ما وعد الله من النصر { ثم لا يتوبون } بسبب ذلك { ولا هم يذكرون } وثم لعطف ما بعدها على يرون والهمزة في أو لا يرون للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على مقدر : أي لا ينظرون ولا يرون وهذا تعجيب من الله سبحانه للمؤمنين من حال المنافقين وتصلبهم في النفاق وإهمالهم للنظر والاعتبار (2/606)
ثم ذكر الله سبحانه ما كانوا يفعلونه عند نزول السورة بعد ذكره لما كانوا يقولونه فقال : 127 - { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } أي نظر بعض المنافقين إلى البعض الآخر قائلين { هل يراكم من أحد } من المؤمنين لننصرف عن المقام الذي ينزل فيه الوحي فإنه لا صبر لنا على استماعه ولنتكلم بما نريد من الطعن والسخرية والضحك وقيل المعنى : وإذا أنزلت سورة ذكر الله فيها فضائح المنافقين ومخازيهم قال بعض من يحضر مجلس رسول الله للبعض الآخر منهم : هل يراكم من أحد ؟ ثم انصرفوا إلى منازلهم وحكى ابن جرير عن بعض أهل العلم أنه قال : { نظر } في هذه الآية موضوع موضع قال : أي قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد قوله : { ثم انصرفوا } أي عن ذلك المجلس إلى منازلهم أو عن ما يقتضي الهداية والإيمان إلى ما يقتضي الكفر والنفاق ثم دعا الله سبحانه عليهم فقال : { صرف الله قلوبهم } أي صرفها عن الخير وما فيه الرشد لهم والهداية وهو سبحانه مصرف القلوب ومقلبها وقيل المعنى : أنه خذلهم عن قبول الهداية وقيل : هو عن دعاء لا يراد به وقوع مضمونه كقولهم : قاتله الله ثم ذكر سبحانه السبب الذي لأجله انصرفوا عن موطن الهداية أو السبب الذي لأجله استحقوا الدعاء عليهم بقوله : { صرف الله قلوبهم } فقال : { بأنهم قوم لا يفقهون } ما يسمعونه لعدم تدبرهم وإنصافهم (2/606)
ثم ختم الله سبحانه هذه السورة بما يهون عنده بعض ما اشتملت عليه من التكاليف الشاقة فقال : 128 - { لقد جاءكم } يا معشر العرب { رسول } أرسله الله إليكم له شأن عظيم { من أنفسكم } من جنسكم في كونه عربيا وإلى كون هذه الآية خطابا للعرب ذهب جمهور المفسرين وقال الزجاج : هي خطاب لجميع العالم والمعنى { لقد جاءكم رسول من } جنسكم في البشرية { عزيز عليه ما عنتم } ما مصدرية والمعنى : شاق عليه عنتكم لكونه من جنسكم ومبعوثا لهدايتكم والعنت : التعب لهم والمشقة عليهم بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه أو بعذاب الآخرة بالنار أو بمجموعهما { حريص عليكم } أي شحيح عليكم بأن تدخلوا النار أو حريص على إيمانكم والأول أولى وبه قال الفراء : والرؤوف : الرحيم قد تقدم بيان معناهما : أي هذا الرسول { بالمؤمنين } منكم أيها العرب أو الناس { رؤوف رحيم } (2/607)
ثم قال مخاطبا لرسوله ومسليا له ومرشدا له إلى ما يقوله عند أن يعصى 129 - { فإن تولوا } أي أعرضوا عنك ولم يعملوا بما جئت به ولا قبلوه { فقل } يا محمد { حسبي الله } أي كافي الله سبحانه المنفرد بالألوهية { عليه توكلت } أي فوضت جميع أموري { وهو رب العرش العظيم } وصفه بالعظم لأنه أعظم المخلوقات وقد قرأ الجمهور بالجر على أنه صفة لعرش وقرأ ابن محيصن بالرفع صفة لرب وقد رويت هذه القراءة عن ابن كثير
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } قال : كان إذا نزلت سورة آمنوا بها فزادهم الله إيمانا وتصديقا وكانوا بها يستبشرون وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { رجسا إلى رجسهم } قال : شكا إلى شكهم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أو لا يرون أنهم يفتنون } قال : يقتلون وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه وقال : بالسنة والجوع وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بالعدو وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : بالغزو في سبيل الله وأخرج أبو الشيخ عن بكار بن مالك قال : يمرضون في كل عام مرة أو مرتين وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال : كانت لهم في كل عام كذبة أو كذبتان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين فيض بها فئام من الناس كثير وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { نظر بعضهم إلى بعض } قال : هم المنافقون وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا صرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه وأقول : الانصراف يكون عن الخير كما يكون عن الشر وليس في إطلاقه هنا على رجوع المنافقين عن مجلس الخير ما يدل على أنه لا يطلق إلا على نحو ذلك وإلا لزم أن كل لفظ يستعمل في لغة العرب في الأمور المتعددة إذا استعمل في القرآن في حكاية ما وقع من الكفار لا يجوز استعماله في حكاية ما وقع عن أهل الخير كالرجوع والذهاب والدخول والخروج والقيام والقعود واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله ووجه الملازمة ظاهر لا يخفى وأخرج عبد بن حميد والحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في دلائل النبوة وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قال : ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه و سلم مضريها وربيعها ويمانيها وأخرج ابن سعد عنه في قوله : { من أنفسكم } قال : قد ولدتموه يا معشر العرب وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه وأبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ] وهذا فيه انقطاع ولكنه قد وصله الحافظ الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي فقال : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد حدثنا ابن أبي عمر حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي يحدثني عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ] وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : [ قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } فقال علي بن أبي طالب : يا رسول الله ما معنى من أنفسكم ؟ قال : نسبا وصهرا وحسبا ليس في ولا في آبائي من لدن آدم سفاح كلنا نكاح ] وأخرج الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } يعني من أعظمكم قدرا وأخرج ابن سعد عنه نحو حديث علي الأول وأخرج الطبراني عنه أيضا نحوه وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن عائشة نحوه وفي الباب أحاديث بمعناه ويؤيده ما في صحيح مسلم وغيره من حديث واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ] وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه ثم خير أنفسهم ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم بيتا وخيرهم نفسا ] وفي الباب أحاديث وأخرج ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه و سلم وفي لفظ : آخر ما أنزل من القرآن { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر الآية وروي عنه نحوه من طريق أخرى أخرجها عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن الضريس في فضائله وابن أبي داود في المصاحف وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والخطيب في تلخيص المتشابه والضياء في المختارة وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له : إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال : ولم سألتم هذا ؟ قالوا : نطلب الأمن فأنزل الله هذه الآية { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { فإن تولوا فقل حسبي الله } يعني الكفار تولوا عن النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : إنما سمي العرش عرشا لارتفاعه وقد رويت أحاديث كثيرة في صفة العرش وماهيته وقدره
وإلى هنا انتهى الثلث الأول من التفسير المسمى فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير بقلم مؤلفه : محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما وكان تمام هذا الثلث في نهار يوم الثلاثاء لعله يوم عشرين من شهر محرم سنة 1227هـ
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين
الحمد له : انتهى سماعا على مؤلفه أطال الله مدته في شهر جمادى الأولى من عام 1235هـ
يحيى بن علي الشوكاني
غفر الله لهما آمين (2/607)
سورة يونس
هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله : { فإن كنت في شك } إلى آخرهن هكذا روى القرطبي في تفسيره عن ابن عباس وحكي عن مقاتل أنها مكية إلا آيتين وهي قوله : { فإن كنت في شك } فإنها نزلت في المدينة وحكي عن الكلبي أنها مكية إلا قوله : { ومنهم من لا يؤمن به } فإنها نزلت بالمدينة وحكى عن الحسن وعكرمة وعطاء وجابر أنها مكية من غير استثناء وأخرج النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة يونس بمكة وأخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال : كانت سورة يونس بعد السابعة وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله أعطاني الرائيات إلى الطواسين مكان الإنجيل ] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن الأحنف قال : صليت خلف عمر غداة فقرأ يونس وهود وغيرهما
قوله : 1 - { الر } قد تقدم الكلام مستوفى على هذه الحروف الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة فلا نعيده ففيه ما يغني عن الإعادة وقد قرأ بالإمالة أبو عمرو وحمزة وخلف وغيرهم وقرأ جماعة من غير إمالة وقد قيل : إن معنى { الر } أنا الله أرى قال النحاس : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد :
( بالخير خيرات وإن شرافا )
أي وإن شرا فشر وقال الحسن وعكرمة { الر } قسم وقال سعيد عن قتادة { الر } اسم للسورة وقيل غير ذلك مما فيه تكلف لعلم ما استأثر الله بعلمه وقد اتفق القراء على أن { الر } ليس بآية وعلى أن طه آية وفي مقنع أبي عمرو الداني أن العادين لطه آية هم الكوفيون فقط قيل : ولعل الفرق أن { الر } لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده والإشارة بقوله : { تلك } إلى ما تضمنته السورة من الآيات والتبعيد للتعظيم واسم الإشارة مبتدأ وخبره ما بعده وقال مجاهد وقتادة : أراد التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة فإن تلك إشارة إلى غائب مؤنث وقيل { تلك } بمعنى هذه : أي هذه آيات الكتاب الحكيم وهو القرآن ويؤيد كون الإشارة إلى القرآن أنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر وأن الحكيم من صفات القرآن لا من صفات غيره و { الحكيم } المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام قاله أبو عبيدة وغيره وقيل : الحكيم معناه الحاكم فهو فعيل بمعنى فاعل كقوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وقيل : الحكيم بمعنى المحكوم فيه فهو فعيل بمعنى مفعول : أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان قاله الحسن وغيره وقيل الحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها (2/610)
والاستفهام في قوله : 2 - { أكان للناس عجبا } لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ واسم كان { أن أوحينا } وخبرها { عجبا } أي أكان إيحاؤنا عجبا للناس وقرأ ابن مسعود عجب على أنه اسم كان على أن كان تامة و { أن أوحينا } بدل من عجب وقرئ بإسكان الجيم من رجل في قوله : { إلى رجل منهم } أي من جنسهم وليس في هذا الإيحاء إلى رجل من جنسهم ما يقتضي العجب فإنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من أنسهم أو في الشكل الإنساني فلا بد من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم وإن كان لكونه يتيما أو فقيرا فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعا من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره وبالغا في كمال الصفات إلى حد يقصر عنه من كان غنيا أو كان غير يتيم وقد كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يصطفيه الله بإرساله من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس وأظهر من النهار حتى كانوا يسمونه الأمين قوله : { أن أنذر الناس } في موضع نصب بنزع الخافض : أي بأن أنذر الناس وقيل : هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول وقيل : هي المخففة من الثقيلة قوله : { قدم صدق } أي منزل صدق وقال الزجاج : درجة عالية ومنه قوله ذي الرمة :
( لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العالي طمت على البحر )
وقال ابن الأعرابي : القدم المتقدم في الشرف وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم يقال : لفلان قدم في الإسلام وله عندي قدم صدق وقدم خير وقدم شر ومنه قول العجاج :
( زل بنو العوام عند آل الحكم ... وترك الملك لملك ذي قدم )
وقال ثعلب : القدم كل ما قدمت من خير وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء وقال قتادة : سلف صدق وقال الربيع : ثواب صدق وقال الحسن : هو محمد صلى الله عليه و سلم وقال الحكيم الترمذي : قدمه صلى الله عليه و سلم في المقام المحمود وقال مقاتل : أعمالا قدموها واختارها ابن جرير ومنه قول الوضاح :
( صل لذي العرش واتخذ قوما ... ينجيك يوم الخصام والزلل )
وقيل غير ما تقدم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده قوله : { قالوا إن هذا لسحر مبين } قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش وابن محيصن { لساحر } على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه و سلم باسم الإشارة وقرأ الباقون { لسحر } على أنهم أرادوا القرآن وقد تقدم معنى السحر في البقرة وجملة { قال الكافرون } مستأنفة كأنه قيل : ماذا صنعوا بعد التعجب وقال القفال : فيه إضمار والتقدير : فلما أنذرهم قال : الكافرون ذلك (2/611)
ثم إن الله سبحانه جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار من الإيحاء إلى رجل منهم فقال : 3 - { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } أي من كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوره كيف يكون إرساله لرسول إلى الناس من جنسهم محلا للتعجب مع كون الكفار يعترفون بذلك فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة بهذا الرسول وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأعراف في قوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } فلا بعيدة هنا ثم ذكر ما يدل على مزيد قدرته وعظيم شأنه فقال : { يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وترك العاطف لأن جملة يدبر كالتفسير والتفصيل لما قبلها وقيل : هي في محل نصب على الحال من ضمير استوى وقيل : مستأنفة جواب سؤال مقدر وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المقبول وقال مجاهد : يقضيه ويقدره وحده وقيل يبعث الأمر وقيل ينزل الأمر وقيل يأمر به ويمضيه والمعنى متقارب واشتقاقه من الدبر والأمر الشأن وهو أحوال ملكوت السموات والأرض والعرش وسائر الخلق قال الزجاج : إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب وقد تقدم معنى الشفاعة في البقرة وفي هذا بيان لاستبداده بالأمور في كل شيء سبحانه وتعالى والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى فاعل هذه الأشياء من الخلق والتدبير : أي الذي فعل هذه الأشياء العظيمة { الله ربكم } واسم الإشارة مبتدأ وخبره الاسم الشريف وربكم بدل منه أو بيان له أو خبر ثان وفي هذه الجملة زيادة تأكيد لقوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } ثم أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن بين لهم أنه الحقيق بها دون غيره لبديع صنعه وعظيم اقتداره فكيف يعبدون الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ؟ والاستفهام في قوله : { أفلا تذكرون } للإنكار والتوبيخ والتقريع لأن من له أدنى تذكر وأقل اعتبار يعلم بهذا ولا يخفى عليه (2/612)
ثم بين لهم ما يكون آخر أمرهم بعد الحياة الدنيا فقال : 4 - { إليه مرجعكم جميعا } وفي هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى وانتصاب { وعد الله } على المصدر لأن في قوله : { إليه مرجعكم جميعا } معنى الوعد أو هو منصوب بفعل مقدر والمراد بالمرجع الرجوع إليه سبحانه إما بالموت أو بالبعث أو بكل واحد منهما ثم أكد ذلك الوعد بقوله : { حقا } فهو تأكيد لتأكيد فيكون في الكلام من الوكادة ما هو الغاية في ذلك وقرأ ابن أبي عبلة { وعد الله حق } على الاستئناف ثم علل سبحانه ما تقدم بقوله : { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } أي إن هذا شأنه يبتدئ خلقه من التراب ثم يعيده إلى التراب أو معنى الإعادة الجزاء يوم القيامة قال مجاهد : ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث وقيل : ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال وقرأ يزيد بن القعقاع : { إنه يبدأ الخلق } بفتح الهمزة فتكون الجملة في موضع نصب بما نصب به وعد الله : أي وعدكم أنه يبدأ الخلق ثم يعيده ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق وأجاز الفراء أن تكون أن في موضع رفع فتكون اسما قال أحمد بن يحيى بن ثعلب يكون التقدير حقا إبداؤه الخلق ثم ذكر غاية ما يترتب على الإعادة فقال : { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } أي بالعدل الذي لا جور فيه { والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } يحتمل أن يكون الموصول الآخر معطوفا على الموصول الأول : أي ليجزي الذين آمنوا ويجزي الذين كفروا وتكون جملة { لهم شراب من حميم } في محل نصب على الحال هي وما عطف عليها : أي وعذاب أليم ويكون التقدير هكذا ويجزي الذين كفروا حال كون لهم هذا الشراب وهذا العذاب ولكن يشكل على ذلك أن هذا الشراب وهذا العذاب الأليم هما من الجزاء ويمكن أن يقال : إن الموصول في { والذين كفروا } مبتدأ وما بعده خبره فلا يكون معطوفا على المعطوف الأول والباء في { بما كانوا يكفرون } للسببية : أي بسبب كفرهم والحميم : الماء الحار وكل مسخن عند العرب فهو حميم
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الر } قال : فواتح أسماء من أسماء الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات وابن النجار في تاريخه عنه قال : في قوله : { الر } أنا الله أرى وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك مثله أيضا وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { تلك آيات الكتاب } قال : يعني هذه وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { تلك آيات الكتاب } قال : الكتب التي خلت قبل القرآن وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله : { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم } الآية { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } الآية فلما كرر الله سبحانه عليهم الحج قالوا : وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } يقول : أشرف من محمد يعنون الوليد بن المغيرة من مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف فأنزل الله ردا عليهم : { أهم يقسمون رحمة ربك } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } قال : ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه [ عن ابن مسعود قال : القدم هو العمل الذي قدموا قال الله سبحانه : { ونكتب ما قدموا وآثارهم } والآثار ممشاهم قال : مشى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أسطوانتين من مسجدهم ثم قال : هذا أثر مكتوب ] وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في قوله : { قدم صدق } قال : محمد صلى الله عليه و سلم يشفع لهم وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب مثله وأخرج الحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال : سلف صدق والروايات عن التابعين وغيرهم في هذا كثيرة وقد قدمنا أكثرها وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { يدبر الأمر } قال : يقضيه وحده وفي قوله : { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } قال : يحييه ثم يميته ثم يحييه (2/613)
ذكر هاهنا بعض نعمه على المكلفين وهي ما يستدل به على وجوده ووحدته وقدرته وعلمه وحكمته بإتقان صنعه في هذين النيرين المتعاقبين على الدوام بعدما ذكر قبل هذا إبداعه للسموات والأرض واستواءه على العرش وغير ذلك والضياء قيل : جمع ضوء كالسياط والحياض وقرأ قنبل عن ابن كثير { ضياء } بجعل الياء همزة مع الهمزة ولا وجه له لأن ياءه كانت واوا مفتوحة وأصله ضواء فقلبت ياء لكسر ما قبلها قال المهدوي : ومن قرأ ضئاء بالهمزة فهو مقلوب قدمت الهمزة التي بعد الألف فصارت قبل الألف ثم قلبت الياء همزة والأولى أن يكون ضياء مصدرا لا جمعا مثل قام يقوم قياما وصام يصوم صياما ولا بد من تقدير مضاف : أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة وكأنهما جعلا نفس الضياء والنور قيل : الضياء أقوى من النور وقيل : الضياء هو ما كان بالذات والنور ما كان بالعرض ومن هنا قال الحكماء : إن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس قوله : 5 - { وقدره منازل } أي قدر مسيره في منازل أو قدره ذا منازل والضمير راجع إلى القمر ومنازل القمر : هي المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به وجملتها ثمانية وعشرون وهي معروفة ينزل القمر في كل ليلة منها منزلا لا يتخطاه فيبدو صغيرا في أول منازله ثم يكبر قليلا قليلا حتى يبدو كاملا وإذا كان في آخر منازله رق واستقوس ثم يستتر ليلتين إذا كان الشهر كاملا أو ليلة إذا كان ناقصا والكلام في هذا يطول وقد جمعنا فيه رسالة مستقلة جوابا عن سؤال أورده علينا بعض الأعلام وقيل : إن الضمير راجع إلى كل واحد من الشمس والقمر كما قيل في قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } وفي قول الشاعر :
( نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف )
وقد قدمنا تحقيق هذا فيما سبق من هذا التفسير والأولى رجوع الضمير إلى القمر وحده كما في قوله تعالى : { والقمر قدرناه منازل } ثم ذكر بعض المنافع المتعلقة بهذا التقدير فقال : { لتعلموا عدد السنين والحساب } فإن في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى ولولا هذا التقدير الذي قدره الله سبحانه لم يعلم الناس بذلك ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم والسنة تتحصل من اثني عشر شهرا والشهر يتحصل من ثلاثين يوما إن كان كاملا واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي أربع وعشرون ساعة لليل والنهار قد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة وأيام النقصان والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف ثم بين سبحانه أنه ما خلق الشمس والقمر واختلاف تلك الأحوال إلا بالحق والصواب دون الباطل والعبث فالإشارة بقوله : { ذلك } إلى المذكور قبله والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ومعنى تفصيل الآيات تبيينها والمراد بالآيات التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما وتدخل هذه الآيات التكوينية المذكورة هنا دخولا أوليا في ذلك قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب { يفصل } بالتحتية وقرأ ابن السميفع تفصل بالفوقية على البناء للمفعول وقرأ الباقون بالنون واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى ولعل وجه هذا الاختيار أن قبل هذا الفعل { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } وبعده { وما خلق الله في السموات والأرض } (2/615)
ثم ذكر سبحانه المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وما خلق في السموات والأرض من تلك المخلوقات فقال : 6 - { إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون } أي الذين يتقون الله سبحانه ويجتنبون معاصيه وخصهم بهذه الآيات لأنهم الذين يمعنون النظر والتفكر في مخلوقات الله سبحانه حذرا منهم عن الوقوع في شيء مما يخالف مراد الله سبحانه ونظرا لعاقبة أمرهم وما يصلحهم في معادهم قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لبقاء الناس فيها وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله تعالى : { جعل الشمس ضياء والقمر نورا } قال : لم يجعل الشمس كهيئة القمر لكي يعرف الليل من النهار وهو قوله : { فمحونا آية الليل } الآية وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : وجوههما إلى السموات وأقفيتهما إلى الأرض وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو مثله وأخرج أبو الشيخ عن خليفة العبدي قال : لو أن الله تبارك وتعالى لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد ولكن المؤمنون تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فملأ كل شيء وغطى كل شيء وفي مجيء سلطان النهار إذا جاء فمحا سلطان الليل وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض وفي النجوم وفي الشتاء والصيف فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم تبارك وتعالى حتى أيقنت قلوبهم بربهم (2/616)
شرع الله سبحانه في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به وقدم الطائفة التي لم تؤمن لأن الكلام في هذه السورة مع الكفار الذين يعجبون مما لا عجب فيه ويهملون النظر والتفكر فيما لا ينبغي إهماله مما هو مشاهد لكل حي طوال حياته فيتسبب عن إهمال النظر والتفكر الصادق : عدم الإيمان بالمعاد ومعنى الرجاء هنا الخوف ومنه قول الشاعر :
( إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عواسل )
وقيل يرجون : يطمعون ومنه قول الشاعر :
( أترجو بني مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا )
فالمعنى على الأول لا يخافون عقابا وعلى الثاني لا يطمعون في ثواب إذا لم يكن المراد باللقاء حقيقته فإن كان المراد به حقيقته كان المعنى : لا يخافون رؤيتنا أو لا يطمعون في رؤيتنا وقيل المراد بالرجاء هنا التوقع فيدخل تحته الخوف والطمع فيكون المعنى { لا يرجون لقاءنا } لا يتوقعون لقاءنا فهم لا يخافونه ولا يطمعون فيه { ورضوا بالحياة الدنيا } أي رضوا بها عرضا عن الآخرة فعملوا لها { واطمأنوا بها } أي سكنت أنفسهم إليها وفرحوا بها { والذين هم عن آياتنا غافلون } لا يعتبرون بها ولا يتفكرون فيها (2/617)
8 - { أولئك مأواهم } أي مثواهم ومكان إقامتهم النار والإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة من عدم الرجاء وحصول الرضا والاطمئنان والغفلة { بما كانوا يكسبون } أي بسبب ما كانوا يكسبون من الكفر والتكذيب بالمعاد فهذا حال الذين لا يؤمنون بالمعاد (2/618)
وأما حال الذين يؤمنون به فقد بينه سبحانه بقوله : 9 - { إن الذين آمنوا } أي فعلوا الإيمان الذي طلبه الله منهم بسبب ما وقع منهم من التفكر والاعتبار فيما تقدم ذكره من الآيات { وعملوا الصالحات } التي يقتضيها الإيمان وهي ما شرعه الله لعباده المؤمنين { يهديهم ربهم بإيمانهم } أي يرزقهم الهداية بسبب هذا الإيمان المضموم إليه العمل الصالح فيصلون بذلك إلى الجنة وجملة { تجري من تحتهم الأنهار } مستأنفة أو خبر ثان أو في محل نصب على الحال ومعنى من تحتهم من تحت بساتينهم أو من بين أيديهم لأنهم على سرر مرفوعة وقوله : { في جنات النعيم } متعلق بتجري أو بيهديهم أو خبر آخر أو حال من الأنهار (2/618)
قوله : 10 - { دعواهم } أي دعاؤهم ونداؤهم وقيل : الدعاء العبادة كقوله تعالى : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } وقيل : معنى دعواهم هنا الادعاء الكائن بين المتخاصمين والمعنى : أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله سبحانه من المعايب والإقرار له بالإلهية قال القفال : أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما وقيل معناه : طريقتهم وسيرتهم وذلك أن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن تجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قوله : { سبحانك اللهم } دعوى ولا دعاء وقيل معناه : تمنيهم كقوله : { ولهم ما يدعون } وكأن تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه وهو مبتدأ وخبره سبحانك اللهم و { فيها } أي في الجنة والمعنى القول الأول : أن دعاءهم الذي يدعون به في الجنة هو تسبيح الله وتقديسه والمعنى : نسبحك يا ألله تسبيحا قوله : { وتحيتهم فيها سلام } أي تحية بعضهم للبعض فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل أو تحية الله أو الملائكة لهم فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول وقد مضى تفسير هذا في سورة النساء قوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } أي وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أن يقولوا : الحمد لله رب العالمين قال النحاس : مذهب الخليل أن أن هذه مخففة من الثقيلة والمعنى : أنه الحمد لله وقال محمد بن يزيد المبرد : ويجوز أن تعملها خفيفة عملها ثقيلة والرفع أقيس ولم يحك أبو عبيد إلا التخفيف وقرأ ابن محيصن بتشديد أن ونصب الحمد
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { ورضوا بالحياة الدنيا } قال : مثل قوله : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } الآية وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أيضا في قوله : { يهديهم ربهم بإيمانهم } قال : يكون لهم نور يمشون به وأخرج أبو الشيخ عن قتادة مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { يهديهم ربهم بإيمانهم } قال : حدثنا الحسن قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة وريح طيبة فيقول له : ما أنت ؟ فوالله إني لأراك عين امرئ صدق فيقول له : أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة وأما الكافر فإذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيقول له : ما أنت ؟ فوالله إني لأراك عين امرئ سوء فيقول له : أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج نحوه وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم ] وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي الهذيل قال : الحمد أول الكلام وآخر الكلام ثم تلا : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } (2/618)
لما ذكر الله سبحانه الوعيد على عدم الإيمان بالمعاد ذكر أن هذا العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا قال القفال : لما وصفهم بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب فبين الله سبحانه أنه لا مصلحة في إيصال الشر إليهم فلعلهم يتوبون ويخرج من أصلابهم من يؤمن قيل معنى 11 - { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } لو عجل الله للناس العقوبة كما يتعجلون بالثواب والخير { لقضي إليهم أجلهم } أي ماتوا وقيل المعنى : لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم وقيل : الآية خاصة بالكفار الذين أنكروا البعث وما يترتب عليه قال في الكشاف : وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له والمراد أهل مكة وقوله : { فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية قيل والتقدير : ولو يعجل الله لهم الشر عند استعجالهم به تعجيلا مثل تعجيله لهم الخير عند استعجالهم به فحذف ما حذف لدلالة الباقي عليه قال أبو علي الفارسي : في الكلام حذف والتقدير { ولو يعجل الله للناس الشر } تعجيلا مثل { استعجالهم بالخير } ثم حذف تعجيلا وأقام صفتة مقامه ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه قال : هذا مذهب الخليل وسيبويه وهو قول الأخفش والفراء قالوا : وأصله كاستعجالهم ثم حذف الكاف ونصب قال الفراء : كما تقول ضربت زيدا ضربك : أي كضربك ومعنى { لقضي إليهم أجلهم } لأهلكوا ولكنه سبحانه لم يعجل لهم الشر فأمهلوا وقيل معناه : أميتوا وقرأ ابن عامر { لقضي } على البناء للفاعل وهي قراءة حسنة لمناسبة ذلك لقوله : { ولو يعجل الله } قوله : { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون } الفاء للعطف على مقدر يدل عليه الكلام لأن قوله : { ولو يعجل الله } يتضمن نفي التعجيل فكأنه قيل : لكن لا يعجل لهم الشر ولا يقضي إليهم أجلهم فنذرهم إلخ : أي فنتركهم ونمهلهم والطغيان : التطاول وهو العلو والارتفاع ومعنى { يعمهون } يتحيرون : أي نتركهم يتحيرون في تطاولهم وتكبرهم وعدم قبولهم للحق استدراجا لهم منه سبحانه وخذلانا (2/620)
ثم بين الله سبحانه أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه لأظهروا العجز والجزع فقال : 12 - { وإذا مس الإنسان الضر } أي هذا الجنس الصادق على كل ما يحصل التضرر به { دعانا لجنبه } اللام للوقت كقوله جئته لشهر كذا أو في محل نصب على الحال بدلالة عطف قاعدا أو قائما عليه وتكون اللام بمعنى على : أي دعانا مضطجعا { أو قاعدا أو قائما } وكأنه قال : دعانا في جميع الأحوال المذكورة وغيرها وخص المذكورة بالذكر لأنها لأنها الغالب على الإنسان وما عداها نادر كالركوع والسجود ويجوز أن يراد أنه يدعو الله حال كونه مضطجعا غير قادر على القعود وقاعدا غير قاعد على القيام وقائما غير قادر على المشي والأول أولى قال الزجاج : إن تعديل أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال المضرة لأنه إذا كان داعيا على الدوام ثم نسي في وقت الرخاء كان أعجب قوله : { فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } أي فلما كشفنا عنه ضره الذي مسه كما تفيده الفاء مضى على طريقته التي كان عليها قبل أن يمسه الضر ونسي حالة الجهد والبلاء أو مضى عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به كأنه لم يدعنا عند أن مسه الضر إلى كشف ذلك الضر الذي مسه وقيل معنى { مر } استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ قال الأخفش : أن في { كأن لم يدعنا } هي المخففة من الثقيلة والمعنى : كأنه انتهى والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر بل تتفق لكثير من المسلمين تلين ألسنهم بالدعاء وقلوبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء والتضرع وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضر ودفع ما أصابهم من المكروه وهذا مما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر كما يشعر به لفظ الناس ولفظ الإنسان اللهم أوزعنا شكر نعمك وأذكرنا الأحوال التي منيت علينا فيها بإجابة الدعاء حتى نستكثر من الشكر الذي لا نطيق سواه ولا نقدر على غيره وما أغناك عنه وأحوجنا إليه و { لئن شكرتم لأزيدنكم } والإشارة بقوله : { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } إلى مصدر الفعل المذكور بعده كما مر غير مرة أي مثل ذلك التزيين العجيب زين للمسرفين عملهم والمسرف في اللغة : هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس ومحل كذلك النصب على المصدرية والتزيين هو إما من جهة الله تعالى على طريقة التحلية وعدم اللطف بهم أو من طريق الشيطان بالوسوسة أو من طريق النفس الأمارة بالسوء والمعنى : أنه زين لهم الإعراض عن الدعاء والغفلة عن الشكر والاشتغال بالشهوات (2/621)
ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الردع والزجر عما صنعه هؤلاء فقال : 13 - { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } يعني الأمم الماضية من قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه و سلم : أي أهلكناهم من قبل زمانكم : وقيل : الخطاب لأهل مكة على طريق الالتفات للمبالغة في الزجر و { لما } ظرف لأهلكنا : أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتجاري على الرسل والتطاول في المعاصي من غير تأخير لإهلاكهم كما أخرنا إهلاككم والواو في { وجاءتهم رسلهم بالبينات } للحال بإضمار قد : أي وقد جاءتهم رسلهم الذين أرسلناهم إليهم بالبينات : أي بالآيات البينات الواضحات الدلالة على صدق الرسل وقيل الواو للعطف على { ظلموا } والأول أولى وقيل المراد بالظلم هنا هو الشرك والواو في { وما كانوا ليؤمنوا } للعطف على { ظلموا } أو الجملة اعتراضية واللام لتأكيد النفي : أي وما صح لهم وما استقام أن يؤمنوا لعدم استعدادهم لذلك وسلب الألطاف عنهم { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي مثل ذلك الجزاء نجزي القوم المجرمين وهو الاستئصال الكلي لكل مجرم وهذا وعيد شديد لمن كان في عصره من الكفار أو لكفار مكة على الخصوص (2/622)
ثم خاطب سبحانه الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : 14 - { ثم جعلناكم خلائف } أي استخلفناكم في الأرض بعد تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها والخلائف جمع خليفة وقد تقدم الكلام عليه في آخر سورة الأنعام واللام في { لننظر كيف تعملون } لام كي : أي لكي ننظر كيف تعملون من أعمال الخير والشر و { كيف } في محل نصب بالفعل الذي بعده : أي لننظر أي عمل تعملونه أو في محل نصب على الحالية : أي على أي حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف (2/622)
ثم حكى الله سبحانه نوعا ثالثا من تعنتهم وتلاعبهم بآيات الله فقال : 15 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم والمراد بالآيات الآيات التي في الكتاب العزيز : أي وإذا تلا التالي عليهم آياتنا الدالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك حال كونها بينات : أي واضحات الدلالة على المطلوب { قال الذين لا يرجون لقاءنا } وهم المنكرون للمعاد وقد تقدم تفسيره قريبا : أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه و سلم { ائت بقرآن غير هذا أو بدله } طلبوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم لما سمعوا ما غاظهم فيما تلاه عليهم من القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد الشديد لمن عبدها أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض آياته أو كلها ووضع أخرى مكانها مما يطابق إرادتهم ويلائم غرضهم فأمره الله أن يقول في جوابهم { ما يكون لي } أي ما ينبغي لي ولا يحل لي أن أبدله من تلقاء نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين وهو التبديل لأنه الذي يمكنه لو كان ذلك جائزا بخلاف القسم الآخر وهو الإتيان بقرآن آخر فإن ذلك ليس في وسعه ولا يقدر عليه وقيل إنه صلى الله عليه و سلم نفى عن نفسه أسهل القسمين ليكون دليلا على نفي أصعبهما بالطريق الأولى وهذا منه صلى الله عليه و سلم من باب مجاراة السفهاء إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء بعد أن أمره الله سبحانه بذلك وهو أعلم بمصالح عباده وبما يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة والسؤالات الباردة و { تلقاء } مصدر استعمل ظرفا من قبل نفسي قال الزجاج : سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور وقيل : سألوه أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وقيل : سألوه أن يحول الوعد وعيدا والحرام حلالا والحلال حراما ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم من أنه ما صح له ولا استقام أن يبدله من تلقاء نفسه بقوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } أي ما اتبع شيئا من الأشياء إلا ما يوحى إلي من عند الله سبحانه من غير تبديل ولا تحويل ولا تحريف ولا تصحيف فقصر حاله صلى الله عليه و سلم على اتباع مايوحى إليه وربما كان مقصد الكفار بهذا السؤال التعريض للنبي صلى الله عليه و سلم بأن القرآن كلامه وأنه يقدر على الإتيان بغيره والتبديل له ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم تكميلا للجواب عليهم : { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } فإن هذه الجملة كالتعليل لما قدمه من الجواب قبلها واليوم العظيم هو يوم القيامة : أي { إني أخاف إن عصيت ربي } بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه عذاب يوم القيامة (2/623)
ثم أكد سبحانه كون هذا القرآن من عند الله وأنه صلى الله عليه و سلم إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه لا يقدر على غير ذلك فقال : 16 - { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم } أي أن هذا القرآن المتلو عليكم هو بمشيئة الله وإرادته ولو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ولا أبلغكم إياه ما تلوته فالأمر كله منوط بمشيئة الله ليس لي في ذلك شيء قوله : { ولا أدراكم به } معطوف على ما تلوته ولو شاء الله ما أدراكم بالقرآن : أي ما أعلمكم به على لساني يقال : دريت الشيء وأدراني الله به هكذا قرأ الجمهور بالألف من أدراه يدريه أعلمه يعلمه وقرأ ابن كثير { ولا أدراكم به } بغير ألف بين اللام والهمزة والمعنى : ولو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم فتكون اللام لام التأكيد دخلت على ألف أفعل وقد قرئ أدرؤكم بالهمزة فقيل : هي منقلبة عن الألف لكونهما من واد واحد ويحتمل أن يكون من درأته إذا دفعته وأدرأته إذا جعلته داريا والمعنى : لأجعلكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وتكذبونني وقرأ ابن عباس والحسن { ولا أدراكم به } قال أبو حاتم : أصله ولا أدريتكم به فأبدل من الياء ألفا قال النحاس : وهذا غلط والرواية عن الحسن ولا أدرأتكم بالهمزة قوله : { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } تعليل لكون ذلك بمشيئة الله ولم يكن من النبي صلى الله عليه و سلم إلا التبليغ : أي قد أقمت فيما بينكم عمرا من قبله : أي زمانا طويلا وهو أربعون سنة من قبل القرآن تعرفونني بالصدق والأمانة لست ممن يقرأ ولا ممن يكتب { أفلا تعقلون } الهمزة للتقريع والتوبيخ : أي أفلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي لما عرفتم من العادة المستمرة إلى المدة الطويلة بالصدق والأمانة وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل وتعلمي لما عند أهلها من العلم ولا طلبي لشيء من هذا الشأن ولا حرصي عليه ثم جئتكم بهذا الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه وقصرتم عن معارضته وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة المعترف لهم بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم ؟
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ولو يعجل الله للناس الشر } الآية قال : هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم : اللهم لا تبارك فيه والعنه { لقضي إليهم أجلهم } قال : لأهلك من دعا عليه وأماته وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال : قول الرجل للرجل : اللهم العنه اللهم اخزه وهو يحب أن يستجاب له وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هو دعاء الرجل على نفسه وما له بما يكره أن يستجاب له وحكى القرطبي في تفسيره عن ابن إسحاق ومقاتل في الآية قالا : هو قول النضر بن الحارث : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } فلو عجل لهم هذا لهلكوا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { دعانا لجنبه } قال : مضطجعا وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله : { دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما } قال : على كل حال وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال : ادع الله يوم سرائك يستجاب لك يوم ضرائك
وأقول أنا : أكثر من شكر الله على السراء يدفع عنك الضراء فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة : اللهم اجمع لنا بين جلب النعم وسلب النقم فإنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان ونحمدك عدد ما حمدك الحامدون بكل لسان في كل زمان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض } الآية قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية فقال : صدق ربنا ما جعلنا خلائف في الأرض إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله خير أعمالكم بالليل والنهار والسر والعلانية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : { خلائف في الأرض } لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ائت بقرآن غير هذا أو بدله } قال : هذا قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ولا أدراكم به } أعلمكم به وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : { ولا أدراكم به } ولا أشعركم به وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ : ( ولا أنذرتكم به ) وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } قال : لم أتل عليكم ولم أذكر وأخرجا عنه قال : لبث أربعين سنة قبل أن يوحى غليه ورأى الرؤيا سنتين وأوحى الله إليه عشر سنين بمكة وعشرا بالمدينة وتوفي وهو ابن اثنتين وستين سنة وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والترمذي عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاثة عشر يوحى غليه ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة (2/623)
قوله : 17 - { فمن أظلم } استفهام فيه معنى الجحد أي لا أحد أظلم { ممن افترى على الله } الكذب وزيادة { كذبا } مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه فربما يكون الافتراء كذبا في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو ذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره قيل : وهذا من جملة رده صلى الله عليه و سلم على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو يبدله فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله ولا ظلم يماثل ذلك وقيل : المفتري على الله الكذب هم المشركون والمكذب بآيات الله هم أهل الكتاب { إنه لا يفلح المجرمون } تعليل لكون لا أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته : أي لا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير والضمير في { إنه } للشأن : أي إن الشأن هذا (2/626)
ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضر من لم يعبدها فقال : 18 - { ويعبدون من دون الله } أي متجاوزين الله سبحانه إلى عباده غيره لا بمعنى ترك عبادته بالكلية { ما لا يضرهم ولا ينفعهم } أي ما ليس من شأنه الضرر ولا النفع ومن حق المعبود أن يكون مثيبا لمن أطاعه معاقبا لمن عصاه والواو لعطف هذه الجملة على جملة { وإذا تتلى عليهم آياتنا } و { ما } في { ما لا يضرهم } موصولة أو موصوفة والواو في { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } للعطف على { ويعبدون } زعموا أنهم يشفعون لهم عند الله فلا يعذبهم بذنوبهم وهذا غاية الجهالة منهم حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال وقيل : أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يجيب عنهم فقال : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض } قرأ أبو السمال العدوي { تنبئون } بالتخفيف من أنبأ ينبئ وقرأ من عداه بالتشديد من نبأ ينبئ والمعنى : أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكا ولا شفيعا بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سمواته وفي أرضه ؟ وهذا الكلام حاصله عدم وجود من هو كذلك أصلا وفي هذا من التهكم بالكفار مالا يخفى ثم نزه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير داخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب به عليهم ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يقوله لهم جوابا عليهم قرأ حمزة والكسائي { عما يشركون } بالتحتية وقرأ الباقون بالفوقية واختار القراءة الأولى أبو عبيد (2/626)
قوله : 19 - { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } قد تقدم تفسيره في البقرة والمعنى : أن الناس ما كانوا جميعا إلا أمة واحدة موحدة لله سبحانه مؤمنة به فصار البعض كافرا وبقي البعض الآخر مؤمنا فخالف بعضهم بعضا وقال الزجاج : هم العرب كانوا على الشرك وقال : كل مولود يولد على الفطرة فاختلفوا عند البلوغ والأول أظهر وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى بل المراد كفر البعض وبقي البعض على التوحيد كما قدمنا { ولولا كلمة سبقت من ربك } وهي أنه سبحانه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة { لقضي بينهم } في الدنيا { فيما } هم { فيه يختلفون } لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف وقيل معنى { لقضي بينهم } بإقامة الساعة عليهم وقيل : لفرغ من هلاكهم وقيل : الكلمة إن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا وقيل : الكلمة أنه لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهي إرسال الرسل كما قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقيل : الكلمة قوله : سبقت رحمتي غضبي وقرأ عيسى بن عمر لقضي بالبناء للفاعل وقرأ من عداه بالبناء للمفعول
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال النضر : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى فأنزل الله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون * ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } الآية وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } قال ابن مسعود : كانوا على هدى وروي أنه قرأ هكذا وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وما كان الناس إلا أمة واحدة } قال : آدم وحده { فاختلفوا } قال : حين قتل أحد ابني آدم أخاه وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : كان الناس أهل دين واحد على دين آدم فكفروا فلولا أن ربك أجلهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم (2/627)
قوله : 20 - { ويقولون } ذكر سبحانه هاهنا نوعا رابعا من مخازيهم وهو معطوف على قوله : { ويعبدون } وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه قيل : والقائلون هم أهل مكة كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفى به دليلا بينا ومصدقا قاطعا : أي هلا أنزلت عليه آية من الآيات التي نقترحها عليه ونطلبها منه كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهبا ونحو ذلك ؟ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال : { قل إنما الغيب لله } أي أن نزول الآية غيب والله هو المختص بعلمه المستأثر به لا علم لي ولا لكم ولا لسائر مخلوقاته { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه من الآيات { إني معكم من المنتظرين } لنزولها وقيل المعنى : انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل (2/628)
قوله : 21 - { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا } لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عنادا ومكرا ولجاجا وأكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضراء فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه أنه وسع عليهم في الأرزاق وأدر عليهم النعم بالمطر وصلاح الثمار بعد أن مستهم الضراء بالجدب وضيق المعايش فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضر وطعنوا في آيات الله واحتالوا في دفعها بكل حيلة وهو معنى المكر فيها وإذا الأولى شرطية وجوابها إذا لهم مكر وهي فجائية ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال : { قل الله أسرع مكرا } أي أعجل عقوبة وقد دل أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعا ولكن مكر الله أسرع منه وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة لأن المعنى أنهم فاجئوا المكر : أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة وتسمية عقوبة الله سبحانه مكرا من باب المشاكلة كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز : { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } قرأ يعقوب في رواية وأبو عمرو في رواية { يمكرون } بالتحتية وقرأ الباقون بالفوقية والمعنى : أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة فكيف يخفى على العليم الخبير ؟ وفي هذا وعيد لهم شديد وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها فإن مكرهم إذا كان ظاهرا لا يخفى فعقوبة الله كائنة لا محالة ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدمة وهي { وإذا مس الإنسان ضر } وفي هذه زيادة وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر (2/628)
22 - { هو الذي يسيركم في البر والبحر } ضرب سبحانه لهؤلاء مثلا حتى ينكشف المراد انكشافا تاما ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم لينتفعوا بها ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب ومعنى تسييرهم في البحر : أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر ويسر ذلك لهم ودفع عنهم أسباب الهلاك وقد قرأ ابن عامر وهو الذي ينشركم في البحر بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله : { فانتشروا في الأرض } أي ينشرهم سبحانه في البحر فينجي من يشاء ويغرق من يشاء { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } الفلك يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث وقد تقدم تحقيقه { وجرين } أي السفن بهم : أي بالراكبين عليها وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة : أولها : الكون في الفلك والثاني : جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة وثالثها : فرحهم والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة : الأول { جاءتها } أي لجاءت الفلك ريح عاصف أو جاءت الريح الطيبة : أي تلقتها ريح عاصف والعصوف شدة هبوب الريح والثاني { وجاءهم الموج من كل مكان } أي من جميع الجوانب للفلك والمراد جاء الراكبين فيها والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر والثالث { ظنوا أنهم أحيط بهم } أي غلب على ظنونهم الهلاك وأصله من إحاطة العدو بقوم أو ببلد فجعل هذه الإحاطة مثلا في الهلاك وإن كان بغير العدو كما هنا وجواب إذا في قوله : { إذا كنتم في الفلك } قوله : { جاءتها } إلى آخره ويكون قوله : { دعوا الله } بدلا من ظنوا لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظن الهلاك وهو الباعث عليه فكان بدلا منه بدل اشتمال لاشتماله عليه ويمكن أن يكون جملة دعوا مستأنفة كأنه قيل : ماذا صنعوا ؟ فقيل : دعوا الله وفي قوله : { وجرين بهم } التفات من الخطاب إلى الغيبة جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف المبالغة وقال الرازي : الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله : { إياك نعبد } دليل الرضا والتقريب وانتصاب مخلصين على الحال : أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرا وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما يشابهها فيا عجبا لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات ؟ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية وأين وصل بها أهلها وإلى أين رمى بهم الشيطان وكيف اقتادهم وتسلط عليهم ؟ حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأوثان فإنا لله وإنا إليه راجعون واللام في { لئن أنجيتنا من هذه } هي اللام الموطئة للقسم : أي قائلين ذلك والإشارة بقوله : { من هذه } إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر واللام في { لنكونن } جواب القسم : أي لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا وتنجينا منها وقيل : إن هذه الجملة مفعول دعوا (2/629)
23 - { فلما نجاهم } الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها وأجاب دعاءهم لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر وإذا في { إذا هم يبغون } هي الفجائية : أي فاجئوا البغي في الأرض بغير الحق والبغي : هو الفساد من قولهم بغى الجرح : إذا ترامى في الفساد وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق بل لا يكون إلا بالباطل لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم بل تمردا وعنادا لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة قوله : { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته قرأ ابن إسحاق وحفص والمفضل بنصب متاع وقرأ الباقون بالرفع فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة : أي بغيكم وبال على أنفسكم فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره ويكون متاع في موضع المصدر المؤكد كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ويكون المصدر مع الفعل المقدر استئنافا وقيل : إن متاع على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج : أي زمن متاع الحياة الدنيا وقيل : هو مفعوله له : أي لأجل متاع الحياة الدنيا وقيل منصوب بنزع الخافض : أي كمتاع وقيل : على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول : أي ممتعين وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب وأما من قرأ برفع متاع فجعله خبر المبتدأ : أي بغيكم متاع الحياة الدنيا ويكون على أنفسكم متعلق بالمصدر والتقدير : إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه أبناء جنسهم وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة وقيل : ارتفاع متاع على أنه خبر ثان وقيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي هو متاع قال النحاس : على قراءة الرفع يكون بغيكم مرتفعا بالابتداء وخبره متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم مفعول البغي ويجوز أن يكون خبره على أنفسكم ويضمر مبتدأ : أي ذلك متاع الحياة الدنيا أو هو متاع الحياة الدنيا انتهى وقد نوقش أيضا بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع بما يطول به البحث في غير طائل والحاصل أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم فالمعنى : أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه وإن جعل الخبر متاع فالمراد أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضا هو سريع الزوال قريب الاضمحلال كسائر أمتعة الحياة الدنيا فإنها ذاهبة عن قرب متلاشية بسرعة ليس لذلك كثير فائدة ولا عظيم جدوى ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة مع وعيد شديد فقال : { ثم إلينا مرجعكم } وتقديم الخبر للدلالة على القصر والمعنى : أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله فيجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه { فننبئكم بما كنتم تعملون } في الدنيا : أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر والمراد بذلك المجازاة كما تقول لمن أساء : سأخبرك بما صنعت وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } قال : خوفهم عذابه وعقوبته وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا } قال : استهزاء وتكذيب وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { وظنوا أنهم أحيط بهم } قال : هلكوا وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص ما حاصله : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة منهم عكرمة بن أبي جهل هرب من مكة وركب البحر فأصابهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر الإخلاص ما ينجيني في البر غيره اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء فأسلم وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاث هن رواجع على أهلها : المكر والنكث والبغي ثم تلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم : { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } ] وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تبغ ولا تكن باغيا فإن الله يقول : { إنما بغيكم على أنفسكم } ] وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال : ثلاث من كن فيه كن عليه : المكر والبغي والنكث قال الله سبحانه : { إنما بغيكم على أنفسكم }
أقول أنا : وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دل القرآن على أنها تعود على فاعلها : الخدع فإن الله يقول : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما ] وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله (2/630)
لما ذكر الله سبحانه ما تقدم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها وتجتلب النفوس ببهجتها وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضا ويهتكوا حرمهم حبا لها وعشقا لجمالها الظاهري وتكالبا على التمتع بها وتهافتا على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب فقال : 24 - { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } إلى آخر الآية والمعنى : أن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضاد ما كانت عليه ويباينه مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه وذهاب بهجته وسرعة تقضيه بعد أن كان غضا مخضرا طريا قد تعانقت أغصانه المتمايلة وزهت أوراقه المتصافحة وتلألأت أنوار نوره وحاكت الزهر أنواع زهره وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله : { كماء أنزلناه من السماء } بل ما يفهم من الكلام والباء في { فاختلط به نبات الأرض } للسببية : أي فاختلط بسببه نبات الارض بأن اشتبك بعضه ببعض حتى بلغ إلى حد الكمال ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدأ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض { مما يأكل الناس والأنعام } من الحبوب والثمار والكلأ والتبن وأخذت الأرض زخرفها قال في الصحاح الزخرف : الذهب ثم يشبه به كل مموه مزور انتهى والمعنى : أن الأرض أخذت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب وبعضه للون الفضة وبعضه للون الياقوت وبعضه للون الزمرد وأصل ازينت : تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل لأن الحرف المدغم مقام حرفين أولهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وتزينت على الأصل وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية وأزينت على وزن أفعلت : أي أزينت الزينة التي عليها شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألوانا كثيرة وقال عوف بن أبي جميلة قرأ أشياخنا وازيانت على وزن اسوادت وفي رواية المقدمي وازانت والأصل فيه تزاينت على وزن تفاعلت وقرأ الشعبي وقتادة أزينت ومعنى هذه القراءات كلها هو ما ذكرنا { وظن أهلها أنهم قادرون عليها } أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها والضمير في عليها للأرض والمراد النبات الذي هو عليها { أتاها أمرنا } جواب إذا أي جاءها أمرنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات { فجعلناها حصيدا } أي جعلنا زرعها شبيها بالمحصود في قطعه من أصوله قال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل { كأن لم تغن بالأمس } أي كأن لم يكن زرعها موجودا فيها بالأمس مخضرا طريا من غني بالمكان بالكسر يغني بالفتح إذا أقام به والمراد بالأمس الوقت القريب والمغاني في اللغة المنازل وقال قتادة : كأن لم تنعم قال لبيد :
( غنيت سنينا قبل مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود )
وقرأ قتادة { كأن لم يغن } بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف وقرأ من عداه { تغن } بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض { كذلك } أي مثل ذلك التفصيل البديع { نفصل الآيات } القرآنية التي من جملتها هذه الآية { لعلهم يتفكرون } فيما اشتملت عليه ويجوز أن يراد الآيات التكوينية (2/633)
قوله : 25 - { والله يدعو إلى دار السلام } لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عز و جل إلى دار السلام قال الحسن وقتادة : السلام هو الله تعالى وداره الجنة وقال الزجاج : المعنى والله يدعو إلى دار السلامة ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة ومنه قول الشاعر :
( تحيي بالسلامة أم بكر ... وهل لك بعد قومك من سلام )
وقيل : أراد دار السلام الذي هو التحية لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى التحية كما في قوله : { تحيتهم فيها سلام } وقيل : السلام اسم لأحد الجنان السبع : أحدها : دار السلام والثانية : دار الجلال والثالثة : جنة عدن والرابعة : جنة المأوى والخامسة : جنة الخلد والسادسة : جنة الفردوس والسابعة : جنة النعيم وقيل : المراد دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه تكميلا للحجة وإظهارا للاستغناء عن خلقه (2/634)
ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال : 26 - { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } أي الذين أحسنوا بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي والمراد بالحسنى المثوبة الحسنى قال ابن الأنباري : العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها ولذلك ترك موصوفها وقيل : المراد بالحسنى الجنة وأما الزيادة فقيل المراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله : { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } وقيل : الزيادة النظر إلى وجهه الكريم وقيل : الزيادة هي مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها وقيل : الزيادة غرفة من لؤلؤ وقيل : الزيادة مغفرة من الله ورضوان وقيل : هي أنه سبحانه يعطيهم في الدنيا من فضله ما لا يحاسبهم عليه وقيل غير ذلك مما لا فائدة في ذكره وسيأتي بيان ما هو الحق في آخر البحث { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } معنى يرهق يلحق ومنه قيل : غلام مراهق إذا لحق بالرجال وقيل : يعلو وقيل : يغشى والمعنى متقارب والقتر : الغبار ومنه قول الفرزدق :
( متوج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا )
وقرأ الحسن قتر بإسكان المثناة والمعنى واحد قاله النحاس وواحد القتر قترة والذلة : ما يظهر على الوجه من الخضوع والإنكسار والهوان والمعنى : أنه لا يعلو وجوههم غبرة ولا يظهر فيها هوان وقيل : القتر الكآبة وقيل : سواد الوجوه وقيل : هو دخان النار { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } الإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة هم أصحاب الجنة الخالدون فيها المتنعمون بأنواع نعيمها (2/634)
27 - { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } هذا الفريق الثاني من أهل الدعوة وهو معطوف على { للذين أحسنوا } كأنه قيل : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أو يقدر وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها : أي يجازي سيئة واحدة بسيئة واحدة لا يزاد عليها وهذا أولى من الأول لكونه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين والمراد بالسيئة إما الشرك أو المعاصي التي ليست بشرك وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي قال ابن كيسان : الباء زائدة والمعنى : جزاء سيئة مثلها وقيل : الباء مع ما بعدها الخبر وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه والمعنى : جزاء سيئة كائن بمثلها كقولك إنما أنا بك ويجوز أن يتعلق بجزاء والتقدير جزاء سيئة بمثلها كائن فحذف خبر المبتدأ ويجوز أن يكون { جزاء } مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة فيكون مثل قوله : { فعدة من أيام أخر } أي فعليه عدة والباء على هذا التقدير متعلقة بمحذوف كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها أو تكون مؤكدة أو زائدة قوله : { ترهقهم ذلة } أي يغشاهم هوان وخزي وقرئ يرهقهم بالتحتية { ما لهم من الله من عاصم } أي لا يعصمهم أحد كائنا من كان من سخط الله وعذابه أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين والأول أولى والجملة في محل نصب على الحالية أو مستأنفة { كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } قطعا جمع قطعة وعلى هذا يكون مظلما منتصبا على الحال من الليل : أي أعشيت وجوههم قطعا من الليل في حالة ظلمته وقد قرأ بالجمع جمهور القراء وقرأ الكسائي وابن كثير { قطعا } بإسكان الطاء فيكون مظلما على هذا صفة لقطعا ويجوز أن يكون حالا من الليل قال ابن السكيت : القطع طائفة من الليل { أولئك } أي الموصوفون بهذه الصفات الذميمة { أصحاب النار هم فيها خالدون } وإطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين (2/635)
قوله : 28 - { ويوم نحشرهم جميعا } الحشر الجمع و { جميعا } منتصب على الحال و { يوم } منصوب بمضمر : أي أنذرهم يوم نحشرهم والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة والمعنى : أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم { ثم نقول للذين أشركوا } في حالة الحشر ووقت الجمع تقريعا لهم على رؤوس الأشهاد وتوبيخا لهم من حضور من يشاركهم في العبادة وحضور معبوداتهم { مكانكم } أي الزموا مكانكم واثبتوا فيه وقفوا في موضعكم { أنتم وشركاؤكم } على أن الواو واو مع قوله : { فزيلنا بينهم } : أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا : يقال زيلته فتزيل : أي فرقته فتفرق والمزايلة المفارقة يقال : زايله مزايلة وزيالا إذا فارقه والتزايل التباين قال الفراء : وقرأ بعضهم { فزيلنا } والمراد بالشركاء هنا الملائكة وقيل الشياطين وقيل الأصنام وإن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت وقيل المسيح وعزير والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائنا ما كان وجملة { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } في محل نصب على الحال بتقدير قد والمعنى : وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه ما كنتم إيانا تعبدون وإنما عبدتم هواكم وضلالكم وشياطينكم الذين أغووكم وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه لكونهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية وقيل : لكونهم شركاؤهم في هذا الخطاب وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفا لما قد وقع من المشركين من عبادتهم فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة (2/636)
29 - { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم } إن كنا أمرنا بعبادتنا أو رضينا ذلك منكم { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والقائل لهذا الكلام هم المعبودون قالوا : لمن عبدهم من المشركين : إنا كنا عن عبادتكم لنا لغافلين والمراد بالغفلة هنا : عدم الرضا بما فعله المشركون من العبادة لهم وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين لأنهم يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم ويمكن أن يكونوا من الشياطين ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجبروهم على عبادتهم ولا أكرهوهم عليها (2/636)
30 - { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } أي في ذلك المكان وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم الزمان للمكان تذوق كل نفس وتختبر جزاء ما أسلفت من العمل فمعنى { تبلو } تذوق وتختبر وقيل تعلم وقيل تتبع وهذا على قراءة من قرأ يتلو بالمثناة الفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس وأما على قراءة من قرأ نبلو بالنون فالمعنى : أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها ويكون ما أسلفت بدلا من كل نفس والمعنى : أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها قوله : { وردوا إلى الله مولاهم الحق } معطوف على { زيلنا } والضمير في ردوا عائد إلى الذين أشركوا : أي ردوا إلى جزائه وما أعد لهم من عقابه ومولاهم : ربهم والحق صفة له : أي الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة وقرئ الحق بالنصب على المدح كقولهم : الحمد لله أهل الحمد { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي ضاع وبطل ما كانوا يفترون من أن الآلهة التي له حقيقة بالعبادة لتشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه والحاصل أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق ويعترفون به ويقرون به ويقرون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلها ولكن حين لا ينفعهم ذلك
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فاختلط به نبات الأرض } قال : اختلط فنبت بالماء كل لون { مما يأكل الناس } كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار وما تأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وازينت } قال : أنبتت وحسنت وفي قوله : { كأن لم تغن بالأمس } قال : كأن لم تعش كأن لم تنعم وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب وابن عباس ومروان بن الحكم أنهم كانوا يقرأون بعد قوله : { وظن أهلها أنهم قادرون عليها } وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه كان يقرأ وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها { كذلك نفصل الآيات } وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال : كان مكتوب في سورة يونس إلى حيث هذه الآية : { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } إلى { يتفكرون } ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب فمحيت وأخرج أبو نعيم والدمياطي في معجمه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : { والله يدعو إلى دار السلام } يقول : يدعو إلى عمل الجنة والله : السلام والجنة : داره وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { ويهدي من يشاء } قال : يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل وجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فما قل وكفى خير مما كثر وألهى ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا ] { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى } إلى قوله : { للعسرى } وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن أبي هلال سمعت أبا جعفر محمد بن علي وتلا : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } فقال : حدثني جابر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال : [ إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا فقال : اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من ترك فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها ] وقد روي معنى هذا من طرق وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والله يدعو إلى دار السلام } قال : ذكر لنا أن في التوراة مكتوبا : يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر اتقه وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه كان إذا قرأ { والله يدعو إلى دار السلام } قال : لبيك ربنا وسعديك وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } قال : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : وما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني في الرؤية وابن مردويه عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي بصوت يسمعه أولهم وآخرهم : إن الله وعدكم الحسنى وزيادة ] فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الرؤية عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } قال : الزيادة النظر إلى وجه الرحمن وأخرج هؤلاء والدارقطني وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } قال : الذين أحسنوا : أهل التوحيد والحسنى : الجنة والزيادة : النظر إلى وجه الله وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا نحوه وأخرج أبو الشيخ والدارقطني وابن مردويه والخطيب وابن النجار عن أنس مرفوعا نحوه وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن خزيمة وابن المنذر وأبو الشيخ والدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن أبي بكر الصديق في الآية قال : الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله وأخرج ابن مردويه من طريق الحرث عن علي بن أبي طالب في الآية مثله وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والدارقطني والبيهقي عن حذيفة في الآية قال : الزيادة النظر إلى وجه الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والدارقطني والبيهقي عن أبي موسى نحوه وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن أبي حاتم واللالكائي عن ابن مسعود نحوه وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن علي قال : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب غرفها وأبوابها من لؤلة واحدة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وزيادة } قال : هو مثل قوله : { ولدينا مزيد } يقول يجزيهم بعملهم ويزيدهم من فضله وقال : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } وقد روي عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يبق حينئذ لقائل مقال ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به فإنهم لو عرفوا ذلك لكفوا عن كثير من هذيانهم والله المستعان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا يرهق وجوههم } قال : لا يغشاهم { قتر } قال : سواد الوجوه وأخرج أبو الشيخ عن عطاء في الآية قال : القتر سواد الوجه وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : خزي
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } قال : بعد نظرهم إليه عز و جل وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { والذين كسبوا السيئات } قال : الذين عملوا الكبائر { جزاء سيئة بمثلها } قال : النار { كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } القطع : السواد نسختها الآية في البقرة { بلى من كسب سيئة } الآية وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وترهقهم ذلة } قال : تغشاهم ذلة وشدة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { ما لهم من الله من عاصم } يقول : من مانع وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ويوم نحشرهم } قال : الحشر الموت وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : { فزيلنا بينهم } قال : فرقنا بينهم وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : تنصب الآلههة التي كانوا يعبدونها من دون الله فيقول : هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله ؟ فيقولون : نعم هؤلاء الذين كنا نعبد فتقول لهم الآلهة : والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا فيقولون : بلى والله لإياكم كنا نعبد فتقول لهم الآلهة : { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين } وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونهم حتى يؤدوهم النار ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } ] وأخرج أبو الشيخ عن السدي { هنالك تبلو } يقول تتبع وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : { تبلو } تختبر وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد { تبلو } قال : تعاين { كل نفس ما أسلفت } ما عملت { وضل عنهم ما كانوا يفترون } ما كانوا يدعون معه من الأنداد وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { وردوا إلى الله مولاهم الحق } قال : نسخها قوله : { الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } (2/636)
لما بين فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدامغة من أحوال الرزق والحواس والموت والحياة والابتداء والإعادة والإرشاد والهدى وبنى سبحانه الحج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس فقال : 31 - { قل } يا محمد للمشركين احتجاجا لحقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الشرك { من يرزقكم من السماء والأرض } من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات والمعادن فإن اعترفوا حصل المطلوب وإن لم يعترفوا فلا بد أن يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما { أمن يملك السمع والأبصار } أم هي المنقطعة وفي هذا انتقال من سؤال إلى سؤال وخص السمع والبصر بالذكر لما فيهما من الصنعة العجيبة والقدرة الباهرة العظيمة : أي من يستطيع ملكهما وتسويتهما على هذه الصفة العجيبة والخلقة الغريبة حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين ثم انتقل إلى حجة ثالثة فقال : { ومن يخرج الحي من الميت } الإنسان من النطفة والطير من البيضة والنبات من الحبة أو المؤمن من الكافر { ويخرج الميت من الحي } أي النطفة من الإنسان أو الكافر من المؤمن والمراد من هذا الاستفهام عمن يحيي ويميت ثم انتقل إلى حجة رابعة فقال : { ومن يدبر الأمر } أي يقدره ويقضيه وهذا من عطف العام على الخاص لأنه قد عم ما تقدم وغيره { فسيقولون الله } أي سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات إن الفاعل لهذه الأمور هو الله سبحانه إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل السليم وارتفاع الاسم الشريف على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي الله يفعل ذلك ثم أمره الله سبحانه بعد أن يجيبوا بهذا الجواب أن يقول لهم { أفلا تتقون } والاستفهام للإنكار والفاء للعطف على مقدر : أي تعلمون ذلك أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال (2/641)
32 - { فذلكم الله ربكم الحق } أي فذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو ربكم المتصف بأنه الحق لا ما جعلتموهم شركاء له والاستفهام في قوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } للتقريع والتوبيخ إن كانت ما استفهامية لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام والمعنى : أي شيء بعد الحق إلا الضلال فإن ثبوت ربوبية الرب سبحانه حق بإقرارهم فكان غيره باطلا لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا في ذاته وصفاته { فأنى تصرفون } أي كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما ؟ فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب (2/642)
33 - { كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون } أي كما حق وثبت أن الحق بعد الضلال أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة ربك : أي حكمه وقضاؤه على الذين فسقوا : أي خرجوا من الحق إلى الباطل وتمردوا في كفرهم عنادا ومكابرة وجملة { أنهم لا يؤمنون } بدل من الكلمة قال الزجاج : أي حقت عليهم هذه الكلمة وهي عدم إيمانهم ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام : أي لأنهم لا يؤمنون وقال الفراء : إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف وقد قرأ نافع وابن عامر { لكلمات ربي } بالجمع وقرأ الباقون بالإفراد (2/642)
قوله : 34 - { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } أورد سبحانه في هذا حجة خامسة على المشركين أمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يقولها لهم وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد لكنه لما كان أمرا ظاهرا بينا وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ولم يكابر كان كالمسلم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه ثم أمره سبحانه أن يقول لهم : { قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون } أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره وهذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه و سلم عن أمر الله سبحانه له هو نيابة عن المشركين في الجواب إما على طريق التلقين لهم وتعريفهم كيف يجيبون وإرشادهم إلى ما يقولون وإما لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ومعرفة ما لديه وإما لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب فرارا منهم عن أن تلزمهم الحجة أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحق ومعنى { فأنى تؤفكون } فكيف تؤفكون : أي تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره (2/642)
ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة سادسة فقال : 35 - { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق } والاستفهام هاهنا كالاستفهامات السابقة والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيرا في القرآن كقوله : { الذي خلقني فهو يهدين } وقوله : { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وقوله : { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } وفعل الهداية يجيء متعديا باللام وإلى وهما بمعنى واحد روي ذلك عن الزجاج والمعنى : قل لهم يا محمد هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ويدعو الناس إلى الحق ؟ فإذا قالوا لا فقل لهم : الله يهدي للحق دون غيره ودليل ذلك ما تقدم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات وإرساله للرسل وإنزاله للكتب وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار والاستفهام في قوله : { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } للتقرير وإلزام الحجة
وقد اختلف القراء في { لا يهدي } فقرأ أهل المدينة إلا نافعا يهدي بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم هذه بين ساكنين قال النحاس : والجمع بين ساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به قال محمد بن يزيد : لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر وسيبويه يسمى هذا اختلاسا وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن بفتح الياء والهاء وتشديد الدال قال النحاس : هذه القراءة بينة في العربية والأصل فيها يهتدي أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء وقرأ حفص ويعقوب والأعمش مثل قراءة ابن كثير إلا أنهم كسروا الهاء قالوا لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين وأقر أبو بكر عن عاصم { يهدي } بكسر الياء والهاء وتشديد الدال وذلك للاتباع وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب { يهدي } بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال من هدى يهدي قال النحاس : وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة : الأول : أن الكسائي والفراء قالا : إن يهدي بمعنى يهتدي الثاني : أن أبا العباس قال : إن التقدير أم من لا يهدى غيره ثم تم الكلام وقال بعد ذلك : { إلا أن يهدى } أي لكنه يحتاج أن يهدي فهو استثناء منقطع كما تقول فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع : أي لكنه يحتاج أن يسمع والمعنى على القراءات المتقدمة : أفمن يهدي الناس إلى الحق وهو الله سبحانه أحق أن يتبع ويقتدى به أم الأحق بأن يتبع ويقتدى به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره فضلا عن أن يهدي غيره ؟ والاستثناء على هذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال قوله : { فما لكم كيف تحكمون } هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين : أي أي شيء لكم كيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء لله وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ وكيف في محل نصب بـ تحكمون (2/642)
ثم بين سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم وعلى أي شيء بنوه وبأي شيء اتبعوا هذا الدين الباطل وهو الشرك فقال : 36 - { وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا } وهذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة والمعنى : ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله وجعلهم له أندادا إلا مجرد الظن والتخمين والحدس ولم يكن ذلك عن بصيرة بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله وأنها تشفع لهم ولم يكن ظنه هذا لمستند قط بل مجرد خيال مختل وحدس باطل ولعل تنكير الظن هنا للتحقير : أي إلا ظنا ضعيفا لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون وقيل المراد بالآية إنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله والإقرار به إلا ظنا والأول أولى ثم أخبرنا الله سبحانه بأن مجرد الظن لا يغني من الحق شيئا لأن أمر الدين إنما يبنى على العلم وبه يتضح الحق من الباطل والظن لا يقوم مقام العلم ولا يدرك به الحق ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء ويجوز انتصاب شيئا على المصدرية أو على أنه مفعول به و من الحق حال منه والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن وبطلانه { إن الله عليم بما يفعلون } من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان (2/644)
قوله : 37 - { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه شرع في تثبيت أمر النبوة : أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البينة والبراهين الواضحة يفترى من الخلق من دون الله وإنما هو من عند الله عز و جل وكيف يصح أن يكون مفترى وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لسانا وأدقهم أذهانا { ولكن } كان هذا القرآن { تصديق الذي بين يديه } من الكتب المنزلة على الأنبياء ونفس هذا التصديق معجزة مستقلة لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة مع أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ولا اتصل بمن له علم بذلك وانتصاب تصديق على أنه خبر لكان المقدرة بعد لكن ويجوز أن يكون انتصابه على العلية لفعل محذوف : أي لكن أنزله الله تصديق الذي بين يديه قال الفراء : ومعنى الآية وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله : { وما كان لنبي أن يغل } { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وقيل إن أن بمعنى اللام : أي وما كان هذا القرآن ليفترى وقيل بمعنى لا : أي لا يفترى قال الكسائي والفراء : إن التقدير في قوله : { ولكن تصديق } ولكن كان تصديق ويجوز عندهما الرفع أي ولكن هو تصديق وقيل المعنى : ولكن القرآن تصديق { الذي بين يديه } من الكتب : أي أنها قد بشرت به قبل نزوله فجاء مصدقا لها وقيل المعنى : ولكن تصديق النبي الذي بين يدي القرآن وهو محمد صلى الله عليه و سلم لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن قوله : { وتفصيل الكتاب } عطف على قوله : { ولكن تصديق الذي بين يديه } فيجيء فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في تصديق والتفضيل : التبيين أي يبين ما في كتب الله المتقدمة والكتاب للجنس وقيل المراد ما بين في القرآن من الأحكام فيكون المراد بالكتاب : القرآن قوله : { لا ريب فيه } الضمير عائد إلى القرآن وهو داخل في حكم الاستدراك خبر ثالث ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من الكتاب ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لا محل لها و { من رب العالمين } خبر رابع : أي كائن من رب العالمين ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو من ضمير القرآن في قوله : { لا ريب فيه } أي كائنا من رب العالمين ويجوز أن يكون متعلقا بتصديق وتفصيل وجملة { لا ريب فيه } متعرضة (2/644)
قوله : 38 - { أم يقولون افتراه } الاستفهام للإنكار عليهم مع تقرير ثبوت الحجة وأم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة : أي بل أيقولون أفتراه واختلقه وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو : أي ويقولون افتراه وقيل الميم زائدة والتقدير : أيقولون افتراه والاستفهام للتقريع والتوبيخ ثم أمره الله سبحانه أن يتحداهم حتى يظهر عجزهم ويتبين ضعفهم فقال : { قل فاتوا بسورة مثله } أي إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمدا افتراه فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة وجودة الصناعة فأنتم مثله في معرفة لغة العرب وفصاحة الألسن وبلاغة الكلام { وادعوا } بمظاهريكم ومعاونيكم { من استطعتم } دعاءه والاستعانة به من قبائل العرب ومن آلهتكم التي تجعلونهم شركاء لله وقوله : { من دون الله } متعلق بادعوا : أي ادعوا من سوى الله من خلقه { إن كنتم صادقين } في دعواكم أن هذا القرآن مفترى
وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة وأوضحها وأظهرها للعقول فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية قال لهم : هذا الذي نسبتموه إلي وأنا واحد منكم ليس عليكم إلا أن تأتوا وأنتم الجمع الجم بسورة مماثلة لسورة من سوره واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم أو من غيرهم من بني آدم أو من الجن أو من الأصنام فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي فأنتم صادقون فيما نسبتموه إلي وألصقتموه بي فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف والتنزل البالغ بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة بل كاعوا عن الجواب وتشبثوا بأذيال العناد البارد والمكابرة المجردة عن الحجة وذلك مما لا يعجز عنه مبطل (2/645)
ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدي البالغ 39 - { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } فاضرب عن الكلام الأول وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه وما اشتمل عليه وهكذا صنع من تصلب في التقليد ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف بل يرده بمجرد كونه لم يوافق هواه ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ويعلم مبناه كما تراه عيانا وتعلمه وجدانا والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه فهو لم يتمسك بشيء في هذا التكذيب إلا مجرد كونه جاهلا لما كذب به غير عالم به فكان بهذا التكذيب مناديا على نفسه بالجهل بأعلى صوت ومسجلا بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء :
( ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه )
قوله : { ولما يأتهم تأويله } معطوف على { لم يحيطوا بعلمه } أي بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وبما لم يأتهم تأويله أو هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ولا بلغته عقولهم والمعنى : أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدمين والأمم السابقين ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها أو قبل أن يفهموه حق الفهم وتتعقله عقولهم فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله وعلى هذا فمعنى تأويله ما يؤول إليه ملن تدبره من المعاني الرشيقة واللطائف الأنيقة وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأول { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه وقبل أن يأتيهم تأويله { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } من الأمم السالفة من سوء العاقبة بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم كما حكى ذلك القرآن عنهم واشتملت عليه كتب الله المنزلة عليهم (2/646)
قوله : 40 - { ومنهم من يؤمن به } أي ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن من يؤمن به في نفسه ويعلم أنه صدق وحق ولكنه كذب به مكابرة وعنادا وقيل المراد : ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن كذب به في الحال والموصول مبتدأ وخبره منهم { ومنهم من لا يؤمن به } ولا يصدقه في نفسه بل كذب به جهلا كما مر تحقيقه أو لا يؤمن به في المستقبل بل يبقى على جحوده وإصراره وقيل الضمير في الموضعين للنبي صلى الله عليه و سلم وقد قيل إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة وقيل عام في جميع الكفار { وربك أعلم بالمفسدين } فيجازيهم بأعمالهم والمراد بهم : المصرون المعاندون أو بكلا الطائفتين وهم الذين يؤمنون به في أنفسهم ويكذبون به في الظاهر والذين يكذبون به جهلا أو الذين يؤمنون به في المستقبل والذي لا يؤمنون به (2/646)
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يقول لهم إن أصروا على تكذيبه واستمروا عليه 41 - { لي عملي ولكم عملكم } أي لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه وليس علي غير ذلك ثم أكد هذا بقوله : { أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم وقد قيل إن هذا منسوخ بآية السيف كما ذهب إليه جماعة من المفسرين
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { كذلك حقت كلمة ربك } يقول : سبقت كلمة ربك وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : صدقت وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { أمن لا يهدي إلا أن يهدى } قال : الأوثان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { وإن كذبوك فقل لي عملي } الآية قال : أمره بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم (2/647)
قوله : 42 - { ومنهم من يستمعون } إلخ بين الله سبحانه في هذا أن في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد وهي أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه و سلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة لعدم حصول أثر السماع وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه ولهذا قال : { أفأنت تسمع الصم } يعني أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صم والصمم مانع من سماعهم فكيف تطمع منهم بذلك مع حصول المانع وهو الصمم فكيف إذا انضم إلى ذلك أنهم لا يعقلون فإن من كان أصم غير عاقل لا يفهم شيئا ولا يسمع ما يقال له وجمع الضمير في يستمعون حملا على معنى من وأفرده في { ومنهم من ينظر } حملا على لفظه قيل والنكتة : كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين لأن الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر من المقاتلة وانتفاء الحائل وانفصال الشعاع والنور الموافق لنور البصر (2/648)
والتقدير في قوله : 43 - { ومنهم من يستمعون } { ومنهم من ينظر } ومنهم ناس يستمعون ومنهم بعض ينظر والهمزتان في { أفأنت تسمع } { أفأنت تهدي } للإنكار والفاء في الموضعين للعطف على مقدر كأنه قيل : أيستمعون إليك فأنت تسمعهم ؟ أينظرون إليك فأنت تهديهم ؟ والكلام في { ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون } كالكلام في { ومنهم من يستمعون } إلخ لأن العمى مانع فكيف يطمع من صاحبه في النظر وقد انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهما يقوم مقام النظر وكذلك الأصم العاقل قد يتحدس تحدسا يفيده بعض فائدة بخلاف من جمع له بين عمى البصر والبصيرة فقد تعذر عليه الإدراك وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل فقد انسد عليه باب الهدى وجواب لو في الموضعين محذوف دل عليهما ما قبلهما والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أصلا أعرض عنه واستراح من الاشتغال به (2/648)
قوله : 44 - { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون } ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل والبصر والبصيرة بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق والمجادلة بالباطل والإصرار على الكفر فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك ولم يظلمهم الله شيئا من الأشياء بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية فعلى نفسها براقش تجني وقرأ حمزة والكسائي { ولكن الناس } بتخفيف النون ورفع الناس وقرأ الباقون بتشديدها ونصب الناس قال النحاس : زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت ولكن بالواو شددوا النون وإذا حذفوا الواو خففوها قيل : والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة التعيين والتقرير وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة (2/649)
قوله : 45 - { ويوم نحشرهم } الظرف منصوب بمضمر : أي واذكر يوم نحشرهم { كأن لم يلبثوا } أي كأنهم لم يلبثوا والجملة في محل نصب على الحال : أي مشبهين من لم يلبث { إلا ساعة من النهار } أي شيئا قليلا منه والمراد باللبث هو اللبث في الدنيا وقيل في القبور استقلوا المدة الطويلة إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا فجعلوا وجودها كالعدم أو استقصروها للدهش والحيرة أو لطول وقوفهم في المحشر أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن ومثل هذا قولهم : { لبثنا يوما أو بعض يوم } وجملة { يتعارفون بينهم } في محل نصب على الحال أو مستأنفة والمعنى : يعرف بعضهم بعضا كأ هم لم يتفارقوا إلا قليلا وذلك عند خروجهم من القبور ثم تنقطع التعاريف بينهم لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول المذهلة للأفهام وقيل : إن هذا التعارف هو تعارف التوبيخ والتقريع يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني لا تعارف شفقة ورأفة كما قال تعالى : { ولا يسأل حميم حميما } وقوله : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } فيجمع بأن المراد بالتعارف هو تعارف التوبيخ وعليه يحمل قوله : { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول } وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين } هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم بالخسران والجملة في محل النصب على الحال والمراد بلقاء الله يوم القيامة عند الحساب والجزاء ونفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم (2/649)
قوله : 46 - { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وزيدت نون التأكيد والمعنى إن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم وجواب الشرط محذوف والتقدير فتراه أو فذاك وجملة { أو نتوفينك } معطوفة على ما قبلها والمعنى : أو لا نرينك ذلك في حياتك بل نتوفينك قبل ذلك { فإلينا مرجعهم } فعند ذلك نعذبهم في الآخرة فنريك عذابهم فيها وجواب { أو نتوفينك } محذوف أيضا والتقدير : أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة وقيل : إن جواب { أو نتوفينك } هو قوله : { فإلينا مرجعهم } لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلى الله عليه و سلم تعذيبهم في الآخرة وقيل : العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة والأصل أريناك أو توفيناك وفيه نظر فإن إراءته صلى الله عليه و سلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة وحاصل معنى هذه الآية : إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا وقد أراه الله سبحانه قتلهم وأسرهم وذلهم وذهاب عزهم وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن فلله الحمد قوله : { ثم الله شهيد على ما يفعلون } جاء بثم الدالة على التبعيد مع كون الله سبحانه شهيدا على ما يفعلونه في الدارين للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم كما ذكره النيسابوري (2/650)
47 - { ولكل أمة } من الأمم الخالية في وقت من الأوقات { رسول } يرسله الله إليهم ويبين لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة { فإذا جاء رسولهم } إليهم وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعا { قضي بينهم } أي بين الأمة ورسولها { بالقسط } أي العدل فنجا الرسول وهلك المكذبون له كما قال سبحانه : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ويجوز أن يراد بالضمير في بينهم الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم وصدقه البعض الآخر فيهلك المكذبون وينجو المصدقون { وهم لا يظلمون } في ذلك القضاء فلا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ومنه قوله تعالى : { وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم } وقوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } والمراد بالمبالغة في إظهار العدل والنصفة بين العباد (2/650)
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار وذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا 48 - { يقولون متى هذا الوعد } والاستفهام منهم للإنكار والاستبعاد وللقدح في النبوة { إن كنتم صادقين } خطابا منهم للنبي صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم (2/651)
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادة الشبهة ويقطع اللجاج فقال : 49 - { قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا } أي لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضر عنها فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري وقدم الضر لأن السياق لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه والاستثناء في قوله : { إلا ما شاء الله } منقطع كما ذكره أئمة التفسير : أي ولكن ما شاء الله من ذلك كان فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضرا أو نفعا وفي هذه أعظم واعظ وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه و سلم والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه و سلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ورزقهم وأحياهم ويميتهم فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع ؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا فكيف يملكه لغيره وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه فضلا عن أن يملكه لغيره فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز و جل ؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ولا يتنبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله ومدلول { قل هو الله أحد } ؟ وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى بل إلى ما هو أشد منها فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين لهم إليه وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذي الجلال وكفاك من شر سماعه والله ناصر دينه ومطهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } { إنا لله وإنا إليه راجعون } ثم بين سبحانه أن لكل طائفة حدا محدودا لا يتجاوزونه فلا وجه لاستعجال العذاب فقال : { لكل أمة أجل } فإذا جاء ذلك الوقت أنجز وعده وجازى كلا بما يستحقه والمعنى : أن لكل أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم أو بين بعضهم البعض أجلا معينا ووقتا خاصا يحل بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله { إذا جاء أجلهم } أي ذلك الوقت المعين والضمير راجع إلى كل أمة { فلا يستأخرون } عن ذلك الأجل المعين { ساعة } أي شيئا قليلا من الزمان { ولا يستقدمون } عليه وجملة لا يستقدمون معطوفة على جملة لا يستأخرون ومثله قوله تعالى : { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدم في تفسير الآية التي في أول الأعراف فلا نعيده
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { يتعارفون بينهم } قال : يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه لا يستطيع أن يكلمه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وإما نرينك } الآية قال : سوء العذاب في حياتك { أو نتوفينك } قبل { فإلينا مرجعهم } وفي قوله : { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم } قال : يوم القيامة (2/651)
قوله : 50 - { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه } هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التزييف الأول : أي أخبروني إن أتاكم عذاب الله { بياتا } أي وقت بيات والمراد به الوقت الذي يبيتون فيه وينامون ويغفلون عن التحرز والبيات بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم وهو منتصب على الظرفية وكذلك نهارا : أي وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب والضمير في منه راجع إلى العذاب وقيل : راجع إلى الله والاستفهام في { ماذا يستعجل منه المجرمون } للإنكار المتضمن للنهي كما في قوله : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم أن العذاب مكروه تنفر منه القلوب وتأباه الطبائع فما المقتضى لاستعجالهم له ؟ والجملة المصدرة بالاستفهام جواب الشرط بحذف الفاء وقيل : إن الجواب محذوف والمعنى : تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ منكم فيه وقيل : إن الجواب قوله : { أثم إذا ما وقع } وتكون جملة { ماذا يستعجل منه المجرمون } اعتراضا والمعنى : إن أتاكم عذبه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان والأول أولى وإنما قال يستعجل منه المجرمون ولم يقل يستعجلون منه للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال وهو الإجرام لأن من حق المجرم أن يخاف من العذاب بسبب إجرامه فكيف يستعجله ؟ كما يقال لمن يستوخم أمرا إذا طلبه : ماذا تجني على نفسك وحكى النحاس عن الزجاج أن الضمير في { منه } إن عاد إلى العذاب كان لك في { ماذا } تقديران : أحدهما : أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء وذا بمعنى الذي وهو خبر ما والعائد محذوف والتقدير الآخر : أن يكون { ماذا } إسما واحدا في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعده وإن جعل الضمير في { منه } عائدا إلى الله تعالى كان { ماذا } شيئا واحدا في موضع نصب بيستعجل والمعنى : أي شيء يستعجل منه المجرمون : أي من الله عز و جل (2/653)
ودخول الهمزة الاستفهامية في 51 - { أثم إذا ما وقع آمنتم به } على ثم كدخولها على الواو والفاء وهي لإنكار إيمانهم حيث لا ينفع الإيمان وذلك بعد نزول العذاب وهو يتضمن معنى التهويل عليهم وتفظيع ما فعلوه في غير وقته مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النفع والدفع وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به وجيء بكلمة ثم التي للتراخي دلالة على الاستبعاد وجيء بإذا مع زيادة ما للتأكيد دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم والمعنى : أبعد ما وقع عذاب الله عليكم وحل بكم سخطه وانتقامه آمنتم حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئا ولا يدفع عنكم ضرا وقيل : إن هذه الجملة ليست داخلة تحت القول المأمور به وأنها من قول الملائكة استهزاء بهم وإزراء عليهم والأول أولى وقيل : إن ثم هاهنا هي بفتح الثاء فتكون ظرفية بمعنى هناك والأول أولى قوله : { آلآن وقد كنتم به تستعجلون } قيل : هو استئناف بتقدير القول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقوله لهم : أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب : آلآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون : أي بالعذاب تكذيبا منكم واستهزاء لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والاستهزاء ويكون المقصود بأمره صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم هذا القول التوبيخ لهم والاستهزاء بهم والإزراء عليهم وجملة { وقد كنتم به تستعجلون } في محل نصب على الحال وقرئ آلآن بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام (2/653)
قوله : 52 - { ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد } معطوف على الفعل المقدر قيل : آلآن والمراد منه : التقريع والتوبيخ لهم : أي قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان : إن هذا الذي تطلبونه ضرر محض عار عن النفع من كل وجه والعاقل لا يطلب ذلك ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم : ذوقوا عذاب الخلد : أي العذاب الدائم الذي لا ينقطع والقائل لهم هذه المقالة والتي قبلها قيل : هم الملائكة الذين هم خزنة جهنم ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص أو المؤمنون على العموم { هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون } في الحياة من الكفر والمعاصي والاستفهام للتقرير وكأنه يقال لهم هذا القول عن استغاثتهم من العذاب وحلول النقمة (2/654)
ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذه البيانات البالغة والجوابات عن أقوالهم الباطلة : أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب فقال : 53 - { ويستنبئونك أحق هو } أي يستخبرونك عن جهة الاستهزاء منهم والإنكار أحق ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل وهذا السؤال منهم جهل محض وظلمات بعضها فوق بعض فقد تقدم ذكره عنهم مع الجواب عليه فصنيعهم في هذا التكرير صنيع من لا يعقل ما يقول ولا ما يقال له وقيل : المراد بهذا الاستخبار منهم هو عن حقية القرآن وارتفاع حق على أنه خبر مقدم والمبتدأ هو الضمير الذي بعده وتقديم الخبر للاهتمام أو هو مبتدأ والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر والجملة في موضع نصب بيستنبئونك وقرئ آلحق هو على أن اللام للجنس فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل قوله : { قل إي وربي إنه لحق } أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم هذه المقالة جوابا عن استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء : أي قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى ما هو مقصودهم من الاستهزاء : { إي وربي إنه لحق } : أي نعم وربي إن ما أعدكم به من العذاب لحق ثابت كائن لا محالة وفي هذا الجواب تأكيد من وجوه : الأول : القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم الثاني : دخول إن المؤكدة الثالث : اللام في لحق الرابع : إسمية الجملة وذلك يدل على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرد إلى الغاية التي ليس وراءها غاية ثم توعدهم بأشد توعد ورهبهم بأعظم ترهيب فقال : { وما أنتم بمعجزين } أي فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئا وهذه الجملة إما معطوفة على جملة جواب القسم أو مستأنفة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه (2/654)
ثم زاد في التأكيد فقال : 54 - { ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به } أي ولو أن لكل نفس من الأنفس المتصفة بأنها ظلمت نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به ما في الأرض من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة والذخائر الفائقة لافتدت به : أي جعلته فدية لها من العذاب ومثله قوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } وقد تقدم قوله : { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم وقيل : راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس ومعنى أسروا : أخفوا : أي لم يظهروا الندامة بل أخفوها لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم وذهب بتجلدهم ويمكن أنه بقي فيهم وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا فأسروا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون وقيل : أسرها الرؤساء فيما بينهم دون أتباعهم خوفا من توبيخهم لهم لكونهم هم الذين أضلوهم وحالوا بينهم وبين الإسلام ووقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب وأما بعد الدخول فيه فهم الذين { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } وقيل : معنى أسروا : أظهروا وقيل : وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم لأن الندامة لا يمكن إظهارها ومنه قول كثير :
( فأسررت الندامة يوم نادى ... برد جمال عاضرة المنادى )
وذكر المبرد في ذلك وجهين : الأول : أنها بدت في وجوههم أسرة الندامة وهي الإنكسار واحدها سرار وجمعها أسارير والثاني : ما تقدم وقيل معنى { أسروا الندامة } أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها و { لما } في قوله : { لما رأوا العذاب } ظرف بمعنى حين منصوب بـ أسروا أو حرف شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه { وقضي بينهم بالقسط } أي قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين الرؤساء والأتباع أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين وقيل : معنى القضاء بينهم : إنزال العقوبة عليهم والقسط : العدل وجملة { وهم لا يظلمون } في محل نصب على الحال : أي لا يظلمهم الله فيما فعل بهم من العذاب الذي حل بهم فإنه بسبب ما كسبوا (2/655)
وجملة 55 - { ألا إن لله ما في السموات والأرض } مسوقة لتقرير كمال قدرته لأن من ملك ما في السموات والأرض تصرف به كيف يشاء وغلب غير العقلاء لكونهم أكثر المخلوقات قيل : لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك بين أن الأشياء كلها لله وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به وقيل : لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم أراد أن يصحب ذلك بدليل البرهان البين بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه يتصرف به كيف يشاء وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه تنبيه للغافلين وإيقاظ للذاهلين ثم أكد ما سبق بقوله : { ألا إن وعد الله حق } أي كائن لا محالة وهو عام يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندراجا أوليا وتصدير الجملة بحرف التنبيه كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين { ولكن أكثر الناس } أي الكفار { لا يعلمون } ما فيه صلاحهم فيعملون به وما فيه فسادهم فيجتنبونه (2/656)
56 - { هو يحيي ويميت } يهب الحياة ويسلبها { وإليه ترجعون } في الدار الآخرة فيجازي كلا بما يستحقه ويتفضل على من يشاء من عباده (2/656)
قوله : 57 - { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم } يعني القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه والوعظ في الأصل : هو التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب والواعظ هو كالطبيب ينهى المريض عما يضره ومن في { من ربكم } متعلقة بالفعل وهو جاءتكم فتكون ابتدائية أو متعلقة بمحذوف فتكون تبعيضية { وشفاء لما في الصدور } من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين لوجود ما يستفاد منه فيه من العقائد الحقة واشتماله على تزييف العقائد الباطلة والهدى : الإرشاد لمن اتبع القرآن وتفكر فيه وتدبر معانيه إلى الطريق الموصلة إلى الجنة والرحمة : هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم الله بها عباده فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور (2/656)
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم فقال : 58 - { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } المراد بالفضل من الله سبحانه : هو تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحيط به الحصر والرحمة : رحمته لهم وروي عن ابن عباس أنه قال فضل الله : القرآن ورحمته : الإسلام وروي عن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة أن فضل الله : الإيمان ورحمته : القرآن والأولى : حمل الفضل والرحمة على العموم ويدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولا أوليا وأصل الكلام : قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني في قوله : { فبذلك فليفرحوا } عليه قيل : والفاء في هذا الفعل المحذوف داخلة في جواب شرط مقدر كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح وتكرير الباء في برحمته للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة سبب مستقل في الفرح والفرح : هو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب وقد ذم الله سبحانه الفرح في مواطن كقوله : { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } وجوزه في قوله : { فرحين بما آتاهم الله من فضله } وكما في هذه الآية ويجوز أن تتعلق الباء في { بفضل الله وبرحمته } بقوله : { جاءتك } والتقدير : جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك : أي فبمجيئها فليفرحوا وقرأ يزيد بن القعقاع ويعقوب فلتفرحوا بالفوقية وقرأ الجمهور بالتحتية والضمير في هو خير راجع إلى المذكور من الفضل والرحمة أو إلى المجيء على الوجه الثاني أو إلى اسم الإشارة في قوله : { فبذلك } والمعنى : أن هذا خير لهم مما يجمعونه من حطام الدنيا وقد قرئ بالتاء الفوقية في { يجمعون } مطابقة للقراءة بها في { ولا تفرحوا } وقد تقرر في العربية أن لام الأمر تحذف مع الخطاب إلا في لغة قليلة جاءت هذه القراءة عليها وقرأ الجمهور بالمثناة التحتية في يجمعون كما قرأوا في { فليفرحوا } وروي عن ابن عامر أنه قرأ بالفوقية في { يجمعون } والتحتية في { فليفرحوا }
وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن أبي الأحوص قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال : إن أخي يشتكي بطنه فوصف له الخمر فقال : سبحانه الله ! ما جعل الله في رجس شفاء إنما الشفاء في شيء من القرآن والعسل فهما شفاء لما في الصدور وشفاء للناس وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : [ إن الله جعل القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم ] وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني أشتكي صدري فقال : إقرأ القرآن يقول الله : شفاء لما في الصدور ] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع [ أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وجع حلقه قال : عليك بقراءة القرآن والعسل فالقرآن شفاء لما في الصدور والعسل شفاء من كل داء ] وأخرج أبو داود والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتاء يعني الفوقية وقد روي نحو هذا من غير هذه الطريق وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { قل بفضل الله وبرحمته } قال : [ بفضل الله القرآن وبرحمته أن جعلكم من أهله ] وأخرج الطبراني في الأوسط عن البراء مثله من قوله وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : بكتاب الله وبالإسلام وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال : فضله الإسلام ورحمته القرآن وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه أيضا قال : بفضل الله القرآن وبرحمته حين جعلهم من أهله وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدمة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس هو خير مما يجمعون من الأموال والحرث والأنعام (2/656)
أشار سبحانه بقوله : 59 - { قل أرأيتم ما أنزل الله } إلخ إلى طريق أخرى غير ما تقدم في إثبات النبوة وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده ومعنى أرأيتم : أخبروني و { ما } في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني وقيل : إن ما في محل الرفع بالابتداء وخبرها { آلله أذن لكم } و قل في قوله : { قل آلله أذن لكم } تكرير للتأكيد والرابط محذوف ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب بأرأيتم والمعنى : أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه { أم على الله تفترون } وعلى الوجهين فمن في منه حراما للتبعيض والتقدير : فجعلتم بعضه حراما وجعلتم بعضه حلالا وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز ومعنى إنزال الرزق : كون المطر ينزل من جهة العلو وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى لكل شيء فيه وروي عن الزجاج أن ما في موضع نصب بأنزل وأنزل بمعنى خلق كما قال : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } وعلى هذا القول والقول الأول يكون قوله : { قل آلله أذن لكم } مستأنفا قيل : ويجوز أن تكون الهمزة في { آلله أذن لكم } للإنكار وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء وفي هذه الآية الشريفة ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم وجعلوه شارعا مستقلا ما عمل به من الكتاب والسنة فهو المعمول به عندهم وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد مع كون من قلدوه متعبدا بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوما عليه بأحكامها كما هو محكوم عليهم بها وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة ودليلا معمولا به وقد أخطأوا في هذا خطأ بينا وغلطوا غلطا فاحشا فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليدا له واقتداء به وما جاء به المقلدة في تقوم هذا الباطل فهو من الجهل العاطل اللهم كما رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير (2/658)
ثم قال : 60 - { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } أي أي شيء ظنهم في هذا اليوم وما يصنع بهم فيه وهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقوله لهم بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحل بهم من عذاب الله و يوم القيامة منصوب بالظن وذكر الكذب بعد الافتراء مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا لزيادة التأكيد وقرأ عيسى بن عمر وما ظن على أنه فعل { إن الله لذو فضل على الناس } يتفضل عليهم بأنواع النعم في الدنيا والآخرة { ولكن أكثرهم لا يشكرون } الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات وطرفة من الطرفات (2/659)
قوله : 61 - { وما تكون في شأن } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم وما نافية والشأن : الأمر بمعنى القصد وأصله الهمز وجمعه شؤون قال الأخفش : تقول العرب : ما شأنت شأنه : أي ما عملت عمله { وما تتلوا منه من قرآن } قال الفراء والزجاج : الضمير في منه يعود على الشأن والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف : أي تلاوة كائنة منه إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه و سلم والمعنى : أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدث القرآن فيعلم كيف حكمه أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن وقال ابن جرير الطبري : الضمير عائد في منه إلى الكتاب : أي ما يكون من كتاب الله من قرآن وأعاده تفخيما له كقوله : { إنني أنا الله } والخطاب في { ولا تعملون من عمل } لرسول الله وللأمة وقيل الخطاب لكفار قريش { إلا كنا عليكم شهودا } استثناء مفرغ من أعم الأحوال للمخاطبين : أي شهودا عليكم بعمله منكم والضمير في فيه من قوله : { تفيضون فيه } عائد على العمل يقال : أفاض فلان في الحديث والعمل : إذا اندفع فيه وقال الضحاك : الضمير في فيه عائد على القرآن والمعنى : إذ تشيعون في القرآن الكذب قوله : { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء } قرأ الكسائي يعزب بكسر الزاي وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان فصيحتان ومعنى يعزب : يغيب وقيل يبعد وقال ابن كيسان : يذهب وهذه المعاني متقاربة ومن في { من مثقال } زائدة للتأكيد : أي وما يغيب عن ربك وزن ذرة : أي نملة حمراء وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات وقدم الأرض على السماء لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب والواو في { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } للعطف على لفظ مثقال وانتصبا لكونهما ممتنعين ويجوز أن يكون العطف على ذرة وقيل : انتصابهما بلا التي لنفي الجنس والواو للاستئناف وليس من متعلقات وما يعزب وخبر لا { إلا في كتاب } والمعنى : ولا أصغر من مثقال الذرة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين فكيف يغيب عنه ؟ وقرأ يعقوب وحمزة برفع أصغر وأكبر ووجه ذلك أنه معطوف على محل من مثقال ومحله الرفع وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله أو على لفظ ذرة إشكال وهو أنه يصير تقدير الآية : لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله وهو محال وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأول فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات والغرض الرد على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات وأجيب أيضا بأن الاستثناء منقطع : أي لكن هو في كتاب مبين وذكر أبو علي الجرجاني أن إلا بمعنى الواو على أن الكلام قد تم عند قوله : { ولا أكبر } ثم وقع الابتداء بقوله : { إلا في كتاب مبين } أي وهو أيضا في كتاب مبين والعرب قد تضع إلا موضع الواو ومنه قوله تعالى : { إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم } يعني ومن ظلم وقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } أي والذي ظلموا وقدر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها كما في قوله : { وقولوا حطة } أي هي حطة ومثله { ولا تقولوا ثلاثة } { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } وقال الزجاج : إن الرفع على الابتداء في قراءة من قرأ بالرفع وخبره { إلا في كتاب } واختاره صاحب الكشاف واختار في قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور أنهما منصوبان بلا التي لنفي الجنس واستشكل العطف بنحو ما قدمنا (2/660)
ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين وكسر لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين فقال : 62 - { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } الولي في اللغة : القريب والمراد بأولياء الله : خلص المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته (2/660)
وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله : 63 - { الذين آمنوا وكانوا يتقون } أي يؤمنون بما يجب الإيمان به ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه والمراد بنفي الخوف عنهم أنهم لا يخافون أبدا كما يخاف غيرهم لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره فيسلمون للقضاء والقدر ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر فصدورهم منشرحة وجوارحهم نشطة وقلوبهم مسرورة ومحل الموصول النصب على أنه بدل من أولياء أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو هو مبتدأ وخبره لهم البشرى فيكون غير متصل بما قبله أو النصب أيضا على المدح أو على أنه وصف لأولياء (2/662)
قوله : 64 - { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } تفسير لمعنى كونهم أولياء الله : أي لهم البشرى من الله ما داموا في الحياة بما يوحيه إلى أنبيائه وينزله في كتبه من كون حال المؤمنين عنده هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم وكذلك ما يحصل لهم من الرؤيا الصالحة وما يتفضل الله به عليهم من إجابة دعائهم وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم : لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعيم والسلامة من العذاب والبشرى مصدر أريد به المبشر به والظرفان في محل نصب على الحال : أي حال كونهم في الدنيا وحال كونهم في الآخرة ومعنى : { لا تبديل لكلمات الله } لا تغيير لأقواله على العموم فيدخل فيها ما وعد به عباده الصالحين دخولا أوليا والإشارة بقوله : { ذلك } إلى المذكور قبله من كونهم مبشرين بالبشارتين في الدارين { هو الفوز العظيم } الذي لا يقادر قدره ولا يماثله غيره والجملتان : أعني { لا تبديل لكلمات الله } و { ذلك هو الفوز العظيم } اعتراض في آخر الكلام عند من يجوزه وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه أو الأولى اعتراضية والثانية تذييلية
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } قال : هم أهل الشرك كانوا يحلون من الأنعام والحرث ما شاءوا ويحرمون ما شاءوا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن في قوله : { إذ تفيضون فيه } قال : إذ تفعلون وأخرج الفريابي وابن جرير عن مجاهد مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وما يعزب عن ربك } قال : لا يغيب عنه وزن ذرة { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } قال : هو الكتاب الذي عند الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { ألا إن أولياء الله } قيل : من هم يا رب ؟ قال : هم الذين آمنوا وكانوا يتقون وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : هم الذين إذا رؤوا ذكر الله وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا قال : هم الذين إذا رؤوا يذكر الله لرؤيتهم وأخرج عنه ابن المبارك والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه مرفوعا مثله وأخرجه ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير مرفوعا وهو مرسل وروي نحوه من طرق أخرى مرفوعا وموقوفا وأخرج أحمد والحكيم والترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاء من الله وإن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم ] وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم : [ خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله وشرار عباده المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون البرآء العنت ] وأخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خياركم من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه ورغبكم في الآخرة عمله ] وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس مرفوعا نحوه وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعا : [ إن لله عبادا ليسوا بالأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منهم فجثا أعرابي على ركبتيه فقال : يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا ؟ قال : قوم من أفناء الناس من نزاع القبائل تصافوا في الله وتحابوا في الله يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم يخاف الناس ولا يخافون هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] وأخرج أبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر نحوه قال ابن كثير : وإسناده جيد وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي مالك الأشعري مرفوعا نحوه وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : [ سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن قول الله : { ألا إن أولياء الله } الآية فقال : الذين يتحابون في الله ] وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا مثله وقد ورد في فضل المتحابين في الله أحاديث ليس فيها أنهم المرادون بالآية وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عطاء بن يسار [ عن رجل من أهل مصر قال : سألت أبا الدرداء عن معنى قوله : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } فقال : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزل علي : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له فهي بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الآخرة الجنة ] وفي إسناده هذا الرجل المجهول وأخرج أبو داود الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أوترى له ] وأخرج أحمد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي [ عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } قال : الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة فمن رأى ذلك فليخبر بها ] الحديث وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قال : هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له وفي الآخرة الجنة ] وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده من طريق
أبي جعفر عن جابر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فسر البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الحبيبة وفي الآخرة ببشارة المؤمن عند الموت ] : إن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعا مثل حديث جابر وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا الشطر الأول من حديث جابر وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عباس مثله وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الرؤيا الصالحة من المبشرات وأنها جزء من أجزاء النبوة ولكنها لم تقيد لتفسير هذه الآية وقد روي أن المراد بالبشرى في الآية هي قوله : { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا } أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وأخرج ابن المنذر عنه من طريق مقسم أنها قوله : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } وأخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي عن نافع قال : خطب الحجاج فقال : إن ابن الزبير بدل كتاب الله فقال ابن عمر : لا تستطيع ذلك أنت ولا ابن الزبير لا تبديل لكلمات الله (2/662)
قوله : 65 - { ولا يحزنك قولهم } نهي للنبي صلى الله عليه و سلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن للطعن عليه وتكذيبه والقدح في دينه والمقصود التسلية له والتبشير ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله صلى الله عليه و سلم معللا لما ذكره من النهي لرسوله صلى الله عليه و سلم فقال : { إن العزة لله جميعا } أي الغلبة والقهر له في مملكته وسلطانه ليست لأحد من عباده وإذا كان ذلك كله له فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة وهم لا يملكون من الغلبة شيئا وقرئ يحزنك من أحزنه وقرئ أن العزة بفتح الهمزة على معنى لأن العزة لله ولا ينافي ما في هذه الآية من جعل العز جميعها لله تعالى قوله سبحانه : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } لأن كل عزة بالله فهي كلها لله ومنه قوله : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } { إنا لننصر رسلنا } (2/665)
66 - { ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض } ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه و سلم وإذا كانوا في ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بما لا يأذن الله به وغلب العقلاء على غيرهم لكونهم أشرف وفي الآية نعي على عباد البشر والملائكة والجمادات لأنهم عبدوا المملوك وتركوا المالك وذلك مخالف لما يوجبه العقل ولهذا عقبه بقوله : { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } والمعنى : أنهم وإن سموا معبوداتهم شركاء لله فليست شركاء له على الحقيقة لأن ذلك محال { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وما في وما يتبع نافية وشركاء مفعول يتبع وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفا والأصل وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في الحقيقة : إنما هي أسماء لا مسميات لها فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ويكون على هذا الوجه شركاء منصوبا بـ يدعون والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم والإزراء عليهم ويجوز أن تكون ما موصولة معطوفة على من في السموات : أي لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء والمعنى : أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السموات ومن في الأرض ثم زاد سبحانه في تأكيد الرد عليهم والدفع لأقوالهم فقال : { إن يتبعون إلا الظن } أي ما يتبعون يقينا إنما يتبعون ظنا والظن لا يغني من الحق شيئا { إن هم إلا يخرصون } أي يقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا وكذبا بحتا وقد تقدمت هذه الآية في الأنعام (2/665)
ثم ذكر سبحانه طرفا من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه قال : 67 - { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا } أي جعل لعباده الزمان منقسما إلى قسمين : أحدهما : مظلم وهو الليل لأجل يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب ويريحون أنفسهم عن الكد والكسب والآخر : مبصر لأجل يسعون فيه بما يعود على نفعهم وتوفير معايشهم ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير لا يخفى عليهم فيه كبير ولا حقير وجعله سبحانه للنهار مبصرا مجاز والمعنى : أنه مبصر صاحبه كقولهم : نهاره صائم والإشارة بقوله : { إن في ذلك } إلى الجعل المذكور { لآيات } عجيبة كثيرة { لقوم يسمعون } أي يسمعون ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها ومن غيرها مما لم يذكره فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان (2/666)
قوله : 68 - { قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني } هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولدا فرد ذلك عليهم بقوله : { سبحانه هو الغني } فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين وبين أنه غني عن ذلك وأن الولد إنما يطلب للحاجة والغني المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد وأيضا إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك وقد تقدم تفسير الآية في البقرة ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان فقال : { له ما في السموات وما في الأرض } وإذا كان الكل له وفي ملكه فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولدا له للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال : { إن عندكم من سلطان بهذا } أي ما عندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تم لونه و من في { من سلطان } زائدة للتأكيد والجار والمجرور في { بهذا } متعلق إما بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان أو متعلق بما عندكم لما فيه من معنى الاستقرار ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء فقال : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه ليس هو من العلم في شيء بل من الجهل المحض (2/666)
ثم أمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم قولا يدل على أن ما قالوه كذب وأن من كذب على الله لا يفلح فقال : 69 - { قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } أي كل مفتر هذا شأنه ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز والمعنى : أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب (2/667)
70 - { متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة فهو متاع قليل في الدنيا ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله فيعذب المفتري عذابا مؤبدا فيكون متاع خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة لبيان أن ما يحصل للمفتري بافترائه ليس بفائدة يعتد بها بل هو متاع يسير في الدنيا يتعقبه العذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله وقال الأخفش : إن التقدير لهم متاع في الدنيا فيكون المحذوف على هذا هو الخبر وقال الكسائي : التقدير ذلك متاع أو هو متاع فيكون المحذوف على هذا هو المبتدأ
وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال في قوله تعالى : { ولا يحزنك } لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه من الله فيما يعاتبه { ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم } يسمع ما يقولون ويعلمه فلو شاء بعزته لانتصر منهم وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والنهار مبصرا } قال : منيرا وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله : { إن عندكم من سلطان بهذا } يقول : ما عندكم سلطان بهذا (2/667)
لما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبهة المنهارة شرع في ذكر قصص الأنبياء لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : 71 - { واتل عليهم } أي على الكفار المعاصرين لك المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة { نبأ نوح } أي خبره والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن والمراد : ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به كما فعله كفار قريش وأمثاله { إذ قال لقومه } أي وقت قال لقومه والظرف منصوب بنبأ أو بدل منه بدل اشتمال واللام في { لقومه } لام التبليغ { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي } أي عظم وثقل والمقام بفتح الميم : الموضع الذي يقام فيه وبالضم الإقامة وقد اتفق القراء على الفتح وكنى بالمقام على نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان : أي لأجله ومنه { ولمن خاف مقام ربه } أي خاف ربه ويجوز أن يراد بالمقام المكث : أي شق عليكم مكثي بين أظهركم ويجوز أن يراد بالمقام القيام لأن الواعظ يقوم حال وعظه والمعنى : إن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم وكبر عليكم تذكيري لكم { بآيات الله } التكوينية والتنزيلية { فعلى الله توكلت } هذه الجملة جواب الشرط والمعنى : إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديما وحديثا ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة عن مراتب التوكل ويجوز أن يكون جواب الشرط { فأجمعوا } وجملة { فعلى الله توكلت } اعتراض كقولك : إن كنت أنكرت علي شيئا فالله حسبي ومعنى { فأجمعوا أمركم } اعتزموا عليه من أجمع الأمر : إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء : وروي عن الفراء أنه قال : أجمع الشيء : أعده وقال مؤرج السدوسي : أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه وأنشد :
( يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مجمع )
وقال أبو الهيثم : أجمع أمره : جعله جميعا بعدما كان متفرقا وتفرقه أن تقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه : أي جعله جميعا فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم وقد اتفق جمهور القراء على نصب شركاءكم وقطع الهمزة من أجمعوا وقرأ يعقوب وعاصم الجحدري بهمزة وصل في أجمعوا على أنه من جمع يجمع جمعا وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب وشركاؤكم بالرفع قال النحاس : وفي نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه : الأول : بمعنى وادعوا شركاءكم قاله الكسائي والفراء : أي ادعوهم لنصرتكم فهو على هذا منصوب بفعل مضمر وقال محمد بن يزيد المبرد : هو معطوف على المعنى قال الشاعر :
( يا ليت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا )
والرمح لا يتقلد به لكنه محمول كالسيف وقال الزجاج : المعنى مع شركائكم فالواو على هذا واو مع وأما على قراءة أجمعوا بهمزة وصل فالعطف ظاهر : أي أجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم وأما توجيه قراءة الرفع فعلى عطف الشركاء على الضمير المرفوع في أجمعوا وحسن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما هو المعتبر في ذلك أن الكلام قد طال قال النحاس وغيره : وهذه القراءة بعيدة لأنه لو كان شركاءكم مرفوعا لرسم في المصحف بالواو وليس ذلك موجودا فيه قاله المهدوي : ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخبر محذوف : أي وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل لقصد التوبيخ والتقريع لمن عبدها وروي عن أبي قرأ : وادعوا شركاءكم بإظهار الفعل قوله : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } الغمة : التغطية من قولهم غم الهلال : إذا استتر : أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا قال طرفة :
( لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد )
هكذا قال الزجاج وقال الهيثم : معناه لا يكن أمركم عليكم مبهما وقيل إن الغمة : ضيق الأمر كذا روي عن أبي عبيدة والمعنى : لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقا شديدا بل ادفعوا هذا الضيق والشدة بما شئتم وقدرتم عليه وعلى الوجهين الأولين يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول وعلى الثالث يكون المراد به غيره قوله : { ثم اقضوا إلي ولا تنظرون } أي ذلك الأمر الذي تريدونه بي وأصل اقضوا من القضاء وهو الإحكام والمعنى : أحكموا ذلك الأمر قال الأخفش والكسائي : هو مثل { وقضينا إليه ذلك الأمر } أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه ثم لا تنظرون : أي لا تمهلون بل عجلوا أمركم واصنعوا ما بدا لكم وقيل معناه : ثم امضوا إلي ولا تؤخرون قال النحاس : هذا قول صحيح في اللغة ومنه قضى الميت : مضى وحكى الفراء عن بعض القراء أنه قرأ ثم أفضوا بالفاء وقطع الهمزة : أي توجهوا وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدل على وثوقه بنصر ربه وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه (2/668)
ثم بين لهم أن كل ما أتى به إليهم من الإعذار والإنذار وتبليغ الشريعة عن الله ليس هو لطمع دنيوي ولا لغرض خسيس فقال : 72 - { فإن توليتم فما سألتكم من أجر } أي إن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم وتذكيري إياكم فما سألتكم في مقابلة ذلك من أجر تودونه إلي حتى تتهموني فيما جئت به والفاء في { فإن توليتم } لترتيب ما بعدها على ما قبلها والفاء في { فما سألتكم } جزائية { إن أجري إلا على الله } أي ما ثوابي في النصح والتذكير إلا عليه سبحانه فهو يثيبني آمنتم أو توليتم قرأ أهل المدينة وأبو عمر وابن عامر وحفص بتحريك الياء من أجري وقرأ الباقون بالسكون { وأمرت أن أكون من المسلمين } المنقادين لحكم الله الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه لا يأخذون عليها أجرا ولا يطمعون في عاجل (2/669)
قوله : 73 - { فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك } أي استمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك وليس المراد أنهم أحدثوا تكذيبه بعد أن لم يكن والمراد بمن معه من قد أجابه وصار على دينه والخلائف جمع خليفة والمعنى : أنه سبحانه جعلهم خلفاء يسكنون الأرض التي كانت للمهلكين بالغرق ويخلفونهم فيها { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } من الكفار المعاندين لنوح الذين لم يؤمنوا به أغرقهم الله بالطوفان { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتهديد للمشركين وتهويل عليهم (2/670)
74 - { ثم بعثنا من بعده } أي من بعد نوح { رسلا } كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب { فجاؤوهم بالبينات } أي بالمعجزات وبما أرسلهم الله به من الشرائع التي شرعها الله لقوم كل نبي { فما كانوا ليؤمنوا } أي فما أحدثوا الإيمان بل استمروا على الكفر وأصروا عليه والمعنى : أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام الذين أرسل الله إليهم رسله أن يؤمنوا في وقت من الأوقات { بما كذبوا به من قبل } أي من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجيء الرسل إليهم والمعنى : أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا عند أن أرسل الله إليهم الرسول المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم لأنهم كانوا غير مؤمنين بل مكذبين بالدين ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولا وهذا مبني على أن الضمير في { فما كانوا ليؤمنوا } وفي { بما كذبوا } راجع إلى القوم المذكورين في قوله : { إلى قومهم } وقيل : ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح : أي فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح من قبل أن يأتي هؤلاء الأقوام الذين جاءوا من بعدهم { وجاءتهم رسلهم بالبينات } وقيل : إن الباء في { بما كذبوا به من قبل } للسببية : أي فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بسبب ما اعتادوه من تكذيب الحق من قبل مجيئهم وفيه نظر وقيل المعنى { بما كذبوا به من قبل } : أي في عالم الذر فإن فيهم من كذب بقلبه وإن آمنوا ظاهرا قال النحاس : ومن أحسن ما قيل إنه لقوم بأعيانهم { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } أي مثل ذلك الطبع العظيم نطبع على قلوب المتجاوزين للحد المعهود في الكفر وقد تقدم تفسير هذا في غير موضع
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الأعرج في قوله : { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } يقول : فأحكموا أمركم وادعوا شركاءكم وأخرج أيضا عن الحسن في الآية : أي فليجمعوا أمرهم معكم وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } قال : لا يكبر عليكم أمركم { ثم اقضوا } ما أنتم قاضون وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ثم اقضوا } قال : انهضوا { إلي ولا تنظرون } يقول : ولا تؤخرون (2/670)
قوله : 75 - { ثم بعثنا من بعدهم } معطوف على قوله : { ثم بعثنا من بعده رسلا } والضمير في من بعدهم راجع إلى الرسل المتقدم ذكرهم وخص موسى وهارون بالذكر مع دخولهما تحت الرسل لمزيد شرفهما وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون والمراد بالملأ الأشراف والمراد بالآيات : المعجزات وهي التسع المذكورة في الكتاب العزيز { فاستكبروا } عن قبولها ولم يتواضعوا لها ويذعنوا لما اشتملت عليه من المعجزات الموجبة لتصديق ما جاء بها { وكانوا قوما مجرمين } أي كانوا ذوي إجرام عظام وآثام كبيرة فبسبب ذلك اجترأوا على ردها لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق وإبصار الصواب قيل : وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها (2/672)
قوله : 76 - { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين } أي فلما جاء فرعون وملأه الحق من عند الله وهو المعجزات لم يؤمنوا بها بل حملوها على السحر مكابرة منهم (2/672)
فرد عليهم موسى قائلا : 77 - { أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا } قيل في الكلام حذف والتقدير : أتقولون للحق سحر فلا تقولوا ذلك ثم استأنف إنكار آخر من جهة نفسه فقال : { أسحر هذا } فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني والملجئ إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله : { أسحر هذا } بل هم قاطعون بأنه سحر لأنهم قالوا { إن هذا لسحر مبين } فحينئذ لا يكون قوله : { أسحر هذا } من قولهم وقال الأخفش : هو من قولهم وفيه نظر لما قدمنا وقيل معنى { أتقولون } أتعيبون الحق وتطعنون فيه وكان عليكم أن تذعنوا له ثم قال : أسحر هذا منكرا لما قالوه وقيل إن مفعول { أتقولون } محذوف وهو ما دل عليه قولهم : { إن هذا لسحر } والتقدير : أتقولون ما تقولون يعني قولهم إن هذا لسحر مبين ثم قيل أسحر هذا وعلى هذا التقدير والتقدير الأول فتكون جملة { أسحر هذا } مستأنفة من جهة موسى عليه السلام والاستفهام للتقريع والتوبيخ بعد الجملة الأولى المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ماذا قال لهم موسى لما قالوا { إن هذا لسحر مبين } فقيل : قال { أتقولون للحق لما جاءكم } على طريقة الاستفهام الإنكاري والمعنى : أتقولون للحق لما جاءكم إن هذا لسحر مبين وهو أبعد شيء من السحر ثم أنكر عليهم وقرعهم ووبخهم فقال : { أسحر هذا } فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار وتوبيخ بعد توبيخ وتجهيل بعد تجهيل وجملة { ولا يفلح الساحرون } في محل نصب على الحال : أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح الساحرون فلا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير ولا ينجون من مكروه فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة ؟ (2/672)
وجملة 78 - { قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال ؟ وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز الحجة ولم يجحدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم بل لجأوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة وهو الاحتجاج بما كان عليهم آباؤهم من الكفر وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق وجحودهم للآيات البينة وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا وكم بقي على الباطل وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولا حقه فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت يقال لفته لفتا : إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه ومنه قال الشاعر :
( تلفت نحو الحي حتى رأيتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا )
أي تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا وهو عبادة الأصنام والمراد بالكبرياء الملك قال الزجاج : سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا وقيل سمي بذلك لأن الملك يتكبر
والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين : التمسك بالتقليد للآباء والحرص على الرياسة الدنيوية لأنهم إذا أجابوا النبي وصدقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه ولم يبق للملك رئاسة تامة لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات ثم قالوا : { وما نحن لكما بمؤمنين } تصريحا منهم بالتكذيب وقطعا للطمع في إيمانهم وقد أفرد الخطاب لموسى في قولهم : أجئتنا لتلفتنا ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطاب في قولهم : { وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين } ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى لكونه المقصود بالرسالة المبلغ عن الله ما شرعه لهم وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم ولكون ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون (2/673)
وقد مرت القصة في الأعراف قوله : 79 - { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم } قال : هكذا لما رأى اليد البيضاء والعصا لأنه اعتقد أنهما من السحر فأمر قومه بأن يأتوه بكل ساحر عليم هكذا قرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش { سحار } وقرأ الباقون { ساحر } وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف والسحار صيغة مبالغة : أي كثير السحر كثير العلم بعمله وأنواعه (2/674)
80 - { فلما جاء السحرة } في الكلام حذف والتقدير هكذا : وقال فرعون ائتوني بكل سحار عليم فأتوا بهم إليه فلما جاء السحرة فتكون الفاء للعطف على المقدر المحذوف قوله : { قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون } أي قال لهم هذه المقالة بعد أن قالوا له : إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقون : أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم (2/674)
81 - { فلما ألقوا } ما ألقوه من ذلك { قال } لهم { موسى ما جئتم به السحر } أي الذي جئتم به السحر على أن ما موصولة مبتدأ والخبر السحر والمعنى أنه سحر لا أنه آية من آيات الله وأجاز الفراء نصب السحر بجئتم وتكون ما شرطية والشرط جئتم والجزاء إن الله سيبطله على تقدير الفاء : أي فإن الله سيبطله وقيل : إن السحر منتصب على المصدر : أي ما جئتم به سحرا ثم دخلت الألف واللام فلا يحتاج على هذا إلى حذف الفاء واختاره النحاس وقال : حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر { السحر } على أن الهمزة للاستفهام والتقدير : أهو السحر فتكون ما على هذه القراءة استفهامية وقرأ أبي ما أتيتم به سحر إن الله سيبطله أي سيمحقه فيصير باطلا بما يظهره على يدي من الآيات المعجزة { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } أي عمل هذا الجنس فيشمل كل من يصدق عليه أنه مفسد ويدخل فيه السحر والسحرة دخولا أوليا (2/674)
والواو في 82 - { ويحق الله الحق } للعطف على سيبطله : أي يبينه ويوضحه { بكلماته } التي أنزلها في كتبه على أنبيائه لاشتمالها على الحجج والبراهين { ولو كره المجرمون } من آل فرعون أو المجرمون على العموم ويدخل تحتهم آل فرعون دخولا أوليا والإجرام الآثام (2/674)
قوله : 83 - { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } الضمير يرجع إلى موسى : أي من قوم موسى وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل وقيل : المراد طائفة من ذراري فرعون فيكون الضمير عائدا على فرعون قيل : ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه وقيل : هم قوم آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل روي هذا عن الفراء { على خوف من فرعون وملئهم } الضمير لفرعون وجمع لأنه لما كان جبارا جمعوا ضميره تعظيما له وقيل : إن قوم فرعون سموا بفرعون مثل ثمود فرجع الضمير إليهم بهذا الاعتبار وقيل إنه عائد على مضاف محذوف والتقدير : على خوف من آل فرعون وروي هذا عن الفراء ومنع ذلك الخليل وسيبويه فلا يجوز عندهما قامت هند وأنت تريد غلامها وروي عن الأخفش أن الضمير يعود على الذرية وقواه النحاس { أن يفتنهم } أي يصرفهم عن دينهم بالعذاب الذي كان ينزله بهم وهو بدل اشتمال ويجوز أن يكون في موضع نصب بالمصدر { وإن فرعون لعال في الأرض } أي عات متكبر متغلب على أرض مصر { وإنه لمن المسرفين } المجاوزين للحد في الكفر وما يفعله من القتل والصلب وتنويع العقوبات (2/674)
قوله : 84 - { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } قيل : إن هذا من باب التكرير للشرط فشرط في التوكل على الله الإيمان به والإسلام : أي الاستسلام لقضائه وقدره وقيل : إن هذا ليس من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان هو وجوب التوكل والمشروط بالإسلام وجوده والمعنى : أن يسلموا أنفسهم لله : أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها لأن التوكل لا يكون مع التخليط قال في الكشاف : ونظيره في الكلام إن ضربك زيد فاضربه إن كانت لك به قوة (2/675)
85 - { فقالوا } أي قوم موسى مجيبين له { على الله توكلنا } ثم دعوا الله مخلصين فقالوا : { ربنا لا تجعلنا فتنة } أي موضع فتنة { للقوم الظالمين } والمعنى : لا تسلطهم علينا فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا ولا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا فيقولون لهم : لو كان هؤلاء على حق لما سلطنا عليهم وعذبناهم وعلى المعنى الأول تكون الفتنة بمعنى المفتون (2/675)
ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا : 86 - { ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم (2/675)
قوله : 87 - { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا } أن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى أن تبوآ : أي اتخذا لقومكما بمصر بيوتا يقال : بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا والمبوأ : المنزل الملزوم ومنه بوأه الله منزلا : أي ألزمه إياه وأسكنه فيه ومنه الحديث : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومنه قول الراجز :
( نحن بنو عدنان ليس شك ... تبوأ المجد بنا والملك )
قيل : ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية وقيل : هي مصر المعروفة لا الإسكندرية { واجعلوا بيوتكم قبلة } أي متوجهة إلى جهة القبلة قيل : والمراد بالبيوت هنا المساجد وإليه ذهب جماعة من السلف وقيل : المراد بالبيوت التي يسكنون فيها أمروا بأن يجعلوها منا قبلة والمراد بالقبلة على القول الأول هي جهة بيت المقدس وهو قبلة اليهود إلى اليوم وقيل : جهة الكعبة وأنها كانت قبلة موسى ومن معه وقيل : المراد أنهم يجعلون بيوتهم مستقبلة للقبلة ليصلوا فيها سرا لئلا يصيبهم من الكفار معرة بسبب الصلاة ومما يؤيد هذا قوله : { وأقيموا الصلاة } أي التي أمركم بإقامتها فإنه يفيد أن القبلة هي قبلة الصلاة إما في المساجد أو في البيوت لا جعل البيوت متقابلة وإنما جعل الخطاب في أول الكلام مع موسى وهارون ثم جعله لهما ولقومهما في قوله : { واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة } ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك فقال : { وبشر المؤمنين } لأن اختيار المكان مفوض إلى الأنبياء ثم جعل عاما في استقبال القبلة وإقامة الصلاة لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء ثم جعل خاصا بموسى لأنه الأصل في الرسالة وهارون تابع له فكان ذلك تعظيما للبشارة وللمبشر بها وقيل : إن الخطاب في { وبشر المؤمنين } لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم على طريقة الالتفات والاعتراض والأول أولى
وقد أرخج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { لتلفتنا } قال : لتلوينا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال : لتصدنا عن آلهتنا وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } قال : العظمة والملك والسلطان وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { فما آمن لموسى إلا ذرية } قال : الذرية القليل وأخرج هؤلاء عنه في قوله : { ذرية من قومه } قال : من بني إسرائيل وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد قال : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ونعيم بن حماد في الفتن وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } قال : لا تسلطهم علينا فيفتنونا وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال في تفسير الآية : لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون : لو كانوا على الحق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنون بنا وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي قلابة في الآية قال : سأل ربه أن لا يظهر علينا عدونا فيحسبون أنهم أولى بالعدل فيفتنون بذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مجلز نحوه وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وأوحينا إلى موسى وأخيه } الآية قال ذلك حين منعهم فرعون الصلاة فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوها نحو القبلة وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { أن تبوءا لقومكما بمصر } قال : مصر الإسكندرية وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : كانوا لا يصلون إلا في البيع حتى خافوا من آل فرعون فأمروا أن يصلوا في بيوتهم وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : أمروا أن يتخذوا في بيوتهم مساجد وأخرج أبو الشيخ عن أبي سنان قال : القبلة الكعبة وذكر أن آدم فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { واجعلوا بيوتكم قبلة } قال : يقابل بعضها بعضا (2/675)
لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وإقامة الحجج البينات ولم يكن لذلك تأثير فيمن أرسل إليهم دعا عليهم بعد أن بين سبب إصرارهم على الكفر وتمسكهم بالجحود والعناد فقال مبينا للسبب أولا : 88 - { ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا } قد تقدم أن الملأ هم الأشراف والزينة : اسم لكل ما يتزين به من ملبوس ومركوب وحلية وفراش وسلاح وغير ذلك ثم كرر النداء للتأكيد فقال : { ربنا ليضلوا عن سبيلك }
وقد اختلف في هذه اللام الداخلة على الفعل فقال الخليل وسيبويه : إنها لام العاقبة والصيرورة والمعنى : أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه أعطاهم ما أعطاهم من النعم ليضلوا فتكون اللام على هذا متعلقة بآتيت وقيل إنها لام كي : أي أعطيتهم لكي يضلوا وقال قوم : إن المعنى أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا فحذفت لا كما قال سبحانه : { يبين الله لكم أن تضلوا } قال النحاس : ظاهر هذا الجواب حسن إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن فموه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } وقيل : اللام للدعاء عليهم والمعنى : ابتلهم بالهلاك عن سبيلك واستدل هذا القائل بقوله سبحانه بعد هذا : { اطمس } { واشدد } وقد أطال صاحب الكشاف في تقرير هذا بما لا طائل تحته والقول الأول هو الأولى وقرأ الكوفيون { ليضلوا } بضم حرف المضارعة : أي يوقعوا الإضلال على غيرهم وقرأ الباقون بالفتح : أي يضلون في أنفسهم { ربنا اطمس على أموالهم } قال الزجاج : طمس الشيء إذهابه عن صورته والمعنى : الدعاء عليهم بأن يمحق الله أموالهم ويهلكها وقرئ بضم الميم عن اطمس { واشدد على قلوبهم } أي اجعلها قاسية مطبوعة لا تقبل الحق ولا تنشرح للإيمان قوله : { فلا يؤمنوا } قال المبرد والزجاج : هو معطوف على ليضلوا والمعنى : آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا ويكون ما بين المعطوف والمعطوف عليه اعتراضا وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة : هو دعاء بلفظ النهي والتقدير : اللهم فلا يؤمنوا ومنه قول الأعشى :
( فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم )
وقال الأخفش : إنه جواب الأمر : أي اطمس واشدد فلا يؤمنوا فيكون منصوبا وروي هذا عن الفراء أيضا ومنه :
( يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا )
{ حتى يروا العذاب الأليم } أي لا يحصل منهم الإيمان إلا مع المعاينة لما يعذبهم الله به وعند ذلك لا ينفع إيمانهم وقد استشكل بعض أهل العلم ما في هذه الآية من الدعاء على هؤلاء وقال : إن الرسل إنما تطلب هداية قومهم وإيمانهم وأجيب بأنه لا يجوز لنبي أن يدعو على قومه إلا بإذن الله سبحانه وإنما يأذن الله بذلك لعلمه بأنه ليس فيهم من يؤمن ولهذا لما أعلم الله نوحا عليه السلام بأنه لا يؤمن من قومه إلا من قد آمن قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } (2/677)
89 - { قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما } جعل الدعوة هاهنا مضافة إلى موسى وهارون وفيما تقدم أضافها إلى موسى وحده فقيل : إن هارون كان يؤمن على دعاء موسى فسمي هاهنا داعيا وإن كان الداعي موسى وحده ففي أول الكلام أضاف الدعاء إلى موسى لكونه الداعي وهاهنا أضافه إليهما تنزيلا للمؤمن منزلة الداعي ويجوز أن يكونا جميعا داعيين ولكن أضاف الدعاء إلى موسى في أول الكلام لأصالته في الرسالة قال النحاس : سمعت علي بن سليمان يقول : الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى ربنا ولم يقل رب وقرأ علي والسلمي دعاؤكما وقرأ ابن السميفع دعواكما والاستقامة : الثبات على ما هما عليه من الدعاء إلى الله قال الفراء وغيره : أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه على دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا : وقيل : معنى الاستقامة : ترك الاستعجال ولزوم السكينة والرضا والتسليم لما يقضي به الله سبحانه قوله : { ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } بتشديد النون للتأكيد وحركت بالكسر لكونه الأصل ولكونهما أشبهت نون التثنية وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي لا على النهي وقرئ بتخفيف الفوقية الثانية من تتبعان والمعنى : النهي لهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلا وتأجيلا (2/679)
قوله : 90 - { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } هو من جاوز المكان : إذا خلفه وتخطاه والباء للتعدية : أي جعلناهم مجاوزين البحر حتى بلغوا الشط لأن الله سبحانه جعل البحر يبسا فمروا فيه حتى خرجوا منه إلى البر وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة في قوله سبحانه : { وإذ فرقنا بكم البحر } وقرأ الحسن وجوزنا وهما لغتان { فأتبعهم فرعون وجنوده } يقال : تبع وأتبع بمعنى واحد : إذا لحقه وقال الأصمعي : يقال أتبعه بقطع الألف : إذا لحقه وأدركه واتبعه بوصل الألف : إذا اتبع أثر أدركه أو لم يدركه وكذا قال أبو زيد : وقال أبو عمرو : إن اتبعه بالوصل : اقتدى به وانتصاب بغيا وعدوا على الحال والبغي : الظلم والعدو : الاعتداء ويجوز أن يكون انتصابهما على العلة : أي للبغي والعدو وقرأ الحسن وعدوا بضم العين والدال وتشديدا الواو مثل علا يعلو علوا وقيل إن البغي : طلب الاستعلاء في القول بغير حق والعدو في الفعل { حتى إذا أدركه الغرق } أي ناله ووصله وألجمه وذلك أن موسى خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون فلما سمع فرعون بذلك لحقهم بجنوده ففرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل فمشوا فيه حتى خرجوا من الجانب الآخر وتبعهم فرعون والبحر باق على الحالة التي كان عليها عند مضي موسى ومن معه فلما تكامل دخول جنود فرعون وكادوا أن يخرجوا من الجانب الآخر انطبق عليهم فغرقوا كما حكى الله سبحانه ذلك { قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } أي صدقت أنه بفتح الهمزة على أن الأصل بأنه فحذفت الباء والضمير للشأن وقرئ بكسر إن على الاستئناف وزعم أبو حاتم أن القول محذوف : أي آمنت فقلت إنه ولم ينفعه هذا الإيمان أنه وقع منه بعد إدراك الغرق كله كما تقدم في النساء ولم يقل اللعين آمنت بالله أو برب العالمين بل قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل لأنه بقي فيه عرق من دعوى الإلهية قوله : { وأنا من المسلمين } أي المستسلمين لأمر الله المنقادين له الذين يوحدونه وينفون ما سواه وهذه الجملة إما في محل نصب على الحال أو معطوفة على آمنت (2/679)
قوله : 91 - { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } هو مقول قول مقدر معطوف على قال آمنت : أي فقيل له : أتؤمن الآن ؟
وقد اختلف من القائل لفرعون بهذه المقالة ؟ فقيل هي من قول الله سبحانه وقيل من قول جبريل وقيل من قول ميكائيل وقيل من قول فرعون قال ذلك في نفسه لنفسه وجملة وقد عصيت قبل في محل نصب على الحال من فاعل الفعل المقدر بعد القول المقدر وهو أتؤمن الآن والمعنى : إنكار الإيمان منه عند أن ألجمه الغرق والحال أنه قد عصى الله من قبل والمقصود التقريع والتوبيخ له وجملة وكنت من المفسدين معطوفة على عصيت داخلة في الحال : أي كنت من المفسدين في الأرض بضلالك عن الحق وإضلالك لغيرك (2/680)
قوله : 92 - { فاليوم ننجيك ببدنك } قرئ ننجيك بالتخفيف والجمهور على التثقيل وقرأ اليزيدي : ننحيك بالحاء المهملة من التنحية وحكاها علقمة عن ابن مسعود ومعنى ننجيك بالجيم : نلقيك على نجوة من الأرض وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق وقالوا : هو أعظم شأنا من ذاك فألقاه الله على نجوة من الأرض أي مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه وقيل المعنى : نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسول في قعر البحر ونجعلك طافيا ليشاهدوك ميتا بالغرق ومعنى ننحيك بالمهملة : نطرحك على ناحية من الأرض وروي عن ابن مسعود أنه قرأ بأبدانك
وقد اختلف المفسرون في معنى ببدنك فقيل معناه : بجسدك بعد سلب الروح منه وقيل معناه : بدرعك والدرع يسمى بدنا ومنه قول كعب بن مالك :
( ترى الأبدان فيها مسبغات ... على الأبطال واليلب الحصينا )
أراد بالأبدان الدروع وقال عمرو بن معدي كرب :
( ومضى نساؤهم بكل مضاضة ... جدلاء سابغة وبالأبدان )
أي بدروع سابغة ودروع قصيرة : وهي التي يقال لها أبدان كما قال أبو عبيدة وقال الأخفش : وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء ورجح أن البدن المراد به هنا الجسد قوله : { لتكون لمن خلفك آية } هذا تعليل لتنجيته ببدنه وفي ذلك على أنه لم يظهر جسده دون قومه إلا لهذه العلة لا سوى والمراد بالآية العلامة : أي لتكون لمن خلفك من الناس علامة يعرفون بها هلاكك وأنك لست كما تدعي ويندفع عنهم الشك في كونك قد صرت ميتا بالغرق وقيل : المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك آية من آيات الله يعتبر بها الناس أو يعتبر بها من سيأتي من الأمم إذا سمعوا ذلك حتى يحذروا من التكبر والتجبر والتمرد على الله سبحانه فإن هذا الذي بلغ ما بلغ إليه من دعوى الإلهية واستمر على ذلك دهرا طويلا كانت له هذه العاقبة القبيحة وقرئ لمن خلفك على صيغة الفعل الماضي أي لمن يأتي بعدك من القرون أو من خلفك في الرياسة أو في السكون في المسكن الذي كنت تسكنه { وإن كثيرا من الناس عن آياتنا } التي توجب الاعتبار والتفكر وتوقظ من سنة الغفلة { لغافلون } عما توجبه الآيات وهذه الجملة تذييلية
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ربنا اطمس على أموالهم } يقول : دمر على أموالهم وأهلكها { واشدد على قلوبهم } قال : اطبع { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } وهو الغرق وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال : سألني عمر بن عبد العزيز عن قوله : { ربنا اطمس على أموالهم } فأخبرته أن الله طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر : كما أنت حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه الفضة مقطوعة كأنها الحجارة والدنانير والدراهم وأشباه ذلك من الأموال حجارة كلها وقد روي أن أموالهم تحولت حجارة من طريق جماعة من السلف وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قد أجيبت دعوتكما قال : فاستجاب له وحال بين فرعون وبين الإيمان وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال : كان موسى إذا دعا أمن هارون على دعائه يقول : آمين قال أبو هريرة : وهو اسم من أسماء الله فذلك قوله : { قد أجيبت دعوتكما } وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس نحوه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة نحوه وأخرج سعيد بن منصور عن محمد بن كعب القرظي نحوه أيضا وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله وأخرج الحكيم الترمذي عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس فاستقيما فامضيا لأمري وهي الاستقامة وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : العدو والعتو والعلو في كتاب الله التجبر وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما خرج آخر أصحاب موسى ودخل آخر أصحاب فرعون أوحى الله إلى البحر أن انطبق عليهم فخرجت أصبع فرعون بلا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل : فعرفت أن الرب رحيم وخفت أن تدركه الرحمة فرمسته بجناحي وقلت : آلان وقد عصيت قبل ؟ فلما خرج موسى وأصحابه قال من تخلف من قوم فرعون : ما غرق فرعون ولا أصحابه ولكنهم في جزائر البحر يتصيدون فأوحى الله إلى البحر أن الفظ فرعون عريانا فلفظه عريانا أصلع أخينس قصيرا فهو قوله : { فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية } لمن قال : إن فرعون لمن يغرق وكأن نجاة غيره لمن تكن نجاة عافية ثم أوحى الله إلى البحر أن الفظ ما فيك فلفظهم على الساحل وكان البحر لا يلفظ غريقا في بطنه حتى يأكله السمك فليس يقبل البحر غريقا إلى يوم القيامة وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أغرق الله فرعون فقال : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } قال لي جبريل : يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة ] وقد روى هذا الحديث الترمذي من غير وجه وقال : حسن صحيح غريب وصححه أيضا الحاكم وروي عن ابن عباس مرفوعا من طرق أخرى وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قال لي جبريل : ما كان على الأرض شيء أبغض إلي من فرعون فلما آمن جعلت أحشو فاه حمأة وأنا أغطه خشية أن تدركه الرحمة ] وأخرج ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا نحوه وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا نحوه أيضا وأخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة مرفوعا نحوه أيضا وفي إسناد حديث أبي هريرة رجل مجهول وباقي رجاله ثقات والعجب كل العجب ممن لا علم له بفن الرواية من المفسرين ولا يكاد يميز بين أصح الصحيح من الحديث وأكذب الكذب منه كيف يتجارى على الكلام في أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ببطلان ما صح منها ويرسل لسانه وقلمه بالجهل البحت والقصور الفاضح الذي يضحك منه كل من له أدنى ممارسة لفن الحديث فيا مسكين ما لك ولهذا الشأن الذي لست منه في شيء ؟ ألا تستر نفسك وتربع على ضلعك وتعرف بأنك بهذا العلم من أجهل الجاهلين وتشتغل بما هو علمك الذي لا تجاوزه وحاصلك الذي ليس لك غيره وهو علم اللغة وتوابعه من العلوم الآلية ولقد صار صاحب الكشاف رحمه الله بسبب ما يتعرض له في تفسيره من علم الحديث الذي ليس هو منه في ورد ولا صدر سخرة للساخرين وعبرة للمعتبرين فتارة يروي في كتابه الموضوعات وهو لا يدري أنها موضوعات وتارة يتعرض لرد ما صح ويجزم بأنه من الكذب على رسول الله والبهت عليه وقد يكون في الصحيحين وغيرهما مما يلتحق بهما من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد كلها أئمة ثقات أثبات حجج وأدنى نصيب من عقل يحجر صاحبه عن التكلم في علم لا يعلمه ولا يدري به أقل دراية وإن كان ذلك العلم من علوم الاصطلاح التي يتواضع عليها طائفة من الناس ويصطلحون على أمور فيما بينهم فما بالك بعلم السنة الذي هو قسيم كتاب الله وقائله رسول الله صلى الله عليه و سلم وراويه عنه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وكل حرف من حروفه وكلمة من كلماته يثبت بها شرع عام لجميع أهل الإسلام وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فاليوم ننجيك ببدنك } قال : أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر فنظروا إليه بعدما غرق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : بجسدك قال : كذب بعض بني إسرائيل بموت فرعون فألقي على ساحل البحر حتى يراه بنو إسرائيل أحمر قصيرا كأنه ثور وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن كعب في قوله : { فاليوم ننجيك ببدنك } قال : بدرعك وكان درعه من لؤلؤة يلاقي فيها الحروب (2/680)
قوله : 93 - { ولقد بوأنا } هذا من جملة ما عدده الله سبحانه من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل ومعنى بوأنا : أسكنا يقال : بوأت زيدا منزلا : أسكنته فيه والمبوأ اسم مكان أو مصدر وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق والمراد به هنا المنزل المحمود المختار قيل هو أرض مصر وقيل الأردن وفلسطين وقيل الشام { ورزقناهم من الطيبات } أي المستلذات من الرزق { فما اختلفوا } في أمر دينهم وتشعبوا فيه شعبا بعدما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة { حتى جاءهم العلم } أي لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعدما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وقيل المعنى : أنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم وهو القرآن النازل على نبينا صلى الله عليه و سلم فاختلفوا في نعته وصفته وآمن به من آمن منهم وكفر به من كفر فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول هم اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها وعلى القول الثاني هم اليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه و سلم { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته والمحق بعمله بالحق والمبطل بعمله بالباطل (2/684)
94 - { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } الشك في أصل اللغة : ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه شك الجوهر في العقد والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه فيتردد ويتحير والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد غيره كما ورد في القرآن في غير موضع قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد : سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان : معنى { فإن كنت في شك } أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ويقرون بأنهم أعلم منهم فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقا وأن هذا رسوله وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر وقال القتيبي : المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه و سلم ولا بتصديقه بل كان في شك وقيل : المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه و سلم لا غيره والمعنى : لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك وقيل : الشك هو ضيق الصدر : أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم وقيل معنى الآية : الفرض والتقدير كأنه قال له : فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديرا فاسأل الذين يقرأون الكتاب فإنهم سيخبرونك عن نبوتك وما نزل عليك ويعترفون بذلك لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضيا لكتم ما عندهم قوله : { لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } في هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ولا تشوبه شبهة ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه و سلم عن الامتراء فيما أنزل الله عليه بل يستمر على ما هو عليه من اليقين وانتفاء الشك (2/684)
ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضا لغيره كما في مواطن من الكتاب العزيز وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه و سلم عن التكذيب بآيات الله فإن الظاهر فيه التعريض ولا سيما بعد تعقيبه بقوله : 95 - { فتكون من الخاسرين } وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم لأنه إذا كان بحيث ينهى عنه من لا يتصور صدوره عنه فكيف بمن يمكن منه ذلك (2/685)
قوله : 96 - { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } قد تقدم مثله في هذه السورة والمعنى : أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرون على الكفر ويموتون عليه لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب فهو في حكم العدم (2/685)
97 - { ولو جاءتهم كل آية } من الآيات التكوينية والتنزيلية فإن ذلك لا ينفعهم لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم وحق منه القول عليهم { حتى يروا العذاب } فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان وليس بإيمان ولا يترتب عليه شيء من أحكامه (2/686)
قوله : 98 - { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها } لولا هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما ويدل على ذلك كما في مصحف أبي وابن مسعود فهلا قرية والمعنى : فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيمانا معتدا به وذلك بأن يكون خالصا لله قبل معاينة عذابه ولم يؤخره كما أخره فرعون والاستثناء بقوله : { إلا قوم يونس } منقطع وهو استثناء من القرى لأن المراد أهلها والمعنى : لكن قوم يونس { لما آمنوا } إيمانا معتدا به قبل معاينة العذاب أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم { كشفنا عنهم عذاب الخزي } وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع جماعة من الأئمة منهم الكسائي والأخفش والفراء وقيل : يجوز أن يكون متصلا والجملة في معنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس وانتصابه على أصل الاستثناء وقرئ بالرفع على البدل وقال الزجاج في توجيه الرفع : يكون المعنى غير قوم يونس ولكن حملت إلا عليها وتعذر جعل الإعراب عليها فأعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير قال ابن جرير : خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب وحكي ذلك عن جماعة من المفسرين وقال الزجاج : إنه لم يقع العذاب وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان وهذا أولى من قول ابن جرير والمراد بعذاب الخزي الذي كشفه الله عنهم وهو العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه { ومتعناهم إلى حين } أي بعد كشف العذاب عنهم متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم قدره لهم (2/686)
ثم بين سبحانه أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال : 99 - { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم } بحيث لا يخرج عنهم أحد { جميعا } مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه ويختلفون ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفا للمصلحة التي أرادها الله سبحانه وانتصاب جميعا على الحال كما قال سيبويه قال الأخفش : جاء بقوله جميعا بعد كلهم للتأكيد كقوله : { لا تتخذوا إلهين اثنين } ولما كان النبي صلى الله عليه و سلم حريصا على إيمان جميع الناس أخبره الله بأن ذلك لا يكون لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة والمصالح الراجحة لا تقتضي ذلك فقال : { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد ولا داخل تحت قدرتك وفي هذا تسلية له صلى الله عليه و سلم ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل الذي لو كان لم يكن صلاحا محققا بل يكون إلى الفساد أقرب ولله الحكمة البالغة (2/686)
ثم بين سبحانه ما تقدم بقوله : 100 - { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } أي ما صح وما استقام لنفس من الأنفس أن تؤمن بالله إلا بإذنه : أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائنا ما كان { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } أي العذاب أو الكفر أو الخذلان الذي هو سبب العذاب وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل ونجعل بالنون وفي الرجس لغتان ضم الراء وكسرها والمراد بالذين لا يعقلون : هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله ولا يتفكرون في آياته ولا يتدبرونه فيما نصبه لهم من الأدلة
وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن قتادة في قوله : { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } قال : بوأهم الله الشام وبيت المقدس وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال : منازل صدق مصر والشام وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } قال : العلم كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به وقد ورد في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة وهو في السنن والمسانيد والكلام فيه يطول وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { فإن كنت في شك } الآية قال : لم يشك رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يسأل وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا أشك ولا أسأل وهو مرسل وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } قال : التوراة والإنجيل الذين أدركوا محمدا من أهل الكتاب وآمنوا به يقول : سلهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } قال : حق عليهم سخط الله بما عصوه وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { فلولا كانت قرية آمنت } يقول : فما كانت قرية آمنت وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس فاستثنى الله قوم يونس قال : وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة فلبسوا المسوح وأخرجوا المواشي وفرقوا بين كل بهيمة وولدها فعجوا إلى الله أربعين صباحا فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم لم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن يونس دعا لقومه فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال : إنه يأتيكم يوم كذا وكذا ثم خرج عنهم وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها وبين السخلة وولدها وخرجوا يعجون إلى الله وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر فمر به رجل فقال : ما فعل قوم يونس ؟ فحدثه بما صنعوا فقال : لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا : يعني مراغما وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : غشي قوم يونس العذاب كما يغشى القبر بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دما وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير عن ابن عباس أن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشفه الله عنهم وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي الجلد قال : لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له : ما ترى ؟ قال : قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوا فكشف عنهم العذاب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ويجعل الرجس } قال : السخط وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : الرجس : الشيطان والرجس العذاب (2/686)
قوله : 101 - { قل انظروا ماذا في السموات والأرض } لما بين سبحانه أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية والمراد بالنظر : التفكر والاعتبار : أي قل يا محمد للكفار تفكروا واعتبروا بما في السموات والأرض من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته وكمال قدرته وماذا مبتدأ وخبره في السموات والأرض أو المبتدأ ما وذا بمعنى الذي وفي السموات والأرض صلته والموصول وصلته خبر المبتدأ : أي أي شيء الذي في السموات والأرض وعلى التقديرين فالجملة في محل نصب بالفعل الذي قبلها ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته فقال : { وما تغني الآيات والنذر } أي ما تنفع على أن ما نافية ويجوز أن تكون استفهامية : أي أي شيء ينفع والآيات هي التي عبر عنها بقوله : { ماذا في السموات والأرض } والنذر جمع نذير وهم الرسل أو جمع إنذار وهو المصدر { عن قوم لا يؤمنون } في علم الله سبحانه والمعنى : أن من كان هكذا لا يجدي فيه شيء ولا يدفعه عن الكفر دافع (2/689)
قوله : 102 - { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } أي فهل ينتظر هؤلاء الكفار المعاصرون لمحمد صلى الله عليه و سلم إلا مثل وقائع الله سبحانه بالكفار الذين خلوا من قبل هؤلاء فقد كان الأنبياء المتقدمون يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب وهم يكذبونهم ويصممون على الكفر حتى ينزل الله عليهم عذابه ويحل بهم انتقامه ثم قال : { قل } يا محمد لهؤلاء الكفار المعاصرين لك { فانتظروا } أي تربصوا لوعد ربكم إني معكم من المتربصين لوعد ربي وفي هذا تهديد شديد ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء ما نزل بأولئك من الإهلاك (2/689)
وثم في قوله : 103 - { ثم ننجي رسلنا } للعطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلين إليهم وقرأ يعقوب ثم { ننجي } مخففا وقرأ كذلك أيضا في { حقا علينا ننج المؤمنين } وروي كذلك عن الكسائي وحفص في الثانية وقرأ الباقون بالتشديد وهما لغتان فصيحتان : أنجى ينجي إنجاء ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد { والذين آمنوا } معطوف على رسلنا : أي نجيناهم ونجينا الذين آمنوا والتعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلا لأمرها { كذلك حقا علينا } أي حق ذلك علينا حقا أو إنجاء مثل ذلك الإنجاء حقا { ننج المؤمنين } من عذابنا للكفار والمراد بالمؤمنين : الجنس فيدخل في ذلك الرسل وأتباعهم أو يكون خاصا بالمؤمنين وهم أتباع الرسل لأن الرسل داخلون في ذلك بالأولى (2/689)
قوله : 104 - { قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني } أمر سبحانه رسوله بأن يظهر التباين بين طريقته وطريقة المشركين مخاطبا لجميع الناس أو للكفار منهم أو لأهل مكة على الخصوص بقوله : إن كنتم في شك من ديني الذي أنا عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته وأنه الدين الحق الذي لا دين غيره فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } في حال من الأحوال { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } أي أخصه بالعبادة لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها وخص صفة المتوفى من بين الصفات لما في ذلك من التهديد لهم : أي أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد ولكونه يدل على الخلق أولا وعلى الإعادة ثانيا ولكونه أشد الأحوال مهابة في القلوب ولكونه يدل على الخلق أولا وعلى الإعادة ثانيا ولكونه أشد الأحوال مهابة في القلوب ولكونه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة فكأنه قال : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان فقال : { وأمرت أن أكون من المؤمنين } أي بأن أكون من جنس من آمن بالله وأخلص له الدين (2/690)
وجملة 105 - { وأن أقم وجهك للدين } معطوفة على جملة { أن أكون من المؤمنين } ولا يمنع من ذلك كون المعطوف بصيغة الأمر لأن المقصود من أن الدلالة على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية أو يكون المعطوف عليه في معنى الإنشاء كأنه قيل : كن مؤمنا ثم أقم والمعنى : أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة وعدم التحول عنها وحنيفا حال من الدين أو من الوجه : أي مائلا عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام ثم أكد الأمر المتقدم للنهي عن ضده فقال : { ولا تكونن من المشركين } وهو معطوف على أقم وهو من باب التعريض لغيره صلى الله عليه و سلم (2/690)
قوله : 106 - { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } معطوف على { قل يا أيها الناس } غير داخل تحت الأمر وقيل معطوف على ولا تكونن أي لا تدع من دون الله على حال من الأحوال ما لا ينفعك ولا يضرك بشيء من النفع والضر إن دعوته ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعا ولا يقدر على ضر ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضر غيره فكيف إذا كان موجودا ؟ فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح { فإن فعلت } أي فإن دعوت ولكنه كنى عن القول بالفعل { فإنك إذا من الظالمين } هذا جزاء الشرط : أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم والمقصود من هذا الخطاب التعريض بغيره صلى الله عليه و سلم (2/690)
وجملة 107 - { وإن يمسسك الله بضر } إلى آخرها مقررة لمضمون ما قبلها والمعنى أن الله سبحانه هو الضار النافع فإن أنزل بعبده ضرا لم يستطع أحد أن يكشفه كائنا من كان بل هو المختص بكشفه كما اختص بإنزاله { وإن يردك بخير } أي خير كان لم يستطع أحد أن يدفعه عنك ويحول بينك وبينه كائنا من كان وعبر بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى أنه يتفضل على عباده بما لا يستحقونه بأعمالهم قال الواحدي : إن قوله : { وإن يردك بخير } هو من القلب وأصله وإن يرد بك الخير ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر قال النيسابوري : وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض قلت : وفي هذا نظر فإن المس هو أمر وراء الإرادة فهو مستلزم لها والضمير في يصيب به راجع إلى فضله : أي يصيب بفضله من يشاء من عباده وجملة { وهو الغفور الرحيم } تذييلية (2/691)
ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره فقال : 108 - { قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم } أي القرآن { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } أي منفعة اهتدائه مختصة به وضرر كفره مقصور عليه لا يتعداه وليس لله حاجة في شيء من ذلك ولا غرض يعود إليه { وما أنا عليكم بوكيل } أي بحفيظ يحفظ أموركم وتوكل إليه : إنما أنا بشير ونذير (2/691)
ثم أمره الله سبحانه أن يتبع ما أوحاه الله إليه من الأوامر والنواهي التي يشرعها الله له ولأمته ثم أمره بالصبر على أذى الكفار وما يلاقيه من مشاق التبليغ وما يعانيه من تلون أخلاق المشركين وتعجرفهم وجعل ذلك الصبر ممتدا إلى غاية هي قوله : { حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين } أي يحكم الله بينه وبينهم في الدنيا بالنصر له عليهم وفي الآخرة بعذابهم بالنار وهم يشاهدونه صلى الله عليه و سلم هو وأمته المتبعون له المؤمنون به العاملون بما يأمرهم به المنتهون عما ينهاهم عنه يتقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا يمكن وصفه ولا يوقف على أدنى مزاياه
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم } يقول : عند قوم { لا يؤمنون } نسخت قوله : { حكمة بالغة فما تغن النذر } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } قال : وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع في الآية قال : خوفهم عذابه ونقمته وعقوبته ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمر نجى الله رسله والذين آمنوا فقال : { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا } الآية وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { وإن يردك بخير } يقول : بعافية وأخرج البيهقي في الشعب عن عامر بن قيس قال : ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهن عن جميع الخلائق : أولهن : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله } والثانية : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له } والثالثة : { ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وأخرج أبو الشيخ عن الحسن نحوه وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فلا راد لفضله } قال : هو الحق المذكور في قوله : { قد جاءكم الحق من ربكم } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله : { واصبر حتى يحكم الله } قال : هذا منسوخ أمره بجهادهم والغلظة عليهم (2/691)
سورة هود
هي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر قال ابن عباس وقتادة : إلا آية وهي قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار } وأخرج النحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة هود بمكة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله وأخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في الشعب عن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اقرأوا هود يوم الجمعة ] وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر من طريق مسروق عن أبي بكر الصديق قال : قلت : يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب فقال : [ شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ] وأخرجه البزار وابن مردويه من طرق أنس عنه مرفوعا بلفظ : قلت : يا رسول الله عجل إليك الشيب قال : [ شيبتني هود وأخواتها والواقعة والحاقة وعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية ] وأخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد عجل إليك الشيب فقال : [ شيبتني هود وأخواتها من المفصل ] وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر يا رسول الله قد شبت قال : [ شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ] وأخرج ابن عساكر من طريق عطاء عنه أن الصحابة قالوا : يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب قال : [ أجل شيبتني هود وأخواتها ] قال عطاء : وأخواتها : اقتربت الساعة والمرسلات وإذا الشمس كورت وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال : [ شيبتني هود وأخواتها : الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ] وأخرج الطبراني وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ شيبتني هود وأخواتها : الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت ] وأخرجا أيضا عن ابن مسعود : أن أبا بكر قال : يا رسول الله ما شيبك ؟ قال : [ هود والواقعة ] وفي إسناده عمرو بن ثابت وهو متروك وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن عقبة بن عامر أن رجلا قال : يا رسول الله قد شبت قال : [ شيبتني هود وإذا الشمس كورت وأخواتها ] وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وأبو يعلى والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أبي جحيفة قال : قالوا : يا رسول الله نراك قد شبت قال : [ شيبتني هود وأخواتها ] وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له أصحابه : قد أسرع إليك الشيب قال : [ شيبتني هود وأخواتها من المفصل ] وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبل ]
قوله : 1 - { الر } إن كان مسرودا على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور فلا محل له وإن كان اسما للسورة فهو في محل رفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف و { كتاب } يكون على هذا الوجه خبرا لمبتدأ محذوف : أي هذا كتاب وكذا على تقدير أن { الر } لا محل له ويجوز أن يكون { الر } في محل نصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو : اذكر أو اقرأ فيكون كتاب على هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف والإشارة في المبتدأ المقدر إما إلى بعض القرآن أو إلى مجموع القرآن ومعنى { أحكمت آياته } صارت محكمة متقنة لا نقص فيها ولا نقض لها كالبناء المحكم وقيل معناه : إنها لم تنسخ بخلاف التوراة والإنجيل وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب وهو المحكم الذي لم ينسخ وقيل معناه : أحكمت آياته بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد والثواب والعقاب وقيل : أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بالحلال والحرام وقيل : أحكمت جملته ثم فصلت آياته وقيل : جمعت في اللوح المحفوظ ثم فصلت بالوحي وقيل : أيدت بالحجج القاطعة الدالة على كونها من عند الله وقيل : معنى إحكامها أن لا فساد فيها أخذا من قولهم أحكمت الدابة : إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح و { ثم فصلت } معطوف على أحكمت ومعناه ما تقدم والتراخي المستفاد من ثم إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم على حسب المصالح وإما رتبي إن فسر بغير مما تقدم والجمل في محل رفع على أنها صفة لكتاب أو خبر آخر للمبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف وفي قوله : { من لدن حكيم خبير } لف ونشر لأن المعنى : أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور (2/692)
قوله : 2 - { أن لا تعبدوا إلا الله } مفعول له حذف منه اللام : كذا في الكشاف وفيه أنه ليس بفعل لفاعل الفعل المعلل وقيل : أن هي المفسرة لما في التفصيل من معنى القول وقيل : هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله محكيا على لسان النبي صلى الله عليه و سلم قال الكسائي والفراء : التقدير أحكمت بأن لا تعبدوا إلا الله وقال الزجاج : أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله ثم أخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنه نذير وبشير فقال : { إنني لكم منه نذير وبشير } أي ينذرهم ويخوفهم من عذابه لمن عصاه ويبشرهم بالجنة والرضوان لمن أطاعه والضمير في منه راجع إلى الله سبحانه : أي إنني لكم نذير وبشير من جهة الله سبحانه وقيل : هو من كلام الله سبحانه كقوله : { ويحذركم الله نفسه } (2/695)
قوله : 3 - { وأن استغفروا ربكم } معطوف على أن لا تعبدوا والكلام في أن هذه كالكلام في التي قبلها وقوله : { ثم توبوا إليه } معطوف على استغفروا وقدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة لكونه وسيلة إليها وقيل : إن التوبة من متممات الاستغفار وقيل : معنى استغفروا توبوا ومعنى توبوا : أخلصوا التوبة واستقيموا عليها وقيل : استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا من لاحقها وقيل : استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة قال الفراء : ثم هاهنا بمعنى الواو : أي وتوبوا إليه لأن الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار وقيل : إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب والتوبة هي السبب إليها وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب وقيل : استغفروا في الصغائر وتوبوا إليه في الكبائر ثم رتب على ما تقدم أمرين الأول : { يمتعكم متاعا حسنا } أصل الإمتاع الإطالة ومنه أمتع الله بك فمعنى الآية : يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من سعة الرزق ورغد العيش { إلى أجل مسمى } إلى وقت مقدر عند الله وهو الموت وقيل القيامة وقيل دخول الجنة والأول أولى والأمر الثاني قول : { ويؤت كل ذي فضل فضله } أي يعط كل ذي فضل في الطاعة والعمل فضله : أي جزاء فضله إما في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما جميعا والضمير في فضله راجع إلى كل ذي فضل وقيل : راجع إلى الله سبحانه على معنى أن الله يعطي كل من فضلت حسناته فضله الذي يتفضل به على عباده ثم توعدهم على مخالفة الأمر فقال : { وإن تولوا } أي تتولوا وتعرضوا عن الإخلاص في العبادة والاستغفار والتوبة { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } وهو يوم القيامة ووصفه بالكبر لما فيه من الأهوال وقيل : اليوم الكبير يوم بدر (2/695)
ثم بين سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله : 4 - { إلى الله مرجعكم } أي رجوعكم إليه بالموت ثم البعث ثم الجزاء لا إلى غيره { وهو على كل شيء قدير } ومن جملة ذلك عذابكم على عدم الامتثال وهذه الجملة مقررة لما قبلها (2/695)
ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم ولا لانت له قلوبهم بل هم مصرون على العناد مصممون على الكفر فقال مصدرا لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه 5 - { ألا إنهم يثنون صدورهم } يقال : ثنى صدره عن الشيء : إذا ازور عنه وانحرف منه فيكون في الكلام كناية عن الإعراض لأن من أعرض عن الشيء ثني عنه صدره وطوى عنه كشحه وقيل معناه : يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر كما كان دأب المنافقين والوجه الثاني أولى ويؤيده قوله : { ليستخفوا منه } أي ليستخفوا من الله فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين أو ليستخفوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم كرر كلمة التنبيه مبينا للوقت الذي يثنون فيه صدورهم فقال : { ألا حين يستغشون ثيابهم } أي يستخفون في وقت استغشاء الثياب وهو التغطي بها وقد كانوا يقولون إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا ؟ وقيل : معنى حين يستغشون : حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم وقيل : إنه حقيقة وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله صلى الله عليه و سلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وجملة { يعلم ما يسرون وما يعلنون } مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأن الله سبحانه يعلم ما يسرونه في أنفسهم أو في ذات بينهم وما يظهرونه فالظاهر والباطن عنده سواء والسر والجهر سيان وجملة { إنه عليم بذات الصدور } تعليل لما قبلها وتقرير له وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور وقيل هي القلوب والمعنى : إنه عليم بجميع الضمائر أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار فلا يخفى عليه شيء من ذلك (2/696)
ثم أكد كونه عالما بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان ونهاية الإحسان فقال : 6 - { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } أي الرزق الذي تحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان على اختلاف أنواعه تفضلا منه وإحسانا وإنما جيء به على طريق الوجوب كما تشعر به كلمة على اعتبارا بسبق الوعد به منه ومن زائدة للتأكيد ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق فكيف يغفل عن أحواله وأقواله وأفعاله والدابة كل حيوان يدب { ويعلم مستقرها } أي محل استقرارها في الأرض أو محل قرارها في الأصلاب { ومستودعها } موضعها في الأرحام وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلا ونهارا ومستودعها موضعها الذي تموت فيه وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام ووجه تقدم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر وأما على القول الأول فلعله وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة والمعنى : وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله حيث كانت من أماكنها بعد كونها دابة وقبل كونها دابة وذلك حيث تكون في الرحم ونحو ثم ختم الآية بقوله : { كل في كتاب مبين } أي كل من ما تقدم ذكره من الدواب ومستقرها ومستودعها ورزقها في كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ : أي مثبت فيه (2/696)
ثم أكد دلائل قدرته بالتعرض لذكر خلق السموات والأرض وكيف كان الحال قبل خلقها فقال : 7 - { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } قد تقدم بيان هذا في الأعراف قيل : والمراد بالأيام الأوقات : أي في ستة أوقات كما في قوله : { ومن يولهم يومئذ دبره } وقيل : مقدار ستة أيام ولا يستقيم أن يكون المراد بالأيام هنا الأيام المعروفة وهي المقابلة لليالي لأنه لم يكن حينئذ لا أرض ولا سماء وليس اليوم إلا عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض وكان خلق السموات في يومين والأرضين في يومين وما عليهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد في يومين كما سيأتي في حم السجدة قوله : { وكان عرشه على الماء } أي كان قبل خلقهما عرشه على الماء وفيه بيان تقدم خلق العرش والماء على السموات والأرضين قوله : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } اللام متعلقة بخلق : أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث والجزاء أيهم أحسن عملا من غيره ويدخل في العمل الاعتقاد لأنه من أعمال القلب وقيل : المراد بالأحسن عملا الأتم عقلا وقيل : الأزهد في الدنيا وقيل : الأكثر شكرا وقيل : الأتقى لله قوله : { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره والمعنى : لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء إنكم مبعوثون من بعد الموت فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ليقولن الذين كفروا من الناس إن هذا الذي تقوله يا محمد إلا باطل كبطلان السحر وخدع كخدعه ويجوز أن تكون الإشارة بهذا إلى القرآن لأنه المشتمل على الإخبار بالبعث وقرأ حمزة والكسائي { إن هذا إلا سحر } يعنون النبي صلى الله عليه و سلم وكسرت إن من قوله : { إنكم } لأنها بعد القول وحكى سيبويه الفتح على تضمين قلت معنى ذكرت أو على أن بمعنى عل : أي ولئن قلت لعلكم مبعوثون على أن الرجاء باعتبار حال المخاطبين : أي توقعوا ذلك ولا تبتوا القول بإنكاره (2/692)
8 - { ولئن أخرنا عنهم العذاب } أي الذي تقدم ذكره في قوله : { عذاب يوم كبير } وقيل عذاب يوم القيامة وما بعده وقيل يوم بدر { إلى أمة معدودة } أي إلى طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل والأمة اشتقاقها من الأم : وهو القصد وأراد بها الوقت المقصود لإيقاع العذاب وقيل : هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه كقولك كنت عند فلان صلاة العصر : أي في ذلك الحين فالمراد على هذا إلى حين تنقضي أمة معدودة من الناس { ليقولن ما يحبسه } أي أي شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله : { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم } أي ليس محبوسا عنهم بل واقع بهم لا محالة ويوم منصوب بمصروفا { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم ووضع يستهزءون مكان يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء منهم وعبر بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه فكأنه قد حاق بهم
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قرأ : { الر كتاب أحكمت آياته } قال : هي كلها محكمة يعني سورة هود { ثم فصلت } قال : ثم ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم فحكم فيها بينه وبين من خالفه وقرأ مثل الفريقين الآية كلها ثم ذكر قوم نوح ثم هود فكان هذا تفصيل ذلك وكان أوله محكما قال : وكان أبي يقول ذلك يعني زيد بن أسلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { كتاب أحكمت آياته } قال : أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالوعد والوعيد وأخرج هؤلاء عن مجاهد { فصلت } قال : فسرت وأخرج هؤلاء أيضا عن قتادة في الآية قال : أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته وفي قوله : { من لدن حكيم } يعني من عند حكيم وفي قوله : { يمتعكم متاعا حسنا } قال : فأنتم في ذلك المتاع فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه فإن الله منعم يحب الشاكرين وأهل الشكر في مزيد من الله وذلك قضاؤه الذي قضاه وفي قوله : { إلى أجل مسمى } يعني الموت وفي قوله : { يؤت كل ذي فضل فضله } : أي في الآخرة وأخرج هؤلاء أيضا عن مجاهد في قوله { يؤت كل ذي فضل فضله } : أي في الآخرة وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : يؤت كل ذي فضل في الإسلام فضل الدرجات في الآخرة وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : { ويؤت كل ذي فضل فضله } قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول : هلك من غلب آحاده أعشاره وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله : { ألا إنهم يثنون صدورهم } الآية قال : كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم قال البخاري : وعن ابن عباس { يستغشون } يغطون رؤوسهم وروى البخاري أيضا عن ابن عباس في تفسير هذه الآية يعني به الشك في الله وعمل السيئات وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهما : أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئا أو عملوه فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك فأعلمهم سبحانه أنه حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل { يعلم ما يسرون } من القول { وما يعلنون } وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن شداد بن الهاد في قوله : { ألا إنهم يثنون صدورهم } قال : كان المنافقون إذا مر أحدهم بالنبي صلى الله عليه و سلم ثنى صدره وتغشى ثوبه لكيلا يراه فنزلت وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله : { ألا حين يستغشون ثيابهم } قال : في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رزين في الآية قال : كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : كانوا يخفون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله قال تعالى : { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون } وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا أحنى ظهره واستغشى بثوبه وأضمر همه في نفسه فإن الله لا يخفى عليه ذلك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في الآية : يكتمون ما في قلوبهم ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما عملوا بالليل والنهار وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وما من دابة } الآية قال : يعني كل دابة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وما من دابة } الآية قال : يعني ما جاءها من رزق فمن الله وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا ولكن ما كان لها من رزق لها فمن الله وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ويعلم مستقرها } قال : حيث تأوي ومستودعها قال : حيث تموت وأخرج ابن أبي حاتم عنه { ويعلم مستقرها } قال : يأتيها رزقها حيث كانت وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت ويؤيد هذا التفسير الذي ذكره ابن مسعود ما أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض فتقول الأرض يوم القيامة : هذا ما استودعتني ] وأخرج عبد الرزاق في المصنف والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { وكان عرشه على الماء } على أي شيء كان الماء ؟ قال : على متن الريح وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة العرش وفي كيفية خلق السموات والأرض ليس هذا موضع ذكرها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } فقيل : ما معنى ذلك يا رسول الله ؟ قال : [ ليبلوكم أيكم أحسن عقلا ] ثم قال : [ وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله وأعملكم بطاعة الله ] وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : أيكم أتم عقلا وأخرج أيضا عن سفيان قال : أزهدكم في الدنيا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : لما نزلت : { اقترب للناس حسابهم } قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلا ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل الله : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } فقال ناس من أهل الضلال : هذا أمر الله قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء فأنزل الله هذه الآية : { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { إلى أمة معدودة } قال : إلى أجل معدود وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة { ليقولن ما يحبسه } يعني أهل النفاق وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } يقول : وقع بهم العذاب الذي استهزأوا به (2/698)
اللام في 9 - { ولئن أذقنا الإنسان } هي الموطئة للقسم والإنسان الجنس فيشمل المؤمن والكافر ويدل على ذلك الاستثناء بقوله : { إلا الذين صبروا } وقيل المراد جنس الكفار ويؤيده أن اليأس والكفران والفرح والفخر هي أوصاف أهل الكفر لا أهل الإسلام في الغالب وقيل : المراد بالإنسان الوليد بن المغيرة وقيل : عبد الله بن أمية المخزومي والمراد بالرحمة هنا : النعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن { ثم نزعناها منه } أن سلبناه إياها { إنه ليؤوس } أي آيس من الرحمة شديد القنوط من عودها وأمثالها والكفور : عظيم الكفران وهو الجحود بها قاله ابن الأعرابي وفي إيراد صيغتي المبالغة في { ليؤوس كفور } ما يدل على أن الإنسان كثير اليأس وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه فلا يرجو عودها ولا يشكر ما قد سلف له منها وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه لأن الإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم (2/701)
والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه والضراء ظهور أثر الإضرار على من أصيب به والمعنى : أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة والغنى بعد أن كان في ضر من فقر أو مرض أو خوف لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر لله سبحانه بل يقول ذهب السيئات : أي المصائب التي ساءته من الضر والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها غير شاكر لله ولا مثن عليه بنعمه 10 - { إنه لفرح فخور } أي كثير الفرح بطرا وأشرا كثير الفخر على الناس والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم وفي التعبير عن ملابسة الضر له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة فإن كلاهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة كما تقدم (2/701)
11 - { إلا الذين صبروا } فإن عادتهم الصبر عند نزول المحن والشكر عند حصول المنن قال الأخفش : هو استثناء ليس من الأول : أي ولكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة وقال الفراء : هو استثناء من لئن أذقناه : أي من الإنسان فإن الإنسان بمعنى الناس والناس يشمل الكافر والمؤمن فهو استثناء متصل والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات { لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر } يؤجرون به لأعمالهم الحسنة { كبير } متناه في الكبر (2/702)
ثم سلى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم فقال : 12 - { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } أي فلعلك لعظم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب واقتراح الآيات التي يقترحونها عليك على حسب هواهم وتعنتهم تارك بعض ما يوحى إليك مما أنزله الله عليك وأمرك بتبليغه مما يشق عليهم سماعه أو يستشقون العمل به كسب آلهتهم وأمرهم بالإيمان بالله وحده قيل : وهذا الكلام خارج مخرج الاستفهام : أي هل أنت تارك ؟ وقيل : هو في معنى النفي مع الاستبعاد : أي لا يكون منك ذلك بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك أحبوا ذلك أم كرهوه شاءوا أم أبوا { وضائق به صدرك } معطوف على تارك والضمير في به راجع إلى ما أو إلى بعض وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم { أن يقولوا } أي كراهة أن يقولوا أو مخافة أن يقولوا أو لئلا يقولوا : { لولا أنزل عليه كنز } أي هلا أنزل عليه كنز : أي مال مكنوز مخزون ينتفع به { أو جاء معه ملك } يصدقه ويبين لنا صحة رسالته ثم بين سبحانه أن حاله صلى الله عليه و سلم مقصور على النذارة فقال : { إنما أنت نذير } ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاب مقترحاتهم { والله على كل شيء وكيل } يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل (2/702)
قوله : 13 - { أم يقولون افتراه } أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة وأضرب عما تقدم من تهاونهم بالوحي وعدم قنوعهم بما جاء به من المعجزات الظاهرة وشرع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد من ذلك وهو افتراؤهم عليه بأنه افتراه والاستفهام للتوبيخ والتقريع والضمير المستتر في افتراه للنبي صلى الله عليه و سلم والبارز إلى ما يوحى ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بما يقطعهم ويبين كذبهم ويظهر به عجزهم فقال : { قل فاتوا بعشر سور مثله } أي مماثلة له في البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ وفخامة المعاني ووصف السور بما يوصف به المفرد فقال مثلهن ولم يقل أمثاله لأن المراد مماثلة كل واحد من السور أو لقصد الإيماء إلى وجه الشبه ومداره المماثلة في شيء واحد وهو البلاغة البالغة إلى حد الإعجاز وهذا إنما هو على القول بأن المطابقة في الجمع والتثنية والإفراد شرط ثم وصف السور بصفة أخرى فقال : { مفتريات وادعوا } للاستظهار على المعارضة بالعشر السور { من استطعتم } دعاءه وقدرتم على الاستعانة به من هذا النوع الإنساني وممن تعبدونه وتجعلونه شريكا لله سبحانه وقوله : { من دون الله } متعلق بادعوا : أي ادعوا من استطعتم متجاوزين الله تعالى { إن كنتم صادقين } فيما تزعمون من افترائي له (2/702)
14 - { فإن لم يستجيبوا لك } أي فإن لم يفعلوا ما طلبته منهم وتحديتهم به من الإتيان بعشر سور مثله ولا استجابوا إلى المعارضة المطلوبة منهم ويكون الضمير في لكم لرسول الله صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين أو للنبي صلى الله عليه و سلم وحده وجمع تعظيما وتفخيما { فاعلموا } أمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين أو للرسول وحده على التأويل الذي سلف قريبا ومعنى أمرهم بالعلم أمرهم بالثبات عليه لأنهم عالمون بذلك من قبل عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور مثله أو المراد بالأمر بالعلم الأمر بالازدياد منه إلى حد لا يشوبه شك ولا تخالطه شبهة وهو علم اليقين والأول أولى ومعنى { أنما أنزل بعلم الله } أنه أنزل متلبسا بعلم الله المختص به الذي لا تطلع على كنهه العقول ولا تستوضح معناه الأفهام لما اشتمل عليه من الإعجاز الخارج عن طوق البشر { وأن لا إله إلا هو } أي واعلموا أن الله هو المتفرد بالألوهية لا شريك له ولا يقدر غيره على ما يقدر عليه ثم ختم الآية بقوله : { فهل أنتم مسلمون } أي ثابتون على الإسلام مخلصون له مزدادون من الطاعات لأنه قد حصل لكم بعجز الكفار عن الإتيان بمثل عشر سور من هذا الكتاب طمأنينة فوق ما كنتم عليه وبصيرة زائدة وإن كنتم مسلمين من قبل هذا فإن الثبوت عليه وزيادة البصيرة فيه والطمأنينة به مطلوب منكم وقيل إن الضمير في { فإن لم يستجيبوا } للموصول في من استطعتم وضمير لكم للكفار الذين تحداهم رسول الله وكذلك ضمير فاعلموا والمعنى : فإن لم يستجب لكم من دعوتموه للمعاضدة والمناصرة على الإتيان بعشر سور من سائر الكفار ومن يعبدونهم ويزعمون أنهم يضرون وينفعون فاعلموا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على هذا الرسول خارج عن قدرة غيره سبحانه وتعالى لما اشتمل عليه من الإعجاز الذي تتقاصر دونه قوة المخلوقين وأنه أنزل بعلم الله الذي لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأفهام واعلموا أنه المنفرد بالألوهية لا شريك له فهل أنتم بعد هذا مسلمون ؟ أي داخلون في الإسلام متبعون لأحكمه مقتدون بشرائعه وهذا الوجه أقوى من الوجه الأول من جهة وأضعف منه من جهة فأما جهة قوته فلا نتساق الضمائر وتناسبها وعدم احتياج بعضها إلى تأويل وأما ضعفه فلما في ترتيب الأمر بالعلم على عدم الاستجابة ممن دعوهم واستعانوا بهم من الخفاء واحتياجه إلى تكلف وهو أن يقال : إن عدم استجابة من تدعوهم واستعانوا بهم من الكفار والآلهة مع حرصهم على نصرهم ومعاضدتهم ومبالغتهم في عدم إيمانهم واستمرارهم على الكفر يفيد حصول العلم لهؤلاء الكفار بأن هذا القرآن من عند الله وأن الله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له وذلك يوجب دخولهم في الإسلام واعلم أنه قد اختلف التحدي للكفار بمعارضة القرآن فتارة وقع بمجموع القرآن كقوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون } وبعشر سور كما في هذه الآية وذلك لأن العشرة أول عقد من العقود وبسورة منه كما تقدم وذلك لأن السورة أقل طائفة منه (2/703)
ثم إن الله سبحانه توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها فقال : 15 - { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } قال الفراء : إن كان هذه زائدة ولهذا جزم الجواب وقال الزجاج : من كان في موضع جزم بالشرط وجوابه نوف إليهم : أي من يكن يريد
واختلف أهل التفسير في هذه الآية فقال الضحاك : نزلت في الكفار واختاره النحاس بدليل الآية التي بعدها { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } وقيل : الآية واردة في الناس على العموم كافرهم ومسلمهم والمعنى : أن من كان يريد بعمله حظ الدنيا يكافأ بذلك والمراد بزينتها : ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن والسعة في الرزق وارتفاع الحظ ونفاذ القول ونحو ذلك وإدخال كان في الآية يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم لا يكادون يريدون الآخرة ولهذا قيل إنهم مع إعطائهم حظوظ الدنيا يعذبون في الآخرة لأنهم جردوا قصدهم إلى الدنيا ولم يعملوا للآخرة وظاهر قوله : { نوف إليهم أعمالهم فيها } أن من أراد بعمله الدنيا حصل له الجزاء الدنيوي ولا محالة ولكن الواقع في الخارج يخالف ذلك فليس كل متمن ينال من الدنيا أمنيته وإن عمل لها وأرادها فلا بد من تقييد ذلك بمشيئة الله سبحانه قال القرطبي : ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة وكذلك الآية التي في الشورى { من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } وكذلك { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } قيدتها وفسرتها التي في سبحان { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } قوله : { وهم فيها لا يبخسون } أي وهؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم فيها : أي في الدنيا لا يبخسون : أي لا ينقصون من جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها وذلك في الغالب وليس بمطرد بل إن قضت به مشيئته سبحانه ورجحته حكمته البالغة وقال القاضي : معنى الآية : من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات والمنافع فخص الجزاء بمثل ما ذكره وهو حاصل لكل عامل للدنيا ولو كان قليلا يسيرا (2/704)
قوله : 16 - { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } الإشارة إلى المريدين المذكورين ولا بد من تقييد هذا بأنهم لم يريدوا الآخرة بشيء من الأعمال المعتد بها الموجبة للجزاء الحسن في الدار الآخرة أو تكون الآية خاصة بالكفار كما تقدم { وحبط ما صنعوا } أي ظهر في الدار الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت صورتها صورة الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي لولا أنهم أفسدوها بفساد مقاصدهم وعدم الخلوص وإرادة ما عند الله في دار الجزاء بل قصروا ذلك على الدنيا وزينتها ثم حكم سبحانه ببطلانه عملهم فقال : { وباطل ما كانوا يعملون } أي أنه كان عملهم في نفسه باطلا غير معتد به لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاء ويترتب عليه ما يترتب على العمل الصحيح (2/705)
قوله : 17 - { أفمن كان على بينة من ربه } بين سبحانه أن بين من كان طالبا للدنيا فقط ومن كان طالبا للآخرة تفاوتا عظيما وتباينا بعيدا والمعنى : أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه و سلم والإيمان بالله كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها وقيل : المراد بمن كان على بينة من ربه النبي صلى الله عليه و سلم : أي أفمن كان معه بيان من الله ومعجزة كالقرآن ومعه شاهد كجبريل وقد بشرت به الكتب السالفة كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ومعنى البينة : البرهان الذي يدل على الحق والضمير في قوله : { ويتلوه شاهد } راجع إلى البينة باعتبار تأويلها بالبرهان والضمير في منه راجع إلى القرآن لأن قد تقدم ذكره في قوله : { أم يقولون افتراه } أو راجع إلى الله تعالى والمعنى : ويتلو البرهان الذي هو البينة شاهد يشهد بصحته من القرآن أو من الله سبحانه والشاهد : هو الإعجاز الكائن في القرآن أو المعجزات التي ظهرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإن ذلك من الشواهد التابعة للقرآن وقال الفراء : قال بعضهم : ويتلوه شاهد منه الإنجيل وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق والهاء في منه لله عز و جل وقيل : المراد بمن كان على بينة من ربه : هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه قوله : { ومن قبله كتاب موسى } معطوف على شاهد والتقدير : ويتلو الشاهد شاهد آخر من قبله هو كتاب موسى فهو وإن كان متقدما في النزول فهو يتلو الشاهد في الشهادة وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخرا في الوجود لكونه وصفا لازما غير مفارق فكان أغرق في الوصفية من كتاب موسى ومعنى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد صلى الله عليه و سلم وأخبر بأنه رسول من الله قال الزجاج : والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى لأن النبي صلى الله عليه و سلم موصوف في كتاب موسى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ : { ومن قبله كتاب موسى } بالنصب وحكاه المهدوي عن الكلبي فيكون معطوفا على الهاء في يتلوه والمعنى : ويتلو كتاب موسى جبريل وانتصاب إماما ورحمة على الحال والإمام : هو الذي يؤتم به في الدين ويقتدى به والرحمة : النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على من أنزله عليهم وعلى من بعدهم باعتبار ما اشتمل عليه من الأحكام الشرعية الموافقة لحكم القرآن والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المتصفين بتلك الصفة الفاضلة وهو الكون على البينة من الله واسم الإشارة مبتدأ وخبره { يؤمنون به } أي يصدقونه بالنبي صلى الله عليه و سلم أو بالقرآن { ومن يكفر به من الأحزاب } أي بالنبي أو بالقرآن والأحزاب المتحزبون على رسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل مكة وغيرهم أو المتحزبون من أهل الأديان كلها { فالنار موعده } أي هو من أهل النار لا محالة وفي جعل النار موعدا إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من أفانين العذاب ومثله قول حسان :
( أوردتموها حياض الموت صاحية ... فالنار موعدها والموت لاقيها )
{ فلا تك في مرية منه } أي لا تك في شك من القرآن وفيه تعريض بغيره صلى الله عليه و سلم لأنه معصوم عن الشك في القرآن أو من الموعد { إنه الحق من ربك } فلا مدخل للشك فيه بحال من الأحوال { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } بذلك مع وجوب الإيمان به وظهور الدلائل الموجبة له ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقا أو قد طبع على قلوبهم فلا يفهمون أنه الحق أصلا
وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فهل أنتم مسلمون } قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أنس في قوله : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } قال : نزلت في اليهود والنصارى وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن معبد قال : قام رجل إلى علي فقال : أخبرنا عن هذه الآية : { من كان يريد الحياة الدنيا } إلى قوله : { وباطل ما كانوا يعملون } قال : ويحك ذاك من كان يريد الدنيا لا يريد الآخرة وأخرج النحاس عن ابن عباس { من كان يريد الحياة الدنيا } أي ثوابها { وزينتها } مالها { نوف إليهم } نوفر لهم بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد { وهم فيها لا يبخسون } لا ينقصون ثم نسخها { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء } الآية وأخرج أبو الشيخ عن السدي مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : من عمل صالحا : التماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله : أو فيه الذي التمس في الدنيا وحبط عمله الذي كان يعمل وهو في الآخرة من الخاسرين وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نزلت هذه الآية في أهل الشرك وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله : { نوف إليهم أعمالهم } قال : طيباتهم وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج نحوه وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { وحبط ما صنعوا فيها } قال : حبط ما عملوا من خير وبطل في الآخرة ليس لهم فيها جزاء وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : هم أهل الرياء وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب قال : ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن فقال له رجل : ما نزل فيك ؟ قال : أما تقرأ سورة هود { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه } رسول الله صلى الله عليه و سلم بينة من ربه وأنا شاهد منه وأخرج ابن عساكر وابن مردويه من وجه آخر عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أفمن كان على بينة من ربه : أنا ويتلوه شاهد منه : علي ] وأخرج أبو الشيخ عن أبي العالية في قوله : { أفمن كان على بينة من ربه } قال : ذاك محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج أبو الشيخ عن إبراهيم نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن محمد بن علي بن أبي طالب قال : قلت لأبي : إن الناس يزعمون في قول الله سبحانه : { ويتلوه شاهد منه } أنك أنت التالي قال : وددت أني أنا هو ولكنه لسان محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة عن ابن عباس أن الشاهد جبريل ووافقه سعيد بن جبير وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : جبريل فهو شاهد من الله بالذي يتلوه من كتاب الله الذي أنزل على محمد { ومن قبله كتاب موسى } قال : ومن قبله التوراة على لسان موسى كما تلا القرآن على لسان محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن الحسن بن علي في قوله : { ويتلوه شاهد منه } قال : محمد هو الشاهد من الله وأخرج أبو الشيخ عن إبراهيم { ومن قبله كتاب موسى } قال : ومن قبله جاء الكتاب إلى موسى وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ عن قتادة { ومن يكفر به من الأحزاب } قال : الكفار أحزاب كلهم على الكفر وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : { ومن يكفر به من الأحزاب } قال : من اليهود والنصارى (2/705)
قوله : 18 - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا بقولهم لأصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقولهم : الملائكة بنات الله وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم فالمعنى على هذا : لا أحد مثلهم في الظلم فضلا عن أن يوجد من هو أظلم منهم والإشارة بقوله أولئك إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ وهو مبتدأ وخبره يعرضون على ربهم فيحاسبهم على أعمالهم أو المراد بعرضهم : عرض أعمالهم { ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } الأشهاد : هم الملائكة الحفظة وقيل المرسلون وقيل الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه وقيل جميع الخلائق والمعنى : أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض : هؤلاء المعرضون أو المعروضة أعمالهم الذين كذبوا على ربهم بما نسبوه إليه ولم يصرحوا بما كذبوا به كأنه كان أمرا معلوما عند أهل ذلك الموقف قوله : { ألا لعنة الله على الظالمين } هذا من تمام كلام الأشهاد : أي يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ويقولون : ألا لعنة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه قاله بعدما قال الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم والأشهاد جمع شهيد ورجحه أبو علي بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله : { ويكون الرسول عليكم شهيدا } { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } وقيل : هو جمع شاهد كأصحاب وصاحب والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد (2/708)
ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم 19 - { الذين يصدون عن سبيل } أي يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه { ويبغونها عوجا } أي يصفونها بالاعوجاج تنفيرا للناس عنها أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر يقال بغيتك شرا : أي طلبته لك { و } الحال أنـ { وهم بالآخرة هم كافرون } أي يصفونها بالمعوج والحال أنهم بالآخرة غير مصدقين فكيف يصدون الناس عن طريق الحق وهم على الباطل البحت ؟ وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به حتى كأن كفر غيرهم غير معتد به بالنسبة إلى عظيم كفرهم (2/709)
20 - { أولئك } الموصوفون بتلك الصفات { لم يكونوا معجزين في الأرض } أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم { وما كان لهم من دون الله من أولياء } يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم وإنزال بأسه بهم وجملة { يضاعف لهم العذاب } مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم ليكون عذابا مضاعفا وقرأ ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب { يضاعف } مشددا { ما كانوا يستطيعون السمع } أي أفرطوا في إعراضهم عن الحق وبغضهم له حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار لفرط تعاميهم عن الصواب ويجوز أن يراد بقوله : { وما كان لهم من دون الله من أولياء } أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ولا ينفعهم ذلك فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعا أو يدفعون عنهم ضررا ويجوز أن تكون ما هي المدية والمعنى : أنه يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والبصر قال الفراء : ما كانوا يستطيعون السمع لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ وقال الزجاج : لبغضهم النبي صلى الله عليه و سلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه قال النحاس : هذا معروف في كلام العرب يقال : فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان : إذا كان ثقيلا عليه (2/709)
21 - { أولئك } المتصفون بتلك الصفات { الذين خسروا أنفسهم } بعبادة غير الله والمعنى : اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدعون أنها تشفع لهم ولم يبق بأيديهم إلا الخسران (2/709)
قوله : 22 - { لا جرم } قال الخليل وسيبويه : لا جرم بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة وبه قال الفراء وروي عن الخليل والفراء أنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا وقال الزجاج : إن جرم بمعنى كسب : أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران وفاعل كسب مضمر وأن منصوبة برجم قال الأزهري : وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة وقال الكسائي : معنى لا جرم : لا صد ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون وقال جماعة من النحويين : إن معنى لا جرم ولا قطع قاطع { أنهم في الآخرة هم الأخسرون } قالوا : والجرم القطع وقد جرم النخل واجترمه : أي قطعه وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حد يتقاصر عنه غيرهم ولا يبلغ إليه وهذه الآيات مقررة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها وبين من كان على بينة من ربه (2/710)
23 - { إن الذين آمنوا } أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله وغير ذلك من خصال الإيمان { وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم } أي أنابوا إليه وقيل خشعوا وقيل خضعوا قيل : وأصل الإخبات الاستواء في الخبث : وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان قال الفراء : إلى ربهم ولربهم واحد { أولئك } الموصوفون بتلك الصفات الصالحة { أصحاب الجنة هم فيها خالدون } (2/710)
قوله : 24 - { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } ضرب للفريقين مثلا وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع على أن كل فريق شبه بشيئين أو شبه بمن جمع بين الشيئين فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم والمؤمن شبه بمن جمع بين السمع والبصر وعلى هذا تكون الواو في والأصم وفي والسميع لعطف الصفة على الصفة كما في قول الشاعر :
( إلى الملك القرم وابن الهمام )
والاستفهام في قوله : { هل يستويان } للإنكار : يعني الفريقين وهذه الجملة مقررة لما تقدم من قوله : { أفمن كان على بينة من ربه } وانتصاب مثلا على التمييز من فاعل يستويان : أي هل يستويان حالا وصفة { أفلا تذكرون } في عدم استوائهما وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي يخفى على من له تذكر وعنده تفكر وتأمل والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين
وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { ومن أظلم } قال : الكافر والمنافق { أولئك يعرضون على ربهم } فيسألهم عن أعمالهم { ويقول الأشهاد } الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } شهدوا به عليهم يوم القيامة وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : الأشهاد الملائكة وأخرج أبو الشيخ عن قتادة نحوه وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { الذين يصدون عن سبيل الله } قال : هو محمد يعني سبيل الله صدت قريش عنه الناس وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { ويبغونها عوجا } يعني يرجون بمكة غير الإسلام دينا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } الآية قال : أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإنه قال : { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } وأما في الآخرة فإنه قال : { فلا يستطيعون * خاشعة } وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ما كانوا يستطيعون السمع } قال : ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرا فينتفعوا به ولا يبصروا خيرا فيأخذوا به وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { أخبتوا } قال : خافوا وأخرج ابن جرير عنه قال : الإخبات الإنابة وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ قال : الإخبات : الخشوع والتواضع وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال : اطمأنوا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم } قال : الكافر : { والبصير والسميع } قال : المؤمن (2/710)
لما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه و سلم أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس أكد ذلك بذكر القصص على طريقة التفنن في الكلام ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين والقبول أتم فقال : 25 - { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين } قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة على تقدير حرف الجر : أي أرسلناه بأني : أي أرسلناه متلبسا بذلك الكلام وهو أني لكم نذير مبين وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول : أي قائلا إني لكم والواو في ولقد للابتداء واللام هي الموطئة للقسم واقتصر على النذارة دون البشارة لأن دعوته كانت لمجرد الإنذار أو لكونهم لم يعملوا بما بشرهم به (2/712)
وجملة 26 - { أن لا تعبدوا إلا الله } بدل من إني لكم نذير مبين : أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله أو تكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير أو بمبين وجملة { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } تعليلية والمعنى : نهيتكم عن عبادة غير الله لأني أخاف عليكم وفيها تحقيق لمعنى الإنذار واليوم الأليم : هو يوم القيامة أو يوم الطوفان ووصفه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغة (2/712)
ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوته من ثلاث جهات قال : 27 - { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } والملأ الأشراف كما تقدم غير مرة ووصفهم بالكفر ذما لهم وفيه دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة { ما نراك إلا بشرا مثلنا } هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوته : أي نحن وأنت مشتركون في البشرية فلم يكن لك علينا مزية تستحق بها النبوة دوننا والجهة الثانية : { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } ولم يتبعك أحد من الأشراف فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك والأراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل مثل أكالب وأكلب وكلب وقيل : الأراذل جمع الأرذل كالأساود جمع أسود وهم السفلة قال النحاس : الأراذل : الفقراء والذين لا حسب لهم والحسب الصناعات قال الزجاج : نسبوهم إلى الحياكة ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه قيل له : فمن سفلة السفلة ؟ قال : الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه والظاهر من كلام أهل اللغة أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية والرؤية في الموضعين إن كانت القلبية فبشرا في الأول واتبعك في الثاني هما المفعول الثاني وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال وانتصاب بادي الرأي على الظرفية والعامل فيه اتبعك والمعنى : في ظاهر الرأي من غير تعمق يقال : بدا يبدو : إذا ظهر قال الأزهري : معناه فيما يبدو لنا من الرأي والوجه الثالث : من جهات قدحهم في نبوته { وما نرى لكم علينا من فضل } خاطبوه في الوجهين الأولين منفردا وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه أي : ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل يتميزون به وتستحقون ما تدعونه ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية والحسد واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية فقالوا : { بل نظنكم كاذبين } فيما تدعونه ويجوز أن يكون هذا خطابا للأراذل وحدهم والأول أولى لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له (2/713)
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم فقال : 28 - { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } أي أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها مع كون ما جعلتموه قادحا ليس بقادح في الحقيقة فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوة واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوة فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة { وآتاني رحمة من عنده } هي النبوة وقيل الرحمة المعجزة والبينة النبوة قيل : ويجوز أن تكون الرحمة هي البينة نفسها والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت به البينة والإفراد في { فعميت } على إرادة كل واحدة منهما أو على إرادة البينة لأنها هي التي تظهر لمن تفكر وتخفى على من لم يتفكر ومعنى عميت خفيت وقيل : الرحمة هي على الخلق وقيل : هي الهداية إلى معرفة البرهان وقيل : الإيمان يقال : عميت عن كذا وعمي علي كذا : إذا لم أفهمه قيل : وهو من باب القلب لأن البينة أو الرحمة لا تعمي وإنما يعمي عنها فهو كقولهم : أدخلت القلنسوة رأسي وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وحفص { فعميت } بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول : أي فعماها الله عليكم وفي قراءة أبي { فعميت عليكم } والاستفهام في { أنلزمكموها } للإنكار : أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها والحال أنكم لها كارهون والمعنى أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي إلا أنها خافية عليكم أيمكننا أن نضطركم إلى العلم بها والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عز و جل وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في أنلزمكموها تخفيفا كما في قول الشاعر :
( فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل )
فإن إسكان الباء في أشرب للتخفيف وقد قرأ أبو عمرو كذلك (2/713)
قوله : 29 - { ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله } فيه التصريح منه عليه السلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالا حتى يكون بذلك محلا للتهمة ويكون لقول الكافرين مجال بأنه إنما ادعى ما ادعى طلبا للدنيا والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم فيما قبل هذا وقوله : { وما أنا بطارد الذين آمنوا } كالجواب عما يفهم من قولهم : { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل عنه وقيل إنهم سألوه طردهم تصريحا لا تلميحا ثم علل ذلك بقوله : { إنهم ملاقوا ربهم } أي لا أطردهم فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا بإيمانهم ما عنده سبحانه وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم ويحتمل أنه قاله خوفا من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال : { ولكني أراكم قوما تجهلون } كل ما ينبغي أن يعلم ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم (2/714)
ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله : 30 - { ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم } أي يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردتهم ؟ فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم لا يقع من أنبياء الله المؤيدين بالعصمة ولو وقع ذلك منهم فرضا وتقديرا لكان فيه من الظلم ما لا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس وقوله : { أفلا تذكرون } معطوف على مقدر كأنه قيل : أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر أفلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره وتتفكرون فيه حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ وما هم عليه من الصواب (2/714)
قوله : 31 - { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئا من أموالهم على تبليغ الرسالة كذلك لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يستدلوا بعدمها على كذبه كما قالوا : { وما نرى لكم علينا من فضل } والمراد بخزائن الله : خزائن رزقه { ولا أعلم الغيب } أي ولا أدعي أني أعلم بغيب الله بل لم أقل لكم إلا أني نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم { ولا أقول } لكم { إني ملك } حتى تقولوا ما نراك إلا بشرا مثلنا وقد استدل بهذا من قال إن الملائكة أفضل من الأنبياء والأدلة في هذه المسألة مختلفة وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة فليست مما كلفنا الله بعلمه { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } أي تحتقر والازدراء مأخوذ من أزرى عليه : إذا عابه وزرى عليه : إذا احتقره وأنشد الفراء :
( يباعد الصديق وتزدريه ... خليلته وينهره الصغير )
والمعنى : إني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم { لن يؤتيهم الله خيرا } بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه فهو مجازيهم الجزاء العظيم في الآخرة ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل ولا يضرهم احتقاركم لهم شيئا { الله أعلم بما في أنفسهم } من الإيمان به والإخلاص له فمجازيهم على ذلك ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء { إني إذا لمن الظالمين } لهم إن فعلت ما تريدونه بهم أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم (2/715)
ثم جاوبوه بغير ما تقدم من كلامهم وكلامه عجزا عن القيام بالحجة وقصورا عن رتبة المناظرة وانقطاعا عن المباراة بقولهم : 32 - { يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } أي خاصمتنا بأنواع الخصام ودفعتنا بكل حاجة لها مدخل في المقام ولم يبق لنا في هذا الباب مجال فقد ضاقت علينا المسالك وانسدت أبواب الحيل { فأتنا بما تعدنا } من العذاب الذي تخوفنا منه وتخافه علينا { إن كنت من الصادقين } فيما تقوله لنا (2/715)
فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته و 33 - { قال إنما يأتيكم به الله إن شاء } فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره { وما أنتم بمعجزين } بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة (2/715)
34 - { ولا ينفعكم نصحي } الذي أبذله لكم وأستكثر منه قياما مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته ولكن بإيضاح الحق وبيان بطلان ما أنتم عليه { إن أردت أن أنصح لكم } وجواب هذا الشرط محذوف والتقدير : إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي كما يدل عليه ما قبله { إن كان الله يريد أن يغويكم } أي إن كان الله يريد إغواءكم فلا ينفعكم النصح مني فكان جواب هذا الشرط محذوفا كالأول وتقديره ما ذكرنا وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدم الجزاء على الشرط وأما على مذهب من يجيزه فجزاء الشرط الأول ولا ينفعكم نصحي وجزاء الشرط الثاني الجملة الشرطية الأولى وجزاؤها قال ابن جرير : معنى يغويكم يهلككم بعذابه وظاهر لغة العرب أن الإغواء الإضلال فمعنى الآية : لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد ويخذلكم عن طريق الحق وحكي عن طي أصبح فلان غاويا : أي مريضا وليس هذا المعنى هو المراد في الآية وقد ورد الإغواء بمعنى الإهلاك ومنه { فسوف يلقون غيا } وهو غير ما في هذه الآية { هو ربكم } فإليه الإغواء وإليه الهداية { وإليه ترجعون } فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } قال : فيما ظهر لنا وأخرج أبو الشيخ عن عطاء مثله وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { إن كنت على بينة من ربي } قال : قد عرفتها وعرفت بها أمره وأنه لا إله إلا هو { وآتاني رحمة من عنده } قال : الإسلام الهدى والإيمان والحكم والنبوة وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { أنلزمكموها } قال : أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه كان يقرأ أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال في قراءة أبي أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي بن كعب أنه قرأ أنلزمكموها من شطر قلوبنا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { وما أنا بطارد الذين آمنوا } قال : قالوا له يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطردهم وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأرض سواء وفي قوله : { إنهم ملاقوا ربهم } قال : فيسألهم عن أعمالهم { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } التي لا يفنيها شيء فأكون إنما دعوتكم لتتبعوني عليها لا أعطيكم بملكه لي عليها { ولا أعلم الغيب } لا أقول : اتبعوني على علمي بالغيب { ولا أقول إني ملك } نزلت من السماء برسالة ما أنا إلا بشر مثلكم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } قال : حقرتموهم وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { لن يؤتيهم الله خيرا } قال : يعني إيمانا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { فأتنا بما تعدنا } قال : تكذيبا بالعذاب وأنه باطل (2/715)
قوله : 35 - { أم يقولون افتراه } أنكر سبحانه عليهم قولهم : إن ما أوحي إلى نوح مفترى فقال : { أم يقولون افتراه } ثم أمره أن يجيب بكلام متصف فقال : { قل إن افتريته فعلي إجرامي } بكسر الهمزة على قراءة الجمهور مصدر أجرم : أي فعل ما يوجب الإثم وجرم وأجرم بمعنى قاله النحاس والمعنى : فعلي إثمي أو جزاء كسبي ومن قرأ بفتح الهمزة قال : هو جمع ذكره النحاس { وأنا بريء مما تجرمون } أي من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إلي من الافتراء قيل : وفي الكلام حذف والتقدير : لكن ما افتريته فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم وأنا بريء منه
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية فقيل : إنها حكاية عن نوح وما قاله لقومه وقيل : هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وكفار مكة والأول أولى لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام (2/717)
قوله : 36 - { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } أنه لن يؤمن في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسم ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء : أي بأنه وفي الكلام تأييس له من إيمانهم وأنهم مستمرون على كفرهم مصممون عليه لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } البؤس : الحزن أي فلا تحزن والبائس : المستكين فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين لأن الابتئاس حزن في استكانة ومنه قول الشاعر :
( وكم من خليل أو حميم رزئته ... فلم أبتئس والرزء فيه جليل ) (2/717)
ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه وخلاص من آمن معه فقال : 37 - { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } أي اعمل السفينة متلبسا بأعيننا : أي بمرأى منا والمراد بحراستنا لك وحفظنا لك وعبر عن ذلك بالأعين لأنها آلة الرؤية والرؤية هي التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير وقيل المعنى : { بأعيننا } أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك وقيل : { بأعيننا } بعلمنا وقيل بأمرنا ومعنى بوحينا : بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } أي لا تطلب إمهالهم فقد حان وقت الانتقام منهم وجملة { إنهم مغرقون } للتعليل : أي لا تطلب منا إمهالهم فإنه محكوم منا عليهم بالغرق وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره وقيل : المعنى ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك لا يتأخر إغراقهم عنه وقيل : المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه (2/718)
38 - { ويصنع الفلك } أي وطفق يصنع الفلك أو وأخذ يصنع الفلك وقيل : هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة وجملة { وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } في محل نصب على الحال : أي استهزأوا به لعمله السفينة قال الأخفش والكسائي : يقال : سخرت به ومنه وفي وجه سخريتهم منه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة فيقولون : يا نوح صرت بعد النبوة نجارا والثاني : أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك قالوا : يا نوح ما تصنع ؟ قال : أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله وسخروا به ثم أجاب عليهم بقوله : { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل : فماذا قال لهم ؟ والمعنى : إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم فإنا نسخر منكم غدا عند الغرق ومعنى السخرية هنا : الاستجهال أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده والتشبيه في قوله : { كما تسخرون } لمجرد التحقق والوقوع أو التجدد والتكرر والمعنى : إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك أو متجددة متكررة كما تسخرون منا كذلك وقيل معناه : نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق وفيه نظر فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية إذ هم في شغل شاغل عنها (2/718)
ثم هددهم بقوله : 39 - { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } وهو عذاب الغرق في الدنيا { ويحل عليه عذاب مقيم } وهو عذاب النار الدائم ومعنى يحل : يجعل المؤجل حالا مأخوذ من حلول الدين المؤجل ومن موصولة في محل نصب ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع : أي أينا يأتيه عذاب يخزيه وقيل : في موضع رفع بالابتداء ويأتيه الخبر ويخزيه صفة لعذاب قال الكسائي : إن ناسا من أهل الحجاز يقولون سوف تعلمون قال : ومن قال ستعلمون أسقط الواو والفاء جميعا وجوز الكوفيون سوف تعلمون ومنعه البصريون والمراد بعذاب الخزي : العذاب الذي يخزي صاحبه ويحل عليه العار (2/719)
قوله : 40 - { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } حتى هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية وجعلت غاية لقوله : واصنع الفلك بأعيننا
والتنور اختلف في تفسيرها على أحوال : الأول : أنها وجه الأرض والعرب تسمي وجه الأرض تنورا روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه وبه قال مجاهد وعطية والحسن وروي عن ابن عباس أيضا الثالث : أنه موضع اجتماع الماء في السفينة روي عن الحسن الرابع : أنه طلوع الفجر من قولهم تنور الفجر روي عن علي بن أبي طالب الخامس : أنه مسجد الكوفة روي عن علي أيضا ومجاهد قال مجاهد : كان ناحية التنور بالكوفة السادس : أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة قاله قتادة السابع : أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة روي ذلك عن عكرمة الثامن : أنه موضع بالهند قال ابن عباس : كان تنور آدم بالهند قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض قال : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا } فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة هكذا قال وفيه نظر فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء إلا إذا كان المراد مجرد العلامة كما ذكره آخرا وقد ذكر أهل اللغة أن الفور : الغليان والتنور : اسم عجمي عربته العرب وقيل : معنى فار التنور : التمثيل بحضور العذاب كقولهم : حمي الوطيس : إذا اشتد الحرب ومنه قول الشاعر :
( تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حامية تفور )
يريد الحرب
قوله : { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } أي قلنا : يا نوح احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكرا وأنثى وقرأ حفص { من كل } بتنوين كل : أي من كل شيء زوجين والزوجان للاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ويطلق على كل واحد منهما زوج كما يقال للرجل زوج وللمرأة زوج ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلا للفرد ويطلق الزوج على الضرب والصنف ومثله قوله تعالى : { وأنبتت من كل زوج بهيج } ومثله قول الأعشى :
( وكل ضرب من الديباج يلبسه ... أبو حذافة مخبو بذاك معا )
أراد كل صنف من الديباج { وأهلك } عطف على زوجين أو على اثنين على قراءة حفص وعلى محل كل زوجين فإنه في محل نصب باحمل أو على اثنين على قراءة الجمهور والمراد : امرأته وبنوه ونساؤهم { إلا من سبق عليه القول } أي من تقدم الحكم عليه بأنه من المغرقين في قوله : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } على الاختلاف السابق فيهم فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة { احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك } ومن قال : المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أم كنعان جعل الاستثناء من أهلك ويكون متصلا إن أريد بالأهل ما هو أعم من المسلم والكافر منهم ومنقطعا إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط قوله : { ومن آمن } معطوف على أهلك : أي واحمل في السفينة من آمن من قومك وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم أو للاستثناء منهم على القول الآخر ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به فقال : { وما آمن معه إلا قليل } قيل : هم ثمانون إنسانا : منهم ثلاثة من بنيه وهو سام وحام ويافث وزوجاتهم ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين وهي موجودة بناحية الموصل وقيل كانوا عشرة وقيل سبعة وقيل كانوا اثنين وسبعين وقيل غير ذلك (2/719)
قوله : 41 - { وقال اركبوا فيها } القائل نوح وقيل الله سبحانه والأول أولى لقوله : { إن ربي لغفور رحيم } والركوب : العلو على ظهر الشيء حقيقة نحو ركب الدابة أو مجازا نحو ركبه الدين وفي الكلام حذف : أي اركبوا الماء في السفينة فلا يرد أن ركب يتعدى بنفسه وقيل : إن الفائدة في زيادة { في } أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها وقيل : إنها زيدت لرعاية جانب المحلية في السفينة كما في قوله : { فإذا ركبوا في الفلك } وقوله : { حتى إذا ركبا في السفينة } قيل : ولعل نوحا قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله من الأزواج كأنه قيل : فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك وقال للمؤمنين ويمكن أن يقال : إنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل والمؤمنين ولا يمتنع أن يفهم خطابه من لا يعقل من الحيوانات أو يكون هذا على طريقة التغليب قوله : { بسم الله } متعلق باركبوا أو حال من فاعله : أي مسمين الله أو قائلين : { بسم الله مجريها ومرساها } قرأ أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ منهم على أنهما اسما زمان وهما في موضع نصب على الظرفية : أي وقت مجراها ومرساها ويجوز أن يكونا مصدرين : أي وقت إجرائها وإرسائها وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وحفص مجراها بفتح الميم ومرساها بضمها وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها فيهما وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي مجريها ومرسيها على أنهما وصفان لله ويجوز أن يكونا في موضع رفع بإضمار مبتدأ : أي هو مجريها ومرسيها { إن ربي لغفور } للذنوب { رحيم } بعباده ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلا منه لبقاء هذا الجنس الحيواني وعدم استئصاله بالغرق (2/721)
قوله : 42 - { وهي تجري بهم في موج كالجبال } هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دل عليها الأمر بالركوب والتقدير : فركبوا مسمين وهي تجري بهم والموج جمع موجة وهي ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض قوله : { ونادى نوح ابنه } هو كنعان قيل : وكان كافرا واستبعد كون نوح ينادي من كان كافرا مع قوله : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } وأجيب بأنه كان منافقا فظن نوح أنه مؤمن وقيل : حملته شفقة الأبوة على ذلك وقيل : إنه كان ابن امرأته ولم يكن بابنه ويؤيده ما روي أن عليا قرأ ونادى نوح ابنها وقيل : إنه كان لغير رشدة وولد على فراش نوح ورد بأن قوله : { ونادى نوح ابنه } وقوله : { إن ابني من أهلي } يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوة { وكان في معزل } أي في مكان عزل فيه نفسه عن قومه وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح : اركبوا فيها وقيل في معزل من دين أبيه وقيل من السفينة قيل : وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق بل كان في أول فور التنور قوله : { يا بني اركب معنا } قرأ عاصم بفتح الياء والباقون بكسرها فأما الكسر فلجعله بدلا من ياء الإضافة لأن الأصل يا بني وأما الفتح فلقلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف ثم حذف الألف وبقيت الفتحة لتدل عليه قال النحاس : وقراءة عاصم مشكلة وقال أبو حاتم : أصله يا بنياه ثم تحذف وقد جعل الزجاج للفتح وجهين وللكسر وجهين أما الفتح بالوجه الأول ما ذكرناه والوجه الثاني : أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين وأما الكسر فالوجه الأول كما ذكرناه والثاني : أن تحذف لالتقاء الساكنين كذا حكى عنه النحاس وقرأ أبو عمرو والكسائي وحفص { اركب معنا } بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج وقرأ الباقون بعدم الإدغام { ولا تكن مع الكافرين } نهاه عن الكون مع الكافرين : أي خارج السفينة ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم (2/721)
ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه فقال : 43 - { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } أي يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إلي فأجاب عنه نوح بقوله : { لا عاصم اليوم من أمر الله } أي لا مانع فإنه يوم قد حق فيه العذاب وجف القلم بما هو كائن فيه نفي جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجا أوليا وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره والاستثناء قال الزجاج : هو منقطع : أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه فيكون { من رحم } في موضع نصب ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا على أن يكون عاصم بمعنى معصوم : أي لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله : مثل { ماء دافق } { عيشة راضية } ومنه قول الشاعر :
( دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي )
أي المطعم المكسو واختار هذا الوجه ابن جرير وقيل : العاصم بمعنى ذي العصمة كلابن وتامر والتقدير : لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله وهو السفينة وحينئذ فلا يرد ما يقال : إن معنى من رحم من رحمه الله ومن رحمه الله هو معصوم فكيف يصح استثناؤه عن العاصم ؟ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعا للإشكال وقرئ { إلا من رحم } على البناء للمفعول { وحال بينهما الموج } أي حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق وقيل : بين ابن نوح وبين الجبل والأول أولى لأن تفرع { فكان من المغرقين } عليه يدل على الأول لا على الثاني لأن الجبل ليس بعاصم (2/722)
قوله : 44 - { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } يقال : بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء : والبلع الشرب ومنه البالوعة وهي الموضع الذي يشرب الماء والازدراد يقال : بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج { ويا سماء أقلعي } الإقلاع الإمساك يقال : أقلع المطر إذا انقطع والمعنى : أمر السماء بإمساك الماء عن الإرسال وقدم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها { وغيض الماء } أي نقص يقال : غاض الماء وغضته أنا { وقضي الأمر } أي أحكم وفرغ منه : يعني أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام { واستوت على الجودي } أي استقرت السفينة على الجبل المعروف بالجودي وهو جبل بقرب الموصل وقيل : إن الجودي اسم لكل جبل ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل :
( سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ... وقبلنا سبح الجودي والجمد )
ويقال : إنه من جبال الجنة فلذا استوت عليه { وقيل بعدا للقوم الظالمين } القائل هو الله سبحانه ليناسب صدر الآية وقيل : هو نوح وأصحابه والمعنى : وقيل هلاكا للقوم الظالمين وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السور ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك وللإيماء إلى قوله : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة الثابتين الأقدام في علم البيان الراسخين في علم اللغة المطلعين على ما هو مدون من خطب مصاقع خطباء العرب وأشعار بواقع شعرائهم المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها وقد تعرض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم فأطالوا وأطابوا رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فعلي إجرامي } قال : عملي { وأنا بريء مما تجرمون } أي مما تعملون وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } وذلك حين دعا عليهم نوح قال : { لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وأبو الشيخ عن الحسن قال : إن نوحا لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم فدعا عليهم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فلا تبتئس } قال : فلا تحزن وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عنه في قوله : { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } قال : بعين الله ووحيه وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : لم يعلم نوح كيف يصنع الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة ويمرون فيسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون يعمل سفينة في البر وكيف تجري ؟ قال : سوف تعلمون فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيته أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي ] وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { من يأتيه عذاب يخزيه } قال : هو الغرق { ويحل عليه عذاب مقيم } قال : هو الخلود في النار وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عنه قال : كان بين دعوة نوح وبين هلاك قومه ثلثمائة سنة وكان فار التنور بالهند وطافت سفينة نوح بالبيت أسبوعا وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : التنور العين التي بالجزيرة عين الوردة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة وقد روي عنه نحو هذا من طرق وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : التنور وجه الأرض قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن علي { وفار التنور } قال : طلع الفجر قيل له : إذا طلع الفجر فاركب أنت وأصحابك وقد روي في تفسير التنور غير هذا وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك وروي في صفة القصة وما حمله نوح في السفينة وكيف كان الغرق وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { بسم الله مجريها ومرساها } قال : حين يركبون ويجرون ويرسون وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : كان إذا أراد أن ترسي قال : بسم الله فأرست وإذا أراد أن تجري قال : بسم الله فجرت وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن السني وابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن الحسن بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا : بسم الله الملك الرحمن بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وما قدروا الله حق قدره إلى آخر الآية ] وأخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم وأخرجه أيضا أبو الشيخ عنه مرفوعا من طريق أخرى وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } قال : لا ناج إلا أهل السفينة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي برة في قوله : { وحال بينهما الموج } قال : بين ابن نوح والجبل وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله : { يا أرض ابلعي } قال : هو بالحبشية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب بن منبه في ابلعي قال بالحبشية : أي ازدرديه وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : معناه اشربي بلغة الهند وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله أقول : وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب ظاهر مكشوف فما لنا وللحبشة والهند (2/723)
معنى : 45 - { ونادى نوح ربه } دعاه والمراد أراد دعاءه بدليل الفاء في { فقال رب إن ابني من أهلي } وعطف الشيء على نفسه غير سائغ فلا بد من التقدير المذكور ومعنى قوله : { إن ابني من أهلي } أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك : { وأهلك } فإن قيل : كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله : { وأهلك } وهو المستثنى منه وترك ما يفيده الاستثناء وهو { إلا من سبق عليه القول } ؟ فيجاب : بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول فإنه كان يظنه من المؤمنين { وإن وعدك الحق } الذي لا خلف فيه وهذا منه { وأنت أحكم الحاكمين } أي أتقن المتقنين لما يكون به الحكم فلا يتطرق إلى حكمك نقض وقيل : أراد بأحكم الحاكمين أعلمهم وأعدلهم : أي أنت أكثر علما وعدلا من ذوي الحكم وقيل : إن الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع (2/726)
ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل وأنه خارج بقيد الاستثناء فـ { قال يا نوح إنه ليس من أهلك } الذين آمنوا بك وتابعوك وإن كان من أهلك باعتبار القرابة ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة الدين لا قرابة النسب وحده فقال : { إنه عمل غير صالح } قرأ الجمهور عمل على لفظ المصدر وقرأ ابن عباس وعكرمة والكسائي ويعقوب عمل على لفظ الفعل ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه كأنه جعل نفس العمل وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل كذا قال الزجاج وغيره ومعنى القراءة الثانية ظاهر : أي إنه عمل عملا غير صالح وهو كفره وتركه لمتابعة أبيه ثم نهاه عن مثل هذا السؤال فقال : { فلا تسألن ما ليس لك به علم } لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله فرع على ذلك النهي عن السؤال وهو وإن كان نهيا عاما بحيث يشمل كل سؤال لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولا أوليا وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع وسمي دعاءه سؤالا لتضمنه معنى السؤال { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } أي أحذرك أن تكون من الجاهلين كقوله : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا } وقيل المعنى : أرفعك أن تكون من الجاهلين قال ابن العربي : وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين (2/726)
ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهمه بادر إلى الاعتراف بالخطأ وطلب والمغفرة والرحمة فـ 47 - { قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } أي أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه { وإلا تغفر لي } ذنب ما دعوت به على غير علم مني { وترحمني } برحمتك التي وسعت كل شيء فتقبل توبتي { أكن من الخاسرين } في أعمالي فلا أربح فيها (2/727)
القائل هو الله أو الملائكة 48 - { قيل يا نوح اهبط } أي انزل من السفينة إلى الأرض أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض فقد بلعت الأرض ماءها وجفت { بسلام منا } أي بسلامة وأمن وقيل : بتحية { وبركات } أي نعم ثابتة مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته ومنه البركة لثبوت الماء فيها وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته { وعلى أمم ممن معك } أي ناشئة ممن معك وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة وقيل : أراد من في السفينة فإنهم أمم مختلفة وأنواع من الحيوانات متباينة قيل : أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمنا من ذريتهم وأراد بقوله : { وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } من صار كافرا من ذريتهم إلى يوم القيامة وارتفاع أمم في قوله : { وأمم سنمتعهم } على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي ومنهم أمم وقيل على تقدير : ويكون أمم وقال الأخفش : هو كما تقول : كلمت زيدا وعمرو جالس وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما سنمتعهم : أي ونمتع أمما ومعنى الآية : وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع ونعطيهم منها ما يعيشون به ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم وقيل : يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة (2/727)
والإشارة بقوله : 49 - { تلك } إلى قصة نوح وهي مبتدأ والجمل بعده أخبار { من أنباء الغيب } من جنس أنباء الغيب والأنباء جمع نبأ وهو الخبر : أي من أخبار الغيب التي مرت بك في هذه السورة والضمير في { نوحيها إليك } راجع إلى القصة والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة { ما كنت } يا محمد { تعلمها أنت ولا } يعلمها { قومك } بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي أو من قبل هذا الوقت { فاصبر } على ما تلاقيه من كفار زمانك والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها { إن العاقبة } المحمودة في الدنيا والآخرة { للمتقين } لله المؤمنين بما جاءت به رسله وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر ولا اعتبار بمباديه
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : نادى نوح ربه فقال : رب إن ابني من أهلي وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي وإن ابني من أهلي وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن عباس قال : ما بغت امرأة نبي قط وقوله : { إنه ليس من أهلك } يقول : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال : إن نساء الأنبياء لا يزنين وكان يقرؤها { إنه عمل غير صالح } يقول : مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فلا تسألن ما ليس لك به علم } قال : بين الله لنوح أنه ليس بابنه وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : { يا نوح اهبط بسلام منا } قال : أهبطوا والله عنهم راض وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال : دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة وأخرج ابن جرير عن الضحاك { وعلى أمم ممن معك } يعني ممن لم يولد أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة { وأمم سنمتعهم } يعني متاع الحياة الدنيا { ثم يمسهم منا عذاب أليم } لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة وأخرج أبو الشيخ قال : ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه و سلم فقال : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك } يعني العرب { من قبل هذا } القرآن (2/727)
قوله : 50 - { وإلى عاد أخاهم هودا } معطوف على وأرسلنا نوحا : أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم : أي واحدا منهم وهودا عطف بيان وقوم عاد كانوا عبدة أوثان وقد تقدم مثل هذا في الأعراف وقيل : هم عاد الأولى وعاد الأخرى فهؤلاء هم عاد الأولى وعاد الأخرى هم شداد ولقمان وقومهما المذكورون في قوله : { إرم ذات العماد } وأصل عاد : اسم رجل ثم صار اسما للقبيلة كتميم وبكر ونحوهما { ما لكم من إله غيره } قرئ غيره بالجر على اللفظ وبالرفع على محل من إله وقرئ بالنصب على الاستثناء { إن أنتم إلا مفترون } أي ما أنتم باتخاذ إله غير الله إلا كاذبون على الله عز و جل (2/729)
ثم خاطبهم فقال : 51 - { يا قوم لا أسألكم عليه أجرا } أي لا أطلب منكم أجرا على ما أبلغه إليكم وأنصحكم به من الإرشاد إلى عبادة الله وحده وأنه لا إله لكم سواه فالضمير راجع إلى مضمون هذا الكلام وقد تقدم معنى هذا في قصة نوح { إن أجري إلا على الذي فطرني } أي ما أجري الذي أطلب إلا من الذي فطرني : أي خلقني فهو الذي يثيبني على ذلك { أفلا تعقلون } أن أجر الناصحين إنما هو من رب العالمين قيل : إنما قال فيما تقدم في قصة نوح : مالا وهنا قال : أجرا لذكر الخزائن بعده في قصة نوح ولفظ المال بها أليق (2/729)
ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة والمعنى : اطلبوا مغفرته لما سلف من ذنوبكم ثم توسلوا إليه بالتوبة وقد تقدم زيادة بيان لمثل هذا في قصة نوح ثم رغبهم في الإيمان بالخير العاجل فقال : 52 - { يرسل السماء } أي المطر { عليكم مدرارا } أي كثير الدرور وهو منصوب على الحال درت السماء تدر وتدر فهي مدرار وكان قوم هود أهل بساتين وزرع وعمارة وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن { ويزدكم قوة إلى قوتكم } معطوف على يرسل : أي شدة مضافة إلى شدتكم أو خصبا إلى خصبكم أو عزا إلى عزكم قال الزجاج : المعنى يزدكم قوة في النعم { ولا تتولوا مجرمين } أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه وتقيموا على الكفر مصرين عليه والإجرام : الآثام كما تقدم (2/729)
ثم أجابه قومه بما يدل على فرط جهالتهم وعظيم غباوتهم فـ { قالوا يا هود ما جئتنا ببينة } أي بحجة واضحة نعمل عليها ونؤمن لك بها غير معترفين بما جاءهم من حجج الله وبراهينه عنادا وبعدا عن الحق { وما نحن بتاركي آلهتنا } التي نعبدها من دون الله ومعنى { عن قولك } صادرين عن قولك فالظرف في محل نصب على الحال { وما نحن لك بمؤمنين } أي بمصدقين في شيء مما جئت به (2/729)
54 - { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } أي ما نقول إلا أنه أصابك بعض آلهتنا التي تعيبها وتسفه رأينا في عبادتها بسوء بجنون حتى نشأ عن جنونك ما تقوله لنا وتكرره علينا من التنفير عنها يقال : عراه الأمر واعتراه : إذا ألم به فأجابهم بما يدل على عدم مبالاته بهم وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه وأنهم لا يقدرون على شيء مما يريده الكفار به بل الله سبحانه هو الضار النافع فـ { قال إني أشهد الله واشهدوا } أنتم { أني بريء مما تشركون } به (2/730)
55 - { من دونه } أي من إشراككم من دون الله من غير أن ينزل به سلطانا { فكيدوني جميعا } أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنها تقدر على الإضرار بي وأنها اعترتني بسوء { ثم لا تنظرون } أي لا تمهلوني بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصك مسامعهم ويوضح عجزهم وعدم قدرتهم على شيء (2/730)
56 - { إني توكلت على الله ربي وربكم } فهو يعصمني من كيدكم وإن بلغتم في تطلب وجوه الإضرار بي كل مبلغ فمن توكل على الله كفاه ثم لما بين لهم توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته وصفه بما يوجب التوكل عليه والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم وأنه مالك للجميع وأن ناصية كل دابة من دواب الأرض بيده وفي قبضته وتحت قهره وهو تمثيل لغاية التسخير ونهاية التذليل وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فجعلوا ذلك علامة لقهره قال الفراء : معنى آخذ بناصيتها مالكها والقادر عليها وقال القتيبي : قاهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته والناصية قصاص الشعر من مقدم الرأس ثم علل ما تقدم بقوله : { إن ربي على صراط مستقيم } أي هو على الحق والعدل فلا يكاد يسلطكم علي (2/730)
57 - { فإن تولوا } أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى فإن تستمروا على الإعراض عن الإجابة والتصميم على ما أنتمن عليه من الكفر { فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم } ليس علي إلا ذلك وقد لزمتكم الحجة { ويستخلف ربي قوما غيركم } جملة مستأنفة لتقرير الوعيد بالهلاك : أي يستخلف في دياركم وأموالكم قوما آخرين ويجوز أن يكون عطفا على فقد أبلغتكم وروى حفص عن عاصم أنه قرأ ويستخلف بالجزم حملا على موضع فقد أبلغتكم { ولا تضرونه شيئا } أي بتوليكم ولا تقدرون على كثير من الضرر ولا حقير { إن ربي على كل شيء حفيظ } أي رقيب مهيمن عليه يحفظه من كل شيء قيل : وعلى بمعنى اللام فيكون المعنى : لكل شيء حفيظ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء (2/730)
58 - { ولما جاء أمرنا } أي عذابنا الذي هو إهلاك عاد { نجينا هودا والذين آمنوا معه } من قومه { برحمة منا } أي برحمة عظيمة كائنة منا لأنه لا ينجو أحد إلا برحمة الله وقيل هي الإيمان { من عذاب غليظ } أي شديد وقيل وهو السموم التي كانت تدخل أنوفهم (2/730)
59 - { وتلك عاد } مبتدأ وخبر وأنث الإشارة اعتبارا بالقبيلة قال الكسائي : إن من العرب من لا يصرف عاد ويجعله اسما للقبيلة { جحدوا بآيات ربهم } أي كفروا بها وكذبوها وأنكروا المعجزات { وعصوا رسله } أي هودا وحده لأنه لم يكن في عصره رسول سواه وإنما جمع هنا لأن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل وقيل : إنهم عصوا هودا ومن كان قبله من الرسل أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلا متعددين لكذبوهم { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } الجبار المتكبر والعنيد : الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له قال أبو عبيدة : العنيد العنود والعاند والمعاند وهو المعارض بالخلاف منه ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم عاند قال الراجز :
( إني كبير لا أطيق العندا ) (2/731)
60 - { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } أي : ألحقوها وهي الإبعاد من الرحمة والطرد من الخير والمعنى أنها لازمة لهم لا تفارقهم ما داموا في الدنيا { و } أتبعوها { يوم القيامة } فلعنوا هنالك كما لعنوا في الدنيا { ألا إن عادا كفروا ربهم } أي بربهم وقال الفراء : كفروا نعمة ربهم يقال : كفرته وكفرت به : مثل شكرته وشكرت له { ألا بعدا لعاد قوم هود } أي لا زالوا مبعدين من رحمة الله والبعد : الهلاك والبعد : التباعد من الخير يقال : بعد يبعد بعدا : إذا تأخر وتباعد وبعد يبعد بعدا : إذا هلك ومنه قول الشاعر :
( لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر )
وقال النابغة :
( فلا تبعدن إن المنية منهل ... وكل امرئ يوما به الحال زائل )
ومنه قول الشاعر :
( ما كان ينفعني مقال نسائهم ... وقتلت دون رجالهم لا تبعد )
وقد تقدم أن العرب تستعمله في الدعاء بالهلاك
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة { إلا على الذي فطرني } أي خلقني وأخرج ابن عساكر عن الضحاك قال : أمسك الله عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود : { استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا } فأبوا إلا تماديا وأخرج أبو الشيخ عن هارون التيمي في قوله : { يرسل السماء عليكم مدرارا } قال : المطر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } قال : شدة إلى شدتكم أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } قال : ولد الولد وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } قال : أصابتك بالجنون وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن سعيد قال : ما من أحد يخاف لصا عاديا أو سبعا ضاريا أو شيطانا ماردا فيتلو هذه الآية إلا صرفه الله عنه وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد : { إن ربي على صراط مستقيم } قال : الحق وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { عذاب غليظ } قال : شديد وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { كل جبار عنيد } قال : المشرك وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : العنيد المشاق وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } قال : لم يبعث نبي بعد عاد إلا لعنت على لسانه وأخرج ابن المنذر عن قتادة في الآية قال : تتابعت عليهم لعنتان من الله : لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة (2/731)
قوله : 61 - { وإلى ثمود أخاهم صالحا } معطوف على ما تقدم والتقدير : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا والكلام فيه وفي قوله : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } كما تقدم في قصة هود وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب وإلى ثمود بالتنوين في جميع المواضع واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع فالصرف باعتبار التأويل بالحي والمنع باعتبار التأويل بالقبيلة وهكذا سائر ما يصح فيه التأويلان وأنشد سيبويه في التأنيث باعتبار التأويل بالقبيلة :
( غلب المساميح الوليد جماعة ... وكفى قريش المعضلات وسادها )
{ هو أنشأكم من الأرض } أي ابتدأ خلقكم من الأرض لأن كل بني آدم من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض { واستعمركم فيها } أي جعلكم عمارها وسكانها من قولهم : أعمر فلان فلانا داره فهي له عمرى فيكون استفعل بمعنى أفعل : مثل استجاب بمعنى أجاب وقال الضحاك : معناه أطال أعماركم وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف وقيل معناه : أمركم بعمارتها من بناء المساكن وغرس الأشجار { فاستغفروه } أي سلوه المغفرة لكم من عبادة الأصنام { ثم توبوا إليه } أي ارجعوا إلى عبادته { إن ربي قريب مجيب } أي قريب الإجابة لمن دعاه وقد تقدم القول فيه في البقرة عند قوله تعالى : { فإني قريب أجيب دعوة الداع } (2/733)
62 - { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا } أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا مطاعا ننتفع برأيك ونسعد بسيادتك قبل هذا الذي أظهرته من ادعائك النبوة ودعوتك إلى التوحيد وقيل : كان صالح يعيب آلهتهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم فلما دعاهم إلى الله قالوا انقطع رجاؤها منك والاستفهام في قوله : { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } للإنكار أنكروا عليه هذا النهي وأن نعبد في محل نصب بحذف الجار : أي بأن نعبد ومعنى ما يعبد آباؤنا : ما كان يعبد آباؤنا فهو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } من أربته فأنا أريبه : إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة أو من أراب الرجل : إذا كان ذا ريبة والمعنى : إننا لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان موقع في الريب (2/733)
63 - { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } أي حجة ظاهرة وبرهان صحيح { وآتاني منه } أي من جهته { رحمة } أي نبوة وهذه الأمور وإن كانت متحققة الوقوع لكنها صدرت بكلمة الشك اعتبارا بحال المخاطبين لأنهم في شك من ذلك كما وصفوه عن أنفسهم { فمن ينصرني من الله } استفهام معناه النفي : أي لا ناصر لي يمنعني من عذاب الله { إن عصيته } في تبليغ الرسالة وراقبتكم وفترت عما يجب علي من البلاغ { فما تزيدونني } بتثبيطكم إياي { غير تخسير } بأن تجعلوني خاسرا بإبطال عملي والتعرض لعقوبة الله لي قال الفراء : أي تضليل وإبعاد من الخير وقيل المعنى : فما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم (2/734)
قوله : 64 - { ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية } قد مر تفسير هذه الآية في الأعراف ومعنى لكم آية : معجزة ظاهرة وهي منتصبة على الحال ولكن في محل نصب على الحال من آية مقدمة عليها ولو تأخرت لكانت صفة لها وقيل : إن ناقة الله بدل من هذه والخبر لكم والأول أولى وإنما قال : ناقة الله لأنه أخرجها لهم من جبل على حسب اقتراحهم وقيل : من صخرة صماء { فذروها تأكل في أرض الله } أي دعوها تأكل في أرض الله مما فيها من المراعي التي تأكلها الحيوانات قال أبو إسحاق الزجاج : ويجوز رفع تأكل على الحال والاستئناف ولعله يعني في الأصل على ما تقتضيه لغة العرب لا في الآية فالمعتمد القراءات المروية على وجه الصحة { ولا تمسوها بسوء } قال الفراء : بعقر والظاهر أن النهي عما هو أعم من ذلك { فيأخذكم عذاب قريب } جواب النهي : أي قريب من عقرها وذلك ثلاثة أيام (2/734)
65 - { فعقروها } أي فلم يمتثلوا الأمر من صالح ولا النهي بل خالفوا كل ذلك فوقع منهم العقر لها { فقال } لهم صالح { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } أي تمتعوا بالعيش في منازلكم ثلاثة أيام فإن العقاب نازل عليكم بعدها قيل : إنهم عقروها يوم الأربعاء فأقاموا الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام { وعد غير مكذوب } أي غير مكذوب فيه فحذف الجار اتباعا أو من باب المجاز كأن الوعد إذا وفى به صدق ولم يكذب ويجوز أن يكون مصدرا : أي وعد غير كذب (2/734)
66 - { فلما جاء أمرنا } أي عذابنا أو أمرنا بوقوع العذاب { نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا } قد تقدم تفسير هذا في قصة هود { ومن خزي يومئذ } أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة والخزي : الذل والمهانة وقيل من عذاب يوم القيامة والأول أولى وقرأ نافع والكسائي بفتح يوم على أنه اكتسب البناء من المضاف إليه وقرأ الباقون بالكسر { إن ربك هو القوي العزيز } القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء (2/734)
67 - { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } أي في اليوم الرابع من عقر الناقة صيح بهم فماتوا وذكر الفعل لأن الصيحة والصياح واحد مع كون التأنيث غير حقيقي قيل صيحة جبريل وقيل صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وماتوا وتقدم في الأعراف { فأخذتهم الرجفة } قيل : ولعلها وقعت عقب الصيحة { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } أي ساقطين على وجوههم موتى قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت (2/735)
68 - { كأن لم يغنوا فيها } أي كأنهم لم يقيموا في بلادهم أو ديارهم والجملة في محل نصب على الحال والتقدير : مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط { ألا إن ثمود كفروا ربهم } وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة البيان وصرح بكفرهم مع كونه معلوما تعليلا للدعاء عليهم بقوله : { ألا بعدا لثمود } وقرأ الكسائي بالتنوين وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف بما يحتاج إلى مراجعته ليضم ما في إحدى القصتين من الفوائد إلى الأخرى
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي : { هو أنشأكم من الأرض } قال : خلقكم من الأرض وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { واستعمركم فيها } قال : أعمركم فيها وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن زيد { واستعمركم فيها } قال : استخلفكم فيها وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد { فما تزيدونني غير تخسير } يقول : ما تزدادون أنتم إلا خسارا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء الخراساني نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } قال : ميتين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { كأن لم يغنوا فيها } قال : كأن لم يعيشوا فيها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال : كأن لم يعمروا فيها وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : كأن لم ينعموا فيها (2/735)
هذه قصة لوط عليه السلام وقومه وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام وكانت قرى لوط بنواحي الشام وإبراهيم ببلاد فلسطين فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده وكان كل من نزل عنده يحسن قراه وكان مرورهم عليه لتبشيره بهذه البشارة المذكورة فظنهم أضيافا وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وقيل كانوا تسعة وقيل أحد عشر والبشرى التي بشروه بها هي بشارته بالولد وقيل بإهلاك قوم لوط والأولى أولى 69 - { قالوا سلاما } منصوب بفعل مقدر : أي سلمنا عليك سلاما { قال سلام } ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي أمركم سلام أو مرتفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف والتقدير : عليكم سلام { فما لبث } أي إبراهيم { أن جاء بعجل حنيذ } قال أكثر النحويين { أن } هنا بمعنى حتى : أي فما لبث حتى جاء وقيل : إنها في محل نصب بسقوط حرف الجر والتقدير فما لبث عن أن جاء : أي ما أبطأ إبراهيم عن مجيئه بعجل وما نافية قاله سيبويه وقال الفراء : فما لبث مجيئه : أي ما أبطأ مجيئه وقيل : إن ما موصولة وهي مبتدأ والخبر أن جاء بعجل حنيذ والتقدير : فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ والحنيذ : المشوي مطلقا وقيل : المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار يقال : حنذ الشاة يحنذها : جعلها فوق حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ وقيل معنى حنيذ : سمين وقيل الحنيذ هو السميط وقيل النضيج وهو فعيل بمعنى مفعول وإنما جاءهم بعجل لأن البقر كانت أكثر أمواله (2/736)
70 - { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } أي لا يمدونها إلى العجل كما يمد يده من يريد الأكل { نكرهم } يقال : نكرته وأنكرته واستنكرته : إذا وجدته على غير ما تعهد ومنه قول الشاعر :
( فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا )
فجمع بين اللغتين ومما جمع فيه بين اللغتين قول الشاعر :
( إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي علي سواد )
وقيل يقال : أنكرت لما تراه بعينك ونكرت لما تراه بقلبك قيل : وإنما استنكر منهم ذلك لأن عادتهم أن الضيف إذا نزل بهم ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه قد جاء بشر { وأوجس منهم } أي أحس في نفسه منهم { خيفة } أي خوفا وفزعا وقيل معنى أوجس : أضمر في نفسه خيفة والأول ألصق بالمعنى اللغوي ومنه قول الشاعر :
( جاء البريد بقرطاس يحث به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا )
وكأنه ظن أنهم قد نزلوا به لأمر ينكره أو لتعذيب قومه { قالوا لا تخف } قالوا له هذه المقالة مع كونه لم يتكلم بما يدل على الخوف بل أوجس ذلك في نفسه فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه أو قالوه له بعد ما قال عقب ما أوجس في نفسه من الخيفة قولا يدل على الخوف كما في قوله في سورة الحجر : { قال إنا منكم وجلون } ولم يذكر ذلك هاهنا اكتفاء بما هنالك ثم عللوا نهيه عن الخوف بقولهم : { إنا أرسلنا إلى قوم لوط } أي أرسلنا إليهم خاصة ويمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام قد قال قولا يكون هذا جوابا عنه : { قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } (2/736)
وجملة 71 - { وامرأته قائمة فضحكت } في محل نصب على الحال قيل : كانت قائمة عند تحاورهم وراء الستر وقيل : كانت قائمة تخدم الملائكة وهو جالس والضحك هنا هو الضحك المعروف الذي يكون للتعجب أو للسرور كما قاله الجمهور وقال مجاهد وعكرمة : إنه الحيض ومنه قول الشاعر :
( وإني لآتي العرس عند طهورها ... وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا )
وقال الآخر :
( وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الخوف يوم اللقا )
والعرب تقول : ضحكت الأرنب : إذا حاضت وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت { فبشرناها بإسحاق } ظاهره أن التبشير كان بعد الضحك وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير والمعنى : فبشرناها فضحكت سرورا بالولد وقرأ محمد بن زياد من قراء مكة فضحكت بفتح الحاء وأنكره المهدوي { ومن وراء إسحاق يعقوب } قرأ حمزة وابن عامر وحفص بنصف { يعقوب } على أنه مفعول فعل دل عليه { فبشرناها } كأنه قال : ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون يعقوب في موضع جر وقال الفراء : لا يجوز الجر إلا بإعادة حرفه قال سيبويه : ولو قلت مررت بزيد أول من أمس وأمس عمر كان قبيحا خبيثا لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه كما يفرق بين الجار والمجرور وقرأ الباقون برفع يعقوب على أنه مبتدأ وخبره الظرف الذي قبله وقيل : الرفع بتقدير فعل محذوف : أي ويحدث لها أو وثبت لها وقد وقع التبشير هنا لها ووقع لإبراهيم في قوله تعالى : { فبشرناه بغلام حليم } { وبشروه بغلام عليم } لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة به لكونه منهما (2/737)
وجملة 72 - { قالت يا ويلتى } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالت ؟ قال الزجاج : أصلها يا ويلتي فأبدل من الياء ألف لأنها أخف من الياء والكسرة وهي لم ترد الدعاء على نفسها بالويل ولكنها كلمة تقع كثيرا على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه وأصل الويل : الخزي ثم شاع في كل أمر فظيع والاستفهام في قولها : { أألد وأنا عجوز } للتعجب : أي كيف ألد وأنا شيخة قد طعنت في السن يقال : عجزت تعجز مخففا ومثقلا عجزا وتعجيزا : أي طعنت في السن ويقال : عجوز وعجوزة وأما عجزت بكسر الجيم : فمعناه عظمت عجيزتها قيل كانت بنت تسع وتسعين وقيل بنت تسعين { وهذا بعلي شيخا } أي وهذا زوجي إبراهيم شيخا لا تحبل من مثله النساء وشيخا منتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة قال النحاس : وفي قراءة أبي وابن مسعود شيخ بالرفع على أنه خبر المبتدأ أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف وعلى الأول يكون بعلي بدلا من اسم الإشارة قيل : كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة وقيل ابن مائة وهذه المبشرة هي سارة امرأة إبراهيم وقد كان ولد لإبراهيم من هاجر أمته إسماعيل فتمنت سارة أن يكون لها ابن وأيست منه لكبر سنها فبشرها الله به على لسان ملائكته { إن هذا لشيء عجيب } أي ما ذكرته الملائكة من التبشير بحصول الولد مع كونها في هذه السن العالية التي لا يوالد لمثلها شيء يقضي منه العجب (2/738)
وجملة 73 - { قالوا أتعجبين من أمر الله } مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام فيها للإنكار : أي كيف تعجبين من قضاء الله وقدره وهو لا يستحيل عليه شيء وإنما أنكروه عليها مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة لأنها من بيت النبوة ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه ولهذا قالوا : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } أي الرحمة التي وسعت كل شيء والبركات وهي النمو والزيادة قيل الرحمة : النبوة والبركات : الأسباط من بني إسرائيل لما فيهم من الأنبياء وانتصاب أهل البيت على المدح أو الاختصاص وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع لقصد التعميم { إنه حميد } أي يفعل موجبات حمده من عباده على سبيل الكثرة { مجيد } كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه عليهم من الخيرات والجملة تعليل لقوله : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } (2/738)
قوله : 74 - { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } أي الخيفة التي أوجسها في نفسه يقال : ارتاع من كذا : إذا خاف ومنه قول النابغة :
( فارتاع من صوت كلاب فبات له ... طوع الشوامت من خوف ومن حذر )
{ وجاءته البشرى } أي بالولد أو بقولهم : لا تخف قوله : { يجادلنا في قوم لوط } قال الأخفش والكسائي : إن يجادلنا في موضع جادلنا فيكون هو جواب لما لما تقرر من أن جوابها يكون بالماضي لا بالمستقبل قال النحاس : جعل المستقبل مكانه كما يجعل الماضي مكان المستقبل في الشرط وقيل : إن الجواب محذوف ويجادلنا في موضع نصب على الحال قاله الفراء وتقديره : فلما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى اجترأ على خطابنا حال كونه يجادلنا : أي يجادل رسلنا وقيل إن المعنى : أخذ يجادلنا ومجادلته لهم قيل إنه لما سمع قولهم : { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } قال : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا قال : فأربعون ؟ قالوا : لا قال : فعشرون ؟ قالوا : لا ثم قال : فعشرة ؟ فخمسة ؟ قالوا : لا قال : فواحد ؟ قالوا : لا { قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله } الآية فهذا معنى مجادلته في قوم لوط : أي في شأنهم وأمرهم (2/738)
ثم أثنوا على إبراهيم أو أثنى الله عليه فقال : 75 - { إن إبراهيم لحليم } أي ليس بعجول في الأمور ولا بموقع لها على غير ما ينبغي والأواه : كثير التأوه والمنيب : الراجع إلى الله وقد تقم في براءة الكلام على الأواه (2/739)
قوله : 76 - { يا إبراهيم أعرض عن هذا } هذا قول الملائكة له : أي أعرض عن هذا الجدال في أمر قد فرغ منه وجف به القلم وحق به القضاء { إنه قد جاء أمر ربك } الضمير للشأن ومعنى مجيء أمر الله : مجيء عذابه الذي قدره عليهم وسبق به قضاؤه { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } أي لا يرده دعاء ولا جدال بل هو واقع بهم لا محالة ونازل بهم على كل حال ليس بمصروف ولا مدفوع
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال : كانوا أربعة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وروفائيل وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { بعجل حنيذ } قال : نضيج وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : مشوي وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال : سميط وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال : الحنيذ الذي أنضج بالحجارة وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي يزيد البصري في قوله : { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } قال : لم ير لهم أيديا فنكرهم وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { نكرهم } قال : كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير وأنه يحدث نفسه بشر ثم حدثوه عند ذلك بما جاءوا فيه فضحكت امرأته وأخرج ابن المنذر عن المغيرة قال : في مصحف ابن مسعود وامرأته قائمة وهو جالس وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد { وامرأته قائمة } قال : في خدمة أضياف إبراهيم وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : لما أوجس إبراهيم في نفسه خيفة حدثوه عند ذلك بما جاءوا فيه فضحكت امرأته تعجبا مما فيه قوم لوط من الغفلة ومما أتاهم من العذاب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { فضحكت } قال : فحاضت وهي بنت ثمان وتسعين سنة وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { فضحكت } قال : حاضت وكانت ابنة بضع وتسعين سنة وكان إبراهيم ابن مائة سنة وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال : حاضت وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ومن وراء إسحاق يعقوب } قال : هو ولد الولد وأخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء عن حسان بن أبجر قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل من هذيل فقال له ابن عباس : ما فعل فلان ؟ قال : مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء فقال ابن عباس : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } قال : ولد الولد وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس أنه كان ينهى عن أن يزاد في جواب التحية على قولهم : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويتلو هذه الآية { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } وأخرج البيهقي عن ابن عمر نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } قال : الفرق { يجادلنا في قوم لوط } قال : يخاصمنا وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ عن قتادة في تفسير المجادلة قال : إنه قال لهم يومئذ : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين ؟ قالوا : إن كان فيهم خمسون لم نعذبهم قال : أربعون ؟ قالوا : وأربعون قال : ثلاثون ؟ قالوا : وثلاثون حتى بلغوا عشرة قالوا : إن كان فيهم عشرة لم نعذبهم قال : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ؟ قال قتادة : إنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان أو ما شاء الله من ذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : لما جاءت الملائكة إلى إبراهيم قالوا لإبراهيم : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن ميمون قال : الأواه الرحيم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المنيب المقبل إلى طاعة الله وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : المنيب المخلص (2/739)
لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ جاءوا إلى لوط فلما رآهم لوط وكانوا في صورة غلمان حسان مرد 77 - { سيء بهم } أي ساءه مجيئهم يقال : ساءه يسوءه وأصل سيء بهم سويء بهم نقلت حركة الواو إلى السين فقلبت الواو ياء ولما خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو عمرو بإشمام السين الضم { وضاق بهم ذرعا } قال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه : أي يبسطها فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع كناية عن قلة الوسع والطاقة وشدة الأمر وقيل : هو من ذرعه القيء : إذا غلبه وضاق عن حبسه والمعنى أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة خوفا عليهم من قومه لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط { وقال هذا يوم عصيب } أي شديد قال الشاعر :
( وإنك إن لم ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب )
يقال : عصيب وعصيصب وعصوصب على التكثير : أي يوم مكروه يجتمع فيه الشر ومنه قيل : عصبة وعصابة : أي مجتمعو الكلمة ورجل معصوب : أي مجتمع الخلق (2/741)
78 - { وجاءه قومه يهرعون إليه } أي جاءوا لوطا الجملة في محل نصب على الحال ومعنى يهرعون إليه : يسرعون إليه قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة : لا يكون الإهراع إلا إسراع مع رعدة يقال : أهرع الرجل إهراعا : أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى قال مهلهل :
( فجاءوا يهرعون وهم أسارى ... نهودهم على رغم الأنوف )
وقيل يهرعون : يهرولون وقيل : هو مشي بين الهرولة والعدو والمعنى : أن قوم لوط لما بلغهم مجيء الملائكة في تلك الصورة أسرعوا إليه كأنما يدفعون دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } أي ومن قبل مجيء الرسل في هذا الوقت كانوا يعملون السيئات وقيل : ومن قبل لوط كانوا يعملون السيئات : أي كانت عادتهم إتيان الرجال فلما جاءوا إلى لوط وقصدوا أضيافه لذلك العمل قام إليهم لوط مدافعا { قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } أي تزوجوهن ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي وقد كان له ثلاث بنات وقيل اثنتان وكانوا يطلبون منه أن يزوجهم بهن فيمتنع لخبثهم وكان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه وقيل أراد بقوله : { هؤلاء بناتي } النساء جملة لأن نبي القوم أب لهم وقالت طائفة : إنما كان هذا القول منه على طريق المدافعة ولم يرد الحقيقة ومعنى { هن أطهر لكم } أي أحل وأنزه والتطهر : التنزه عما لا يحل وليس في صيغة أطهر دلالة على التفضيل بل هي مثل الله أكبر وقرأ الحسن وعيسى بن عمر بنصب أطهر وقرأ الباقون بالرفع ووجه النصب أن يكون اسم الإشارة مبتدأ وخبره بناتي وهن ضمير فصل وأطهر حال وقد منع الخليل وسيبويه والأخفش مثل هذا لأن ضمير الفصل الذي يسمى عمادا إنما يكون بين كلامين بحيث لا يتم الكلام إلا بما بعدها نحو كان زيد هو أخاك { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } أي اتقوا الله بترك ما تريدون من الفاحشة بهم ولا تذلوني وتجلبوا علي العار في ضيفي والضيف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة لأنه في الأصل مصدر ومنه قول الشاعر :
( لا تعدمي الدهر شفار الجازر ... للضيف والضيف أحق زائر )
ويجوز فيه التثنية والجمع والأول أكثر يقال : خزي الرجل خزاية : أي استحيا أو ذل أو هان وخزي خزيا : إذا افتضح ومعنى في ضيفي : في حق ضيفي فخزي الضيف خزي للمضيف ثم وبخهم فقال : { أليس منكم رجل رشيد } يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح ويمنعكم منه (2/742)
فأجابوا عليه معرضين عما نصحهم به وأرشدهم إليه بقولهم : 79 - { ما لنا في بناتك من حق } أي ما لنا فيهم من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان الذكور وشدة الشهوة إليهم فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء ويمكن أن يريدوا : أنه لا حق لنا في نكاحهن لأنه لا ينكحهن ويتزوج بهن إلا مؤمن ونحن لا نؤمن أبدا وقيل : إنهم كانوا قد خطبوا بناته من قبل فردهم وكان من سنتهم أن من خطب فرد فلا تحل المخطوبة أبدا { وإنك لتعلم ما نريد } من إتيان الذكور (2/742)
ثم إنه لما علم تصميمهم على الفاحشة وأنهم لا يتركون ما قد طلبوه 80 - { قال لو أن لي بكم قوة } وجواب لو محذوف والتقدير : لدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم وهذا منه عليه السلام على طريق التمني : أي لو وجدت معينا وناصرا فسمى ما يتقوى به قوة { أو آوي إلى ركن شديد } عطف على ما بعد لو لما فيه من معنى الفعل والتقدير : لو قويت على دفعكم أو آويت إلى ركن شديد وقرئ أو آوى بالنصر عطفا على قوة كأنه قال : لو أن لي بكم قوة أو إيواء إلى ركن شديد ومراده بالركن الشديد : العشيرة وما يمتنع به عنهم هو ومن معه وقيل أراد بالقوة الولد وبالركن الشديد : من ينصره من غير ولده وقيل أراد بالقوة : قوته في نفسه (2/743)
ولما سمعته الملائكة يقول هذه المقالة ووجدوا قومه قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم 81 - { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } أخبروه أولا أنهم رسل ربه ثم بشروه بقوله : { لن يصلوا إليك } وهذه الجملة موضحة ما قبلها لأنهم إذا كانوا مرسلين من عند الله إليه لم يصل عدوه إليه ولم يقدروا عليه ثم أمروه أن يخرج عنهم فقالوا له : { فأسر بأهلك بقطع من الليل } قرأ نافع وابن كثير بالوصل وقرأ غيرهما بالقطع وهما لغتان فصيحتان قال الله تعالى : { والليل إذا يسر } وقال : { سبحان الذي أسرى } وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال :
( حي النضير وربة الخدر ... أسرت عليه ولم تكن تسري )
وقيل : إن أسرى للمسير من أول الليل وسرى للمسير من آخره والقطع من الليل : الطائفة منه قال ابن الأعرابي : بقطع من الليل : بساعة منه وقال الأخفش : بجنح من الليل وقيل : بظلمة من الليل وقيل : بعد هدو من الليل قيل : إن السرى لا يكون إلا في الليل فما وجه زيادة بقطع من الليل ؟ قيل : لو لم يقل بقطع من الليل لجاز أن يكون في أوله قبل اجتماع الظلمة وليس ذلك بمراد { ولا يلتفت منكم أحد } أي لا ينظر إلى ما وراءه أو يشتغل بما خلفه من مال أو غيره قيل : وجه النهي عن الالتفات أن لا يروا عذاب قومهم وهول ما نزل بهم فيرحموهم ويرقوا لهم أو لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم بما يقع من الالتفات فإنه لا بد للملتفت من فترة في سيره { إلا امرأتك } بالنصب على قراءة الجمهور وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالرفع على البدل فعلى القراءة الأولى امرأته مستثناة من قوله : { فأسر بأهلك } أي أسر بأهلك جميعا إلا امرأتك فلا تسر بها فـ { إنه مصيبها ما أصابهم } من العذاب وهو رميهم بالحجارة لكونها كانت كافرة وأنكر قراءة الرفع جماعة منهم أبو عبيد وقال : لا يصح ذلك إلا برفع يلتفت ويكون نعتا لأن المعنى يصير إذا أبدلت وجزمت أن المرأة أبيح لها الالتفات وليس المعنى كذلك قال النحاس : وهذا العمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون والرفع على البدل له معنى صحيح وهو أن يكون استثناء من النهي عن الالتفات : أي لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك وقيل : إن الرفع على البدل من أحد ويكون الالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف فكأنه قال : ولا يتخلف منكم أحد إلا امرأتك فإنها تتخلف والملجئ إلى هذا التأويل البعيد الفرار من تناقض القراءتين والضمير في { إنه مصيبها ما أصابهم } للشأن والجملة خبر إن { إن موعدهم الصبح } هذه الجملة تقليل لما تقدم من الأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات والمعنى : أن موعد عذابهم الصبح المسفر عن تلك الليلة والاستفهام في { أليس الصبح بقريب } للإنكار التقريري والجملة تأكيد للتعليل وقرأ عيسى بن عمر أليس الصبح بضم الباء وهي لغة ولعل جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم لكون النفوس فيه أسكن والناس فيه مجتمعون لم يتفرقوا إلى أعمالهم (2/743)
82 - { فلما جاء أمرنا } أي الوقت المضروب لوقوع العذاب فيه أو المراد بالأمر نفس العذاب { جعلنا عاليها سافلها } أي عالي قرى قوم لوط سافلها والمعنى : أنه قلبها على هذه الهيئة وهي كون عاليها صار سافلها وسافلها صار عاليها وذلك لأن جبريل أدخل جناحه تحتها فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء ثم قلبها عليهم { وأمطرنا عليها حجارة من سجيل } قيل : إنه يقال أمطرنا في العذاب ومطرنا في الرحمة وقيل هما لغتان يقال : مطرت السماء وأمطرت حكى ذلك الهروي والسجيل : الطين المتحجر بطبخ أو غيره وقيل هو الشديد الصلب من الحجارة وقيل السجيل الكثير وقيل إن السجيل لفظة غير عربية أصله سج وجيل وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا وقيل هو من لغة العرب وذكر الهروي : أن السجيل اسم لسماء الدنيا قال ابن عطية : وهذا ضعيف يرده وصفه بمنضود وقيل هو بجر معلق في الهواء بين السماء والأرض وقيل هي جبال في السماء وقال الزجاج : هو من التسجيل لهم : أي ما كتب لهم من العذاب فهو في معنى سجين ومنه قوله تعالى : { وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم } وقيل هو من أسجلته إذا أعطيته فكأنه عذاب أعطوه ومنه قول الشاعر :
( من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب )
ومعنى { منضود } أنه نضد بعضه فوق بعض وقيل بعضه في أثر بعض يقال : نضدت المتاع : إذا جعلت بعضه على بعض فهو منضود ونضيد (2/744)
والمسومة : المعلمة أي التي لها علامة : قيل : كان عليها أمثال الخواتيم وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رحي به وقال الفراء : زعموا أنها كانت مخططة بحمرة وسواد في بياض فذلك تسويمها ومعنى 83 - { عند ربك } في خزائنه { وما هي من الظالمين ببعيد } أي وما هذه الحجارة الموصوفة من الظالمين وهم قوم لوط ببعيد أو ما هي من كل ظالم من الظلمة ومنهم كفار قريش ومن عاضدهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم ببعيد فهم لظلمهم مستحقون لها وقيل : { وما هي } أي قرى { من الظالمين } من كفر بالنبي صلى الله عليه و سلم { ببعيد } فإنها بين الشام والمدينة وفي إمطار الحجارة قولان : أحدهما : أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل والثاني : أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجا عنها وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر أو إجراء له على موصوف مذكر : أي شيء بعيد أو مكان بعيد أو لكونه مصدرا كالزفير والصهيل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا } قال : ساء ظنا بقومه وضاق ذرعا بأضيافه { وقال هذا يوم عصيب } يقول : شديد وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { يهرعون إليه } قال : يسرعون { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } قال : يأتون الرجال وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضا قال : { يهرعون إليه } يستمعون إليه وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا في قوله : { هؤلاء بناتي } قال : ما عرض لوط بناته على قومه لا سفاحا ولا نكاحا إنما قال هؤلاء نساؤكم لأن النبي إذا كان بين ظهراني قوم فهو أبوهم قال الله تعالى في القرآن : { وأزواجه أمهاتهم } وهو أبوهم في قراءة أبي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لم تكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي نحوه قال : وفي قراءة عبد الله النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم وأخرج ابن أبي حاتم عن حذيفة بن اليمان قال : عرض عليهم بناته تزويجا وأراد أن يقي أضيافه بتزويج بناته وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { ولا تخزون في ضيفي } قال : لا تفضحوني وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك { أليس منكم رجل رشيد } قال : رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس { أليس منكم رجل رشيد } قال : واحد يقول لا إله إلا الله وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي { وإنك لتعلم ما نريد } قال : إنما نريد الرجال { قال } لوط { لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } يقول : إلى جند شديد لمقاتلتكم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو آوي إلى ركن شديد قال : عشيرة وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يغفر الله للوط إن كان يأوي إلى ركن شديد ] وهو مروي في غير الصحيح من طريق غيره من الصحابة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس { بقطع من الليل } قال : جوف الليل وأخرجا عنه قال : بسواد الليل وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال : بطائفة من الليل وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا يلتفت منكم أحد } قال : لا يتخلف وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { ولا يلتفت منكم أحد } قال : لا ينظر وراءه أحد { إلا امرأتك } وأخرج أبو عبيد وابن جرير عن هارون قال : في حرف ابن مسعود : فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها } قال : لما أصبحوا عدا جبريل على قريتهم فقلعها من أركانها ثم أدخل جناحه ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم قلبها فكان أول ما سقط منها سرادقها فلم يصب قوما ما أصابهم ثم إن الله طمس على أعينهم ثم قلبت قريتهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل وقد ذكر المفسرون روايات وقصصا في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة وليس في ذكرها فائدة لا سيما وبين من قال بشيء من ذلك وبين هلاك قوم لوط دهر طويل لا يتيسر له في مثله إسناد صحيح وغالب ذلك مأخوذ عن أهل الكتاب وحالهم في الرواية معروف وقد أمرنا بأنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فاعرف هذا فهو الوجه في حذفنا لكثير من هذه الروايات الكائنة في قصص الأنبياء وقومهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وما هي من الظالمين ببعيد } قال : يرهب بها قريش أن يصيبهم ما أصاب القوم وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : من ظلمة العرب إن لم يؤمنوا فيعذبوا بها وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن أبي حاتم عن قتادة قال : من ظالمي هذه الأمة (2/745)
أي وأرسلنا إلى مدين وهم قوم شعيب أخاهم في النسب شعيبا وسموا مدين باسم أبيهم وهو مدين بن إبراهيم وقيل باسم مدينتهم قال النحاس : لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف بأبسط مما هنا وقد تقدم تفسير { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } في أول السورة وهذه الجملة مستأنفة كأنه قيل : ماذا قال لهم شعيب لما أرسله الله إليهم ؟ وقد كان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه أمرهم أولا بعبادة لله سبحانه الذي هو الإله وحده لا شريك له ثم نهاهم عن أن ينقصوا المكيال والميزان لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص وجملة { إني أراكم بخير } تعليل للنهي : أي لا تنقصوا المكيال والميزان لأني أراكم بخير : أي بثروة وسعة في الرزق فلا تغيروا نعمة الله عليكم بمعصيته والإضرار بعباده ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها ثم ذكر بعد هذه العلة علة أخرى فقال : { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } فهذه العلة فيها الإذكار لهم بعذاب الآخرة كما أن العلة الأولى فيها الإذكار لهم بنعيم الدنيا ووصف اليوم بالإحاطة والمراد العذاب لأن العذاب واقع في اليوم ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم أنه لا يشذ منهم أحد عنه ولا يجدون منه ملجأ ولا مهربا واليوم هو يوم القيامة وقيل : هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة (2/747)
ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله : 85 - { ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط } والإيفاء هو الإتمام والقسط العدل وهو عدم الزيادة والنقص وإن كان الزيادة على الإيفاء فضل وخير ولكنها فوق ما يفيده اسم العدل والنهي عن النقص وإن كان يستلزم الإيفاء ففي تعاضد الدلالتين مبالغة بليغة وتأكيد حسن ثم زاد ذلك تأكيدا فقال : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } قد مر تفسير هذا في الأعراف وفيه النهي عن البخس على العموم والأشياء أعم مما يكال ويوزن فيدخل البخس بتطفيف الكيل والوزن في هذا دخولا أوليا وقيل : البخس المكس خاصة ثم قال : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } قد مر أيضا تفسيره في البقرة والعثي في الأرض يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس فيدخل فيه ما في السياق من نقص المكيال والميزان وقيده بالحال وهو قوله : { مفسدين } ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض والمقصود به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة (2/748)
86 - { بقية الله خير لكم } أي ما يبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر خيرا وبركة مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس والفساد في الأرض ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين وقال مجاهد : بقية الله طاعته وقال الربيع : وصيته وقال الفراء : مراقبته وإنما قيل ذلك بقوله : { إن كنتم مؤمنين } لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر أو المراد بالمؤمنين هنا المصدقون لشعيب { وما أنا عليكم بحفيظ } أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما أو أحفظ عليكم أعمالكم وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها (2/749)
وجملة 87 - { قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالوا لشعيب ؟ وقرئ { أصلاتك } بالإفراد و { أن نترك } في موضع نصب وقال الكسائي : موضعها خفض على إضمار الباء ومرادهم بما يعبد آباؤهم ما كانوا يعبدون من الأوثان والاستفهام للإنكار عليه والاستهزاء به لأن الصلوات عندهم ليست من الخير الذي يقال لفاعله عند إرادة تليين قلبه وتذليل صعوبته كما يقال لمن كان كثير الصدقة إذا فعل ما لا يناسب الصواب : أصدقتك أمرتك بهذا وقيل : المراد بالصلاة هنا القراءة وقيل : المراد بها الدين وقيل : المراد بالصلوات أتباعه ومنه المصلي الذي يتلو السابق وهذا منهم جواب لشعيب عن أمره لهم بعبادة الله وحده وقولهم : { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن ونهيهم عن نقصهما وعن بخس الناس وعن العثي في الأرض وهذه الجملة معطوفة على ما في ما يعبد آباؤنا والمعنى أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وتأمرك أن نترك أن تفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص وقرئ { نفعل في أموالنا ما نشاء } بالفوقية فيهما قال النحاس : فتكون أو على هذه القراءة للعطف على أن الأولى والتقدير : أصلواتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء وقرئ نفعل بالنون وما تشاء بالفوقية ومعناه : أصلواتك تأمرك أن نفعل نحن في أموالنا ما تشاؤه أنت وندع ما نشاؤه نحن وما يجري به التراضي بيننا ثم وصفوه بوصفين عظيمين فقالوا : { إنك لأنت الحليم الرشيد } على طريقة التهكم به لأنهم يعتقدون أنه على خلافهما أو يريدون إنك لأنت الحليم الرشيد عن نفسك وفي اعتقادك ومعناهم : أن هذا الذي نهيتنا عنه وأمرتنا به يخالف ما تعتقده في نفسك من الحلم والرشد وقيل إنهم قالوا ذلك لا على طريقة الاستهزاء بل هو عندهم كذلك وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم قد تقدم تفسير الحلم والرشد (2/749)
وجملة 88 - { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } مستأنفة كالجمل التي قبلها والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحة من عند ربي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه { ورزقني منه } أي من فضله وخزائن ملكه { رزقا حسنا } أي كثيرا واسعا حلالا طيبا وقد كان عليه السلام كثير المال وقيل : أراد بالرزق النبوة وقيل الحكمة وقيل العلم وقيل التوفيق وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره : أترك أمركم ونهيكم أو أتقولون في شأني ما تقولون مما تريدون به السخرية والاستهزاء { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } أي وما أريد بنهيي لكم عن التطفيف والبخس أن أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه فأفعله دونكم يقال : خالفه إلى كذا إذا قصده وهو مول عنه وخالفته عن كذا في عكس ذلك { إن أريد إلا الإصلاح } أي ما أريد بالأمر والنهي إلا لإصلاح لكم ودفع الفساد في دينكم ومعاملاتكم { ما استطعت } ما بلغت إليه استطاعتي وتمكنت منه طاقتي { وما توفيقي إلا بالله } أي ما صرت موفقا هاديا نبيا مرشدا إلا بتأييد الله سبحانه وإقداري عليه ومنحي إياه { عليه توكلت } في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم { وإليه أنيب } أي أرجع في كل ما نابني من الأمور وأفوض جميع أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره وقيل معناه : وإليه أرجع في الآخرة وقيل : إن الإنابة الدعاء ومعناه : وله أدعوا (2/750)
قوله : 89 - { ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي } قال الزجاج : معناه لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب إياكم كما أصاب من كان قبلكم وقيل معناه : لا يحملنكم شقاقي والشقاق العداوة ومنه قول الأخطل :
( ألا من مبلغ عني رسولا ... فكيف وجدتم طعم الشقاق )
و { أن يصيبكم } في محل نصب على أنه مفعول ثان ليجرمنكم { مثل ما أصاب قوم نوح } من الغرق { أو قوم هود } من الريح { أو قوم صالح } من الصيحة وقد تقدم تفسير يجرمنكم وتفسير الشقاق { وما قوم لوط منكم ببعيد } يحتمل أن يريد ليس مكانهم ببعيد من مكانكم أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم أو ليسوا ببعيد منكم في السبب الموجب لعقوبتهم وهو مطلق الكفر وأفرد لفظ { بعيد } لمثل ما سبق في { وما هي من الظالمين ببعيد } (2/750)
ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة فقال : 90 - { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود } وقد تقدم تفسير الاستغفار مع ترتيب التوبة عليه في أول السورة وتقدم تفسير الرحيم والمراد هنا أنه عظيم الرحمة للتائبين والودود المحب قال في الصحاح : وددت الرجل أوده ودا : إذا أحببته والودود المحب والود والود والود : المحبة والمعنى هنا أنه يفعل بعباده ما يفعله من هو بليغ المودة بمن يوده من اللطف به وسوق الخير إليه ودفع الشر عنه وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة (2/751)
وجملة 91 - { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول } مستأنفة كالجمل السابقة والمعنى : أنك تأتينا بما لا عهد لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية كالبعث والنشور ولا نفقه ذلك : أي نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة فيكون نفي الفقه على هذا حقيقة لا مجازا وقيل : قالوا ذلك إعراضا عن سماعه واحتقار الكلام مع كونه مفهوما لديهم معلوما عندهم فلا يكون نفي الفقه حقيقة بل مجازا يقال فقه يفقه : إذا فهم فقها وفقها وحكى الكسائي فقهانا ويقال فقه فقها : إذا صار فقيها { وإنا لنراك فينا ضعيفا } أي لا قوة لك تقدر بها على أن تمنع نفسك منا وتتمكن بها من مخالفتنا وقيل : المراد أنه ضعيف في بدنه قاله علي بن عيسى وقيل : إنه كان مصابا ببصره قال النحاس : وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيف : أي قد ضعف بذهاب بصره كما يقال له ضرير : أي قد ضر بذهاب بصره وقيل : الضعيف المهين وهو قريب من القول الأول { ولولا رهطك لرجمناك } رهط الرجل عشيرته الذين يستند إليهم ويتقوى بهم ومنه الراهط لجحر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده والرهط يقع على الثلاثة إلى العشرة وإنما جعلوا رهطه مانعا من إنزال الضرر به مع كونهم في قلة والكفار ألوف مؤلفة لأنهم كانوا على دينهم فتركوه احتراما لهم لا خوفا منهم ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقوله : { وما أنت علينا بعزيز } حتى نكف عنك لأجل عزتك عندنا بل تركنا رجمك لعزة رهطك علينا ومعنى لرجمناك لقتلناك بالرجم وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة وقيل معنى لرجمناك لشتمناك ومنه قول الجعدي :
( تراجمنا بمر القول حتى ... نصير كأننا فرسا رهان )
ويطلق الرجم على اللعن ومنه الشيطان الرجيم (2/751)
وجملة 92 - { قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله } مستأنفة وإنما قال أعز عليكم من الله ولم يقل أعز عليكم مني لأن نفي العزة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عز و جل فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعز عليهم من الله فاستنكر ذلك عليهم وتعجب منه وألزمهم ما لا مخلص لهم عنه ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام وفي هذا من قوة المحاجة ووضوح المجادلة وإلقام الخصم الحجر ما لا يخفى ولأمر ما سمي شعيب خطيب الأنبياء والضمير في { واتخذتموه } راجع إلى الله سبحانه والمعنى : واتخذتم الله عز و جل بسبب عدم اعتدادكم بنبيه الذي أرسله إليكم { وراءكم ظهريا } أي منبوذا وراء الظهر لا تبالون به وقيل المعنى : واتخذتم أمر الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم يقال : جعلت أمره بظهر : إذا قصرت فيه و { ظهريا } منسوب إلى الظهر والكسر لتغيير النسب { إن ربي بما تعملون محيط } لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم (2/752)
93 - { ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون } لما رأى إصرارهم على الكفر وتصميمهم على دين آبائهم وعدم تأثير الموعظة فيهم توعدهم بأن يعملوا على غاية تمكنهم ونهاية استطاعتهم يقال : مكن مكانة : إذا تمكن أبلغ تمكن وأخبرهم أنه عامل على حسب ما يمكنه ويقدر الله له ثم بالغ في التهديد والوعيد بقوله : { سوف تعلمون } أي عاقبة ما أنتم فيه من عبادة غير الله والإضرار بعباده وقد تقدم مثله في الأنعام { من يأتيه عذاب يخزيه } من في محل نصب بتعلمون : أي سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب المخزي الذي يتأثر عنه الذل والفضيحة والعار { ومن هو كاذب } معطوف على من يأتيه والمعنى : ستعلمون من هو المعذب ومن هو الكاذب ؟ وفيه تعريض بكذبهم في قولهم : لولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز وقيل : إن من مبتدأ وما بعدها صلتها والخبر محذوف والتقدير : من هو كاذب فسيعلم كذبه ويذوق وبال أمره قال الفراء : إنما جاء بهو في من هو كاذب لأنهم لا يقولون من قائم : إنما يقولون من قام ومن يقوم ومن القائم فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل قال النحاس : ويدل على خلاف هذا القول الشاعر :
( من رسولي إلى الثريا فإني ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب )
{ وارتقبوا إني معكم رقيب } أي انتظروا إني معكم منتظر لما يقضي به الله بيننا (2/752)
94 - { ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه } أي لما جاء عذابنا أو أمرنا بعذابهم نجينا شعيبا وأتباعه الذين آمنوا به { برحمة منا } لهم بسبب إيمانهم أو برحمة منا لهم : وهي هدايتهم للإيمان { وأخذت الذين ظلموا } غيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه وظلموا أنفسهم بالتصميم على الكفر { الصيحة } التي صاح بهم جبرائيل حتى خرجت أرواحهم من أجسادهم وفي الأعراف { فأخذتهم الرجفة } وكذا في العنكبوت وقد قدمنا أن الرجفة الزلزلة وأنها تكون تابعة للصيحة لتموج الهواء المفضي إليها { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } أي ميتين (2/753)
وقد تقدم تفسيره وتفسير 95 - { كأن لم يغنوا فيها } قريبا وكذا تفسير { ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود } وحكى الكسائي أن أبا عبد الرحمن قرأ : { كما بعدت ثمود } بضم العين قال المهدوي : من ضم العين من بعدت فهي لغة يستعمل في الخير والشر وبعدت بالكسر على قراءة الجمهور يستعمل في الشر خاصة وهي هنا بمعنى اللعنة
وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إني أراكم بخير } قال : رخص السعر { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } قال : غلاء السعر وأخرج ابن جرير عنه { بقية الله } قال : رزق الله وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة { بقية الله خير لكم } يقول : حظكم من ربكم خير لكم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : طاعة الله وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله : { أصلاتك تأمرك } قال : أقراءتك وأخرج ابن عساكر عن الأحنف : أن شعيبا كان أكثر الأنبياء صلاة وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } قال : نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم فقالوا : إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء إن شئنا قطعناها وإن شئنا أحرقناها وإن شئنا طرحناها وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب نحوه وأخرجا عن زيد بن أسلم نحوه أيضا وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن المنذر وأبو الشيخ وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب نحوه أيضا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إنك لأنت الحليم الرشيد } قال : يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : استهزاء به وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { ورزقني منه رزقا حسنا } قال : الحلال وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } قال : يقول لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركبه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وإليه أنيب } قال : إليه أرجع وأخرج أبو نعيم في الحلية [ عن علي قال : قال يا رسول الله أوصني قال : قل الله ربي ثم استقم قلت : ربي الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب قال : ليهنك العلم أبا الحسن لقد شرب العلم شربا ونهلته نهلا ] وفي إسناده محمد بن يوسف الكديمي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة { لا يجرمنكم شقاقي } لا يحملنكم فراقي وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : شقاقي عداوتي وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال : لا تحملنكم عداوتي وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله : { وما قوم لوط منكم ببعيد } قال : إنما كانوا حديثي عهد قريب بعد نوح وثمود وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن سعيد بن جبير { وإنا لنراك فينا ضعيفا } قال : كان أعمى وإنما عمي من بكائه من حب الله عز و جل وأخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بكى شعيب عليه السلام من حب الله حتى عمي ] وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس في قوله : { وإنا لنراك فينا ضعيفا } قال : كان ضرير البصر وأخرج أبو الشيخ عن أبي صالح مثله وأخرج أبو الشيخ عن سفيان في قوله : { وإنا لنراك فينا ضعيفا } قال : كان أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء وأخرج أبو الشيخ عن السدي قال : معناه إنما أنت واحد وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب { وإنا لنراك فينا ضعيفا } قال : كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف { ولولا رهطك لرجمناك } قال علي : فوالله الذي لا إله إلا غيره ما هابوا جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال في الآية : لا تخافونه وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : تهاونتم به (2/753)
المراد بالآيات التوراة والسلطان المبين : المعزات وقيل : المراد بالآيات هي التسع المذكورة في غير هذا الموضع والسلطان المبين : العصا وهي وإن كانت من التسع لكنها لما كانت أبهرها أفردت بالذكر وقيل : المراد بالآيات ما يفيد الظن والسلطان المبين ما يفيد القطع بما جاء به موسى وقيل : هما جميعا عبارة عن شيء واحد : أي أرسلناه بما يجمع وصف كونه آية وكونه سلطانا مبينا وقيل : إن السلطان المبين : ما أورده موسى على فرعون في المحاورة بينهما (2/755)
97 - { إلى فرعون وملئه } أي أرسلناه بذلك إلى هؤلاء وقد تقدم أن الملأ أشراف القوم وإنما خصهم بالذكر دون سائر القوم لأنهم أتباع لهم في الإصدار والإيراد وخص هؤلاء الملأ دون فرعون بقوله : { فاتبعوا أمر فرعون } على أمرهم لهم بالكفر لأن حال فرعون في الكفر أمر واضح إذ كفر قومه من الأشراف وغيرهم إنما هو مستند إلى كفره ويجوز أن يراد بأمر فرعون شأنه وطريقته فيعم الكفر وغيره { وما أمر فرعون برشيد } أي ليس فيه رشد قط بل هو غي وضلال والرشيد بمعنى المرشد والإسناد مجازي أو بمعنى ذي رشد وفيه تعريض بأن الرشد في أمر موسى (2/755)
98 - { يقدم قومه يوم القيامة } من قدمه بمعنى تقدمه : أي يصير متقدما لهم يوم القيامة سابقا إلى عذاب النار كما كان يتقدمهم في الدنيا { فأوردهم النار } أي إنه لا يزال متقدما لهم وهم يتبعونه حتى يوردهم النار وعبر بالماضي تنبيها على تحقق وقوعه ثم ذم الورد الذي أوردهم إليه فقال : { وبئس الورد المورود } لأن الوارد إلى الماء الذي يقول له الورد إنما يرده ليطفئ حر العطش ويذهب ظمأه والنار على ضد ذلك (2/756)
ثم ذمهم بعد ذم المكان الذي يردونه فقال : 99 - { وأتبعوا في هذه لعنة } أي أتبع قوم فرعون مطلقا أو الملأ خاصة أو هم وفرعون في هذه الدنيا لعنة عظيمة : أي طردا وإبعادا { ويوم القيامة } أي وأتبعوا لعنة يوم القيامة يلعنهم أهل المحشر جميعا ثم إنه جعل اللعنة رفدا لهم على طريقة التهكم فقال : { بئس الرفد المرفود } قال الكسائي وأبو عبيدة : رفدته أرفده رفدا : أمنته وأعطيته واسم العطية الرفد : أي بئس العطاء والإعانة ما أعطوهم إياه وأعانوهم به والمخصوص بالذم محذوف : أي رفدهم وهو اللعنة التي أتبعوها في الدنيا والآخرة كأنها لعنة بعد لعنة تمد الأخرى الأولى وتؤبدها وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد بالفتح : القدح وبالكسر : ما فيه من الشراب فكأنه ذم ما يستقونه في النار وهذا أنسب بالمقام وقيل : إن الرفد الزيادة : أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق وهو الزيادة قاله الكلبي (2/756)
والإشارة بقوله : 100 - { ذلك من أنباء القرى نقصه عليك } أي ما قصه الله سبحانه في هذه السورة من أخبار الأمم السالفة وما فعلوه مع أنبيائهم : أي هو مقصوص عليك خبر بعد خبر وقد تقدم تحقيق معنى القصص والضمير في منها عائد إلى القرى : أي من القرى قائم ومنها حصيد والقائم : ما كان قائما على عروشه والحصيد : ما لا أثر له وقيل : القائم : العامر والحصيد : الخراب وقيل : القائم : القرى الخاوية عن عروشها والحصيد : المستأصل بمعنى محصود شبه القرى بالزرع القائم على ساقه والمقطوع قال الشاعر :
( والناس في قسم المنية بينهم ... كالزرع منه قائم وحصيد ) (2/756)
101 - { وما ظلمناهم } بما فعلنا بهم من العذاب { ولكن ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي { فما أغنت عنهم آلهتهم } أي فما دفعت عنهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله شيئا من العذاب { لما جاء أمر ربك } أي لما جاء عذابه { وما زادوهم غير تتبيب } : الهلاك والخسران : أي ما زدتهم الأصنام التي يعبدونها إلا هلاكا وخسرانا وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع (2/756)
102 - { وكذلك أخذ ربك } قرأ الجحدري وطلحة بن مصرف أخذ على أنه فعل وقرأ غيرهما أخذ على المصدر { إذا أخذ القرى وهي ظالمة } أي أهلها وهم ظالمون { إن أخذه } أي عقوبته للكافرين { أليم شديد } أي موجع غليظ (2/756)
103 - { إن في ذلك لآية } أي في أخذ الله سبحانه لأهل القرى أو في القصص الذي قصه على رسوله لعبرة وموعظة { لمن خاف عذاب الآخرة } لأنهم الذين يعتبرون بالعبر ويتعظون بالمواعظ والإشارة بقوله : { ذلك يوم مجموع له الناس } إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة أن يجمع فيه الناس للمحاسبة والمجازاة { وذلك } أي يوم القيامة { يوم مشهود } أي يشهده أهل المحشر أو مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول (2/756)
104 - { وما نؤخره إلا لأجل معدود } أي وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء أجل معدود معلوم بالعدد قد عين الله سبحانه وقوع الجزاء بعده (2/757)
105 - { يوم يأت } قرأ أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الدرج وحذفها في الوقف وقرأ أبي وابن مسعود بإثباتها وصلا ووقفا وقرأ الأعمش بحذفها فيهما ووجه حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي أن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذفت الياء كما تحذف الضمة ووجه قراءة من قرأ بحذف الياء مع الوصل أنهم رأوا رسم المصحف كذلك وحكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول لا أدر فتحذف الياء وتجترئ بالكسر وأنشد الفراء في حذف الياء :
( كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما )
قال الزجاج : والأجود في النحو إثبات الياء والمعنى : حين يأتي يوم القيامة { لا تكلم نفس } أي لا تتكلم حذفت إحدى التاءين تخفيفا : أي لا تتكلم فيه نفس إلا بما أذن لها من الكلام وقيل : لا تكلم بحجة ولا شفاعة { إلا بإذنه } سبحانه لها في التكلم بذلك وقد جمع بين هذا وبين قوله : { هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون } باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة وقد تكرر مثل هذا الجمع في مواضع { فمنهم شقي وسعيد } أي من الأنفس شقي ومنهم سعيد فالشقي من كتبت عليه الشقاوة والسعيد من كتبت له السعادة وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام تحذير (2/757)
106 - { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } أي فأما الذي سبقت لهم الشقاوة فمستقرون في النار لهم فيها زفير وشهيق قال الزجاج : الزفير من شدة الأنين وهو المرتفع جدا قال : وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير والشهيق بمنزلة آخره وقيل الزفير : الصوت الشديد والشهيق : الصوت الضعيف وقيل الزفير : إخراج النفس والشهيق : رد النفس وقيل الزفير من الصدر والشهيق من الحلق وقيل الزفير : ترديد النفس من شدة الخوف والشهيق : النفس الطويل الممتد والجملة إما مستأنفة كأ ه قيل ما حالهم فيها ؟ أو في محل نصب على الحال (2/757)
107 - { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } أي مدة دوامهما
وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأبيد عذاب الكفار في النار وعدم انقطاعه عنهم وثبت أيضا أن السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا فقالت طائفة : إن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء قال : هو دائم ما دامت السموات والأرض ومنه قوله : لا آتيك ما جن ليل وما اختلف الليل والنهار وما ناح الحمام ونحو ذلك فيكون معنى الآية : أنهم خالدون فيها أبدا لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له وقيل : إن المراد سموات الآخرة وأرضها فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سموات وأرضا غير هذه الموجودة في الدنيا وهي دائمة بدوام دار الآخرة وأيضا لا بد لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم وهما أرض وسماء قوله : { إلا ما شاء ربك } قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال : الأول : أنه من قوله : { ففي النار } كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك روى هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري الثاني : أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين وأنهم يخرجون بعد مدة من النار وعلى هذا يكون قوله سبحانه : { فأما الذين شقوا } عاما في الكفرة والعصاة ويكون الاستثناء من خالدين وتكون ما بمعنى من وبهذا قال قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواترا يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد فكان ذلك مخصصا لكل عموم الثالث : أن الاستثناء من الزفير والشهيق : أي لهم فيها زفير وشهيق { إلا ما شاء ربك } من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق قاله ابن الأنباري الرابع : أن معنى الاستثناء : أنهم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض لا يموتون إلا ما شاء ربك فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا ثم يجدد الله خلقهم روي ذلك عن ابن مسعود الخامس : أن إلا بمعنى سوى والمعنى ما دامت السموات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج السادس : ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك : والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا المدة التي شاء الله فالمشيئة قد حصلت جزما وقد حكى هذا القول الزجاج أيضا السابع : أن المعنى : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبورهم وللحساب حكاه الزجاج أيضا الثامن : أن المعنى : خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم حكاه أيضا الزجاج واختاره الحكيم الترمذي التاسع : أن إلا بمعنى الواو قاله الفراء والمعنى وما شاء ربك من الزيادة قال مكي : وهذا القول بعيد عند البصريين أن تكون إلا بمعنى الواو العاشر : أن إلا بمعنى الكاف والتقدير : كما شاء ربك ومنه قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } أي كما قد سلف الحادي عشر : أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام فهو على حد قوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } روي نحو هذا عن أبي عبيد وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم وقد نوقش بعضها بمناقشات ودفعت بدفوعات وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة جمعتها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام (2/758)
108 - { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي { سعدوا } بضم السين وقرأ الباقون بفتح السين واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم قال سيبويه : لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان لكونه مما لا يتعدى قال النحاس : ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي بضم السين مع علمه بالعربية وهذا لحن لا يجوز ومعنى الآية كما مر في قوله : { فأما الذين شقوا } قوله : { إلا ما شاء ربك } قد عرف من الأقوال المتقدمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه { عطاء غير مجذوذ } أي يعطيهم الله عطاء غير مجذوذ والمجذوذ : المقطوع من جذه يجذه إذا قطعه والمعنى : أنه ممتد إلى غير نهاية
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { يقدم قومه يوم القيامة } يقول : أضلهم فأوردهم النار وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : فرعون يمضي بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فأوردهم النار } قال : الورود الدخول وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بئس الرفد المرفود } قال : لعنة الدنيا والآخرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { منها قائم وحصيد } يعني قرى عامرة وقرى خامدة وأخرج أبو الشيخ عن قتادة : منها قائم يرى مكانه وحصيد لا يرى له أثر وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج : منها قائم خاو على عروشه وحصيد ملصق بالأرض وأخرج أبو الشيخ عن أبي عاصم { فما أغنت عنهم } قال : ما نفعت وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عمر في قوله : { وما زادوهم غير تتبيب } أي هلكة وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال : تخسير وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة معناه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله سبحانه
وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } ] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة } يقول : إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } قال : يوم القيامة وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد مثله وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { يوم يأت } قال : ذلك اليوم وأخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : [ لما نزلت { فمنهم شقي وسعيد } قلت : يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه ؟ قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : هاتان من المخبآت قول الله : { فمنهم شقي وسعيد } و { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا } أما قوله : { فمنهم شقي وسعيد } فهم قوم من أهل الكتاب من أهل هذه القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم ثم يأذن في الشفاعة لهم فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة فسماهم أشقياء حين عذبهم في النار { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } حين أذن في الشفاعة لهم وأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة وهم هم { وأما الذين سعدوا } يعني بعد الشقاء الذي كانوا فيه { ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } يعني الذين كانوا في النار وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قتادة أنه تلا هذه الآية : { فأما الذين شقوا } فقال : حدثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال أهل حروراء : إن من دخلها بقي فيها ] وأخرج ابن مردويه عن جابر قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { فأما الذين شقوا } إلى قوله : { إلا ما شاء ربك } قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن خالد بن معدان في قوله : { إلا ما شاء ربك } قال : إنها في التوحيد من أهل القبلة وأخرج عبد الرزاق وابن الضريس
وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله أو عن أبي سعيد الخدري أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { إلا ما شاء ربك } قال : هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن أبي نضرة قال : ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية { إن ربك فعال لما يريد } وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ما دامت السموات والأرض } قال : لكل جنة سماء وأرض وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن نحوه أيضا وأخرج البيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله : { إلا ما شاء ربك } قال : فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار وأن يخلد هؤلاء في الجنة وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { إلا ما شاء ربك } قال : استثنى الله من النار أن تأكلهم وأخرج أبو الشيخ عن السدي في الآية قال : فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها فأنزل بالمدينة : { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا } إلى آخر الآية فذهب الرجاء لأهل النار أن
يخرجوا منها وأوجب لهم خلود الأبد وقوله : { وأما الذين سعدوا } الآية قال : فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها فأنزل بالمدينة { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات } إلى قوله : { ظلا ظليلا } فأوجب لهم خلود الأبد وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه وأخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال : سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ : { فأما الذين شقوا } الآية وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال : ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } قال : وقال ابن مسعود : ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { إلا ما شاء ربك } قال : الله أعلم بتثنيته على ما وقعت وقد روي عن جماعة من السلف مثل ما ذكره عمر وأبو هريرة وابن مسعود كابن عباس وعبد الله بن عمر وجابر وأبي سعيد من الصحابة وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما من التابعين
وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي وإسناده ضعيف ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة وفي السكوت عنه غنى فقال : ولا يخدعنك قول المجبرة إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روي لهم بعض الثوابت عن ابن عمرو : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ثم قال : وأقول ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث انتهى
وأقول : أما الطعن علىمن قال بخروج أهل الكبائر من النار فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة وكما صح عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر فما لك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة وأي مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم فلا مناداة ولا مخالفة وأي مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة فالاستثناء الأول يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من خروج العصاة من هذه الأمة من النار والاستثناء الثاني يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم وذلك لتأخر خلودهم إليها مقدار المدة التي لبثوا فيها في النار وقد قال بهذا من أهل العلم من قدمنا ذكره وبه قال ابن عباس حبر الأمة وأما الطعن على صاحب رسول الله وحافظ سنته وعابد الصحابة عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فإلى أين يا محمود أتدري ما صنعت وفي أي واد وقعت
وعلى أي جنب سقطت ؟ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان وتتناول نحوم السماء بيديك القصيرة ورجلك العرجاء أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري فيا لله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه (2/759)
لما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة وبيان حال السعداء والأشقياء سلى رسوله صلى الله عليه و سلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي له عن الامتراء في أن ما يعبدونه غير نافع ولا ضار ولا تأثير له في شيء وحذف النون في لا تك لكثرة الاستعمال والمرية : الشك والإشارة بهؤلاء إلى كفار عصره صلى الله عليه و سلم وقيل المعنى : لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء وقيل : لا تك في شك من سوء عاقبتهم ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني وهذا النهي له صلى الله عليه و سلم هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك فإنه صلى الله عليه و سلم لا يشك في ذلك أبدا ثم بين له سبحانه أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم أو أن عبادتهم كعبادة آبائهم من قبل وفي هذا استثناء تعليل للنهي عن الشك والمعنى : أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك وجاء بالمضارع في كما يعبد آباؤهم لاستحضار الصورة ثم بين له أنه مجازيهم بأعمالهم فقال : { وإنا لموفوهم نصيبهم } من العذاب كما وفينا آباءهم لا ينقص من ذلك شيء وانتصاب غير الحال والتوفية لا تستلزم عدم النقص فقد يجوز أن يوفى وهو ناقص كما يجوز أن يوفى وهو كامل وقيل : المراد نصيبهم من الرزق وقيل : ما هو أعم من الخير والشر (2/763)
110 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة { فاختلف فيه } أي في شأنه وتفاصيل أحكامه فآمن به قوم وكفر به آخرون وعمل بأحكامه قوم وترك العمل ببعضها آخرون فلا يضق صدرك يا محمد بما وقع من هؤلاء في القرآن { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم } أي لولا أن الله سبحانه قد حكم بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح لقضي بينهم : أي بين قومك أو بين قوم موسى فيما كانوا فيه مختلفين فأثيب المحق وأعذب المبطل أو الكلمة هي أن رحمته سبحانه سبقت غضبه فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك وقيل : إن الكلمة هي أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال وهذا من جملة التسلية له صلى الله عليه و سلم ثم وصفهم بأنهم في شك من الكتاب فقال : { وإنهم لفي شك منه مريب } أي من القرآن إن حمل على قوم محمد صلى الله عليه و سلم أو من التوراة إن حمل على قوم موسى عليه السلام والمريب : الموقع في الريبة (2/763)
ثم جمع الأولين والآخرين في حكم توفية العذاب لهم أو هو والثواب فقال : 111 - { وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم } قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر وإن بالتخفيف على أنها إن المخففة من الثقيلة وعملت في كلا النصب وقد جوز عملها الخليل وسيبويه وقد جوز البصريون تخفيف إن مع إعمالها وأنكر ذلك الكسائي وقال : ما أدري على أي شيء قرئ وإن كلا ؟ وزعم الفراء أن انتصاب كلا بقوله ليوفينهم والتقدير وإن ليوفينهم كلا وأنكر ذلك عليه جميع النحويين وقرأ الباقون بتشديد إن ونصبوا بها كلا وعلى كلا القراءتين فالتنوين في كلا عوض عن المضاف إليه : أي وإن كل المختلفين وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر { لما } بالتشديد وخففها الباقون قال الزجاج : لام لما لام إن وما زائدة مؤكدة وقال الفراء : ما بمعنى من كقوله : { وإن منكم لمن ليبطئن } أي وإن كلا لمن ليوفينهم وقيل : ليست بزائدة بل هي اسم دخلت عليها لام التوكيد والتقدير : وإن كلا لمن خلق قيل وهي مركبة وأصلها لمن ما فقلبت النون ميما واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى حكى ذلك النحاس عن النحويين وزيف الزجاج هذا وقال : من اسم على حرفين فلا يجوز حذف النون وذهب بعض النحويين إلى أ لما هذه بمعنى إلا ومنه قوله تعالى : { إن كل نفس لما عليها حافظ } وقال المازني : الأصل لما المخففة ثم ثقلت قال الزجاج : وهذا خطأ إنما يخفف المثقل ولا يثقل المخفف وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : يجوز أن يكون التشديد من قولهم لممت الشيء ألمه : إذا جمعته ثم بنى منه فعلى كما قرئ : { ثم أرسلنا رسلنا تترا } وأحسن هذه الأقوال أنها بمعنى إلا الاستثنائية وقد روى ذلك عن الخليل وسيبويه وجميع البصريين ورجحه الزجاج ويؤيده أن في حرف ابي وإن كلا إلا ليوفينهم كما حكاه أبو حاتم عنه وقرئ بالتنوين : أي جميعا وقرأ الأعمش وإن كل لما بتخفيف إن ورفع كل وتشديد لما وتكون إن على هذه القراءة نافية { إنه بما يعملون } أيها المختلفون { خبير } لا يخفى عليه منه شيء والجملة تعليل فلما قبلها (2/764)
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه فقال : 112 - { فاستقم كما أمرت } أي كما أمرك الله فيدخل في ذلك جميع ما أمره به وجميع ما نهاه عنه لأنه قد أمره بتجنب ما نهاه عنه كما أمره بفعل ما تعبده بفعله وأمته أسوته في ذلك ولهذا قال : { ومن تاب معك } أي رجع من الكفر إلى الإسلام وشاركك في الإيمان وهو معطوف على الضمير في فاستقم لأن الفصل بين المعطوف والضمير المرفوع المعطوف عليه يقوم مقام التأكيد : أي وليستقم من تاب معك وما أعظم موقع هذه الآية وأشد أمرها فإن الاستنقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهرة والذوات المقدسة ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه و سلم : [ شيبتني هود ] كما تقدم { ولا تطغوا } الطغيان مجاوزة الحد لما أمر الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بين أن الغلو في العبادة والإفراط في الطاعة على وجه تخرج به عن الحد الذي حده والمقدار الذي قدره ممنوع منه منهي عنه وذلك كمن يصوم ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام ويترك الحلال الذي أذن الله به ورغب فيه ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح : [ أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم ولأمته تغليبا لحالهم على حاله أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة { إنه بما تعملون بصير } يجازيكم على حسب ما تستحقون والجملة تعليل لما قبلها (2/764)
قوله : 113 - { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } قرأ الجمهور بفتح الكاف وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما { تركنوا } بضم الكاف قال الفراء : وهي لغة تميم وقيس قال أبو عمرو : وقراءة الجمهور هي لغة أهل الحجاز قال : ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم وقرأ ابن أبي عبلة بضم التاء وفتح الكاف على البناء للمفعول من أركنه قال في الصحاح : ركن إليه يركن بالضم وحكى أبو زيد ركن إليه بالكسر يركن ركونا فيهما : أي مال إليه وسكن قال الله تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } وأما ما حكى أبو زيد ركن يركن بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين انتهى وقال في شمس العلوم : الركون السكون يقال : ركن إليه ركونا قال الله تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } انتهى وقال في القاموس : ركن إليه كنصر وعلم ومنع ركونا : مال وسكن انتهى فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما قيده به صاحب الكشاف حيث قال : فإن الركون هو الميل اليسير وهكذا فسره المفسرون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيودا لم يذكرها أئمة اللغة قال القرطبي في تفسيره : الركون حقيقته الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخص من معناه اللغوي فروي عن قتادة وعكرمة في تفسير الآية أن معناها : لا تودوهم ولا تطيعوهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية : الركون هنا الإدهان وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم وقال أبو العالية : معناه لا ترضوا أعمالهم
وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة ؟ فقيل خاصة وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين وأنهم المرادون بالذين ظلموا وقد روي ذلك عن ابن عباس وقيل : إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم وهذا هو الظاهر من الآية ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإن قلت : وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثبوتا لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح : أطيعوا السلطان وإن كان عبدا حبشيا رأسه كالزبيبة وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة وما لم يظهر منهم الكفر البواح وما لم يأمروا بمعصية الله وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله ومن جملة ما يأمرون به الجهاد وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم وإقامة الحدود على من وجبت عليه وبالجملة فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله ولا بد في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم ونحو ذلك مما لا بد منه ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة لتواتر الأدلة الواردة بل قد ورد به الكتاب العزيز : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا كما في بعض الأحاديث الصحيحة : [ أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم ] بل ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي صلى الله عليه و سلم حتى قال : [ وإن أخذ مالك وضرب ظهرك ] فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهرا وباطنا فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر لأمر يقتضي ذلك شرعا كالطاعة أو للتقية ومخافة الضرر منهم أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضا بأفعالهم قلت : أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها حيث لم تكن في معصية الله فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدمنا الإشارة إليها ولا شك في هذا ولا ريب فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم مما لم يكن من معصية الله كالمناصب الدينية ونحوها إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه فذلك واجب عليه فضلا عن أن يقال جائز له وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين والأمراء جمعا بين الأدلة أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة مع كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ولا تخفى على الله خافية وبالجملة فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان الشرع فإن زاع عن ذلك فعلى نفسها براقش تجني ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى له والأليق به
يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم وقونا على ذلك ويسره لنا وأعنا عليه قال القرطبي في تفسيره : وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار انتهى وقال النيسابوري في تفسيره : قال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون قال : وأقول هذا من طريق المعاش والرخصة ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية { أليس الله بكاف عبده } انتهى
قوله : { فتمسكم النار } بسبب الركون إليهم وفيه إشارة إلى أن الظلمة أهل النار أو كالنار ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار وجملة { وما لكم من دون الله من أولياء } في محل نصب على الحال من قوله : فتمسكم النار والمعنى : أنها تمسكم النار حال عدم وجود من ينصركم وينقذكم منها { ثم لا تنصرون } من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في علمه أنه يعذبكم بسبب الركون الذي نهيتم عنه فلم تنتهوا عنادا وتمردا (2/765)
قوله : 114 - { وأقم الصلاة طرفي النهار } لما ذكر الله سبحانه الاستقامة خص من أنواعها إقامة الصلاة لكونها رأس الإيمان وانتصاب طرفي النهار على الظرفية والمراد صلاة الغداة والعشي وهما الفجر والعصر وقيل الظهر موضع العصر وقيل الطرفان الصبح والمغرب وقيل هما الظهر والعصر ورجح ابن جرير أنهما الصبح والمغرب قال : والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح فدل على أن الطرف الآخر المغرب { وزلفا من الليل } أي في زلف من الليل والزلف : الساعات القريبة بعضها من بعض ومنه سميت المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة وقرأ ابن القعقاع وأبو إسحاق وغيرهما { زلفا } بضم اللام جمع زليف ويجوز أن يكون واحده زلفة وقرأ ابن محيصن بإسكان اللام وقرأ مجاهد نفي مثل فعلي وقرأ الباقون زلفا بفتح اللام كغرفة وغرف قال ابن الأعرابي : الزلف الساعات واحدتها زلفة وقال قوم : الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس قال الأخفش : معنى زلفا من الليل : صلاة الليل { إن الحسنات يذهبن السيئات } أي إن الحسنات على العموم ومن جملتها بل عمادها الصلاة يذهبن السيئات على العموم وقيل : المراد بالسيئات : الصغائر ومعنى يذهبن السيئات : يكفرنها حتى كأنها لم تكن والإشارة بقوله : { ذلك ذكرى للذاكرين } إلى قوله : { فاستقم } وما بعده وقيل : إلى القرآن ذكرى للذاكرين : أي موعظة للمتعظين (2/768)
115 - { واصبر } على ما أمرت به من الاستقامة وعدم الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وقيل : إن المراد الصبر على ما أمر به دون ما نهى عنه لأنه لا مشقة في اجتنابه وفيه نظر فإن المشقة في اجتناب المنهي عنه كائنة وعلى فرض كونها دون مشقة امتثال الأمر فذلك لا يخرجها عن مطلق المشقة { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } أي يوفيهم أجورهم ولا يضيع منها شيئا فلا يهمله ولا يبخسه بنقص
وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } قال : ما قدر لهم من خير أو شر وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال : من العذاب وأخرجا عن أبي العالية قال من الرزق وأخرجا أيضا عن قتادة في قوله : { فاستقم كما أمرت } قال : أمر الله نبيه أن يستقيم على أمره ولا يطغى في نعمته وأخرج أبو الشيخ عن سفيان في الآية قال : استقم على القرآن وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية { فاستقم كما أمرت } قال : شمروا شمروا فما رؤي ضاحكا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج { ومن تاب معك } قال : آمن وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن العلاء بن عبد الله بن بدر في قوله : { ولا تطغوا } قال : لم يرد أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إنما عنى الذين يجيئون من بعدهم وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { ولا تطغوا } يقول : لا تظلموا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : الطغيان : خلاف أمره وارتكاب معصيته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } قال : يعني الركون إلى الشرك وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه { ولا تركنوا } قال : لا تميلوا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : { ولا تركنوا } لا تدهنوا وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : أن تطيعوهم أو تودوهم أو تصطنعوهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار } قال : صلاة المغرب والغداة { وزلفا من الليل } قال : صلاة العتمة وأخرجا عن الحسن قال : الفجر والعصر { وزلفا من الليل } قال : هما زلفتان : صلاة المغرب وصلاة العشاء قال : وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هما زلفتا الليل ] وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الطرفين قال : صلاة الفجر وصلاتي العشي : يعني الظهر والعصر { وزلفا من الليل } قال : المغرب والعشاء وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وزلفا من الليل } قال : ساعة بعد ساعة يعني صلاة العشاء الآخرة وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يستحب تأخير العشاء ويقرأ زلفا من الليل وأخرج ابن جرير ومحمد بن نصر وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } قال : الصلوات الخمس وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة ومحمد بن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { إن الحسنات يذهبن السيئات } قال : الصلوات الخمس والباقيات الصالحات : الصلوات الخمس وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له كأنه يسأل عن كفارتها فأنزلت عليه : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } فقال الرجل : يا رسول الله ألي هذه ؟ قال : هي لمن عمل بها من أمتي وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن أبي أمامة [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أقم في حد الله مرة أو مرتين فأعرض عنه ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ قال : أين الرجل ؟ قال : أنا ذا قال : أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا ؟ قال : نعم قال : فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد وأنزل الله حينئذ على رسوله { وأقم الصلاة طرفي النهار } ] وفي الباب أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة ووردت أحاديث أيضا : [ إن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ] وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { ذلك ذكرى للذاكرين } قال : هم الذين يذكرون الله في السراء والضراء والشدة والرخاء والعافية والبلاء وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : لما نزع الذي قبل المرأة تذكر فذلك قوله : { ذكرى للذاكرين } (2/768)
هذا عود إلى أحوال الأمم الخالية لبيان أن سبب حلول عذاب الاستئصال بهم أنه ما كان فيهم من ينهى عن الفساد ويأمر بالرشاد قال : 116 - { فلولا } أي فهلا { كان من القرون } الكائنة { من قبلكم أولو بقية } من الرأي والعقل والدين { ينهون } قومهم { عن الفساد في الأرض } ويمنعونهم من ذلك لكونهم ممن جمع الله له بين جودة العقل وقوة الدين وفي هذا من التوبيخ للكفار ما لا يخفى والبقية في الأصل لما يستبقيه الرجل مما يخرجه وهو لا يستبقي إلا أجوده وأفضله فصار لفظ البقية مثلا في الجودة والاستثناء في { إلا قليلا } منقطع : أي لكن قليلا { ممن أنجينا منهم } ينهون عن الفساد في الأرض وقيل : هو متصل لأن في حرف التحضيض معنى النفي فكأنه قال : ما كان في القرون أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ومن في ممن أنجينا بيانية لأنه لم ينج إلا الناهون قيل : هؤلاء القليل هم قوم يونس لقوله فيما مر : { إلا قوم يونس } وقيل : هم أتباع الأنبياء وأهل الحق من الأمم على العموم { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } معطوف على مقدر يقتضيه الكلام تقديره : غلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد والمعنى : أنه اتبع الذين ظلموا بسبب مباشرتهم الفساد وتركهم للنهي عنه ما أترفوا فيه والمترف : الذي أبطرته النعمة يقال : صبي مترف : منعم البدن أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مترفين من خصب العيش ورفاهية الحال وسعة الرزق وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة واستغرقوا أعمارهم في الشهوات النفسانية وقيل : المراد بالذين ظلموا تاركو النهي ورد بأنه يستلزم خروج مباشري الفساد عن الذين ظلموا وهم أشد ظلما ممن لم يباشر وكان ذنبه ترك النهي وقرأ أبو عمرو في رواية عنه : وأتبع الذين ظلموا على البناء للمفعول ومعناه : اتبعوا جزاء ما أترفوا فيه وجملة { وكانوا مجرمين } متضمنة لبيان سبب إهلاكهم وهي معطوفة على أترفوا : أي وكان هؤلاء الذين أتبعوا ما أترفوا فيه مجرمين والإجرام : الأثام والمعنى : إنهم أهل إجرام بسبب اتباعهم الشهوات واشتغالهم بها عن الأمور التي يحق الاشتغال بها ويجوز أن تكون جملة { وكانوا مجرمين } معطوفة على واتبع الذين ظلموا : أي اتبعوا شهواتهم وكانوا بذلك الاتباع مجرمين (2/770)
117 - { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } أي ما صح ولا استقام أن يهلك الله سبحانه أهل القرى بظلم يتلبسون به وهو الشرك والحال أن أهلها مصلحون فيما بينهم في تعاطي الحقوق لا يظلمون الناس شيئا والمعنى : أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك وحده حتى ينضم إليه الفساد في الأرض كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء وقيل : إن قوله : { بظلم } حال من الفاعل والمعنى : وما كان الله ليهلك القرى ظالما لهم حال كونهم مصلحين غير مفسدين في الأرض ويكون المراد بالآية تنزيهه سبحانه وتعالى عن صدور ذلك منه بلا سبب يوجبه على تصوير ذلك بصورة ما يستحيل منه وإلا فكل أفعاله كائنة ما كانت لا ظلم فيها فإنه سبحانه ليس بظلام للعبيد قال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى : وما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح لأن تصرفه في ملكه دليله قوله تعالى : { إن الله لا يظلم الناس شيئا } وقيل المعنى : وما كان ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون : أي مخلصون في الإيمان فالظلم المعاصي على هذا (2/771)
118 - { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } أي أهل دين واحد إما أهل ضلالة أو أهل هدى وقيل معناه : جعلهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن ولهذا قال : { ولا يزالون مختلفين } في ذات بينهم على أديان شتى أو لا يزالون مختلفين في الحق أو دين الإسلام وقيل : مختلفين في الرزق : فهذا غني وهذا فقير (2/772)
119 - { إلا من رحم ربك } بالهداية إلى الدين الحق فإنهم لم يختلفوا أو إلا من رحم ربك من المختلفين في الحق أو دين الإسلام بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله وهو الحق الذي لا حق غيره أو إلا من رحم ربك بالقناعة والأولى : تفسير { لجعل الناس أمة واحدة } بالمجتمعة على الحق حتى يكون معنى الاستثناء في { إلا من رحم ربك } واضحا غير محتاج إلى تكلف { ولذلك } أي لما ذكر من الاختلاف { خلقهم } أو ولرحمته خلقهم وصح تذكير الإشارة إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقي والضمير في خلقهم راجع إلى الناس أو إلى من في من رحم ربك وقيل : الإشارة بذلك إلى مجموع الاختلاف والرحمة ولا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله : { عوان بين ذلك } { وابتغ بين ذلك سبيلا } { فبذلك فليفرحوا } قوله : { وتمت كلمة ربك } معنى تمت ثبتت كما قدره في أزله وإذا تمت امتنعت من التغيير والتبديل وقيل الكلمة هي قوله : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } أي ممن يستحقها من الطائفتين (2/772)
والتنوين في { وكلا } للتعويض عن المضاف إليه وهو منصوب بنقص والمعنى : وكل نبإ من أنباء الرسل مما يحتاج إليه نقص عليك : أي نخبرك به وقال الأخفش { كلا } حال مقدمة كقولك : كلا ضربت القوم والأنباء الأخبار { ما نثبت به فؤادك } أي ما نجعل به فؤادك مثبتا بزيادة يقينه بما قصصناه عليك ووفور طمأنينته لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ في النفس وأقوى للعلم وجملة { ما نثبت } بدل من أنباء الرسل وهو بيان لكلا ويجوز أن يكون { ما نثبت } مفعولا لنقص ويكون كلا مفعولا مطلقا والتقدير : كل أسلوب من أساليب الاقتصاص نقص عليك ما نثبت به فؤادك { وجاءك في هذه الحق } أي جاءك في هذه السورة أو في هذه الأنباء البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والمعاد { وموعظة } يتعظ بها الواقف عليها من المؤمنين { وذكرى } يتذكر بها من تفكر فيها منهم وخص المؤمنين لكونهم المتأهلين للاتعاظ والتذكر وقيل المعنى : وجاءك في هذه الدنيا الحق وهو النبوة وعلى التفسير الأول يكون تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها مع كونه قد جاء في غيرها من السور لقصد بيان اشتمالها على ذلك لا بيان كونه موجودا فيها دون غيرها (2/772)
121 - { وقل للذين لا يؤمنون } بهذا الحق ولا يتعظون ولا يتذكرون { اعملوا على مكانتكم } على تمكنكم وحالكم وجهتكم وقد تقدم تحقيقه { إنا عاملون } على مكانتنا وحالنا وجهتنا من الإيمان بالحق والاتعاظ والتذكر وفي هذا تشديد للوعيد والتهديد لهم (2/773)
وكذلك قوله : 122 - { وانتظروا إنا منتظرون } فيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى والمعنى : انتظروا عاقبة أمرنا فإنا منتظرون عاقبة أمركم وما يحل بكم من عذاب الله وعقوبته (2/773)
123 - { ولله غيب السموات والأرض } أي علم جميع ما هو غائب عن العباد فيهما وخص الغيب من كونه يعلم بما هو مشهود كما يعلم بما هو مغيب لكونه من العلم الذي لا يشاركه فيه غيره وقيل : إن غيب السموات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض والأول أولى وبه قال أبو علي الفارسي وغيره وأضاف الغيب إلى المفعول توسعا { وإليه يرجع الأمر كله } أي يوم القيامة فيجازي كلا بعمله وقرأ نافع وحفص { يرجع } على البناء للمفعول وقرأ الباقون على البناء للفاعل { فاعبده وتوكل عليه } فإنه كافيك كل ما تكره ومعطيك كل ما تحب والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى الله سبحانه { وما ربك بغافل عما تعملون } بل عالم بجميع ذلك ومجاز عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر وقرأ أهل المدينة والشام وحفص { تعملون } بالفوقية على الخطاب وقرأ الباقون بالتحتية
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { فلولا } قال : فهلا وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم : فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية وأحلام ينهون عن الفساد في الأرض وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج { إلا قليلا ممن أنجينا منهم } يستقلهم الله من كل قوم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } قال : في ملكهم وتجبرهم وتركهم الحق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج قال : قال ابن عباس : أترفوا فيه أبطروا فيه وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال : [ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عن تفسير هذه الآية { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وأهلها ينصف بعضهم بعضا ] وأخرجه ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق موقوفا على جرير وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } قال : أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { ولا يزالون مختلفين } قال : أهل الحق وأهل الباطل { إلا من رحم ربك } قال : أهل الحق { ولذلك خلقهم } قال : للرحمة وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه { إلا من رحم ربك } قال : إلا أهل رحمته فإنهم لا يختلفون وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : لا يزالون مختلفين في الأهواء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء بن أبي رباح { ولا يزالون مختلفين } أي اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية وهم الذين رحم ربك الحنيفية وأخرج هؤلاء عن الحسن في الآية قال : الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك فمن رحم ربك غير مختلف { ولذلك خلقهم } قال : للاختلاف وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد { ولا يزالون مختلفين } قال : أهل الباطل { إلا من رحم ربك } قال : أهل الحق { ولذلك خلقهم } قال : للرحمة وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة نحوه وأخرجا عن الحسن قال : لا يزالون مختلفين في الرزق وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ولذلك خلقهم قال : خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف وفريقا لا يرحم يختلف فذلك قوله : { فمنهم شقي وسعيد } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } لتعلم يا محمد ما لقيت الرسل قبلك من أممهم وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : { وجاءك في هذه الحق } قال : في هذه السورة وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري مثله وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله أيضا وأخرج أبو الشيخ عن الحسن مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال في هذه الدنيا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة { اعملوا على مكانتكم } أي منازلكم وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } قال : يقول انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزين لكم وفي قوله : { وإليه يرجع الأمر كله } قال : فيقضي بينهم بحكم العدل وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن الضريس في فضائل القرآن وابن جرير وأبو الشيخ عن كعب قال : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمة التوراة خاتمة هود { ولله غيب السموات والأرض } إلى آخر الآية
بحمد الله تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث
وأوله : تفسير سورة يوسف عليه السلام (2/773)
سورة يوسف عليه السلام
قيل هي مائة وإحدى عشرة آية
وهي مكية كلها وقيل نزلت ما بين مكة والمدينة وقت الهجرة وقال ابن عباس في رواية عنه وقتادة : إلا أربع آيات وأخرج النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة يوسف بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وأخرج الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع الزرقي : أنه خرج هو وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة وذكر قصة وفي آخرها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علمهما سورة يوسف و { اقرأ باسم ربك } ثم رجعا وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس [ أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف فقال : يا محمد من علمكها ؟ قال : الله علمنيها فعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم : والله إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا سمعهم إلى قراءته لسورة يوسف فتعجبوا منه وأسلموا عند ذلك ] وأخرج الثعلبي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ علموا أقاربكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما ] وفي إسناده سلام بن سالم ويقال ابن سليم المدائني وهو متروك عن هارون بن كثير قال أبو حاتم : مجهول وقد ذكر له الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم عن هارون بن كثير ومن طريق شبابة عن مجلز بن عبد الواحد البصري عن علي بن زيد بن جدعان وعن عطاء بن ميمون عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب مرفوعا فذكر نحوه وهو منكر من جميع طرقه قال القرطبي : قال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا : لو حدثتنا فنزل قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } قال : قال العلماء : وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر ولا على معارضة غير المتكرر
قوله : 1 - { الر } قد تقدم الكلام فيه في فاتحة سورة يونس والإشارة بقوله : { تلك } إلى آيات السورة والكتاب المبين : السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم والمبين من أبان بمعنى بان : أي الظاهر أمره في كونه من عند الله وفي إعجازه أو المبين بمعنى الواضح المعنى بحيث لا يلتبس على قارئه وسامعه أو المبين لما فيه من الأحكام (3/5)
2 - { إنا أنزلناه } أي الكتاب المبين حال كونه { قرآنا عربيا } فعلى تقدير أن الكتاب السورة تكون تسميتها قرآنا باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل وعلى البعض وعلى تقدير أن المراد بالكتاب كل القرآن فتكون تسميته قرآنا واضحة وعربيا صفة لقرآنا : أي على لغة العرب { لعلكم تعقلون } أي لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه (3/7)
3 - { نحن نقص عليك أحسن القصص } القصص تتبع الشيء ومنه قوله تعالى : { وقالت لأخته قصيه } أي تتبعي أثره وهو مصدر والتقدير : نحن نقص عليك قصصا أحسن القصص فيكون بمعنى الاقتصاص أو هو بمعنى المفعول : أي المقصوص { بما أوحينا إليك } أي بإيحائنا إليك { هذا القرآن } وانتصاب القرآن على أنه صفة لاسم الإشارة أو بدل منه أو عطف بيان وأجاز الزجاج الرفع على تقدير مبتدأ وأجاز الفراء الجر ولعل وجهه أن يقدر حرف الجر في بما أوحينا داخلا على اسم الإشارة فيكون المعنى : نحن نقص عليك أحسن القصص بهذا القرآن { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } إن هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة بينها وبين النافية والضمير في من قبله عائد على الإيحاء المفهوم من أوحينا والمعنى : أنك قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة
واختلف في وجه كون ما في هذه السورة هو أحسن القصص فقيل : لأن ما في هذه السورة من القصص يتضمن من العبر والمواعظ والحكم ما لم يكن في غيرها وقيل لما فيها من حسن المحاورة وما كان من يوسف عليه السلام من الصبر على أذاهم وعفوه عنهم وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والنساء وحيلهن ومكرهن وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وما دار بينهما وقيل إن أحسن هنا بمعنى أعجب وقيل إن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة (3/7)
4 - قوله : { إذ قال يوسف لأبيه } إذ منصوب على الظرفية بفعل مقدر : أي اذكر وقت قال يوسف قرأ الجمهور يوسف بضم السين وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها مع الهمز مكان الواو وحكى ابن زيد الهمز وفتح السين وهو غير منصرف للعجمة والعلمية وقيل هو عربي والأول أولى بدليل عدم صرفه { لأبيه } أي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم { يا أبت } بكسر التاء في قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ونافع وابن كثير وهي عند البصريين علامة التأنيث ولحقت في لفظ أب في النداء خاصة بدلا من الياء وأصله يا أبي وكسرها للدلالة على أنها عوض عن حرف بناسب الكسر وقرأ ابن عامر بفتحها لأن الأصل عنه يا أبتا ولا يجمع بين العوض والمعوض فيقال يا أبتي وأجاز الفراء يا أبت بضم التاء { إني رأيت } من الرؤيا النومية لا من الرؤية البصرية كما يدل عليه { لا تقصص رؤياك على إخوتك } قوله : { أحد عشر كوكبا } قرئ بسكون العين تخفيفا لتوالي الحركات وقرأ بفتحها على الأصل { والشمس والقمر } إنما أخرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة وقيل إن الواو بمعنى مع وجملة { رأيتهم لي ساجدين } مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها وأجريت مجرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصف العقلاء وهو كونها ساجدة كذا قال الخليل وسيبويه والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته (3/7)
5 - { قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك } الرؤيا مصدر رأى في المنام رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى وألفه للتأنيث ولذلك لم يصرف نهى يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على إخوته لأنه قد علم تأويلها وخاف أن يقصها على إخوته فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له ولهذا قال : { فيكيدوا لك كيدا } وهذا جواب النهي وهو منصوب بإضمار أن : أي فيفعلوا لك : أي لأجلك كيدا مثبتا راسخا لا تقدر على الخلوص منه أو كيدا خفيا عن فهمك وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال فيكيدوا كيدا وقيل إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدي باللام فيفيد هذا التضمين معنى الفعلين جميعا الكيد والاحتيال كما هو القاعدة في التضمين أن يقدر أحدهما أصلا والآخر حالا وجملة { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } مستأنفة كأن يوسف عليه السلام قال : كيف يقع منهم فنبهه بأن الشيطان يحملهم على ذلك لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها (3/8)
6 - قوله { وكذلك يجتبيك ربك } أي مثل ذلك الاجتباء البديع الذي رأيته في النوم من سجود الكواكب والشمس والقمر يجتبيك ربك ويحقق فيك تأويل تلك الرؤيا فيجعلك نبيا ويصطفيك على سائر العباد ويسخرهم لك كما تسخرت لك تلك الأجرام التي رأيتها في منامك فصارت ساجدة لك قال النحاس : والاجتباء أصله من جبيت الشيء حصلته ومنه جبيت الماء في الحوض جمعته ومعنى الاجتباء : الاصطفاء وهذا يتضمن الثناء على يوسف وتعديد نعم الله عليه ومنها { ويعلمك من تأويل الأحاديث } أي تأويل الرؤيا قال القرطبي : وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا وقد كان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها وقيل المراد : ويعلمك من تأويل أحاديث الأمم والكتب وقيل المراد به إحواج إخوته إليه وقيل إنجاؤه من كل مكروه وقيل إنجاؤه من القتل خاصة { ويتم نعمته عليك } فيجمع لك بين النبوة والملك كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله أو يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة { وعلى آل يعقوب } وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوة كما قاله جماعة من المفسرين ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم التي من جملتها كون الملك فيهم مع كونهم أنبياء { كما أتمها على أبويك } أي إتماما مثل إتمامها على أبويك : وهي نعمة النبوة عليهما مع كون إبراهيم اتخذه الله خليلا ومع كون اسحاق نجاه الله سبحانه من الذبح وصار لهما الذرية الطيبة : وهم يعقوب ويوسف وسائر الأسباط ومعنى { من قبل } من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه أو من قبلك وإبراهيم وإسحاق عطف بيان لأبويك وعبر عنهما بالأبوين مع كون أحدهما جدا : وهو إبراهيم لأن الجد أب { إن ربك عليم } بكل شيء { حكيم } في كل أفعاله والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها تعليلا له : أي فعل ذلك لأنه عليم حكيم وكان هذا كلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيرا لرؤياه على طريق الإجمال أو علم ذلك من طريق الوحي أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { تلك آيات الكتاب المبين } قال : بين الله حلاله وحرامه وأخرج ابن جرير عن معاذ قال : بين الله [ الحروف ] التي سقطت عن ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف وأخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا قرآنا عربيا ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاما ] وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزل القرآن بلسان قريش وهو كلامهم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت { نحن نقص عليك أحسن القصص } وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مثله وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { نحن نقص عليك أحسن القصص } قال : من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم { وإن كنت من قبله } أي من قبل هذا القرآن { لمن الغافلين } وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك { نحن نقص عليك أحسن القصص } قال : القرآن وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إني رأيت أحد عشر كوكبا } قال : رؤيا الأنبياء وحي وأخرج سعيد بن منصور والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي وابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال : [ جاء بستاني اليهودي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها ؟ فسكت النبي صلى الله عليه و سلم فلم يجبه بشيء فنزل عليه جبريل فأخبره بأسمائها فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى البستاني اليهودي فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها ؟ قال نعم قال : خرثان والطارق والذيال وذوالكتفان وقابس ووثاب وعمودان والفيلق والمصبح والضروح وذو الفرغ والضياء والنور : رآها في أفق السماء ساجدة له فلما قص يوسف على يعقوب قال : هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها ] هكذا ساقه السيوطي في الدر المنثور وأما ابن كثير فجعل قوله : فلما قص إلخ رواية منفردة وقال : تفرد بها الحكم بن ظهيرة الفزاري : وقد ضعفوه وتركه الأكثرون وقال الجوزجاني : ساقط وقال ابن الجوزي : هو موضوع وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { أحد عشر كوكبا } قال : إخوته والشمس قال : أمه والقمر قال : أبوه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه أيضا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس { وكذلك يجتبيك ربك } قال : يصطفيك وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { ويعلمك من تأويل الأحاديث } قال : عبارة الرؤيا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد { ويعلمك من تأويل الأحاديث } قال : تأويل العلم والحلم وكان يوسف من أعبر الناس وأخرج ابن جرير عن عكرمة { كما أتمها على أبويك } قال : فنعمته على إبراهيم : أن نجاه من النار وعلى إسحاق : أن نجاه من الذبح (3/8)
7 - أي { لقد كان } في قصتهم علامات دالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه { للسائلين } من الناس عنها وقرأ أهل مكة آية على التوحيد وقرأ الباقون على الجمع واختار قراءة الجمع أبو عبيد قال النحاس : وآية ها هنا قراءة حسنة وقيل المعنى : لقد كان في يوسف وإخوته آيات دالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم للسائلين له من اليهود فإنه روى أنه قال له جماعة من اليهود وهو بمكة : أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا من يعرف خبر الأنبياء وإنما وجهوا إليه من أهل المدينة من يسأله عن هذا فأنزل الله سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة وقيل معنى { آيات للسائلين } عجب لهم وقيل بصيرة وقيل عبرة قال القرطبي : وأسماؤهم يعني إخوة يوسف : روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهوذا وريالون ويشجر وأمهم ليا بنت ليان وهي بنت خال يعقوب وولد له من سريتين أربعة وهم : دان ونفتالي وجاد وآشر ثم ماتت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين وقال السهيلي : إن أم يوسف اسمها وقفا وراحيل ماتت من نفاس بنيامين وهو أكبر من يوسف (3/11)
8 - { إذ قالوا ليوسف وأخوه } أي وقت قالوا والظرف متعلق بكان { أحب إلى أبينا منا } والمراد بقوله { وأخوه } هو بنيامين وخصوه بكونه أخاه مع أنهم جميعا إخوته لأنه أخوه لأبويه كما تقدم ووحد الخبر فقال : أحب مع تعدد المبتدأ لأن أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرف واللام في ليوسف هي الموطئة للقسم وإنما قالوا هذه لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده وجملة { ونحن عصبة } في محل نصب على الحال والعصبة : الجماعة قيل وهي ما بين الواحد إلى العشرة وقيل إلى الخمسة عشر وقيل من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر والرهط وقد كانوا عشرة { إن أبانا لفي ضلال مبين } أي لفي ذهاب عن وجه التدبير بالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الانتساب إليه ولا يصح أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال مبين (3/11)
9 - { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا } أي قالوا : افعلوا به أحد الأمرين : إما القتل أو الطرح في أرض أو المشير بالقتل بعضه والمشير بالطرح البعض الآخر أو كان المتكلم بذلك واحد منهم فوافقه الباقون فكانوا كالقائل في نسبة هذا المقول إليهم وانتصاب أرضا على الظرفية والتنكير للإبهام : أي أرضا مجهولة وجواب الأمر { يخل لكم وجه أبيكم } أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حبا كاملا { وتكونوا } معطوف على يخل ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن { من بعده } أي من بعد يوسف والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه وقيل من بعد الذنب الذي اقترفوه في يوسف { قوما صالحين } في أمور دينكم وطاعة أبيكم أو صالحين في أمور دنياكم لذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك وهو الحسد ليوسف وتكدر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه أو المراد بالصالحين : التائبون من الذنب (3/12)
10 - { قال قائل منهم } أي من الإخوة قيل هو يهوذا وقيل روبيل وقيل شمعون { لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب } قيل ووجه الإظهار في لا تقتلوا يوسف استجلاب شفقتهم عليه قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام في غيابة الجب بالإفراد وقرأ أهل المدينة في غيابات بالجمع واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة وغيابات على الجمع تجوز والغيابة كل شيء غيب عنك شيئا وقيل للقبر غيابة والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه أو طاقة فيه قال الشاعر :
( ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذا كما قد غيبتني غيابيا )
والجب : البئر التي لم تطو ويقال لها قبل الطي ركية فإذا طويت قيل لها بئر سميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا وجمع الجب جبب وجباب وأجباب وجمع بين الغيابة والجب مبالغة في أن يلقوه في مكان من الجب شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين قيل وهذه البئر ببيت المقدس وقيل بالأردن وجواب الأمر { يلتقطه بعض السيارة } قرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه بالمثناة الفوقية ووجهه أن بعض السيارة سيارة وحكي عن سيبويه سقطت بعض أصابعه ومنه قول الشاعر :
( أرى مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال )
وقرأ الباقون يلتقطه بالتحتية والسيارة : الجمع الذي يسيرون في الطريق والالتقاط : هو أخذ شيء مشرف على الضياع وكأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفى عن أبيه ومن يعرفه ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك ومعنى { إن كنتم فاعلين } إن كنتم عاملين بما أشرت به عليكم في أمره كأنه لم يجزم بالأمر وبل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع من استشاره وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلما وبغيا وقيل كانوا أنبياء وكان ذلك منهم زلة قدم وأوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم ورد بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكثيرة المتبالغة في الكبر مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب وقيل إنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء بل صاروا أنبياء من بعد
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { آيات للسائلين } قال عبرة وأخرج أيضا عن قتادة في الآية يقول : من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قص الله عليكم وأنبأكم به وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال : إنما قص الله على محمد صلى الله عليه و سلم خبر يوسف وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه لما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه حين أكرمه الله بنبوته ليتأسى به وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إذ قالوا ليوسف وأخوه } يعني بنيامين هو أخوه لأبيه وأمه وفي قوله { ونحن عصبة } قال : العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد قال : العصبة الجماعة { إن أبانا لفي ضلال مبين } قال : لفي خطأ من رأيه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في قوله : { قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف } قال : قاله كبيرهم الذي تخلف قال : والجب بئر بالشام { يلتقطه بعض السيارة } قال : التقطه ناس من الأعراب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وألقوه في غيابة الجب } يعني الركية وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال الجب البئر وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ قال : هي بئر ببيت المقدس يقول في بعض نواحيها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : الجب بحذاء طبرية بينه وبينها أميال (3/12)
لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجب جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافا له وتحريكا للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء وتوسلا بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه فـ 11 - { قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف } أي أي شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى وقرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري { لا تأمنا } بالادغام بغير إشمام وقرأ طلحة بن مصرف لا تأمننا بنونين ظاهرتين على الأصل : وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين والأعمش لا تيمنا وهو لغة تميم كما تقدم وقرأ سائر القراء بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه { وإنا له لناصحون } في حفظه وحيطته حتى نرده إليك (3/14)
12 - { أرسله معنا غدا } أي إلى الصحراء التي أرادوا الخروج إليها وغدا ظرف والأصل عند سيبويه غدوة قال النضر بن شميل : ما بين الفجر وطلوع الشمس يقال له غدوة وكذا يقال له بكرة { يرتع ويلعب } هذا جواب الأمر قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين كما رواه البعض عنهم وقرأوا أيضا بالاختلاس وقرأ الباقون بالنون وكسر العين والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير : إذا أكل كيف شاء أو المعنى : نتسع في الخصب وكل مخصب راتع : قال الشاعر
( فارعى فزارة لا هناك المرتع )
ومنه قول الشاعر :
( ترتفع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار )
والقراءة الثانية مأخوذة من رعي الغنم وقرأ مجاهد وقتادة { يرتع ويلعب } بالتحتية فيهما ورفع يلعب على الاستئناف والضمير ليوسف وقال القتيبي : معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضا من قولهم رعاك الله : أي حفظك ونلعب من اللعب قيل لأبي عمرو بن العلاء : كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء ؟ فقال : لم يكونوا يومئذ أنبياء وقيل المراد به اللعب المباح من الأنبياء وهو مجرد الانبساط وقيل هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ويتقوون به عليه كما في قولهم : { إنا ذهبنا نستبق } لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا ونلعب ومنه قوله صلى الله عليه و سلم لجابر [ فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ] (3/14)
فأجابهم يعقوب بقوله : 13 - { إني ليحزنني أن تذهبوا به } أي ذهابكم به واللام في { ليحزنني } لام الابتداء للتأكيد ولتخصيص المضارع بالحال أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه { وأخاف أن يأكله الذئب } أي ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب قال يعقوب هذا تخوفا عليه منهم فكنى عن ذلك بالذئب وقيل إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة لأن ذلك المكان كان كثير الذئاب ولو خاف منهم عليه أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه قال ثعلب : والذئب مأخوذ من تذأبت الريح : إذا هاجت من كل وجه قال : والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه وقد قرأ ابن كثير ونافع في رواية عنه بالهمز عن الأصل وكذلك أبو عمرو في رواية عنه وابن عامر وعاصم وحمزة وقرأ الباقون بالتخفيف { وأنتم عنه غافلون } لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لكونهم غير مهتمين بحفظه (3/15)
14 - { قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة } اللام هي الموطئة للقسم والمعنى : والله لئن أكله الذئب والحال إن نحن عصبة : أي جماعة كثيرة عشرة { إنا إذا لخاسرون } أي إنما في ذلك الوقت وهو أكل الذئب له لخاسرون هالكون ضعفا وعجزا أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا وانتفاء القدرة على أيسر شيء وأقله أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار وقيل لخاسرون لجاهلون حقه وهذه الجملة جواب القسم المقدر في الجملة التي قبلها (3/15)
15 - { فلما ذهبوا به } من عند يعقوب { وأجمعوا } أمرهم { أن يجعلوه في غيابة الجب } قد تقدم تفسير الغيابة والجب قريبا وجواب لما محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه والتقدير : فعلوا به ما فعلوا وقيل جوابه { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } وقيل الجواب المقدر جعلوه فيها وقيل الجواب أوحينا والواو مقحمة ومثله قوله تعالى : { فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه } أي ناديناه { وأوحينا إليه } أي إلى يوسف تيسيرا له وتأنيسا لوحشته مع كونه صغيرا اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته بقلوب غليظة فقد نزعت عنها الرحمة وسلبت منها الرأفة فإن الطبع البشري دع عنك الدين يتجاوز عن ذنب الصغير ويغتفره لضعفه عن الدفع وعجزه عن أيسر شيء يراد منه فكيف بصغير لا ذنب له بل كيف بصغير هو أخ وله ولهم أب مثل يعقوب فلقد أبعد من قال إنهم كاوا أنبياء في ذلك الوقت فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيرا ويعطيه النبوة حينئذ كما وقع في عيسى ويحيى بن زكريا وقد قيل إنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبلغ الرجال وهو بعيد جدا فإن من كان قد بلغ مبالغ الرجال لا يخاف عليه أن يأكله الذئب { لتنبئنهم بأمرهم هذا } أي لتخبرن إخوتك بأمرهم هذا الذي فعلوه معك بعد خلوصك مما أرادوه بك من الكيد وأنزلوه عليك من الضرر وجملة { وهم لا يشعرون } في محل نصب على الحال : أي لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب ولبعد عهدهم بك ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر (3/15)
16 - قوله : { وجاؤوا أباهم عشاء يبكون } عشاء منتصب على الظرفية وهو آخر النهار وقيل في الليل ويبكون في محل نصب على الحال : أي باكين أو متباكين لأنهم لم يبكوا حقيقة بل فعلوا فعل من يبكي ترويجا لكذبهم وتنفيقا لمكرهم وغدرهم (3/16)
فلما وصلوا إلى أبيهم 16 - { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل ويؤيده قراءة ابن مسعود ننتضل قال الزجاج : وهو نوع من المسابقة وقال الزهري : النضال في السهام والرهان في الخيل والمسابقة تجمعهما قال القشيري : نستبق أي في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام والغرض من المسابقة التدرب بذلك في القتال { وتركنا يوسف عند متاعنا } أي عند ثيابنا ليحرسها { فأكله الذئب } الفاء للتعقيب : أي أكله عقب ذلك وقد اعتذروا عليه بما خافه سابقا عليه ورب كلمة تقول لصاحبها دعني { وما أنت بمؤمن لنا } بمصدق لنا في هذا العذر الذي أبدينا والكلمة التي قلناها { ولو كنا } عندك أو في الواقع { صادقين } لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له قال الزجاج : والمعنى : ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذه القضية لشدة محبتك ليوسف (3/16)
وكذا ذكره ابن جرير وغيره 18 - { وجاؤوا على قميصه بدم كذب } على قميصه في محل نصب على الظرفية : أي جاءوا فوق قميصه بدم ووصف الدم بأنه كذب مبالغة كما هو معروف في وصف اسم العين باسم المعنى وقيل المعنى : بدم ذي كذب أو بدم مكذوب فيه وقرأ الحسن وعائشة بدم كدب بالدال المهملة : أي بدم طري يقال للدم الطري كدب وقال الشعبي : إنه المتغير والكذب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اللونين وقد استدل يعقوب على كذبهم بصحة القميص وقال لهم : متى كان هذا الذئب حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص ؟ ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب به يعقوب عليهم فقال { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا } أي زينت وسهلت قال النيسابوري : التسويل تقرير في معنى النفس مع الطمع في تمامه وهو تفعيل من السول وهو الأمنية قال الأزهري : وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة { فصبر جميل } قال الزجاج : أي فشأني أو الذي أعتقده صبر جميل وقال قطرب : أي فصبري صبر جميل وقيل فصبر جميل أولى بي قيل والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه قال الزجاج : قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف فصبرا جميلا قال : وكذا في مصحف أنس قال المبرد : فصبر جميل بالرفع أولى من النصب لأن المعنى : قال رب عندي صبر جميل وإنما النصب على المصدر أي فلأصبرن صبرا جميلا قال الشاعر :
( شكا إلي جملي طول السرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى )
{ والله المستعان } أي المطلوب منه العون { على ما تصفون } أي على إظهار حال ما تصفون أو على احتمال ما تصفون وهذا منه عليه السلام إنشاء لا إخبار
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أرسله معنا غدا يرتع ويلعب } قال : نسعى وننشط ونلهو وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والسلفي في الطيوريات عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا أكله الذئب ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وأوحينا إليه } الآية قال : أوحي إلى يوسف وهو في الجب لتنبئن إخوتك بما صنعوا وهم لا يشعرون بذلك الوحي وأخرج هؤلاء عن قتادة قال : أوحى الله إليه وحيا وهو في الجب أن سينبئهم بما صنعوا وهم : أي إخوته لا يشعرون بذلك الوحي فهون ذلك الوحي عليه ما صنع به وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وهم لا يشعرون } قال : لم يعلموا بوحي الله إليه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم فقال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية نزلت إلا في ذلك لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بكر بن عياش قال : كان يوسف في الجب ثلاثة أيام وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك { وما أنت بمؤمن لنا } قال : بمصدق لنا وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وجاؤوا على قميصه بدم كذب } قال : كان دم سخلة وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { وجاؤوا على قميصه بدم كذب } قال : لما أتي يعقوب بقميص يوسف فلم ير فيه خرقا قال : كذبتم لو كان كما تقولون أكله الذئب لخرق القميص وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { بل سولت لكم أنفسكم أمرا } قال : أمرتكم أنفسكم وأخرج ابن جرير وابن أبي جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله { بل سولت لكم أنفسكم أمرا } يقول : بل زينت لكم أنفسكم أمرا { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } أي على ما تكذبون وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبان بن أبي حبلة قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله : { فصبر جميل } قال : لا شكوى فيه من بث لم يصبر ] وهو من طريق هشيم عن عبد الرحمن عن حبان بن أبي حبلة وهو مرسل وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فصبر جميل } قال : ليس في جزع (3/16)
هذا شروع في حكاية خلاص يوسف وما بعد ذلك من خبره وقد تقدم تفسير السيارة والمراد بها هنا رفقة مارة تسير من الشام إلى مصر فأخطأوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب وكان في قفرة بعيدة عن العمران والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك بن ذعر من العرب العاربة { فأدلى دلوه } أي أرسله يقال أدلى دلوه : أذا أرسلها ليملأها ودلاها : إذا أخرجها قاله الأصمعي وغيره فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد فـ { قال يا بشرى } هكذا قرأ أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة وأهل الشام بإضافة البشرى إلى الضمير وقرأ أهل الكوفة { يا بشرى } غير مضاف ومعنى مناداته للبشرى : أنه أراد حضورها في ذلك الوقت فكأنه قال : هذا وقت مجيئك وأوان حضورك وقيل إنه نادى رجلا اسمه بشرى والأول أولى قال النحاس : والمعنى من نداء البشرى التبشير لمن حضر وهو أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجبا : أي يا عجب هذا من أيامك فاحضر قال : وهذا مذهب سيبويه { وأسروه } أي أسر الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف فلم يظهروه لهم وقيل إنهم لم يخفوه بل أخفوا وجدانه لهم في الجب وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر وقيل ضمير الفاعل في أسروه لإخوة يوسف وضمير المفعول ليوسف وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام فأتاه يوم خروجه من البئر فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلام ابق منا فاشتروه منهم وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه والأول أولى وانتصاب بضاعة على الحال : أي أخفوه حال كونه بضاعة : أي متاعا للتجارة والبضاعة : ما يبضع من المال : أي يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتجر به قيل قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه وفي قوله : { والله عليم بما يعملون } وعيد شديد لمن كان فعله سببا لما وقع فيه يوسف من المحن وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال نبينا صلى الله عليه و سلم في وصفه بذلك (3/18)
قوله : 20 - { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } يقال شراه بمعنى اشتراه وشراه بمعنى باعه قال الشاعر :
( وشريت برداه ليتني ... من بعد برد كنت هامه )
أي بعته وقال آخر :
( فلما شراها فاضت العين عبرة )
أي اشتراها والمراد هنا : وباعوه : أي باعه الوارد وأصحابه { بثمن بخس } أي ناقص أو زائف وقيل يعود إلى إخوة يوسف على القول السابق وقيل عائد إلى الرفقة والمعنى : اشتروه وقيل بخس : ظلم وقيل حرام قيل باعوه بعشرين درهما وقيل بأربعين ودراهم بدل من ثمن : أي دنانير ومعدودة وصف لدراهم وفيه إشارة إلى أنها قليلة تعد ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهي أربعون درهما { وكانوا فيه من الزاهدين } يقال زهدت وزهدت بفتح الهاء وكسرها قال سيبويه والكسائي : قال أهل اللغة : يقال زهد فيه : أي رغب عنه وزهد عنه : أي رغب فيه والمعنى : أنهم كانوا فيه من الراغبين عنه الذين لا يبالون به فلذلك باعوه بذلك الثمن البخس وذلك لأنهم التقطوه والملتقط للشيء : متهاون به والضمير من كانوا يرجع إلى ما قبله على حسب اختلاف الأقوال فيه (3/19)
21 - { وقال الذي اشتراه من مصر } هو العزيز الذي كان على خزائن مصر وكان وزيرا لملك مصر وهو الريان بن الوليد من العمالقة وقيل إن الملك هو فرعون موسى قيل اشتراه بعشرين دينارا وقيل تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلىء وجواهر فلما اشتراه العزيز قال لامرأته واللام متعلقة باشتراه { أكرمي مثواه } أي منزله الذي يثوى فيه بالطعام الطيب واللباس الحسن يقال ثوى بالمكان : أي أقام به { عسى أن ينفعنا } أي يكفينا بعض المهمات مما نحتاج إلى مثله فيه { أو نتخذه ولدا } أي نتبناه فنجعله ولدا لنا قيل كان العزيز حصورا لا يولد له وقيل كان لا يأتي النساء وقد كان تفرس فيه أنه ينوب عنه فيما إليه من أمر المملكة قوله : { وكذلك مكنا ليوسف } الكاف في محل نصب على أنه نعت مصدر محذوف والإشارة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجب وعطف قلب العزيز عليه : أي مثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف حتى صار متمكنا من الأمر والنهي يقال مكنه فيه : أي أثبته فيه ومكن له فيه : أي جعل له فيه مكانا ولتقارب المعنيين يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر قوله : { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } هو علة لمعلل محذوف كأنه قيل فعلنا ذلك التمكين لنعلمه من تأويل الأحاديث أو كان ذلك الإنجاء لهذه العلة أو معطوف على مقدر وهو أن يقال : مكنا ليوسف ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز ولنعلمه من تأويل الأحاديث ومعنى تأويل الأحاديث : تأويل الرؤيا فإنها كانت من الأسباب التي بلغ بها ما بلغ من التمكن وقيل معنى تأويل الأحاديث فهم أسرار الكتب الإلهية وسنن من قبله من الأنبياء ولا مانع من حمل ذلك على الجميع { والله غالب على أمره } أي على أمر نفسه لا يمتنع منه شيء ولا يغالبه عليه غيره من مخلوقاته { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ومن جملة ما يدخل تحت هذا العام كما يفيد ذلك إضافة اسم الجنس إلى الضمير ما يتعلق بيوسف عليه السلام من الأمور التي أرادها الله سبحانه في شأنه وقيل معنى { والله غالب على أمره } أنه كان من أمر يعقوب أن لا يقص رؤيا يوسف على إخوته فغلب أمر الله سبحانه حتى قصت عليهم حتى وقع منهم ما وقع وهذا بعيد جدا { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أي لا يطلعون على غيب الله وما في طيه من الأسرار العظيمة والحكم النافعة وقيل المراد بالأكثر : الجميع لأنه لا يعلم الغيب إلا الله وقيل إن الله سبحانه قد يطلع بعض عبيده على بعض غيبه كما في قوله : { فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول } وقيل المعنى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر (3/20)
وقوله : 22 - { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما } الأشد قال سيبويه جمع واحدة شدة وقال الكسائي : واحده شد وقال أبو عبيد : إنه لا واحد له من لفظه عند العرب ويرده قول الشاعر :
( عهدي به شد النهار كأنما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم )
والأشد : هو وقت استكمال القوة ثم يون بعده النقصان قيل هو ثلاث وثلاثون سنة وقيل بلوغ الحلم وقيل ثماني عشرة سنة وقيل غير ذلك مما قد قدمنا بيانه في النساء والأنعام والحكم : هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان ملك مصر والعلم : هو العلم بالحكم الذي كان يحكمه وقيل العقل والفهم والنبوة صبيا قال : المراد بهذا الحكم والعلم الذي آتاه الله هو الزيادة فيهما { وكذلك نجزي المحسنين } أي ومثل ذلك الجزاء العجيب نجزي المحسنين فكل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه وجعل عاقبة الخير من جملة ما يجزيه به وهذا عام يدخل تحته جزاء يوسف على صبره الحسن دخولا أوليا قال الطبري : هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى كما فعل هذا يوسف ثم أعطيته ما أعطيته كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة وأمكن لك في الأرض والأولى ما ذكرناه من حمل العموم على ظاهره فيدخل تحته ما ذكره ابن جرير الطبري
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { وجاءت سيارة } قال : جاءت سيارة فنزلت على الجب { فأرسلوا واردهم } فاستسقى الماء فاستخرج يوسف فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاما لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه فزهدوا فيه فباعوه وكان بيعه حراما وباعوه بدراهم معدودة وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة { فأرسلوا واردهم } يقول : فأرسلوا رسولهم { فأدلى دلوه } فنشب الغلام في الدلو فلما خرج { قال يا بشرى هذا غلام } تباشروا به حين استخرجوه وهي بئر ببيت المقدس معلوم مكانها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { يا بشرى } قال : كان اسم صاحبه بشرى كما تقول يا زيد وهذا على ما فيه من البعد لا يتم إلا على قراءة من قرأ يا بشرى بدون إضافة وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قول : { وأسروه بضاعة } يعني إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال : أسره التجار بعضهم من بعض وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه { وأسروه بضاعة } قال : صاحب الدلو ومن معه قالوا لأصحابهم : إنا استبضعناه خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا به واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوا بمصر فقال : من يبتاعني ويبشر فابتاعه الملك والملك مسلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وشروه } قال : إخوة يوسف باعوه حين أخرجه المدلي دلوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : بيع بينهم بثمن بخس قال : حرام لم يحل لهم بيعه ولا أكل ثمنه وأخرج ابن جرير عن قتادة { وشروه بثمن بخس } قال : هم السيارة وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب أنه قضى في اللقيط أنه حر وقرأ { وشروه بثمن بخس } وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : البخس : القليل وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي مثله وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنما اشتري يوسف بعشرين درهما وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلثمائة وتسعين إنسانا : رجالهم أنبيا ونساؤهم صديقات والله ما خرجوا مع موسى حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفا وقد روي في مقدار ثمن يوسف غير هذا المقدار مما لا حاجة إلى التطويل بذكره وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وقال الذي اشتراه من مصر } قال : كان اسمه قطفير وأخرج أبو الشيخ عن شعيب الجبائي : أن اسم امرأة العزيز زليخا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : الذي اشتراه أطيفير بن روحب وكان اسم امرأته راعيل بنت رعاييل وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : اسم الذي باعه من العزيز مالك بن ذعر وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : { أكرمي مثواه } قال : منزلته وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها يا أبت استأجره وأبو بكر حين استخلف عمر وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } قال : عبارة الرؤيا وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ولما بلغ أشده } قال : ثلاثا وثلاثين سنة وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : أربعين سنة وأخرج عن عكرمة قال : خمسا وعشرين سنة وأخرج عن السدي قال : ثلاثين سنة وأخرج عن سعيد بن جبير قال ثمانية عشر سنة وأخرج عن ربيعة قال : الحلم : وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي نحوه وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : عشرين سنة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { آتيناه حكما وعلما } قال : هو الفقه والعلم والعقل قبل النبوة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { وكذلك نجزي المحسنين } قال : المهتدين (3/21)
المراودة الإرادة والطلب برفق ولين - وقيل هي مأخوذة من الرود : أي الرفق والتأني يقال أرودني : أمهلني وقيل المراودة مأخوذة من راد يرود : إذا جاء وذهب كأن المعنى : أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال : راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه : إذا حاول كل منهما الوطء والجماع وهي مفاعلة وأصلها أن تكون من الجانبين فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قائما مقام المسبب فكأن يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن سببا لمراودة امرأة العزيز له مراود وإنما قال { التي هو في بيتها } ولم يقل امرأة العزيز وزليخا قصدا إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة والمحافظة على الستر عليها { وغلقت الأبواب } قيل في هذه الصيغة ما يدل على التكثير فيقال غلق الأبواب ولا يقال غلق الباب بل يقال أغلق الباب وقد يقال أغلق الأبواب ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء :
( ما زلت أغلق أبوابا وافتحها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار )
قيل وكانت الأبواب سبعة قوله { هيت لك } قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي وحمزة والأعمش بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء وبها قرأ ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة : قال ابن مسعود : لا تنطعوا في القراءة فإنما هو مثل قول أحدكم هلم وتعال وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي بفتح الهاء وكسر التاء وقرأ عبد الرحمن السلمي وابن كثير هيت بفتح الهاء وضم التاء ومنه قول طرفة :
( ليس قومي بالأبعدين إذا ما ... قال داع من العشيرة هيت )
وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء وقرأ علي وابن عباس في رواية عنه وهشام بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء ومعنى هيت على جميع القراءات معنى هلم وتعال لأنها من أسماء الأفعال إلا فيقراءة من قرأ بكسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة فإنها بمعنى : تهيأت لك وأنكر أبو عمرو هذه القراءة وقال أبو عبيدة : سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فقال : باطل جعلها بمعنى تهيأت اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هكذا ؟ وأنكرها أيضا الكسائي وقال النحاس : هي جيدة عند البصريين لأنه يقال : هاء الرجل يهاء ويهيء هيئة رجح الزجاج القراءة الأولى وأنشد بيت طرفة المذكور هيتا بالفتح ومنه قول الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( أبلغ أمير المؤمنين ... أخا العراق إذا أتيتا )
( إن العراق وأهله ... سلم إليك فهيت هيتا )
وتكون اللام في { لك } على القراءات الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان : أي لك أقول هذا كما في هلم لك قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاث : فالفتح للخفة والكسر لالتقاء الساكنين والضم تشبيها بحيث وإذا بين باللام نحو هيت لك فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له : أي لك أقول هذا وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل إما خبر : أي تهيأت وإما أمر : أي أقبل وقال في الصحاح : يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه ومنه قول الشاعر :
( يحدو بها كل فتى هيات )
وقد روي عن ابن عباس والحسن أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها قال أبو عبيدة : كان الكسائي يقول : هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال قال أبو عبيدة : فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم { قال معاذ الله } أي أعوذ بالله معاذا مما دعوتني إليه فهو مصدر منتصب بفعل محذوف مضاف إلى اسم الله سبحانه وجملة { إنه ربي أحسن مثواي } تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز والضمير للشأن : أي إن الشأن ربي يعني العزيز : أي سيدي الذي رباني وأحسن مثواي حيث أمرك بقوله : { أكرمي مثواه } فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك ؟ وقال الزجاج : إن الضمير لله سبحانه : أي إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرمه وجملة { إنه لا يفلح الظالمون } تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها والفلاح : الظفر والمعنى : أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف (3/23)
قوله : 24 - { ولقد همت به وهم بها } يقال هم بالأمر : إذا قصده وعزم عليه والمعنى : أنه هم بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية ولم يكن من يوسف عليه السلام القصد إلى ذلك اختيارا كما يفيده ما تقدم من استعاذته بالله وإن ذلك نوع من الظلم ولما كان الأنبياء معصومين عن الهم بالمعصية والقصد إليها شطح أهل العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلف فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال : كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن فلما أتيت على { ولقد همت به وهم بها } قال : هذا على التقديم والتأخير : كأنه قال : ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها وقال أحمد بن يحيى ثعلب : أي همت زليخا بالمعصية وكانت مصرة وهم يوسف ولم يوقع ما هم به فبين الهمين فرق ومن هذا قول الشاعر :
( هممت بهم من ثنية لؤلؤ ... شفيت غليلات الهوى من فؤاديا )
فهذا إنما هو حديث نفس من غير عزم وقيل هم بها : أي هم بضربها وقيل هم بها بمعنى تمنى أن يتزوجها وقد ذهب جمهور المفسرين من السلف والخلف إلى ما قدمنا من حمل اللفظ على معناه اللغوي ويدل على هذا ما سيأتي من قوله { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } وقوله { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } ومجرد الهم لا ينافي العصمة فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية وذلك المطلوب وجواب لو في { لولا أن رأى برهان ربه } محذوف : أي لولا أن رأى برهان ربه لفعل ما هم به
واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو ؟ فقيل إن زليخا قامت عند أن همت به وهم بها إلى صنم لها في زاوية البيت فسترته بثوب فقال : ما تصنعين ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة فقال يوسف : أنا أولى أن أستحي من الله تعالى وقيل إنه رأى في سقف البيت مكتوبا { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } الآية وقيل رأى كفا مكتوبا عليها { وإن عليكم لحافظين } وقيل إن البرهان هو تذكره عهد الله وميثاقه وما أخذه على عباده وقيل نودي : يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ؟ وقيل رأى صورة يعقوب على الجدار عاضا على أنملته يتوعده وقيل غير ذلك مما يطول ذكره والحاصل أنه رأى شيئا حال بينه وبين ما هم به قوله : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } الكاف نعت مصدر محذوف والإشارة بذلك إلى الإراءة المدلول عليها بقوله : { لولا أن رأى برهان ربه } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك : أي مثل تلك الإراءة أريناه أم مثل ذلك التثبيت ثبتناه { لنصرف عنه السوء } أي كل ما يسوؤه والفحشاء كل أمر مفرط القبح وقيل السوء : الخيانة للعزيز في أهله والفحشاء : الزنا وقيل السوء : الشهوة والفحشاء : المباشرة وقيل السوء : الثناء القبيح والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولا أوليا وجملة { إنه من عبادنا المخلصين } تعليل لما قبله قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو المخلصين بكسر اللام وقرأ الآخرون بفتحها والمعنى على القراءة الأولى أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة (3/26)
وقد كان عليه السلام مخلصا مستخلصا 25 - { واستبقا الباب } أي تسابقا إليه فحذف حرف الجر وأوصل الفعل بالمفعول أو ضمن الفعل معنى فعل آخر يتعدى بنفسه كابتدرا الباب وهذا الكلام متصل بقوله : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } وما بينهما اعتراض ووجه تسابقهما أن يوسف يريد الفرار والخروج من الباب وامرأة العزيز تريد أن تسبقه إليه لتمنعه ووحد الباب هنا وجمعه فيما تقدم لأن تسابقهما كان إلى الباب الذي يخلص منه إلى خارج الدار { وقدت قميصه من دبر } أي جذبت قميصه من ورائه فانشق إلى أسفله والقد : القطع وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا وقع منها ذلك عند أن فر يوسف لما رأى برهان ربه فأرادت أن تمنعه من الخروج بجذبها لقميصه { وألفيا سيدها لدى الباب } أي وجدا العزيز هنالك وعنى بالسيد : الزوج لأن القبط يسمون الزوج سيدا وإنما لم يقل سيدهما لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحا فلم يكن سيدا له وجملة { قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فما كان منهما عند أن ألفيا سيدها لدى الباب وما استفهامية والمراد بالسوء هنا الزنا قالت هذه المقالة طلبا منها للحيلة وللستر على نفسها فنسبت ما كان منها إلى يوسف : أي جزاء يستحقه من فعل مثل فعل هذا ثم أجابت عن استفهامها بقولها : { إلا أن يسجن } أي ما جزاؤه إلا أن يسجن ويحتمل أن تكون ما نافية : أي ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم قيل والعذاب الأليم هو الضرب بالسياط والظاهر أنه ما يصدق عليه العذاب الأليم من ضرب أو غيره وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل (3/27)
وجملة 26 - { قال هي راودتني عن نفسي } مستأنفة كالجملة الأولى وقد تقدم بيان معنى المراودة : أي هي التي طلبت مني ذلك ولم أرد بها سوءا { وشهد شاهد من أهلها } أي من قرابتها وسمي الحكم بينهما شهادة لما يحتاج فيه من التثبت والتأمل قيل لما التبس الأمر على العزيز احتاج إلى حاكم يحكم بينهما ليتبين له الصادق من الكاذب قيل كان ابن عم لها واقفا مع العزيز في الباب وقيل ابن خال لها وقيل إنه طفل في المهد تكلم قال السهيلي : وهو الصحيح للحديث الوارد في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر من تكلم في المهد وذكر من جملتهم شاهد يوسف وقيل إنه رجل حكيم كان العزيز يستشيره في أموره وكان من قرابة المرأة { إن كان قميصه قد من قبل } أي فقال الشاهد هذه المقالة مستدلا على بيان صدق الصادق منهما وكذب الكاذب بأن قميص يوسف إن كان مقطوعا من قبل : أي من جهة القبل { فصدقت } أي فقد صدقت بأنه أراد بها سوءا { وهو من الكاذبين } في قوله إنها راودته عن نفسه وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق من قبل بضم اللام وكذا قرأ من دبر قال الزجاج : جعلاهما غايتين كقبل وبعد كأنه قيل من قبله ومن دبره فلما حذف المضاف إليه : وهو مراد صار المضاف غاية بعد أن كان المضاف إليه هو الغاية (3/27)
27 - { وإن كان قميصه قد من دبر } أي من ورائه { فكذبت } في دعواها عليه { وهو من الصادقين } في دعواها عليها ولا يخفي أن هاتين الجملتين الشرطيتين لا تدوم لا تلازم بين مقدميهما وتالييهما لا عقلا ولا عادة وليس ها هنا إلا مجرد أمارة غير مطردة إذ من الجائز أن تجذبه إليها وهو مقبل عليها فينقد القميص من دبر وأن تجذبه وهو مدبر عنها فينقد القميص من قبل (3/28)
28 - { فلما رأى } أي العزيز { قميصه } أي قميص يوسف { قد من دبر قال إنه } أي هذا الأمر الذي وقع فيه الاختلاف بينكما أو أن قولك : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } { من كيدكن } أي من جنس كيدكن يا معشر النساء { إن كيدكن عظيم } والكيد : المكر والحيلة (3/28)
ثم خاطب العزيز يوسف بقوله 29 - { يوسف أعرض عن هذا } أي عن هذا الأمر الذي جرى واكتمه ولا تتحدث به ثم أقبل عليها بالخطاب فقال { واستغفري لذنبك } الذي وقع منك { إنك كنت } بسبب ذلك { من الخاطئين } أي من جنسهم والجملة تعليل لما قبلها من الأمر بالاستغفار ولم يقل من الخاطئات تغليبا للمذكر على المؤنث كما في قوله { وكانت من القانتين } ومعنى من الخاطئين من المتعمدين يقال خطىء إذا أذنب متعمدا وقيل إن القائل ليوسف ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حكم بينهما
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيوخ عن قتادة في قوله : { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } قال : هي امرأة العزيز وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : راودته حين بلغ مبلغ الرجال وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { هيت لك } قال : هلم لك تدعوه إلى نفسها وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه اقلأ : هلم لك بالقبطية وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : هي كلمة بالسريانية : أي عليك وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : معناها تعال : وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد : إنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إنه ربي } قال : سيدي قال : يعني زوج المرأة وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : لما همت به تزينت ثم استلقت على فراشها وهم بها جلس بين رجليها يحل ثيابه فنودي من السماء يابن يعقوب لا تكن كطائر نتف ريشه فبقي لا ريش له فلم يتعظ على النداء شيئا حتى رأى برهان ربه جبريل في صورة يعقوب عاضا على أصبعه ففزع فخرجت شهوته من أنامله فوثب فأدركته فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه فألفيا سيدها لدى الباب وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب في قوله : { همت به وهم بها } قال : طمعت فيه وطمع فيها وكان فيه من الطمع أن هم أن يحل التكة فقامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه فقال : أي شيء تصنعين ؟ فقالت : أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوءة فقال يوسف : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ؟ ثم قال : لا تناليها مني أبدا وهو البرهان الذي رأى وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { لولا أن رأى برهان ربه } قال : مثل له يعقوب فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله وقد أطال المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافا كثيرا وأخرج ابن جرير عن زيد بن ثابت : قال السيد : الزوج يعني في قوله { وألفيا سيدها لدى الباب } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إلا أن يسجن أو عذاب أليم } قال : القيد وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وشهد شاهد من أهلها } قال : صبي أنطقه الله كان في الدار وأخرج أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم ] وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وشهد شاهد من أهلها } قال : كان رجلا ذا لحية وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال : كان من خاصة الملك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال : هو رجل له فهم وعلم وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : ابن عم لها كان حكيما وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : إنه ليس بإنسي ولا جني هو خلق من خلق الله قلت : ولعله لم يستحضر قوله تعالى : { من أهلها } (3/28)
يقال نسوة بضم النون وهي قراءة الأعمش والفضل وسليمان ويقال نسوة بكسر النون وهي قراءة الباقين والمراد جماعة من النساء ويجوز التذكير في العفل المسند إليهن كما يجوز التأنيث قيل : وهن امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه وامرأة صاحب دوابه وامرأة صاحب سجنه وامرأة حاجبه وافتى في كلام العرب : الشاب والفتاة : الشابة والمراد به هنا : غلامها يقال فتاي وفتاتي : أي غلامي واجاريتي وجملة 30 - { قد شغفها حبا } في محل رفع على أنها خبر ثان للمبتدأ أو في محل نصب على الحال ومعنى شغفها حبا : غلبها حبه وقيل دخل حبه في شغافها قال أبو عبيدة : وشغاف القلب غلافه وهو جلدة عليه وقيل هو وسط القلب وعلى هذا يكون المعنى : دخل حبه إلى شغافها فغلب عليه وأنشد الأصمعي قول الراجز :
( يتبعها وهي له شغاف )
وقرأ جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن شعفها بالعين المهملة قال ابن الأعرابي : معناه أجرى حبه عليها وقرأ غيرهم بالمعجمة قال الجوهري : شعفه الحب أحرق قلبه وقال أبو زيد : أمرضه قال النحاس : معناه عند أكثر أهل اللغة : قد ذهب بها كل مذهب لأن شعاف الجبال : أعاليها وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين المعجمة : إذا ولع به وأنشد أبو عبيدة بيت امرئ القيس :
( أتقتلني من قد شغفت فؤادها ... كما شغف المهنوة الرجل الطالي )
قال : فشبهت لوعة الحب بذلك وقرأ الحسن قد شغفها بضم الغين قال النحاس : وحكي قد شغفها بكسر الغين ولا يعرف ذلك في كلام العرب إلا شغفها بفتح الغين ويقال إن الشغاف : الجلدة اللاصقة بالكبد التي لا ترى وهي الجلدة البيضاء فكأنه لصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالكبد وجملة { إنا لنراها في ضلال مبين } مقررة لمضمون ما قبلها والمعنى : إنا لنراها : أي نعلمها في فعلها هذا وهو المراودة لتاها في ضلال عن طريق الرشد والصواب مبين : واضح لا يلتبس على من نظر فيه (3/30)
31 - { فلما سمعت } امرأة العزيز { بمكرهن } أي بغيبهن إياها سميت الغيبة مكرا لاشتراكهما في الإخفاء وقيل أردن أن يتوسلن بذلك إلى رؤية يوسف فلهذا سمي قولهن مكرا وقيل إنها أسرت عليهن فأفشين سرها فسمى بذلك مكرا { أرسلت إليهن } أي تدعوهن إليها لينظرن إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه { وأعتدت لهن متكئا } أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها وأعتجت من الاعتداد وهو كل ما جعلته عدة لشيء وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير متكأ مخففا غير مهموز والمتك : هو الأترج بلغة القبط ومنه قول الشاعر :
( نشرب الإثم بالصواع جهارا ... وترى المتك بيننا مستعارا )
وقيل إن ذلك هو لغة أزدشنوءة وقيل حكي ذلك عن الأخفش وقال الفراء : إنه ماء الورد وقرأ الجمهور متكأ بالهمز والتشديد وأصح ما قيل فيه إنه المجلس وقيل هو الطعام وقيل المتكأ كل ما اتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث وحكى القتيبي أنه يقال اتكأنا عند فلان : أي أكلنا ومنه قول الشاعر :
( فظللنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله )
ويؤيد هذا قوله : { وآتت كل واحدة منهن سكينا } فإن ذلك إنما يكون لشيء يأكلنه بعد أن يقطعنه والسكين تذكر وتؤنث قاله الكسائي والفراء قال الجوهري : والغالب عليه التذكر والمراد من إعطائها لكل واحدة سكينا أن يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة ويمكن أنها أرادت بذلك ما سيقطع منهن من تقطيع أيديهن { وقالت } ليوسف { اخرج عليهن } أي في تلك الحالة التي هن عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام وقوله : { فلما رأينه أكبرنه } أي عظمته وقيل أمذين ومنه قول الشاعر :
( إذا ما رأين الفحل من فوق قلة ... صهلن وأكبرن المني المقطرا )
وقيل حضن قال الأزهري : أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة : أي دخلت في الكبر بالحيض : وقع منهن ذلك دهشا وفزعا لما شاهدنه من جماله الفائق وحسنه الرائق ومن ذلك قول الشاعر :
( نأتي النساء على أطهارهن ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا )
وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا : ليس ذلك في كلام العرب قال الزجاج : يقال أكبرنه ولا يقال حضنه فليس الإكبار بمعنى الحيض وأجاب الأزهري فقال : يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية وقد زيف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل وقال ابن الأنباري : إن الهاء كناية عن مصدر الفعل : أي أكبرن إكبارا بمعنى حضن حيضا { وقطعن أيديهن } أي جرحنها وليس المراد به القطع الذي تبين منه اليد بل المراد به الخدش والحز وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس يقال قطع يد صاحبه : إذا خدشها وقيل المراد بأيديهن هنا : أناملهن وقيل أكمامهن والمعنى : أنه لما خرج يوسف عليهن أعظمنه ودهشن وراعهن حسنه حتى اضطربت أيديهن فوقع القطع عليها وهن في شغل عن ذلك بما دهمهن مما تطيش عنده الأحلام وتضطرب له الأبدان وتزول به العقول { وقلن حاش لله } كذا قرأ أبو عمرو بن العلاء بإثبات الألف في حاشا وقرأ الباقون بحذفها وقرأ الحسن حاش لله بإسكان الشين وروي عنه أنه قرأ حاش لله وقرأ ابن مسعود وأبي حاشا لله قال الزجاج : وأصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية تقول كنت في حاشية فلان أي في ناحيته فقولك حاشا لزيد من هذا : أي تباعد منه وقال أبو علي : هو من المحاشاة : وقيل إن حاش حرف وحاش فعل وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف ومعناها هنا التنزيه كما تقول : أسى القوم حاشا زيدا فمعنى حاشا لله : براءة لله وتنزيه له قوله : { ما هذا بشرا } إعمال ما عمل ليس هي لغة أهل الحجاز وبها نزل القرآن كهذه الآية وكقوله سبحانه { ما هن أمهاتهم } وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس وقال الكوفيون : أصله ما هذا ببشر فلما حذفت الباء انتصب قال أحمد بن يحيى ثعلب : إذا قلت مازيد بمنطلق فموضع الباء موضع نصب وهكذا سائر حروف الخفض وأما الخليل وسيبويه وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس وبه قال البصريون والبحث مقرر في كتب النحو بشواهده وحججه وإنما نفين عنه البشرية لأنه قد برز في صورة قد لبست من الجمال البديع ما لم يعهد على أحد من البشر ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع الصور البشرية ثم لما نفين عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة لكنه قد تقرر في الطباع أنهم على شكل فوق شكل البشر في الذات والصفات وأنهم فائقون في كل شيء كما تقرر أن الشياطين على العكس من ذلك ومن هذا قول الشاعر :
( فلست لإنسي ولكن لملاك ... تنزل من جو السماء يصوت )
وقرأ الحسن ما هذا بشراء على أن الباء حرف جر والشين مكسورة : أي ما هذا بعبد يشترى وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله : { إن هذا إلا ملك كريم } وأعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم فإنهن لم يقلنه لدليل بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهن وذلك ممنوع فإن الله سبحانه يقول { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جلمة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة على أن هذه المسألة : أعني مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكليف (3/31)
32 - { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } الإشارة إلى يوسف والخطاب للنسوة : أي عيرتنني فيه قالت لهن هذا لما رأت افتتانهن بيوسف إظهارا لعذر نفسها ومعنى فيه : أي في حبه وقيل الإشارة إلى الحب والضمير له أيضا والمعنى : فذلك الحب الذي لمتنني فيه هو ذلك الحب والأول أولى ورجحه ابن جرير وأصل اللوم : الوصف بالقبيح ثم لما أظهرت عذر نفسها عند النسوة بما شاهدته مما وقعن فيه عند ظهوره لهن ضاق صدرها عن كتم ما تجده في قلبها من حبه فأقرت بذلك وصرحت بما وقع منها من المراودة له فقالت { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } أي استعف وامتنع مما أريده طالبا لعصمة نفسه عن ذلك ثم توعدته إن لم يفعل ما تريده كاشفة لجلباب الحياء هاتكة لستر العفاف فقالت { ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين } أي لئن لم يفعل ما قد أمرته به فيما تقدم ذكره عند أن غلقت الأبواب وقالت هيت لك ليسجنن : أي يعتقل في السجن وليكونن من الصاغرين الأذلاء لما يناله من الإهانة ويسلب عنه من النعمة والعزة في زعمها قرئ ليكونن بالتثقيل والتخفيف قيل والتخفيف أولى لأن النون كتبت في المصحف ألفا على حكم الوقف وذلك لا يكون إلا في الخفيفة وأما ليسجنن فبالتثقيل لا غير فلما سمع يوسف مقالها هذا وعرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز قال مناجيا لربه سبحانه (3/33)
33 - { رب السجن } أي يا رب السجن الذي أوعدتني هذه به { أحب إلي مما يدعونني إليه } من مؤاتاتها والوقوع في المعصية العظيمة التي تذهب بخير الدنيا والآخر قال الزجاج : أي دخول السجن فحذف المضاف وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ السجن بفتح السين وقرأ كذلك ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن والأعرج ويعقوب وهو مصدر سجنه سجنا وإسناد الدعوة إليهن جميعا لأن النسوة رغبنه في مطاوعتها وخوفنه من مخالفتها ثم جرى على هذا في نسبة الكيد إليهن جميعا فقال : { وإلا تصرف عني كيدهن } أما الكيد من امرأة العزيز فما قد قصه الله سبحانه في هذه السورة وأما كيد سائر النسوة فهو ما تقدم من الترغيب له في المطاوعة والتخويف من المخالفة وقيل إنها كانت كل واحدة تخلو به وحدها وتقول له : يا يوسف اقض لي حاجتي فأنا خير لك من امرأة العزيز وقيل إنه خاطب امرأة العزيز بما يصلح لخطاب جماعة النساء تعظيما لها أو عدولا عن التصريح إلى التعويض والكيد : الاحتيال وجزم { أصب إليهن } على أنه جواب الشرط : أي أمل إليهن من صبا يصبو : إذا مال واشتاق ومنه قول الشاعر :
( إلى ... هند صبا قلبي وهند حبها يصبي )
{ وأكن من الجاهلين } معطوف على أصب : أي أكن ممن يجهل ما يحرم ارتكابه ويقدم عليه أو ممن يعمل عمل الجهال (3/34)
وقوله 34 - { فاستجاب له ربه } لما قال : وإلا تصرف عني كيدهن كان ذلك منه تعرضا للدعاء وكأنه قال : اللهم اصرف عني كيدهن فالاستجابة من الله تعالى له هي بهذا الاعتبار لانه لم يتقدم دعاء صادق منه عليه السلام والمعنى : أنه لطف به وعصمه عن الوقوع في المعصية لأنه إذا صرف عنه كيدهن لم يقع شيء مما رمنه منه ووجه إسناد الكيد قد تقدم وجملة { إنه هو السميع العليم } تعليل لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه : أي إنه هو السميع لدعوات الداعين له : العليم بأحوال الملتجئين إليه
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { قد شغفها } قال : غلبها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه { قد شغفها } قال : قتلها حب يوسف الشغف : الحب القاتل والشغف : حب دون ذلك والشغاف : حجاب القلب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا { قد شغفها } قال : قد علقها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فلما سمعت بمكرهن } قال : بحديثهن وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان { فلما سمعت بمكرهن } قال : بعلمهن وكل مكر في القرآن فهو عمل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله : { وأعتدت لهن متكئا } قال : هيأت لهن مجلسا وكان سنتهم إذا وضعوا المائدة أعطوا كل إنسان سكينا يأكل بها { فلما رأينه } قال : فلما خرج عليهن يوسف { أكبرنه } قال : أعظمنه ونظرن إليه وأقبلن يحززن أيديهن بالسكاكين وهن يحسبن أنهن يقطعن الطعام وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس { وأعتدت لهن متكئا } قال : أعطنهن أترنجا وأعطت كل واحدة منهن سكينا فلما رأين يوسف أكبرنه وجعلن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترنج وأخرج مسدد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه المتكأ : الأترنج وكان يقرأها خفيفة وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد { متكئا } قال : طعاما وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عنه قال هو الأترنج وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : هو كل شيء يقطع بالسكين وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك مثله وأخرج أبو الشيخ من طريق عبد العزيز بن الوزير بن الكميت بن زيد قال حدثني أبي عن جدي يقول في قوله { فلما رأينه أكبرنه } قال : أمنين وأنشد :
( ولما رأته الخيل من رأس شاهق ... صهلن وأمنين المني المدفقا )
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله { فلما رأينه أكبرنه } قال : لما خرج عليهن يوسف حضن من الفرح وذكر قول الشاعر الذي قدمنا ذكره :
( نأثي النساء لدى أطهارهن )
وأخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { أكبرنه } قال : أعظمنه { وقطعن أيديهن } قال : حزا بالسكين حتى ألقينها { وقلن حاش لله } قال : معاذ الله وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إن هذا إلا ملك كريم } قال : قلن ملك من الملائكة من حسنه وأخرج أبو الشيخ عن منبه عن أبيه قال : مات من النسوة التي قطعن أيديهن تسع عشرة امرأة كمدا وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعطي يوسف وأمه شطر الحسن وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف حسن يوسف والمبالغة في ذلك ففي بعضها أنه أعطي نصف الحسن وفي بعضها ثلثه وفي بعضها ثلثيه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { فاستعصم } قال : امتنع وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة { فاستعصم } قال : فاستعصى وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : { وإلا تصرف عني كيدهن } قال : إن لا تكن منك أنت القوى والمنعة لا تكن مني ولا عندي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ { أصب إليهن } قال : أتبعهن وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : أطاوعهن (3/34)
معنى : 35 - { بدا لهم } ظهر لهم والضمير للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه وأما فاعل { بدا لهم } فقال سيبويه هو { ليسجننه } : أي ظهر لهم أن يسجنوه قال المبرد : وهذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة ولكن الفاعل ما دل عليه بدا وهو المصدر كما قال الشاعر :
( وحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفقه الذي نصب الجبالا )
أي وحق الحق فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه : وقيل الفاعل المحذوف هو رأى : أي وظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونه من قبل وهذا الفاعل حذف [ لدلالته ] وليسجننه عليه واللام في ليسجننه جواب قسم محذوف على تقدير القول : أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين والله ليسجننه وقرىء لتسجننه بالمثناة الفوقية على الخطاب إما للعزيز ومن معه أو له وحده على طريق التعظيم والآيات قيل هي القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدي وقيل هي البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف إليهم ولم يجد ذلك فيهم بل كانت امرأته هي الغالبة على رأيه الفاعلة لما يطابق هواها في يوسف وإنفاذ ما تقدم منها من الوعيد له بقولها { ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين } قيل وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه وقيل إن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته لما علم أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه بحمل نفسها علبه على أي صفة كانت ومعنى قوله { حتى حين } إلى مدة غير معلومة كما قال أكثر المفسرين وقيل إلى انقطاع ما شاع في المدينة وقال سعيد بن جبير : إلى سبع سنين وقيل إلى خمس وقيل إلى ستة أشهر وقد تقدم في البقرة الكلام في تفسير الحين وحتى بمعنى إلى (3/36)
قوله : 36 - { ودخل معه السجن فتيان } في الكلام حذف متقدم عليه والتقدير : وبدا لهم من بعد ما رأو الآيات ليسجننه حتى حين فسجنوه ودخل معه السجن فتيان ومع للمصاحبة وفتيان تثنية فتى وذلك يدل على أنهما عبدان له ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا وقد قيل إن أحدهما خباز الملك والآخر ساقيه وقد كانا وضعا للملك سما لما ضمن لهما أهل مصر مالا في مقابلة ذلك ثم إن الساقي رجع عن ذلك وقال للملك : لا تأكل الطعام فإنه مسموم وقال الخباز : لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقي : اشرب فشرب فلم يضره وقال للخباز كل فأبى فجرب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما وكان دخولهما السجن مع دخول يوسف وقيل قبله وقيل بعده قال ابن جرير : إنهما سألا يوسف عن علمه فقال : إني أعبر الرؤيا فسألاه عن رؤياهماكما قص الله سبحانه { قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا } أي رأيتني والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة والمعنى : إني أراني أعصر عنبا فسماه باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر وفي قراءة ابن مسعود أعصر عنبا قال الأصمعي : أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا ومعه عنب فقال له : ما معك ؟ فقال خمر وقيل معنى أعصر خمرا أي عنب خمر فهو على حذف المضاف وهذا الذي رأى هذه الرؤيا هو الساقي وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال وكذلك الجملة التي بعدها وهي { وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا } ثم وصف الخبز هذا بقوله : { تأكل الطير منه } وهذا الرائي لهذه الرؤيا هو الخباز قم قالا ليوسف حميعا بعد أن قصا رؤياهما عليه { نبئنا بتأويله } أي بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين أو بتأويل المذكور لك من كلامنا وقيل إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قص رؤياه عليه فيكون الضمير راحعا إلى ما رآه كل واحد منهما وقيل إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة والتقدير يتأويل ذلك { إنا نراك من المحسنين } أي من الذين يحسنون عبارة الرؤيا وكذا قال الفراء : إن معنى من المحسنين من العالمين الذين أحسنوا العلم وقال ابن إسحاق : من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك أو من المحسنين إلى اهل السجن فقد روي أنه كان كذلك (3/37)
وجملة 37 - { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } مستأنفة جواب سؤال مقدر ومعنى ذلك أنه يعلم شيئا من الغيب وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلا أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه بل جعله عليه السلام مقدمة قبل تعبيره لرؤياهما بيانا لعلو مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظن وتخمين فهو كقول عيسى عليه السلام { وأنبئكم بما تأكلون } وإنما قال يوسف عليه السلام لها بهذا ليحصل الانقياد منها له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر ومعنى ترزقانه : يجري عليهما من جهة الملك أو غيره والجملة صفة لطعام أو يرزقكما الله سبحانه والاستثناء بقوله : { إلا نبأتكما بتأويله } مفرغ من أعم الأحوال : أي يأتيكما وسماه تأويلا بطريق المشاكلة لأن الكلام في تأويل الرؤيا أو المعنى : إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع والإشارة بقوله : { ذلكما } إلى التأويل والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما { مما علمني ربي } بما أوحاه إلي وأهمني إياه لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجملة هو بسبب ترك الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله والمراد بالترك هو عدم التلبس بذلك من الأصل لا أنه قد كان تلبس به ثم تركه كما يدل عليه قوله : { ما كان لنا أن نشرك بالله } ثم وصف هؤلاء القوم بما يدل على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه فقال { وهم بالآخرة هم كافرون } أي هم مختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله (3/38)
وقوله : 38 - { واتبعت } معطوف على تركت وسماهم آباء جميعا لأن الأجداد آباء وقدم الجد الأعلى ثم الجلد الأقرب ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده ثم تلقاها عنه إسحاق ثم يعقوب وهذا منه عليه السلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله { ما كان لنا أن نشرك بالله } أي ما صح لنا ذلك فضلا عن وقوعه والضمير في لنا له وللأنبياء المذكورين والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الإيمان المفهوم من قوله ما كان لنا أن نشرك بالله و { من فضل الله علينا } خبر اسم الإشارة : أي ناشئ من تفضلات الله علينا ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوة المتضمنة للعصمة عن معاصيه ومن فضل الله على الناس كافة ببعثة الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم وتبيين طرائق الحق لهم { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم فيؤمنون به ويوحدونه ويعملون بما شرعه لهم (3/39)
قوله : 39 - { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه وقيل المراد : يا صاحبي في السجن لأن السجن ليس بمصحوب بل مصحوب فيه وأن ذلك من باب يا سارق الليلة وعلى الأول يكون من باب قوله : { أصحاب الجنة أصحاب النار } والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ ومعنى التفرق هنا هو التفرق في الذوات والصفات والعدد : أي هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن أم الله المعبود بحق المتفرد في ذاته وصفاته الذي لا ضد له ولا ند ولا شريك القهار الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند ؟ أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام وقد قيل إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب (3/39)
ولهذا قال لهما 40 - { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } أي إلا أسماء فارغة سميتموها ولا مسميات لها وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات وهي الآلهة التي تعبدونها لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسيمات لها وقيل المعنى : ما تعبدون من دون الله إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم وليس لها من الإلهية شيء إلا مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تصبر ولا تنفع ولا تضر وإنما قال : { ما تعبدون } على خطاب الجمع وكذلك ما بعده من الضمائر لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم ومفعول سميتموها الثاني محذوف : أي سميتموها آلهة من عند أنفسكم { ما أنزل الله بها } أي بتلك التسمية { من سلطان } من حجة تدل على صحتها { إن الحكم إلا لله } أي ما الحكم إلا لله في العبادة فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان وجملة { أمر أن لا تعبدوا إلا إياه } مستأنفة والمعنى : أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره فقال : { ذلك } أي تخصيصه بالعبادة { الدين القيم } أي المستقيم الثابت { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن ذلك هو دينه القويم وصراطه المستقيم لجهلكم وبعدكم عن الحقائق
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : سألت ابن عباس عن قوله : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات } فقال : ما سألني عنها أحد قبلك من الآيات قد القميص وأثرها في جسده وأثر السكين وقالت امرأة العزيز : إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال : من الآيات كلام الصبي وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : الآيات حزهن أيديهن وقد القميص
وأقول : إن كان المراد بالآيات : الآيات الدالة على براءته فلا يصح عد قطع أيدي النسوة منها لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي تنقطع عند مشاهدته عرى الصبر وتضعف عند رؤيته قوى التجلد وإن كان المراد بالآيات الدالة على أنه قد أعطي من الحسن ما يسلب عقول المبصرين ويذهب بإدراك الناظرين فنعم يصح عد قطع الأيدي من جملة الآيات ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : عوقب يوسف ثلاثة مرات : أما أول مرة فبالحبس لما كان من حمه بها والثانية لقوله : { اذكرني عند ربك } { فلبث في السجن بضع سنين } عوقب بطول الحبس والثالثة حيث قال : { أيتها العير إنكم لسارقون } فاستقبل في وجهه { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما } خازن الملك على طعامه والآخر سياقه على شرابه وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { إني أراني أعصر خمرا } قال : عنبا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد { نبئنا بتأويله } قال : عبارته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إنا نراك من المحسنين } قال : كان إحسانه فيما ذكر لنا أنه كان يعزي حزينهم ويداوي مريضهم ورأو منه عبادة واجتهادا فأحبوه وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال : كان إحسانه أنه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه وإذا ضاق عليه المكان أوسع له وإذا احتاج جمع له وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : دعا يوسف لأهل السجن فقال : اللهم لا تعم عليهم الأخبار وهون عليهم مر الأيام وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريح في قوله : { لا يأتيكما طعام } الآية قال : كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ليريهما أن عنده علما وكان الملك إذا أراد قتل إنسان نع له طعاما معلوما فأرسل به إليه فقال يوسف { لا يأتيكما طعام ترزقانه } إلى قوله : { يشكرون } فلم يدعه صاحبا الرؤيا حتى يعبر لهما فكره العبارة فقال : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون } إلى قوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } قال : فلم يدعاه فعبر لهما وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس } قال : إن المؤمن ليشكر ما به نعمة الله ويشكر ما بالناس من نعم الله ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول : يا رب شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري ويا رب حامل فقه غير فقيه وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { أأرباب متفرقون } الآية قال : لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما وإلى نصيبهما من آخرتهما وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريح في قوله : { ذلك الدين القيم } قال : العدل (3/39)
فقال : هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما والمراد بقوله : { أما أحدكما } هو الساقي وإنما أبهمه لكونه مفهوماص أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب { فيسقي ربه خمرا } أي مالكه وهي عهدته التي كان قائما بها في خدمة الملك فكأنه قال : أما أنت أيها الساقي فستعود إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس { وأما الآخر } وهو الخباز { فيصلب فتأكل الطير من رأسه } تعبيرا لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزا فتأكل الطير منه { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } وهو ما رأياه وقصاه عليه يقال استفتاه : إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا (3/41)
42 - { وقال للذي ظن أنه ناج منهما } أي قال يوسف والظان هو أيضا يوسف والمراد بالظن العلم لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز هكذا قال جمهور المفسرين وقيل الظاهر على معناه لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظنا والأول أولى وأنسب بحال الأنبياء ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على كل شيء من علم الغيب كما في قوله : { لا يأتيكما طعام ترزقانه } الآية وجملة { اذكرني عند ربك } هي مقول القول أمره بأن يذكره عند سيده ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن هول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان فيكون ضمير المفعول في أنساه عائدا إلى يوسف هكذا قال بعض المفسرين ويكون المراد بربه في قوله : { ذكر ربه } هو الله سبحانه : أي إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال { وقال للذي ظن أنه ناج منهما } يذكره عند سيده ليكون ذلك سببا لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين : وهو الشرابي والمعنى : إنساء الشيطان الشرابي ذكر سيده : أي ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما اوصاه به يوسف مع ذكره عند سيده ويكون المعنى : فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ] ورجح أيضا بأن النسيان ليس بذنب فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه وبؤيد رجوعه الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله : { فلبث في السجن بضع سنين } ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة } سنة { فلبث } أي يوسف { في السجن } بسبب ذلك القول قاله للذي نجا من الغلامين أو بسبب ذلك الإنساء { بضع سنين } البضع : ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب وحكي عن أبي عبيدة أن البضع : ما دون نصف العقد يعني ما بين واحد إلى أربعة وقيل ما بين ثلاث إلى سبع حكاه قطرب وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس وقد اختلف في تعيين قدر المدة التي لبث قيها يوسف في السجن فقيل سبع سنين وقيل ثنتا عشرة سنة وقيل أربع عشرة سنة وقيل خمس سنين
وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله : { أما أحدكما } قال : أتاه فقال : رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب فنبتت فخرج فيه عناقيد فعصرتهن ثم سقيتهن الملك فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتسقيه خمرا وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما تحالما ليجربا علمه فلما أول رؤياهما قالا : إنما كنا نلعب ولم نر شيئا فقال { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } يقول : وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال : كان أحد اللذين قصا على يوسف الرؤيا كاذبا وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن ساباط { وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك } قال : عند ملك الأرض وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله ] وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة مرفوعا نحوه وهو مرسل وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا نحوه وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم أبو الشيخ عن الحسن مرفوعا نحوه وهو مرسل وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة فذكر نحوه وهو مرسل أيضا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أنس قال : أوحي إلى يوسف : من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك ؟ قال : أنت يا رب قال : فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه ؟ قال : أنت يا رب قال : فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك ؟ قال : أنت يا رب قال : فما لك نسيتني وذكرت آدميا ؟ قال : جزعا وكلمة تكلم بها لساني قال : فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين فلبث فيه سبع سنين وقد اختلف السلف في تقدير مدة لبثه في السجن على حسب ما قدمنا ذكره فلم نشتغل ها هنا بذكر من قال بذلك ومن خرجه (3/42)
المراد بالملك هنا : هو الملك الأكبر وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيرا له رأى في نومه لما دنا فرج يوسف عليه السلام أنه خرج من نهر يابس 43 - { سبع بقرات سمان } جمع سمين وسمينة في إثرهن سبع عجاف : أي مهازيل وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهن والمعنى : إني رأيت ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار الصورة وكذلك قوله { يأكلهن } عبر بالمضارع للاستحضار والعجاف جمع عجفاء وقياس جمعه عجف لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال ولكنه عدل عن القياس حملا على سمان { وسبع سنبلات } معطوف على سبع بقرات والمراد بقوله { خضر } أنه قد انعقد حبها واليابسات التي قد بلغت الحصاد والمعنى : وأرى سبعا أخر يابسات وكان قد رأى أن السبع السنبلات اليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها ولعل عدم التعرض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات { يا أيها الملأ } خطاب للأشراف من قومه { أفتوني في رؤياي } أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا { إن كنتم للرؤيا تعبرون } أي تعلمون عبارة الرؤيا وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر فمعنى عبرت النهر : بلغت شاطئه فعابر الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها قال الزجاج : اللام في للرؤيا للتبيين : أي إن كنتم تعبرون ثم بين فقال للرؤيا وقيل هو للتقوية وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل (3/43)